تفسير الإيجي جامع البيان في تفسير القرآن

الإيجي، محمد بن عبد الرحمن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ـ[تفسير الإيجي جامع البيان في تفسير القرآن]ـ المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الحسني الحسيني الإِيجي الشافعيّ (المتوفى: 905هـ) دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2004 م عدد الأجزاء: 4 أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مقابل]

_ تنبيه مهم: تم تصويب بعض الكلمات الموجودة في أصل الكتاب المطبوع فمثلا كلمات مثل قريش - مكة - بدر - (شهر) صَفَر الخ تجدها مكتوبة هكذا القريش - المكة - البدر - (شهر) الصَفَر. تم تصويب هذه الكلمات وإضافة بعض التعليقات في بعض المواضع بالإضافة إلى تصويب بعض التصحيفات التي غفل عنها محقق الكتاب - غفر الله تعالى لنا وله. وقد نبهت على بعضها، لكنها لما كثرت اكتفيت بوضع الصواب بين معقوفتين []. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

تقديم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم لفضيلة الدكتور / عبد الحميد هنداوي الأستاذ بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب والفرقان، وأصلى وأسلم على حامل لواء الفصاحة والبيان، محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان. وبعد، فهذا كتاب في التفسير قلَّ أن تجد مثله، فهو قصد ووسط بين المختصرات والمطولات، يوضح العبارة بأيسر إشارة، ويجمع الكثير من المعاني بقليل من الألفاظ الدواني، ويلخص الأقوال، ويرجح المقال على المقال، ويشير إلى أسرار الإعجاز بشيء من الإيجاز، ويرد الأقوال الممتحلة من الفلاسفة والمعتزلة، وينافح عن كلام رب العالمين برد كلام المبطلين والغالين. وقد كتبه مصنفه بعد تردد وتأخر، لكنه عزم عليه كما يقول لما لم يجد " في التفسير مختصرًا يغني، وكتابًا يقرب ويدني ". وبالحق كان كتابه سدًّا لهذه الثغرة، فكان مختصرًا يغني، وكتابًا يقرب ويدني؛ فهو على اختصاره يغني عما سواه من المطوّلات، وعلى وجازة إشارته يقرب المعنى البعيد ويدنيه، وكان من خير ما قدر لهذا الكتاب أنه حاز الفضل من جهتين: من جهة مصنفه (الإيجى) - رحمه الله - في حسن تصنيفه والعناية بتأليفه، وتحرير مسائله العقدية واللغوية والبلاغية. ثم من جهة محشّيه (الغزنوي) - رحمه الله - الذي خدم هذا الكتاب خدمة جليلة لا تقل عن خدمة مصنفه الأصلي بل تزيد، حيث إنه قد انبرى لما فات المصنف أن ينبه عليه مما يخالف عقيدة السلف أو ما وقع فيه المصنف نفسه من باب الخطأ والزلل في مخالفة عقيدة السلفى الصالح (رضوان الله عليهم جميعًا) فانبرى لذلك الشيخ الغزنوي - رحمه الله - وقد كان سنيًّا سلفيًّا واضح المذهب مقتديًا بالإمامين ابن تيمية وابن القيم - رحمهم الله تعالى جميعًا - ويكثر النقل عنهما؛ فخلّص الكتاب مما قد يشوبه أو يشينه من

المخالفات فأصبح بحمد الله تعالى بارئًا، وصفاه من الكدر فصار بمنة الله تعالى عسلاً مصفى ولبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا من فضل الله ورحمته للعالمين. هذا، وقد عهدت إلى دار الكتب العلمية بتحقيق هذا السفر العظيم، غير أني قد انتابتني الشواغل والموانع دون إتمامه فقام على إتمام تخريجه وتصحيحه ومراجعته جماعة من الأفاضل، واقتصر دوري فيه على النظر فيه ومراجعته والتعليق على بعض مواضعه والتقديم له، والله أسأل أن ينفع به، وأن يجزل الثوبة لكل من ساعد فيه أو قدم فيه جهدًا مشكورًا، وأسأله سبحانه أن يجزل لنا المثوبة عليه في الدنيا والآخرة، إنه مولى ذلك والقادر عليه. وكتب راجي عفو ربه الغفور عبد الحميد بن أحمد بن يوسف هنداوي المدرس بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف اسمه ونسبه: هو محمد بن صفي الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد السلام وقيل: عبد الله، معين الدين الحسيني الصفوي الإيجي الشيرازي الشافعي. وذكر نفسه هو في مقدمة كتابه فقال: " وأنا أحوج الخلق إلى رحمة ربه (معين بن صفي) أدركهما الله بلطفه الجليّ والخفيّ ". مولده: ولد الإيجي سنة 832 هـ الموافق 1429 م تقريبًا. موطنه: نشاً الإيجي في بلدة " إيج " بنواحى شيراز، وإليهما ينسب. وإيج " بالجيم ": بلدة كثيرة البساتين والخيرات أقصى بلاد فارس، وأهل فارس يسمونها إيك. ويبدو أنها بلدة يعني أهلها بالعلم والعلماء، فقد نسب إليها عدة من المؤلفين والعلماء، منهم عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، بل نسب إليها كبار المحدثين، وينسب إليها أبو محمد عبد الله بن محمد الإيجي النحوي، روى عن ابن دريد فأكثر. وشيراز: بالكسر وآخره زاي: بلد عظيم مشهور معروف مذكور، وهي قصبة بلاد فارس، وهي مما استجد عمارتها واختطاطها في الإسلام، وبها جماعة من التابعين مدفونون، وهي في وسط بلاد فارس، وقد نسب إلى شيراز جماعة كثيرة من العلماء في كل فن. أبوه: هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الإيجي صفي الدين أبو الفضل الحسيني العجمي الصوفي الشافعي المتوفى بمكة سنة 864 هـ، له حاشية على شرح التبادكاني لمنازل السائرين، ولقد بدأ الأب في كتابة تفسير سورة الأنعام، فكتب نبذًا ثم ترك، وقال لابنه: أنت مأمور بذلك. ولما كان الأب له مشاركة في العلوم الشرعية كان لذلك تأثير على الابن، بل كان الأب سببًا لإكمال الابن كتاب التفسير كما سبق.

اجتهاده العلمى:

اجتهاده العلمى: لقد انشغل الإيجي بجوانب متعددة من الفروع العلمية، وبرع في بعضها ومما يدل على ذلك الأوصاف التي وصف بها فى ترجمته فقد وصف بأنه مفسر ومحدث ونسب إلى مذهب الشافعي. 1 - التفسير: لقد انشغل الإيجي بعلم التفسير، ووقف على كتب عدة في جمعه لمادة تفسيره، وله كتب في التفسير منها: تفسير سورة الفاتحة، جامع البيان في تفسير القرآن وهو الذي نقدم له. ومما يدل على براعته في التفسير أنه يجمع في تفسير الآية أقوالاً كثيرة بأوجز عبارة وألطف إشارة، وهذا لا يستطيعه إلا من كان بالتفسير خبيرًا وبطرق المفسرين وعباراتهم بصيرًا، حتى قال عن نفسه كما في مقدمة تفسيره: " ثم اعلم أن ما يحتويه أكثر التفاسير ترى في هذا التفسير مع معانٍ صحيحة نفيسة لم تجد في كثير منها ". 2 - الحديث: كان الإيجي معظمًا للحديث النبوي غير معرض عنه، وله مشاركة بالتأليف في علم الحديث إذ له شرح الأربعين النووية. وتجده يعيب على من لا يقدم الأخبار النبوية، فيقول في مقدمة التفسير " وكثيرًا تجد الزمخشري ومن يحذو حذوه أعرضوا عن المعنى المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكتب الصحاح لأجل عدم فهم مناسبة لفظية أو معنوية، وإن نقلوه ما ذكروه إلا آخر الأمر بصيغة التمريض، لكن المسلك في تفسيرنا هذا الاعتماد على المعاني الثابتة عمن أنزل عليه الكتاب المتكلم بفصل الخطاب صلى الله عليه وبارك وسلم. 3 - اعتقاده: لقد حمل الإيجي حملة شديدة على الفلسفة والفلاسفة، إذ كان مبغضًا لها ومحذرًا منها معظمًا للنصوص الشرعية، بل ألَّف كتابا سمَّاه: " تهافت الفلاسفة ". ويقول في تفسير سورة البقرة آية 74 في حديثه عن بعض الأمور المردودة: " نعم لمن

مذهبه:

يتبع الفلسفة أن يتمحل التَّمَحُّلَ (1) في أمثال ذلك والله تعالى بمحض فضله قد عصمنا منه ". وكان له موقف من الاعتزال عمومًا ومن الزمخشري خصوصًا، فيقول في مقدمة لتفسير: " كتاب موفًّى فيه الحكمة والمعرفة، مصفى عن الاعتزال والفلسفة ". ويقول: " فإن قرع سمعك شيء يخالف الكشاف ومن تبعه فلا تعجل إلى الرد نكارًا، وارجع بصر البصيرة لعلك تجد من جانب طور العلم نارًا ". ومع تعظيمه للنصوص الشرعية وموقفه من الاعتزال والفلسفة ونقله الكثير عن السلف إلا أننا نجد عنده آثارًا صوفية ربما كان سببها كون أبيه صوفيًّا، ومن أمثال ذلك ما تجده في كلامه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقدمة التفسير، ولقد أجاد الغزنوي صاحب الحاشية في بيان خطأ ما صنع، والتحذير مما فيه وقع، وأحيانًا يمشي في تفسير آيات أسماء الله وصفاته على طريقة الأشاعرة، وربما ينقل في تفسيرها قول السلف مُتْبعًا إياه بكلام الأشاعرة، فتراه في تفسير قوله تعالى: (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) من سورة البقرة يقول: " لا يرضيه " جاريا مجرى الأشاعرة في تأويل الصفات إلى السبعة التي يثبتوتها، فيقولون معنى الحب: الرضا مخالفين بذلك طريقة السلف، ومثال جمعه بين طريقة السلف وطريقة الأشاعرة قوله في تفسير قوله تعالى: (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) من سورة البقرة: " مذهب السلف الإيمان بمثل ذلك ووكول علمه إلى الله تعالى أو تقديره: يأتيهم بأسه ". وجدير بالذكر أن الغزنوي صاحب الحاشية أشار في مواضع كثيرة إلى طريقة السلف في فهم آيات أسماء الله وصفاته وأن هذه الطريقة هي التي يجب اتباعها إلا أنه لم يتتبع كل موضع يحتاج إلى هذا التنبيه. * * * مذهبه: وصفه من ترجموا له بأنه كان شافعيًّا ونقل هو عن مذهب الشافعي في تفسيره. * * * لغته: مع كونه نشأ ببلاد فارس إلا أنه عني بعلوم العربية واجتهد في إتقانها، فضمن

____ (1) التمحل: المعاداة.

وفاته:

تفسيره كلامًا عن الإعراب وتوجيهات نحوية مما يدل على أن له في علوم العربية باعًا، ولكن ليس كل ما تبغيه تجده فقد ظهر في عباراته جانب من الضعف اللغوي والركاكة فى الأسلوب وعذره في ذلك أنه ليس من العرب الأصلاء وإنما هو أعجمي، وكفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه. * * * وفاته: توفى الإيجي في 906 هـ وقيل: 905 هـ الموافق تقريبًا 1500 م. ووقع على غلاف طبعة باكستان لكتاب التفسير (832 هـ - 894 هـ) وعلى طبعة الشيخين شاكر والفقي (832 هـ - 905 هـ). * * * كتبه: لقد أشرنا إلى بعضها آنفًا في طيات حديثنا ولكن ها نحن نذكر ما وقفنا على سبتها له: 1 - تفسير سورة الفاتحة. 2 - جامع البيان في تفسير القرآن، وبعضهم يسمّيه: جوامع التبيان في تفسير القرآن وهو ما نقدم له بهذه المقدمة). 3 - تهافت الفلاسفة. 4 - شرح الأربعين النووية. 5 - شعب الإيمان. 6 - حاشية على التلويح للتفتازاني. 7 - بيان المعاد الجسماني والروح.

المقدمة للمفسر رحمه الله تعالى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة للمفسر رحمه الله تعالى الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأظهره على الدين كله فالحقّ أحقَّ، والباطل أزهقَ؛ أنزل معه كتابًا قطع أعناق العتاق السَّبَق، وأبكم به البلغاء من العرب العرباء طبقًا بعد طبق، شهد محكم آياته القديمة بأن المُنَزَّلَ حق غير مختلق، ودل مضمون سوره العظيمة على أن رسوله صادق مصدق، فصلِّ يا رب وسلم على سيدي سرى ليلاً إلى السبع الطباق فخرق؛ وبلغت بلاغة كتابه نحوًا لا يسبق، بل شأوًا لا يلحق؛ ثم على آله مظاهر ألطاف الله وأفضاله الذين كل منهم في سماء الشرف قمر إذا اتسق. أما بعد، فلما أن رأيت همم أبناء العصر قاصرة، ومساعيهم وإن جدوا في الطلب فاترة، قنعوا عن الحقيقة بالمجاز، ومالوا عن التطويل إلى الايجاز، ولعمري يكاد أن يعد ذلك من علو همتهم، وقوة نهمتهم؛ لأنهم أرادوا حوز العلوم بأسرها، وقصدوا

جمع الفنون حبرها وسبرها، وقد علموا بالتجارب أن الخطب خطير، والعمر قصير، والعوائق متلاطمة الأمواج، والبوائق متراكمة الأفواج، فلو استطلعوا على طلل المطولات لوقعوا في فتات الشتات، ويعرض الكل في معرض الفوات، وما رأيت في التفسير مختصرً يغني وكتابً يقرب ويدني - أردت أن أتعرض لهذا مع قلة البضاعة وقصور الباع خصوصً في تلك الصناعة؛ حين كان القلب مشغوفًا بكشف وجوه غمار أسرار نكات الكشاف، والفؤاد مشعوفًا باستخراج فرائد الفوائد عن زخار بحار كلام الأعالي والأشراف، وقد كان الزمان يرافق بالموافقة، والإخوان في ميدان الفضل على المسابقة، وكانت مرآة الذهن مصفاة عن صداء الفتور، ومرقاة الفضل مبرأة عن طراء الكسور، تجول خيول الفهم من غير غائلة الوهم في معتركهم، وتخول على درك الطرائد في مدركهم ومتركهم، لكن قد استنصت وعادت عواد عن الإقدام على هذا المرام مدة مديدة من الأيام؛ مع أنه قد صدرت

إشارة قدسية تتضمن الالتزام؛ فكم من مرة عزمت وأبت المقادير، ونويت وعرضت امعاذير حتى لازمني رفيق التوفيق، وجاورني فناء بيت الله العتيق، وكحل عيني برؤية أهل الله، ونلت زوارف الفيض من بذل الله؛ أنار في أعشاب كبدي تلك الخامدة، وأدار في دار خلدي تلك الجامدة فاستخرت الله تعالى في الملتزم والمستجار حتى أُلقي في روعى أن لا ضرر ولا ضرار في ذاك الاتجار، ثم صرفت الهمة والعزيمة، وأحكمت النية والصريمة، ونهضت الجناح، وأجبت " حيَّ على الفلاح "، ورفضت غوائل الشواغل، ونفضت دوح الأوائل، فجنيت ثمرة طيبة الطعم والريح، وأحظيت -بحمد الله- بالقدح لا بالسفيح؛ فها قد تم تفسير لاح النور من خلاله، وفاح المسك من أذياله، قد حل عقد المغلقات بما قيد، وبيض وجه المشكلات بما سود، يموج رونق التحقيق في حواشيها، ويقول المتأمل اللبيب: لله دَرُّ واشيها، من مطالعه شمس أنوار التبيان قد طلعت، وأيم الله إنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، كتاب موفًّى فيه الحكمة والمعرفة، مصفًّى عن الاعتزال والفلسفة، في كل سطر حقائق استلفت أكثرها -بوجه حسن- عن السلف، ودقائق أبحتها من غير بخل على الخلف، تعرضت فيه لكلام السلف بوجه يعلم منه كيفية مطابقته مع الآية، وأعرضت عن محتملات لا تجانسه دراية، ولا تؤانسه رواية، لا تستصغر قدر نجمه لصغر حجمه؛ فإنك تراه من بعيد؛ وإنما هو بين الوشوح وحيد؛ وما ذلك كله إلا لأني وسمته لمن صناديد الخافقين عبيده إن قبل؛ بل أملاك الأفلاك جنوده لو سأل، الذي خلق الخلق له،

ولولاه لكان آدم بعد في وَلَهٍ، الهاشمي المستل من سلالة عدنان، الأبطحي المنزل عليه القرآن، الناسخ للأديان، صَلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ عليه يا ربي المعبود، وأنزله المقام المحمود الموعود، فيا شفيع العصاة توسل الخلق بمثل هذا إلى ذي سلطان لمال أو جاه؛

وإليك -رسول الله- هذا وسيلتي، وما لي سؤل سوى القبول والقرب من الله، فخذ بيدى؛ إني هائم في مهالك البعاد، ولا تنهر سائلك فإنك أنت الرسول الجواد يا من ألوذ به فيما أؤَمله ... ومن أعوذ به فيما أحاذره أنت ملاذى بك ألوذ وأنت عياذي بك أعوذ، أعوذ من خزيك وكشف سترك ومن نسيان ذكرك، والانصراف عن شكرك. ثم اعلم أن ما يحتويه أكثر التفاسير ترى في هذا التفسير مع معانٍ صحيحة نفيسة لم تجد في كثير منها؛ نعم قد ترى فيها أحياناً معاني لم تلق فيه؛ وما ذلك إلا لأن مطابقتها

مع ظاهر الآية لا تخلو عن شبهة، على أنها غير منقولة عن السلف وقليلاً ترى بعض المعاني المنقول قد ترك فيه لما أن تطبيقه مع الآية متعسر أو متعذر؛ وكثيرًا تجد الزمخشري ومن يحذو حذوه أعرضوا عن المعنى المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكتب الصحاح لأجل عدم فهم مناسبة لفظية أو معنوية وإن نقلوه ما ذكروه إلا آخر الأمر بصيغة التمريض؛ لكن المسلك في تفسيرنا هذا الاعتماد على المعاني الثابتة عمن أنزل عليه الكتاب المتكلم بفصل الخطاب صلى الله عليه وبارك وسلم، وما نقلنا فيه شيئاً إلا بعد اطلاع وتتبع تامٍ؛ فأعتمد على نقل الشيخ الناقد في علم الرواية " عماد الدين بن كثير "؛ فإنه في تفسيره قد تفحص عن تصحيح الرواية؛ وتجسس عن عجرها وبجرها؛ ولو وجدت مخالفة بين تفسيره وتفسير " محيي السنة الإمام البغوي " الذي هو من سراة المحدثين ومهرة المحققين - تتبعت كتب القوم الذين لهم يد في التصحيح ثم بعد الاطلاع كتبت ما رجحوا، لكن أعتمد قليلاً على كلام " ابن كثير "؛ فإنه متأخر معتن في شأن التصحيح، و " محيي السنة " في تفسيره ما تعرض لهذا؛ بل قد يذكر فيه من المعاني والحكايات ما اتفقت كلمة المتأخرين على ضعفه؛ بل على وضعه. وأما الأحاديث المذكورة في تفسيرنا فمعظمها من الصحاح الستة، وتجد تخريجها مسطوراً في الحاشية عليها. وكل معنى ذكرنا فيه بصيغة " أو " فما هو إلا للسلف، وما ذكرنا بـ قيل فأكثره من مخترعات المتأخرين؛ ما ظفرنا فيه بنقل. وأما وجه الإعراب فما اخترت إلا الأظهر، والذي ذكرت فيه وجهين أو وجوهاً فلنكتة لا تخفى على المتأدب، فإن قرع سمعك شيء يخالف الكشاف ومن تبعه فلا

تعجل إلى الرد إنكارًا، وارجع بصر البصيرة لعلك تجد من جانب طور العلم ناراً، مع أني لا أدعى عدم الخطأ والخطل والسهو والزلل، نعم، اجتهدت غاية الاجتهاد في تنقيح الكلام، وللمجتهد أجرٌ وإن حرم إصابة المرام، ثم إن مأخذ كتابي هذا: " المعالم "، و " الوسيط "، و " تفسير ابن كثير "، و " النسفي "، و " الكشاف " مع شروحه: " الطيبي "، و " الكشف " و " شرح المحقق التفتازاني " - و " تفسير القاضي ناصر الدين البيضاوي ". وأدرجت فيه ما سمح به الخاطر الفاتر أو سنح للنظر القاصر، وقلما تجد آية إلا وقد رمزت في تفسيرها إلى دفع إشكال أو إلى تحقيق مقال بعبارة وجيزة، أو أَوْمَاتُ إليه بإشارة لطيفة دقيقة، وفي كثير من المواضع أوضحته في الحاشية، وقد تعرضت فيها لوجوه أُخر من المعاني والإعراب، فللمبتدئ حظ كثير من هذا التفسير وللعالم حظوظ. وسميته: " جامع البيان في تفسير القرآن "، وأنا أحوج الخلق إلى رحمة ربه: " معين بن صفي " أدركهما الله بلطفه الجلي والخفي، وكان بين ابتدائه وانتهائه سنتان وثلاثة أشهر حين بلغ سني أربعين. والله أسأل أن يجعل ما تعبت فيه سبباً ينجيني، وذخيرة تسرني لا تشجيني، وهو حسب من توكل عليه، ومعين من فوض الأمر إليه، إنه هو العطوف الرحيم، الرءوف الكريم.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة مكية وهي سبع آيات (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) (بِسْمِ اللهِ)، أي: متبركًا باسم مسمى لهذا اللفظ الجامع لجميع صفات الكمال أقرأ أو مستعينًا به كما في: كتبت بالقلم، (الرَّحْمَنِ): الموصوف بصفة إرادة

الخير لجميع الخلائق ولا يطلق إلا على الله تعالى، (الرَّحِيمِ): بالمؤمنين ويطلق على غيره، (الْحَمْدُ)، ثناء على مستحسن اختياري نفسه أو أثره تعظيمًا لمن قام به، (للهِ)، أي: حقيقته مختصة به، (رَبّ): مالك، (العَالَمينَ)، المخلوقات بأسرها أو الجن والإنس أو هما والملك، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، كرر تعليلاً بأنه الحقيق بالحمد، (مَالك)، بالألف ودونه من المِلْك والمُلْك، (يَوْمِ الدينِ): يوم الجزاء متفرد بالحكمَ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، نخصك بأقصى غاية التذلل وطلب المعونة لما أثنى عليه كأنه حضر بين يديه فخاطبه وهو إخبار من جميع العباد الذين هو فرد منهم أدرج عبادته في عبادتهم لعلها تقبل ببركتها أو المراد الحاضرون لاسيما إن كان في جماعة وقيل: النون للتعظيم فإنه إذا كان في العبادة

فجاهه عريض، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ): ثبتنا على الطريق الحق وهو دين الله أو الإسلام، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، من الأنبياء والملائكة والصديقين والشهداء والصالحين أو قوم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل تغيير دينهم أو آل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بدل الكل، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، صراط غير الذين أردت العقوبة عليهم أو المراد منهم اليهود، (وَلاَ الضَّالِّينَ): الذين عدلوا عن الطريق والمراد منهم النصارى وقيل المراد من الأول الفساق ومن الثاني الكفار. يستحب لمن قرأها أن يقول بعدها بسكتة " آمين " أي: استجب.

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية وأربعون ركوعًا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) (الم): أوائل مثل هذه السورة مما استأتر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم أو أسماء السور أو أقسام أقسم بها لشرفها لأنها مباني كتبه المنزلة أو أنا الله أعلم، (ذَلِكَ الكتَابُ): أي: هذا القرآن مصدر بمعنى المفعول (لاَ رَيْبَ فِيهِ): لا شك أنه من عند الله لو تأمل عاقل فيه لا يشك وقيل بمعنى النهي أي: لا ترتابوا، (هُدًى): بيان ونور (لِّلْمُتَّقِينَ): الصائرين إلى الإيمان وترك الشرك أو مزيد هداية لهم، (الذِينَ يُؤْمِنُونَ): يصدقون (بِالْغَيب): أي ما هو غائب كأمور الآخرة والقدر أو محمد عليه الصلاة والسلام من غير رؤيته، (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)، يعدلون أركان الصلوات الخمس أو يواظبون عليها، (وَمِمَّا رَزَقاهُمْ يُنفقونَ): أعطيناهم يصرفون في الخير أو المراد الزكاة، (وَالّذِينَ يُؤْمِنُون بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ): هذا في مؤمني أهل الكتاب أو عام كالأول، (وَمَا أنزِلَ مِن قَبْلِكَ) سائر الكتب، (وَبِالْآخِرَةِ) الدار الآخرة (هُمْ يُوقِنُونَ) لا يشكون أصلاً، (أُولَئِكَ) من هذه

صفته، (عَلَى هُدًى): أي: مستقر ومستعل على بيان ونور (مِّن ربهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): الفائزون بمطالبهم. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا): ستروا الحق وهجروا التوحيد (سَوَاءٌ): مصدر وصف به (عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) تخويفك وعدمه فهو مبتدأ وسواء خبره والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء في علم المستفهم كأنه قيل في جواب أأنذِرهم أم لا المستويان في علمك مستويان في عدم النفع (لَا يُؤْمِنُونَ)، جملة مفسرة ومؤكدة، (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أي: طبع واستوثق بضرب الخاتم على قلوبهم، (وَعلَى سَمْعِهِمْ)، أي: مواضعه أو أطلق مجازًا على العضو وكذا البصر ووحد السمع لأنه مصدر والمسموع ليس إلا الصوت

(8)

بخلاف المعقولات والمبصرات فإنها أنواع من الجواهر والأعراض، (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غشَاوَة): غطاء والحاصل أنه أحدث فيهم شيئًا يمرنهم على حب الكفر لا يفقهون الحق ولا يسمعون ولا يبصرون، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيم): في الآخرة. * * * (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ): حقيقة لأن قلوبهم لا تطابق لسانهم نزلت في المنافقين (يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمنوا): يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويعتقدون أنه ينفعهم عند الله كنفعهم عند بعض المؤمنين كما قال تبارك وتعالى: " يوم يبعثهم الله جميعًا " الآية (الممتحنة: 18)، أو يعملون عمل المخادع أو المراد من مخادعة الله مخادعة رسوله، (وَمَا يَخْدَعُون إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون): دائرة الخداع راجعة إليهم في الدنيا أيضًا مفتضحون ولا يحسون لغفلتهم، (فِي قُلُوبِهِم مرَض): شك ونفاق، (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا): كلما كفروا بآية ازدادوا مرضًا ونفاقًا، (وَلَهُم عَذاب أَلِيم): مؤلم (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون): بسبب كذبهم ومن قرأ " يكذبون " بالتشديد فمعناه بتكذيبهم آيات الله، (وَإِذَاقيلَ لَهُمْ): للمنافقين (لاَ تفسدُوا فِي الأَرْض): بالكفر والمعصية وإظهار أسرار المؤمنين مع الكفار (قَالُوا إِنَمَا نَحْنُ مصلِحُون): أي: على الهدى نداري الفريقين المؤمنين والكافرين ونصطلح معهم ونريد الإصلاح بينهم وبين أهل الكتاب، (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ): ردهم أبلغ رد لتعريضهم على المؤمنين في قولهم (إنما نحن مصلحون)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ): المهاجرون والأنصار أو مؤمنو أهل الكتاب، (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ): الهمزة للإنكار واللام للناس والسفه خفة رأى وهذا قول سرهم فيما بينهم فأفضحهم الله، (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا): صادفوا

(الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ): خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت معه وشياطينهم سادتهم أو أصحابهم (قَالوَا إِنا مَعَكُمْ): في الدين، (إِنما نَحْن مُسْتَهْزِئُونَ): نلعب بالمؤمنين، (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ): يجازيهم جزاء استهزائهم أو يرجع وباله إليهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما يُفتَحُ لهم بابٌ في الجنة فإذا انتهوا إليه سُدّ عنهم ورُدُّوا إلى النار، (وَيَمدُّهُمْ): يملى لهم ويمهلهم فحذف اللام أو يزيدهم ويقويهم (فِي طُغْيَانِهِمْ): تجاوزهم عن الحد (يَعْمَهُونَ): يتحيرون والعمه فِي البصيرة والعمى في البصر، (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى): أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، (فَمَا رَبِحَت تِّجارتهُمْ)، أسند إليها وهو لأربابها لمشابهة التجارة الفاعل من حيث إنها سبب الربح والخسران، (وَمَا كَانوا مُهْتَدِينَ): لطرق التجارة (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا):

أى: حالهم كحال الذين أوقدوا، (فَلَما أَضَاءَتْ): النار (مَا حَوْلَه)، وأمنوا ما يخافون (ذَهَبَ اللهُ بِنورِهمْ)، المراد من إيقادها فبقوا في ظلمة وخوف، (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ): جمع الظلمة لكثرتها، ثم إن المنافقين بإظهار الإيمان أمنوا في الدنيا وإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، أو المراد إيمانهم أولاً ثم كفرهم ثانيًا، فيكون إذهاب النور في الدنيا كما قال تعالى: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " الآية (المنافقون: 3)، وهذا منقول عن كثير من السلف، (صُمٌّ): أي: هم عن قبول الحق صم، (بُكْمٌ): عن قول الحق، (عُمْيٌ): لا يبصرونه، فهذا فذلكة التمثيل فالضمير للمنافقين أو للمستوقدين والمعنى لما أذهب نورهم أدهشتهم الظلمة بحيث اختلت حواسهم، (فهمْ لاَ يَرْجِعُونَ): إلى الهدى الذي باعوه، (أَوْ كَصَيِّبٍ): كأصحاب مطر أو سحاب وهو مثل آخر وأو للتساوي كجالس الحسن أو ابن سيرين، أي: أنت مخير في التمثيل بأيهما شئت، وقال بعض المفسرين: إن هذين مثلان لقومين أي: مثل بعضهم هذا ومثل بعضهم هذا فإنهم لا يخلون عن أحد هذين المثلين، (مِّنَ السماءِ): من جميع جوانب السماء لا من أفق دون أفق وفهم هذا من السماء المعرف أو من السحاب (فِيهِ ظُلُمَاتٌ): في المطر أو السحاب ظلمة تكاثف المطر والغمامة والليل وهي فاعل الظرف، (وَرَعْدٌ): ملك موكل بالسحاب فيطلق على صوته أو صوت يسمع من السحاب (وَبَرْقٌ): نار تخرج من السحاب أو لمعان صوت الملك أو نار طارت من فيه إذا اشتد غضبه (يَجْعَلُون أَصَابعَهُمْ): أناملهم (فِي آذَانِهِم مّنَ الصَّوَاعِقِ): شدة صوت الرعد (حَذَرَ المَوْتِ): مخافة الهلاك،

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به لا ينجيهم الخداع، (يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ): يأخذ بسرعة (أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهم): أضاء لازم أو متعد، أي: أضاء لهم ممشى (مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) وكذلك أظلم لازم أو متعد، (قَامُوا): وقفوا، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فليحذروا شبّه القرآن والإيمان بالصيب وما فيه من شبه المبطلين واعتراضاتهم بالظلمات وما فيه من الوعيد والأهوال وذكر النار والحساب بالرعد وما فيه من الوعد والآيات الباهرة بالبرق وتصامَّهم عن الوعيد بحال من يهوله الرعد فيسد أذنه مع أنه لا خلاص عنها ويدل عليه قوله تعالى: " والله محيط بالكافرين " واهتزازهم لما ظهر لهم من غنمية وراحة يطمح عليه أبصارهم بمشيهم في ضوء البرق وتحيرهم في الأمر وتوقفهم حين عروض شبهة أو بلاء ومحنة بتوقفهم إذا أظلم ثم نبه بقوله: (ولو شاء الله لذهب) إلخ على أن السمع والبصر والتوسل إلى الفلاح وهم صرفوهما إلى الحظوظ العاجلة

(21)

وسدوهما عن الفوائد الحقيقية ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها فإنه قادر مطلق. * * * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) عام للمؤمن والكافر والمنافق (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ): وحدوه، (الَّذِي خَلقَكُمْ): اخترعكم من غير سبق مثال (وَالذِينَ مِن قَبْلِكُم)، عطف على مفعول خلق، (لَعَلكُمْ تَتَّقُون)، أي: اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين، أو خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى أو خلقكم لكي تتقوا (الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا): بساطًا غير حزنة غليظة، (وَالسَّماءَ بِناءً): قبة مضروبة عليكم، (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ): السحاب (مَاءً فَأَخْرَجَ به مِنَ الثَّمَرَاتِ) بيان تقدم (رِزقًا): مرزوقًا أو من للتبعيض ورزقًا مفعول له (لَّكُم): صفة رزقًا على الأول ومفعول المصدر على الثاني، (فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا): أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله تعالى (وَأَنتُمْ تَعْلمُون) والحال أنكم من أهل العلم، أو تعلمون أن

أن الأنداد لا تماثله بوجه، (وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ) شك (مِّمَّا نزَّلْنَا): أي: القرآن، (على عَبْدِنَا): محمد عليه الصلاة والسلام (فَأتوا بِسُورَةٍ): طائفة من القرآن معبر عنها بسورة كذا (مِّن مثلِهِ): مثل القرآن في البلاغة والإخبار عن الغيب، (وَادْعُوا شُهَداءكُم): واستعينوا بأعوانكم أو آلهتكم، (مِّن دُونِ اللهِ): أى: ادعوا من شئتم غير الله، وقيل: ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم مثله ولا تستشهدوا بالله فإنه علامة العجز، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): إنه من كلام البشر، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا): فيما مضى (وَلَن تَفْعَلُوا): بعده أبدًا وهذه معجزة أخرى (فَاتَّقُوا). احذروا واتقوا بالإيمان (النَّارَ الّتِي وَقُودهَا): ما يوقد به النار (الناسُ وَالْحِجَارَةُ): حجارة الكبريت فتكون أشد وأنتن وأظلم وهو قول كثير من السلف وقيل حجارة الأصنام، (أُعِدَّتْ): النار والحجارة (لِلْكَافرِينَ وَبَشِّرِ): البشارة خبر سار يظهر أثر السرور في البشرة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَات) عملاً بلا رياء، أو كل ما حسنه الشرع (أَنَّ لَهُمْ): بأن لهم (جَنَّاتٍ) دار الثواب وهي سبعة (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا): تحَت أشجارها وغرفها (الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا) مبتدأ من الجنات (مِن ثَمَرَةٍ): بيان تقدم كرأيت منك أسدًا (رِّزْقًا): مرزوقًا (قَالُوا هَذَا): مثل (الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ): في

الدنيا أو في الجنة، (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا): في الهيئة واللون دون المقدار والطعم فأين طعم فواكه الجنة من الدنيا؟! أو يشبه بعضها بعضًا من جميع الوجوه إذ طعم فواكه الجنة متقاربة عطف على قالوا مقررة للجملة، (وَلَهُمْ فيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ): نساء وجوار مطهرة مما يستقذر ويذم منهن كالحيض ودنس الطبع، (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُون) (1): ليس لهم خوف فوات نعمة. ولما قال الجهلة: الله أجل من أن يضرب الأمثال بالصيب والمستوقد وبيت العنكبوت والذباب فنزلت، (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا): لا يستنكف من (أَن يَضْرِبَ مَثَلًا): أن يبين شبهًا (مَّا) أي: أي مثل (بَعُوضَةً): صغار البق عطف بيان لمثلاً (فَمَا فَوْقَهَا) في الصغر والحقارة كجناحها أو في الكبر كالذباب،

__ (1) الخلود المكث الطويل المتناهى أو غير المتناهي وإطلاقه على المتناهي بطريق الحقيقة أو المجاز قولان 12 منه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنهُ) المثل (الحَقُّ): الثابت الذي لا يسوغ إنكاره (مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا): أي شيء (أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا): نصب علىَ التمييز أوَ الحال، (يُضِل به): بالمثل (كَثيرًا): من الكفار، أي: إضلال كثير وضع الفعل موضع المصدر جواب ماذا، (وَيَهْدِي به كَثيرًا): من المؤمنين، (وَمَا يُضِل بِهِ إِلا الفاسِقِينَ): الخارجين عن حد الإيمان، َ (الَّذِينَ يَنقُضُونَ): يفسدون ويتركون (عَهْدَ اللهِ): هو قوله: " ألست بربكم " (الأعراف: 172)، أو عدم كتمان شيء نزل من عند الله في الكتب (مِنْ بَعْدِ مِيثَاقه): توكيد العهد من الآيات في الكتب (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي: كقطع الأرحام والقرابات أو أعم كالإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الآيات في التصديق وهو بدل من ضمير به، (ويفْسِدُون فِي الأَرْضِ): بأنواع المعاصي، (أُولَئِكَ هُمُ الخاسرُونَ): باشتراء الفساد والعقاب بالصلاح والثواب، (كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللهِ): معناه التعجب أي: أخبروني على أي حال تكفرون، (وَكُنتم أَمْوَاتًا): ترابًا أو نطفًا في أصلاب الآباء، (فأَحْيَاكُمْ): بخلق الحياة فيكم أو في الأرحام، ومعنى الفاء في الثاني أظهر، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ): في الدنيا، (ثم يُحْيِيكُمْ): عند نفخ الصور، (ثمَّ إِلَيْه تُرْجَعُون): بعد الحشر لجزاء العمل. (هوَ الذِي خَلَقَ لَكُم): لأجل انتفاعكم (مَّا فِي الأَرض جَميعًا) لكي تنتفعوا به وتعتبروا، جميعًا حال من ما، (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، قصد وارتفع إليه

(30)

فخلق السماء بعد خلق الأرض لكن دحوها متأخر هكذا ذكره ابن عباس وفيه إشكال سنذكره في سورة (والنازعات) والأولى أن ثم للتراخي الرتبي لا الزماني على أن فيه أيضًا ما ستقف عليه، (فسَوَّاهُن): الضمير للسماء لأنه في معنى الجمع عدلهن مصونة عن العوج والفتور، (سبْعَ سَمَاوَاتٍ): بدل أو تفسير، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ) فإن بالعلم يصح الخلق ويحكم الفعل. * * * (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) * * * (وَإِذْ): أي: واذكر إذ (قَالَ ربكَ لِلْمَلاِئكَةِ): مطلق الملائكة أو ملائكة الأرضين وهو تعداد نعمة ثالثة عامة (إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَة): يعني آدم هو خليفة الله في أرضه ينفذ قضاء الله وأحكامه أو المراد من الخليفة البدل، أي: من الجن والملائكة فإنهما كانا سكان الأرض حينئذ أو المراد قوم يخلف بعضهم بعضًا قرنًا بعد قرن كقوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) (الأنعام: 165)، (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) كما فعله الجن لبلهم وهو تعجب واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ): نبعدك عن

السوء، (بِحَمْدِكَ): متلبسين به، (وَنُقَدسُ): نطهر نفوسنا عن المعاصي، (لَكَ): لأجلك أو نقدسك عما أضاف إليك الكفرة فاللام زائدة، (قَالَ إِني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون): من المصلحة أو بأن أجعل فيهم الأنبياء والصديقين والشهداء أو أعلم أن فيكم من يعصيني وهو إبليس، (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ): خلق في قلبه علمًا (كُلَّهَا): اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، (وثمَّ عَرَضهُمْ): الضمير للمسميات إذ التقدير أسماء المسميات والتذكير لتغليب العقلاء (عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي): أخبروني (بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ) تبكيت وتنبيه لهم على قصورهم، (إِن كُنتم صَادِقِينَ) أنكم أحقاء بالخلافة أو لن يخلق الله تعالى خلقًا أعلم منكم فإن الملائكة قالوا ذلك بينهم (1)، (قَالُوا) إقرارًا بالعجز (سُبْحَانكَ)، صدروا الكلام به استعذاراً عن الجرأة في الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ): الذي لا يخفي عليه خافية (الْحَكِيمُ):

_ (1) هذا الكلام يفتقر إلى سند صحيح. والله أعلم.

القاضي العدل، أو المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة، (قَالَ): لما ظهر عجزهم (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ): أعلمهم، (بِأَسْمَائِهِمْ)، قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل حتى وصل الغراب، (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) وظهر فضل آدم عليه السلام عليهم (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ): استفهام توبيخ فإن الأدب التوقف لأن يبين، (إِني أَعْلَمُ غيْبَ السمَاوَات وَالأَرْضِ): ما غاب فيهما عن الخلق، (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتم تكتمُون): أي: أعلم ما تظهرونه بألسنتكم وما تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليَّ شيء من قولكم علانية أتجعل فيها من يفسد فيها وسرًا لن يخلق الله خلقًا أكرم عليه منا وما أسر إبليس من الكبر في نفسه، (وَإِذْ قُلْنَا) عطف على " وإذ قال " (لِلْمَلاِنكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) السجود حقيقي طاعة لله وتعظيمًا لآدم وهو مشروع قيل انحناء لا وضع جبهة أو السجود لله وآدم قبلة وقد ضعفهما بعض العلماء، (فسَجَدُوا إِلَّا إِبْليسَ) صح عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه من نوع من الملائكة المسمين بالجن وصح عن الحسن رضى الله عنه أنه ليس منهم، (أَبَى): امتنع، (وَاستكْبَرَ وَكَانَ)، في سابق علم الله أو صار، (مِنَ

الكَافرين)، أو كان كافرًا من الجن فأسلم وعمل عمل الملك ثم كفر، (وَقُلْنَا)، بعد سجود الملائكة، (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)، دار الخلد وقيل بستانًا في الأرض، (وَكلاَ مِنْهَا)، أكلا، (رَغدًا)، واسعًا، (حَيْثُ شِئْتُمَا)، أي: مكان من الجنة، (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، بالأكل والأصح أنها شجرة معينة لا تتعين عندنا، (فَتكُونَا)، عطف على (تقربا) أو جواب النهي (مِنَ الظَّالِمِينَ): الذين وضعوا أمر الله تعالى غير موضعه، (فأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا): الضمير للشجرة، أي: حملهما على الزلة بسببها أو للجنة أي فبعدهما عن الجنة، (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ): من النيعم والكرامة، (وَقُلْنَا اهْبِطُوا): انزلوا على الأرض جمع الضمير لأنهما أصلا الإنس فكأنهما الجنس أو المراد هما والشيطان (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو): أي: متعادين والعداوة بين ذريتهما لقول تعالى: " قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو " (طه: 123)، أو بين المؤمنين والشيطان، (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ): موضع قرار، (وَمَتَاعٌ): تمتع (إِلَى حِين): الموت وقيل القيامة، (فَتَلَقَّى): تلقن (آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ): ومن قرأ برفع كلمات ونصب آدم فمعناه بلغته وهي: " ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية (الأعراف: 23)، أو غيرها (فتابَ عَلَيْهِ): رجع عليه بالرحمة، (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ): يقبل التوبة ويكثر إعانتهم عليها (الرَّحِيمُ): المبالغ في الرحمة، (قُلْنَا اهْبطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) كرر للتأكيد وليترتب عليه قوله (فإمَّا يَأتِيَنَّكُم): يا بني آدمَ، (مّنِّي هُدًى): أنبياء والبيان، (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ): أَقبل على الهدى وقبل (فَلاَ خَوْفٌ عَليْهِمْ) حين يشتد الأمر على العصاة، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ) على ما فاتهم من أمور الدنيا، والشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأول، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) قسيم لمن تبع، أي:

(40)

كفروا بالآيات المنزلة جنانًا وكذبوا لسانًا، أو كفروا بالله وكذبوا بالآيات (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). * * * (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) * * * (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: أولاد يعقوب هيجهم بذكر أبيهم، أي: يا بني العبد المطيع لله (اذْكُرُوا): احفظوا ولا تنسوا، أو اشكروا، (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنعَمْتُ

عليكُمْ): فلق البحر وجعل الأنبياء فيهم وإنجاءهم من فرعون وغيرها ولا شك أن نعمة الآباء على الأبناء، (وَأَوْفوا بِعَهْدِي) في محمد عليه الصلاة والسلام أو في امتثال أمري، (أوفِ بعَهْدِكم): أرضى عنكم وأدخلكم الجنة، أو بالقبول والثواب، (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونَِ) خصوصًا في نقض العهد، (وَءامِنوا بِمَا أَنزَلْتُ)، أي: القرآن (مُصَدِّقًا لِّما مَعَكُمْ) فإنكم تجدون محمدًا مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ): أول فوج يكفر بما أنزَلْتُ من أهل الكتاب، (وَلاَ تَشْتَرُوا): لا تستبدلواَ، (بِآياتِي): بالإيمان بها (ثَمَنًا قَلِيلاً): الدنيا بحذافيرها، أو ما يصيب العلماء من السفلة فإنهم عينوا كل سنة للعلماء شيئًا فخافوا إن أسلموا يفوت ذلك عنهم وتفوت الرياسة أيضًا، فكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ): أي: فاخشون لا فوات الرياسة، (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)، أي: لا تخلطوه، فإن علماء اليهود يزيدون في آيات الله ما يشتهون، (وَتَكْتمُوا الحَقَّ)، عطف على المنهي، أو وأن تكتموا الحق فالواو للجمع، أى: لا تجمعوا بينهما، (وَأَنتم تَعْلَمُونَ) بأنكم تكتمون وتلبسون، (وَأَقِيمُوا الصلاةَ) أي: صلاة المسلمين، (وَآتوا الزكَاةَ)، أي: زكواتهم والمراد طاعة الله تعالى والإخلاص، (وَارْكَعُوا مع الراكِعِينَ) أي: كونوا مع المؤمنين في أحسن

(47)

أعمالهم وهو الصلاة، عبر عن الصلاة بالركوع لأن صلاة اليهود ليس فيها ركوع، (أَتَأمُرُونَ الناسَ بِالْبِرِّ): بالإيمان، (وَتَنسَوْنَ أنْفُسَكُمْ): تتركوها من البر كالمنسيات، نزلت في أحبار اليهود ينصحون سرًا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام ولا يتبعونه، (وَأَنتمْ تَتْلُون): تقرءون، (الكِتَابَ): التوراة التي فيها الوعيد على العناد ومخالفة القول العمل، (أَفَلاَ تَعْقِلونَ): قبح صنيعكم، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): لما أمروا بما هو شاق عليهم وهو ترك المال والرياسة عولجوا بالاستعانة على طلب الآخرة بحبس النفس عن المعاصي أو الصيام لما فيه من كسر الشهوات أو الصبر على أداء الفرائض والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، (وَإِنها) أي: الصلاة فإن الصبر داخل فيها، قيل: تقديره إنه لكبير وإنَّها لكبيرة فحذف اختصارًا ولم يقل وإنهما إشارة إلى أن كلاً منهما لكبير، أو الضمير للاستعانة (لَكبِيرَةٌ): ثقيلة (إِلا عَلَى الخَاشِعِينَ): المؤمنين حقًّا الساكنين إلى الطاعة، قال ابن جرير: الآية عامة لبني إسرائيل وغيرهم، (الَّذِينَ يَظُنُّونَ): يتيقنون (أنهم مُّلاقوا ربهِمْ): محشورون إليه، (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): أمورهم راجعة إليه فيحكم بالعدل. * * * (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) * * * (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وهو كما مر جعل الأنبياء فيهم وخلاصهم من البلاء كرره تأكيدًا، (وَأَني فَضَّلْتُكُمْ): بما أعطيتم من الملك والكتب والرسل (عَلَى العَالَمِينَ): عالمي زمانكم وتفضيل الآباء شرف الأبناء، (وَاتقُوا يَوْمًا): احذروا ما فيه من العقاب (لا تَجْزِي): لا تقضي فيه (نَفسٌ عَن نفسٍ شَيْئا): من الحقوق أو من الجزاء فنصبه على المصدر حينئذ والجملة صفة يومًا، (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعَةٌ): في شأن الكفار رد عليهم حيث قالوا: آباؤنا الأنبياء

شفعاء لنا، (وَلاَ يُؤْخَد مِنْهَا عَدْلٌ): فداء وقيل بدل، (وَلاَ هُمْ يُنصَرُون): ولا لهم ناصر يمنعهم من العذاب. (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم): عطف على نعمتي وتفصيل لها (مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، أتباعه (يَسُومُونَكُمْ): يبغونكم، والجملة حال، (سُوءَ العَذَابِ): أفظعه وأشده نصب على مفعول يسومونكم (يُذبِّحُون): يقتلون بيان ليسومونكم (أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحيونَ) يتركون أحياء للخدمة (نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم): صنيعهم، (بَلاءٌ): محنة (مِّن ربكُمْ عَظيمٌ): أو الإشارة إلى الإنجاء فالبلاء بمعنى النعمة وهو قول كثير من السلف. (وَإِذْ فَرَقْنَا): فصلنا بين بعضه وبعض (بِكُمُ البَحْرَ): كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما أو بسببكم أو ملتبسًا بكم (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) اقتصر على ذكر الآل للعلم بأن فرعون أولى بالغرق، (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ): غرقهم. (وَإِذ وَاعَدْنَا): واعدنا بمعنى وعدنا، أو الله وعد الوحي وموسى المجيء إلى الطور (مُوسَى أَرْبَعينَ لَيْلَةً)، يعني انظر إلى نعمتي عليهم ثم إلى كفرانهم ثم إلى عفوي عنهم، (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ)، إلهًا، (مِنْ بَعْدِهِ): بعد مضى موسى (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)، بشرككم، (ثُمَّ عَفَوْنَا): محونا ذنوبكم، (عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)، أي: الاتخاذ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): لكي تشكروا عفوي، (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) أي: الجامع بين كونه كتابًا وفرقانًا بين الحق والباطل وقيل الفرقان

انفراق البحر، (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): لكي تهتدوا بالكتاب، (وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ): العابدين للعجل، (يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمتمْ أَنْفُسَكُم بِاتّخَاذِكُمُ العِجْلَ): معبودًا، (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ): خالقكم، قالوا كيف نتوب؟ قال: (فَاقْتلُواْ أَنفُسَكمْ) أي: كل منكم من لقي فأصابتهم سحابة سوداء لا ينظر بعضهم بعضًا ففعلوا فغفر الله للقاتل والمقتول والقتلى سبعون ألفًا أو ليقتل البريء المجرم، (ذَلِكُم)، أي: القتل، (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)، من حيث إنه وصلة إلى الحياة الأبدية، (فَتَابَ عَلَيْكُمْ)، أي: ففعلتم فتاب عليكم، (إِنه هُوَ التَّوَّابُ): الذي يكثر قبول التوبة، (الرحِيمُ): المبالغ في الرحمة، (وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نؤْمِنَ): لن نقر، (لَكَ)، أي: اذكروا نعمتي بعد الصعق، إذ سألتم ما لا يستطاع لكم، فإن موسى اختار سبعين رجلاً ليعتذورا إلى الله من الشرك، فلما سمعوا كلام الله قالوا ذلك، (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً): عيانًا ونصبه على المصدر أو الحال، (فَأَخَدتْكُمُ الصَّاعِقَةُ): صيحة من السماء أو نار، (وَأَنتم تَنْطرُونَ): ما أصابكم فلما هلكوا بكى وتضرع موسى قائلاً: ماذا أقول لبني إسرائيل إذ أهلكت خيارهم؟، فتضرع وتناشد حتى أحياهم الله تعالى وهذا قوله، (ثمَّ بَعثناكُم): أحييناكم، (مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ): بسبب الصاعقة، (لَعَلكُمْ تَشكرُونَ): نعمة البعث وكلام بعض السلف أن طلب الرؤية حين خرجوا لأجل التوبة من عبادة العجل، وكان قبل الأمر بالقتل وكلام بعض أخران هذا بعد القتل والله أعلم، (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ (1)): السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه، (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ): الترنجبين أو عسلاً ألذ من عسلنا أو خبز الرقاق،

__ (1) صرح كثير من السلف أنه ليس من جنس غمامنا، بل نوع أخر ألطف وأبرد وأنور /12 منه.

(60)

(وَالسَّلْوَى): طير هو السماني أو يشبه السماني، (كُلُوا من طَيِّبَاتِ)، أي: قلنا لهم كلوا من حلالات، (مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا)، يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا فحذف اختصارًا، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ): بالكفران، (وَإِذ قُلْنا ادْخُلُوا) أمروا به بعد التيه، (هَذه القَرْيَةَ)، بيت المقدس أو أريحا، قيل هم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى، (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا): واسعًا منصوب على المصدر، (وَادْخُلُوا البَابَ): القرية، (سُجَّدًا): منحنين كالركع تواضعًا أو ساجدين لله شكرًا، (وَقولُوا حِطَّةٌ)، أي: مسألتنا خطة، أي: حط عنا خطايانا، أمروا بالاستغفار كما صح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: أي: مغفرة استغفروا، وقيل أقروا بالذنب، قال عكرمة: قولوا لا إله إلا الله، (نغفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ): بسجودكم ودعائكم وهو جواب الأمر، (وَسَنَزِيدُ الُمحْسِنِينَ): ثوابًا وإحسانًا، (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ): فقالوا حبة في شعرة، أو حنطة، وحاصله أنَّهم أمروا أن يدخلوا سجدًا فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يستغفروا فاستهزءوا وهذا غاية العناد والمخالفة، ولهذا قال الله تعالى (فَأَنزَلنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ): عذابًا أو طاعونًا أو بردًا، (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون): بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى. * * * (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ

وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) * * * (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ)، أي: اذكروا نعمتي في إجابتي دعاء نبيكم في شأنكم لما عطشتم في التيه، (فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ): حجر خفيف مربع قيل إذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء، وعند بعض أنه لم يكن حجرًا معينًا، بل يضرب أي حجر كان فينشق، (فانفجَرَتْ)، تقديره فضرب فانشقت، (مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ): كل سبط، (مَّشْرَبَهم): عينهم التي يشربون منها خاصة بهم، (كُلُوا وَاشْربوا)، أي: قلنا لهم ذلك، (مِن رِّزْقِ الله)، أي: ما رزقكم الله من المن والسلوى وماء العين، (وَلاَ تَعْثَوْا): لا تعتدوا، (فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ): حال إفسادكم، (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نصْبِرَ)، أي: اذكروا نعمتي في إنزال المن والسلوى طعامًا طيبًا نافعًا ثم اذكروا سؤالكم استبدال الأطعمة الدنية بذلك، (عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، كانوا يأكلون المن بالسلوى

فيكون واحدًا أو أرادوا بالوحدة أنها لا تتبدل كما يقال طعام فلان واحد، أي لا يتغير ألوانه، (فادْعُ لَنَا رَبكَ): سله بدعائك لنا إياه، (يُخْرِجْ لَنَا): يظهر لنا مجزوم بجواب فادع، (مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا): من الخضروات ما لا ساق لها تفسير لما تنبت وقع موقع الحال، (وَقِثَّائِهَا)، هو معروف، (وَفومها)، هو الحنطة أو الثوم والعرب تقلب الفاء ثاء والثاء فاء، أو الخبز أو اسم لكل حب يؤكل، (وَعَدَسهَا وَبَصَلِهَا قَالَ): موسى، (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى): أخس، (بَالذِي هُوَ خَيْرٌ): المن والسلوى لنفعهما أو طعمهما وعدم الحاجة إلى السعي، (اهْبِطُوا مِصْرًا): مصرًا من الأمصار، أي: هذه الأشياء كثيرة في الأمصار لا حاجة إلى الدعاء أو مصر فرعون وجاز صرفه لسكون وسطه، (فإِنْ لَكُم): فيها، (مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ): كضرب القبة، (الذلةُ): الجزية فيكون المراد يهود وقعوا في عصر نبينا عليه الصلاة والسلام أو الهوان، (وَالمسْكنَةُ): الفاقة أو فقر القلب ولم يزل عليهم أثر البؤس وإن كانوا ذوى مال، (وَبَاءوا)، أي: صاروا

أحقاء، (بعضَب مِّنَ اللهِ ذَلِكَ) أي: ما سبق من ضرب الذلة والبوء بالغضب، (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ): الكتب المنزلة كالإنجيل والقرآن

(62)

وآية الرجم والتي فيها نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، (وَيَقْتلون النَّبِيِّينَ): شعيبًا وزكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، (بغَيْرِ الحَقِّ)، عندهم فإنهم غير معتقدين جواز قتلهم، (ذَلِكَ): الكفر والقتل، (بِمَا عَصَوا وَكَانوا يَعْتَدُون)، أي: جرهم العصيان والتمادي في تجاوز أمر الله تعالى إلى ذلك فإن صغار الذنوب تؤدى إلى الكبار، وقيل تكرير للفظ " ذلك " الأول إشارة إلى أن الهوان والمسكنة كما أن سببهما الكفر والقتل سببهما المعاصي واعتداء حدود الله. * * * (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ

وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) * * * (إِنْ الذِينَ آمنوا)، أي: قبل البعث مثل " حبيب النجار " و " بحيرا الراهب " وغيرهما أو المؤمنين من الأمم الماضية أو المؤمنين من هذه الأمة أو المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، (وَالذِينَ هَادُوا): دخلوا في دين اليهودية، (وَالنَّصارَى): أهل دين عيسى، (وَالصَّابِئِينَ): الخارجين من دين إلى دين قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، أو فرقة من أهل الكتاب أو عباد الملائكة أو قوم يوحدون الله ولا يتبعون نبيًّا، (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعملَ صَالِحًا)، أي: من آمن إيمانًا معتدّا به فدخل فيه من استقر على دينه قبل النسخ كاليهود قبل بعثة عيسى والنصارى قبل بعثة نبينا عليهما الصلاة والسلام، أو معناه المنافقون واليهود والنصارى والصابئون من آمن بدين محمد عليه الصلاة والسلام، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ): بوعده، (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): في الآخرة حين الفزع الأكبر، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ): على تفويت الثواب، و (مَن) مبتدأ و " فلهم أجرهم " خبره والجملة خبر إن، أو بدل بعض من اسم إن وخبرها، فلهم أجرهم، (وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقَكُمْ): باتباع أحكام التوراة ذكرهم ما أخذ عليهم من العهود، (وَرَفعنا فَوْقَكُمُ الطورَ)، لما نزل التوراة أبوا قبولها لما فيها من التكاليف فأمر جبريل بقلع جبل الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا،

(خُذُوا): قلنا لهم خذوا، (مَا آتيْنَاكُم): من الكتاب واعملوا به، (بِقُوَّة): بجد وطاعة، (وَاذْكروا مَا فيه): اقرءوا ولا تنسوه، (لَعَلكُمْ تَتَّقونَ): لكي تتقوا عن المعاصي، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): أعرضتم عن الوفاء بعد أخذ الميثاق، (فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكمْ وَرَحْمَته): بتوبته عليكم أو بتأخير العذاب، (لَكنتم مِّنَ الخاسِرِينَ): المغبونين الهالكين، (وَلَقَدْ عَلمتم)، حال، (الَّذِينَ اعْتَدَوْا): جاوزوا عن الحد، (مِنكُمْ في السَّبْتِ)، َ أمرناهم بالعبادة وترك صيد البحر فيه فخالفوا، (فَقلْنَا لَهمْ كونوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، أي: نودوا يا أهل القرية كونوا قردة أو معناه بتكويننا إياهم، وليس ثم قول والمسخ صورى ومعنوي والخسء الصغار والطرد، (فجَعَلْنَاهَا): المسخة أو القردة أو القرية، (نَكَالاً): عبرة، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا): لمعاصريهم أو لما بحضرتها من القرى أو لأهل تلك القرية أو لأجل ما تقدم

من ذنوبهم وهو قول كثير من السلف، (وَمَا خَلْفَهَا)، من بعدهم أو ما تباعد عنها أو ما حواليها أو لما تأخر من الذنوب، (وَمَوْعِظَةً): وزجرًا، (للْمُتَّقِينَ): الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. (وَإِذْ قَالَ مُوسَى)، أي: اذكروا نعمتي في خرق العادة لكم، (لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأمُرُكُمْ أَدْ تَدبَحُوا بَقَرَةً)، وذلك أنه وجد قتيل فيهم وكانوا يطالبون بدمه فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله، (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)، أي: مهزوءًا بنا أو نفس الهزؤ للمبالغة، (قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، فإن الهزؤ في مثل ذلك جهل، بل يوهم أن يكون كفرًا لأنه أخبر من الله، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ): ما صفتها شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة لاَّ فَارِضٌ): لا هرمة كبيرة، (وَلاَ بِكْرٌ)، لا صغيرة لم يلحقها الفحل، (عَوَانٌ): وسط، (بَيْنَ ذلِكَ): المذكور من الفارض والبكر، (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُون)، أي: تؤمرونه بمعنى تؤمرون به، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا)، الفقوع خالص الصفرة وأشد ما يكون منها أو صافية اللون تكاد تبيض وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء فضل تأكيد كأنه قال صفراء شديد الصفرة صفرتها، (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ): تعجبهم، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ): أسائمة أم عاملة،

(72)

(إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا): لكثرة البقر الموصوف بالوصف المذكور، (وَإِنَّا إِن شَاءَ اللًّهُ لَمُهْتَدُونَ): إلى وصفها أو إليها إذا بينتها لنا، (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ): غير مذللة للعمل صفة بقرة، (تُثِيرُ الْأَرْضَ): تقلبها للزراعة صفة ذلول، (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ)، لا مزيدة للتأكيد، (مُسَلَّمَةٌ)، عن العيب أو أخلص لونها قيل سلمها أهلها من العمل، (لَا شِيَةَ فِيهَا)، لونها واحد لا سواد فيها ولا بياض، (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)، بحقيقة وصف البقرة لنا، (فَذَبَحُوهَا)، أي: حصلوها فذبحوها، (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، لتطويلهم وكثرة مراجعتهم كذا حاصل كلام ابن عباس رصى الله عنهما أو لغلائها فإنهم اشتروها بثمن كثير وصح عن عكرمة: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. * * * (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) * * * (وَإِذ قَتَلْتُمْ نَفْسًا)، هذا أول القصة وإنما قدم البعض لاستقلاله بنوع آخر من مساوئهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك مسارعة الامتثال، (فَادَّارَأْتُمْ): اختلفتم واختصمتم، (فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنتُمْ تَكْتُمُونَ): مظهر لا محالة أمر القاتل، وإعمال مخرج لأنه حكاية مستقبل، (فَقلْنَا اضْرِبُوهُ)، أى: القتيل عطف على فادارأتم، (بِبَعضِهَا)، أي البقرة وفيه خلاف أنه كان

بعضًا معينًا أو لا وإن كان معينًا فأى عضو منها، (كَذَلِكَ يُحْييِ اللهُ الْمَوْتَى)، يدل على محذوف هو فضربوه فحيي، (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ): دلائل كمال قدرته، (لَعَلَّكُمْ تَعْقلُون): لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس، (ثم قَسَتْ): غلظت حتى لم تعتبر بالآيات، (قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْد ذَلكَ): جميع الآيات التي تقدم ذكرها أو إحياء القتيل وثم للاستبعاد، (فَهِيَ كَالْحجارَةِ): في صلابتها، (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً): منها كالحديد وأو للتخيير أي: من عرف حالها صدر عنه التشبيه بالحجارة، أو القول بأنها أشد أو شبهها بهذا أو ذاك أو بمعنى بل أو قلب بعضهم كالحجارة وبعضهم أشد يعني قلوبهم لا تخرج من أحد المثلين عطف على كالحجارة من غير حذف أي: قلوبهم أشد قسوة من الحجارة أو على حذف مضاف هو مثل أي مثل شيء أشد، (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ)، تعليل للأشدية، (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ)، أي: ولم يكن جاريًا، (وَإِن مِنْهَا لَما يَهْبِط). من رأس الجبل، (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)، وهل لمسلم أن ينكر

قدرة الله تعالى في خلق الخشية والتسبيح في الجمادات؟ نعم لمن يتبع الفلسفة أن يتحمل التمحل في أمثال ذلك والله تعالي بمحض فضله قد عصمنا منه، قال بعض السلف الأول كثرة البكاء والثاني (1) قلته والثالث بكاء القلب من غير دمع، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وعيد على ذلك، (أَفَتَطْمَعُونَ)، أيها المؤمنون،

_ (1) أي الانشقاق.

(أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ)، تحدث اليهود الإيمان لأجل دعوتكم، (وَقَدْ كَانَ فَرِيق مّنْهُمْ): طائفة من أسلافهم، (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ)، هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام وبعد ما رجعوا حرفوا كلام الله تعالى، أو المراد علماؤهم يحرفون التوراة، (ثمَّ يُحَرِّفونَهُ): يغيرونه، (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ): فهموه، (وَهُمْ يَعْلَمُون) أنهم مفترون وإذا كان هذا حال علمائهم فما طمعكم بسفلتهم وجهالهم، (وَإِذَا لَقُوا)، أي: منافقو اليهود، (الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا): بأنكم على الحق ورسولكم مبشر في التوراة، (وَإِذا خَلا بَعْضُهمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا)، عاتب من لم ينافق على من نافق بقوله (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ): في التوراة من صفة النبي عليه الصلاة والسلام، (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ): لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الدنيا والآخرة فيقولوا: كفرتم بما علمتم صدقه، (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، أي: أليس لكم عقل وهو من كلام رؤسائهم أو كلام الله تعالى، أي: لا تعقلون حالهم وأن لا مطمع في إيمانهم، قال مجاهد: قال النبي عليه السلام ليهود قريظة: يا إخوان القردة والخنازير، فقالوا من أخبر بهذا محمدًا ما خرج

هذا إلا منا أفتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله والأول قول أكثر السلف ويمكن أن يكون هذا القول تخويف رؤسائهم جهلتهم ليردعوا عن إظهار ما في التوراة مع المؤمنين لا أنه من صميم القلب أو اعتقادهم أنَّهم مؤاخذون بما تكلموا به لا بما اعتقدوا وأسروا في أنفسهم ولهذا قال الله تعالى، (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ)، من نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (وَمَا يعلنون)، منه فالحجة عليهم ثابتة حدثوا به أو ما حدثوا وما يسرون من الكفر وما يظهرون من الإيمان، (وَمِنهُمْ): من اليهود، (أميون)، من لا يكتب ولا يقرأ، (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ)، أي: لكن يعلمون الأكاذيب التي سمعوا من كبرائهم أو غير عارفين بالكتاب إلا أنَّهم يقرءون قراءة عارية عن معرفة المعنى وعلى هذا الاستثناء متصل وهذا لا ينافي كونهم أميين فإنهم مع كونهم لا يمكن لهم أن يقرءوا من الكتاب شيئًا يحفظون الكتاب أو يتمنون على الله تعالى كقولهم " لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات " (آل عمران: 24)، و " لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا " الآية (البقرة: 111)، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنّونَ)، قوم ليس لهم إلا ظن لا علم لهم أو يكذبون، (فَوَيْلٌ): هلاك أو واد في جهنم، (لِّلذِين

يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)، هم أحبارهم حرفوا كتاب الله زادوا فيه ونقصوا، (ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)، ليستبدلوا به رئاستهم وما يصل إليهم من سفلتهم، (فوَيْلٌ لهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكذب، (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ): من السفلة أو مما يكسبون من المعاصي والأولى أن يكون ما مصدرية في مما كتبت ومما يكسبون، (وَقَالُوا)، أي: اليهود، (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً): قليلة سبعة أيام بكل ألف سنة من الدنيا يومًا أو أربعين يومًا لأن عبادة العجل كانت أربعين يومًا، (قُلْ): يا محمد صلى الله عليه وسلم، (أَتَّخَذْتُمْ)، همزة الاستفهام دخلت على ألف الوصل، (عندَ اللهِ عَهْدًا)، ميثاقًا بذلك، (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ)، أي: إن اتخذتم عهدًا فهو لا يخلف الميثاق، (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، أم معادلة للاستفهام، أي: أي الأمرين كائن أو منقطعة بمعنى بل، (بَلَى)، إثبات لما نفوه من خلود النار، (مَن كَسَبَ سَيِّئَةً)، أي: شركًا أو كبيرة، (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)، أي: صار كالشيء

(83)

كالشيء المحاط لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا شأن الكافر، (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82). * * * (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) * * * (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، ذكرهم بما أمرهم في التوراة، (لَا تَعْبُدُونَ)،

وهو نفي بمعنى النهي مقدر بالقول أو تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف " أن " صار الفعل مرفوعًا فيكون بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار، (إِلا اللهَ وَبِالْوَالدَيْنِ إِحْسَانًا)، تقديره تحسنون أو وأحسنوا بهما إحساناً، (وَذِي القُربى): القرابةَ، (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ): من لا يجد ما ينفق على نفسه وأهله، (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا): قولاً حسنًا وسماه حسنًا للمبالغة دخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ): بطريق فرض عليكم في ملتكم، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الميثاق وهو التفات سواء كان خطابًا مع الموجودين ومن قبلهم بالتغليب أو لا، (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ): من ثبت على اليهودية قبل نسخها أو من أسلم، (وَأَنتُم معْرِضُونَ): قوم عادتكم الإعراض، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ): في التوراة، (لاَ تَسْفكُونَ دِمَاءَكُمْ): بأن لا يقتل بعضكم بعضًا، (وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ): ولا يخرجه من منزله، (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، اعترفتم بلزوم الميثاق، (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ): على أنفسكم بذلك أو أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، (ثُمَّ)، للاستبعاد، (أَنتمْ هَؤُلاءِ)، أي: أنتم بعد ذلك

هؤلاء الناقضون فهو مبتدأ وخبر قيل أنتم يا هؤلاء، (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ)، الجملة حال والعامل معنى الإشارة أو بيان لهذه الجملة، (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم)، تتعاونون والجملة حال، (بالإثْمِ وَالْعُدْوَان) بالمعصية والظلم، (وَإِن يَأتوكمْ أُسَارَى): يطلبون الفداءَ، َ (تُفَادُوَهُمْ)، فديتموهم، كانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فنزلت، (وَهُوَ)، أي: الشأن، (مُحَرمٌ عَلَيْكُمْ إِخرَاجُهُمْ)، فاتصل بقوله وتخرجون فريقًا وما بينهما اعتراض أو هو مبهم وإخراجهم تفسيره، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتاب)، أي الفداء، (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، أي: القتل والمظاهرة والإخراج، (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ): عذاب وهوان، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): خزي قريظة كان القتل والسبي ولبني

(87)

نضير الجلاء وضرب الجزية على غيرهم، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)، أي: أشد أنواعه، (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ)، تأكيد للوعيد، (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ): آثروها على الآخرة، (فَلاَ يُخَفف)، لا يهون ولا ينقص، (عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ): يمنعون من عذاب الله. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) * * * (وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الكِتَابَ): التوراة، (وَقَفيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرسُلِ): أرسلنا على أثره الرسل، (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)، ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى وبعض أحكامه مخالف للتوراة والبينات إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام وإخباره بالغيب، (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، أي: جبريل فإنه كان قرينه يسير معه حيث سار، أو الاسم الذي به يحيي الموتى، أو الإنجيل أو الروح الذي نفخ فيه، (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ) وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به " وهو ولقد آتينا " توبيخًا لهم على تعقيبهم ذاك بها، (رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى): ما لا تحب، (أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ): عن اتباعه، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ): كعيسى ومحمد عليهما

السلام، (وَفَرِيقًا تَقْتُلُون)، كزكريا ويحيى جاء بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية ولمراعاة الفواصل، (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ): أوعية للعلم لا يحتاج إلى علم آخر، أو عليها غشاوة، أو لا نفقه ما تقول كما في قوله تعالى: " وقالوا قلوبنا في أكنة "، (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي: ليس الأمر كما زعموا أن قلوبهم أوعية للعلم بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها بكفرهم أو قلوبهم لم تأب قبول الحق لخلل فيها بل لأن الله طبع عليها بالكفر، (فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُون)، أي: يؤمن منهم القليل فقليلاً حال، أو إيمانًا قليلاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب، أو لا يؤمنون أصلاً لا كثيراً ولا قليلاً، (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ)، أي: القرآن، (مُصَدِّقٌ لما مَعَهُمْ): التوراة وجوابه محذوف دل عليه جواب لما الثانية، أو لما الثانية تكرار للأول فإن ما عرفوا والكتاب واحد والفاء للإشعار بأن مجيئه كان عقيب استفتاحهم به، (وَكَانُوا): اليهود والواو للحال، (مِن قبلُ): قبل نزوله، (يَسْتَفتحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا): يستنصرون على المشركين يقولون اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت في التوراة، (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا): من الحق، (كَفَرُوا بِهِ): بغيًا وحسدًا، (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)، ما نكرة مميزة لفاعل بئس المستتر فيه والفعل صفته، أي: بئس ما باعوا فإنهم باعوا ثوابها بالكفر، (أَن يَّكْفُرُوا)، هو المخصوص بالذم، (بِمَا أَنزَلَ اللهُ بَغْيًا)، أي: أن

يكفروا حسدًا، (أَن)، أي: لأن، (يُنَزِّلَ اللهُ مِن فَضْلِهِ): النبوة والكتاب، (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فإن كفرهم للحسد على أن النبوة في غيرهم، (فَبَاءُوا): رجعوا، (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ)، لكفرهم بمحمد - عليه الصلاة

والسلام -، أو القرآن بعد كفرهم بعيسى وتضييعهم التوراة والإنجيل، أو عبادتهم العجل وقوله بغضب ظرف لغو وعلى غضب صفة له، (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ)، فإن عذابهم للإهانة وعذاب العاصي للتطهير، (وَإِذَا قيلَ لَهم): لليهود، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ): القرآن، (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا): َ التوراة، (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ): بما سواه أو بما بعده، (وَهُوَ)، أي: ما وراءه، (الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ)، فإن القرآن مصدق للتوراة، (قُلْ): يا محمد إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان بالتوراة، (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وفعل آبائهم فعلهم مع أنهم رضوا به ثم يعد عليهم قبائحهم بقوله: (وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ): اليد والعصا وغيرهما، (ثمَّ اتَّخَذْتُمُ العجْلَ)، إلها، (مِنْ بَعْدهِ): بعد مجيئه رسولاً أو ذهابه إلى الطور، (وَأَنتمْ ظَالِمُونَ): قوم عادتكم الظلم، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطورَ): قلنا لكم، (خُذُوا مَا آتيْنَاكُم): ما أمرتم به في التوراة، (بقُوَّةٍ): بجد، (وَاسْمَعُوا): أطيعوا، (قَالُوا سَمِعْنَا): قولك أو بالأذن، (وَعَصَيْنَا): أمرك أو بالقلوب وليس هذا بألسنتهم لكن لما سمعوا وتلقوه بالمعصية نسب إلى القول اتساعًا، (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)، أي: أشربوا في قلوبهم حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم وفي كلام السلف: لما أحرق العجل برد بالمبرد ثم نسف في الماء فمن شرب وفي قلبه حب العجل اصفر لونه، (بِكُفْرِهِمْ)، فإنهم مجسمة فَأعْجِبوا العجل، (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): بالتوراة كما زعمتم فبئس ما أمركم به إيمانكم بها

والمخصوص بالذم محذوف أي: هذا الأمر وحاصله لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل يعني آباءهم، وأنتم لو كنتم مؤمنين ما كذبتم محمدًا عليه الصلاة والسلام، (قلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَة عِندَ اللهِ)، أي: في علم الله وحكمه، (خَالِصَةً)، أي: خاصة بكم كما تقولون: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا " الآية (البقرة: 111)، منصوب على الحال، (مِّن دُونِ الناسِ)، أي: الباقين، (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: ادعوا بالموت على الكاذب من الفريقين، والمراد منه المباهلة كما صح عن ابن عباس رضى الله عنهما وغيره من السلف أو معناه فسلوا الموت لأن من أيقن أن مأواه الجنة حن إليها سيما إذا علم أنها لا يشاركه فيها غيره، (وَلَن يَتَمَنَّوْه أَبَدًا): للعلم بكذبهم، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ): كتحريف التوراة وإضافته إلى اليد، لأن أكثر الجنايات باليد فأضيف إليها الأعمال وإن لم يكن لليد فيها مدخل، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظالِمِينَ): تهديد، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)، أي: على نوع من الحياة وهو طول العمر لعلمهم بسوء عاقبتهم، (وَمِنَ الذِينَ أَشرَكوا)، عطف في المعنى على الناس، أي أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، أو عطف على أحرص بتقدير وأحرص من الذين وهو عطف الخاص على العام أو اليهود أحرص منهم مع أن المشركين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم إليها شديد، وزيادة حرص اليهود لعلمهم بأنهم صائرون إلى النار بخلاف المشركين، قيل:

(97)

تقديره: ومن الذين أشركوا ناس يود أحدهم فمن الذين أشركوا خبر مبتدأ محذوف صفته " يود أحدهم "، فإن من اليهود من قال: عزير ابن الله فيكون مشركًا، (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ)، أي: اليهود جملة مستأنفة، (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنةٍ)، لو للتمني، (وَمَا هُوَ بمزَحْزِحِهِ): بمبعده، (مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ)، وضمير هو لمصدر يعمر، وأن يعمر بدله، أو لأحدهم وأن يعمر فاعل بمزحزحه، (وَاللهُ بَصِيرٌ بمَا يَعْمَلُونَ). * * * (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ

وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) * * * (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًا لِّجِبْرِيلَ فَإِنهُ نَزَّلَهُ)، أي: القرآن، (عَلَى قَلْبِكَ بإِذْنِ اللهِ): بأمره وجواب الشرط محذوف، أي: من كان عدوه فلا إنصاف له، فإنه نزله أو تقديره فهو عدو لي، فليعلم أنه نزله، أو فليمت غيظًا، (مُصَدِّقًا لِّما بَيْن يَدَيه): لما قبله من الكتب نزلت جوابًا لليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ولولا أنه ولي محمد عليه الصلاة والسلام لآمنوا، (وَهُدًى وبشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)، رد عليهم حيث قالوا: إن جبريل ينزل بالحرب والشدة، فقال الله: إنه ينزل بهما على الكافرين وبهدى وبشرى للمؤمنين، (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)، فيه تنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء فمن عادى أحدهم فقد عادى الجميع ووضع الظاهر أي: للكافرين موضع المضمر للدلالة على أن عداوة الله لهم لكفرهم وعداوتهم كفر وقيل الواو هاهنا بمعنى أو، (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، نزلت في ابن صوريا حين قال:

يا محمد ما أنزل إليك آية بينة فنتبعك، (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ)، المتجاوزون عن الحد، (أَوَ كُلمَا عَاهَدُوا عهدًا)، عطف على محذوف والهمزة للإنكار، أي: أكفروا بالآيات، وكلما عاهدوا نزلت حين ذكرهم نبينا عليه الصلاة والسلام ما أخذ عليهم من الميثاق في شأنه قالوا: والله ما عهد إلينا ولا أخذ ميثاق في شأنك، (نَّبَذَهُ فَرِيقٌ منْهُمْ): نقضه وطرحه، (بَلْ أَكْثرُهمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)، رد لما يتوهم أن الفريق هم الأقلون، فإنهم بين ناقض عهد أو جاحد معاند، والمؤمنون أقلون، (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ)، كعيسى ومحمد عليهما السلام، (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ)، أي: التوراة، فإنهم جحدوا ما فيها من صفة محمد عليه الصلاة والسلام، (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، كشيء يرمى وراء الظهر غير ملتفت إليه، (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): ما فيها مع أنهم عالمون، (وَاتبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ)، عطف على نبذ، أي: تركوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرأها الشياطين وتحدثها، (على): عهد، (مُلْكِ سلَيْمَان)، أي: في زمانه وتعديته بعلى لتضمين الكذب فإن الشياطين كتبوا السحر ودفنوه تحت كرسيه ثم لما مات سليمان أو نزع منه ملكه استخرجوه (1)، وقالوا: تسلطه في الأرض لهذا السحر، فتعلموه، وبعضهم نفوا نبوته وقالوا: ما هو إلا ساحر فبرأه الله مما قالوا فقال: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ): عبر عن السحر بالكفر لتغليظه، (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)، إشارة إلى ما كتبوا من السحر، (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)، عطف على السحر أو على ما تتلوا، أي: يعلمونهم ما ألهما، (بِبَابِلَ)،

_ (1) هذا من الإسرائيليات المنكرة، وبعض كتب التفسير مشحونة بالأساطير في تفسير هذه الآية. قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ فَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أقوال. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى (السِّحْرِ) أَيْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أَيْضًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ لِأَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهُوَ الَّذِي تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَمِنْهُ مَا تَأْثِيرُهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَوْضِعَهُ جَرٌّ عَطْفًا عَلَى (مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وتقديره مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَأَنْكَرَ فِي الْمَلَكَيْنِ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ نَازِلًا عَلَيْهِمَا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّحْرَ لَوْ كَانَ نَازِلًا عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُهُ هُوَ اللهَ تَعَالَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَعَبَثٌ وَلَا يَلِيقُ بِاللهِ إِنْزَالُ ذَلِكَ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، فَلَوْ ثَبَتَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَ السِّحْرَ لَزِمَهُمُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ: كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُبْعَثُوا لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، الرَّابِعُ: أَنَّ السِّحْرَ لَا يَنْضَافُ إِلَّا إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْمَرَدَةِ، وَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللهِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ؟ وَهَلِ السِّحْرُ إِلَّا الْبَاطِلُ الْمُمَوَّهُ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ اللهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِهِ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ [يُونُسَ: 81] ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ سَلَكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَهْجًا آخَرَ يُخَالِفُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ: كَمَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ نَسَبُوا السِّحْرَ إِلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مَعَ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ كَانَ مُبَرَّأً/ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ نَسَبُوا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِلَى السِّحْرِ مَعَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ مُبَرَّأً عَنِ السِّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ هُوَ الشَّرْعَ وَالدِّينَ وَالدُّعَاءَ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ تَوْكِيدًا لِبَعْثِهِمْ عَلَى الْقَبُولِ وَالتَّمَسُّكِ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَتَمَسَّكُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ وَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ مِقْدَارَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَيَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكْفُرْ سُلَيْمَانُ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ سِحْرٌ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانَتْ تُضِيفُ السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلَيْنِ قوله: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ جَحْدٌ أَيْضًا أَيْ لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا بَلْ يَنْهَيَانِ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ فَلَا تَكْفُرْ وَهُوَ كَقَوْلِكَ مَا أَمَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا حَتَّى قُلْتُ لَهُ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا نَالَكَ كَذَا، أَيْ مَا أَمَرْتُ بِهِ بَلْ حَذَّرْتُهُ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى مَا يَلِيهِ أَوْلَى مِنْ عَطْفِهِ عَلَى مَا بَعُدَ عَنْهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ نَزَلَ السِّحْرُ عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُ ذَلِكَ السِّحْرِ هُوَ اللهَ تَعَالَى. قُلْنَا: تَعْرِيفُ صِفَةِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّرْغِيبِ فِي إِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ أَنْ يَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشر لكن لتوقيه قوله ثانياً: أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فَيَكْفِي فِي صِدْقِهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَغَلَ بِتَعْلِيمِ سِحْرِ مَنْ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَيَكُونُ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ إِثْبَاتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ حق. قوله ثالثاً: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَا الْمَلَائِكَةُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ التنبيه على إبطاله. قوله رابعاً: إِنَّمَا يُضَافُ السِّحْرُ إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْمَرَدَةِ فَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَا يَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْنَا: فَرْقٌ بَيْنَ الْعَمَلِ وَبَيْنَ التَّعْلِيمِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ؟ وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ لِغَرَضِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: (ملكين) بكسر اللام وهو مروي عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَا عِلْجَيْنِ أَقْلَفَيْنِ بِبَابِلَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، وَقِيلَ: كَانَا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ مِنَ الْمُلُوكِ. وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ لَهُمَا، وَقِيلَ: هُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقِيلَ غَيْرُهُمَا: أَمَّا الَّذِينَ كَسَرُوا اللَّامَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ تَعْلِيمُ السِّحْرِ، وَثَانِيهَا: كَيْفَ يَجُوزُ إِنْزَالُ/ الْمَلَكَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَامِ: 8]، وَثَالِثُهَا: لَوْ أَنْزَلَ الْمَلَكَيْنِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوْ لَا يَجْعَلَهُمَا كَذَلِكَ، فَإِنْ جَعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِرَجُلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا وَتَلْبِيسًا عَلَى النَّاسِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ نُشَاهِدُهُمْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنْسَانًا، بَلْ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا سَنُبَيِّنُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَقِرَاءَةُ الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ مُتَوَاتِرَةٌ وَخَا

ظرف أو حال، وهو اسم موضع من الكوفة، (هَارُوتَ وَمَارُوتَ)، عطف بيان للملكين وعند بعض من السلف أن ما نافية، فيكون عطفًا على ما كفر، أي: ما كفر سليمان ولا أنزل على الملكين، أي جبريل وميكائيل، فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى سليمان فردهم الله وعلى هذا، فقوله: " ببابل " متعلق بـ (يُعَلِّمُونَ) وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين ابتلاهما الله تعالي بالسحر وقعا بدل بعض من الشياطين، (وَمَا يُعَلِّمَان)، أي: الملكان، أو الرجلان،

(مِنْ أَحَدٍ)، أي: أحدًا، (حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ): ابتلاء واختبار، (فَلاَ تَكْفُرْ): بتعلمه وذلك لأن تعلمه للعمل كفر أو تعلم هذا النوع كفر لما فيه من الكفر فهذه نصحية منهما له، (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا)، ضمير الجمع لما دل عليه من

أحد، (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ): من السحر، (به): بسببه، (بَيْنَ المَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم)، أي: السحرة، (بِضَارِّينَ بِهِ): بالسحر، (مِنْ أَحَدٍ): أحدًا، (إِلَّا بإذْنِ اللهِ): إرادته، (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ)، أي: نفعًا يوازي ضره، ومجمل قصتهما أن الملائكة طعنوا أهل الأرض فسادهم، فقال الله تعالى لهم: لو كنتم على طبعهم لكنتم مثلهم، فقالوا: نحن لا نعصي إلهنا، فاختار الله تعالى من بينهم ملكين من أعبدهم وركب فيهما الشهوة وأرسلهما إلى الأرض فعصيا فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فالآن هما معذبان إلى يوم القيامة والله يمتحن عباده بهما (1)، (وَلَقَدْ عَلِمُوا): اليهود، (لَمَنِ اشْتَرَاهُ): استبدل السحر بكتاب الله تعالى واللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل، (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ): من نصيب، (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ)، أي: باعوا، (أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانوا يَعْلَمُون): حقيقة ما فعلوا، (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا): بمحمد عليه الصلاة والسلام، (وَاتَّقَوْا)، نبذ كتاب الله تعالى واتباع كتب الشياطين، (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ)، أي: لشيء من الثواب خير لهم، أو جواب لو محذوف وهو

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَعْلَمَهُمُ اللهُ بِآدَمَ وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فَأَجَابَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ عَلَيْهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ فَكَانُوا يَعْرُجُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُمْ وَمِنْ تَبْقِيَةِ اللهِ لَهُمْ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ القبائح، ثم أضافوا إليهما عَمَلَ السِّحْرِ فَازْدَادَ تَعَجُّبُ الْمَلَائِكَةِ فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْتَلِيَ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا وَزُهْدًا وَدِيَانَةً لِأُنْزِلَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ فَأَخْتَبِرَهُمَا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا شَهْوَةَ الْإِنْسِ وَأَنْزَلَهُمَا وَنَهَاهُمَا عَنِ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، فَنَزَلَا فَذَهَبَتْ إِلَيْهِمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَهِيَ الزُّهَرَةُ فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ أَنْ تُطِيعَهُمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ، وَإِلَّا بَعْدَ أَنْ يَشْرَبَا الْخَمْرَ، فَامْتَنَعَا أَوَّلًا، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَأَطَاعَاهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَعِنْدَ إِقْدَامِهِمَا عَلَى الشُّرْبِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ دَخَلَ سَائِلٌ عَلَيْهِمْ فَقَالَتْ: إِنْ أَظْهَرَ هَذَا السَّائِلُ لِلنَّاسِ مَا رَأَى مِنَّا فَسَدَ أَمْرُنَا، فَإِنْ أَرَدْتُمَا الْوُصُولَ إِلَيَّ فَاقْتُلَا هَذَا الرَّجُلَ، فَامْتَنَعَا مِنْهُ ثُمَّ اشْتَغَلَا بِقَتْلِهِ فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْقَتْلِ وَطَلَبَا الْمَرْأَةَ فَلَمْ يَجِدَاهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ نَدِمَا وَتَحَسَّرَا وَتَضَرَّعَا إِلَى اللهِ تَعَالَى فَخَيَّرَهُمَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختار عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ مُعَلَّقَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، ثُمَّ لَهُمْ في الزهرة قولان، أحدهما: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا ابْتَلَى الْمَلَكَيْنِ بِشَهْوَةِ بَنِي آدَمَ أَمَرَ اللهُ الْكَوْكَبَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الزُّهَرَةُ وَفَلَكَهَا أَنِ اهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ إِلَى أَنْ كَانَ مَا كَانَ، فَحِينَئِذٍ ارْتَفَعَتِ الزُّهَرَةُ وَفَلَكُهَا إِلَى مَوْضِعِهِمَا مِنَ السَّمَاءِ مُوَبِّخَيْنِ لَهُمَا عَلَى مَا شَاهَدَاهُ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن المرأة كانت فَاجِرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَوَاقَعَاهَا بَعْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ، ثُمَّ عَلَّمَاهَا الِاسْمَ الَّذِي كَانَا بِهِ يَعْرُجَانِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَكَلَّمَتْ بِهِ وَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ اسْمُهَا «بِيدَخْتَ» فَمَسَخَهَا اللهُ وَجَعَلَهَا هِيَ الزُّهَرَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ/ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ وجوه، الأول: ما تقدم من الدلائل الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمَا خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاسِدٌ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُخَيَّرَا بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْعَذَابِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَهُمَا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ طُولَ عُمُرِهِ، فَكَيْفَ يَبْخَلُ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ فِي حَالِ كَوْنِهِمَا مُعَذَّبَيْنِ وَيَدْعُوَانِ إِلَيْهِ وَهُمَا يُعَاقَبَانِ وَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ فَنَقُولُ: السَّبَبُ فِي إِنْزَالِهِمَا وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَاسْتَنْبَطَتْ أَبْوَابًا غَرِيبَةً فِي السِّحْرِ، وَكَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ وَيَتَحَدَّوْنَ النَّاسَ بِهَا، فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِأَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَا النَّاسَ أَبْوَابَ السِّحْرِ حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ كَذِبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ مُخَالِفَةً لِلسِّحْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِمَاهِيَّةِ الْمُعْجِزَةِ وَبِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، وَالنَّاسُ كَانُوا جَاهِلِينَ بِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، فَلَا جَرَمَ هَذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةِ، فَبَعَثَ اللهُ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْرِيفِ مَاهِيَّةِ السِّحْرِ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ، وَثَالِثُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: السِّحْرُ الَّذِي يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللهِ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَنْدُوبًا، فَاللهُ تَعَالَى بَعَثَ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ لِهَذَا الْغَرَضِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِنْهُمَا وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الشَّرِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٌ وَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرًا مَعْلُومًا لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا امْتَنَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَخَامِسُهَا: لَعَلَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ السِّحْرِ لَمْ يَقْدِرِ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَبَعَثَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ لِيُعَلِّمُوا الْبَشَرَ أُمُورًا يَقْدِرُونَ بِهَا عَلَى مُعَارَضَةِ الْجِنِّ، وَسَادِسُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا عَلَّمَهُ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ فَيَسْتَوْجِبُ بِهِ الثَّوَابَ الزَّائِدَ كَمَا ابْتُلِيَ قَوْمُ طَالُوتَ بِالنَّهَرِ عَلَى مَا قَالَ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِنْزَالُ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ والله أعلم. اهـ (مفاتيح الغيب. 3 ص: 631)

(104)

لأثيبوا ولمثوبة إلخ .. استئناف واختيار الجملة الاسمية في جواب لو للدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما في سلام عليك وأصله لأثيبوا مثوبة خيرًا مما شروا به أنفسهم، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، أي: من أهل العلم أو يعلمون أن الثواب خير. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) * * * (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعنا)، في الله تعالى المؤمنين عن أن يقولوا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - راعنا، أي: أرعنا سمعك، أي: اسمع منا وفي لمية المنع خلاف والمشهور أن لهذا اللفظ معنى قبيحًا بلغة اليهود وهم لما سمعوا هذا اللفظ من المسلمين يأتونه ويقولون راعنا ويضحكون سرًا، (وَقُولُوا انظُرْنَا)، أي: إلينا، (وَاسْمَعُوا)، ترك هذه اللفظة سماع قبول لا كاليهود قيل: إنه عليه السلام إذا تكلم معهم قالوا: راعنا، أي: راقبنا وتأن بنا حتى نفهم، فمنعوا من تلك الكلمة وأمروا بـ انظرنا أي: انتظرنا، (وَلِلْكَافِرِينَ): الذين سبوا وتهاونوا رسلنا، (عَذَابٌ أَلِيمٌ) (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ)، هو مفعول يود، (مِنْ خَيْرٍ)، من للاستغراق، (مِنْ رَبِّكُمْ)، من للابتداء والخير هاهنا الوحي أو أعم بين تعالى شدة عداوتهم حسدًا للمؤمنين لئلا يغتروا بنفاقهم، (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ): بنبونه أو أعم، (مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ

العَظيمِ)، فحرمان البعض ليس لضيق في الفضل، بل لحكم ومصالح، (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ): نبطل حكمها أو النسخ رفعها من القرآن، (أَوْ نُنسِهَا): نمحها عن القلوب ومن قرأ ننسأها أي: نؤخرها، أي: في اللوح المحفوظ أو نثبت قراءتها ونبدل حكمها فعلى هذا النسخ عكسه، (نَأْتِ بِخيْرٍ منهَا): أنفع للعباد في الدارين، (أَوْ مِثْلِهَا): في المنفعة نزلت حين قالوا: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يأمر بشيء ثم يأمر بخلافه فما هذا إلا كلامه، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): من النسخ والتبديل، (أَلَمْ تَعْلَمْ)، خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد هو وأمته بدليل " وما لكم "، (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): يفعل ما يشاء فيهما من نسخ وتغيير، والآية وإن كانت خطابًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخبر عن عظمته، لكن في الحقيقة رد وتكذيب لليهود لإنكارهم نسخ التوراة، (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ): وال يلي أمركم، (وَلَا نَصِيرٍ): ينصركم قيل الفرق بينهما أن الوالي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا، (أَمْ تُرِيدُون)، أي: ألم تعلموا أنه يأمر وينهى كما شاء أم تعلمون

وتقترحون في السؤال فأم معادلة للهمزة أو منقطعة، (أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ): محمدًا عليه الصلاة والسلام فإنه رسول الله إلى الناس أجمعين، (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ): أهل الكتاب قالوا ائتنا بكتاب نقرأه وفجر لنا أنهارًا نصدقك فأنزل الله تعالى، أو قريش سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا، (وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمَانِ)، أي: يشترى الكفر به، (فَقَدْ ضَل سَوَاءَ السَّبيلِ): وسطه، أي: خرج عن الطريق المستقيم، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، كان من أحبارهم رجال جاهدوا في رد الناس عن الإسلام فأنزل الله تعالى، (لَوْ يَرُدونكُم)، لو

بمعنى أن، (مِّنْ بَعْدِ إِيمَانكُمْ كُفارًا)، حال من كم، أو مفعول ثان ليردون لتضمين معنى التصيير، (حَسَدًا) علة ود، (منْ عِندِ أَنفسهم)، أي: تمنوا من عند أنفسهم لا من قبل التدين أو معناه حسدًا مبالغًا منبعثًا من أصل نفوسهم، (مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَق): في التوراة، (فَاعْفُوا): عن مجازاتهم، (وَاصْفَحُوا)، وأعرضوا عنهم، (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ): بالقتال أو القتال والسبي والجلاء، أو إسلام بعض والباقي لبعض، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ)، أي: اصبروا على المخالفة والجئوا إلى الله تعالى بالبر، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ)، أي: ثوابه، (عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فلا يضيع عمل عامل، (وَقَالُوا)، أي: أهل الكتاب، (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وهذا لف بين قولي اليهود والنصارى ثقة بفهم السامع، (تِلْكَ)، إشارة إلى ألاَّ ينزل على المؤمنين خير أو أن يردوهم كفارًا وألا يدخل الجنة غيرهم، أو إشارة إلى الأخير بحذف المضاف أي أمثالها، (أَمَانِيُّهُمْ): التي تمنوها على الله تعالي باطلاً، (قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ): على

(113)

اختصاصكم بالجنة، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى): إثبات لما نفوا من دخول غيرهم الجنة، (منْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): أخلص له نفسه، أو دينه أو عمله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ): متبع نبي الله عليه الصلاة والسلام، قيل: مؤمن، (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ): ثابت لا ينقص، (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): في الآخرة عند الفزع الأكبر، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ): على ما مضى. * * * (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ

مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) * * * (وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النصارَى عَلَى شَيْءٍ): أمر يعتد به أي: دينهم باطل من أصله نزلت حين قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود، (وَقَالَت النَّصَارَى لَيْسَت اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ): مطلقًا دائمًا، (وَهُمْ)، أي: الفريقان، (يَتْلُونَ الكتابَ)، وفي كتاب كل منهما تصديق من كفروا به، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الذي سمعت، (قَالَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ): آباؤهم الذين مضوا أو عوام النصارى أو مشركوا العرب قالوا في نبيهم أو أمم قبلهما، (مِثْلَ قَوْلِهِمْ)، وبَّخهم الله على التشبه بالجهال وهو مفعول مطلق لـ قال وكذلك مفعول به وقيل كذلك مبتدأ ومثل قولهم مصدر أو مفعول لا يعلمون، (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ): بما استحقوا عن الحسن هو تكذيبهم وإدخالهم النار، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)، عام لكل

من خرب مسجدًا، وإن كان سبب نزوله منع المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة ويحج عام الحديبية، وأي خراب أعظم مما فعلوا من إخراج المسلمين واستحواذهم بالأصنام، أو نزلت في الروم خربوا بيت المقدس، (أوْلَئِكَ): المانعون، (مَا كانَ لَهُمْ أَن يَدْخلُوهَا إِلا خَائِفِينَ)، خبر معناه الطلب لا تمكنوهم من دخولها إلا تحت هدنة أو جزية، أو بشارة للمسلمين أنه سيكون كذلك، أو ما كان ينبغي أن يدخلوها إلا خاشعين فضلاً أن يخربوا، أو ليس الحق أن يدخلوا إلا خائفين عن المسلمين فضلاً من أن يمنعوهم منها، (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ): قتل وسبي أو جزية، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ): له الأرض كلها إن منعتم الصلاة في أحد المساجدَ، (فَأَيْنَمَا تُوَلوا)، أيَّ: في أي مكان توليتم القبلة، (فَثَمَّ وَجْهُ الله)، أي: جهته التي أمر بها لا يختص بمسجد ومكان، أو معناه بأي جهة وجهتم إليها وجهكم فثم قبلة الله

المشرق والمغرب، أو ذاته مطلع بكم، (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ): محيط بالأشياء رحمة لا يضيق على عباده، (عليمٌ): بالأعمال في الأماكن أو نزلت في صحابة عميت عليهم القبلة فتحروا القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ثم تبين خطأهم، أو نزلت في صلاة التطوع حين السير أو في تحويل القبلة لما عيرت اليهود بأن ليس لهم قبلة معلومة، أو لما نزلت " ادعوني أستجب لكم " (غافر: 60)، قالوا أين ندعوه فنزلت، أو لما مات النجاشى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا عليه، قالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة كيف نصلي عليه؟ فنزلت، نقله ابن جرير رضى الله عنه، (وَقَالوُا): اليهود في عزير والنصارى في المسيح والمشركون في الملائكة، (اتَّخَذَ

اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ): نزه نفسه عن ذلك، (بَل لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْص): أي: مخلوق وملك فلا مناسبة لشيء مع الله فلا ولد، (كُل لَّهُ قَانتُون): منقادون لا يمكن لهم الامتناع عن مشيئته، (بَديع السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ): َ مبدعهما وخالقهما بلا سبق شيء، أو بديع سماواته وأرضه، (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا): قدر وأراد، (فإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون)، من كان التامة، أي: يكونه فيكون ولا واجب أن هناك حقيقة قول كما ابتدأ المسيح بأمر كن من غير والد والملائكة كذلك ومن قرأ فيكونَ بالنصب فهو جواب الأمر، (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلمُون): مشركوا العرب أو بعض اليهود والنصارى، (لَوْلا يُكَلّمنَا اللهُ)، أي: هلا يكلمنا عيانًا، (أَوْ تَأتِينَا آيةٌ)، كما قال تعالى: " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض " الآية (الإسراء: 10)، (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلهم): من كفار الأمم الماضية، (مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلوبُهمْ): في العناد، (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ): أيقنوا وطلبوا الحق لا من عاند واستكبر، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ): متلبسًا، (بِالْحَقِّ): بالصدق، (بَشِيرًا): بالجنة، (وَنَذِيرًا): من النار، (وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجَحِيمِ)، أي: لست بمسئول عنهم لِمَ لَمْ يؤمنوا، ومن قرأ بصيغة النهي فذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم: ليت شعرى ما فعل أبواي، فنزلت وقيل

_ (1) الصواب أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولا علاقة لها بوالدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألبتة. والله أعلم.

معناه لا تسئل عن حالهم فإنك لا تقدر أن تخبر عنها لفظاعتها، (وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى)، كانوا يرجون أن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام إلى دينهم حين كان يصلي إلى قبلتهم، فلما صرفت القبلة أيسوا منه فأنزل الله، (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ): دينهم وقبلتهم، (قُلْ): يا محمد، (إِن هُدَى اللهِ): الذي بعثني به، (هُوَ الهُدَى): طريق الحق، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم): آراءهم الباطلة، (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ): القرآن والسنة، (مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِي وَلاَ نَصِيرٍ): يدفع عنك العقاب وهو تهديد شديد للأمة، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)، أي: جنس الكتاب من الكتب المتقدمة، (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، حال

(122)

كونهم لا يحرفونه ولا يكتمون ما فيه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، (أوْلَئِكَ يُؤْمِنُون بِهِ)، أي: بكتابهم دون من يحرفه ويكتمه ولا يحل ولا يحرم حلاله وحرامه أو أولئك يؤمنون بالقرآن لا من يحرف كتابه، أو معناه الذين آتيناهم القرآن حال كونهم يتبعونه حق اتباعه هم المؤمنون بالقرآن لا غيرهم، (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، حيث اشتروا الكفر بالإيمان. * * * (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) * * * (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ): عالمي زمانكم، (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا

يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وكأنه الفذلكة والمقصود بالذات، (وَإِن ابْتَلَى): اختبر أي: عامل معاملة المختبر، (إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ): رَبُّ إبراهيم، (بِكَلَمَاتٍ)، في الكلمات اختلاف كثير، أي: شرائع وأوامر ونواهي أو ثلاثين خصلة عشر في البراءة، " التائبون العابدون " (التوبة: 112) إلخ .. وعشر في أول سورة " قد أفلح المؤمنون " (المؤمنون: 1 - 9)، و " سأل سائل " (المعارج: 22 - 34)، وعشر في الأحزاب، " إن المسلمين والمسلمات " (الأحزاب: 35) إلخ .. ، أو عشر خصال خمس في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء، أو مناسك الحج، أو أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: " فسبحان الله حين تمسون " (الروم: 17) إلخ الآية أو الآيات التي بعدها " إني جاعلك للناس إماماً " وغيرها، (فأَتَمَّهُنَّ): أداهن تامات وقام بهن حق القيام، (قَالَ)، استئناف كأنه جواب لمن قال ماذا قال له ربه حين أتمهن؟، أو بيان لقوله ابتلي، عند من يقول هي الكلمات، (إِني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

إِمَامًا): يقتدى بك وإمامته مؤبدة إلى الساعة، (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، عطف على الكاف، أي: اجعل من أولادى أئمة، (قَالَ): الله، (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، في تفسيره أيضًا كطير خلاف الأرجح أنه إجابة لملتمسه وإشارة إلى أن في ذريته من لا يصلح للإمامة والنبوة، (وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ): الكعبة، (مَثَابَةً لِلنَّاسِ): مرجعًا يأتون ثم يرجعون ثم يأتون أو موضع ثواب، (وَأَمْنًا): من المشركين أبدًا فإنهم لا يتعرضون لأهل مكة ويتعرضون لمن حولها، أو لا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليها كما هو مذهب أبي حنيفة وقيل يأمن الحاج من عذاب الآخرة، (وَاتَّخذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهيمَ)، مقام إبراهيم الحجر المعروف، أو مسجد الحرام أو الحرم أَو مشاعر الحج وقد صح أن عمر رضى الله عنه قال: يا رسول الله هذا مقام أبينا إبراهيم؛ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله: " واتخذوا " إلخ. وهو عطف على عامل إذ أعني اذكر، أو مقدر بقلنا، (مصلَّى)، يسن الصلاة خلفها أو مُدَّعى، (وَعَهِدْنَا): أمرنا ولأنه بمعنى الوحي عدى بإلى، (إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ)، أي: بأن طهراه من الأصنام وما لا يليق به أو ابنياه على التوحيد على اسمه وحده، (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ

السُّجُودِ): لمن يطوف ولمن يجلس في المسجد ولمن يصلى، أو المراد من الطائفين الغرباء ومن العاكفين المقيمين والركع السجود جمع راكع وساجد، (وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَب اجْعَلْ هَذَا): المكان، (بَلَدًا آمِنا): ذا أمن، أو آمنا من فيه، (وَارْزقْ أَهْلَه مِنَ الثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، من آمن بدل البعض أهله، (قَالَ وَمَن كَفرَ)، عطف على من آمن وهو من كلام الله، نبه الله تعالى أن الرزق عام دنيوى لا كالإمامة، أو مبتدأ تضمن معنى الشرط، (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا)، خبره وقليلاً نصبه بالمصدر، (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)، أي: ألجئه إليها، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، أي: العذاب، (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ): الأساس، (مِنَ البَيْتِ): ورفعها البناء عليها، (وَإِسماعيلُ)، كان يناوله الحجارة يقولان: (ربنَا تَقَبَّلْ منَّا)، بنائنا البيت (إِنكَ أَنتَ السَّمِيعُ): لدعائنا، (العَلِيمُ): بنياتنا، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ): مخلصين منقادين، (وَمِن ذريتِنا)، أي: اجعل بعض أولادنا، (أمَّةً): جماعة، (مُّسْلمَة لكَ): خاضعة مخلصة والأصح أنها تعم العرب وغيرهم، (وَأَرِنا): أبصرنا، (مَنَاسِكَنَا): معالم

(130)

حجنا أو مذابحنا، (وَتُبْ عَلَيْنَا): مما فرط عنا، (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ): للتائب، (رَبَّنا وَابْعَثْ فيهِمْ): في الأمة المسلمة، (رَسُولًا مِنْهُمْ)، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، (يَتْلُو): يقرأ، (عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ): القرآن، (وَالْحِكْمَةَ): السنة أو الفهم في الدين أَو العلم والعمل به (ويزَكّيهِمْ): عن الشرك، (إِنكَ أَنتَ العَزِيزُ): الغالب، (الحَكِيمُ): واضع الأشياء في محالها. * * * (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ

مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) * * * (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ): استبعاد عن ذلك أي لا يرغب أحد، (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ): خسرها أو جهل نفسه أو ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره والمستثنى بدل من ضمير يرغب لأنه في معنى النفي، (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا): اخترناه للرسالة، (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): وهذه حجة وبيان لقوله " ومن يرغب "، (إِذ قَالَ)، ظرف لاصطفينا أو بإضمار اذكر كأنه قال: اذكر ذلك

الوقت لتعلم أنه المصطفى، (لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ): استقم على الإسلام أو أخلص العمل لله أو أسلم نفسك إلى الله وفوض أمرك إليه، قال ابن عباس - رضى الله عهما -: حقق ذلك حيث لم يستعن بغير الله حين ألقي في النار، (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا): بالملة أو كلمة الإخلاص، (إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ)، أي وصى هو أيضاً بنيه، (يَا بَنِيَّ)، على إضمار القول أو متعلق بوصى لأنه نوع من القول، (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ): دين الإسلام، (فَلاَ تَمُوتُن إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، أي: داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا عليه، (أَمْ كُنتمْ شُهَدَاءَ)، منقطعة والهمزة للإنكار أي: ما كنتم حاضرين، وهذا رد على اليهود حيث قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم - ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، (إِذ حَصرَ يَعْقُوبَ الَموْتُ)، تم الكلام ثم ابتدأ بقوله: (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ)، كأنه قال: اذكر ذلك الوقت حتى لا تدعى إليه اليهودية أو متعلق بقالوا نعبد، (مَا تَعبدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا)، نصبه على البدل من إله آبائك وإسماعيل عمه فهو من التغليب، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، حال من معمول نعبد، (تِلكَ)، أي: إبراهيم

ويعقوب وبنوهما، (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ): مضت، (لَهَا مَا كَسَبَتْ): من العمل، (وَلَكُم): يا معشر اليهود، (مَّا كَسَبتمْ)، أي: انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ): لا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم، (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، قالت اليهود للمؤمنين: كونوا على ديننا فهو الحق، وقالت النصارى مثله، (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، أي: نكون أهل ملته، أو نتبع ملته، (حَنيفًا): مائلاً عن الباطل إلى الحق حال عن إبراهيم، (وَما كَانَ مِنَ الُمشْرِكِينَ)، وهذا تعريض للمخاطبين، (قُولُوا): أيها المؤمنون، (آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا): القرآن، (وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ): أولاد يعقوب وفيهم الأنبياء، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى)، أفردهما بحكم أبلغ لأن النزاع فيهما، (وَمَا أوتِيَ النَّبيُّونَ): المذكورون وغيرهم، (مِن ربهِمْ لاَ نفَرقُ بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ): كاليهود يَكفر ببعض ويؤمن ببعض واحد بحسب الوضع يستوى فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، (وَنَحْنُ لَهُ): لله، (مُسْلِمُون): مخلصون منقادون، (فَإِنْ آمَنُوا)، أي: أهل الكتاب، (بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ)، المثل صلة والباء زائدة أي: مثل إيمانكم بالمذكور، أو هو من باب التعجيز إذ لا مثل لدين الإسلام نحو قوله تعالي: " فأتوا بسورة من مثله " (البقرة: 23)، (فَقَدِ اهْتَدَوْا) (وَإِن تَوَلوْا): أعرضوا

عن الإيمان، (فَإِنما همْ فِي شِقَاقٍ): خلاف ونزاع، (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ)، تسكين للمؤمنين ووعد بالحفظ والنصرة، (وَهُوَ السمِيع العَلِيم)، من تمام الوعد والوعيد لا في طلب حق، (صِبْغَةَ اللهِ)، من تتمة المقول أي: قولوا التزمنا دين الله، أو صبغنا الله صبغته وهي فطرة الله فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغ حلية المصبوغ، نقل أن النصارى يغمسون أولادهم في ماء أصفر ويقولون: هو تطهير لهم وبه يحق نصرانيتهم فيكون للمشاكلة، ونقل أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصبغ ربك؟ فناداه ربه أن قل نعم أنا أصبغ الألوان وأنزل الله على نبيه: " صبغة الله " (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً): لا صبغة أحسن من صبغته، (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ): مطيعون لا نشرك به كشرككم عطف على آمنا، (قلْ): يا محمد لأهل الكتاب، (أَتُحَاجُّونَنَا): أتجادلوننا، (في اللهِ)، في دين الله وأمره حيث قالوا

(142)

الأنبياء منا فنحن أولى بالله منكم، (وَهُوَ ربنَا وَرّبكُمْ): لا اختصاص له بقوم دون قوم، (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ): لكل جزاء عمله فليس ببعيد أن يكرمنا الله تعالى، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ): موحدون، أي: لنا هذا المزيد دونكم، (أَمْ تَقُولُونَ)، أم منقطعة والهمزة للإنكار، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ)، " ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا " (آل عمران: 67)، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ)، يقرأون في التوراة أن الدين الإسلام وأن هؤلاء الأنبياء برآء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وعيد لهم، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، كرر مبالغة في الزجر عما في الطباع من الاتكال بالأشراف من الآباء، قيل: الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب وفي الآية لنا، وقيل: المراد بالأمة في الأول: الأنبياء وفي الثاني: أسلاف أهل الكتاب. * * * (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِ النَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ

وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) * * * (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ): اليهود ومشركو مكة، (مَا وَلَّاهُمْ): ما صرفهم، (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)، وهي الصخرة، (قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ

وَالْمَغرِبُ): ملكًا لا يختص به مكان دون مكان، (يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ): تقتضيه الحكمة فتارة إلى الصخرة ثم إلى الكعبة، (وَكَذَلِكَ): كما هديناكم صراطًا مستقيمًا، وقيل إشارة إلى ولقد اصطفيناه في الدنيا، أي: كما اخترنا إبراهيم عليه السلام، (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا): عدولا خيارًا، (لتَكُونوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ): على صدقكم، (شَهِيدًا)، وذلك لأن الأمم يجحدون يوم القيامة تبليغ الأنبياء، فالأنبياء يأتون بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فيشهدون بالتبليغ، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟، فيقولون: أخبرنا نبينا في كتابه، ثم يزكيهم محمد عليه الصلاة والسلام -، (وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِى كُنتَ

عَلَيْهَا)، أي: أصل أمرك استقبال الكعبة، فإنها قبلة إبراهيم، لكن جعلنا قبلتك بيت المقدس، وقوله: " التي كنت عليها " أحد مفعولي جعل، أي: الجهة التي كنت عليها، وقيل: تقديره وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، وعلى هذا التي صفة القبلة أقول والله أعلم بمراده: يحتمل أن يراد من التي كنت عليها الكعبة، أي: خاطرك مائل إليها، فإن الأصح أن القبلة قبل الهجرة الصخرة لكن خاطره الأشرف مائل إلى أن تكون الكعبة قبلة، (إِلَّا لِنَعْلَمَ): علمًا حاليًا يتعلق به الجزاء، (مَن يَتَّبِعُ الرَّسولَ): عند نسخ القبلة، (مِمَّن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيْهِ): يرتد، والظاهر أن تقديره متميزًا، ممن ينقلب حال من فاعل يتبع، أو ثاني مفعولي نعلم، وقد نقل أن كثيرًا من المسلمين ارتدوا عند تحويل القبلة، ظنًا منهم أن هذا حيرة منه عليه الصلاة والسلام، (وَإِن كانَتْ)، أي التولية، وإن مخففة، (لَكَبيرَةً): ثقيلة، (إِلا عَلَى الّذِينَ هَدَى الله)، أي: هداهم الله، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) بالقبلة الأولى، وتصديقكم واتباعكم نبيكم في القبلة الثانية، أو صلاتكم إلى الصخرة، ففى

الصحيح أن الصحابة سألوا كيف حال إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فنزلت، (إِنَّ اللهَ بِ النَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)، فلا يضيع أجورهم والرءوف أبلغ من الرحيم، (قَدْ نَرَى تَقَلبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، أي: تردد وجهك في جهة السماء انتظارًا لجبريل والوحي بتغيير القبلة، فإنه يحب أن تكون " قبلةً " قبلة أبيه إبراهيم، (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ)، نمكننك استقبال قبلة من وليته كذا، أي صيرته واليًا له، (قِبْلَةً تَرْضَاهَا)، تحبها، (فَوَلِّ): اصرف، (وَجْهَكَ شَطْر المَسْجِدِ الحَرَامِ)، أي: نحوه، (وَحيثُ مَا كُنتُمْ)، من بر وبحر، وهو بمعنى الشرط، أي: أينما كنتم فالفاء، (فَوَلوا)، للجزاء، (وُجُوهَكُمْ شَطْرهُ)، حين الصلاة، (وَإِن الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): اليهود، (لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ): أمر الكعبة، (الحَقُّ من ربهِمْ)، ليقينهم بحقية محمد عليه الصلاة والسلام، وبأن الكعبة قبلة إبراهيم، (وَمَا اللهُ بغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ): من العلم وكتمانه، (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آية): دالة على أن الكعبة قبلة، (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)، لأنَّهُم حساد جاحدون، (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)، قطع لأطماع اليهود الرجوع إلى الصخرة ثانيًا، (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِع

(148)

قبْلَةَ بَعْضٍ): اليهود تستقبل الصخرة، والنصارى مطلع الشمس، فمحال أن تراعي خاطرهم، إن أردت مثلاً لاختلافهم، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم)، مثلاً، (مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العِلْمِ)، بأن لك الحق بالوحي، (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)، مثلهم وبالحقيقة هذا تهديد لأمته، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): علماءهم، َ (يَعْرِفُونه): محمدًا بنعته وصفته، (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْناءهُمْ): كمعرفتهم أبناءهم بلا التباس، (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، أي: نعته وصفته، أما العوام فلا يعرفون شيئًا، وأما المؤمنون منهم فلا يكتمون، (وَهُمْ يَعْلَمُون)، فإنهم يقرؤن في كتابهم، (الْحَقُّ مِن رّبِّكَ)، مبتدأ أو خبر واللام للإشارة إلى الحق الذي يكتمونه، أو إلى ما عليه محمد عليه الصلاة والسلام، أو تقديره هو الحق حال كونه من ربك، (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الُممْتَرِينَ): الشاكين فيما أخبرتك، وهذا مبالغة في تحقيق الأمر، أو أمر للأمة. * * * (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ

خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) * * * (وَلِكُلٍّ): من أهل الأديان، (وِجْهَةٌ): قبلة، (هُوَ مُوَلِّيهَا): وجهه، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون، أو الله مولي الأمم إلى قبلتهم، (فاسْتَبِقُوا): بادروا، (الخَيْرَاتِ): قبول أمر القبلة وغيره، (أَيْنَ مَا تَكُونوا)، أنتم وأهل الكتاب، (يَأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا): يحشركم إليه ويجازيكم، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ): من الإماتة والإحياء والجمع، (قَدِيرٌ وَمِنْ حَيثُ خرَجْتَ): من أي مكان خرجت، افعل ما أمرت به، فالفاء في، (فوَلِّ)، للعطف على مقدر، (وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ)، إذا صليت، (وَإِنَّهُ): المأمور به، (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، لما كان النسخ من مظان الفتن والشبه، أكد وكرر وبالغ مرارًا، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ)، أحد من الآحاد، (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)، فإن اليهود قالت: ما درى محمد أين قبلته حتى هديناه، فلما صرفت القبلة بطلت صورة حجتهم، (إِلا الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ): من الناس، كمشركي مكة، فإنهم قالوا: محمد قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا، والاستثناء متصل، قيل: معناه لئلا يكون لأحد من اليهود حجة، إلا للمعاندين منهم، فحجة المنصفين أن يقال لم لا يحول إلى قبلة إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ وحجة المعاندين، أنه ما ترك قبلة الأنبياء إلا ميلاً إلى دين قومه، والمراد من الحجة ما يساق سياقها، (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ)، المشركين، فمطاعنهم لا تضركم، (وَاخْشَوْنِي): فلا تخالفوا أمرى، (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)، بتكميل الشريعة، وهو عطف عدى قوله لئلا يكون، (وَلَعَلكُمْ تَهْتدُون): لكي تهتدوا أنتم خصوصًا إلى قبلة إبراهيم، (كَمَا أَرْسَلْنَا فيكُمْ)، متصل بما بعده، أي: كما ذكركم بالإرسال، فاذكرونى، أو بما قبله، ومعناه: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة كما أتممتها في الدنيا بإرسال رسول منكم، (رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ): يحملكم ما تصيرون به أزكياء من رذائل الأخلاق، (وَيعَلِّمُكُم الكِتَابَ): القرآن، (وَالْحِكمَةَ): السنة، (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ): بالفكر من الأحكام

(153)

والشرائع، (فَاذْكُرُونِي): بالطاعة أو في الرخاء، (أَذْكُرْكُمْ): بالمغفرة أو في الشدة، (وَاشْكُرُوا لِي): نعمي، (وَلاَ تَكفُرُونِ)، بجحد نعمي، ومن أطاع الله فقد شكر ومن عصاه فقد كفر. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمنوا استعِينُوا): على طلب الآخرة، (بالصَّبْرِ): عن المعاصي، (وَالصَّلاةِ)، التي هي أم العبادات، (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ): بالعون

والنصرة، (وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ)، هم، (أَمْوَات بَلْ)، هم، (أَحياءٌ)، نزلت في قتلى بدر من المسلمين وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة، (وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ): ما حالهم، (وَلَنَبْلُونَّكُم): ولنصيبنكم إصابة من يختبركم، (بشَيْءٍ)، أي: قليل، (مّنَ الخوف وَالْجُوع)، أي: القحط، (وَنَقْصٍ منَ الأَمْوَالِ): خسران الأموال، (وَالأَنفُسِ): الموت أو هو المرض والشيب، (وَالثمَرَاتِ): الحوائج، وحكي عن الشافعي رضى الله عنه: الخوف، خوف الله والجوع رمضان، ونقص الأموال الزكوات والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد، (وَبَشّرِ): يا محمد، (الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ): مما ذكر، (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ): عبيد أو ملكًا، (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): في الآخرة فلا يضيع عمل عامل، (أوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ): مغفرة، أو ثناء من الله وأمنة من العذاب، ولكثرتها وتنوعها جمعها، (مِّن ربهم وَرَحْمَةٌ)، لطف وإحسان، (وأُوْلَئِكَ هُمُ الُمهْتَدُون): إلى الصواب أو إلى الجنة، (إِنَّ الصَّفَا

وَالْمَرْوَةَ): جبلان بمكة، (مِن شَعَائِرِ اللهِ): من أعلام مناسكه، (فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ)، الحج والعمرة عبادتان معينتان في الفقه، (فَلاَ جُنَاحَ): إثم، (عَليْهِ)، في، (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا): بالجبلين، كان فيهما صنمان معروفان، وأهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الحق وزهق الباطل، كره المسلمون الطواف بينهما فأنزل الله، وعند الشافعي: هو ركن الحج بدليل الأحاديث والآية لا تنافيه، (وَمَن تَطَوَّعَ خَيرًا)، من صلاة وزكاة وطواف وغيرها، أو تطوع بالسعى عند من يرى أنه سنة ونصب خيرًا على المفعول المطلق، أو تطوع بمعنى: فعل وأتى، (فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ): مجازيه بعمله، (عَلِيمٌ)، لا يخفى عديه خافية، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا)، علماء اليهود، (مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)، صفة محمد، وآية الرجم، وغيرهما، (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ): التوراة، (أُولَئِكَ يلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنُون): جميع الخلق سوى الجن والإنس أو الملائكة والجن والإنس المؤمنون، يعني: يقولون اللهم العنهم قد نقل أن البهائم والطيور إذا اشتدت السنة تلعن عصاة بني

(164)

آدم، (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا): رجعوا عن الكتمان، (وَأَصْلَحُوا)، ما أفسدوا، (وَبَيَّنُوا): للناس ما كانوا كتموه، (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ): بالقبول والمغفرة، (وَأَنَا التوَّابُ): المبالغ في قبول التوبة، (الرَّحِيم): كثير الرحمة، (إِنَّ الَّذِين كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفارٌ): ماتوا على الكفر، (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ)، المراد من الناس المؤمنون، أو هذا في الآخرة يوقف الكافر فيلعنه جميع الناس، حتى إنه يلعن نفسه، (خَالِدِينَ فيهَا): في اللعنة، (لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ)، أي: لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، وقيل: لا ينظر إليهم نظر رحمة، (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، كفار قريش قالوا: يا محمد! صف لنا ربك فأنزل الله، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): ليس في الوجود إله غيره، (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، هما كالحجة لوحدانيته، فإنه مولى النعم وحده، فغيره لا يستحق العبودية، ولما سمعه المشركون، قالوا: إن كنت صادقًا في أن لا إله إلا الله فأتنا بآية، فأنزل الله. * * * (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ

الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) * * * (إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ): تعاقبهما، (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ): بنفعهم أو بالذي ينفعهم من الركوب والحمل، (وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء)، السماء السحاب، أو الفلك، أو جانب العلو، (فَأَحْيَا بِه الأَرْضَ): بَالنبات، (بَعْدَ مَوْتِهَا): جدوبتها، (وَبَثَّ فِيهَا)، فرق في الأرض، عطف على أحيا، والمجموع صلة، أو على ما أنزل بتقدير الموصول، أي: وما بثَّه، (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ)، في مهابها وأحوالها، (وَالسَّحَابِ الُمسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)، َ أي: المذلل لأمر الله، بينهما لا ينزل ولا ينقشع، (لَآيَاتٍ): دلالات على وحدته، (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): يتفكرون فيها، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا): أصنامًا جعلوا له أمثالاً يعبدونهم، (يُحِبُّونَهُمْ كَحبِّ اللهِ): يعظمونهم كتعظيمه، أي: يسوون بينه

وبينهم في الطاعة، أو يحبونهم كحب المؤمنين الله، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)،

لأنه لا تنقطع محبتهم عن الله عز وجل بحال، أما المشركون إذ اتخذوا صنمًا ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول، وأيضًا يعرضون عن معبودهم حال البلاء، قال تعالى: " فإذا ركبوا في الفلك " [العنكبوت: 65]، (وَلَوْ يَرَى): لو يعلم، (الذِينَ ظَلَمُوا)، باتخاذ الأنداد، (إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ): عاينوه يوم القيامة، (أَن القُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنْ الله شَدِيدُ العَذَابِ)، ساد مسد مفعولي يرى، وجواب لو محذوف، أى: لو يعلمون أن القدرة لله جميعًا لا قدرة لأندادهم، إذ يرون العذاب، أي: يوم القيامة، لندموا أشد الندامة، ومن قرأ ولو ترى بالتاء، فالذين ظلموا مفعوله من رؤية البصر، وإذ يرون العذاب بدل من الذين، وأن القوة بدل اشتمال من العذاب، وجواب لو محذوف أيضًا أي لرأيت أمرًا فظيعًا، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبعُوا): القادة من الملك وغيره، وهو بدل من إذ يرون، فيكون ظرفًا لقوله أن القوةَ، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا): الأتباع، يقول الملائكة: " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " [القصص: 63]، (وَرَأَوُا العَذَابَ)، الواو للحال، وقد مضمرة، (وَتَقَطعَتْ بِهِمُ)، أي: بسبب كفرهم، أو متلبسًا ومتصلاً بهم، (الأَسْبَابُ)، أي: المودة، أو كل وصلة بينهم في الدنيا، أو الأعمال التي يعملونها في الدنيا، أو الحيل وأسباب الخلاص، (وَقَالَ الذِينَ اتَّبَعُوا): الأتباع، (لَوْ أَن لَنَا كَرَّةً)، أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا، (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ): من المتبوعين، (كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ): مثل ذلك الإراء الفظيع، (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ): سيئاتهم، أو حسناتهم التي ضيعوها، (حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ): ندامات وهو ثالث مفاعيل يريهم، أو حال على أنه من رؤية البصر، (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار)، أصلاً. * * *

(168)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) * * * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)، نزلت في قوم حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر، وحلالاً مفعول كلوا، أو حال من ما في

الأرض، والطيب ما يستطاب في نفسه، غير ضار للأبدان والعقول أو المستلذ، (وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطانِ)، أي: سبله وطرقه، يعني لا تقتدوا به، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ): ظاهر العداوة، عند ذوى البصيرة، (إِنَّمَا يَأمُرُكُم بِالسُّوءِ): المعاصي كلها أو معصية لا حد فيها، (وَالْفَحْشَاءِ): معصية فيها حد أو البخل، (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون): كاتخاذ الأنداد، وتحليل الحرام وتحريم الحلال، (وَإِذَا قيلَ لَهُمُ): لهؤلاء المشركين، أو طائفة من اليهود، (اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا): وجدنا، (عَلَيْهِ آباءنَا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شيْئًا وَلاَ يَهتدُون)، الواو للعطف أو الحال والهمزة للتوبيخ والتعجيب، وجواب لو محذوف، أي: لو كان آبائهم جهلاء لاتبعوهم، (وَمَثلُ الذِينَ كَفَرُوا): فيما هم فيه من الجهل والضلال، (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)، أي: كمثل الدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول، بل إنما تسمع صوته فقط، هكذا نقل في تفسيرها عن السلف، وحاصله أنَّهم في انهماكهم في تقليد الجهل كالبهائم التي ينعق راعيها بها

فتسمع الصوت ولا تفهم معناه، وقيل: تقديره مثل داعي الذين كفروا معهم " كمثل الذي " الآية وهو الأظهر، (صُمٌّ): عن سماع الحق، (بُكْمٌ): لا يتفوهون به، (عُمْيٌ): من رؤية مسلكه، (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ): ولا يفهمونه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ): حلالات، (مَا رَزَقْنَاكُمْ)، لما أباح الله للناس ما في الأرض سوى ما حرم، أمر المؤمنين أن يتحروا حلالاته ويقوموا بحقوقها فقال: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ): على ما أحل لكم، (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ): إن صح أنكم تختصونه بالعبادة فإن عبادتكم لا يتم إلا بالشكر، (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ): التي ماتت من غير ذكاة، (وَالدَّمَ)، أي: دمًا مسفوحًا والسمك والجراد والكبد والطحال مستثنى بالحديث، (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ): وتخصيص اللحم بالذكر لأنه معظم ما يؤكل، (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ): ما ذكر اسم غير الله عند ذبحه، وهذه

الآية رد على من حرموا على أنفسهم أشياء من عند أنفسهم، فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقًا فلا يرد أن المحرمات غيرها كثيرات، (فَمَنِ اضْطُرَّ): أحوج ولجئ إليه، (غيرَ بَاغٍ): خارج على السلطان أو مستحله أو آكله من غير اضطرار أو متجاوز القدر الذي أحل له وقيل باغ بالاستئثار على مضطر آخر، (وَلاَ عَادٍ)، متعد عاص بسفره أو غيره متعد ما حد له، فيأكل أكثر مما يمسك رمقه، أو يتعدى حلالاً وهو يجد عن الحرام مندوحة، (فَلاَ إِثْمَ عليه)، في تناوله، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رحِيمٌ)، حيث رخص بالأشياء، (إِن الَّذِينَ يَكتُمُونَ)،

رؤساء اليهود، (مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَاب): من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره، (وَيَشْتَرُونَ به): بما أنزل الله، (ثَمَنًا قَلِيلًا)، من مال يأخذونه من سفلتهم كما مر، (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)، أي: لا يأكلون يوم القيامة ملأ بطونهم إلا النار، (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، كناية عن الغضب، أو لا يكلمهم بما يسرهم، (وَلَا يُزَكِّيهِمْ): لا يمدحهم ولا يثني عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): مؤلم، (أوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى): في الدنيا، (وَالْعَذَابَ بِالْمَغفرَةِ): في الآخرة، (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)، تعجب من حالهم، وما تامة مبتدأ، أو استفهامية توبيخية، ما بعدها الخبر، (ذَلِكَ)، أي: ذلك العذاب، (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ)، أي: جنس الكتاب أو القرآن، (بِالْحَقِّ)، وهم أخذوه هزوًا، (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ)، أي: في جنس الكتاب، والاختلاف الإيمان ببعض دون بعض، أو في التوراة، والاختلاف التحريف أو في القرآن واختلافهم تكذيبه بأنه سحر وشعر، (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ): لفى خلاف بعيد عن الحق. * * * (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ

(177)

ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) * * * (لَيسَ البِرَّ أَن تُولوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغرِبِ)، أي: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا بعد ذلك شيئًا، كما هو في أول الإسلام، فهذا حين نزول الفرائض، أو قبلة اليهود المغرب وقبلة النصارى المشرق، فأنزل الله أو لما تحولت القبلة شق ذلك على أهل الكتاب وبعض المؤمنين، فهذه الآية بيان حكمته، وهو أن المراد امتثال أوامر الله، وهو البر وليس في لزوم التوجه قبل مشرق أو مغرب بر إن لم يكن عن أمر الله، (وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي: بَرَّ من آمن، أو ذا البر من آمن بالله، (وَالْيَوْمِ

الآخِرِ وَالْمَلائكَةِ وَالْكِتَابِ)، أي: جنسه، أو القرآن، (وَالنَّبِيِّينَ وَآتى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ): حب المال، أي: أخرجه وهو محب له، وقيل: على حبِّ الله، (ذَوِي القُرْبَى): قرابات الرجل، (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ)، من لا يجد ما يكفيه، (وَابْن السَّبِيلِ): المسافر الذي انقطع عنه ما يكفيه في سفره والضعيف صرح به السلف، (وَالسائِلينَ): من ألجأته الحاجة إلى السؤال، (وَفِي الرِّقَابِ)، أي: في تخليصها بمعاونة المكاتبين، وقيل في فك الأسارى، (وَأَقَامَ الصَّلاةَ): المفروضة، (وَآتى الزَّكَاةَ): المفروضة ويكون قوله: " وآتى المال " بيان المصارف، أو صدقات السنة، (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا): الله والناس، عطف على من آمن، (وَالصابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ): حال الفقر ونصبه على المدح لفضل الصبر، (وَالضَّراء): المرض، (وَحِينَ البَأسِ): القتال لله، (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)، في إبمانهم، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، لأنَّهُم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات، (يَا أَيُّهَا الذِينَ

آمنوا كُتِبَ)، أي: فرض، (عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، كان بين حيين قتل ودماء، وكان لأحد الحيين فضل على الآخر، فحلفوا أن يقتلوا بالعبد منهم الحر، وبالمرأة الرجل، وبالواحد الاثنين فنزلت: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى)، أي: ليتساووا وليتماثلوا في القصاص فلا يدل على ألا يقتل الحر بالعبد، والذكر بالأنثى كما لا يدل على عكسه، ومن قال بعدم قتل الحر بالعبد فدليله الحديث، وروي عن بعض السلف أنها منسوخة بقوله تعالى: " النَّفْسَ بِالنَّفْسِ " فالقصاص ثابت بين الحر والعبد والذكر والأنثى، (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، تقديره فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه، أي: ولي الدم شيء من العفو، فإن عفا لازم، يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)، أي: فعلى العافي أن يطالب الدية لمعروف ولا يعنف، (وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)، أي: وعلى المعفو عنه أن يؤديها بإحسان لا يمطل ولا يبخس، (ذَلِكَ)، الحكم الذي هو أخذ الدية، (تَخْفِيفٌ من ربِّكُمْ وَرَحْمَةٌ): مما كان محتومًا على الأمم قبلكم، من القتل في اليهود، والعفو في النصارى، (فَمَنِ اعتدَى): بالقتل، (بَعْدَ ذَلِكَ): بعد العفو، (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، أو في الدنيا بأن يقتل ولا يأخذ منه الدية،

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، أي: لكم في حكم القصاص نوع حياة عظيمة، لأن العلم به يردع عن القتل مخافة القصاص ويدفع الفتنة المنجرة إلى القتال العظيم، (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، ذوي العقول، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): عن القتل أو لكي تنزجروا فتتركوا محارم الله، (كُتِبَ): فرض، (عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ)، أي: أسبابه، (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)، أي: مالاً أيُّ مال، أو مالاً كثيرًا، واختلف في الكثرة، فعن علي رضى الله عنه: لا بد أن يزيد على أربعمائة دينار، (الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِين)، وكان وجوبه في بدء الإسلام فنسخ، (بِالْمَعْرُوف): بالعدل فلا يتجاوز الثلث، (حَقًا)، أي: حق ذلك حقًا، (عَلَى الْمُتَّقِينَ): عن الشرك، (فَمَن بَدَّله): غيره من الأوصياء والشهود، (بَعْدَمَا سَمِعَهُ): من الميت، (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ)، أي: التبديل، (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ)، قد وقع أجر الميت على الله، (إِنَّ اللهَ

(183)

سَمِيعٌ): يسمع كلام الميت، (عَلِيمٌ): يعلم تبديل المبدل، (فَمَنْ خَافَ)، أي: علم، (مِن مُّوصٍ جَنَفًا)، خطأ في الوصية مثل أن يوصى بأكثر من ثلث، (أَوْ إِثْمًا): عمدًا، (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ): بين الورثة والموصى لهم، (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ): في التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ذكر الغفران لمطابقة ذكر الإثم. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ

لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، صيام رمضان، أو ثلاثة أيام من كل شهر وعاشور ثم نسخ، (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، من لدن نوح أو أهل الكتاب، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)، المعاصي فإن الصوم تضييق لمسالك الشيطان، (أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)، تقديره صوموا أيامًا، (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، أي: فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أُخَرَ، إن أفطر بحذف الشرط، والمضاف والمضاف إليه للقرينة، (وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ)،

أي الصحيح المقيم (فِدْيَةٌ)، إن أفطروا، (طَعَامُ مِسْكِينٍ)، كان في بدء الإسلام الخيار بين الصوم والإطعام عن كل يوم مسكينًا فنسخ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم، وعلى هذا معنى (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) يصومون طاقتهم وجهدهم ويؤيد بعض القراءة وهو " يُطَوَّقُونه " أي: يكلفونه (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا)، بأن أطعم أكثر من مسكين كل يوم، (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا)، أي: الصوم (خَيْرٌ لَكُمْ) أيها المطيقون أو المطوقون من الإفطار والفدية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ): فضائل الصوم، (شَهْرُ رَمَضَانَ)، مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم شَهْرُ رَمَضَانَ، (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، جملةً ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجمًا إلى الأرض، وهو خبر شَهْرُ رَمَضَانَ أو صفته والخبر (فَمَنْ شَهِدَ) (هُدًى لِلنَّاسِ)، أي: هاديًا بإعجازه، (وَبَيِّنَاتٍ)، آيات واضحات، (مِنَ الْهُدَى): مما يهدي إلى الحق، (وَالْفُرْقَانِ): يفرق بين الحق والباطل، (فَمَنْ شَهِدَ) أي: حضر ولم يكن مسافرًا، (مِنْكُمُ الشَّهْرَ)، أي: فيه، (فَلْيَصُمْهُ)، أي: فيه (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا): مرضًا يشق، أو يضر عليه الصيام، (أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، الآية الأولى تخيير للمريض والمسافر والمقيم، وهذه لهما دون المقيم،

بل علم من هذه نسخ الأولى، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فلذلك أباح الفطر للسفر والمرض، (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، عطف على اليسر مثل "يريدون ليطفئوا " [الصف:8] أو تقديره وشرع لكم ذلك، أي: جملة أحكام الصوم لتكملوا، أي: لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ): لتعظموه، (عَلَى مَا هَدَاكُمْ): أرشدكم إليه من وجوب الصوم ورخصة الفطر بالعذر، أو المراد تكبيرات ليلة الفطر، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): الله في نعمه، أو رخصة الفطر، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)، أي: فقل إني قريب أطلع على جميع أحوالهم، قال أعرابي يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت، وروي أن بعض الصحابة قالوا: أين ربنا؟ فنزلت، وروي لما نزلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعوا؟ فنزلت، وروي أن اليهود قالوا: كيف يسمع الله الدعاء وأنت تزعم أن بيننا وبين

السماء كذا وكذا سنة؟ فنزلت، (أجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاع إِذَا دَعَان فَلْيَسْتَجِيبُوا لي)، أي: فليجيبوا لي إذا دعوتهم للطاعة كما أجيبهم إذا دعوني إلى مهامهم، (وَلْيُؤْمِنُوا بِي): أمر بالثبات والدوام، (لَعَلَّهُم يَرْشُدُون)، راجين إصابة الرشد، وهذه الآية المتخللة بين أحكام الصوم إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء في الصوم والفطر وروي: " ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل والصائم حتى أو حين - يفطر، ودعوة المظلوم "، (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ): ليلة الصيام التي تصبح منها صائمًا والرفث عبارة عن الجماع وعدى بـ إلى لتضمنه معنى الإفضاء، كان فى بدء الإسلام غير جائز، (هُنَّ لِبَاسٌ لكمْ)، أي: سكن أو شبه باللباس لاشتمال كل على صاحبه، اشتمال اللباس على اللابس، (وَأَنتمْ لِبَاسٌ لهُنَّ)، سكن أي: لما كان بينكم غاية الخلطة رخصنا لكم لئلا يشق عليكم، (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ): تظلمونها بما هو حرام عليكم ووقع ذلك على عمر - رضى الله عنه - فقال: يا رسول الله أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت فنزلت، (فَتَابَ عَلَيْكُمْ): لما تبتم، (وَعَفَا عَنْكُمْ)، محا عنكم أثره، (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ)، والمباشرة

كناية عن الجماع، (وَابْتَغوا): اطلبوا، (مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ): ما أثبته في اللوح المحفوظ من الولد أو ليلة القدر أو الرخصة التي كتب الله لكم وما أحل الله لكم، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا)، جميع الليل، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ)، بياض الصبح، (مِنَ الخَيْطُ الأَسْوَدِ): من سواد الليل، (مِنَ الفجرِ)، بيان للخيط الأبيض، (تْثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، فإنه آخر وقته، كان الأكل والشرب بعد العشاء، أو النوم حرامًا فبعض الصحابة نام عن فطره فلما انتصف النهار غشي عليه فنزلت، (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، كان إذا اعتكف الرجل فخرج من المسجد جامع إن شاء ورجع، فأنزل الله تعالى النهي عن المباشرة ما داموا عاكفين فيها، (تِلْكَ)، أي: الأحكام المذكورات، (حدُودُ اللهِ)، أي: ذوات حدود الله، (فَلاَ تَقْربوها)، نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل، لئلا تدانى الباطل فضلاً أن يتخطى، أو المراد من الحدود المحارم، وتكون تلك إشارة إلى لا تباشروهن، أي هذا وأمثاله محارم، (كَذَلِكَ): مثل هذا التبيين، (يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): مخالفة الأمر،

(189)

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بوجه لم يبحه الله، (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ): ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام، عطف على المنهي، أو نصب بتقدير أن، (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا): طائفة، (مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ): بما يوجب الإثم كاليمين الكاذبة، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): أنكم مبطلون. * * * (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) * * * (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ)، سأل بعض الصحابة ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم يزيد ثم ينقص؟ فنزلت، (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، سألوا عن حكمة اختلاف حال القمر فأجاب بأن الحكمة الظاهرة أنه معالم للناس يوقتون بما أمورهم سيما الحج، (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا)، كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، أو الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخلوا من قبل بابهم فنزلت، (وَلَكِن البِرَّ): بر، (مَنِ اتَّقَى): المحارم، (وَأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا): واتركوا

سنة الجاهلية، (وَاتَّقُوا اللهَ)، في تغيير أحكامه، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لكي تظفروا بالفلاح والهدى، ووجه اتصال هذه الآية بما قبله أنه لما ذكر الحج ذكر أيضًا شيئًا من أفعالهم في الحج استطرادًا، وفيه تنبيه على أنَّهم يخترعون أشياء لا حكمة فيها، ولا يسألون ولا يتفكرون فيها ويسألون عن شيء حكمته ظاهرة، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)، إعلاء لكلمته، (الذِينَ يُقَاتِلُونَكمْ)، كما أن همتهم قتالكم فلتكن همتكم كذلك، (وَلاَ تَعْتَدُوا): لا تظلموا في القتال، بأن تقتلوا النساء والشيوخ والصبيان وأنهم ليسوا من الذين يقاتلونكم، وبأن تفعلوا المثلة والغلول، وروي أنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة، (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يريد بهم الخير، وعن بعض السلف أن قريشًا صدوا المسلمين عن الحج وصالحوهم على رجوعهم من قابل، فخاف المسلمون عن عدم وفاءهم وقتالهم في الحرم شهر الحرام وكره المسلمون ذلك، فنزلت، ومعناه: قاتل من قاتلك ولا تظلم بابتداء القتال، فالآية منسوخة، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)؛ وجدتموهم في حل أو حرم، (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)، أي: مكة فإن قريشًا أخرجوا المسلمين منها، والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح، (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، أي: شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم في الحرم وجزاء سيئة سيئة مثلها، (وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ)، حرمة له، (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن

قَاتَلُوكُمْ)، وابتدأو بالقتال عنده، (فَاقْتلُوَهُمْ): مكافأة، (كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ): يفعل بهم ما فعلوا، قال بعضهم: آية " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " منسوخة بهذه الآية، وهذه منسوخة بآية السيف في براءة، فهي ناسخة منسوخة والأكثر على أنها محكمة لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، (فَإِنِ انْتَهَوْا): عن القتال والكفر، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، يغفر لهم ما قد سلف، (وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ): شرك، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)، خالصًا فلا يعبد شيء غيره، (فَإِنِ انْتَهَوْا): عن الكفر، (فَلاَ عُدْوَانَ): لا قتل ولا نهب، (إِلا عَلَى الظالِمِينَ)، لا عليهم، فإنهم قد ارتدعوا عن الظلم، (الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ)، صدهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة عن العمرة، وخرج المسلمون لعمرة القضاء في سنة أخرى، وكرهوا القتال لحرمته، فنزلت، أي: هذا بذاك وهتكة بهتكة فلا تبالوا، (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص)، أي: كل حرمة وهو ما يجب المحافظة عليه يجري فيه القصاص، وهم هتكوا حرمة شهركم بصدكم فافعلوا به مثله، (فمَن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، أي: ادخلوا مكة عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، (وَاتَّقُوا اللهَ)، فيما لم يرخص لكم، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، فيحرسهم ويعلي كلمتهم، (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ): في جهات الخير،

(وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، بعدم الإنفاق فيها، وصح عن ابن عباس وغيره أنَّهم قالوا: الآية في النفقة لا في القتال، أو تقديره لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بالإسراف، بحيث لا يبقى لكم شيء أصلاً، أو معناه: أنفقوا في الجهاد ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة بترك القتال والإمساك عن الإنفاق في الجهاد، والباء زائدة، والمراد من الأيدي الأنفس، أو تقديره ولا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها، وعدى بـ إلى لتضمن معنى الانتهاء، (وَأَحْسِنُوا): أعمالكم، أو الظن بالله، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ): بمناسكهما وحدودهما وسنتهما، أو بأن تحرم من دويرة أهلك، أو بأن تخرج لهما لا لغرض آخر من تجارة وغيرها، أو بأن تكون النفقة حلالاً، (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ): منعتم والمراد حصر العدو، أو أعم كالمرض فيه خلاف، (فَمَا اسْتَيْسَرَ)، أي: فعليكم ما تيسر، (مِنَ الْهَدْيِ)، يعني من أحصر وأراد التحلل تحلل بذبح هَدي من بدنة أو بقرة أو شاة، (وَلاَ تَحْلِقُوا رُءوسَكُمْ

حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، أي: أنتم محرمون حتى يصل هديكم محلاً يحل ذبحه فيه وهو مكان الحبس وعليه الشافعي، أو حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ الحرم وذبح وعليه الحنفي، (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا): مرضًا يحتاج إلى الحلق، (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ)، كجراحة وقمل، (فَفِدْيَةٌ): فعليه فدية إن حلق، (مِّن صِيَامٍ): ثلاثة أيام، (أَوْ صَدَقَةٍ)، ثلاثة آصاع على ستة مساكين، (أَوْ نُسُكٍ)، ذبح شاة، وهو مخير في الثلاثة، (فَإِذَا أَمِنْتُمْ)، العدو، أو كنتم في حال أمن، أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك، (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ)، أي: استمتع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة في أشهر الحج إلى أن وصل الحج فحج، أي: من اعتمر أشهر الحج وأحل ثم حج في تلك السنة، (فَمَا اسْتَيْسَرَ)، أي: فعليه ما استيسر، (مِن الهَدْي فَمَن لمْ يَجِدْ)، أي: الهدى، (فَصِيَامُ ثَلاَثةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ): في أيام الاشتغال به، أي: بعد الإحرام وقبل التحلل، أو في أشهر بين الإحرامين، (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعتمْ): إلى أهليكم، لا قبل الوصول، أو المراد من الرجوع الفراغ من الحج، (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، فائدتها الحطم بأن الواو لا بمعنى أو، والمراد العدد المعين لا الكثرة، (ذَلِكَ)، أي: هذا الحكم، (لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ)، هم أهل الحرم، أو أهل مكة، أو من كان وطنه من مكة دون مسافة القصر

(197)

أو من دون الميقات، (وَاتَّقُوا اللهَ)، أي: مخالفته، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): لمن لم يتقه. * * * (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) * * * (الْحَجُّ أَشْهُرٌ)، أي: وقته، (مَّعْلُومَاتٌ): معروفات، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، أو تمامه وفائدته كراهة العمرة في بعضه، أو في تمامه والأكثرون على عدم جواز الإحرام بالحج في غيرها، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ): أوجب على نفسه بالإحرام، (فَلَا رَفَثَ): لا جماع ومقدماته من التقبيل والتكلم به في حضورهن في حكمه، (وَلاَ فُسُوقَ): هي المعاصي، فإنها في الإحرام أقبح، أو خاص بمحظورات الإحرام فقط، (وَلاَ جِدَالَ): لا مخاصمة، أو لا مراء، وروي أن المشركين يقفون في

الحج ويجادلون، فبعضهم يقول نحن أصوب وبعضهم يقول نحن [أبر] (1) أو لا جدال في مناسكه، فإنه قد بين الله تعالى أشهره ومواقفه، (في الحَجِّ): في أيامه وفي شأنه، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر يَعْلَمْهُ اللهُ): فلا يضيع، حث على الخير بعد النهي عن الشر، (وَتَزودُوا)، كان أهل اليمن يحجون بلا زاد مظهرين التوكل، ثم يسألون الناس فنزلت، (فَإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، ومن التقوى الكف عن السؤال والإبرام، (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، أي: واتقوا عقابي وغصبي يا ذوي العقول، (لَيْس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ): إثم، (أًن تَبْتَغوا)، أي: في أن تبتغوا، (فَضلاً مِّن ربِّكُمْ): عطاء ورزقًا منه بالتجارة حين الإحرام، كان المسلمون كرهوا التجارة في الحج، فنزلت، وأيضًا روي أنه سل هل للجالبين حج؟ فنزلت، (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ): انصرفتم عنها، (فَاذْكُرُوا الله عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ)، بالدعاء والتلبية، (وَاذْكروهُ)، بالتوحيد والتعظيم، (كمَا هَدَاكُمْ): كما ذكركم بالهداية فهداكم أو كما علمكم، (وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ)، أي: الهدى، (لَمِنَ الضَّالّينَ): الجاهلين بالطاعة، وإن: هي المخففة، واللام: هي الفارقة، (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، أي: من عرفة، كان [أهل قريش] (2) لا يخرجون من الحرم يقفون عند أدنى الحل قائلين: نحن أهل الله، فلا نخرج من الحرم بخلاف الناس، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة

_ (1) زيادة ضرورية من بعض التفاسير. (2) في الأصل هكذا " القريش ".

ويخرجوا من الحرم كسائر الناس، وحينئذ ثم: للتراخي في الإخبار، أو من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها، وحينئذ المراد بالناس: إبراهيم عليه السلام، أو جميع الناس، (وَاسْتَغفرُوا الله)، من جاهليتكم، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، يغفر الذنب وينعم، (فإِذَا قَضيتم مَّنَاسِكَكُمْ): فرغتم من العبادات الحجية، (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ)، أهل الجاهلية يقفون ويذكرون مفاخر آبائهم، فأمرهم الله بذكره كذكرهم مفاخر آبائهم، أو كقول الصبي: أبه أمه، كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه فالهجو أنتم بذكر الله بعد النسك، (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)، عطف على كذكركم، أو على ذكركم، والمعنى: ذكرا أشد ذكرًا على الإسناد المجازي، وصفًا للشيء بوصف صاحبه كشديد الصفرة صفرته، أو عطف على آبائكم، أي: كذكركم قومًا أشد مذكور به من آبائكم وأما عطفه على الضمير المضاف إليه لكذكركم فضعيف، قيل: أو بمعنى بل، (فَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا)، أي: اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة، (وَمَا لَه فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، نصيب أو من طلب

خلاق، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، يدخل فيها كل خير في الدنيا وصرف كل شر، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)، مثلها يدخل فيها الخير كله، (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، تخصيص بعد التعميم؛ لأنه هو الفوز، وبعض السلف خصص الحسنة في الموضعين بشيء خاص، والتعميم أولى، (أُولَئِكَ)، أي: الفريق الثاني، (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا)، أي: مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، والدعاء كسب، لأنه عمل، أو من أجل ما عملوا، (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، يحاسبهم مع كثرتهم وكثرة أعمالهم فى لمحة، وقيل: سريع الحساب مع الفريق الثاني لأن يتخلصوا من هوله، (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ): أيام التشريق، والمراد: التكبير بعد الصلوات وعلى الأضاحى وعند الجمرات، (فَمَن تَعَجَّلَ): عجل في النفر، (فِى يَوْمَينِ)، ونفر بعد رمى اليوم الثاني (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ): في النفر إلى اليوم الثالث، (فَلَا إِثْمَ

عَلَيْهِ)، في تأخره، لا كما قال بعض من أهل الجاهلية، فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر، (لِمَنِ اتَّقَى)، أي: التخيير، أو الأحكام المذكورة؛ لأنه الحاج حقيقة، أو عدم الإثم لمن اتقى في حجه، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَموا أنكُمْ إِلَيْهِ تحْشرُونَ)، للجزاء، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ): يروقك ويعظم في نفسك قوله، (فِى الحَيَاةِ الدنيا)، أي: قوله في أمور الدنيا، أو يعجبك فيها لا في الآخرة، (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ): يحلف على أن ما في قلبه موافق للسانه، أو يبارز الله بما في قلبه من الكفر، كما قال تعالى: " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " [النساء: 108]، (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ): أشد الخصومة والجدال، نزلت فى أخنس بن شريك، فإنه حلو الكلام سيئ السريرة منافق، أو عام في المنافقين، (وَإِذا تَوَلى): انصرف عنك، أو صار واليًا، (سَعَى)، أي: قصد، (فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ)، كما فعله الأخنس حين رجع إلى مكة أحرق زرع المسلمين وعقر الحمر، أو إذا تولى سعى في الأرض فسادًا - منع الله

القطر فهلك الحرث والنسل، (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ): لا يرتضيه، (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ)، حملته الأنفة، وحمية الجاهلية على الإثم المأمور بتركه لجاجًا -الخصومة- يقال: أخذته بكذا، إذا حملته عليه، (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ): كفته جزاء، (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)، أي: والله لبئس المقر جهنم، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي): يبيع، (نفسَهُ)، بالبذل في الجهاد، أو في جميع الأوامر، (ابْتِغَاءَ): طلب، (مَرْضَاتِ اللهِ)، نزلت في صهيب بن سنان الرومي، عذبه المشركون ليرتد فأعطى جميع أمواله وخلص دينه وأتى المدينة، وأكثر السلف على أنه عام في كل مجاهد في سبيل الله، (وَاللهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ)، لإرشادهم إلى الهدى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً): في الإسلام، أو في الطاعة، وكافة: حال من السلم، أي: خذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه

أو حال من الفاعل، أي: ادخلوا فيه بكليتكم لا تخلطوا به غيره وهو خطاب للمسلمين وعن بعضهم أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب، فإنهم [ما] (1) أن أسلموا عظموا السبت وحرموا الإبل وأحبوا قراءة التوراة، فأُمروا بتركها، (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): آثاره التي زين لكم، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ): ظاهر العداوة، (فَإِن زَلَلْتُم): عدلتم عن الحق، (مِّنْ بَعْد مَا جَاءتْكُمُ البَيناتُ)، على أن الإسلام هو الحق، (فَاعْلَمُوا أَن الله عَزِيزٌ): لا يعجزه الانتقام، (حَكِيمٌ): لا ينتقم بظلم، (هَلْ يَنظُرُون)، استفهام بمعنى النفي، (إِلا أَن يَأتِيَهُمُ اللهُ)، مذهب السلف الإيمان بمثل ذلك ووكول علمه إلى الله تعالى، أو تقديره: يأتيهم بأسه، (فِي ظُلَلٍ)، جمِع ظلة، (مِنَ الْغَمَامِ)،

_ (1) في الأصل هكذا " مع ".

السحاب الأبيض، والعذاب إذا جاء من مكان يجيء الخير منه يكون أصعب،

(211)

(وَالْمَلاِئكَةُ)، هو على الحقيقة، (وَقُضِي الأَمْرُ): تم أمر هلاكهم، أو فرغ من حسابهم فأوقعوا من عقابهم وذلك يوم القيامة، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)، فيجازيهم. * * * (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) * * * (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، وهو سؤال تقريع، (كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)، معجزة ظاهرة على نبوة موسى، أو آية في الكتاب، على نبوة محمد عليهما السلام، وكم:

مفعول ثان، أو مبتدأ والعائد محذوف، وآية: مميزة، ومن: للفصل، والجملة إما مفعول ثان لـ سل وتقديره: سلهم قائلاً كم آتياناهم؟ أو في موقع المصدر، أي: سلهم هذا السؤال، (وَمَن يُبدّلْ نِعْمَةَ اللهِ)، أي: آياته، فإنها أجل نعمة لأنها سبب الهداية فجعلوها سبب الضلالة، أو حرفوها، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءته)، وعرفوها، (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): يعاقبه أشد عقاب، (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، حسنت في أعينهم حتى أعرضوا عن غيرها، (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذِينَ آمنوا): فقراء

المؤمنين كبلال وعمار، (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا)، الشرك، (فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامَةِ)، لتقواهم لأنَّهُم في الجنة وهم في النار، (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، في الدارين، فلربما يعطي الفقراء في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، أو إشارة إلى أن كثرة الرزق لا يدل على الكرامة، بل ربما تكون استدراجًا، (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على الحق، أو متفقين على الجهل على عهد إبراهيم، (فبَعَثَ اللهُ)، أي: اختلفوا فبعث على الوجه الأول، وحذف لدلالة قوله " فيما اختلفوا " عليه، (النبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ)، مع الأنبياء، لا مع كل واحد، (بِالْحَقّ)، متلبسًا به، (لِيَحْكُمَ)، أي: الكتاب، مجازًا، أو الله، (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، أي: في شيء التبس عليهم، (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ): في الكتاب الذي أنزل لدفع الاختلاف، (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ)، أي: الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)، الحجج الظاهرات الواضحات، (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، أي: اختلفوا حسدًا وظلمًا، واختلافهم: كفر بعضهم بكتاب بعض وتحريفهم كتاب الله، (فهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، أي: لمعرفته، (مِنَ الحَقِّ)، بيان لما، (بإذْنِهِ): بإرادته، كاختلافهم في القبلة وفي إبراهيم وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، (وَاللهُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، لا من جمع له أسباب الهداية، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ

تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، أم منقطعة، ومعنى الهمزة الإنكار، لما هاجر المسلمون وتركوا الديار والأموال فأصابهم ما أصابهم من الجهد وضيق العيش نزلت تشجيعًا لهم وتطييبًا لقلوبهم، (وَلَمَّا يَأتِكُم)، أي: لم يأتكم وزيدت عليه ما، (مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا)، مضوا، (مِن قَبْلِكُم): حالهم التي هي مثل في الشدة أو سنتهم (مَّسَّتْهُمُ البَأسَاءُ وَالضرَّاءُ)، الفقر والأسقام والمصائب والنوائب، (وَزُلْزِلُوا)، بأنواع البلايا وخوف العدو، (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، أي: إلى الغاية التي يقول الرسول ومن معه فيها، (مَتَى نصْرُ اللهِ)، أي: بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى استبطئوا النصر، (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)، أي: قيل لهم ذلك إجابة لطِلْبتهم، يعني لابد لكم أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتصبروا كما صبروا، (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ)، نزلت في شيخ كبير كثير المال، قال يا رسول الله: بما نتصدق وعلى من ننفق؟، (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، حاصله أن المنفق هو كل خير والاهتمام في شأن المصرف؛ لأن الخير لا يعتد به إلا بعد وقوعه موقعه، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)، فيجازيكم بقدره، والآية في نفقة التطوع، وعن بعضهم هي منسوخة بفرض الزكاة، (كُتِب عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لكُمْ)، شاق مكروه طبعًا عليكم، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا

(217)

شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)، وهذا عام في الأمور كلها، (وَاللهُ يَعْلَمُ): ما هو خير لكم، (وَأَنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، واعلم أن الجهاد فرض كفاية. * * * (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ)، نزلت في سرية قاتلوا المشركين أول رجب وهم يظنون أنه من الجمادى فعيرهم المشركون وقالوا: إن محمدًا استحل الشهر الحرام، (قِتَالٍ فِيهِ)، بدل اشتمال، (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، أي: ذنب كبير، واختلف في أنه منسوخ أو لا، (وَصَدٌّ): منع، (عَن سَبيلِ اللهِ)، كمنعهم المسلمين عن العمرة، (وَكُفْرٌ بِهِ): بالله، (وَالْمَسْجدِ الحَرَامِ)، أي: صد عنه، (وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ): أهل المسجد، وهم المؤمنون، (منهُ): من المسجد، (أَكْبَرُ عِندَ اللهِ)، وزرًا مما فعلته السرية خطأً، (وَالْفِتْنَةُ)، أي: الشرك، أو ما يرتكبونه من الإخراج والكفر، (أَكبَرُ مِنَ القَتْلِ): أفظع مما ارتكبوه، (وَلاَ يَزَالُونَ)، أي: المشركون، (يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدوكُمْ عَن دِينِكُمْ)، أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين،

وحتى معناه التعليل، أي: يقاتلونكم كي يردوكم، (إِنِ اسْتَطَاعُوا)، هو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بنفسه: إن استطعت فاضربني، (وَمَن يَّرتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ): من يرجع عن دينه إلى دينهم، (فيَمُتْ وَهُوَ كَافرٌ)، أي: يرجع ثم يموت على الكفر، (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): النافعة وبطلت، (فِى الدنيا)، لما يفوتهم بالردة ما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، (وَالْآخِرَةِ)، بسقوط الثواب، (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال وهو مذهب الشافعي، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَروا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ)، نزلت فى تلك السرية لما ظن بهم أنهم لو سلموا من الإثم ليس لهم أجر، (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ): ثوابه، (وَاللهُ غفور)، لما فعلوا من قلة الاحتياط، (رحِيمٌ): بإجزال الأجر، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)، أي: عن تعاطيهما، قال عمر ومعاذ

وسعد: يا رسول الله أفتنا في الخمر واليسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فنزلت، واليسر: القمار، (قُلْ فيهِمَا)، أي: في تعاطيهما، (إِثْمٌ كَبيرٌ)، حيث يؤدي إلى مخاصمة وفحش وزور وهذا لا يدل صريحًا على حرمتهما لأَنه مؤدي إلى الإثم لا أن الإثم يحصل منه، والمحرِّمة ما في المائدة، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ): من كسب المال والطرب وغيرهما، (وَإِثْمُهُمَا أَكبرُ مِن نَّفْعِهِمَا)، فإن مفاسدهما التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما، (وَيَسْألونَكَ مَاذَا يُنفقون)، لما نزل قوله: " فللوالدين والأقربين " سأل عمرو بن الجموح عن مقدار ما ينفق فنزل، (قُلِ العَفْوَ)، أي: ما فضل من المال عن العيال، أو أفضل مالك وأطيبه، قيل: إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل: مبينة بها قاله مجاهد وغيره، (كَذَلِكَ)، أي: مثل ما فصل وبين لكم هذه الأحكام، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ)، أي: سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، أى يبين تبييناً مثل لهذا، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي)، أمر، (الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، لتعلموا زوالها وفناءها وإقبال الآخرة وبقاءها، وقيل: متعلق بـ يبين أي: يبين لكم الأَيات في أمر الدارين لعلكم تتفكرون، (وَيسْألونكَ عَنِ اليَتَامَى)، لما نزل " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا " [النساء: 10] إلخ، اعتزلوا مخالطة اليتامى ولا يأكل أحد معهم، فشق ذلك عليهم فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت، (قُلْ إِصْلاحٌ لهُمْ

خَيْرٌ)، أي: على حدة، أو مداخلتهم لإصلاحهم خير من مجانبتهم، قيل: أو إصلاح أموالهم من غير أجرة خير، (وَإِن تُخالِطُوهُمْ)، أي: إن خلطتم طعامكم وشرابكم بطعامهم وشرابهم، وقيل: إن تصيبوا من أموالهم أجرة من قيامكم بأمورهم، (فَإِخْوَانُكُمْ)، أي: فهم إخوانكم، ولا بأس من الخلطة أو من إصابة بعضكم من مال بعض، (وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ)، أي: يعلم من قصده الإفساد أو الإصلاح فيجازيه، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ)، العنت: المشقة، أي: لو شاء الله إعناتكم لأعنتكم: كلفكم ما يشق عليكم من المجانبة مطلقًا دون المخالطة، (إِنَّ الله عَزِيزٌ): غالب يقدر على الإعنات، (حَكِيمٌ): يحكم بحكمته فيتسع لكم، (وَلاَ تَنكِحُوا الُمشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، كانت لأبي مرثد الغنوي خليلة مشركة فبعدما أسلم أراد أن يتزوج بها، فنزلت (والمشركات) هاهنا عامة في كل من كفرت بالنبي عليه الصلاة والسلام لكن خصت منها حرائر الكتابيات بقوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " [المائدة: 5]، وقيل: المراد بها عبدة الأوثان؛ فلا يدخل فيها أهل الكتاب، (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)، أي: من حرة مشركة كانت لعبد الله

(222)

بن رواحة فأعتقها كفارة أن لطمها وتزوجها فطعنوا فيه وعرضوا عليه نسيبة مشركة، فنزلت، (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)، الواو للحال، وبمعنى أن، أي: وإن أعجبتكم بمالها وجمالها، (وَلاَ تُنكِحُوا الُمشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، أي: لا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا وهو على عمومه، (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)، أي: رجل مؤمن وإن كان عبدًا خير من مشرك وإن كان سريًا، (أُولَئِكَ)، أي: المشركون والمشركات، (يدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، أي: الأعمال الموجبة لها، (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ)، أي: العمل الموجب لهما، قيل: تقديره وأولياء الله يدعون، بإقامة المضاف إليه مقام المضاف تعظيمًا لهم، (بِإِذْنِهِ)، أي: بأمره وشرعه أو بتوفيقه أو بقضائه، (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): لكي يتذكروا، أو ليكونوا بحيث يرجى عنهم التذكر. * * * (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا

وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) * * * (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ)، إذا حاضت نساء اليهود لا يؤاكلونهن ولا يخالطونهن فسأل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلت، والمحيض مصدر، (قُلْ هُوَ أَذى)، أي: الحيض مستقذر، (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)، اجتنبوا مجامعتهن إذا حضن، (وَلاَ تَقربوهُن)، بالجماع، (حَتَّى يَطْهُرْنَ): من الدم، أو يغتسلن وقراءة حمزة والكسائى وهو " يطَّهَّرن " دالة عليه سيما مع قوله، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ)، أى: بالماء، (فَأْتُوهُنَّ): بالوقاع، (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)، أن تعتزلوهن منه وهو الفرج، أو من المأتي الذي حلله لكم وهو القبل، (إِنْ الله يُحِبّ التَّوَابِينَ): من

الذنوب، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ): المتنزهين عن الأقذار، كإتيان الحائض وفي الدبر، (نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكمْ)، أي: مزرع للولد، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ): مزرع الولد لا غير، (أَنَّى شِئْتُمْ)، من أي جهة شئتم مقبلة أو مدبرة لا كما قالت اليهود: إن مجامعة المرأة من دبرها في قبلها يجعل الولد أحول ودنس عند الله، (وَقَدِّمُوا لأَنفُسكُم): ما يدخر لكم الثواب، وعن ابن عباس رضى الله عنهما هو التسمية عند الجماع، (وَاتَّقُوا الله)، في معاصيه، (وَاعْلَموا أَنَّكُم مُّلاقُوهُ)، فاحذروا عن الفضيحة، (وَبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ): الكاملين في الإيمان الذين اجتنبوا المعاصي، (وَلاَ تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً)، اسم لما يعرض دون الشيء، (لأَيْمَانِكُم): أراد منها الأمور المحلوف عليها من البر

والتقوى، وهي صلة عرضة أو الفعل، (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ)، عطف بيان للإيمان، أي: لا تجعلوا الله مانعًا لما حلفتم عليه من الخير، بل افعلوا الخير ودعوا اليمين كما قال السلف في معنى الآية: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير لكن كفر عن يمينك واصنع الخير ويجوز أن يكون اللام للتعليل، أى: لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به مانعًا لأن تبروا، وقيل: والعرضة بمعنى المعرض للأمور وأن تبروا علة النهي، أي: لا تجعلوه معرضًا للإيمان فتبتذلوه بكثرة الحلف به إرادة بركم فإن الحلاف مجترئ على الله وهو غير متق، (وَاللهُ سَمِيعٌ): لأيمانكم، (عَليمٌ): بمقاصدكم، (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللغوِ فِى أَيْمَانِكُمْ)، هو المجرى على اللسان عادة كـ: لا والله وبلى والله، أو

هو حلف يرى أنه صادق ولا يكون كذلك، أو أنت تحلف وأنت غضبان، أو أن تحرم ما أحل الله لك، أو أن تحلف عن الشيء ثم تنساه، (وَلَكِن يُؤَاخِدكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ): وهو أن يحلف ويعلم أنه كاذب، (وَاللهُ غفُورٌ): لم يؤاخذ باللغو، (حَلِيمٌ): لا يعجل بالعقوبة وإن حلف كاذبًا، (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ)، أي: يحلفون على أن لا يجامعوهن، وعدى بمن لمعنى البعد، وهو خبر لقوله، (تَرُّبصُ)، أي: توقف، (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، أي: للحالف حق التلبث في تلك المدة لا يطالب فيها بوطء ولا طلاق، (فَإِنْ فَاءُوا): رجعوا بالحنث، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، للمولي إثم الحنث وإضرار المرأة، والأصح أنه يجب عليه الكفارة، (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ): وطلقوا، (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ): بما يقولونه، (عَلِيمٌ): بما يفعلونه، وعند كثير من السلف: أنه تقع تطليقة بمجرد مضى أربعة أشهر، إما بائنة أو رجعية، وفي الآية دلالة على أنه يوقف، فيطالب إما بهذا أو بهذا، وعليه كثير من السلف أيضًا، (وَالْمُطَلَّقَاتُ): المدخول بهن من ذوات الأقراء، (يَتَرَبَّصْنَ

بِأَنْفُسِهِنَّ)، يحملنها على الانتظار، خبر معناه الأمر للتأكيد، (ثَلاَثةَ قُرُوءٍ)، أي: أطهار أو حيض، ثم يجوز لهن أن يتزوجن، ونصبه على الظرفية، أي: مدتها، أو المفعولية أي: مضيها، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت، فإنها تعتد بقرأين، (وَلاَ يَحِل لَهُنَّ أَن يَّكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)، من حبل أو حيض، (إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، هذا تغليظ وتأكيد لا تقييد، (وَبُعُولَتُهُنَّ): أزواجهن جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع، (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ): إلى النكاح والرجعة، (فِي ذَلِكَ): في زمان التربص وهو العدة، وكان الرجل يرجع إلى امرأته وإن طلقها مائة إلى أن نزلت " الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ " [البقرة: 229] فصار قسمين بائنة ورجعية، فليس الضمير أخص من المرجوع إليه، (إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا): بالرجعة لا إضرارًا وهو تقييد للأحقية، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ)، أي: لهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه الذي لا ينكر في الشرع والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في الحسنة لا في جنس الفعل، (وَلِلرِّجَالِ

(229)

عَلَيْهِن دَرَجَةٌ): زيادة في الحق وفضل فيه، أو شرف وفضل في الدنيا والآخرة، (وَاللهُ عَزِيز حَكِيمٌ)، يأمر كما أراد بمقتضى حكمته. * * * (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) * * * (الطلاقُ مَرتَانِ)، كان الطلاق غير محصور في الجاهلية في عدد، ثم إن رجلاً من الأنصار غضب على امرأته فقال: لا أطلقك ولا أؤويك أبدًا، أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك وهكذا، فشكت ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فنزلت، وحاصله أن الطلاق الرجعي مرتان، (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فلك

الخيار في المراجعة وحسن المعاشرة، (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ): بالطلقة الثالثة، أو بألا تراجعها ضراراً، (وَلاَ يَحِل لَكُمْ) أيها الولاة (أًن تَأخُذُوا مِمَّا آتيتمُوهُنَّ): من الصداق، (شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافا) أي: الزوجان، (أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) من مواجب الزوجية، ولما كان الولاة يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع كأنهم الآخذون والمؤتون، (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام في المزاوجة، (أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي: لا جناح على المرأة فيما أعطت ولا على الرجل فيما أخذ، وحاصله أنه لا يجوز أن تضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطتموهن من الصداق، نعم إذا تراضيا وطبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئًا مريئًا، ولهذا كثير من السلف والخلف على أن الخلع حرام إلا أن يكون الشقاق من المرأة، لكن ذهب الشافعي إلى أنه إذا جاز في حال شقاقها فبطريق الأولى عند الاتفاق، لكن في غير هاتين الصورتين فحرام، (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا) بالمخالفة، (وَمَن يَتَعَدَّ

(231)

حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ): عقب النهي بالوعيد مبالغة في التهديد، (فَإِن طَلقَها)، أي: بعد اثنتين، فهو مرتبط بقوله: " الطلاق مرتان "، نوع تفسير لقوله: " أو تسريح بإحسان "، وذكر بينهما الخلع دلالة على أن الطلاق يكون مجانًا تارة وبعوض أخرى، (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) أي: بعد ذلك الطلاق (حَتى تَنكِحَ زَوْجًا غيْرَهُ) أي: حتى يطأها زوج آخر، يعني في نكاح صحيح، أو المراد من النكاح: العقد، والإصابة قد علم من الأحاديث الصحاح، (فَإِنْ طَلَّقَهَا): الزوج الثاني (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)، بنكاح جديد (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ): من حقوف الزوجية، (وَتِلْكَ) أي: الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ): يفهمون، ثم اعلم أن شرط التحليل في النكاح فاسد إلا عند أبي حنيفة، وقد صح " لعن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له "، والخلاف في أن الناكح بنية التحليل هو المحلل أم لا، وكلام السلف يدل على أنه المحلل الملعون. * * * (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) * * * (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)، الأجل يطلق للمدة ولمنتهاها والبلوغ: الوصول، وقد يقال للدنو على الاتساع، وهو المراد هاهنا، (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف): راجعوهن من غير ضرار، (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف): أو خلوهن لتنقضي عدتهن من غير تطويل، وهذا إعادة لبعض ما سبق للاهتمام به، (وَلاَ تُمْسِكُوهنَّ ضِرَارًا): لا تراجعوهن إرادة إضرارهن كما سبق (لتَعتدُوا)

لتظلموهن بالتطويل والإلجاء إلى الافتداء وهو عين الضرر، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها للعقاب، (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا) كان الرجل يطلق أو يعتق أو ينكح فيقول: كنت لاعبًا فنزلت، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ): التي منها الهداية، (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ): القرآن، (وَالْحِكْمَةِ): السنة، وقيل: مواعظ القرآن، أفردهما بالذكر لشرفهما (يَعِظُكُمْ بِهِ): بما أنزل، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد وتهديد. (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: انقضت عدتهن (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ):

لا تمنعوهن أيها الأولياء، وقيل: الضمير للناس كلهم، أي: لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر، (أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) أي: الذين كانوا أزواجًا لهن، نزلت في أخت معقل بن يسار، طلقها زوجها، فلما انقضت عدتها جاء يخطبها، ومعقل منع أن يتزوجها، (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ) أي: الخطاب والنساء، وهو ظرف لا تعضلوهن أو لأن ينكحن، (بِالْمَعُروف): بما يعرفه الشرع، وهو حال عن الفاعل، (ذلِكَ) أى: النهي والخطاب لكل أَحد، أو الكاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطب، أو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ما أنزل إليك وقلنا لك (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ) أي: ترك العضل، (أَزْكى): أنفع (لَكُمْ وَأَطْهَرُ). من دنس الإثم، (وَاللهُ يَعْلَمُ)، النافع الصالح، (وَأَنتمْ لاَ تَعْلَمونَ): لقصور علمكم.

(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ)، لفظه خبر ومعناه أمر، على سبيل الاستحسان، (أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ): سنتين، (كَامِلَيْنِ): تحديدًا لا تقريبًا (لِمَنْ أَرَادَ)، أي: ذلك لمن أراد (أَن يُتمَّ الرَّضَاعَةَ) فعلم أن أقصى مدتها سنتان، ولا اعتبار بالرضاعة بعدهما وعليه السلف وأنه يجوز أن ينقص عنهما، (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي: الأب، وعبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ)، أي: على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع (بِالْمَعْرُوفِ) حسبما يراه الحاكم وهو يقدر، (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) تعليل للتقييد بالمعروف ولإيجاب المؤن، (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) بأن تدفعه عن نفسها لمضرة أبيه بتربيته، بل عليها إرضاعه، (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ)، أي: الأب (بِوَلَدِهِ) بأن ينزع عنها إضراراً لها، ولا

" تضار " إلخ تفصيل لما قبله، أي: لا يكلف كل منهما الآخر ما ليس في وسعه ولا يضاره بسبب الولد، (وَعَلَى الوَارِث) عطف على " وعلى المولود له "، وما بينهما تعليل معترض، أي: وعلى وارث الأب وهو الصبي نفسه، فإنه إذا مات أبوه فمؤن مرضتعه من ماله إن كان له مال وإلا تجبر الأم، أو المراد وارث الطفل، يعني إن مات الأب يجبر جميع ورثة الطفل على فرض موته -عصبة كانوا أو غيرهم- على نفقة مرضعته، أو يجبر وارث الطفل المحرم منه بحيث لا يجوز النكاح بينهما على تقدير أن يكون أحدهما ذكرًا والآخر أنثى لا الجميع، أو عصبات الطفل فقط (مِثْلُ ذَلِكَ): مثل ما على والده من الإنفاق وعدم الإضرار أو المراد عدم الإضرار فقط لا الإنفاق، (فَإِنْ أَرَادَا) أي: الأبوان (فِصَالاً): فطامًا صادرًا (عَن تَرَاضٍ منْهُمَا وَتَشَاوُرٍ): بينهما قبل الحولين (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا): في ذلك ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد في الفطام (وَإِنْ أَرَدتمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا): المراضع (أَوْلادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ): إلى المراضع، (مَّا آتيتم)، أي: أردتم إيتاءه، يعني: أجرتها، أو إلى الأمهات أجرتهن بقدر ما أرضعن (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه المتعارف شرعًا ومروءة، ونفى الجناح مقيد بالتسليم لا لأنه شرط جواز الاسترضاع، بل إرشاد إلى أن الأكثر ثوابًا أن يكون الاسترضاع مقرونًا بتسليم ما يعطى المرضع، فشبه ما هو من شرائط الأولوية بما هو من شرائط الصحة، فاستعيرت له العبارة مبالغة، (وَاتَّقُوا اللهَ): في محافظة حدوده، (وَاعْلَموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، حث

وتهديد، (وَالَّذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ): ويتركون، (أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ): يحملنها على التوقف، خبر في معنى الأمر، (أَرْبَعَةَ أَشهُرٍ وَعَشْرًا)، أى: عشر ليال، وتقديره وأزواج الذين، أو تقديره يتربصن بعدهم، لأنه لابد من الضمير في الخبر إذا كان جملة، وخص عنه الحامل لقوله: " وأولات الأحمال أجلهن " [الطلاق: 4] إلخ، والجمهور على أن عدة الأمة نصفها، (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): انقضت عدتهن، (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكمْ): أيها الأولياء أو المسلمون، (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ): من التعرض للخطاب والتزين، (بِالْمَعْروفِ): بوجه لا ينكره الشرع، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير)، فيجازيكم عليه، (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ)، التعريض: إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازًا، كقول المحتاج: جئتك لأسلم عليك، (مِنْ خِطْبَةِ)، الخطبة بالكسر: طلب المرأة، (النِّسَاءِ): المعتدات للوفاة، كقولك: إنك جميلة وإن النساء من حاجتي ونحوه، وحرم التصريح بخطبتهن، وأما الرجعية فحرام على غير زوجها التصريح والتعريض، (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ): أضمرتم فيه من غير تصريح ولا تعريض، (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)، أي: في أنفسكم فرفع عنكم الحرج في ذلك، (وَلَكِن)، أي:

(236)

فاذكروهن ولكن، (لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًا): بأن تأخذوا الميثاق عنهن في عدم تزوج غيره، وقال كثير من السلف يعني: الزنا، وقيل: أن يتزوجها في العدة سرًّا، (إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفًا)، أي: لا تواعدوهن بشيء إلا بأن تقولوا، أي: بالتعريض، أو لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة وهي التعريض، (وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النكَاحِ)، أي: لا تعزموا عقد عقدة النكاح، (حَتَّى يَبْلغَ الكتابُ أَجَلَهُ): حتى ينتهى ما كتب من العدة، والإجماع على أنه لا يصح العقد في العدة، وعند مالك أن من تزوج امرأة في عدة ودخل بها، حرام عليه تلك المرأة بالتأبيد، (وَاعْلَمُوا أَن اللهَ يَعْلَمُ مَا في أَنفُسكُمْ): من عزم ما لا يجوز، (فَاحْذَرُوهُ): فخافوا الله ولا تعزموا، (وَاعْلَمُوا أَن الله غَفُورٌ حَلِيمٌ) وبخهم أولاً ثم لم يؤيسهم من رحمته. * * * (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) * * * (لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، أي: لا تبعة من مهر، أو لا وزر لأنه ليس ببدعي، (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، تجامعوهن، (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَة): توجبوا لهن صداقًا، ونصب فريضة بمعنى مفروضة على المفعول به، وأو بمعنى إلا أن، أو بمعنى إلى أن، أو بمعنى الواو، يعني: لا تبعة من مطالبة مهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة، ولم يُسَمَّ لها مهرٌ، فإذا كانت ممسوسة فعليه مهر المثل، وإذا كانت غير ممسوسة وسمى لها مهرًا فلها نصف المسمى، (وَمَتعُوهُنَّ)، تقديره: فطلقوهن ومتعوهن من مالكم وهى قبل المسيس وتسمية المهر تستحق المتعة فقط إجماعًا، (عَلَى الْمُوسِعِ): الغني، (قَدَرُهُ): ما يقدره ويليق به، (وَعَلَى الُمقتِرِ): الفقير، (قَدَرُهُ): كذلك، (متاعًا): تمتيعًا، (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه المستحسن شرعًا ومروءة، (حَقًا)، واجبًا صفة متاعًا أو مصدر، (عَلَى الُمحْسنِينَ)، على من أحسن إلى نفسه أو إلى المطلقات فسماهم بالمحسنين ترغيبًا، (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، أي: فلهن أو الواجب لهن، ومنه يؤخذ أنه

لا متعة حينئذ وأن الجناح المنفى هو تبعة الهر، (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ)، على وزن يفعلن، أي: يتركن حقهن، (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)، المراد الزوج بأن يسوق إليها المهر كلا فقيل: تسميتها عفوًا على المشاكلة، أو لأن المقرر عند العرب سوق المهر إليها حين الزواج فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف، فإن لم يسترد فقد عفا عنه، أو المراد الولي، يعني: إذا كانت بكرًا، وإليه ذهب مالك، وقيل: وإن كانت كبيرة، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، خطاب للرجال والنساء، (وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، أي: لا تنسوا أيها الرجال والنساء أن يتفضل بعضكم على بعض، (إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فلا يضيع تفضلكم وإحسانكم، (حَافِظُوا): داوموا، (عَلَى الصَّلَوَاتِ)، ذكرها بين الآيات إشعارًا بألا تلهيكم الأزواج والأولاد عن ذكر الله، (وَالصَّلاةِ الوُسْطَى)، صلاة

العصر وعليه الأكثرون، وأنَّهَا بين صلاتي النهار وصلاتي الليل أو الصبح لأنها مثل العصر، أو الظهر لأنها في وسط النهار، أو واحدة من الخمسة لا بعينها كليلة القدر، وقيل: المغرب لأنها الوسطى في العدد بين الرباعية والثنائية، وقيل: العشاء لأنها بين جهريتين وقيل: صلاة الجماعة، وقيل: الجمعة، وقيل: العيد، وقيل: الضحى، وقيل: الوتر، (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، أي: خاشعين ذليلين بين يديه والمراد القنوت في الصبح، (فَإِنْ خِفْتُمْ)، من عدو أو غيره، (فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا): فصلوا راجلين وراكبين مستقبلي القبلة وغيرها وعند أكثر السلف يومئ برأسه حيث كان وجهه،

وفيه دلالة على جواز الصلاة حال المشى والمضاربة وإن لم يكن الوقوف، (فَإِذَا أَمِنْتُمْ): زال خوفكم، (فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، أي: فصلوا كما علمكم الله بلسان نبيه ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن وقيل: إذا أمنتم فاشكروا الله واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، (وَالَّذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً)، بالنصب أي: يوصون وصية، أو كتب الله عليهم وصية، وبالرفع أي: عليهم وصية، أو كتب عليهم وصية، أو حكم الذين يُتوفون وصية، (لأَزْوَاجِهِم): لنسائهم، (مَّتَاعًا)، ناصبه يوصون، أو وصية في قراءة الرفع على حذف الجار أي: بتمتيع، (إِلَى الحَوْلِ عيْرَ إِخرَاج)، مصدر مؤكد لأنه دل يوصون لأزواجهم ما يمتع به سنة على أنهن لا يخرجن فأكد، أو حال من الأزواج يعني وحق المتوفي أن يوصوا قبل أن يحتضروا، بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملا وينفق عليهن من تركته غير مخرجات من مساكنهن، وهذا في ابتداء الإسلام ثم نسخت المدة بقوله: (أربعة أشهر وعشرًا) والنفقة بالإرث، هذا ما عليه

(243)

أكثر السلف فكانت الآية متأخرة في التلاوة متقدمة في النزول، (فَإِنْ خَرَجْنَ): عن منزل الأزواج، (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، يا أولياء الميت، (فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ): من التطيب وترك الحداد، (مِن مَّعْرُوفٍ): مما لم ينكره الشرع، وهذا يدل على أنها كانت مخيرة بين الملازمة فأخذ النفقة وبين الخروج وتركها، (وَالله عَزِيزٌ): لا يدفعه أحد عن الانتقام، (حَكِيمٌ): يرعى المصالح، (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ): الذين يتقون الشرك، لما نزل في المتة: " حَقًّا عَلَى المحسنين "، قال رجل: إن شئت أحسنت وإن شئت لم أفعل، فنزلت، وكثير من العلماء استدلوا بهذه الآية على أن المتعة لكل مطلقة، (كَذَلِكَ)، مثل أحكام الطلاق والعدة، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ): في إحلاله وتحريمه، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): تفهمون وتدبرون. * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ

مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ): فرارًا من الطاعون، (وَهُمْ أُلُوفٌ): أربعة آلاف، أو ثمانية وأربعون ألفًا والاختلاف كثير، (حَذَرَ الْمَوْتِ)،

مفعول له، (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ): في أثناء طريقهم، (مُوتُوا)، أي: حكم عليهم بالموت، فماتوا ليعلموا أن لا فرار من قدر الله، (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)، بمعجزة نبي، ثم دعا ربه بعد مدة طويلة أن يحييهم وهم قائلون: سبحانك لا إله إلا أنت، وكان فيها عبرة ودليل قاطع على المعاد الجسماني، (إِنَّ اللهَ لَذُو فضل عَلَى النَّاسِ): حيث أحياهم ليعتبروا ويصدقوا رسله، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)، حيث لم يعتبروا، وكان سوق هذه القضية بعث على الجهاد فلذلك قال (وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ الله): لما علمتم أنه لا ينفع الفرار من الموت، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ): لما يقوله المتخلف، (عَلِيمٌ): بما يضره، (مَن ذَا الذِي يُقْرِضُ الله)، مبتدأ وذا خبره والذي صفة ذا وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه، (قَرْضًا حَسَنًا)، وهو الإنفاق في سبيله، (فيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا)، نصب على الحال من الضمير المنصوب، أو على المصدر على أن الضعف اسم المصدر، وجمعه للتنويع، (كَثيرَةً)،

عن ابن عمر لما نزلت " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة " [للبقرة: 261] الآية، قال عليه السلام: رب زد أمتي، فنزلت " من ذا الذي يقرض الله " [البقرة: 261] إلخ، قال رب زد أمتي فنزلت " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " [الزمر: 10]، (وَالله يَقْبِضُ): يمسك الرزق، (وَيَبْسُطُ): يوسع على ما أراد فلا تبخلوا، (وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ): فيجازيكم على ما قدمتم، (أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلإ)، أى: الجماعة، (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ): وفاة، (مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِي لَّهُمُ)، أشمويل، أو شمعون أو يوشع، (ابْعثْ لَنَا مَلِكًا): أنهض أميرًا لنا للقتال ننتهي إلى أمره، (نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) جزمه على الجواب، (قَالَ): لهم نبيهم، (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)، هو خبر عسيتم، والشرط فاصل بينهما، يعني: أتوقع جبنكم عن القتال إن كُتب عليكم، وأدخل هل مستفهمًا عما هو المتوقع عنده تقريرًا وتثبيتًا، (قَالُوا وَمَا لَنَا)، أي: داع لنا، (أَلاَّ نُقَاتِلَ)، أي: إلى أن نترك القتال، (فِى سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)، أي: أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا): عن الحرب، (إِلَّا قَلِيلًا)، قيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، (وَاللهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ): فيجازيهم على ظلمهم في ترك الجهاد، (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا):

أميرًا سألتموه للقتال، (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ): من أين يستأهل الإمارة؟ (عَلَيْنَا وَنحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ)، لأنه لم يكن من سبط يهوذا، والملك كان فى سبطه، قيل: إنه سقاء، وقيل: دباغ، (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المالِ)، أي: وهو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، (قَالَ) لهم نبيهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ)، أجاب عن اعتراضهم أولاً بأنه لست أنا الذي عينته، بل الله أمرني به، وهو أعلم منكم، وثانيًا بقوله، (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ): ووفور العلم وقوة البدن عماد الملك لأنه أعرف بطرق السياسة ولأنه أقوى على مقاومة العدو، وثالثًا بقوله، (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ)، أي: هو مالك الملك، فله أن يؤتيه من يشاء من غير اعتراض عليه، ورابعًا: بقوله، (وَاللهُ وَاسِعٌ): يوسع على الفقير فيغنيه، (عَلِيمٌ):. بمن يليق بالملك نسيبًا أو غيره، (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ)، لما طلبوا دليلاً على أن الله اصطفى طالوت، (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ): صندوق أخذ العمالقة منهم، (فِيهِ سَكِينَةٌ من ربكُمْ) وقار ورحمة، من ذهب الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء، فوضع موسى فيه الألواح، وروح من الله إذا اختلفوا في شيء يخبرهم ببيان ما يريدون، وفيه أقوال

أخر، وفي الجملة في أي مكان كان فيه تطمئن القلوب، (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) عصاه ورضاض الألواح والتوراة، وقيل: ثياب هارون وقفيز من المن، (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ): جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون، (إِنَّ فِي ذَلِكَ)، أي: رجوع التابوت،

(249)

(لَآيَةً لَكُمْ): علامة لصدقي في اصطفائه، (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ): مصدقين، وهذا من تتمة كلام ذلك النبي عليه السلام، وجاز أن يكون ابتداء خطاب من الله. * * * (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) * * * (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ)، انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، وكانوا ثمانين ألفًا، (قَالَ)، لهم طالوت، (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ): يعاملكم معاملة المختبر، (بنَهَرٍ): هو بين الأردن وفلسطين، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)، أي: شرب بفمه من النهر، (فَلَيْسَ

مِنِّي): ليس من أشياعي فلا يصحبني، (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)، من طعم الشيء، إذا ذاقه مأكولاً أو مشروبًا، (إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، استثناء منقطع من قوله فمن شرب، (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، أي: وقع أكثرهم في النهر وكرعوا إلا قليلاً، أو أفرطوا إلا قليلاً، فإنه أيام الحر فكان من اغترف روي، ومن شرب منه لم يرو، والقليل ثلاث مائة وبضعة عشر، أو أربعة آلاف من ثمانين ألفًا، (فَلَمَّا جَاوَزَهُ)، أي: النهر، (هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، أي: القليل الذي لم يخالفوه، (قَالُوا): بعضهم لبعض، أو ضمير قالوا للذين خالفوا وشربوا، (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِِهِ): لكثرتهم وقلتنا، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ): يعلمون، (أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ): تيقنوا لقاءه وثوابه، وهم العلماء من القليل، ومن قال ضمير قالوا للذين خالفوا، يقول: المراد من الذين يظنون، هم القليل بجملتهم، فهم والكثيرون تقاولوا بذلك والنهر بينهما، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ): فرقة، وكم خبرية، أو استفهامية، ومن زائدة أو مبينة، (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ): بحكمه وأمره، (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): بالنصر والإثابة، (وَلَمَّا بَرَزُوا): ظهروا ودنوا، (لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ): أصبب وأنزل، (عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا): بتقوية قلوبنا، (وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكافِرِينَ فَهَزَمُوهُم): كسروهم، (بِإِذْنِ اللهِ): بقضائه ونصره، (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)، كان في عسكر طالوت، وقد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشركه في أمره ونعمته، فوفى بوعده، ثم آل الأمر إلى داود، (وَآتاهُ اللهُ الُملْكَ): ملك بني إسرائيل، (وَالْحِكْمَةَ): النبوة، (وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَاءُ)، من صنعة الدروع ومنطق الطير، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)،

كما دفع العمالقة بجنود طالوت، (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ): بغلبة الكفار، أو بشؤمهم، (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ): فيدفع عنهم ببعضهم بعضًا، (تِلْكَ)، إشارة إلى حديث الألوف، والتابوت، وطالوت وجالوت، (آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ): بالوجه المطابق، (وَإِنَّكَ): يا محمد، (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ): ومنها يعلم رسالتك، حيث تخبر بها عن تلك المغيبات من غير أن تقرأ وتسمع، أو إنك منهم، فلابد أن تصبر كما صبروا، (تِلْكَ الرُّسُلُ): المذكورة قصصهم، أو اللام للاستغراق، (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، بأن خصصناه بمنقبة، وإن استووا في

القيام بالرسالة، (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) هو موسى كلمه في الطور، قيل: هو ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلمه ليلة المعراج، (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)، أي: محمدًا عليه الصلاة والسلام، فخواصه أكثر، وأبهمه لأنه متعين الرجحان، وقيل: إبراهيم، وقيل: إدريس، وقيل أولو العزم، (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ): الحجج القواطع، خصه بالذكر لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ): جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ)، هداية الناس واتفاقهم، (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ): من بعد

(254)

الرسل، فلا يختلفون في الدين، ولا يكفر بعضهم بعضًا، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ): الواضحات، (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ): ثبت على الإيمان بتوفيقه، (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ): كالنصارى، صاروا فرقًا وتحاربوا، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا)، كرره تأكيدًا ليعلم كل أحد أنه من عند الله لا من عند أنفسهم، (وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فيوفق بعضا فضلاً، ويخذل بعضهم عدلاً. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) * * * ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ)، أراد الزكاة المفروضة، أو الإنفاق في سبيل الخير مطلقًا، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ)، فتحصلون ما تنفقونه،

أو تفتدون به من العذاب، (وَلَا خُلَّةٌ)، حتى يعينكم، " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " [الزخرف: 67]، (وَلَا شَفَاعَةٌ)، حتى تتكلوا على شفعاء، إلا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولاً، (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، قيل: وُضع الكافرون موضع التاركين للزكاة (1) تغليظًا، ويمكن أن يكون المراد منه: والكافرون هم الذين يضعون الأشياء غير موضعها، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم، في ألا تنفقوا، فتضعوا أموالكم غير موضعها، (اللهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ): هو المتفرد بالألوهية للكائنات، (الحَي): في نفسه لا يموت أبدًا، (القيوم): دائم القيام بتدبير الخلق، (لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ): فتور يتقدم النوم، أي: لا تأخذه سنة بلا نوم، (وَلاَ نَوْمٌ): فلا يستغني ذكر أحدهما عن الآخر، وفي تقديم السّنة مراعاة ترتيب الوجود، وهو كالمبين للحي القيوم، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ): ملكًا وخلقًا، تقرير لقيوميته، وتفرده بالألوهية، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، بيان

__ (1) في الأصل " التاركون للزكاة ".

لعظمته وجلاله، ونفي لزعم الكفار أن الأصنام شفعاء، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم): ما قبلهم، أو أمور الدنيا، أو ما يعلمون، أو ما حضر عندهم، والضمير لما في السَّمَاوَات وما في الأرض، فإن فيهم العقلاء، (وَمَا خَلْفَهُمْ)، ما بعدهم، أو أمور الآخرة، أو ما لا يعلمون، أو ما غاب عنهم، (وَلاَ يُحِيطُونَ بشَيْءٍ منْ عِلْمِهِ): مْن معلوماته، (إِلا بمَا شَاءَ): أن يعلموا، (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، الكرسي: العلم، أو الكرسي المشهور وهو يدل على عظمته، وقيل: هو الملك

والسلطنة، (وَلَا يَئُودُهُ)، لا يثقله (1)، (حِفْظُهُمَا): السَّمَاوَات والأرض، والإضافة إلى المفعول، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ): ذاتًا وقدرًا وقهرًا، المتعالي عن الأنداد،

_ (1) في الأصل " لا يثقلها ".

(الْعَظِيمُ): كل شيء دونه حقير، (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، نزلت في رجل مسلم له ابنان نصرانيان أراد إكراههما لدخولهما في الإسلام، فالحكم خاص بأهل الكتاب، أو منسوخ بآية القتال، وهو خبر بمعنى الأمر، وقيل: خبر حقيقة، إذ الإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيرًا، لكن قد تميز الإيمان من الكفر بالحجج والآيات، فلا يحتاج إلى الإكراه، ولهذا قال: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ): بالشيطان، (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ): طلب الإمساك من نفسه أو تمسك، (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى): من الحبل الوثيق المحكم، (لاَ انفِصَامَ لَهَا): المأمون من الإنقطاع، وهو الإيمان، (وَاللهُ سَمِيعٌ): بالأقوال، (عَلِيمٌ): بالنيات، (الله وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا): ناصرهم، ومتولي أمورهم، (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ): الجهل، وهو أجناس كثيرة، (إِلَى النُّورِ): الهدى والعلم، وهو واحد، والجملة خبر بعد خبر أو حال، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ): الشياطين يتولون أمورهم ويزينون الجهل لهم، (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ): الفطري، أو لما كان سببًا لعدم إيمانهم كأنه أخرجهم، (إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وعيد وتحذير. * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ

(258)

فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ): جادل، تعجيب من حماقة نمرود، (إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ)، أي: لأن آتاه، يعني: بطر الملك حمله على ذلك، (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ)، ظرف لـ (حَاجَّ)، (ربيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، أي: الدليل على وجوده حدوث الأشياء بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، فإنه يدل على وجود فاعل مختار، (قَالَ): الذي حاج، (أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ): بالعفو عن القتل والقتل، أو

قاله عنادًا ومكابرة، وأوهم أنه الفاعل لذلك، وهذا القول أظهر، (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ)، أي: إذا كنت كما ادعيت من الإماتة والإحياء فمن هذا صفته هو المتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير الكواكب وحركاتها، وهذه الكواكب تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا تحيي وتميت فأت بها من المغرب!، (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ): أخرس في هذا المقام، وصار مبهوتًا مغلوبًا، (وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ): الذين ظلموا أنفسهم بالاتباع عن الحق، قيل: لا يهديهم محجة الاحتجاج، (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ)، الأول في قوة قوله: أرأيت مثل الذي حاج، فعطف عليه بقوله: " أو كالذي "، وقيل: الكاف مزيدة والمار عزير، أو الخضر، أما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، حين خربه بختنصر، (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشهَا): ساقطة على سقوفها، أي: خرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو من خوى إذا خلا، أي: خالية مع سلامة عروشها، (قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا): استبعادًا لتعميرها بعد شدة خرابها، والظاهر أن المراد به أهل القرية، فيكون استعظامًا لإحيائها، (فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ)، أي: فألبثه ميتًا مائة عام، أراه آية في نفسه، (ثُمَّ بَعَثَهُ): بالإحياء، (قَالَ): الله له بواسطة ملك، أو بلا واسطة، (كَمْ لَبِثْتَ

قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، كقول الظان، (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ)، ذُكر أن معه عنبًا وتينًا وعصيرا، فالطعام الأولان، والشراب الأخير، (لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم يتغير لا العنب والتين تعفنا، ولا العصير استحال، أفرد الضمير، لأنهما كجنس واحد، (وَانظُرْ إلَى حِمَارِكَ)، كيف تفتت عظامه، حتى تعلم مكثك مائة سنة، (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ)، أي: وفعلنا ذلك لنجعلك، وقيل عطف على مقدر، أي: فعلنا ذلك ليزداد بصيرتك ولنجعلك، قيل: كان هو أسود الشعر وبنو بنيه شيب، (وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ): عظام الحمار، (كَيْفَ نُنشِزُهَا): نحييها، أو نرفعها، فنركب بعضها على بعض، والجملة حال من العظام، وكيف منصوب بـ ننشزها، (ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ): ما أشكل عليه، قيل: تقديره لما تبين له أن الله على كل شيء قدير، (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ففاعل تبين مضمر يفسره ما بعده، أي: صار العلم عينيًّا بعدما كان غيبيًّا، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)، ذكروا لسؤاله أسبابًا منها، أنه لما قال لنمورد: ربي الذي يحيي ويميت، أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، ومنها أنه رأى جيفة أكلتها السباع والطيور فسأل، (قَالَ): الله، (أَوَلَمْ تُؤْمِن): بأني قادر على الإحياء، قال له ذلك ليجيب بما أجاب، فيعلم الناس غرضه، أي: أتنكر ولم تؤمن؟، (قالَ بَلَى)، آمنت، (وَلَكِن)، سألت، (ليَطْمَئِنَّ قلبي)، بالمعاينة، (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ)، اختلفوا في أنها ما هي، قيل: غرنوق وطاوس وديك وحمامة، (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)، أي: قطعهن منضمات إليك، أو اضممهن إليك لتعرف شأنها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء، (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ): من الجبال التي بحضرتك، وكانت أربعة أو سبعة، (مِنْهُنَّ

(261)

جُزْءًا)، تقديره على المعنى الثاني: فصرهن وجزّئهن، ثم اجعل إلخ، (ثُمَّ ادْعُهُنَّ): قل تعالين، (يَأْتِينَكَ سَعْيًا): ساعيات مسرعات، أمر بخلط ريشها ولحومها ففعل، وأمسك رؤوسها ثم دعاهن فجعلت أجزاءهن يطير بعضها ببعض، حتى اتصلت ثم أسرعن إلى رءوسهن، (وَاعْلَمْ أَنْ الله عَزِيزٌ): لا يعجزه شيء، (حَكِيمٌ): في تدبيره. * * * (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) * * *

(مَثلُ الذِينَ يُنفِقُونَ أَموالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ): في طاعته أو الجهاد أو هو والحج، (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) حث على الخير بعد أدلة التوحيد، وتقديره: مثل نفقتهم كمثل، أو مثلهم كمثل باذر حبة، (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أي: يخرج منها ساق له سبع شعب لكل منها سنبلة فيها مائة حبة، وهذا تمثيل لا يجب وجوده (وَاللهُ يُضَاعِفُ): تلك المضاعفة، أو على تلك المصاعفة ويزيد عليها (لِمَن يَشَاءُ)، بحسب الإخلاص (وَاللهُ وَاسِعٌ): لا يضيق عليه الإنفاق (عَلِيمٌ): بقدر الإنفاق ونياتهم (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا): لا بقول ولا بفعل على من أعطوه (وَلاَ أَذًى): لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها، ثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى (لهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ ربهِمْ): بلا منة أحد (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): من أهوال القيامة، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ)، على ما فات منهم، (قوْلٌ معْرُوفٌ): كلام

حسن ورد جميل، (وَمَغْفِرَةٌ): عفو عن ظلم، أو تجاوز عن استطالة السائل، (خَيْرٌ مِّن صَدَقَة يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌ)؛ عن إنفاق كل منفق، (حَليمٌ): لا يعجل في العقوبة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا)، ثواب (صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ)، أي: كإبطال المنافق الذي ينفق، (رِئَاءَ النَّاسِ)، نصب على المفعول له أي: كمن يتصدق لأجل مدحة الناس وشهرته بالصفات الجميلة، مظهرًا أنه يريد وجه الله، (وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ) أي: مثل المرائي، أو مثل من أتبع إنفاقه منًّا أو أذى، (كَمَثَلِ صَفْوَانٍ): حجر أملس، (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ): مطر كبير القطر، (فَتَرَكَهُ صَلْدًا): أملس نقيًّا من التراب، كذلك أعمال المرائين تضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال مما يرى الناس كالتراب (لا يَقْدِرُون)، الضمير للذي ينفق، باعتبار المعنى فإنهم كثيرون (عَلَى شَيْءٍ مما كسَبوا)، لا ينتفعون بما فعلوا (وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافرِينَ)، الخير وفيه إيماء إلى أن الرياء من صفة الكفار، فعلى المؤمن أن يحذر عنها (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ): تصديقًا وتيقنًا من أصل أنفسهم أن الله سيجزيهم على ذلك، أو يثبتون أين يضعون صدقاتهم (كَمَثَلِ جَنَّةٍ)، أي: مثلهم في الزكاة (1) كمثل بستان، (بِرَبْوَةٍ): بموضع مرتفع،

_ (1) في الأصل " الزكاء ".

زاد ابن عباس والضحاك: فيها الأنهار (أَصَابَهَا وَابِلٌ): مطر شديد (فَئَاتَتْ): أعطت، (أُكُلَهَا): ثمرتها، (ضِعْفَيْنِ)، بالنسبة إلى غيرها من البساتين (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) أي: فيصيبها طل وهو المطر الصغير القطر، يعني: نفقاتهم زاكية عند الله، وإن كانت تتفاوت بسبب أحوالهم، كما أن الجنة تثمر قَلَّ المطر أو كَثُرَ، أو يضعف ثواب صدقاتهم قلَّت النفقة أو كثرت (وَاللهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص (أَيَوَدُّ)، الهمزة للإنكارَ (أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، هما لما كان أشرف وأنفع الأشجار جعل الجنة منهما تغليبًا لهما، ثم ذكر سائر الأشجار ليدل على التغليب (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ): كبر السن، فإن الفقر فيه أصعب، والواو للحال بتقدير: قد (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ): صغار ونسوان (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ): ريح عاصف (فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ)، فصار أحوج ما كان إليها عند الشيخوخة وكثرة ضعاف الأولاد، والمثل لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم نكص على عقبيه فعمل آخر عمره بالمعاصي، حتى أغرق أعماله، أو للمنافق والمرائي

(267)

فإنهم إذا ماتوا واحتاجوا غاية الاحتياج إلى أعمالهم، فقدوها بمرة، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)، لكي تتفكروا فتعتبروا. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا): تصدقوا، (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ): حلاله وخياره (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)، أي: من طيبات ما أخرجنا من الحبوب والثمار والمعادن، (وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ): لا تقصدوا الرديء، (مِنْه تُنفقُون)، حال من الفاعل، أو من المفعول، ومنه متعلق به، والضمير للخبيث، أي تخصونه بالإنفاق، أو منه حال من الخبيث، والضمير للمال، كانت الأنصار يعلقون أقناء البسر على حبل في مسجد المدينة للفقراء، فتعمد الرجل منهم إلى الحشف، فأدخله مع أقناء البسر، فأنزل الله فيمن فعله " ولا تيمموا " إلخ، (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، أي: والحال أنكم لا تأخذونه في حقوقكم، إلا

بإغماض بصر ومساهلة، فلا تجوزوا في حق الله ما لا تجوزون في حقوقكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه: لو كان لكم على أحد حق، فجاء بحق دون حقكم، لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ)، عن إنفاقكم (حَمِيدٌ)، بقبوده وإثابته، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ): يخوفكم الفقر لتبخلوا ولا تنفقوا في مرضات الله، (وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ): بالبخل، أو المعاصي مطلقًا، (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ)، الوعد للخير والشر، أي: يعدكم جزاء إنفاقكم مغفرة ذنوبكم، (وَفَضْلًا)، خلفًا أفضل مما أنفقتم (وَاللهُ وَاسِعٌ): واسع الفضل (عَلِيمٌ): بالإنفاق، (يُؤْتِي الحِكْمَةَ): تفسير القرآن، أو الإصابة في القول، أو خشية الله، أو الفهم، أو السنة، أو الفقه في الدين، أو العقل، أو النبوة، (مَن يَشَاءُ)، مفعول أول، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، فِي الحديث " لا حسد إلا في

اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها "، (وَمَا يَذّكرُ): ما يتعظ بالآيات، (إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ): ذوو العقول، (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نفَقَةٍ)، قليلة أو كثيرة، حق أو باطل (أَوْ نَذَرْتُم مِّن نذْرِ)، في طاعة، أو معصية (فإن الله يَعْلَمُهُ)، فيجازيكم عليه (وَمَا لِلظَّالِمِينَ): الذين يضعون المال في غير موضعه، (مِنْ أَنْصَارٍ): ينصرونهم ويمنعونهم من العقوبة، (إِن تُبْدُوا الصدقَات فَنِعِمَّا هِيَ): إن أظهرتموها فنعم شيئًا إبداؤها (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ)، تعطوها مع إخفائها، (فَهُوَ)، أي: إخفاؤها، (حيْرٌ لكُمْ)، والآية عامة في كل صدقة، لكن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن السر في التطوع أفضل من العلانية بسبعين ضعفًا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل بخمسة وعشرين ضعفًا، (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) أي: الله، أو الإخفاء، ومن قرأ مجزومًا فهو عطف على محل جواب الشرط (مِّن سَيِّئَاتِكُمْ)، " من " للتبعيض، أو لتبيين الجنس، أي يكفر شيئًا، هو السيئات (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، ترغيب في الإخفاء (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ) أي لا يجب عليك جعل الناس مهديين، فإنه ليس في يدك وقدرتك، ولكن الهداية من الله، (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) أي: ثوابه، فلا تمنوا على أحد، (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ)، الواو حال، أو عطف، يعني: المؤمن لا ينفق إلا لمرضات الله،

وقيل: نفي في معنى النهي، قال عطاء الخراساني: معناه: إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله، فإنك مثاب لنيتك، سواء كان السائل مستحقًا أو غيره، برًا أو فاجرًا (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَ إِلَيْكُمْ): ثوابه، (وَأَنتمْ لاَ تُظْلَمُونَ)، فلا ينقص ثواب صدقاتكم، " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بأن لا يتصدق إلا على المسلمين، حتى نزلت ليس عليك هداهم، فأمر بالصدقة بعدها على كل سائل من كل دين "، وهذا في التطوع، أما الواجب، فلا يجوز صرفه إلى الكافر (لِلْفُقَراءِ) أي: الصدقات لهم، وهم الأولى والأحق، وإن جاز صرفها إلى غيرهم كما علم من الآية الأولى (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)، حبسوا أنفسهم في الجهاد، أو أصحاب الصفة، الذين انقطعوا بكليتهم إلى الله (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ): ذهابًا فيها للتجارة لاشتغالهم بالجهاد، أو بالله (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ) بحالهم، (أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) من أجل

(274)

تعففهم عن السؤال، (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) من التخشع وأثر الجهد والصفاء، (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) أي: إن سألوا عن ضرورة لم يلحوا في السؤال، (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)، ترغيب في الإنفاق سيما على من تعرفه بسيماه. * * * (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) * * *

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) أي: يعُمُّون الأحوال بالخير، نزلت في ربط الخيل يعلفونها دائماً في سبيل الله، أو في علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - كان له أربعة دراهم فتصدق درهمًا ليلاً، ودرهمًا نهارًا، ودرهمًا سرًا، ودرهمًا علانية، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ ربِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في القيامة، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): على ما فات عنهم، قال تعالى: " لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ " [الأنبياء: 103]، (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) لما ذكر الأبرار المخرجين للصدقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالظلم، وعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأكل أعظم المنافع، والربا شائع في المطعومات، (لَا يَقُومُونَ) من قبورهم، (إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ) أي: إلا قيامًا كقيام المصروع، (مِنَ الْمَسِّ)، أي: الجنون، وهو متعلق بـ لا يقومون، أو بيقوم، وفي الحديث " مر عليه

السلام ليلة الإسراء على قوم بطونهم كالبيوت، وأخبر أنَّهم أكلة الربا "، (ذَلِكَ) أي: العقاب، (بِأنهُمْ): بسبب أنَّهم، (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا): اعترضوا على أحكام الله، وقالوا: البيع مثل الربا، وإذا كان الربا حرامًا فلا بد أن يكون البيع كذلك، (وَأَحَل اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الربا) يحتمل أن يكون تتمة كلام المعترض المشرك، ويحتمل أن يكون من كلام الله ردًّا عليهم، أي: اعترضوا، والحال أن الله فرق بين هذا وهذا، وهو الحكيم العليم، (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ): بلغه وعظ من الله، (فَانْتَهَى): فاتعظ وتبع النهي حال وصول الشرع إليه، (فَلَهُ مَا سَلَفَ) من المعاملة، أي: له ما كان أكل من الربا زمن الجاهلية، (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ): يحكم يوم القيامة بينهم، وليس من أمره إليكم شيء، (وَمَنْ عَادَ) إلى

تحليله وأكله، (فأوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لكفرهم، (يَمْحَقُ اللهُ الربا): يذهب بركته، فلا ينتفع في الدنيا والآخرة؛، قد ورد: " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة "، (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ): يكثرها وينميها، وقد ورد " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أَحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد "، (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ): لا يرتضي، (كُلَّ كَفَّارٍ): مصر على تحليل الحرام (أَثِيمٍ): فاجر بارتكابه، (إِن الذِينَ آمَنُوا)، بما جاء من الله، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) عطفهما على الأعم لشرفهما َ، (لَهُمْ أَجرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من آت، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ) على فائت، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رأس المال بعد الإنذار، إن كنتم مؤمنين بشرع الله، كان بين ثقيف وبني مخزوم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، طلبت ثقيف فتشاجروا فنزلت، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ولم تذروا ما بقي من الربا، (فَأْذَنوا): فاعلموا، (بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)، يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، أو لابد للإمام أن يستتيبهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم الحرب والسلاح، (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ) بأخذ الزيادة، (وَلَا تُظْلَمُونَ) بوضع رءوس الأموال، وقيل فهم منه أن المصر، أي: على التحليل ليس له رأس ماله، لأنه مرتد وماله فيء، (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ): وقع غريم ذو عسرة، (فَنَظِرَةٌ) أي: فعيكم تأخير، (إِلَى مَيْسَرَةٍ): يسار، لا كفعل الجاهلية إذا حل الدين، يطالب إما بالقضاء وإما بالربا، (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بإبراء رأس المال، (خَيْرٌ لَكُمْ): أكثر ثوابًا، وقيل: خير مما تأخذونه، (إِنْ كُنتُم تَعْلَمُونَ) ما فيه من الأجر، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ): يوم القيامة، أو يوم الموت، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: جزاء ما عملت، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وهذه آخر آية نزلت من القرآن، عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليال، أو واحد وثلاثين يومًا. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ

(282)

فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)، أي: تعاملتم بمعاملات مؤجلة فاكتبوها، قال ابن عباس رضى الله عنهما: أنرلت في السلف، حرم الله الربا وأباح السلف، وهذا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، وعن كثير من السلف: أن الأمر للوجوب، ولكن نسخ بقوله: " فإن أمن بعضكم بعضًا " (البقرة: 283)، (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ): بالسوية، لا يزيد ولا ينقص،

(وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ) أي: لا يأب أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليمها، أو مثل ما علمه من كتابة الوثائق، قال عطاء ومجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب، (فَلْيَكْتُبْ) أمر بما بعد النهي عن الإباء تأكيدًا، قيل: جاز أن يتعلق كما علمه الله به، فالنهي مطلق والأمر مقيد، (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): الإملال والإملاء واحد، أي: وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين، (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أمر بأن يقر بمبلغ المال من غير نقصان، (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا): محجورًا عليه بتبذير ونحوه، (أَوْ ضَعِيفًا): صبيًا، أو مجنونًا، (أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) بخرس، أو جهل باللغة، (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ): الذي يلي أمره، من وكيل، أو قسيم، أو مترجم، (بِالْعَدْلِ): بالصدق، (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ)، اطلبوا شاهدين، أن يشهدوا على الدين، (مِن رِّجَالِكُمْ): رجال المسلمين، (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ) أي: إن لم يكن الشهيدان رجلين، (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) أي: فالمستشهد رجل وامرأتان، وهذا مخصوص بالأموال عند الشافعي، وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة، (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) لعلمكم بعدالتهم، (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) أي: إن نسيت إحدى المرأتين الشهادة، ذكرتها الأخرى، فهو علة اعتبار العدد، والعلة في الحقيقة التذكير، ولما كان الضلال سببًا له نزل منزلته، (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) لأداء الشهادة، وعند بعض معناه: إذا دعوا للتحمل، وحينئذ تسميتهم شهداء باعتبار المشارفة، وما زائدة ومنه علم أن تحمل

الشهادة فرض كفاية، (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي: لا تملوا، ولا تمنعكم الملالة أن تكتبوا الحق، (صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا): قليلاً كان الحق أو كثيرًا، (إِلَى أَجَلِهِ): إلى وقت حلوله، (ذلِكُمْ) إشارة إلى أن تكتبوه، (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ): أعدل، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ): أثبت لها، وهما مبنيان من أقسط وأقام على مذهب سيبويه، (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) أي: أقرب في ألا تشكوا، لأن ترجعوا بعد الشك في كتابتكم، (إِلا أَن تَكُونَ) التجارة، (تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) استثناء من الأمر بالكتابة، وإدارتها بينهم: تعاطيهم إياها، يداً بيد، ومن قرأ: (تِجَارَةٌ) بالرفع فعنده كان تامة، أو تديرونها خبر كان، (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) مطلقًا مؤجلاً، أو معجلاً، وهذا الأمر محمول على الندب، وعند الشعبي والحسن للوجوب لكن نسخ، (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) نهي عن الضرار بهما، مثل أن يكلفا ترك حاجاتهم ومهامهم ولا يعطى جعل

الكاتب، وعلى هذا يضار مبني للمفعول، أو معناه فيهما عن الضرار بزيادة ونقصان، وتحريف وتغيير، فعلى هذا يكون مبنيًا للفاعل، (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه، (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي: لاحق لازم بكم، (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره، (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه وشرائعه، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ) تكرار لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلال كل منها، ولأنه أدخل في التعظيم، (وَإِنْ كنتُمْ عَلَى سَفَرٍ) أي: مسافرين، (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) يكتب لكم، (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي: فليؤخذ بدل الكتابة، رهان مقبوضة في يد صاحب الحق، وعند بعض السلف أن الرهن لا يجوز إلا في السفر، والحديث يرده، (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا): بعض الدائنين بعض المديونين، (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) سمى الدَّين أمانة لائتمانه عليه بترك الإرتهان منه، (وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ) في الخيانة، (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قلبه فاعل آثم، أو مبتدأ، وآثِمٌ خبره، والجملة خبر إن، وإسناده إليه للمبالغة، كقوله: هذا مما عرفه قلبي، ولئلا يظن أنه من آثام اللسان، بل من آثام القلب، الذي هو أشرف الأعضاء، قال ابن عباس

(284)

رضى الله عنهما: كتمانها من أكبر الكبائر، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تهديد ووعيد. * * * (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) * * * (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) خلقًا وملكًا، (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفوهُ): ما خطر ببالكم من السوء، (يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ) في

الآخرة، لما نزلت غمت الصحابة " فقالوا هلكنا، فقلوبنا ليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولوا سعنا وأطعنا، فقالوها " فنزلت " آمن الرسول " إلى " عليها ما اكتسبت " فنسختها، وتجاوز لهم عن حديث النفس وصرح بنسخها أكثر السلف، وبعضهم صرحوا بعدم نسخها، وقالوا: يخبرهم الله يوم القيامة بما أخفوا في أنفسهم، فيغفر للمؤمنين، ويؤاخذ أهل الشك والنفاق، فمعنى المحاسبة: الإخبار، وعن عائشة رضى الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين سألت عن الآية: هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه الله من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها، فيفزع لها، حتى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير "، فعلى هذا المحاسبة المؤاخذة، لكن المحاسبة إما في الدنيا، وإما في الآخرة، (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) مغفرته، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) تعذيبه، (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من المحاسبة وغيرها، (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) وجه نزول الآية قد ذكرناه وهو أنهم قالوا: " سمعنا وأطعنا " لا كما قال أهل الكتاب: " سمعنا وعصينا " (البقرة: 93) قوله: " والمؤمنون " عطف على الرسول، (كُل): من الرسول والمؤمنين، (آمَنَ بِاللهِ وَمَلاِئكَتهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) يقولون، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في الإيمان بهم، ولا نقول: " نؤمن ببعض ونكفر ببعض " [النساء: 150]، (وَقَالُوا سَمِعنا)، قول الله، (وَأَطَعْنَا) أمره، نسأل، أو اغفر،

(غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ): المرجع بعد الموت، (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ما يسعه قدرتها ويتسع فيه طوقها، لا ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، (لَهَا مَا كَسَبَتْ): من خير، (وَعَلَيْهَا مَا اكْتسَبَتْ): من شر، ولما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي أَجَدُّ واعْمَلُ فيه، جعلت لذلك مكتسبة فيه بخلاف الخير، فإنها لما لم تكن فيه كذلك وصفت بما ليس فيه الاعتمال، فقال: كسبت، (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) سألوا الله التجاوز عنهما فأجاب، ففي الحديث " وضع عن أمتي الخطأ والنسيان "، وأما دعاؤنا حينئذ بهما، فيمكن أن يكون لإدامة الوعد، وأن يجعلنا ممن وعد له التجاوز عنهما، (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا): تكاليف شاقة، تأصر صاحبه: تحبسه في مكانه، وإن أطقناها، (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ)، مثل الذي حَمَّلْتَهُ إياهم فيكون صفة إصرا وهو التكاليف الشاقة وما أصابهم من المحن، (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ):

من المصائب، والتشديد هاهنا لتعديته إلى مفعول ثان، (وَاعْفُ عَنَّا): امح عنا ذنوبنا، (وَاغْفِرْ لَنَا): واستر لنا عيوبنا، (وَارْحَمْنَا) في الدنيا، فلا توقعنا في ذنب (1) آخر، (أَنْتَ مَوْلانَا): ولينا وناصرنا، (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، وفي الحديث: " في آخر كل دعوة من هذه الدعوات، قال الله تعالى: فعلت ونعم "، وفي الحديث، " فضلنا على الناس بثلاث: أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت تحت العرش، لم يعطها أحد قبلي ولم يعطها أحد بعدي. والحمد لله حقَّ حمده.

__ (1) عن بعض السلف، الذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره/ 12 منه.

سورة آل عمران

سورة آل عمران وآياتها مائتان وركوعاتها عشرون بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) * * * (الم) قد مر تفسيرها، فلا نعيده (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) المتفرد بالألوهية

(الحَيُّ) الذي يصح أن يعلم أو يقدر (القيوم) دائم الحفظ للكائنات (نَزَّلَ عَلَيْكَ

الْكِتَابَ): القرآن. (بِالْحَقِّ): بالصدق، أو بالعدل؛ وهو حال (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيه) من الكتب أنه من عند الله (وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ) على موسى (وَالإِنجِيلَ) على عيسى (من قَبْلُ) من قبل تنزيل القرآن (هُدًى لِّلنَّاسِ) في زمانهما (وَأَنزَلَ الفُرْقَان) الفارق بين الحق والباطل، وهو جنس الكتب الإلهية عَمَّ بعد ما خص ذكر الثلاثة، أو القرآن كرر ذكره بوصفه تعظيمًا له (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) يوم القيامة (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يغلب (ذُو انْتِقَامٍ) عقوبة على من خالف الرسل (إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) قيده

بهما، إذ الحس لا يتجاوز عنهما (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) من الصور المتنوعة (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في الأمور (الحَكِيمُ) في الأفعال (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) القرآن (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)

واضحات الدلالة (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أصله يرد إلِيها غيرها، وهن ناسخ القرآن، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به أو قوله: " قل تعالوا "، والآيتان بعدها، وقوله: " وقضى ربك " (الإسراء: 23)، إلى ثلاث آيات بعدها، والآيات كلها في تكاملها كآية واحدة، أو كل واحدة منهن أم الكتاب.

(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فيها اشتباه في الدلالة لكثير من الناس إلا للمهرة من العلماء، وهذا يظهر فضلهم، وهن المنسوخة، والمقدم والمؤخر منه، والأمثال والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به، أو الحروف التي فِي أوائل السور (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) عدول عن الحق، كاليهود، وقالت: الحروف المقطعة بيان مدة أجل هذه الأمة (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يتعلقون به لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة، وأما المحكم فتركوه لأنه لا نصيب لهم فيه. (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ): الإضلال. (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) على ما يشتهونه أو بطلب حقيقته وما يئول أمره إليه. (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي ما هو

الحق، أو حقيقته. (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلفوا في الوقف على " الله " عند أكثر السلف أن تأويل بعض الآيات لا يعلمه أحد إلا الله، ومن القراء من يقف على قوله: " والراسخون في العلم "، وهو قول مجاهد وربيع بن أنس، وروي عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) خبر الراسخون إن جعلته مبتدأ، وإلا فهو استئناف أو حال. (كُلٌّ): من المتشابه، والمحكم. (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) وما يتعظ بالقرآن ولا يفهمه إلا ذوو العقول السليمة، وفي الحديث حين سئل عن الراسخين: " من برت يمينه وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ". (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا): من مقال الراسخين أي: لا تملها عن الحق إلى اتباع لمتشابه بتأويل غير مراد الله. (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا): إلى الإيمان بالمحكم، والمتشابه. (وهَبْ لَنَا

(10)

من لدنك رحمة) تثبت بها قلوبنا (إنك أنت الوهاب): بكل سؤل. (ربنا إنك جامع الناس ليوم): لجزاء يوم أو في يوم. (لا ريب فيه): في وقوعه. (إن الله لا يخلف الميعاد). * * * (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ

وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) * * * (إِن الذِينَ كفرُوا) بمحمد (صلى الله عليه وسلم) أو المراد يهود قريظة والنضير.

(لَن تُغنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا) أي: لا يدفع عنهم شيئًا من عذاب الله أو ما أجزأ عنهم وما كفاهم من رحمة الله شيئًا من الإجزاء على أن يكون شيئًا مصدرًا. (وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ): حطبها. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) متعلق بـ لن تغني أي: لن تغني عنهم كشأن آل فرعون يعني: مثل ما لم تغن عنهم، أو استئناف أي: صنيعهم وسنتهم كصنيع آل فرعون. (وَالذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون. (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): حال بإضمار قد أو استئناف، وقيل: الذين من قبلهم مبتدأ وكَذَّبُوا خبره (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) تهويل وتشديد للمؤاخذة. (قُل): يَا محمد. (للذِينَ كفَرُوا سَتُغلَبُونَ): في الدنيا. (وتحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ) جهنم وهو استئناف أو تمام ما يقال لهم لما رجع (رسول الله صلى الله عليه وسلم) من بدر حذر اليهود أن ينزل عليهم ما نزل على قريش، فقالوا: لا يغرنك أن قتلت أغمارًا لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت الناس فنزلت إلى قوله: " لعبرة لأولى الأبصار "، وقيل: الخطاب لقريش. (قَدْ كَانَ لَكُمْ): أيها اليهود وقيل: أيها المشركون والمؤمنون. (آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا): يوم بدر. (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) الجملة حال، وتقاتل خبر لـ فئة أو صفة لها، والجملة خبرها أي: يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثلي عدد المسلمين أو المشركين، ليحصل لهم الرعب، والمسلمون كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر، وهم ما بين تسع مائة إلى ألف، وهذا في أول الأمر وأما في حال القتال فكل من المسلمين والكافرين قللوا الآخر كما قال تعالى: " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ " (الأنفال: 43)، إلخ. لتقدموا عليهم، ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً أو يرى المسلمون الكافرين مثلي عدد المسلمين مع أنَّهم أكثر ليقوى قلوبهم بوعد الله، وهو قوله: " فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ " [الأنفال: 66]. أو مثلي عدد المشركين ليتوكلوا أو يطلبوا الإعانة من الله، وحين القتال قللهم الله في أعينهم حتى سأل بعض المسلمين بعضهم: هل تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. (رَأْيَ العَيْنِ): رؤية ظاهرة معاينة. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ): نصره (إِنَّ فِي ذلِكَ): أي: التقليل والتكثير وغلبة القليل عليهم. (لَعِبْرَةً): عظة. (لأُوْلِي الأَبْصَارِ): لذوى البصائر.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) أي: المشتهيات سماها شهوات مبالغة. (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ) القناطر المال الكثير. (الُمقَنطَرَةِ) ذكرت للتأكيد كبدرة مبدرة أو القنطار ألفا أوقية أو ألف دينار أو ألف ومائتا دينار، وقيل غيرها. (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ): عطف على النساء. (الْمُسَوَّمَةِ): الراعية، والمطهمة الحسان أو الغرة والتحجيل وقيل غيرهما. (وَالأَنعَامِ) الإبل، والبقر، والغنم. (وَالْحَرْثِ ذلِكَ): إشارة إلى ما ذكر. (مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيا): وهي فانية. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي: المرجع والثواب وفيه تزهيد من الدنيا. (قلْ): يا محمد. (أَؤنَبِّئكمَ بِخَيْرٍ من ذَلِكمْ) أأخبر بخير مما زين للناس؟! (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا): الشرك. (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا): من تحت أشجارها. (الأَنهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مطَهرَةٌ): من الحيض وسائر الدنس. (وَّرضْوَانٌ منَ

اللهِ): فلا يسخط عليهم أبدًا. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) بأعمالهم وأحوالهم، فيعطيهم ما يستحقونه. (الذينَ يَقُولُونَ): مرفوع أو منصوب بالمدح. (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا): بإيماننا لك. (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). (الصَّابِرِينَ): على الشرع. (وَالصَّادِقِينَ): في اللسان. (وَالْقَانِتِينَ): المطعين الخاضعين. (وَالْمُنفِقِينَ): من أموالهم في أموالهم في جهات الخير. (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) فإنها وقت الإجابة، أو المصلين، قيل: هو الذي يصلي الصبح بالجماعة (شَهِدَ

اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): بأن نصب أدلة التوحيد أو بين الله أو حكم الله (وَالْمَلاِئكَةُ وأُولو العِلْمِ) بالإقرار، وهذه مرتبة جليلة للعلماء. (قَائِماً بِالْقِسْطِ): بالعدل في أحكامه، وهو حال من الله. (لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ): كرره تأكيدًا، وليبنى عليه قوله (العَزِيزُ) فلا يرام جنابه عظمةً. (الحَكِيمُ) فلا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة. (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ) جملة مؤكدة للأولى أي: لا دين مقبول عنده سوى الإسلام، وهو اتباع سيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ) مطلقًا

أو اليهود في دين الإسلام بأنه حق أو باطل (إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العِلْمُ): بحقية الإسلام. (بَغْيًا): حسدًا. (بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ) بما أنزلهِ في كتابه (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) المجازاة. (فَإِنْ حَاجُّوكَ): جادلوك في الدين، والتوحيد. (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ): أخلصت نفسي وعبادتي له. (وَمَنِ اتَّبَعَنِ): عطف على الضمير المتصل يعني: ديني دين التوحيد الذي ثبت عندكم أيضًا وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني. (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ): الذين لا كتاب لهم من العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) لما وضحت الحجة لكم أم أنتم بعد على الكفر؟ وفي هذا النوع من السؤال تعيير لهم،

(21)

وقيل: استفهام بمعنى الأمر (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا): أعرضوا. (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ): وقد بلغت وليس عليك هداهم. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): وعد ووعيد. * * * (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ

نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) * * * (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) كأهل الكتاب كفروا بنعت محمد - صلى الله عليه وسلم - وآية الرجم. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ): كبني إسرائيل قتلوا أربعين نبيًّا في ساعة من أول النهار وفعل آباؤهم فعلهم، وذلك لأن الأنبياء على طريقتهم راضون عن فعلهم. (بِغيرِ حَقٍّ): أي: عندهم أيضًا وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى. (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ): بالعدل (مِنَ النَّاسِ): قام مائة وسبعون رجلاً من بني إسرائيل أمروا على من قتل الأنبياء بالمعروف فقتلوا في آخر النهار. (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) اعلم أن من لم يجوز الفاء في خبر إن قال: خبره " أولئك الذين " نحو قولك زيد فافهم رجل صالح. (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): بطلت. (فِي الدُّنْيَا) لأنها لم تحقن دماءهم وأموالهم (وَالْآخِرَةِ): ما استحقوا ثوابًا (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ): ليدفعوا عنهم العذاب.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ): كاليهود ومن للتبعيض. (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ): التوراة أو القرآن. (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قيل: نزلت في الرجم سألوا محمدًا عليه الصلاة والسلام حد المحصن فحكم بالرجم فما صدقوه فطلب التوراة، فلما أتوا بها ستروا آية الرجم بأكفهم، وابن سلام (1) رفع كفهم عنها وقرأها على اليهود فغضبوا وانصرفوا، أو نزلت لما قالوا: كان إبراهيم يهوديًا. فلما قيل لهم هلموا التوراة فأبوا، وعن ابن عباس وقتادة إنهم دعوا إلى القرآن فأعرضوا عنه. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ)، ثم لاستبعاد توليهم مع العلم. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قوم عادتهم الإعراض أو معرضون عن كتابهم. (ذَلِكَ) أي: الإعراض. (بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ): قلائل، أربعين يومًا بعدد أيام عبادة العجل أو سبعة أيام بإزاء كل ألف سنة يوم أي: الإعراض بسبب تسهيلهم عذاب الله (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) كقولهم: " لن تمسنا النار " وأن الله وعد يعقوب أن لا يعذب ذريته. (فَكَيْفَ): يكون حالهم (إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ): لجزاء يوم. (لا رَيْبَ فِيهِ): لا شك في وقوعه مع أنَّهم كذبوا رسلهم، وقتلوهم، وافتروا. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: جزاءه. (وَهُمْ) أي: كل نفس لأنه في معنى كل إنسان. (لَا يُظْلَمُونَ) بنقصان الحسنات وتضعيف السيئات. (قُلِ اللهُمَّ): يا الله. (مَالِكَ المُلْكِ): لك الملك كله وهو نداء ثانٍ عند من يجعل الميم مانعا من الوصفية. (تؤْتِي

_ (1) في الأصل " ابن السلام ".

الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ): كمحمد وأصحابه أو الملك بمعنى النبوة. (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ): أن تنزع منه كاليهود، وصناديد قريش (1). (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ): إذلاله كاليهود والمشركين. (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) اكتفى بالخير، لأنه المرغب فيه أو لأن الكلام في الملك والنبوة وهما خير، أو لأن الخير مقضى بالذات إذ ما من شر إلا وفيه أنواع الخير أو لمراعاة الأدب في الخطاب وتقديم الخبر للحصر. (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ): من الخير والشر. (قَدِيرٌ)، وهذه الآية إرشاد إلى شكر نعمه، من تحويل الملك والنبوة والعز للمسلمين، والذل لليهود، وقيل: نرلت لما فتح مكة ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ملك فارس والروم وقالت اليهود والمنافقون: هيهات. (تُولِجُ) تدخل أي: بالتعقيب أو بالزيادة والنقص. (اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): كالحيوان من النطف والنطف منه، والبيض من الطير وعكسه أو كالمؤمن من الكافر وعكسه. (وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ): فمن قدر على مثل ذلك قدر على كل شيء. (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ): نهوا عن موالاتهم بصداقة، أو قرابة أو غيرهما (مِن دُونِ الُمؤْمِنِينَ) إشارة إلى أنَّهم الحقيق بالمحبة. (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ): اتخاذهم أولياء بأن يظهر عليهم أسرار المسلمين. (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ): من دين الله

_ (1) في الأصل " القريش ".

وولايته. (فِي شَيْءٍ): فإن محبتي متعاديين لا تجتمعان. (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي: إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب أن يتقى فيكون تقاة مفعولاً به وجاز أن تضمن تتقوا معنى تحذروا فيكون معدى بـ من، وتقاة مصدر نهوا عن الموالاة في جميع الأوقات إلا وقت المخافة فإنه جازت المداراة حينئذ باللسان. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) يعني عن عقاب يصدر عن نفسه، وهذا غاية التحذير كما يقال: احذر غضب السلطان نفسه، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فاحذروا كل الحذر. (قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ): من ولايتهم وغيرها، (أَوْ تُبْدُوهُ) قيل: إن تخفوا ما في قلوبكم من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تظهروه بحربه، (يَعْلَمْهُ اللهُ): يحفظه الله حتى يجازيكم (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ): فكيف لا يعلم سركم وجهركم؟! (وَاللهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقوبة متخذي الولاية لهم كأنه قال: " يحذركم نفسه " فإنه متصف بعلم ذاتي محيط بجميع الكون وقدرة ذاتية تعم المقدورات. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) أي: جزاء ما عملت أو صحائفه، وعامل يوم " تود " أي: تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم أمدًا يوم تجد الخير والشر حاضرين عنده، ولو للتمني وجملة " لو أن بينها " كالبيان للتمني أو تقديره: اذكر يوم تجد، و (تَوَدُّ) حال من فاعل عملت أو ما عملت مبتدأ لا عطف على ما عملت

(31)

وتود خبره، وحينئذ ضمير " بينه " لما عملت. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرره تأكيدًا ليكون على بال منه. (وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ): ومن رأفته بهم حذرهم بنفسه. * * * (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) * * *

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي): نزلت حين سجدوا للأصنام زعمًا منهم أن الباعث لعبادتهم حب الله، وقيل: نزلت لما قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل: نزلت في وفد نجران لما قالوا نعبد المسيح حبًّا لله. (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أي: يرض

عنكم ويثبكم، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ): والجزم لجواب الأمر يعني يحصل لكم فوق ما طلبتم كما قيل: " ليس الشأن أن تحِب إنما الشأن أن تحَب " (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): باتباعكم للرسول. (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا): عن الطاعة. (فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ): لا يرضى عنهم أتى بالظاهر بدل المضمر دلالة على أن التولي كفر. (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى): بالرسالة (آدَمَ ونوحًا) ونوح أول رسول بعثه لما عبد الناس الأوثان. (وآلَ إِبْرَاهيمَ) منهم سيد البشر عليه الصلاة والسلام (وَآلَ عِمْرَانَ): هو والد مريم أو والد موسى وهارون. (عَلَى الْعَالَمِينَ): ومن العالمين الملائكة.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) حال أو بدل من نوح والآلين أي: إنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض. (وَاللهُ سَمِيعٌ): لأقوال الناس، (عَلِيمٌ) بأعمالهم فيصطفي مستقيم القول والعمل. (إِذ قَالَتِ) مفعول لاذكر، قيل: ظرف لـ سميع وعليم أي: سميع عليم بقول امرأة عمران وبنتها إذ قالت (امْرَأَتُ عِمْرَانَ): هي أم مريم. (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي) أوجبت على نفسى أن يكون ما في بطني لك لا أستخدمه، (مُحَرَّرًا) حال أي: معتقًا مخلصًا للعبادة قيل: كانت لا تحمل فرأت طائرًا يُطعم فرخه؛ فاشتهت الولد؛ فدعت؛ فاستجيب دعاؤها، (فَتَقَبَّلْ مِنِّي): ما نذرت، (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ): بقولي، (العَلِيمُ): بنيتي. (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) تأنيث الضمير لأن ما في البطن كان أنثى. (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) قالته تحسرًا وعذرًا مما نذرت فإنها ترجو ذكرًا، ولذلك حررته، وأنثى حال عن مفعول وضعت. (وَاللهُ أَعْلَمُ بمَا وَضَعَتْ): هو قول الله تعظيمًا لموضوع كان آية للعالمين، وقرئ: " وَضَعْتُ " فيكوَن من كلامها تسلية لنفسها لعل للهِ فيها سرًّا، (وَلَيْسَ الذكَرُ كَالأُنثَى) فيما نذرت لما فيها من الحيض والنفاس وعدم القوة، وقيل: هو قول الله أيضًا أي: ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ): عطف على إني وضعتها أنثى قيل: معنى المريم في لغتهم العابدة. (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ): أجيرها بحمايتك، (وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ): المطرود، في الحديث: " ما من مولود يولد؛ إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مسه إياه،

إلا مريم وابنها (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا): رضي بها مكان الذكر. (بِقَبُولٍ حَسَنٍ): بوجه حسن يقبل به النذائر، (وَأَنْبَتَهَا): رباها، (نَبَاتًا حَسَنًا) بشكل مليح، ومعرفة وطاعة بالله وكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام، (وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا)؛ لتقتبس منه علمًا وعملاً، وكان زوج خالتها أو زوج أختها وقرئ بتشديد الفاء ونصب زكريا على أن يكون مفعولاً ثانيًا والفاعل هو الله. (كلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ) أي الغرفة التي بنى لها في المسجد، (وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا): فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس، أو

صحفا فيها علم والأول أصح، (قَالَ يَا مَريمُ أنى لَكِ هَذا): من أين لك في غير أوانه والأبواب مغلقة؟! (قَالَتْ هُوَ منْ عِندِ اللهِ)، فلا يستبعد قيل: هي كعيسى تكلمت صغيرة، وقيل: لم ترضع ثديًا ويأتي رزقها من الجنة (1)، (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)؛ لكثرته وسعة جوده، وهو يحتمل أن يكون من كلام الله، أو من كلامها. (هُنَالِكَ) في ذلك المكان أو الوقت الذي رأى الأشياء في غير أوانها، وعلم منزلتها، وكرامتها على الله، (دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ): طمع في الولد من العاقر، ورغب في أن يكون له ولد. (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ): من غير أسباب ظاهرة (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كما وهبتها لأم مريم العجوز العاقر (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) مجيبه. (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) أي: جنس الملائكة فإن المنادي جبريل وحده، (وَهُوَ قَائِمٌ): في الصلاة، (يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ الله) أي: بأن الله، (يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) أي: بولد من صلبك اسمه يَحْيَى سمي به لأنه أحياه الله بالإيمان، (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي: بعيسى سمي بالكلمة لأنه أوجده بخطاب كن دون أب، وهو أول من صدق عيسى، كانا ابني خالة، وكانت أم يَحْيَى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، وقيل بكلمة من الله أي: بكتاب الله، (وَسَيِّدًا): حليمًا يفوق في الخلق والكرم والدين، (وَحَصُورًا): لا يأتي النساء أو الذي لا يولد له أو الذي لا ينزل الماء وقيل

_ (1) لا يخفى ما فيه من بعد.

والدين، (وَحَصورًا): لا يأتي النساء أو الذي لا يولد له أو الذي لا ينزل الماء وقيل حصورًا في حبس النفس عن الشهوات، وفي الحديث: " كل ابن آدم يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدًا وحصورًا " ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها فقال: " كان ذكره مثل هذه القذاة ". (وَنَبِيًّا): ناشئا، (مِنَ الصَّالِحِينَ) أو كائنا ممن لم يأت ذنبًا. (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استبعاد من حيث العادة واستعظام أو اشفهام عن كيفية حدوثه، (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ

(42)

وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ): لا تلد. (قَالَ): أي الملك، (كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) أي: يفعل ما يشاء من العجائب مثل ذلك الفعل، فكذلك متعلق يفعل وقيل: " كذلك الله " مبتدأ وخبر و " يفعل ما يشاء " بيان أو تقديره: الأمر كذلك، و " الله يفعل " بيان. (قَالَ رَبّ اجْعَل لّي آيةً) علامة أستدل على وجود الولد، فأزيد في العبادة شكرًا لك، (قَالَ): الله، (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي: لا تقدر عليه مع أنك سوى صحيح تقدر الحمد والتسبيح، (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا): إشارة بنحو يد ورأس وحاجب، والاستثناء متصل جعله من جنس الكلام؛ لأنه فهم من الرمز ما يفهم من الكلام أو منقطع (وَاذْكُر ربَّكَ كَثِيرًا): في أيام الحبسة، (وَسَبّحْ بِالْعَشِيِّ): آخر النهار. (وَالإِبْكَارِ): أول النهار. * * * (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ

أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) * * *

(وَإِذْ قَالَتِ المَلائكَةُ) أي: جبريل وهو من جنس الملك، (يَا مَريمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ) اختارك أولاً لشرفك، (وَطَهَّرَكِ): من الأكدار والوساوس، وقيل من الحيض أو من تهمة اليهود (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ): مطلقًا أو على عالمي زمانها، (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرت بالخشوع والطاعة وغاية الخضوع والصلاة مع الجماعة، وجماعة الرجال أفضل أو كوني معهم، قيل ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة حتى نزل الماء الأصفر في قدميها، (ذلِكَ): القصص، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ): من الغيوب التي لا تعرفها إلا بالوحي، (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلامَهُمْ): ليعلموا، (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ): في كفالتها وذلك أن أمها يوم ولدتها أتَت بها سدنة بيت المقدس وقالت: " دونكم هذه النذيرة فإني حررتها فتنافس الأحبار

فيها لأنها ابنة إمامهم فأقرعوا بالأقلام التي يكتبون بها التوراة عليها؛ فخرجت القرعة لزكريا فكفلها. (إِذ قَالَتِ المَلائكَة) أي: جبريل بدل من إذ يختصمون على أن الاختصام، والبشارة في زمان متسع أو من إذ قالت، (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ): من الله أى: عيسى، (اسْمُه) ذكر ضمير الكلمة؛ لأن المسمى مذكر، (المَسِيحُ) معرَّب مسيحا بالعبرية أي: المبارك قال بعض السلف لكثرة سياحته سمي به، أو لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برئ، (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) نسبه إلى أمه حيث لا أب له، (وَجِيهاً): له وجاهة ومكانة (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) نصب وجيهًا ومن المقربين على الحال من كلمة؛ لأنها نكرة موصوفة، (وَيكَلِّمُ النَّاسَ)، عطف

على وجيها، (فِي الْمَهْدِ): طفلاً وهو آية (وَكَهْلاً) بالمرة، وقيل إنه رفع شابًّا فامراد كهلاً بعد نزوله فهو آية أخرى قيل: في ذكر " وكهلاً " بشارة لمريم ببقائه أو إشارة إلى أنه لا يصل إلى سن الشيخوخة أو إلى أن كلامه فِي الحالتين من جنس واحد، (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي: في قوله وعمله عطف على وجيهًا أو على في المهد. (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) استبعاد عادي؛ لأنها كانت محررة لله والمحررة لا تتزوج أبدًا. (قَالَ): جبريل، (كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أي يخلق مثل ذلك الأمر، (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي: إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: احدث فيحدث، كان تامة، والمراد تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف أو القول حقيقي، (وَيُعَلِّمُهُ

الْكِتَابَ) أي: الكتابة أو جنس الكتب المنزلة وهو عطف على يبشرك أو وجيها أو كلام مبتدأ من تمام بشارة مريم، (وَالْحِكْمَةَ): الفهم أو معاني كلام الله وقد مر، (وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) نزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى، وكان يحفظهما. (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تقديره ويجعله رسولاً مخبرًا بأني قد جئتكم أو عطف على وجيهًا أو كهلاً وطفلاً مضمنا معنى النطق كأنه قال: وناطقًا بأني، وتخصيص بني إسرائيل بتخصيص بعثته بهم أو للرد على من قال: إنه ليس مبعوثًا إليهم، (أَني أَخْلُقُ لَكُم) أقدر وأصور (مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطيرِ): مثل صورته بدل من " أني قد جئتكم " أو من آية أو تقديره: هي أني أخلق (فَأَنفُخُ فِيهِ) أي: في المثل، فالضمير له كاف (فَيَكونُ طَيْرًا يِإِذْنِ اللهِ) أي: حيًّا طيارًا بإذن الله، (وأُبْرِئُ الأَكْمَهَ): من ولد أعمى، وقيل من يبصر نهارًا لا ليلاً، وقيل بالعكس، (وَالْأَبْرَصَ وَأُحْييِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) تكرار " بإذن الله " لدفع وهم الألوهية فإن الإحياء ليس من فعل البشر، (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ): الآن، (وَمَا

تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ): للغد، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): مصدقين للحق. (وَمُصَدِّقًا) منصوب بفعل مقدر أي: وجئتكم مصدقًا (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ): لكتاب أنزل من قبلي، (مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) تقديره: وقد جئتكم لأحل، قيل عطف على معنى مصدقًا نحو: جئتك معتذرًا ولأطيب قلبك، (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، في شرع موسى كالشحوم، ولحوم الإبل، وغيرهما، وفيه دلالة على أن شرعه نسخ بعض شرع موسى، وهو الصحيح من القولين، (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ): حجة على صدقي، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ): فيما أقول. (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ): لما أظهر المعجزة شرع في الدعوة، وقيل الآية قوله: " إن الله ربي وربكم " فإنه المجمع عليه بين الأنبياء والفارق بين النبي والساحر، (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي: طريق مشهود له بالاستقامة، (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ): تحقق عنده تحقق المحسوسات، (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ) أي: من يتبعني إلى الله أو إلى بمعنى مع وقيل بمعنى في أو اللام أو تقديره: من أنصاري ذاهبًا إلى الله أو في الدعوة إلى الله، (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) من الحور، وهو البياض الخالص، وحواري الرجل خالصته، وقيل: كانوا قصارين سموا بذلك لبياض أثوابهم، وقيل: ملوكًا لا يلبسون إلا البيض، (نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ) أي: أنصار دينه، (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا

مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: مع الأنبياء فإنهم شهداء لأتباعهم، وقيل: مع الشاهدين بوحدانيتك، (وَمَكَرُوا) أي: الذين أحس منهم الكفر في قتل عيسى، (وَمَكَرَ اللهُ): جازاهم على مكرهم حين رفع عيسى، وألقى شبهه على أحد، فأخذوه، وقتلوه، (وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أقواهم وأقدرهم. * * * (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ

(55)

مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) * * * (إَذْ قَالَ اللهُ) ظرف لمكر الله، (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) المراد من الوفاة ها هنا النوم، وعليه الأكثرون أو في الآية تقديم وتأخير تقديره إني رافعك إليَّ ومتوفيك يعني بعده أو توفاه الله ثلاث ساعات حين رفعه إليه أو سبع ساعات (1) ثم أحياه أو متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت أي: قابضك من الأرض وافيًا لم ينالوا منك شيئًا من توفيت مالي، (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) إلى محل كرامتي، (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ

_ (1) كلام باطل يتفق مع أساطير النصارى قاتلهم الله. قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: اعْتَرَفُوا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَّفَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: 117] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ فِيهَا وَالثَّانِي: فَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهَا، أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُتَمِّمٌ عُمُرَكَ، فَحِينَئِذٍ أَتَوَفَّاكَ، فَلَا أَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكَ، بَلْ أَنَا رَافِعُكَ إِلَى سَمَائِي، وَمُقَرِّبُكَ بِمَلَائِكَتِي، وَأَصُونُكَ عَنْ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِكَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَالثَّانِي: مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُمِيتُكَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالُوا: وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَصِلَ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى قَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْرَمَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَالَ وَهْبٌ: تُوُفِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ وَثَانِيهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللهُ وَرَفَعَهُ الثَّالِثُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ تَعَالَى تَوَفَّاهُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزُّمَرِ: 42]. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَأَمَّا كَيْفَ يَفْعَلُ، وَمَتَى يَفْعَلُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ أَنَّهُ حَيٌّ وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سَيَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَنْ شَهَوَاتِكَ وَحُظُوظِ نَفْسِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِرْ فَانِيًا عَمَّا سِوَى اللهِ لَا يَكُونُ لَهُ وُصُولٌ إِلَى مَقَامِ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَأَيْضًا فَعِيسَى لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ صَارَ حَالُهُ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي زَوَالِ الشَّهْوَةِ، وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، وَلَمَّا عَلِمَ اللهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ هُوَ رُوحُهُ لَا جَسَدُهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ بِتَمَامِهِ إِلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَبِجَسَدِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النِّسَاءِ: 113]. وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ أَجْعَلُكَ كَالْمُتَوَفَّى لِأَنَّهُ إِذَا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَأَثَرُهُ عَنِ الْأَرْضِ كَانَ كَالْمُتَوَفَّى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُشَابِهُهُ فِي أَكْثَرِ خَوَاصِّهِ وَصِفَاتِهِ جَائِزٌ حَسَنٌ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ الْقَبْضُ يُقَالُ: وَفَّانِي فُلَانٌ دَرَاهِمِي وَأَوْفَانِي وَتَوَفَّيْتُهَا مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ دَرَاهِمِي إِلَيَّ وَتَسَلَّمْتُهَا مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا تُوُفِّيَ بِمَعْنَى اسْتَوْفَى وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ كَانَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَإِصْعَادُهُ إِلَى السَّمَاءِ تَوَفِّيًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ التَّوَفِّي عَيْنَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تَكْرَارًا. قُلْنَا: قَوْلُهُ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّوَفِّي وَهُوَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا بِالْمَوْتِ وَبَعْضُهَا بِالْإِصْعَادِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ كَانَ هَذَا تَعْيِينًا لِلنَّوْعِ وَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: مُتَوَفِّي عَمَلِكَ بِمَعْنَى مُسْتَوْفِي عَمَلِكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أَيْ وَرَافِعُ عَمَلِكَ إِلَيَّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِقَبُولِ طَاعَتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ فِي تَمْشِيَةِ دِينِهِ وَإِظْهَارِ شَرِيعَتِهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ وَلَا يَهْدِمُ ثَوَابَهُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجْرِي الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا. الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهَا إِلَى تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَفَعَهُ حَيًّا، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِي إِيَّاكَ فِي الدُّنْيَا، وَمِثْلُهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا تُغْنِي عَنِ الْتِزَامِ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ (مفاتيح الغيب 8/ 237 - 238)

كَفَرُوا): من سوء جوارهم، (وَجَاعِلُ الذِينَ اتَّبَعُوكَ): هم المسلمون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ومن تبعه من النصارى. أو الحواريون، (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى

يَوْمِ الْقِيَامَةِ): بالغلبة والعزة وإلى الآن لم تسمع غلبة اليهود، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ): أيها التابعون والكافرون، (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر عيسى ودينه. (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا) بالسبي والقتل والجلاء وهو بيان حال الفريقين لا تفصيل الحكم الأخروي، لأنه ينافيه قوله: في الدنيا، (وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) لا في الدنيا، ولا في الآخرة. (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ): بلا نقص، (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): لا يرحمهم فهو سبحانه لا يظلم. (ذلِكَ): ما سبق من القصص، (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ): حال من مفعول نتلو، أو خبر ذلك ونتلوه حال والعامل معنى الإشارة أو خبر بعد خبر، (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي من القرآن المحكم الممنوع عن الباطل أو من اللوح المحفوظ، أو من الذكر المشتمل على الحكم. (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ): شأنه الغريب كشأنه، (خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) أي: خلق قالبه من تراب، والجملة مفسرة للتمثيل، (ثمَّ قَالَ لَهُ كن): بشرًا، (فَيَكُون) حكاية حال ماضية شبه الغريب وهو ما لا أب له بالأغرب وهو ما لا أمَّ ولا أبَ له ليكون أحسم لمادة شبهة الخصم. (الحَقُّ مِن ربك) أي: هو الحق أو الحق المذكور من الله، (فَلاَ تَكُن مِّنَ الُممْتَرِينَ) خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد ثباته ونهي غيره عن الشك.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ): في عيسى، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العِلْمِ)، بأنه عبد الله ورسوله، (فَقُلْ تَعَالَوْا): هلموا، (نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)، أنفسنا: رسول الله، وعلي بن أبي طالب عليهما الصلاة والسلام، والعرب تسمى ابن عم الرجل نفسه، وأبناءنا: الحسن، والحسين، ونساءنا: فاطمة رضى الله عنهم هكذا ذكره السلف، وقيل: معناه يدع كلٌّ مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة، وقدم الأبناء والنساء على النفس؛ لأن الرجل يقدمهم على نفسه ويفدى بنفسه لهم، (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) نتضرع في الدعاء أو نتلاعن من الابتهال الالتعان (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) الفاء على المعنى الأول ألصق، وسبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة في وفد نجران النصارى يحاجون في عيسى يزعم بعضهم أنه وهو الله، وبعضهم أنه ولد الله وبعضهم أنه ثالث ثلاتة، فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى بضع وثمانين آية، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ودعاهم إلى المباهلة فقالوا: دعنا

ننظر، فاستشاروا فقال كبيرهم: ما لاعَنَ قوم نبيًا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإني أراهم وجوهًا لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزال، فأتوا وقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألاَّ نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ونبذل لك الخراج. (إِن هَذَا) أي: قصص عيسى ومريم، (لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ): دون ما ذكروه، (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ) ردًّا على النصارى في تثليثهم، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) فلا أحد يساويه في القدرة، والحكمة، فلا إله غيره، (فَإِن تَوَلَّوْا) عما أوحيت إليك، (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)، وضع المظهر موضع المضمر، دلالة على أن الإعراض عن التوحيد (1) والحجج إفساد للدين.

_ (1) في الأصل " عن التوحيد " * * *

(64)

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) * * * (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَاب): اليهود، والنصارى، ومن جرى مجراهم، (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سوَاءٍ): مستوية، (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ): لا يختلف فيها رسول، ولا كتاب، والكلمة تطلق على الجملة وتفسيرها قوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ): نوحده بالعبادة، (وَلاَ نشْرِكَ بِه شَيْئًا): في استحقاق العبادة، (ولاَ يَتخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ):

لا يطيع بعضنا بعضًا في معصية الله، أو لا نسجد لأحد، قيل: كما اتخذت النصارى عيسى واليهود عزيرًا، (فَإِنْ تَوَلَّوْا): عن إجابة التوحيد، (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ): مقرون بالتوحيد دونكم. (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) تنازعت نصارى نجران، وأحبار اليهود فى أن كلاًّ منهما ادعوا أن إبراهيم منهم، (وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ)، الجملة حالية أي: اليهودية والنصرانية حدثتا بنزولهما على موسى وعيسى،

وإبراهيم قبلهما بدهر طويل، فكيف يكون عليهما؟!! (أَفَلاَ تَعْقِلُون): فتدعون المحال. (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ): ها: حرف تنبيه، وقيل: أصله أأنتم على الاستفهام التعجبي، فقلبت هاء وأنتم مبتدأ خبره هؤلاء، والجملة التي بعده مبينة للأولى، وقيل: هؤلاء بمعنى الذين، وحاججتم صلته، وقيل: هؤلاء نداء أي: أنتم يا هؤلاء الحمقى جادلتم عنادًا فيما وجدتموه في كتابكم، ولكم به علم، (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ): ولم يذكر في كتابكم من دين إبراهيم، فإنه ربما يجادل الرجل فيما يعلم عنادًا لكن فيما لا يعلم لا يبحث عنه إلا فهمًا وطلب علم، (وَاللهُ يَعْلَمُ): شأنه، (وَأَنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ). (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانيًّا)، صرح بما دلت عليه الحجة، (وَلَكِن كان حَنِيفًا): مائلاً عن الباطل إلى الحق، (مُسْلِمًا): منقادًا لله (وَمَا كَانَ مِنَ الُمشْرِكِينَ) تعريض بهم لإشراكهم به عزيرًا والمسيح ورد على مشركي قريش في زعمهم أنَّهم على دين إبراهيم، (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ)، أقربهم وأحقهم به، (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ): على دينه، (وَهَذَا النبِيُّ وَالذِينَ آمَنُوا): من المهاجرين والأنصار، ومن بعدهم في الحديث: " إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي " ثم قرأ الآية، (وَاللهُ وَلِيُّ الُمؤْمِنِينَ): ينصرهم لإيمانهم برسله.

(72)

(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: اليهود حين دعوا بعض الصحابة إلى اليهودية (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) لو بمعنى أن، (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)، فإن المؤمنين لا يقبلون قولهم، ويحصل لهم إثم (وَمَا يَشْعُرُون) اختصاص ضرره بهم. (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ): من التوراة والإنجيل أو القرآن، (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ): صدقها. (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ): تخلطونه بما تخترعونه حتى لا يميز بينهما، أو لم تجعلونه ملتبسًا بسبب خلط الباطل الذي تكتبون في خلاله أو تخلطون الإيمان بعيسى بالكفر بمحمد، (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ): نعت محمد عليه الصلاة والسلام، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): عالمون بحقية ما تكتمون. * * * (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ

مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) * * * (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ)، أوله سمي وجهًا لأنه أول ما يواجهه الناظر، (وَاكْفُرُوا آخرَهُ لَعَلهُمْ) أي: المؤمنين (يَرْجِعُون): عن الإسلام، أطلع الله نبيه على مكيدة اليهود، فإنهم اشتوروا أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح فإذا جاء آخر النهار ارتدوا؛ ليقول المسلمون: ما رجعهم إلى دينهم إلا اطلاع نقيصة في ديننا ولعلهم يرجعون عن الإسلام. (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ): لا تعترفوا، ولا تظهروا التصديق إلا لأشياعكم، (قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ): يهدى من يشاء، (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ)، متعلق بلا تؤمنوا أي: لا تعترفوا بأن يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم من العلم، والمعجزات، ولا بأن يغالبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لأشياعكم،

ولا تفشوه لا إلى المسلمين ولا إلى المشركين يعني: إن علمكم بذلك حاصل، لكن لا تظهروه وأوثر في العطف كلمة " أو " ليفيد العموم مثل: " وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " [الإنسان: 24]، وقوله: " إن الهدى هدى الله " جملة معترضة دالة على أن كيدهم لا طائل تحته، وقيل: قد تم الكلام عند قوله: " إلا لمن تبع دينكم "، والمعنى على الوجهين الأولين الآتيين ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر، وهو إيمانكم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم قبل ذلك ثم أسلم لعلهم يرجعون، فإن رجوعهم أرجى عندكم، وأشجى لحلوق المسلمين حينئذ، ففى موقع " أنْ " يؤتى ثلاثة أوجه: الأول: أن يتعلق بفعل مضمر على حذف اللام أي وقل فعلتم ما فعلتم من الكيد لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يترتب من غلبتهم بالحجة يوم القيامة، أي: لم يكن لكم داع إلى هذا الكيد سوى الحسد، ووجه العدول عن الواو إلى حينئذ الإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل بكونه سببًا للحسد. الثاني: أن يكون الخبر إن الهدى وهدى الله بدل من الهدى وحين أو بمعنى إلى أن يعني حتى يحاجوكم فيدحضوا حجتكم. الثالث: أن ينتصب بفعل مضمر تقديره قل. إن الهدى هدى الله ولا تنكروا أن يؤتى أحد أو يكون لأحد وسيلة غلبة عليكم عند الله، ويدل على هذا المضمر لا تؤمنوا إلا

لمن تبع دينكم؛ لأن معناه حينئذ لا تقروا بحقية دين لأحد إلا لمن هو على دينكم فإنه لا دين سواه يماثله، وهذا إنكار لأن يؤتى أحد مثل دينهم، وقد بسطت الكلام هنالك فاستفده، (قُلْ إِن الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ) فضله (عَلِيمٌ): بكل شيء. (يَّخْتَص بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ): لحكمته، (وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) هذا كله رد وإبطال لزعمهم الفاسد. (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)، كعبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا وكل ومائتي أوقية من ذهب، فأداه، (وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّه إِلَيْكَ)، كفنحاص بن عازوراء أودع دينارًا فجحده، (إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْه قَائِمًا). إلا مدة دوامك قائمًا على رأسه مبالغًا بالتقاضي أو الترافع، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي: ترك الأداء بسبب أنَّهم قالوا: ليس علينا في شأن العرب ذم وعتاب، وأحل الله أموالهم لنا (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ): اخترعوا، واختلقوا، وليس في التوراة شيء مما قالوا، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ): إنهم كاذبون. (بَلَى) أي: بلى عليهم فيهم سبيل، وقوله: (مَنْ أَوْفَى) إلى آخره استئناف، (بِعَهْدِهِ) أي بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وأداء الأمانة أو بعهد نفسه، (وَاتَّقَى) أي: الكفر والخيانة، (فَإِنْ الله يُحِبُّ الُمتَّقِينَ) أي: يحبه فإنه متق، وقيل: بلى بمعنى لكن.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ): يستبدلون بما عاهدوا من الإيمان برسله، (وَأَيْمَانِهِمْ)، وبما حلفوا من قولهم: والله لنؤمنن به ولننصرنه، (ثَمَنًا قَلِيلًا): من الدنيا رشوة في تحريف التوراة، وتبديلُ نعتِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ): لا نصيب، (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ): بما يسرهم، (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ): نظر رحمة (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ): ولا يثني عليهم أو لا يطهرُهم من الذنوب، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فعلى هذا الآية في اليهود أو نزلت في ترافع بين صحابي ويهودي في أرض فتوجه الحلف على اليهودي، أو في رجل أقام سلعة في سوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها أحدًا من المسلمين. (وَإِنَّ مِنْهُمْ): من اليهود، والنصارى، (لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ) يميلونها عن المنزل إلى المحرف ويفتلونها عنه، فالباء للاستعانة أو الظرفية، والمضاف محذوف أي:

بقراءة الكتاب (لِتَحْسَبُوهُ)، أيها المؤمنون، وضمير المفعول لما حصل باللي وهو المحرف، (مِنَ الْكِتَابِ) التوراة، (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ): التوراة، (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ): تأكيد لقوله وما هو من الكتاب، وتشنيع عليهم (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ): أنَّهم كاذبون. (مَا كَانَ لِبَشَرٍ): ما ينبغي له، وما يتأتى منه، (أن يَّؤْتِيَهُ اللهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ): الحكمة أو إمضاء الحكم من الله، (وَالنبوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كونوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ)، رد على اليهود حين قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال صلى الله عليه وسلم معاذ الله ما بذلك بعثني؛ فنزلت، أوْ رد على النصارى حيث قالوا: إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربًّا فنزلت، (وَلَكِنْ): يقول، (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ): حكماء،

وحلماء وعلماء، أو فقهاء، أو من يرب علمه بعمله أو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ): أي: بسبب كونكم معلمين الكتاب ودارسين له.

(81)

(وَلاَ يَأمُرَكُمْ): بقراءة النصب عطف على " ثم يقول "، ولا لتأكيد معنى النفي، وبالرفع استئناف، وقيل حال، (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا): كما فعلت النصارى، (أَيَأمُرُكُم)، استفهام تعجب، والضمير للبشر، (بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مسْلِمُونَ): منقادون لله. * * * (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) * * * (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ): كل نبي بعثه من لدن آدم، (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ)، أي رسول كان واللام لتوطئة القسم، وما شرطية، وقوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)، جواب القسم والشرط أو موصولة أي: للذي آتيتكموه، وقرئ بكَسر اللام وحينئذ ما مصدرية أي: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، ثم مجيء مصدق أخذ الله الميثاق لتؤمنن به أو المراد من النبيين أنبياء بني إسرائيل، والمراد من رسول مصدق محمد عليه الصلاة والسلام، أو النبيين عام كما تقدم، لكن المراد من رسول محمد عليه الصلاة والسلام كما صح عن علي، وابن عباس رضى الله عنهم ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ): بالإيمان والنصر، (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي): عهدي، (قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ): الله، (فَاشْهَدُوا): ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار أو قال الله تعالى للملائكة: " فاشهدوا " (وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) على إقراركم وتشاهدكم.

(فَمَن تَوَلَّى): أعرض، (بَعْدَ ذَلِكَ): الميثاق، (فَأُولئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): الخارجون عن الإيمان. (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ)، عطف جملة على جملة، والهمزة توسطت للإنكار، وقدم المفعول؛ لأنه المقصود بالإنكار قيل: نزلت في أهل الكتاب حين اختصموا فزعم كل فريق أنه على دين إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " كل منكم برئ من دينه " فقالوا: لا نرضى بقضائك (وَلَهُ أَسْلَمَ): انقاد، (مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا): الملائكة والمسلمون، (وَكَرْهًا): الكفرة حين البأس أو لأنهم مسخرون تحت حكمه وسلطانه أو خوف السيف والسبي أو المراد منه الأسير يجاء به فى السلاسل قيل هذا يوم الميثاق حين قال لهم: " ألست بربكم " (الأعراف: 172)، فقال بعضهم: " بلى " (الأعراف: 172) كرهًا، ونصبهما على الحال أي: طائعين، ومكرهين، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) وعيد لهم أي: أيبغون غير دين الله مع أن المرجع إليه. (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) من الصحف والوحي، (وَالأَسْبَاطِ): هم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن ربِّهِمْ): أمر للرسول أن يخبر

عن نفسه ومتابعيه أو أن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك تعظيمًا له، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ): بالتصديق، (وَنَحْنُ لَهُ): لله، (مُسْلِمُونَ): منقادون مخلصون. (وَمَن يَّبْتَغ غَيْرَ الإِسْلامِ): غير الانقياد، والتوحيد، (دِينا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) بإبطال فطرته السليمة. (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ)، استفهام إنكار (قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا) عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، (أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) البراهين على صدق ما جاء به الرسول (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان. (أوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلاِئكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي: يوم القيامة. (خَالِدِين فِيهَا): في اللعنة، (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ): لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر نظر رحمة إليهم. (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): الارتداد، (وَأَصْلَحُوا): ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ): لذنبهم، (رَحِيمٌ): فيقبل توبتهم، الآية في رجل من الأنصار

آمن ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة؟ فنزلت فرجع وأسلم، وقيل: في اليهود آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ثم كفروا لما بعث. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)؛ لأن توبتهم حين إشرافهم على الموت، (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام بعد ما آمنوا بموسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو في اليهود والنصارى، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن قومًا أسلموا ثم ارتدوا، ثم أسلموا ثم ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا): نصب على التمييز، (وَّلَوِ افْتَدَى به) أي: لا يقبل منهم ذلك بوجه من الوجوه من التصدق وغيره ولو كان بوجه الافتداء، وقيل: الواو مقحمة، (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) فى رفع العذاب، وفي الحديث (يقال للرجل يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ يقول: نعم، فيقال له: قد أردت منك شيئًا أهون من ذلك وأقل فأبيت، فيرد إلى النار). * * *

(92)

(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) * * * (لَن تَنَالُوا البِرَّ): الجنة، أو التقوى، أو كمال الخير، (حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبونَ) أي: بعضه، والمراد منه أداء الزكاة أو صدقة السنة، ويدل على الثاني أن كثيرًا من الصحابة تصدقوا بأراضيهم، وأعتقوا جواريهم حين نزلت، أو المعنى: لن تنالوا البر حتى

تنفقوا وأنتم أصحاء أشحاء، (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازى بحسبه. (كُلُّ الطعَامِ) أي: المطعومات، (كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: حلالاً لهم، (إِلا مَا حَرَّمَ)، وهو لحمان الإبل، وألبانها، أو العروق (إِسْرَائِيلُ): وهو يعقوب، (عَلَى نَفْسِهِ) لنذر: نذر في مرض لئن عافاه الله لا يأكل أحب الطعام والشراب ولحم الإبل ولبنه أحب إليه، أو نذر لا يأكل العروق لأن وجعه عرق النسا، أو العروق تضره فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحوم (مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) جاز أن يتعلق بـ حَرَّمَ أو بـ حِلًّا نزلت ردًّا على اليهود حين طعنوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان حرامًا عليه أشياء من لحم، ولبن الإبل أو العروق وأنت تحلله فنزلت إن كل المطعومات حلال على الخلائق قبل نزول التوراة، وبشؤم ذنوبهم حرم في التوراة ما حرم (قُلْ): يا محمد، (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إن لحم ولبن الإبل أو العروق حرام على الأنبياء كلهم فلما قال لهم بهتوا.

(فَمَنِ افْتَرَى): ابتدع، (عَلَى اللهِ الكَذِبَ) بأن الله حرم لحم ولبن الإبل عليهم، (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ): ما علم أن التحريم إنما كان من جهة يعقوب (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أو الآية رد على اليهود حيث زعموا أن كل ما هو حرام عليهم كان حرامًا على الخلائق قبلهم لا أن الله حرم عليهم بشؤم ظلمهم، (قُلْ صَدَقَ اللهُ): في جميع ما أخبر، وكذبتم أنتم، (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا): مائلاً عن الباطل، وهي ملة الإسلام التي في الأصل ملته أو مثل ملته، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): تعريض على اليهود. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ) أي: أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض قبل خلق الأرض بألفي عام، أو بيت بناه ملائكة هم سكان الأرض قبل آدم عليه السلام أو بناه آدم أو أول بيت وضع لعبادة الله، وكانت البيوت قبله، وهو قول على رضى الله عنه، قيل سبب نزوله أن اليهود قالوا: قبلتنا أفضل وأقدم فأنزل الله، (لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي: للبيت الذي ببكة وهي لغة في مكة أو مكة من الفج إلى التنعيم، وَبكة من البيت إلى البطحاء، أو هي البيت والمسجد، وما وراءه مكة أو موضع البيت، (مُبَارَكًا): كثير الخير حال من ضمير الظرف، (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) فإنه قبلتهم ومتعبدهم، (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) كل جبار قصده بسوء كأصحاب الفيل قهره، (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) أي من جملتها أو بدل من الآيات بدل البعض وأتر قدميه في المقام آية بينة، (وَمَن دخَلَهُ) أي: مكة، (كَانَ آمِنًا): من القتل، والغارة ما دام فيه لكن لا يطعم ولا يسقى حتى يخرج فيؤخذ بذنبه، أو من دخله

معظمًا له أمن يوم القيامة من العذاب قيل: جملة شرطية عطف على مقام من حيث المعنى أي أمْنُ من دخله من جملتها. (وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ) أي: قصده على وجه مخصوص، (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) كل مأتى إلى الشيء فهو سبيله، وهو بدل من الناس مخصص له والاستطاعة ألا يكون عاجزًا بنفسه يقدر على الركوب بلا مشقة شديدة وله راحلة وزاد رواح ورجوع فاضل عن نفقة من يلزم عليه نفقته وكسوته، ثم إن اليهود حين أمروا بالحج قالوا: ما وجب علينا فنزل قوله: (وَمَن كَفَرَ) أي: جحد فرضّيته، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) أي: من وجد ما يحج به، ولم يحج حتى مات فهو كفر به وقيل: وضع كفر موضع لم يحج تغليظًا، (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ): النقلية، والعقلية الدالة على صدق القرآن، ومن أنزل عليه، (وَاللهُ)، الواو، للحال، (شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون)، فلا ينفعكم التحريف، والكتمان.

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): عن دينه، وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام، (مَنْ آمَنَ)، مفعول تصدون، (تَبْغُونَهَا عِوَجاً): حال من فاعل تصدون أي: طالبين لسبيل الله اعوجاجًا بتلبيسكم على الناس وتغييركم صفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتحريشكم بين المؤمنين، وهو متعد إلى مفعوليه بلا واسطة، (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) أن الصد عن الإسلام ضلال، وكتمان أمر محمد غواية، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، ولما كان إنكارهم للقرآن مجاهرة منهم قال: (والله شهيد)، ولكن الصد عن الإسلام والتحريف من أسرارهم قال: (وما الله بغافل). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ): ثاني مفعولي يرد فإنه بمعنى التصيير، نزلت إلى قوله (لعلكم تهتدون) فى الأوس والخزرج حين ذكرهم اليهود الحروب وعداوات الجاهلية؛ ليفتتنوا ويعودوا لمثل ما فيهم من الجاهلية (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ): القرآن، وغيره، (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ): الزاهر الباهر السراج الظاهر عليه الصلاة والسلام، (وَمَن يَّعْتَصِم بِاللهِ): يلتجئ إليه ويتمسك بدينه، ويؤمن به، (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ) طريق واضح لا اعوجاج له.

(102)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، أصله وقاة فقلبت الواو تاء كتؤدة وتخمة، وهو أن يطاع ولا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وكثير من

السلف قالوا: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: " فاتقوا الله ما استطعتم " (التغابن: 16)، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إنها لم تنسخ لكن حق تقاته أن يجاهد في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم، وأبنائهم، (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تكونن على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت فهو في الحقيقة أمر بدوام الإسلام، (وَاعْتَصِمُوا): واسمتمسكوا، (بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) أي: بدين الله أو بالجماعة أو بعهد الله أو بالقرآن، (وَلَا تَفَرَّقُوا) أمرهم أن يكونوا على الحق مجتمعين ثم نهاهم عن التفرقة كما افترق أهل الكتاب، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ): التي من جملتها الإسلام والتألف، (إِذ كنتُمْ): أيها الأوس والخزرج (أَعْدَاءً): وقع بينكم القتال والخوف، (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام، (فَأَصْبَحتم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا): متحابين، (وَكنتُمْ): في الجاهلية (عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ): مشفين على الوقوع في جهنم لكفركم وشفا بمعنى الطرف، (فَأَنْقَذَكُمْ): أنجاكم (مِّنْهَا): بالإسلام، والضمير للشفا، أو للحفرة أو للنار، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التبيين، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرادة ثباتكم على الهدى. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ)، من للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف من فروض الكفايات وللمتصدى له شروط قال الضحاك: هم الصحابة، والمجاهدون، والعلماء، والخطاب للجميع؛ لأنه لو تركوه أثموا جميعًا أو للتبيبن كما ورد (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (أُمَّةٌ): جماعة، (يَدْعُونَ): الناس، (إِلَى

الخَيْرِ): اتباع القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، (وَيَأْمرُونَ بِالمَعْروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ الُمنكَرِ)، عطف الخاص على العام لشرفه؛ لأن الخير أعم، (وأُولَئِكَ هُم الُمفْلِحونَ) المخصوصون بكمال الفلاح، (وَلاَ تَكونُوا كَالَّذِينَ

تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ): الحجج المبينة للحق كالأمم السابقة، (وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ): وعيد لهم وتهديد للتشبه بهم، (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ): تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة والجماعة وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أهل البدعة أو المؤمنين والكافرين أو المخلصين والمنافقين، قيل: البياض والسواد كنايتان عن بهجة السرور وكآبة الحزن، والأصح أنهما علامتان حقيقيتان، والظرف لمتعلق لهم أو نصب بإضمار اذكر (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم: (أَكَفَرتم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) يوم الميثاق أو هم المرتدون أو هم المنافقون تكلموا بالإيمان أو هم أهل الكتاب، والهمزة للتوبيخ، (فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ): بسبب كفركم. (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ): جنته عبر عنها بالرحمة إشارة إلى أنه لا ينالها من ينالها إلا برحمته، (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أخر ذكرهم ليكون أول الكلام وآخره صفة المؤمنين.

(110)

(تِلْكَ آيَاتُ اللهِ): حججه، (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ): يا محمد (بِالْحَقِّ): متلبسة به لا شبهة فيها، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ)، لأنه حكم عدل لا يجرى في ملكه إلا ما يشاء فلا يحتاج إلى ظلم لأحد فلهذا قال: (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازي بما وعد وأوعد وأما بحث إنه على الظلم قادر لكن لا يظلم كما دل عليه القرآن والأحاديث أو ليس بقادر؛ لأنه محال في حقه - فقد أفردناه في رسالة. * * * (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) * * * (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أي: فيما مضى بين الأمم أو في اللوح المحفوظ أو في علم الله تعالى، (أُخْرِجَتْ): أظهرت (لِلنَّاسِ): يعني هم خير الناس للناس وأنفع الناس للناس، والأصح أنه عام وأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) خير الأمم كلهم، (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) استئناف بين به خيرتهم، (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أخر الإيمان إشعارًا بأن أمرهم ونهيهم للإيمان بالله وإظهار دينه، (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ): بمحمد، (لَكَانَ): الإيمان، (خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ): كعبد الله بن سلام،

(وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ): المتمردون. روي أن اليهود قالت -مع عصابة من الصحابة- نحن أفضل، وديننا خير، فنزلت (كنتم خير أمة) إلخ، (لَن يَّضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى): ضررًا يسيرًا قيل: قصدت اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه فنزلت: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ): ينهزموا، ولا يضروكم بالقتل، (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ): ثم لا يكون لهم النصر أبدًا، (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلةُ) ألزمهم الله المذلة والصغار، (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا): أينما وجدوا وكانوا، (إِلا بِحَبْل مِّنَ اللهِ وَحَبْل منَ النَّاسِ) أي: ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا معتصمين بذمة الله، وعهده، وأمان المسلمين وعهدهم، وهو عقد الذمة، وضرب الجزية والمعاهدة والمهادنة أي: لا عز لهم قط إلا هذه الحالة الواحدة (وَبَاءوا بِغَضَب مِّنَ اللهِ): رجعوا به مستوجبين، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ): الجزية أو الفقر والتذلل كضرب القبة، (ذلِكَ) أي: ضرب المسكنة، والذلة، والبوء بالغضب، (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ): بسبب كفرهم بآية الرجم، وأمثالها، وقتل الأنبياء بسبب الحسد وهم يعلمو أنه غير حق، (ذلِكَ) أي: الكفر، والقتل، وقيل: هذا أيضًا إشارة إلى المشار إليه بذلك الأول أي: الصغار والهوان له سببان (بِمَا عَصَوْا وكَانوا يَعتَدُون): بسبب

عصيانهم واعتدائهم في حدود الله فإن الإصرار والمداومة على الذنوب يفضي إلى الكفر ومقت الله تعالى. (لَيْسُوا سَوَاءً): نزلت في اليهود حين قالت: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، وأرادوا به عبد الله بن سلام وأصحابه أي: ليس أهل الْكِتَاب على حد مستو. (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ)، استئناف بيَّن نفي الاستواء، (قَائِمَةٌ): على الحق مستقيمة، وقيل: قائمة في الصلاة (يتْلُونَ آيَاتِ اللهِ): يقرءون القرآن، أو يتبعونها (آناءَ الليْلِ): ساعاته، (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يصلون التهجد أو العشاء فإن أهل الكتب لا يصلونها، (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، وصفهم بما ليس في اليهود إلا نقيضه كإلحاد في صفاته ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته، وهم مداهنون في الحق متباطئون عن الخير، (وأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ): ممن صلحت أحوالهم عند الله، فاستحقوا رضاه (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ): لا يضيع عند الله، ولا ينقص ثوابه، ولتضمنه معنى الحرمان عدي إلى مفعولين، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) لم يقل عليهم بهم إشعارًا بأنهم موصوفون بالتقوى أيضًا، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ): لن تدفع (عَنْهمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم منَ اللهِ): من عذابه، (شَيْئًا وأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ): ملازموها، (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثل مَا يُنفِقُون): مثل ما ينفق الكفار، وقيل: نفقة اليهود على علمائهم، (فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ): برد شديد، أو سموم حارة (أَصَابَتْ حَرْثَ): زَرع، (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): بالكفر والمعاصي، (فَأَهْلَكَتْهُ): فلم ينتفعوا بحرثهم لدى احتياجهم إليه، فكذا أعمال الكفار، وتقديره: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح ليطابق المثلان، (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ)، بأن فعل بهم ما ليسوا أهلاً له، (وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنَّهُم ارتكبوا ما استحقوا العقوبة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً) بطانة الرجل خاصة أهله الذي يطلعه على أسراره، (مَن دُونِكُمْ): من دون المسلمين، متعلق بـ لا تتخذوا أو صفة بطانة أي لا تتخذوا أولياء أصفياء من غير أهل ملتكم، (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا): لا يقصرون في الفساد، وخبالاً مفعول ثان لتضمين معنى المنع، والجملة مستأنفة أو صفة بطانة، وكذا الجملتان بعده، (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): تمنوا شدة ضرركم، (قَدْ بَدَتِ البَغضَاءُ): ظهرت علامة العداوة، (مِنْ أَفوَاهِهِمْ): فلتات كلامهم، (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ): من البغضاء (أَكْبَرُ) أكثر مما بدا، (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ): الدالة على صلاح أحوالكم، (إِن كُنتُمْ تَعْقِلُون): ما بيّن لكم، نزلت في مواصلة اليهود لما بينهم من القرابة أو في مصافاة المنافقين، (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم، والجملة بعده بيان خطئِهم أو أولاء نداء أو بمعنى الذين كما مر، (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) أي: بجنس الكتاب حال من مفعول لا يحبون

أى: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضًا، وهم لا يؤمنون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم، (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا): نفاقًا، (وَإِذا خَلَوْا): خلا بعضهم مع بعض، (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ): أي: من أجله تأسفا حيث لم يجدوا سبيلاً إلى الغلبة عليكم، وهذا يدل على أن الآية للمنافقين، (قُلْ): يا محمد، (مُوتُوا بغَيْظِكُمْ): دعاء عليهم بدوام غيظهم وزيادته بتضاعف أهل الإسلام حتى يموتوا به، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): بما فيها من خير وشر، فيجازيكم، وهو يحتمل أن يكون من المقول. (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ): خير ومنفعة، (تَسُؤْهُمْ): تحزنهم، (وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ): ضر وشدة، (يفْرَحُوا بِهَا)، فهم في نهاية العداوة معكم، (وَإِن تَصْبِرُوا): على أذاهم، (وَتَتَّقُوا) موالاتهم أو ما حرم الله، (لاَ يَضُركُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا): كنتم

(121)

فى كنف الله؛ فلا يضركم كيدهم، وضمة الراء في لا يضر كضمة مد للاتباع؛ لأنه جزاء شرط مضارع مضاعف، فجاز فيه أربعة أوجه، وقرئ لا يضركم بكسر الضاد من ضاره بمعنى ضره (إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ): علمه فيجازيهم بما هم أهله. * * * (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) * * * (وَإِذْ غَدَوْتَ) أي: واذكر إذ غدوت (مِنْ أَهْلِكَ): منزل عائشة رضى الله عنها (تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ): لتسوي وتهيئ لهم، (مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ): مواقف وأماكن له، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَليمٌ): بضمائركم وأحوالكم، هذه وقعة أحد، وقيل يوم

الأحزاب، (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ)، بدل من إذ غدوت أو متعلق بـ سميع عليم، وهما بنو حارثة، وبنو سلمة، (أَنْ تَفْشَلَا): تجبنا وتضعفا، فإنهم هموا بالانصراف عن الحرب، لكن عصمهم الله، (وَاللهُ وَلِيُّهُمَا): ناصرهما فعصمهم عن اتباع الخطرة أو فما لهما (1) تفشلان، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ): لا على العَدَد والعُدَد. (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ ببَدْرٍ) تذكير بقصة إفادتهم التوكل، وهو موضع بين مكة (2)، والمدينة، (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ): بقلة العدد والسلاح، (فاتَّقُوا اللهَ): في الثبات، (لَعَلكُم تَشْكُرُون) عاقبته بمزيد الإنعام، وقيل معناه اتقوني فإنه شكر نعمتي، (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ظرف لنصركم، وهو في بدر، أو بدل ثان من إذ غدوت، وهو في أحد، وقالوا: لم يحصل الإمداد يوم أحد لا بخمسة آلاف ولا بثلاثة؛ لأن المسلمين لم يصبروا بل فروا، (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ)، هو فاعل يكفيكم، (رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ): للنصر، (بَلَى): إيجاب لما بعد لن، أي: بلى يكفيكم، ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى فقال: (إِن تَصْبِرُوا): على العدو، (وَتَتَّقُوا): مخالفتي، (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا): من غضبهم فإنهم رجعوا لحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر، أو من ساعتهم، والمعنى إن يأتوكم في الحال، (يُمْدِدْكُمْ ربّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلاِئكَةِ) في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم (مُسَوِّمِينَ): معلمين بسيما الصوف الأبيض أو بالعهن الأحمر في نواصي خيولهم أو بالعمائم البيض، أو السود أو الصفر أو بسيما القتال

_ (1) في الأصل " قبالهما " والتصويب من الكشاف. (2) في الأصل " المكة ".

أنزل الله الملائكة يوم بدر ألفا كما قال: (فاستجاب لكم أني ممدكم بألف) [الأنفال: 9]، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف، (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ) أي: الإمداد، (إِلا بُشْرَى): بشارة، (لَكمْ): بالنصر، (وَلِتَطْمَئِنَّ): ولتسكن، (قلوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ): لا من عدة وعدد، (العَزِيزِ): الذي لا يغالب في قضائه (الحَكِيمِ) في أفعاله، (لِيَقْطَعَ طَرَفًا) أي: لقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة، أو يهدم ركنا من أركان الشرك، أو متعلق بقوله (وما النصر إلا من عند الله). (مّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ): يخزيهم وأو للتنويع، (فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ): منقطعي الآمال، (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) بل الأمر كله إلى الله، نزلت حين قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلعن فيه على قوم قتلوا سبعين رجلاً من قراء

(130)

الصحابة بعثوا ليعلموا الناس، أو نزلت يوم أحد حين شج في رأسه الأشرف، ويقول " كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيّهم؟! " (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، عطف على الأمر بإضمار أن أي: ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو تعذيبهم أو على شيء أي ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة أو تعذيبهم أو بمعنى إلا أن أي: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم، أو عطف على أو يكبتهم، (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض وقع في البين، وأنت تعلم أن هذا توجيه لو يلائمه سبب النزول يلائم اللفظ والمعنى، (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ): استحقوا التعذيب. (وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ): خلقًا وملكًا فالأمر له لا لغيره، (يَغفِرُ لِمَن يَشَاءُ): غفرانه، (وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ): تعذيبه، (وَاللهُ غَفُورٌ رحِيمٌ): فلا تبادر إلى اللعن، والدعاء عليهم. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا

لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)، أي: لا تزيدوا زيادات مكررة فإنهم إذا بلغ الدَّين محله زادوا في الأجل؛ فاستغرقوا بالشيء الحقير مال المديون، (وَاتقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون): راجين الفلاح، (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ

لِلْكَافِرِينَ): بالتحرز عن متابعتهم، وفيه تنبيه على أن النار بالذات للكافر وبالعرض للعاصي، (وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُو ا): بادروا، (إِلَى مَغفرَةٍ من ربَكُمْ): أعمال توجب المغفرة، كالإسلام، والتوبة، وأداء الفرائض، (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) أي: عرضها كعرضهما قيل فيه تنبيه على اتساع طولها كما قال تعالى: (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن: 54] أي: فما ظنك بالظهائر؟! وقيل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، (أُعِدَّتْ): هيئت، (لِلْمُتَّقِينَ)، فالجنة بالذات للمتقين، وبالعرض لفساق المؤمنين، (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ)، صفة مادحة لهم، (فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاءِ): في اليسر والعسر أو المراد جميع الأحوال؛ لأنه لا يخلو الإنسان منهما، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ): الكافين عن إمضائه مع القدرة

عليه، (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ): التاركين عقوبة من استحقها، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ): إشارة إلى أن هؤلاء في مقام الإحسان، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً): قبيحة بالغة في القبح، نزلت حين قال المؤمنون: " كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا؛ لأنَّهُم إذا أذنبوا ذنبًا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة على عتبة أبوابهم، أو نزلت لرجل قبَّل امرأة وعانقها ثم ندم، وقيل الفاحشة الزنا والكبائر، (أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ): بالصغائر وما دون الزنا، (ذَكَرُوا الله): أي: وعيده، أو ذكروه باللسان: (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ)، استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوف والمعطوف عليه دال على سعة رحمته، (وَلَمْ يُصِروا عَلَى مَا فَعَلوا): لم يقيموا على ذنوبهم، بل أقروا واستغفروا وفي الحديث " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة "، (وَهُمْ يَعْلَمُون): أنها معصية أو أن الإصرار ضار أو أن الله يملك مغفرة الذنوب، أو أنَّهم إن استغفروا غفر لهم (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغفرَةٌ مِّن ربِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا)، أي: من تحت غرفها وأشجارها (الأَنهَارُ خَالِدِينَ فيهَا)، خبر للذين إذا فعلوا إن جعلته مبتدأ، وإلا فجملة مستأنفة مبينة لما قبلها، (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) أي: ذلك، يعني المغفرة والجنات، وكم فرق بين القبيلتين فصل آيتهم بالمحبة والإحسان، وفصل آية هؤلاء بالعمل والأجر، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي: وقائع سنها الله في الأمم الماضية، وقيل معنى السنن

الأمم، (فَسِيروا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ): فتعتبروا ولا تحزنوا على ما وقع عليكم يوم أحد فإني آخذهم أشد الأخذ عاقبة الأمر لما فرغ عن حديث الربا الذي هو حرب مع الله كما قال الله استأنف حديث الجهاد الأكبر الذي كان الكلام فيه، (هَذا بَيَانٌ للنَّاسِ) أي: القرآن، وقيل إشارة إلى مفهوم قد خلت، أو فانظروا أي: القرآن بيان الأمور للناس عامة، (وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْمُتَّقِينَ) أي زيادة بصيرة، وزاجر لهم خاصة، (وَلاَ تَهِنوا وَلاَ تَحْزنوا): لا تضعفوا عن الحرب بسبب غلبة الكفار يوم أحد، ولا تحزنوا على ما وقع عليكم، (وَأَنتم الأَعْلَوْن)، والحال إنكم الأعلى والغالب في الدنيا والآخرة، والعاقبة لكم، والخسار لهم، (إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ) متعلق بـ لا تهنوا أي: لا تهنوا إن صح إيمانكم؛ فإن الإيمان يورث قوة القلب، ويمكن أن يتعلق بـ أنتم الأعلون أي: غلبتكم، ونصرتكم متحققة إن كنتم

مؤمنين أي: إن كان إيمانكم متحققًا فالنصرة متحققة، (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ): جراح وكسر يوم أحد، (فقَدْ مَسَّ القَوْمَ): المشركين، (قَرْحٌ مِثْلُهُ): يوم بدر، ولم يجبنوا فأنتم أحق ألا تهنوا، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي: أيام الدنيا أو أيام الغلبة، (نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ): نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة، وتارة لهؤلاء، وهو خبر لتلك، والأيام صفتها، (وَلِيَعلمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا): علم رؤية ومشاهدة أي: ليتميزوا عن المنافقين، وهو عطف على علة محذوفة أي: نداولها ليكون كذا، وكذا، أو ليعلم الله إشارة إلى تعدد العلة أو تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا فعلنا ذلك، (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ)، وليكرم قومًا بالشهادة في سبيله، (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظالِمِينَ): يعني: غلبتهم لا لمحبتهم بل لما ذكرنا، (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: ليطهرهم من الذنوب بما يقع عليهم من قتل وجرح، وجملة " والله لا يحب الظالمين " معترضة، (وَيَمْحَقَ الكَافرِينَ): يهلكهم فإنهم إذا ظفروا بغوا فهو سبب هلاكهم أو مغلوبية المؤمنين لتطهيرهم، ومغلوبية الكفار لإهلاكهم في الدارين، والمحق نقص الشيء قليلاَّ قَليلاً. (أَمْ حَسِبتمْ): بل أحسبتم (أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا منكُمْ) (1) أي: لا تحصل الجنة لكم حتى يرى الله منكم المجاهدين، ويبتليكم بالشدائد أو معناه لا تحصل لكم والحال أنكم لما تجاهدوا كما يقال: ما علم الله في فلان خيرًا، أي: مما فيه خير، (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ): ويرى الصابرين على القتال، أو نصبه بإضمار أن، والواو بمعنى الجمع، (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي: الشهادة أو الحرب فإنها من أسباب الموت، (مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ): تشاهدوا وتعرفوا شدته، (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ

__ (1) لما كان علم الله بالشيء من لوازم تحققه جعل عدم العلم كناية عن عدم ذلك الشىء فصار معنى لم يعلم الله الجهاد لم يجاهد فلما بمعنى لم إلا أن فيه ضربًا من التوقع فدل على نفى الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل.

(144)

وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ): رأيتموه معاينين له حين قتل من قبل من إخوانكم فأنتم تمنيتم غلبة الكفار لأنكم تمنيتم الشهادة أو إذا طلبتم لقاء العدو فاصبروا. * * * (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) * * * (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ): بالموت، أو القتل، فيخلو محمد صلى الله علمه وسلم أيضًا (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ): عن الدين، ورجعتم إلى دينكم الأول وذلك لما شاع يوم أحد أن رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - قد قتل قال المنافقون للمؤمنين: الحقوا بدينكم الأول فنزلت (وَمَن ينقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئًا): بل يضر نفسه، (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ): على نعمة الإسلام (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي: محال أن يموت أحد إلا بقدر الله، (كِتَابًا مُؤَجَّلًا) أي كتب الموت كتابًا مؤقتًا لا يتقدم ولا يتأخر فالتأخير عن القتال والإقدام عليه لا يزيد ولا ينقص في العمر، (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا) أي: من عمله، (نُؤْتِهِ مِنْهَا) إن أردنا، قيل هذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد، وتركوا المركز الذي وقفهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَة): كمن ثبت حتى قتل، (نؤْتِهِ مِنْهَا) أي: من ثوابها، (وَسَنَجْزِي الشاكِرِينَ): الذين لم تشغلهم زينة الدنيا، (وَكَأَيِّنْ) أصله أيّ دخلت الكاف عليها، وصارت بمعنى كم، وأثبتت النون في الخط، وهي تنوين،

عليها، وصارت بمعنى كم، وأثبتت النون في الخط، وهي تنوين، ومعناه كم، (مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي: جموع كثيرة منسوب إلى الربة وهي الجماعة أو علماء كثير، وفاعل قاتل ربيون أو ضمير للنبي ومعه ربيون حال عنه، (فمَا وَهنوا): ما فتروا (لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ سَبِيلِ اللهِ) من قتل بعضهم أو من قتل نبيهم، (وَمَا ضَعُفُوا): عن العدو، (وَمَا اسْتَكَانُوا): ما تخشعوا وما ذلوا لعدوهم (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ): فينصرهم في الدين، (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ)، مع أنَّهم ثابتون

ربانيون مصابون (إِلا أَن قَالُوا) اسم كان (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي

(149)

أَمْرِنَا): صغائرنا، وكبائرنا، (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا): بحولك وقوتك، (وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا): النصر، والعافية، والغنيمة، (وَحُسْن ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ). * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ

الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) * * * (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الذِينَ كَفَرُوا): اليهود، والمنافقين حين قالوا يوم أحد: ارجعوا إلى دين آبائكم (يَرُدوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ): يرجعوكم إلى الشرك، (فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ): مغبونين في الدارين، (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ): ناصركم، (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ): فلا تستنصروهم، (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) لما ارتحل المشركون عن أحد عزموا في أثناء الطريق الرجوع لاستئصال المسلمين، فألقى الله الرعب في قلوبهم فلم يقدروا على الرجوع (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ): بسبب إشراكهم، (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) أي: أشركوا شيئًا لم يزل الله بإشراكه حجة ودليلاً (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي: النار، وضع الظاهر موضع المضمر تغليظًا وتعليلاً، (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ): بالنصر والظفر بشرط الصبر والتقوى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ): تقتلون المشركين أول الأمر يوم أحد (بِإِذْنِهِ): بقضاء الله، (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ): جبنتم، (وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أراد اختلاف الرماة حين انهزام المشركين قال بعضهم ندع مكاننا للغنيمة، وقال بعضهم: نترك الغنيمة، ولا نخالف نبي الله (وَعَصيتم): الرسول بترك المركز، (مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم): الله (مَا تُحِبُّونَ): من الغنيمة، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم أو منعكم نصره، (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا): وهم من ترك المركز للغنيمة، (وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ): وهم

الثابتون عند المركز، (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ): كفكم عنهم، وردكم بالهزيمة (لِيَبْتَلِيَكُمْ): يمتحن ثباتكم، (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ): مخالفة الرسول لندمكم، أو عفا عنكم فلم يستأصلكم، (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الُمؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ): تبعدون فى الهزيمة متعلق بـ عفا عنكم، أو بـ صرفكم، أو ليبتليكم، (وَلاَ تَلْوُون): لا تقفون، ولا تقيمون، (عَلَى أَحَدٍ): ولا يلتفت بعض إلى بعض، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) أي: في جماعتكم الأخرى أي المتأخرة يقول: " إليَّ عباد الله فأنا رسول الله من يكر فله الجنة) (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ): جازاكم عن فشلكم غما متصلاً بغم غم الذنب وظن قتل نبيكم والخوف وظفر المشركين وقيل غمًّا بسبب غم أذقتموه رسول الله بمخالفته، (لكَيْلا تَحْزنوا عَلَى مَا فاتَكُمْ): من الغنيمة، والظفر بعدوكم، (وَلاَ): على، (مَا أَصَابَكُمْ): من القتل والجراح وقيل معناه لتتمرنوا على الصبر في الشدائد؛ فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت وضر لاحق، وقيل (لا) في لكيلا زائدة، (وَاللهُ خَبِيرٌ بمَا تَعْمَلُونَ): عالم بأعمالكم وقصدكم، (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا): أمنة مفعول، ونعاسًا بدل منه، وهذا كما قال الزبير: لقد

رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، والله لا أسمع قول معتب بن قشير إلا كالحلم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، وعن ابن مسعود: النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان، (يَغْشَى): النعاس (طَائِفَةً مِنْكُمْ)، وهم المؤمنون حقًا، (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ما بهم إلا هَمُّ أنفسهم وطلب خلاصها، وهم المنافقون، (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ): نصب (غَيْرَ الْحَقِّ) بالمصدر أي يظنون غير الظن الحق، وظن الجاهلية بدله أو هو مفعول مطلق، وغير الحق مصدر لمضمون الجملة أي يظنون ظن الجاهلية يقولون قولاً غير الحق، وهو أنَّهم يظنون أنه ما بقي من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيء، (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي: هل لنا من النصر والغلبة شيء، ونصيب قط؛ وهذا إنكار منهم، (قُلْ): يا محمد، (إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله): النصر والظفر والقضاء والقدر، (يُخْفُونَ فِي أَنفسِهِم): من النفاق استئناف، أو حال من فاعل يقولون، (مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُون)، بدل من يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك أو استئناف أي إذا خلا بعضهم إلى بعض يقولون،: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي: لو كنا على الحق،

(156)

(مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا): لما قتل منا في هذه المعركة، (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أي: لخرج الذين قدر القتل عليهم إلى مصارعهم ولم يستطيعوا الإقامة في المدينة (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا في صُدُورِكُمْ)، ليمتحن، ويظهر سرائركم من الإخلاص وعدمه، وهو عطف على محذوف أي برز لنفاذ القضاء وليبتلي، أو علة فعل محذوف أي: فعلنا ذلك، (وَلِيُمَحِّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ): يكشفه، ويميزه أو يطهره، ويخلصه من الوساوس (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): بضمائرها، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ): أيها المؤمنون، (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ): في أحد، (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) أي: انهزم من انهزم لأجل استزلال الشيطان إياهم ببعض الذنوب، وإيقاعهم فيه يعني اقترفوا ذنوبًا لم يستحقوا معها التأييد الإلهي، وتقوية القلب فلذا فروا أو لأجل أنه حملهم على الذلة التي هي الفرار بسبب ذنب هو بمخالفة الرسول أعني ترك المركز أو بشؤم ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضًا كالطاعة، (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) تلك الخطيئة، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ): للذنوب، (حَلِيمٌ): لا يعاجل بعقوبة العصاة. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ

فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ

بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونوا كالذِينَ كَفَرُوا) أي: المنافقين، (وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ): لأجل أصحابهم وفيهم، (إِذَا ضَربوا): سافروا أي قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون، (في الأَرْضِ): للتجارة وغيرها فماتوا فى تلك السفر: (أَوْ كَانُوا غُزًّى)، فقتلوا جمع غاز (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)، مقول قالوا، (لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي: لا تكونوا مثلهم فى ذلك الاعتقاد ليجعل ذلك الاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة دون قلوبكم أو معناه قالوا ذلك واعتقدوا ليجعل، وحينئذ اللام لام العاقبة كقولهم: " لدوا للموت وابنوا للخراب " (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: المؤثر فيهما هو الله لا الإقامة والسفر، (وَاللهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، فلا تكونوا أيها المؤمنون كالكفار، (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) أي: في سبيله، (لَمَغفِرَةٌ منَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ ممَّا يجمَعُون)، جواب القسم ساد مسد الجزاء أي لو وقع القتل أو الموت فما تنالون من المغفرة بالموت خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية، (وَلَئِن متمْ أَو قُتِلتُمْ

لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لا إلى غيره، فلا رجاء ولا خوف إلا منه، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)، ما مزيدة للتأكيد أي: برحمة وإحسان منه سهلت أخلاقك يا محمد لهم، (وَلَوْ كنتَ فَظًّا): سيئ الخلق، (غَلِيظَ القَلْبِ): قاسيه، (لانفَضُّوا): تفرقوا، (مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يختص بك، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ): فيما لله، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمر): فيما تصح المشاورة فيه تطييبًا لقلوبهم، (فَإذَا عَزَمْتَ): وجزمت على أمر بعد الشورى، (فَتَوَكلْ عَلَى اللهِ): فيه، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمتَوَكِّلِينَ): فينصرهم، ويهديهم، (إِن يَّنصُرْكُم اللهُ فَلاَ غالِبَ لَكُمْ): فلا أحد يغلبكم، (وَإِن يَخْذُلْكُمْ): بغلبة العدو (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ): من بعد الخذلان، أو من بعد الله، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا ألا ناصر سواه، (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ): ما ينبغي لنبي أن يخون في الغنيمة، نزلت فيما قال

المنافقون يوم بدر حين فقد قطيفة حمراء لعل رسول الله أخذها، أو في ظن الرماة يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعطيهم الغنيمة، ولهذا اشتغلوا بالغنيمة، وتركوا المركز أو معناه ما كان لنبي أن يكتم شيئًا من الوحي وقرئ على البناء للمفعول أي ينسب إلى الخيانة، أو يخونه أمته فقيل نزلت يوم بدر، وقد غل بعض أصحابه (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): حاملاً له على عنقه، وقد ورد أن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفًا ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه، ثم يقال لمن غل ائت به فذلك قوله (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ): جزاؤه وإذا كان كل كاسب مجزيًا بعمله فالغال لعظم ذنبه بذلك أولى، (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ): بنقص الثواب، وازدياد العقاب، (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ): بطاعته، (كمَنْ بَاءَ): رجع، (بِسَخَطٍ منَ اللهِ): بمخالفة شرعه، (وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِير): جهنم، (هُمْ درَجَاتٌ عندَ اللهِ) أي أهل الخير وأهل الشر

درجات أي كدرجات في التفاوت أو ذو درجات، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون)، فيجازيهم على حسب الأعمال، (لقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهم) من جنسهم لا من ملك وغيره ليفهموا كلامه، ويتمكنوا من مجالسته والانتفاع به، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) أي: القرآن، (وَيُزَكِّيهِمْ): من دنس الشرك والجهل، (ويعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ): القرآن، (وَالْحكمَةَ): السنة، (وَإِن كانوا مِن قَبْلُ)، إنْ هي المخففة أي: إن الشأن كانوا قبل بعثته، (لَفِي ضَلالٍ مبينٍ): ظاهر، (أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) يوم أحد من قتل سبعين منكم، (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا): يوم بدر من قتل سبعين، وأسر سبعين، (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا): القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، والهمزة متخللة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ما سبق من قصة أحد

للتقرير والتقريع وقلتم جواب لما فإنه ظرف بمعنى حين يستعمل استعمال الشرط مضاف إلى الجملة بعده، وناصبه ما وقع موقع الجزاء، وأني خبر هذا وقع مقول القول، وقد أصبتم صفة لمصيبة، (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ): من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك المركز أو فيما صنعتم من أخذكم الفداء يوم بدر، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): من النصر، ومنعه (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ): جمع المسلمين، والمشركين يوم أحد، (فَبِإِذْنِ اللهِ): فهو بقضائه، وقدره، (وَلِيَعْلَمَ)، عطف على بإذن الله، (الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي: ليتميز المؤمنون من المنافقين ويظهر إيمان هؤلاء، وكفر هؤلاء، (وَقيلَ لَهُمْ) أي: لعبد الله بن أبي وأصحابه لما انصرفوا في أثناء الطريق، عطف على نافقوا أو كلام مبتدأ، (تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا): عنَّا القوم بتكثيركم سوادنا، وقيل تخيير بين المقاتلة للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال، (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)، لكن لا يكون اليوم قتال، ونافقوا في هذا أيضًا، لأنَّهُم ظنوا القتال ورجعوا وقيل معناه لو نعلم أن ما ترتكبونه قتال لاتبعناكم، لكن هو إلقاء الأنفس إلى التهلكة، (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أَقْرَبُ مِنهُمْ لِلإِيمَانِ)، لانخزالهم وكلامهم، (يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم ما لَيسَ فِي قُلُوبِهِمْ): من كلمة الإيمان، وقولهم لو نعلم قتالاً على التوجيه الأول، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ): من النفاق، (الذِين)، بدل من فاعل يكتمون أو نصب أو رفع على الذم، (قَالُوا لإِخوَانِهِمْ) أي: لأجل أقاربهم المقتولين يوم أحد أو قالوا لإخوانهم من

المنافقين، (وَقَعَدُوا) أي: والحال أنهم قد قعدوا عن الحرب، (لَوْ أَطَاعُونَا) أي: شهداء أحد في الانصراف، (مَا قُتِلُوا): كما لم نقتل، (قُلْ فَادْرَءُوا): ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): إنكم تقدرون دفع القتل عمن كتب عليه، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً)، نزل في شهداء أحد أو في شهداء بدر أو في سبعين من الصحابة قتلوا في بئر معونة حين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد، (بَلْ): هم، (أَحياءٌ عِندَ ربهِمْ): في دار كرامته، (يُرْزقُون): من الجنة حيث شاءوا، فإن أرواحهم في أجواف طيور خضر، (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): لوقوع محذور، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): لفوات محبوب وألا خوف بدل اشتمال من

الذين أي يستبشرون بعدم الخوف والحزن على الذين خلفهم من المؤمنين بشرهم الله

(172)

بذلك أو يسرون بلحوق من لحقهم عن إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من الكرامة قال السدى: يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وفلان يوم كذا، فيسر بذلك كما تسرون بقدوم الغائب، وقال: بعضهم لما قتلوا ورأوا الكرامة قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما عرفناه، فباشروا القتال بالرغبة، فأخبر الله نبيه بأمرهم، ثم الله أخبرهم بأني قد أخبرت بأمركم نبيكم، فاستبشروا بذلك فذلك قوله: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا) إلى آخره (يَسْتَبْشِرُونَ)، كرره تأكيدًا، وليتعلق به قوله: (بِنِعْمَةٍ من اللهِ)، ثوابًا لأعمالهم، (وَفَضْلٍ): زيادة عليها، (وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، عطف على نعمة أي: استبشروا لما عاينوا من وفاء الموعود. * * * (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ

شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) * * * (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ): الجرح، وهو صفة للمؤمنين أو نصب على المدح، (لِلذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ): بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِن للتبيين، وهو أي للذين خبر قدم على مبتدئه، والجملة استئنافية أو الذين استجابوا مبتدأ وجملة للذين أحسنوا إلخ خبره، (وَاتَّقَوْا): مخالفته، (أَجْرٌ عظيمٌ الذِينَ)، بدل من الذين، (قَالَ لَهُمُ النَّاسُ): رسول المشركين، (إِنَّ النَّاسَ)، أي: المشركين، (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ)، ذلك القول، (إِيمَانًا) يقينًا وتصديقًا، (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ): محسبنا وكافينا، (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ): الموكول إليه هو، (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ منَ اللهِ)، سلامة بدن، (وَفَضْلٍ): ربح مال، (لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ): قتل وجرح، (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ): في طاعة رسوله، (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم)، أنعم عليهم بإنعامات جمة دينية ودنيوية نزلت آية (الذين استجابوا) إلخ فيمن بقى من غزوة أحد فإنهم أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جراحاتهم فى الخروج عقب المشركين فإنهم إذا رجعوا من أحد ندموا في أثناء الطريق، وقالوا:

نرجع ونستأصلهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مَن كان معه في أحد فلما سمع المشركون بخروجهم ألقى الله الرعب فيهم فأرسلوا أحدا يخوف المسلمين منهم، والمسلمون يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، ورجعوا فرجع المسلمون بعافية وربح وهو أن عيرًا مرّت فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم وربح فيها مالاً وقسم بين أصحابه أو نزلت فيمن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل من غزوة أحد حين خرج المشركون من مكة وألقى الله الرعب فيهم في أثناء الطريق، وندموا من الخروج وأرسلوا أحدًا يخوف المسلمين في المدينة، وهم متأهبون للقتال قائلون حسبنا الله ونعم الوكيل، ورجعوا من الطريق فرجع المسلمون بسلامة وربح في تجارة من سوق بدر ورضًا من الله، (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: قائل إن الناس قد جمعوا لكم شيطان يصدكم عن سبيل الله، مبتدأ، وخبر، (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ):

يخوفكم أولياءه بإيهامكم أنَّهم ذوو قوة وبأس، (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): مصدقين موقنين، (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ) أي: لا تهتم، ولا تبال بمن يبادر إلى العناد وكسر الإسلام، وهم كفار قريش أو المنافقون أو هم واليهود، (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا) أي: دين الله، وشيئًا مصدر أو مفعول، (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ): نصيبًا من الثواب فيها (ولَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ)، مع حرمان الثواب، (إِنَّ الَّدينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإِيمَان): استبدلوا هذا بهذا (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا)، ولكن يضرون أنفسهم، (ولَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ)، ما مصدرية، وإن مع ما في حيزه مفعول، وفي قراءة: " ولا تحسبن " بالتاء تقديره لا تحسبن يا محمد حال الذين كفروا أن الإملاء أي: الإمهال خير بحذف مضاف أو إنما نملي بدل من المفعول، واستغني به عن المفعول الثاني (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، استئناف بما هو علة الحكم قبلها، وما كافة، (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) نزلت في مشركي مكة، أو في قريظة والنضير، (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ): يا معشر المسدمين من التباسكم بالمنافقين أو يا معشر المؤمنين والمنافقين من الالتباس والاختلاط (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) المنافق من المخلص بالوحي أو بتكاليف لا تذعن لها إلا الخلص كما ميز يوم أحد، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)، فتعرفوا قلوب المخلصين والمنافقين، (وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)، فيخبره ببعض المغيبات

نزلت حيث قال المشركون: إن كان محمد صادقًا فليخبرنا بمن يؤمن به، ومن يكفر أو لما قال عليه الصلاة والسلام: (عرضت عليَّ أمتي وأعلمت من يؤمن لي ومن يكفر بي) قال المنافقون: إنه يزعم عرفان المؤمن من الكافر، ونحن معه ولا يعرفنا، (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ): بصفة الإخلاص، (وَإِن تؤْمِنُوا): حق الإيمان، (وَتَتَّقوا فَلَكمْ أَجْر عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ)، بقراءة التاء تقديره ولا تحسبن بخل الذين بحذف مضاف، وكذا بقراءة الياء إن كان الفاعل ضمير الرسول وأما إذا كان الذين يبخلون فاعله فتقديره ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرًا لهم نزلت في مانعي الزكاة وقيل في أهل الكتاب بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة، (بَلْ هوَ) أي: البخل، (شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يجعل ماله الذي لم يؤد زكاته حية يطوق في عنقه تنهشه من فرقه إلى قدمه، أو يجعل طوقًا من نار، (وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): يفنى الملاك، وتبقى الأملاك بلا مالك إلا الله، فلا تبخلوا، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلون): من المنع، والإعطاء، (خبِيرٌ)، فيجازيكم. * * *

(181)

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، قالت اليهود لما نزلت: (من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا) [البقرة: 245، الحَديد: 11] أو لما دعاهم أبو بكر إلى الإسلام قالوا: إن الله إلينا لفقير ونحن عنه أغنياء، ولولا ذلك ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا): في صحيفة أعمالهم أو سنحفظه ولا نهمله، (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ): بحسدٍ وعناد قرنه به لأنهما كجنس واحد في العظم، (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) المحرق أي: ننتقم منهم بأن نقول لهم ذلك (ذلِكَ) أي: العذاب، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ): بسبب ذنوب صدرت من أنفسكم، وهو من جملة المقول معهم، (وَأَنَّ الله لَيْسَ بظَلاَّمٍ للْعَبيدِ)، عطف على ما قدمت أي: عدلنا يقتضي تعذيبكم، وصيغة المبَالغة لكثرة العبيد فإنها جمع محلى باللام، (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) أي: حتى يأتي بتلك المعجزة الخاصة، وهي أن من تَصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه تنزل نار من السماء تأكلها كما كانت لأنبياء بني إسرائيل (قُلْ): يا محمد تكذيبًا لهم، وإلزامًا؛ (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات، (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ):

تلك المعجزة الخاصة التي تطلبون مني، (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أنكم تتبعون من جاء بتلك المعجزة، ثم قال مسليًا لرسوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ كَذَّبُوكَ): فليس ببدع منهم، (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ): الكتب المقصورة على الحكم وعلى المواعظ، (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ): الواضح المعنى المتضمن للشرائع والأحكام، (كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ): وعد للمصدق، ووعيد للمكذب، (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): تعطون تامًا جزاء أعمالكم، (فَمَنْ زُحْزِحَ): جنب، وبعد: (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ): ظفر بالبغية، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي: زخارفها، (إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ): كمتاع يدلس به على المستام فيغر ويشتريه فمن اغتر بها وآثرها فهو مغرور، (لَتُبْلَوُنَّ) أي: والله لتختبرن، (فِي أَمْوَالِكُمْ): بإهلاكه، والأمر بالإنفاق، (وَأَنْفُسِكُمْ): بالجهاد والقتل، والأمراض، والحقوق كالصلاة، والحج، (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا)، من هجاء الرسول، والطعن، وتشبيب النساء أمرهم بالصبر قبل الوقوع ليوطنوا أنفسهم عليه، (وَإِن تَصْبِرُوا) على الأذى، (وَتَتَّقُوا): الله، (فَإنَّ ذَلِكَ): أي الصبر، والتقوى، (مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ): معزوماتها أي: التي يجب العَزم عليها أو مما عزم الله وأمر وبالغ فيه قال عطاء: من حقيقة الإيمان، (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) أي: اذكره، (مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ): بلسان أنبيائهم، (لَتُبَيِّنُنَّهُ

لِلنَّاسِ): حكاية لمخاطباتهم أي: والله لتبينن الكتاب بجملته لهم، (وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ) أي: الميثاق، (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ): هو مثل في ترك الاعتداد والاعتبار، (وَاشْتَرَوْا به ثَمَنًا قَلِيلاً) أخذوا بدله قليلاً من حطام الدنيا، (فَبئْسَ مَا يَشْتَرُونَ): يختارون، (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ): تأكيد للأَول، (بِمَفَازَةٍ): منجاة، (مِّنَ العَذَابِ) أَى: فائزين بالنجاة منه، ومن قرأ بالياء ففاعله الذين، ومفعوله الأول متصل بالتأكيد ولا

(190)

حذف، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم، وكتمانهم آيات الكتاب، وقد صح أن مروان أرسل أحدًا إلى ابن عباس رضى الله عنهما وقال: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعين، فقال ابن عباس رضى الله عنهما: ما لكم وهذه إنما نزلت في أهل الكتاب، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء وأخبروه بغير الواقع، فظنوا أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه، وفرحوا بكتمانهم أو نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو، ثم اعتذروا وحلفوا واستحمدوا وقيل في المنافقين يفرحون بنفاقهم، ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان، (وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فلا يعجز عن الانتقام. * * * (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) * * * (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، هذه في ارتفاعها واتساعها مع ما فيها من الكواكب المختلفة، وهذه في انخفاضها، وكثافتها، وما فيها من البحار، والجبال، والأشجار، والأنهار، والزروع، والثمار، (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) تعاقبهما، وتقارضهما الطول والقصر فتارة يطول هذا أو يقصر ذلك، ثم يعتدلان، ثم يطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلاً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم، (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ): دلالات على الوجود، والوحدة والعلم، والقدرة لذوي العقول الخالصة، وقد ورد: " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها "، (الَّذِينَ يَذكُرُونَ الله)، وصف لأولي الألباب، (قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ): يصلون قائمين فإن لم يستطيعوا فقعودًا، فإن لم يستطيعوا فعلى جنب، أو المراد مداومة الذكر لأن الإنسان قلما يخلو عن إحدى هذه

الحالات (وَيَتَفَكرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وما أبدع فيهما استدلالاً قائلين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا) أي: الخلق، (بَاطِلًا) أي: خلقًا عبثًا بل خلقته لحكم عظيمة، (سُبْحَانَكَ): أنزه تنزيهًا لك من خلق العبث، (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ): علمنا أنك منزه عن خلق العبث، بل ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى فقنا عذاب النار بحولك، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) للخلود فيها فإنه الخزي كما قال تعالى (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ) [التحريم: 8] إلخ، (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)، أهنته غاية الإهانة، وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع، (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ): ينصرونهم في الخروج من النار، وضع الظاهر موضع المضمر ليعلم أن سبب الخلود ظلمهم، وهذا دليل على أن المراد بالدخول هاهنا الخلود لأن للداخلين من المؤمنين أنصارًا، (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا) أي: محمدا عليه الصلاة والسلام أو القرآن، (يُنَادِي لِلْإِيمَانِ)، والنداء يعدى بإلى، واللام لتضمنه معنى الانتهاء والاختصاص (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي: بأن آمنوا، (فَآمَنَّا رَبَّنَا

فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا): كبائرنا، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا): صغائرنا بقبول الطاعات (وَتَوَفنَا مَعَ الأَبْرَارِ): معدودين في زمرة الصالحين، (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) أي: على ألسنتهم أو على تصديق رسلك من الثواب فعلى الحقيقة استعاذة من سوء العاقبة مخافة ألا يكونوا من الموعودين، (وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ): لا تفضحنا على رءوس الأشهاد، (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) البعث بعد الموت، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ): يعدى بنفسه وباللام (أَنِّي) أي: بأق، (لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى): بيان عامل، (بَعْضُكُم مِّنْ بَعْض): في الدين أو كلكم من آدم أو لأن الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى (فاستجاب لهم) إلخ. (فالذِينَ هَاجَروا): تفصيل للأعمال، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا): الكفار، (وَقُتِلُوا): في الجهاد، (لَأُكَفِّرَنَّ): لأمحون، (عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تحت أشجارها، (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أيَ: لأثيبنهم ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ العظيم، (وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثوَابِ): على الطاعات. (لاَ يَغُرنكَ تَقَلبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ): من السعة والتبسط في المكاسب والمزارع والمتاجر قال بعض المؤمنين: أعداء الله فيما نرى من الخير، ونحن في الجهد نزلت فالخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) أي: ذلك التقلب متاع قليل لقلة مدته وفي جنب ما أعد الله للمؤمنين، (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ): ما مهدوا

لأنفسهم، أو الفراش جهنم، (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ): هو مما يعد للنازل، ونصبه على الحال من جنات، والعامل الظرف، (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ): مما يتقلب فيه الفجار في الدنيا، (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ)، دخلت اللام على اسم إن للفصل بالظرف نزلت لما تُوفي النجاشي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى كما يصلي على الجنائز فقال المنافقون: تصلى على علج مات بأرض الحبشة أو في ابن سلام وأصحابه، أو في جمع من الحبشة والروم أسلموا أو في مؤمني أهل الكتاب كلهم، (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ): القرآن (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ): من كتبهم، (خَاشِعِينَ لله)، حال من فاعل يؤمن، (لاَ يَشْتَرُونَ)، حال آخر، (بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا): لا يأخذونه بدلها كما يفعله المحرفون (أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، فالأجل الموعود سريع الوصول إليهم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا): على دينكم وعلى أمر الله أو على البلاء، (وَصَابِرُوا): على عدوكم، (وَرَابِطُوا) أنفسكم في مكان العبادة أي داوموا أو أبدانكم وخيولكم فى الثغور أو المراد انتظار الصلاة بعد الصلاة، (وَاتَّقُوا اللهَ): في جميع الأمور وفيما بينه وبينكم، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفلحوا في الدنيا، والآخرة. والحمد لله رب العالمين أكمل الحمد وأتمه.

سورة النساء

سورة النساء وهى مائة وست وسبعون آية وأربعة وعشرون ركوعًا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا

مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) * * * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ): هي آدم. (وخَّلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا): حواء من ضلع من أضلاعها. (وَبَثَّ): نشر. (مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) أي: كثيرًا. (وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءلُونَ بِه) أي: تتساءلون فيما بينكم حوائجكم به، كما تقولون: أسألك بالله، أدغمت التاء الثانية في السين، وقرئ بطرحها (وَالأَرْحَامَ) أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) حافظا مطلعًا فاتقوه. (وَءاتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) نزلت في رجل معه مال لابن أخ يتيم له فطلبه بعد البلوغ ومنعه (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ): ولا تستبدلوا حرام أموالهم بحلال

أموالكم، نقل أنَّهم كانوا يأخذون الجيد من مال اليتامى ويجعلون مكانه الردى فنزلت، وعلى هذا أيضًا الجيد هو الخبيث باعتبار حرمته فلا يرد عليه شيء (وَلاَ تَاكلُوا أَمْوَالَهُمْ): منضمة. (إِلَى أَمْوَالِكُمْ) أي: لا تنفقوهما معًا (إِنهُ): الضمير للأكل. (كَانَ حُوباً): إثمًا (كَبِيراً). (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا): تعدلوا. (فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) أي: إن خفتم يا أولياء اليتامى ألا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب، وإن خفتم ألاّ تعدلوا في اليتامى فخافوا أيضًا من عدم العدل بين النساء فانكحوا مقدارًا يمكنكم الوفاء بحقوقه أي: كما تخافون هذا فخافوا ذاك أيضًا، أو كما خفتم من ولاية اليتامى فخافوا من الزنا فانكحوا ما طاب لكم (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة حال مما طاب (فَإِنْ

خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا): بين هذه الأعداد أيضًا. (فَوَاحِدَةً) أي: فاختاروها (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) سوى بين واحدة والسراري من غير تعيين عدد فإنه لا قسم بينهن وعبر عن النساء بما في الموضعين لنقصان عقلهن أو ذهابًا إلى الصّفة (ذلِكَ) أي: التقليل، أو اختيار الواحدة أو التسري (أَدنى أَلَّا تَعُولُوا): أقرب ألاّ تميلوا ولا تجوروا. (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ): الخطاب للأزواج أو الأولياء؛ لأنَّهُم كانوا يأخذون مهور مولياتهم (نِحْلَةً) أي: فريضة أو عطية وهبة عن طيب نفس، مصدر أي: إيتاء نحلة (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) الضمير للصداق أو للإيتاء، ونفسًا تمييز، وعدى الطيب بعن لتضمين معنى التجافي أي: إن وهبن لكم من الصداق عن طيب نفس (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) هَنَا الطعام ومَرَأ إذا ساغ من غير غص، صفتان أقيمتا مقام المصدر أو صفة مصدر أو حال. (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) هم النساء والصبيان كما قال ابن عباس: لا تعمد إلى ما جعله الله لك معيشة فتعطه امرأتك أو أولادك ثم تنظر إلى ما في أيديهم لكن أمسكه وأصلحه وكن أنت منفقًا عليهم، أو اليتامى فيكون منعًا للأولياء من إعطاء

الذين لا رشد لهم أموالهم، وإضافة المال إلى الأولياء لأنه في تصرفهم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا): تقومون وتنتعشون بها، فعلى الثاني تأويله التي من جنس ما جعله الله لكم قيامًا، وسمي ما به القيام قيامًا مبالغة (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) اجعلوا لهم فيها رزقًا وكسوة بأن تتجروا فيها وتحصلوا من نفعها (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) قولا لينًا يطيب به أنفسهم. (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى): اختبروهم قبل البلوغ في عقلهم (حَتَّى إِذَا بَلَغوا النِّكَاحَ) كناية عن البلوغ، لأنه عند البلوغ يصلح للنكاح (فَإِنْ آنَسْتُمْ): أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْدًا) صلاحًا في الدين والمال (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) فدفع المال بعد البلوغ بشرط الرشد (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً) حال، أو مفعول له (أَن يَكْبَروا) أي: مسرفين مبادرين كبرهم مخافة نزعها عن أيديكم عند كبرهم (وَمَن كَان غَنِيًّا) من الأوصياء (فَلْيَسْتَعْفِفْ): من أكل شيء منها (وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأكلْ بِالْمَعْرُوفِ) أجرة مثله، أو القرض فيجب الأداء، أو لا يأكل إلا أن يضطر كأكل الميتة ويقضي، أو لا يأكل إلا بقدر الحاجة (فإِذَا دَفَعتمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهمْ) بعد البلوغ والرشد (فأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بقبضهم، وهذا أمر إرشاد لقطع الخصومة (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا): محاسبًا فاعدلوا في أموالهم. (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي: المتوارثون بالقرابة (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل مما ترك

(نَصِيبًا مَفْرُوضًا) مصدر مؤكد، أو بتقدير: أعني، نزلت لما كانوا يجعلون المال للرجال الكبار دون النساء والأطفال. (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ): قسمة الميراث (أُولُو الْقُرْبَى): ممن لا يرث (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ): مما ترك، وهو أمر ندب للبلّغ، أو أمر وجوب على الصغير والكبير منسوخ أو غير منسوخ، أو المراد أن الميت يوصي لهم، أو واجب مما طابت به النفس (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا): هو أن يدعو لهم ويلطف في العبارة معهم، وإن كانت الورثة صغارًا اعتذروا إليهم. (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) أمر لمن حضر الميت بأن يخشوا على أولاد المريض خشيتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ويسددوه للصواب، أو للأولياء بأن يخشوا الله ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم بعد وفاتهم، وأن يقولوا لليتامى بالشفقة وحسن الأدب و (لو) بما في حيزه صلة للذين. (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا): ظالمين أو على وجه الظلم (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا: ملء بطونهم ما يجر إلى النار، وقد نقل أن في القيامة يخرج لهب

(11)

النار من فيه ومسامعه وأنفه وعينه يعرفه من رآه (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) وسيدخلون نارًا. * * * (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ

خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) * * * (يُوصِيكُمُ اللهُ): يعهد إليكم (في أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم (لِلذَّكَرِ) منهم (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ) أي: المولودات (نِسَاءً) خلصًا ليس معهن ذكر (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) صفة نساءَ (فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) المتوفى منكم (وَإِن كَانَتْ) المولودة (وَاحِدَةً فَلَهَا النصْفُ) وللبنتين حكم ما فوقهما، لأنهما أمس رحمًا من الأختين، وقد فرض لهما الثلثين بقوله: فلهما الثلثان مما ترك، وقيل: لفظ الفوق صلة زائدة وما فوق الواحدة جماعة (وَلِأَبَوَيْهِ) أي: الميت (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) بدل (السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ): للميت (وَلَدٌ) ذكر أو أنثى، يعني: بطريق الفرضية (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) فحسب (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) يعني: وللأب الباقي وهو الثلثان (فَإِن كَانَ لَهُ): للميت (إِخوَةٌ) وحكم الأخوين كحكم الأخوة (فَلِأُمِّهِ

السُّدُسُ) وإن كانوا لا يرثون مع الأب (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) أي: هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية أو دين، وقدم الوصية على الدين وإن كان الدين مقدمًا حكمًا، لأنها تشبه الميراث شاقة على الورثة (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا): لا تعرفون من أنفع لكم من أصولكم وفروعكم، فاتبعوا ما قررت لكم من الميراث ولا تكونوا على ما كنتم عليه في الجاهلية من حرمان النساء والأطفال، وعلى ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد، وللأبوين الوصية (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر يوصيكم الله، لأنه في معنى: يفرض عليكم أو مصدر مؤكد (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا) بالمصالح (حَكِيمًا) فيما قضى. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ) أي: الزوجات (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وسواء في الربع والثمن الواحدة والأكثر (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ): منه (كَلَالَةً)

لا ولد له فيورث: صفة رجل من ورث، وكلالة: خبر كان، والرجل هو الميت (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل (وَلَه) أي: للرجل، ومنه يعلم حكم المرأة فاكتفى به (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) من الأم بالإجماع وهو مذكور في بعض القراءة (فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا) الضمير لمن يرث، وجمعه محمول على المعنى (أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أي: من واحد (فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثلُثِ) ذكرا كانوا أو أنثى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) لورثته بحرمان بعضهم أو زيادة أو تنقيص مما قدر من الفريضة، ولا يكون غرضه من الوصية الإضرار بل القربة، حال من فاعل يوصى، وفي قراءة البناء للمفعول ما يدل عليه وهو الفاعل المتروك (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر أو مفعول به لغير مضار (وَاللهُ عَلِيمٌ): بالمضار وغيره (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبته. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي: ما تقدمت من الأحكام شرائعه التي كالحدود التي لا يجوز مجاوزتها (وَمَن يُّطِع الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ): من تحت أشجارها (خَالِدِينَ فيهَا) جمعه باعتبار المعنى (وَذَلِكَ) أي: الخلود فيها (الفَوْزُ العَظِيمُ).

(15)

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) يتجاوزه (يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) لأنه لم يرض بما قسم الله وحكم به بل ضاد في حكمه، وخالدين: حال وكذا خالدًا لا صفة جنات ونارًا؛ لأنه لا بد أن يقول حينئذ: خالدين هم وخالدًا هو فيها؛ لأنهما جريا على غير من هما له. * * * (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ

أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) * * * (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ): يفعلن (الْفَاحِشَةَ) الزنا (مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) من رجال المسلمين (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ) أجلسوهن (فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي: ملائكة الموت، أو يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن كان ذلك عقوبتهن في بدء الإسلام فنسخ بالحد (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) السبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. (وَاللذَانِ) أي: الرجل والمرأة (يَأْتِيَانِهَا) أي: الفاحشة (مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) بالشتم والتعيير والضرب بالنعال وكان الحكم كذلك حتى نسخ، وعن بعضهم: أنها نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا أو في الرجلين إذا عملا عمل قوم لوط والظاهر أن الإيذاء

مشترك بين الرجل والمرأة والحبس خاصة المرأة، فإذا تابا أزيل الإيذاء عنهما وبقي الحبس عليها، وقيل: هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكانت عقوبة الزناة الأذى ثم الحبس ثم الجلد (فَإِنْ تَابَا) من الفاحشة (وَأَصْلَحَا) العمل (فأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) اتركوا أذاهما ولا تعنفوهما بعدُ بكلامٍ قبيح (إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا). (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي: ليس قبول التوبة واجبًا على الله بمقتضى وعده لأحد إلا (لِلذِينَ يَعْمَلُون السُّوءَ) ملتبسين (بِجَهَالَةٍ) أجمع الصحابة على أن من عصى الله عمدًا أو خطأ فهو بجهالة (ثمَّ يَتُوبُونَ من قَرِيبٍ) زمان قريب قبل معاينة الموت، أو قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها، أو في صحته قبل مرض موته (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) تاب الله عليه قبل توبته وغفر ذنبه (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) بنياتهم (حَكِيمًا) بأفعاله. (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) أي: منفية قبولها (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي: لا توبة لهؤلاء الفريقين؛ فإنه كما لا تقبل توبة الآخرة لا تقبل توبة الدنيا حين الاحتضار (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) الاعتداد: التهيئة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ): أي: ذواتهن (كَرْهًا) في الجاهلية إذا مات زوج امرأة ورث امرأته من يرث ماله إذا ألقى عليها ثوبًا فإن شاء تزوجها بغير صداق، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، وإن شاء منعها من الأزواج لتموت فيرث، أو لتُعطي ما ورثت من الميت، وإن انفلتت قبل أن يلقي عليها ثوبًا نجت فنهى الله عنه، وكرها حال أي: كارهات (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتيتمُوهُنَّ) كان للرجل امرأة كاره هو صحبتها فيقهرها ويضربها لتحل مهرها أو حقًا من حقوقها فالخطاب للأزواج، وأصل العضل التضييق، وهو عطف على (أن ترثوا) ولا لتأكيد النفي (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي: الزنا أو النشوز والعصيان أو أعم أي: لا تضجروهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة فإنه جاز ضجرها لتخالعه (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أجملوا بالقول والفعل معهن (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) فاصبروا عليهن (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) مثل أن يرزق منها ولدٌ ويكون في الولد خير كثير. (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) طلاق امرأة وتزوج أخرى (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ) الضمير للزوج؛ لأن المراد منها الجنس (قِنْطَارًا) مالا كثيرًا أي:

وقد جعلتم صداقهن قنطارًا (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ) من القنطار (شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) أي أتأخذونه باهتين آثمين، أو مفعول له نحو: قعدت عن الحرب جبنًا، فإنهم إذا أرادوا طلاق امرأة نسبوها إلى فاحشة لتفتدي صداقها، أو حال من المفعول أي: ظلمًا وإثمًا ظاهرًا، وفيه ما لا يخفى من المبالغة. (وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ) أي: شيئًا من الصداق (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) والحال أنه وصل إليه، وهو كناية عن الجماع (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) هو العقد أو ما أخذ الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ". (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) كان نكاح زوجات الآباء معمولاً به في الجاهلية (مِنَ النِّسَاءِ) بيان ما، وعبر بما لأنه أراد به الصفة (إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) الاستثناء من لازم النهي أي: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو منقطع أي: لكن ما قد سلف فإنه معفو عنه (إِنَّهُ) أي: نكاحهن (كَانَ فَاحِشَةً) أقبح المعاصي (وَمَقْتًا) وبغضًا شديدًا من الله (وَسَاءَ سَبِيلًا) وبئس ذلك طريقًا. * * *

(23)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ) أي: حرم نكاحهن (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ) الربيبة بنت زوجته (اللاتي في حُجُورِكُم) في تربيتكم وبيتكم، وهذا القيد خرج مخرج الغالب لا أنه تقييد الحرمة، وقد صح عن علي كرم الله وجهه أنه جعله شرطًا، وإليه ذهب داود الظاهري وابن حزم، ونقل عن المالك (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) أي: دخلتم معهن في ستر، وهو كناية عن الجماع، ومن ابتدائية متعلقة بالربائب، وعن عليّ وزيد ابن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وابن عباس رضى الله عنهم أنه قيد لأمهات النساء والربائب فيكون من لاتصال الشيء بالشيء حينئذ لا للابتداء، أي: أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) في نكاحهن، وهذا تصريح بالمقصود (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) لا من تبنيتموه، وأما امرأة ابنه من الرضاعة فيعلم حكمها من حديث " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) في النكاح، وكذا جماعهما في ملك اليمين

على الصحيح، وهو في محل الرفع عطف على المحرمات (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) لكن ما مضى مغفور (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا). (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) ذوات الأزواج (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) بالسبي فإنها تحل بعد الاستبراء مع أن لهن أزواجًا من الكفار، وعن بعض من السلف أن بيع الأمة طلاق لها من زوجها فتحل لسيدها لعموم الآية (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابًا (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) عَطف على حرمت أي: ما سوى المحرمات المذكورات، وما في معنى المذكورات الذي علم بالسنة (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) مفعول له أي: أحل ما وراء ذلك لأن تطلبوا ما وراءه بصرف الأموال في المهر والثمن حال كونكم محصنين ناكحين غير مسافحين زانين، ومفعول تبتغوا متروك كأنه قيل: إن تصرفوا أموالكم، أو بدل اشتمال من وراء، والمفعول محذوف (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) موصولة أي: من تمتعتم به من المنكوحات، أو موصوفة أي: ما استمتعتم به منهن من جماع (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن (فَرِيضَةً) حال أو مصدر مؤكد أو صفة لمصدر أي: إيتاء مفروضًا، قال بعض السلف: الآية في نكاح المتعة، وقد صح عن عليٍّ أن

نكاح المتعة (1) نسخت يوم خيبر (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) من إبراء الصداق أو بعضه، ومن حمل ما قبله على المتعة فعنده معناه إذا عقدتم إلى أجل بمال وتم الأجل إن شاءت زادت في الأجل وزاد في الأجر وإلا فارقها (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا) بالمصالح (حَكِيماً) في أحكامه. (وَمَن لَّمْ يَستَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً) فضلاً وزيادة في المال يبلغ بها نكاح المحصنات، فهو مفعول يستطع (أَن يَنكِحَ الُمحْصَنَاتِ) أي: الحرائر متعلق بـ طَوْلاً على حذف حرف الجر أي: إلى أن ينكح (الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي: فلينكح أمة غيره (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وقال بعضهم: طول المحصنات هو أن يملك فراشها على أن النكاح الجماع، وحمل قوله: " من فتياتكم المؤمنات " على الإرشاد بالأفضل فعنده جاز نكاح الأمة الكتابية إذا لم يكن تحته حرة (وَاللهُ أَعْلَمُ يِإِيمَانِكُمْ) فاكتفوا بظاهر الإيمان والله أعلم بالسرائر (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) أنتم وأرقائكم في النسب والدين متناسبون فلا تستنكفوا عنها عند الحاجة (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) أي: أربابهن (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) بغير نقص ومطل استهانة بهن (مُحْصَنَاتٍ) عفائف حال من مفعول

__ (1) ذهب عامة أهل العلم إلى أن نكاح المتعة حرام والآية منسوخة، وكان ابن عباس يذهب إلى أن الآية محكمة وترخص في نكاح المتعة، وقيل: إن ابن عباس رجع عن ذلك كذا في المعلم.

(26)

فانكحوا (غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) مجاهرات بالزنا (وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) أحباب يزنون بهن في السر، كانت العرب تحرم الأولى لا الثانية (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بالتزوج، ومن قرأ بفتح الهمزة والصاد فمعناه: حفظن فروجهن أو أسلمن (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ) زنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ) الحرائر الأبكار (مِنَ الْعَذَابِ) من الحد، والجمهور على أن حد الأمة مزوجة أو بكرًا خمسون جلدة؛ ففائدة الشرط نفي ما يتوهم من تفاوت حالهن قبل التزوج وبعده كما في الحرائر وعند بعض السلف أنه لا حد على غير المحصنة منها بل تضرب تأديبًا (ذلِكَ) أي: نكاح الأمة (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي: خاف الوقوع في الزنا، يعني: المشقة بغلبة الشهوة فلنكاح الأمة شرطان: عدم الطول وخوف العنت (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الأمة مع العفاف (خَيْرٌ لَكُمْ) لئلا يصير الولد عبدًا (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن لم يصب (رَحِيمٌ) بأن رخص. * * * (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ

أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) * * * (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما خفي من الشرائع عليكم. واللام زائدة، وأن يبين مفعول يريد (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) شرائعهم ومناهجهم المحمودة كملة إبراهيم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) من المآثم والمحارم ويعفو عنكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالحكم (حَكِيمٌ) فيما قرر وقدر. (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إن صدر عنكم تقصير (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) الزناة أو اليهود والنصارى أو المجوس الذين يحلون نكاح

الأخت وبناتها أو أهل الباطل (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق (مَيْلاً عَظِيماً) على اتباع الشهوات. (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ) في شرائعه، ولهذا رخص لكم نكاح الأمة (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) فيناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف همته، أو في الصبر عن النساء فإنه يذهب عقله عندهن. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) بالحرام كالسرقة والقمار ونحوهما (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) لكن كون تجارة صادرة عن تراض بين المتبايعين غير منهى عنه؛ فالاستثناء منقطع، ومن قرأ تجارةً بالنصب تقديره: يكون التجارة تجارة، ومن قرأ بالرفع فيكون كان تامة (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) من كان من جنسكم من المؤمنين أو بإلقائها إلى التهلكة أو أراد قتل المسلم نفسه

كما يفعله بعض الجهلة، أو بارتكاب محارم الله (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) فما نهاكم عن مضاركم إلا من رحمته، أو حيث لم يكلفكم بقتل أنفسكم للتوبة كما كلف بني إسرائيل. (وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ) ما سبق من المحرمات أو القتل (عُدْوَانًا وَظُلْمًا) تجاوزًا عن الحد ووضعًا للشيء في غير موضعه (فَسَوْفَ نصْلِيهِ نَاراً) ندخله إياها (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) لا عسر ولا صارف عنه. (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) كل ذنب فيه وعيد شديد (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) نمح عنكم سيئاتكم (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) وهو الجنة، فمحو الصغائر لمن أجتنب الكبائر وعد مقطوع به ومحوها لمن تعاطى الكبائر ليس كذلك بل فى مشيته وإرادته تعالى.

(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) نهى الله تعالى عن قولهم: ليت لي مال فلان وأهله، أو نزلت في أم سلمة حيث قالت: يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث، أو حين قالت امرأة: للرجل مثل حظ الأنثيين في الميراث وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في الثواب هكذا، أو حين قال الرجال: نريد أن يكون لنا من الأجر ضعف النساء، وقالت النساء: نريد أجر الشهداء ولو كُتب علينا القتال لقاتلنا، أو حين قالت النساء عند نزول " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ": نحن أحوج فإنا ضعفاء لا نقدر على طلب المعاش (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) من العمل (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فاطلبوا الفضل بالعمل لا بالتمني، أو لهم نصيب من الجهاد ولهن من طاعة الأزواج وحفظ الفروج، والكل بعشر أمثالها (وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي: لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم فإنه أمر محتوم ولا يجدي تمنيه نفعًا ولكن سلوني من فضلي أعطكم (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) فهو يعدم من يستحق شيئًا فيعطيه. (وَلِكُلٍّ) منكم (جَعَلْنَا مَوَالِيَ) ورثة أو عصبة، والعرب تسمي ابن العم مولى (مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) مما متعلق بـ موالي لتضمنه معنى الفعل أي: ورثة مما ترك، يعني: يرث من تركتهم، أو معناه: لكل شيء مما تركوا من المال جعلنا موالي وراثًا يحرزونه (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) عهودكم يأخذ بعضهم بيد بعض على

(34)

الوفاء، وقرئ عاقدت، أي: عاقدكم أيديكم (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الإرث وهو السدس كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة كان هذا في ابتداء الإسلام ثم نسخ وأمروا بأن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد نسخه بقوله: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " معاهدة في الإرث لكن يجب الوفاء بالمعاهدة الماضية أو نسخت مطلقًا فلا يجوز إنشاء المعاهدة ولا الوفاء بالعهد السابق للميراث، وقوله: " والذين عقدت أيمانكم " غير منسوخ بمعنى: وآتوهم نصيبهم من النصرة لا من الإرث، أو كان يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت: " ولكل جعلنا موالي " نسخت ثم قال: " وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ " أي: من النصر والنصيحة وقد ذهب الميراث (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) فلا تتجاوزوا عما أمركم. * * * (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ

شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا (42) * * * (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) قيام الولاة على الرعايا (بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فضلهم عليهن بكمال العقل والدين والقوة (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ

أَموالِهِمْ) كالمهر والنفقة، اشتكت امرأة عن زوجها بأنه لطمها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: أردت أمرًا وأراد الله غيره فرجعت بغير قصاص (فالصَّالِحَاتُ قَانتَاتٌ) مطيعات لأزواجهن (حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ) تحفظ في غيبته نفسها وماله (بِمَا حَفِظَ اللهُ) بحفظ الله إياها فالمحفوظ من حفظه، أو بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ (نُشُوزَهُنَّ) عصيانهن على أزواجهن (فَعِظُوهُنَّ) بعقاب الله في عصيانها (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) بأن يوليها ظهره ولا يجامعها ولا يكلمها، أو معناه لا يضاجعها (وَاضْرِبُوهُنَّ) إن لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران ضربًا غير شديد (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) بالإيذاء، وقيل: لا تكلفوهن محبتكم فالقلب بيد الله (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) فهو أقَدرَ عليكم منكم على أزواجكم، ويتجاوز عنكم ليلاً ونهارًا. (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) خلافًا بين المرء وزوجه، والإضافة إلى الظرف على الاتساع (فَابْعَثُوا) أيها الحكام (حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا) يحكمان بينهما فيما يرى المصلحة من الجمع والتفريق، والأقارب أعرف ببواطن الأحوال فهُم الأولى، وهما من جانب الحاكم ينفذ حكمهما مطلقًا بغير رضى المحكوم عليه على الأصح (إِن يُرِيدَا) أي: يقصد الحكمان (إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا) بين الزوجين بحسن سعي الحكمين (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) بالظاهر والباطن.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) من المخلوقات أو من الإشراك قليلاً وكثيرًا جليًّا وخفيًّا (وَ) أحسنوا (بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) صاحب القرابة (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) من لا يجد ما يكفيه وعياله (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) من جمع بين القرابة والجوار، أو الجار الأقرب أو الجار المسلم (وَالْجَارِ الْجُنُبِ) الأجنبي والذي جواره بعيد، أو أهل الكتاب (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) المرأة، أو رفيق السفر، أو الحضر أيضًا (وَابْنِ السبِيلِ) المسافر، أو الضعيف (وَمَا ملَكَتْ أَيْمَانُكمْ) المماليك (إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً) متكبرًا (فَخُوراً) يتفاخر على المسلمين. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله من بر الوالدين والأقربين، بدل ممن كان، أو نصب أو رفع على الذم (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أيضًا كاليهود قالوا ": لا تنفقوا على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر (وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ) يعني: الغنى، وحمل بعض السلف الآية على بخل اليهود بإظهار ما عندهم

من العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) أي: أعتدنا لهم فإنهم كافرون بنعمة الله. (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ) لا لوجه الله، ذكر الباذلين رياء بعد الممسكين والمراد اليهود أو المنافقون أو مشركو مكة، وهو عطف على الذين يبخلون (وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) أى فبئس الشيطان قرينًا (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين). (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) أي: أي تبعة تحيق بهم (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) في سبيله (وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) وعيد لهم. (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) زنة نملة صغيرة، أو جزء من أجزاء الهباء إن كان مؤمنًا فله الأجر في الدارين، وإن كان كافرًا فمقصور على الدنيا، أو تخفيف في عذابه فلا يظلم وهو قادر عليه (وَإِنْ تَكُ) مثقال الذرة (حَسَنَةً) وحذف النون من غير قياس تشبيهًا بحرف العلة (يُضَاعِفْهَا) أي: ثوابها (وَيُؤْتِ) صاحبها (مِنْ لَدُنْهُ) من عنده بفضله (أَجْرًا عَظِيمًا) جزيلاً وهو الجنة.

(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) أي: كيف حال هؤلاء الكفرة إذا جئنا بنبي كل أمة يشهد بصلاحهم وفسادهم (وَجِئْنَا بِكَ) يا محمد (عَلَى هَؤُلاء) على جميع الأمم أو المنافقين أو المشركين (شَهِيدًا). (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) لو يدفنون وتبتلعهم الأرض فتسوى، أو لم يبعثوا، أو يكونون ترابًا، والباء للملابسة فهو حال، أو بمعنى: على فظرف لغو (وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) بشهادة أيديهم وأرجلهم عليهم، عطف على جملة يود لما رأو أن الجنة خاصة للمسلمين قالوا: " والله ربنا ما كنا مشركين " [الأنعام: 23]، كذبوا رجاء زجهم في المسلمين فختم الله على أفواههم وشهدت عليهم أيديهم وأرجلهم، " وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا " [النساء: 42]، أو داخل في التمني بمعنى: يتمنون أنهم لم يكونوا كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأمره. * * *

(43)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا

تَقُولُونَ) اجتنبوها حال السكر، نزلت في جمع من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمه وتقدم أحدهم للإمامة وقرأ " قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون " قال الضحاك: عنى به سكر النوم لا سكر الخمر (وَلَا جُنُبًا) عطف على " وأنتم سكارى " (إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) مسافرين حين فقد الماء فإنه جائز للجنب حينئذ الصلاة، أو معنى الآية لا تقربوا مواضع الصلاة في حال السكر ولا في حال الجنابة إلا حال العبور فيها فجاز المرور لا اللبث وعليه كلام أكثر السلف (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) من الجنابة (وَإِن كنتُم مَّرْضَى) مرضًا يخاف معه من استعمال الماء، وقيل: مطلقًا، قال

مجاهد: نزلت في مريض من الأنصار لم يكن له خادم ولم يستطع أن يقوم ويتوضأ (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) طويلاً أو قصيرًا (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الغَائِطِ) هو المكان المطمئن، وهو كناية عن الحدث الأصغر (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) جامعتموهن أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) الظاهر أنه قيد للكل، والمريض الخائف من استعماله أو غير المستطيع أخذه كأنه لم يجد، فالحاصل أن الله تعالى رخص في التيمم لفاقد الطهرين حال فقدان الماء لخوف عدو أو إرهاف في موضع لا ماء فيه، أو عدم آلة استقاء أو غير ذلك مما يقع قليلاً، ويمكن أن يكون قيدًا للآخرين ولهذا غير الأسلوب ولم يقل: أو جنبتم وأما المرضى إذا خافوا من استعمال الماء أو لم يقدروا والمسافر إذا احتاج هو أو رفيقه أو حيوان محترم معه حالاً أو مالاً فلهم التيمم، وأما فاقدوا الطهرين إذا لم يجدوا ماء فلهم التيمم (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي: قصدوا ترابًا أو ما يصعد من الأرض طاهرًا أو حلالاً (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكمْ وَأَيْدِيكُمْ) اليد يطلق على ما يبلغ المرفقين كما في الوضوء، وعلى ما يبلغ الكوعين كما في السرقة " فاقطعوا أيديهما " (المائدة: 38)، فلذلك اختلفوا أنه يجب المسح إلى المرفقين أو لا (إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) يسهل ولا يعسر. * * *

(44)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ

تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) ألم تنظر إلى من له حظ يسير من التوراة، أعني: الأحبار (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) يختارونها على الهدى (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلوا) أيها المؤمنون (السَّبِيلَ) طريق الحق. (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بأَعْدَائِكُمْ) وقد أعلمكم فاحذروهم (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا) يلي أمركم (وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا) ينصركم فاكتفوا به عن غيره، والباء في فاعل كفى: للتأكيد. (مِنَ الذِينَ هَادُوا) بيان للذين أوتوا أو لأعدائكم أو صلة نصيرًا أي: ينصركم من الذين، أو خبر مبتدأ تقديره: من الذين هادوا قوم (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) يميلونه عن مواضعه التي أثبته الله فيها بإزالته وإثبات غيره فيها، أو

يفسرونه بغير مراد الله على مقتضى هواهم (وَيَقولونَ سَمِعْنَا) قولك (وَعَصيْنَا) أمرك (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع ما نقول لا سمعت، فهو حال من المخاطب أى: مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسمع غير مسمع ما ترضى قيل: قولهم وعصينا وغير مسمع قول سرهم (وَرَاعِنَا لَيًّا) فتلاً (بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) أي: يوهمون أنهم يقولون: أرعنا سمعك وإنما يريدون الرعونة أو السب بلغتهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي: لو ثبت هذا مكان ما قالوه لكان قولهم ذلك خيرًا وأعدل لهم (وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) فلا يهتدون إلى خيرهم (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) إيمانًا (قَلِيلًا) لا ينفعهم أو إلا قليلاً منهم فهو استثناء من مفعول لعنهم المرتب عليه فلا يؤمنون فليس المختار فيه الرفع.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَ) نحو العين والأنف ونجعلها من قبل الأقفية فلهم عينان من القفى يمشون قهقرى، أو نجعلها كالأقفاء بلا عين وأنف، أو بأن نجعلها منابت الشعور كالقردة، أو أن نطمس وجوهًا عن صراط الحق فنردها على أدبارها في الضلالة، أو نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز، فالمراد إجلاؤهم من أوطانهم، والطمس والمسخ يكونان لهم قبل القيامة أو لهم هذا في القيامة، أو مشروط بعدم الإيمان وقد آمن بعضهم (أَوْ نلْعَنَهُمْ) الضمير للذين على طريقة الالتفات (كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) نخزيهم بالمسخ فنجعلهم قردة وخنازير كما فعلنا بأصحاب السّبت (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) لا راد لحكمه.

(إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) لا يغفر لعبد لقيه مشركًا ويغفر ما دون الشرك صغيرًا أو كبيرًا لمن يريد تفضلاً (وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) يحتقر دونه الذنوب. (أَلَمْ تَرَ) تنظر (إِلَى الذِينَ يُزَكونَ أَنْفُسَهُمْ) بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، أو بما قال اليهود: إن أبناءنا ماتوا وهم لنا قربة سيشفعون ويزكوننا، أو يقدمون أطفالهم في الصلاة لعصمتهم ويزعمون أن المأموم يصير مثلهم (بلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) المرجع في ذلك إلى الله فإنه عالم بالحقائق (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) مما يكون في شق النواة أو ما فتلت بين أصابعك من الوسخ أي: لا ينقص ثوابهم مقدار الفتيل. (انظُرْ) يا محمد (كَيْفَ يَفْتَرُون عَلَى اللهِ الكَذِبَ) في تزكيتهم أنفسهم (وَكَفَى بِهِ) بالافتراء (إِثْماً مُّبيناً) ظاهرًا لا يخفى. (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصيباً) حظًا قليلاًْ (مِّنَ الْكِتَابِ) التوراة (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطاغُوتِ) السحر والشيطان، أو الأوثان وشياطينها، أو الكاهن والساحر، أو الساحر والكاهن بلسان الحبشة، أو الجبت شيطان بلسان الحبشة والطاغوت كل ما يعبد من دون الله (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قريش (هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) سأل قريش عن أحبار

اليهود: ديننا خير أم دين محمد؟ فقالوا: دينكم خير وأنتم أهدى وقيل: سجدوا لأصنامهم حين حالفوا قريشًا في حرب المؤمنين (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) يمنعه من الطرد والخسار (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ منَ الْمُلْكِ) أم منقطعة والهمزة لإنكار ملكهم كما يزعمون أن الملك سيصير لهم، ومعناه الإضراب عن ذمهم بتزكيتهم أنفسهم إلى ذمهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين. (فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) أي إن كان لهم ملك فإذن لا يؤتون أحدًا ما يوازي نقيرًا، وهو النقرة في ظهر النواة يعني: هذا إكمال بخلهم في حال ملكهم وغناهم فما ظنك بحال فقرهم وذلهم (أَمْ يَحْسُدُون النَّاسَ) بل يحسدون محمدًا أو أصحابه، أضرب عن البخل إلى الحسد الذي هو شر منه (عَلَى مَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ) النبوة والكتاب والنصرة وكثرة النساء، وقالوا: لو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء (فقَدْ آتيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) كداود وسليمان كتابهم ونبوتهم (وَآتيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) ملك داود وسليمان وما أوتى من النساء لهما (فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ) بهذا الإيتاء والإنعام (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أعرض عنه وسعى في صد الناس عنه مع أنهم من جنسهم من بني إسرائيل، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ أو معناه: هم يحسدون عليكم وقد آتينا آل إبراهيم الذين هم من أسلافك يا محمد

من فضلنا فلا يبعد أن يؤتيك الله مثل ما آتاهم، ثم قال: فمن اليهود من يؤمن بمحمد ومنهم من صد عنه ولم يؤمن به (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) نارا مسعورة يعذبون بها. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ) ندخلهم (نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) غير الجلود المحترقة، ويحتمل أن يعاد ذلك الجلد بعينه إلا أنه على صورة أخرى (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) وقد ورد أنه في الساعة الواحدة عشرون ومائة مرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) غالبًا لا يغلب (حَكيماً) فتعذيبه وفق حكمته لا ظلمًا (وَالَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا) تحت أشجارها (الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والأذى (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) دائمًا لا حر فيه، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيده كليل أليل وشمس شامس. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) الآية كما قال السلف عامة: لكل بر وفاجر ودخل فيها حقوق الله وحقوق الناس، وإن نزلت في رد مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة حين أخذ منه والتمس علي أو عباس رضى الله عنهما أن تكون له الحجابة والسقاية (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي:

وأن تحكموا بالإنصاف إذا حكمتم (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي: نعم شيئًا يعظكم به، فما موصوفة منصوبة بـ يعظكم، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فيكون مرفوعة موصولة، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعما يعظكم به ذاك وهو أداء الأمانات والعدل (إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) بالأقوال والأحكام في الأمانات وغيرها. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) السلاطين والأمراء فيما وافقوا الحق، وأهل العلم والدين (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ) أنتم وأولو

الأمر (فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ) فراجعوا فيه (إِلَى اللهِ) إلى كتابه (وَالرَّسُولِ) في زمانه وسنته بعده (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ) أي: الرد (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) مآلاً وعاقبة. * * *

(60)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا (70) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) الطاغوت ههنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله من الباطل، نزلت في يهودي ومنافق اختصما فقال اليهودي: بيني وبينك محمد،

وقال المنافق بيننا كعب بن الأشرف، أو في جماعة من المنافقين أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية (وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ) بالطاغوت (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) لا يمكن لهم الرجوع إلى الحق أبدًا. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ) حال كونهم (يَصُدُّونَ) يعرضون (عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ) يكون حالهم (إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) احتاجوا إليك في دفعها (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب شؤم ذنوهم (ثُمَّ جَاءوكَ) حين يصابون للعذر، عطف على إصابتهم (يَحْلِفُونَ) حال (بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا) ما أردنا من تحاكمنا إلى غيرك (إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) مداراة ومصانعة لا اعتقادًا منا تلك الحكومة، أو إحسانًا لخصومنا وتوفيقًا بين الخصمين لا مخالفتك، وبعضهم على أن الكلام تم عند قوله: " بما قدمت أيديهم " و " ثم جاؤك " عطف على " يصدون " وما بينهما اعتراض (أُولئِكَ الّذِينَ يَعْلمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فلا تعنفهم (وَعِظْهُم) وانصحهم بلسانك (وَقُل لهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ) سرًّا ليس معهم غيرهم (قَوْلاً بَلِيغًا) وقيل: في أنفسهم متعلق بليغًا أي: قل لهم قولاً بليغًا في أنفسهم مؤثرًا في قلوبهم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ) فيما حكم لا ليطلب الحكم من غيره (بِإِذْنِ اللهِ) بسبب إذن الله في طاعته، فالإذن بمعنى الأمر والرضا، أو بتيسير الله وتوفيقه في طاعته، فالإذن بمعنى التوفيق (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بمثل التحاكم إلى غيرك (جَاءُوكَ) خبر إن، وإذ ظلموا متعلق به (فاسْتَغْفَرُوا اللهَ) بالإخلاص (وَاسْتَغْفَرَ

لَهُمُ الرَّسُولُ) عدل عن الخطاب تعظيمًا لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام (لَوَجَدُوا اللهَ) صادفوه حال كونه (تَوَّاباً رحِيماً) أو لعلموه قابلاً لتوبتهم (فَلاَ وَربكَ لاَ يُؤْمِنُونَ) لا مزيدة لتأكيد القسم، أو معناه: فليس الأمر كما يزعمون أنَّهم آمنوا وهم يخالفون حكمك (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ) اختلف واختلط (بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا) ضيقًا أو شكًّا (مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا) إنقادوا لأمر رسوله (تَسْلِيمًا) نزلت حين خاصم الزيير رجلاً فقضى

رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير فقال الرجل: قضى له لأنه ابن عمته، أو اختصم رجلان فقضى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فلما أتيا إليه قالا: قضى لنا رسول الله صلى الله عيه وسلم ثم جئنا إليك لتقضي بيننا، فقال عمر: مكانكما فخرج بالسيف وقتل من لم يرض بحكم رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كما كتبنا على بني إسرائيل، وأن مصدرية (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ) كما أمرناهم من ديار مصر (ما فَعَلوهُ) أي: المكتوب، أو الضمير لمصدر أحد الفعلين (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم

المخلصون، نزلت حين افتخر صحابي ويهودي فقال اليهودي: لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا، فقال الصحابي: لو كتب الله علينا لقتلنا (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ) من مطاوعة النبي ومتابعته طوعًا (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) في الدارين (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) لإيمانهم وتصديقهم (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا) كأنه قيل: ما يكون لهم بعد التثبيت، فقال: وَإِذًا والله لآتيناهم فإن إذا جواب وجزاء (وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطً مُّسْتَقِيماً) بسلوكه يصلون إلى الفلاح. (وَمَن يُطِع اللهَ وَالرَّسُولَ) في الفرائض والسنن (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَئعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) نزلت حين قال بعض الصحابة: إني محزون، لأني لا أطيق فراقك يا محمد وإني إن دخلت الجنة أكون في منزلة دون منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا، وفي الحديث أن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون في رياضها وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون فهم في روضة يحبرون (وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفيقاً) الرفيق كالصديق يطلق على الواحد والجمع أو المراد كل واحد منهم ونصبه على التمييز أو الحال وهو كلام في معنى التعجب. (ذلِك) أي: ما أعطى المطيعين من مرافقة المنعم عليهم (الفَضْلُ مِنَ اللهِ) الأول صفة ذلك أو خبره والثاني خبره أو حال (وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً) بمن أطاع الله ورسوله فلا يضيع أجرهم. * * *

(71)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) من عدوكم أي: استعدوا للحرب واحذروا من الأعداء (فانفِرُوا) أخرجوا إلى الجهاد (ثُبَاتٍ) جماعة بعد جماعة متفرقين (أَوِ انفرُوا جَمِيعًا) مجتمعين أي بادروا إلى الجهاد كيفما أمكن من غير أن تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) يتثاقلن ويتخلفن عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ لازم أو ليبطئن غيره منقولاً من بطأ والخطاب لعسكر الرسول. والبعض: المنافقون

واللام الأولى للابتداء والثانية جواب قسم تقديره: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) من قتل أو هزيمة (قَالَ) المبطئ (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) حاضرًا. (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) كفتح وغنيمة (لَيَقُولَن) أكد تنبيهًا على فرط تحسرهم (كَأَنْ) مخففة من الثقيلة (لمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل ومفعوله وهو (يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) منصوب بجواب التمني (فَوْزًا عَظِيمًا) نصيبًا وافرًا من الغنيمة يعني أن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه وليس من أهل دينكم فإن الحظ من المال غاية بغيتهم لا إعانتكم وأجرهم (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) معناه: إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل الذين يبيعون دنياهم بآخرتهم وهم المؤمنون حقًا أو معناه ليغير ما بهم من النفاق فليقاتل الذين يشترون الدنيا الفانية بالآخرة الباقية فعلى الأول حث المؤمنين على القتال وعلى الثاني حث المبطئين على ترك ما هم عليه (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) له الأجر الجزيل غَلَبَ أو غُلِبَ. (وَمَا لَكُمْ) مبتدأ وخبر (لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال، يعاتبهم على ترك الجهاد ويحرضهم عليه (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) أي: في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن أيدي العدو أو في المستضعفين على حذف المضاف أي فِي تخليصهم (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) بيان للمستضعفين الذين هم بمكة تحت أيادى المشركين (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) أرادوا مشركي مكة (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمرنا (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ

(77)

نَصِيرًا) فاستجاب الله تعالى دعاءهم يسر لبعضهم الهجرة إلى المدينة وفتح مكة على نبيه عليه الصلاة والسلام فنصرهم وتولاهم (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فيما يصلون به إلى الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) فيما يبلغ بهم إلى الشيطان (فَقَاتِلُوا) أيها المؤمنون (أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) أي: مكره المؤمنين بالنسبة إلى مكر الله للكافرين ضعيف فلا تخافوهم. * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ

غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا (87) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ) عن قتال المشركين حين التمسوا قتالهم في مكة وهم ضعفاء قليلون (وَأَقِيمُوا الصلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ) واشتغلوا بما أمركم الله (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتالُ) في المدينة وهم أقوياء كثيرون (إِذا فَرِيقٌ منْهُمْ) إذا للمفاجأة جواب لما (يَخْشَوْن النَّاسَ) الكفار خبر فريق ومنهم صفته (كَخَشْيَةِ اللهِ) إضافة المصدر إلى المفعول أي: خشية مثل خشيتهم لله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف على كخشية الله أي: أو خشية أشد تلك الخشية خشية من خشيتهم لله بأن جعل الخشية خاشيًا كجد جده أو كخشية الله حال من ضمير الجمع أي: حال كونهم مثل

أهل خشية الله أو أشد خشية من أهل خشية الله (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي: الموت يعني هلا تركتنا نموت بآجالنا قيل: القائلون منافقون أو مؤمنون وقالوه خوفًا وحرصًا على الحياة ثم تابوا، أو مؤمنون تخلفوا ونافقوا لما فرض عليه القتال (قُلْ) يا محمد (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) سريع التقضي (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) لا ينقص من ثوابكم مثل فتيل النواة (أينَمَا تَكُونوا يُدْرِككمُ المَوْتُ وَلَوْ كنتُمْ فِي بُرُوجِ مُّشَيَّدَةٍ) حصون مرفوعة منيعة عالية قيل: نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا (وَإِن تُصِبْهُمْ) المنافقين واليهود (حَسَنَةٌ) كخصب ورزق من ثمار وأولاد (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) كجدب ونقص من هلاك ثمار وموت أولاد (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) قالوا: ما هي إلا بشؤم محمد وأصحابه (قُلْ كُلٌّ) من الحسنة والسيئة (مًّنْ عِندِ اللهِ) (1) بإرادته وقضائه يبسط ويقبض (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ

__ (1) وتعلق أهل القدر بظاهر هذه الآية فقالوا: نفى الله تعالى السيئة عن نفسه ونسبها إلى العبد، فقال: وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولا متعلق لهم فيه؛ لأنه ليس المراد من الآيات حسنات الكسب ولا سيئاته من الطاعات والمعاصي بل المراد منه ما يصيبهم من النعم والمحن، وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم فقال: ما أصابك ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني إنما يقال: أصبتها ويقال في المحن: أصابني بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابًا ولا عقابًا فهو كقوله تعال: " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " (الأعراف: 131)، فلما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه ووعد عليها الثواب والعقاب فقال: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " (الأنعام: 160)، وقيل معنى الآية: ما أصابك من حسنة من النصر والظفر يوم بدر فمن الله أي من فضل الله، وما أصابك من سيئة من القتل والهزيمة يوم أحد فمن نفسك، أي: بذنب نفسك من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن قيل: كيف وجه الجمع بين قوله: " قل كل من عند الله " أي: =

لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) أي: القرآن فإنه لو فهموه لعلموا أن الكل منه تعالى، أو حديثًا ما كبهائم لا أفهام لهم (مَا أَصَابَكَ) يا إنسان (مِنْ حَسَنَة) من نعمة (فَمِنَ اللهِ) تفضلاً منه (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) بلية (فَمِنْ نَفْسِكَ) بسبب شؤم ذنوبك وإنما كتبتها عليك فالحسنة إحسان، والسيئة مجازاة يصل الكل من الله تعالى (وَأَرْسَلْنَاكَ) يا محمد (لِلنَّاسِ رَسُولًا) حال قصد به التأكيد ويجوز تعلق للناس به فحينئذ قصد به التعميم أي: رسولاً للناس كلهم (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا

_ = الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله، وقوله: فمن نفسك أي: وما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال الله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم "، يدل عليه ما روي مجاهد عن ابن عباس أنه قرأ (وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، وأنا كتبتها عليك) وقال بعضهم: هذه الآية محصلة بما قبله والقول فيها مضمر تقديره " فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا " يقولون: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، قل: كل من عند الله ". / 12 معالم.

وَحْيٌ يُوحَى، نزلت حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أطاعني وأحبني أطاع الله تعالى وأحبه فقال المنافقون: يريد أن نتخذه ربًّا كما اتخذ النصارى عيسى عليه السلام (وَمَن تَوَلَّى) أعرض عن طاعته (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) عن المعاصي إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (وَيَقولُون) أي: المنافقون (طَاعَةٌ) أي: أمرنا وشأننا طاعة (فَإِذَا بَرَزُوا) خرجوا (مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي: قدر وبدل ليلاً وسرًّا خلاف ما قلت لهم أو خلاف ما قالت طائفة من الطاعة (وَاللهُ يَكْتُبُ) يثبت في صحائف أعمالهم (مَا يُبَيِّتُونَ) ما يسرون ويقدرون ليلاً (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فاصفح عنهم ولا تؤاخذهم (وَتَوَكلْ عَلَى اللهِ) سيما في شأنهم (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا) يكفيك شرهم قيل: الآية منسوخة بآية القتال (أَفَلاَ يَتَدَبَّرونَ القرْآنَ) لا يتفكرون فيه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) كما زعم الكفار والمنافقون (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) تفاوتًا وتناقضًا لا يكون كله في طبقة البلاغة، ويكون في إخبار الغيب بما كان ويكون خلاف واقع (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) مما يوجب أحدهما (أَذَاعُوا به) أفشوه إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتحهم أو هزيمتهم يفشونه قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه مضار كثيرة وهم المنافقون وقيل: ضعفة المؤمنين وأذاع جاء متعديًا بنفسه وبالباء (وَلَوْ رَدُّوهُ) ذلك الخبر (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) ذوي الرأي من أصحابه أو أمراء السرايا (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)

يستخرجونه ويستعملونه من معادنه يعني: لو سكتوا لحصل لهم العلم به من الرسول وأولي الأمر، ولا ضر فيه أو لو ألقوا ذلك الخبر إليهم لعلمه الذين يستخرجون تدبيره بتجاربهم وأنظارهم على أي وجه يذكر من إفشاء ما فيه المصلحة وكتمانه، وقد صح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجد الناس يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه فجاء إليه وسأل عنه فقال عليه الصلاة والسلام: لا فنادى عمر بأعلى صوته: لم يطلق، ونزلت هذه الآية فقال عمر: أنا الذي استنبطت ذلك الأمر (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بإرسال الرسل وإنزال الكتب (لاتَّبَعتمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) ممن تفضل عليه بعقله الصائب فاهتدى به كورقة بن نوفل وقيل: إلا اتباعًا قليلاً نادرًا (فَقَاتِل فِي سَبِيلِ اللهِ) ولو كنت وحدك (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) إلا فعل نفسك فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فالله ناصرك (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: على القتال فما عليك إلا التحريض (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: شدة المشركين بتحريضك إياهم على القتال، وقد فعل بأن ألقى الرعب في قلوبهم فرجعوا عن الطريق في البدر الثاني (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) صولة وشدة من قريش (وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) عقوبة (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً) تجوز في الدَّين قُبلت أو لا (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) وهو ثواب الشفاعة (وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً) لا يجوز أن يشفع فيه (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) نصيب من

وزرها (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) مقتدرًا أو حفيظًا (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) أي: إذا سلَّم عليكم فأجيبوا بزيادة أو ردوا كما سلَّم فإذا قال أحد: السلام عليك ورحمة الله فزد عليه: وبركاته، والزيادة سنة، والرد واجب، وقال قتادة: الزيادة للمسلمين والرد لأهل الذمة (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) يحاسبكم ويجازيكم. (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: والله ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة أو ليجمعنكم في القبور إلى يوم القيامة (لَا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم أو في الجمع (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا) وعدًا ووعيدًا. * * *

(88)

(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) * * * (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) تفرقتم في أمرهم فرقتين، " فئتين " حال، وعاملها لكم " وفي المنافقين " متعلق بما دل عليه فئتين أي: متفرقين فيهم نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه حين رجعوا عن طريق أُحد فبعض المسلمين قالوا: نقتلهم، وفرقة تقول: لا فإنهم مسلمون.

أو في قوم من العرب نزلوا المدينة وأسلموا ثم أصابتهم حمى المدينة فخرجوا ولحقوا المشركين وكتبوا إلى المسلمين إنا على دينكم فقال: بعضهم نافقوا وقال بعضهم: هم مسلمون. أو في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين وقعدوا عن الهجرة (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) ردهم إلى الكفر بسبب عصيانهم أو أهلكهم (أَتُرِيدُونَ) أيها المؤمنون (أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) تجعلوه من المهتدين (وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الهدى (وَدُّوا) تمنوا هؤلاء (لَوْ تَكْفُرُونَ) أنتم (كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ) أنتم وهم (سَوَاءً) في الضلال وهو عطف على تَكْفُرُونَ (فَلاَ تَتَخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) لا توالوهم (حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فتحققوا إيمانهم (فإِن تَوَلَّوْ ا) عن الهجرة وأظهروا الكفر (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) لا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) استثناء من مفعول واقتلوهم أي: لا تقتلوا الذين يلجأون وينتهون إلى قوم عاهدوكم واجعلوا حكمهم كحكمهم وهم الأسلميون، فإنه عليه الصلاة والسلام وادع لهلالاً اللأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن وصل إليه فله من الجوار مثل ما له، أو بنو بكر بن زيد مناة أو خزاعة (أَوْ جَاءُوكُمْ) عطف على الصلة (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال أي: قد ضاقت عن (أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ) أو لأن أو كراهة أن (أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ) هؤلاء قوم آخرون من المستثنين عن الأمر بقتلهم وهم الذين يخشون المصاف وصدورهم كارهة عن قتالكم

(92)

ولا يهون عليهم أيضًا أن يقاتلوا قومهم معكم لا عليكم ولا لكم، كجماعة خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين وكرهوا القتال كعباس ونحوه وقيل: معناه أن يقاتلوا قومهم أي: إذا أسلموا وقيل عطف على صفة قوم أي: إلا الذين يلجأون إلى قوم جاءوكم كافين عن القتال (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) تسليطهم (لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) أي: من لطفه بكم أن أذلَّهم عندكم وضيق صدورهم عن قتالكم فكفوا عنكم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) الصلح والانقياد (فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) في أخذهم وقتلهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هم أسد وغطفان أو بنو عبد الدار أظهروا الإسلام مع المسلمين ليأمنوا عندهم على دمائهم وأموالهم وحققوا الكفر مع قومهم (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) دعوا إلى الشرك وقيل: إلى القتال مع المسلمين (أُرْكِسُوا فِيهَا) (فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) لم يصلحوا (وَيَكُفوا أَيْدِيَهُمْ) عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) حجة بينة في قتالهم لظهور عداوتهم وعدم وفائهم. * * * (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا

مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) * * * (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ) ما صح له وليس من شأنه (أَنْ يَّقْتُلَ مُؤْمِناً) في شيء من الأحوال (إِلَّا خَطَأً) أي: حال الخطأ أو إلا قتلاً خطأ، وقيل: الاستثناء منقطع، وما كان نفى بمعنى النهي أي: لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: فعليه إعتاقها (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) مؤداة إلى

ورثته يقسمونها قسمة الميراث (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يعفوا وسمي العفو عنها صدقة ترغيبًا عليه أي: فعليه التحرير والدية في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بالدية فحينئذ تسقط الدية (فَإِنْ كَانَ) المؤمن المقتول (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) كفار محاربين (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ولم يعلم القاتل إيمانه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) دون الدية لأهله لأنه لا وراثة بين مسلم وكافر (وَإِن كاَنَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنهُم مِّيثَاقٌ) ككفار معاهدين أو أهل الذمة (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: فحكمه حكم المسلم في وجوب الكفارة والدية إن كان المقتول مؤمنًا وكذا إن كان كافرًا أيضًا عند كثير من العلماء (فَمَن لَمْ يَجِدْ) رقبة ولم يجد ثمنها (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) أي: فعليه ذلك (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) مفعول له أي: شرع ذلك له توبة من تاب الله عليه إذا قبل توبته (وَكاَنَ اللهُ عَليماً) بحاله (حَكِيماً) فيما حكم عليه (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) عشرة من كبار السلف بل أكثر على أنه لا يقبل توبة قاتل المؤمن عمدًا ويؤيدهم بعض الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا " والجمهور على أنه له توبة

ويدل عليه الآيات والأحاديث فقال بعض السلف: هذا جزاؤه إن جوزي عليه لكن قد يكون لذلك الجزاء معارض من عمل صالح أو عفو، وقيل الإخلاف في الوعيد ليس بخلف وذم، أو المراد بالخلود المكث الطويل، أو الخلود لمن يستحله فإنه نزلت في رجل خرج من المدينة وقتل مؤمنًا وارتد. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذهبتم للغزو وسافرتم (فَتَبَيَّنُوا) اطلبوا بيان الأمر ولا تعجلوا فيه (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُم السَّلامَ) لمن حياكم بتحية الإسلام، ومن قرأ السَّلَم فمعناه: الانقياد وقيل: معناه: قول لا إله إلا الله محمد رسول الله (لَسْتَ مُؤْمِنًا) وإنما فعلت ذلك متعوذًا (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تطلبون حطام الدنيا، هو حال من فاعل لا تقولوا (فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) ربما يفنيكم عن قتل من أظهر الإسلام لما له (كَذَلِكَ كنتم مِّن قَبلُ) تخفون إيمانكم أو لم تكونوا مؤمنين أو محصونة دماؤكم بمجرد كلمة الشهادة (فمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاشتهار بالإيمان أو بالهداية (فَتَبَيَّنُوا) لا تبادروا ظنًّا بأنهم دخلوا في الإسلام اتقاءً وخوفًا. تأكيد لما تقدم (إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) عالمًا بالغرض من القتل فاحتاطوا. نزلت في رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فقتلوه وأخذوا غنيمته، أو في

رجل له مال كثير بقي من قوم كافرين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم السرية وقد تفرقوا فقال: أشهد أن لا إله إلا الله فأهوى إليه أحد من المسلمين فقتله، فأنزل الله الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقاتل: " كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل " (لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ) عن الحرب (مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) صفة القاعدون، فإنه ما أراد به قومًا معينًا فهو كالنكرة أو بدل، ومن قرأ منصوبًا فهو حال أو استثناء، نزلت أولاً " لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " إلخ فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه ثم سرى عنه فقرأ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) يعني لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الحرب من غير عذر (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ) غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ صرح به ابن عباس والحديث الصحيح يدل عليه (دَرَجَةً) الجملة موضحة، لما نفي الاستواء فيه ونصب درجة بنزع الخافض أي: بدرجة عظيمة تندرج تحت الدرجات أو على المصدر، لأنه تضمن معنى

التفضيل (وَكُلًّا) من القاعدين والمجاهدين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) الجنة والجزاء الجزيل (وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيمًا) بمعنى آجرهم أجرًا عظيمًا (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) كل واحد بدل من " أجرًا " كرر تفضيل المجاهدين وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً قيل: الدرجة: ارتفاع منزلتهم عند الله، والدرجات: منازلهم في الجنة، وقال بعض المفسرين: القاعدون الأول هم الأضراء خلاف ما صرحناه فإنهم أفضل بدرجة واحدة؛ لأن لهم نية بلا عمل ولهم نية وعمل، والقاعدون الثاني: هم غير أولي الضرر فإن بينهم درجات كثيرة (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا) لما فرط عنهم (رحِيماً) بأن جعل نية المؤمن كعمله. * * *

(97)

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) * * * (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) يحتمل أن يكون ماضيًا ومضارعًا (المَلائكَةُ) ملك الموت وأعوانه ولا يبعد أن يقال معناه: قتلهم الملائكة فإن الملائكة محاربون يوم بدر (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وبالخروج مع المشركين (قَالوا): الملائكة، توبيخًا لهم (فِيمَ كُنْتُمْ) أي: في أي شيء كنتم من أمر الدين حيث ما هاجرتم وما أظهرتم دينكم (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) عاجزين عن الخروج من مكة إلى المدينة (قَالوا): الملائكة، تبكيتًا لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) إلى جانب وبلد آخر (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) لمساعدتهم الكفار وهو خبر إن و " قالوا فيم كنتم ": حال بإضمار قد أو خبر بحذف العائد أي: قالوا لهم وحينئذ فأولئك عطف على الجملة قبلها مستنتجة منها (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) جهنم نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا وخرجوا مع

(101)

المشركين فقتلوا يوم بدر (إِلا الُمسْتَضْعَفِينَ) استثناء منقطع (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) الصبيان أو المماليك وذكر الصبيان إن أراد المراهقين فظاهر وإلا فللمبالغة والإشارة إلى أن على القوم أن يهاجروا بهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أسباب السفر من قوة أو مال حال عن المستضعفين أو صفة له إذ لا تعيين في الألف واللام (وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لا يعرفون طريقًا (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) هم وإن كانوا عاجزين لكن ربما تمكنوا من الهجرة وقتًا ما بنوع ما ولم يدروا ولهذا أطمعهم في العفو وليعلم أن تلك الهجرة أمر خطير من شأنه أن لا يأمن المعذور فكيف بغيره (وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا) تمتعًا يراغم به الأعداء، وعن كثير من السلف أن المراغم التحول من أرض إلى أرض وعن بعضهم متزحزحًا عما يكره (وَسَعَةً) في الرزق أو من الضلالة إلى الهدى (وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ) في الطريق (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ثبت أجره عند الله نزلت في ضمرة بن جندب شيخ كبير مصاب البصر هاجر من مكة فمات في الطريق (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فبرحمته يجعل الناقص كالتام. * * * (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا

كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) * * * (وَإِذَا ضَرَبتُمْ فِي الأَرْضِ) سافرتم (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) حرج (أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) هذه العبارة تدل على جواز القصر لا على وجوبه، لكن أكثر السلف على وجوبه، وقال كثير منهم: هذه الآية في صلاة الخوف، فالمراد: أن تقصروا من جميع الصلوات بأن تجعلوها ركعة واحدة أو من كيفيتها لا من كميتها، والآية التي بعدها تبيين وتفصيل لها كما سنذكر، سئل ابن عمر رضى الله عنهما أنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا تجد قصر صلاة المسافر؟ فقال ابن عمر: إنا وجدنا نبينا يعمل فعملنا به وما يدل على ذلك كثير ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة

الخوف صدره بهذه الآية وعلى هذا قوله (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذِينَ كَفَرُوا) شرط له لا باعتبار الغالب في ذلك الوقت ويعتبر ولا يعتبر مفهومه فإن الإجماع على

جواز القصر في السفر من غير خوف (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ) أيها الرسول، علمه طريق صلاة الخوف ليقتدي الأئمة بعده به عليه

الصلاة والسلام (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُم مَّعَكَ) أي: اجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصلِّ بهم (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي: الباقون وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم أو المصلون حزمًا (فَإذَا سَجَدُوا) المصلون (فَلْيَكُونُوا) أي: غير المصلين (مِن وَرَائِكُمْ) يحرسونكم (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا) أي الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا) أي: الذين صلوا قبل أو الذين أتوا (حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها الغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ روي في طريق صلاة الخوف ستة أوجه أو سبعة، وأنا أذكر بعضها. أحدها: أن يجعلهم صفين ويصلي بهما إلى أن يرفعا رأسهما من الركوع سجد وسجد الصف الأول والصف الأخير قيام يحرسونهم فلما قام الصف الأول إلى الركعة الثانية سجد الصف الثاني، ثم يقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلي مصاف هؤلاء ثم ركع وركعوا جميعًا ورفعوا من الركوع ثم سجد وسجد الصف الذي يليه والآخر قيام يحرس فلما جلسوا سجد الصف الثاني وتشهد الكل وسلموا.

والثانية: أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة وينتظر قائمًا حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى المصاف، وتأتي الأخرى فيتم به الركعة الثانية وينتظرهم قاعدًا حتى يتموا صلاتهم ويسلم بهم. والثالثة: قال جابر عن عبد الله الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال، وهو أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام صف قبله وصف خلفه فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا خلفه مقام هؤلاء، فصلى بهم ركعة وسجدتين، ثم سلم وسلموا فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة ركعة، وهذا الطريق مروي عن كثير من الصحابة بروايات متعددة صحيحة. والرابعة: أن يصلي بكل من الطائفتين ركعتين فيكون للإمام أربع ركعات وللمأمومين ركعتان (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً) بالقتال فلا تغفلوا عنها (وَلاَ جُنَاحَ) لا وزر (عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) هذا يدل على أن الأمر بأخذ السلاح للوجوب، وهو قول بعض العلماء، وأكثرهم على أنه سنة مؤكدة (وَخُذُوا

(105)

حِذْرَكُمْ) أي: لا بد من التيقظ وعدم الغفلة في أي صفة وحال كنتم (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) وعد للمؤمنين بالنصر وإشارة على أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب في الأمور التيقظ (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ) فرغتم من صلاة الخوف (فَاذْكُرُوا الله قِيَاماً وَقُعوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) أي: في سائر أحوالكم وكثرة الذكر عقب صلاة الخوف آكد لما فيها من التخفيف ومن الرخصة في الذهاب والإياب، وغيرها قيل: معناه إذا أردتم الصلاة واشتد الخوف فصلوها كيف ما أمكن (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) سكنت جآشكم من الخوف (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) عدلوا أركانها واحفظوا شرائطها (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) مفروضًا محدودًا أو منجما كلما مضى وقت جاء وقت (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) في طلب قتال الكفار (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) من الحرج (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) فضرر القتال لا يختص بكم (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ) ولكم هذا المزيد رجاء المثوبة والنصر والتأييد، فينبغي أن تكونوا أصبر على الحرب وأرغب (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) بضمائركم (حَكِيمًا) فيما حكم. * * * (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا

أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) * * * (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ) في الحكم لا بالتعدي فيه (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) بما عرفك وأوحى به إليك نزلت في طعمة بن أبيرق سرق درعًا فجاء صاحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن طعمة سرق درعي فلما رأى السارق ذلك ألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته: إني ألقيتها في بيت فلان فانطلقوا ليلاً إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن صاحبنا بريء وسارقها فلان فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذره وقيل: هم أن يبرئه فنزلت (وَلاَ تَكن لِّلْخَائِنِينَ) لأجلهم (خَصِيماً) للبراء

(وَاسْتَغْفرِ اللًهَ) من موافقتهم في نسبة السرقة إلى البرىء أو من ذلك الهم والقصد (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) لمن استغفر (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانونَ أَنْفُسَهُمْ) يخونونها بالمعصية، لأن الضرر راجع إليهم أي: لا تجادل عن كل من خان (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا) مبالغًا في الخيانة (أَثِيمًا) منهمكًا في الإثم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يسترون سرقتهم (وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) وهو أحق أن يستحيي ويخاف (وَهُوَ مَعَهُمْ) لا يخفى عليه شيء فطريق إخفاء شيء عنه عدم فعله (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبرون وأصله أن يكون بالليل (مَا لاَ يَرْضَى) الله (مِنَ القَوْلِ) رمي البرىء وشهادة الزور (وَكَانَ اللهُ بمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) فيجازيهم. (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) مبتدأ وخبر (جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ) خاصمتم عن طعمة وقومه. جملة هي مبينة لوقوع أولاء خبرًا، أو صلته عند من يقول: إنه موصول (في الحَيَاةِ الدُّنْيَا فمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ) إذا أخذهم بعذابه (أَم مَّن يَكُون عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)

(113)

فيروج دعواهم (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) يسوء به غيره أو صغيرة أو إثمًا دون الشرك (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما لا يتعداه أو بكبيرة أو بالشرك (ثُمَّ يَسْتَغفِرِ الله يَجِدِ اللهَ غفُوراً رحِيماً) فيه عرض التوبة على طعمة لكن كما قيل: ما تاب بل ارتد (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) ولا يتعدى ضرره إلى غيره، لا تزر وازرة وزر أخرى (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) فمن علمه وحكمته أنه لا يأخذ أحدًا بذنب آخر (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) صغيرة، أو ذنبًا بينه وبين الله (أَوْ إِثْماً) كبيرة، أو ما بينه وبين الناس (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) بأحدهما (بَرِيئًا) كما رمي طعمة (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) برمى البريء وتنزيه الخاطئ. * * * (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ

يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) * * * (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمتُهُ) بإعلام ما وقع منهم (لَهَمَّت طَائِفَةٌ منْهُمْ) من قوم طعمة (أَنْ يُضِلوكَ) عن القضاء بالحق، وليس المراد نفي همهم بل المراد أن من فضل الله عدم تأثيرهم فيك (وَمَا يُضِلونَ إِلا أَنفُسَهُمْ) لأن الله عصمك وهم ارتكبوا خطايا (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْء) شيئًا من الضر فإن الله عاصمك من الناس (وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والسنة (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ) قبل نزول ذلك من خفيات الأمور (وَكَان فَضْلُ اللهِ عليْكَ عَظِيماً) فإنه لا فضل أعلى من النبوة (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) النجوى سر بين اثنين (إِلَّا) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوف) هو كل ما يستحسنه الشرع (أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) خصه لشرفه، والاستثناء بدل من كثير وقيل: منقطع أي: لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير (وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ) أي: الأمر بالصدقة (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) أي: مخلصًا محتسبًا ثوابه عند الله (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) فإن من فعل خيرًا رياءً لم يستحق جزاءً أصلاً، لأن كل جزاء من الله عظيم في جنب أغراض الدنيا وقيل: قوله " ذلك إشارة إلى الصدقة والمعروف والإصلاح، لا إلى الأمر بها فالأول حكم الدال على الخير، والثاني حكم فاعله (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) يخالفه (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى) ظهر له الحق بوقوفه على المعجزات (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ) غير

(116)

طريقهم (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) ندعه وما اختار ونزينه له وقيل نكله في الآخرة لما تولى وأعرض في الدنيا (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) ندخله فيها (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) جهنم نزلت في طعمة حين حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده فهرب إلى مكة مرتدًا وخالف. * * * (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) * * *

(إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لمن لقيه مشركًا (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) غفرانه (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) فإنه أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الثواب قيل: نزلت في طعمة أيضًا فإنه مات مشركًا، أو في شيخ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئًا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربًا، وإني لنادم تائب مستغفر، فما حالي؟ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) ما يعبدون من دون الله (إِلَّا إِنَاثًا) اللات والعزى ومناة، لأن لكل حي صنمًا يسمونه أنثى بني فلان، أو لأن مع كل صنم جنية، أو لأن الإناث كل شيء ميت لا روح فيه من شجر أو حجر، أو المراد الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) المريد المارد: الخارج بالكلية عن طاعة الله، فإنه أمرهم بعبادتها فعلى الحقيقة هم يعبدونه (لَعَنَهُ اللهُ) أبعده عن رحمته صفة ثانية للشيطان (وَقَالَ) إبليس (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) لأن أغويهم وأضلهم (نصِيباً مَّفرُوضاً) معينًا معلومًا عطف على لعنه الله، أي: يعبدون شيطانًا ماردًا مطرودًا عدوًا لكم غاية العداوة (وَلأُضِلَّنَّهُمْ) عن الصواب (وَلأُمَنِيَنَّهُمْ) إدراك الآخرة مع المعاصي وطول الحياة، يأمرهم بالتسويف والتأخير أو أنه لا جنة ولا نار (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ) يشقونها ويجعلون ركوب تلك الأنعام حرامًا ويسمونها بحائر: ما يجيء في المائدة وهو إشارة إلى تحريم كل حلال

(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) هو الخصاء أو الوشم أو دين الله (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دونِ اللهِ) فيطيعه ولا يطيع الله (فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مبِيناً) إذ ضيع بالكلية رأس ماله وباع الجنة بالدنيا (يَعِدُهُمْ) ولا ينجز (وَيُمَنِّيهِمْ) ما لا يدركون (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) هو إيهام النفع فيما فيه الضرر (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ) مرجعهم (جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) معدلاً ومهربًا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تحت

غرفها وأشجارها (الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران الأول مؤكد لنفسه، والثاني لغيره (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) جملة مؤكدة مقابلة لمواعيد الشيطان (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتَابِ) أي: ليس الدين بالتمني نزلت في المسلمين واليهود حين افتخروا فقال اليهود: نبينا وكتابنا قبل ونحن أولى منكم بالله، وقال المسلمون: نحن أولى نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على جممِع الكتب، وقال مجاهد قالت العرب: أي: المشركون لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى فنزلت (مَن يَعْمَلْ سوءاً يُجْزَ بِهِ) إما في الدنيا أو في الآخرة، وقد صح المصائب والأمراض في الدنيا جزاء (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) يواليه وينصره من عذاب الله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) من للبيان حال من ضمير يعمل وليس

للابتداء (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) شرط للجزاء المرتب (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) مقدار النقير، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمر بأن ينقص من فضله على المطيع وهو أرحم الراحمين فمعلوم أنه لا يزيد في عقاب العاصي (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله) أخلص العمل لربه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) تابع للشرع في علمه أو

(127)

أخلص نفسه له لا يعرف لها ربًا سواه ثم يعمل الحسنات ويترك السيئات أو خضع في عبادته وهو موحد (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام (حَنِيفاً) مائلا عن سائر الأديان حال من إبراهيم، أو من فاعل اتبع، أو من مدة (وَاتَّخَد اللهُ إِبْرَاهِيم خَليِلاً) صفيًا خالصًا ليس في محبته خلل، روي أنه لما نزلت (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) الخ قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء فنزلت " ومن يعمل من الصالحات " " ومن أحسن دينًا " الخ فتبجح به المسلمون (وَللهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ) خلقًا وملكًا (وَكَان اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً) بعلمه وقدرته فيجازيهم على الخير والشر. * * * (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ

الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) * * * (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) في طريق المعاشرة مع اليتامى، نزلت في كل من عنده يتيمة هو وليها ووارثها فيرغب في نكاحها إن كانت جميلة ويأكل مالها، وإن كانت دميمة يعضلها حتى تموت فيأخذ ميراثها، أو في ميراث بنات أم كجّة من أبيهن فإن ْالعرب كانت لا تورث النساء والصبيان وحينئذ معناه في ميراث النساء (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فيهِنَّ) الإفتاء تبيين المبهم (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ) عطف على لفظ الله أو على الضمير في يفتيكم والإفتاء مسند إلى الله وإلى ما في القرآن من قوله: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) إلخ أو من قوله: " يوصيكم الله في أولادكم " إلخ على ما ذكرنا من اختلاف سبب النزول على طريقة قولهم: أغناني زيد وكرمه (فِى يَتَامَى النِّسَاء) صلة يتلى أو بدل من فيهن والإضافة بمعنى من (اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ) من صداقهن أو ميراثهن (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) أي: عن أن تنكحوهن لدمامتهن فنهاهم الله عن عضلهن طمعًا في ميراثهن، كما ذكرنا في قوله: (وإن خفتم

ألا تقسطوا) إلخ أو معناه: ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ومالهن ولا تعطون صداقهن وتأكلون مالهن (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَان) عطف على يتامى النساء، فإن العرب لا يورثونهم كما لا يورثون البنات (وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) أي: العدل عطف على يتامى النساء أيضًا أي: يفتيكم في أن تقوموا أو منصوب بإضمار فعل أي: ويأمركم أن تقوموا، أو عطف على فيهن بإضمار في (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) فما ينساه ويجزيكم (وَإِنِ امْرَأَةٌ) مرفوع بفعل يفسره قوله (خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا) علمت منه (نشُوزاً) تجافيا عنها ومنعا لحقوقها (أَوْ إِعْرَاضاً) بأن يقل مجالستها (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) على المرأة والزوج (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) بأن تحط له بعض المهر أو القسم أو النفقة، وصلحا مصدر، وبينهما مفعول به ومن قرأ: يصَّالحا فمعناه: يتصالحا (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة وسوء العشرة (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) يعني أن النفس مطبوعة على البخل لا يغيب عنها، فلا تكاد المرأة تسمح بحط شيء من مهرها وقسمها ولا الزوج يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقها إذا لم يردها، وهو وقوله: " الصلح خير " اعتراض للترغيب في المصالحة وتمهيد العذر في المماكسة (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في العشرة (وَتَتَّقُوا) النشوز ونقص الحق (فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الإحسان (خَبِيرًا) فيثيبكم (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) أي تساووا بينهن من جميع الوجوه فإنه لا بد من التفاوت في

المحبة والشهوة والجماع (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) إلى واحدة منهن فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) أي: الواحدة الأخرى كالتي ليست بذات بعل ولا مطلقة (وَإِن تُصْلِحُوا) بالعدل في القسم (وَتَتَّقُوا) فيما يستقبل الجور فيها (فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رحِيماً) يغفر لكم ما كان من ميل إلى واحدة (وَإِن يَتَفَرَّقَا) بالطلاق ولم يصلحا بينهما (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما عن صاحبه (مِّن سَعَتِهِ) فضله الواسع وقدرته (وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً) واسع

الفضل (حَكِيماً) فيما حكم وأمر (وَلله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ) فله السعة وكمال القدرة (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ) من اليهود والنصارى وغيرهم (مِن قَبْلِكُمْ) متعلق بـ أوتوا أو بـ وصينا (وَإِياكم) عطف على الذين (أَن اتقُوا الله) أي: بتقوى الله وجاز أن يكون أن مفسرة، فإن التوصية في معنى القول (وَإِن تَكْفُرُوا) أي: وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا (فإنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ) مالك الملك كله لا يضره كفركم كما لا ينفعه شكركم فما الوصية إلا لحاجتكم وصلاحكم (وَكَان اللهُ غَنِيًّا) عن الخلق. (حَمِيداً) في ذاته حمد أو لم يحمد (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) (1) فتوكلوا عليه فكأنه قال له ما في السماوات وما في الأرض فاقبلوا وصيته وله ذلك فهو الغني فاسألوا الله وله ذلك فاتخذوه وكيلاً لا غيره (إِنْ يَشَأْ) إذهابكم (يُذْهِبْكُمْ) يفنيكم (أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يوجد قومًا آخرين (وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ) الإعدام والايجاد (قَدِيرًا) بليغ القدرة وهذا تقرير لغناه وتهديد لمن كفر (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ

__ (1) فإن قيل: فأى فائدة في تكرار قوله تعالى: " ولله ما في السماوات وما في الأرض " قيل: لكل واحد منها وجه أما الأول: فمعناه لله ما في السَّمَاوَات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى، فاقبلوا وصيته. وأما الثاني فيقول: فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا أي: هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون. وأما الثالث: فيقول: ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً أي له الملك فاتخذوه وكيلاً ولا تتوكلوا على غيره.

(135)

الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، أو معناه فيعطيه ما يريد وليس له في الآخرة من نصيب (وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) فلا يخفى عليه خافية ويجازى بحسب قصده. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) * * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) مواظبين على العدل لا تعدلوا عنه يمينًا ولا شمالاً (شُهَدَاءَ لله) ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله (وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْربِينَ) أي: ولو عاد ضررها على نفسك أو عليهم أو تقول الإقرار شهادة على نفسه (إِن يَكُنْ) المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فاللهُ أَوْلَى بِهِمَا) أي: بالغني والفقير منكم فكلوا أمرهما إليه فلا ترحم فقره ولا ترهب غناه، وضمير التثنية لما دل عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير لا إليه وإلا لوحد (فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا) أي: لأن تعدلوا عن الحق (وَإِن تَلْوُوا) أي: تحرفوا الشهادة وتغيروها (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها (فإن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) فيجازيكم عليه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين كلهم أو لمؤمني أهل الكتاب حين قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه، أو خطاب لليهود والنصارى (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) اثبتوا عليه أو آمنوا بمحمد كما آمنتم بموسى وعيسى (وَالْكِتَابِ الَّذِي نزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) القرآن (وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن

قَبْلُ) يعني جنس الكتاب لا بكتاب دون كتاب (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: بشئ من ذلك (فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) عن المقصد بحيث لا يكاد يعود على سواء السبيل (إِنْ الذِينَ آمنوا) بالتوراة (ثُمَّ كَفَرُوا) بها بعبادة العجل (ثُمَّ آمنوا) بها بعد عود موسى إليهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بعيسى (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) بمحمد عليه الصلاة والسلام واستمروا عليه حتى ماتوا (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) طريقًا إلى الهدى، ولا فرجًا ولا مخرجًا، فإن الكافر إذا أسلم يغفر الله كفره السابق، لكن من تقرر منه الإيمان والكفر ثم استمر على الكفر لا يغفر الله كفره اللاحق والسابق. أو نزلت في قوم مرتدين آمنوا ثم ارتدوا مرارًا لا في اليهود فقيل معناه: من تكرر منه الإيمان فالكفر لا يغفر الله له لاستبعاد التوبة منه، لأن قلوبهم طبعت على الباطل فلا يثبت على الحق، وعن علي رضى الله عنه يقتل ولا يقبل توبته (بَشِّرِ المُنَافِقِينَ) من باب التهكم (بِأَنْ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) فإنهم أيضًا آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن مرارًا، ثم استمروا بالإصرار على النفاق (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) مرفوع أو منصوب بالذم (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ) والغلبة على المسلمين أو يتعززون بموالاتهم (فإِن العِزةَ للهِ جَمِيعاً) أي: له القوة والغلبة لا يعز إلا من أعزه

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) في القرآن (أَنْ) أي: أنه (إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا) حالان من الآيات (فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) مع من يكفر ويستهزئ (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الاستهزاء، وهذا تذكار ما نزل عليهم بمكة من قوله " وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا " الآية [الأنعام: 68]، (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) في الكفر إن رضيتم بذلك، أو في الإثم فإنكم قادرون على الإعراض والإنكار، وقيل: هي منسوخة بقوله: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) إلخ (إِنَّ الله جَامِعُ الُمنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) ينتظرون وقوع أمر بكم، بدل من الذين أو مبتدأ وخبره (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ففي الدين والنصرة فأسهموا لنا من الغنيمة (وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ) من الظفر فإن الحرب سجال (قَالُوا) للكافرين (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فما فعلنا شيئًا من ذلك (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بأن ثبطناهم عنكم بتخييلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم، أو معناه نصرفكم عن الدخول في جملتهم، فإن

(142)

المنافقين حذروا الكافرين ومنعوا الإسلام (فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ) بما يعلمه منكم من البواطن (وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الُمؤْمِنِينَ سبِيلاً) حجة في الآخرة أو ظهور أو استيلاء كليًّا في الدنيا. * * * (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) * * *

(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ) بزعمهم الباطل كما يحلفون يوم القيامة أنَّهم على الاستقامة (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) يجازيهم على خداعهم أو يعاملهم معاملة المخادع في الدنيا بإمهالهم واستدراجهم في طغيانهم، وفي الآخرة بأنهم يعطون نورًا يوم القيامة، فإذا مضوا قليلاً يطفأ نورهم (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصلاةِ قَامُوا كُسَالَى) متثاقلين كالمكره (يُرَاءُونَ النَّاسَ) ليحسبوهم مؤمنين لا لإخلاص ومطاوعة أمر الله، صفة كسالى أو مستأنفة (وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا) لأنَّهُم يفعلونه رياءً ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله لكان كثيرًا وقيل: لأن ذكرهم باللسان فقط وقيل المراد من الذكر الصلاة أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا على ندرة (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ) مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان حال من واو الجمع أي: يرونهم غير ذاكرين إلا قليلاً مذبذبين (لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ) لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين (وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)

إلى الصواب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فإن مصاحبتهم ومصادقتهم وإسرار المودة إليهم صنيع المنافقين فلا تكونوا مثلهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) حجة بينة في عقابكم بموالاتكم إياكم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) هو الطبقة التي في قعر جهنم، أو توابيت من حديد مقفلة في النار أو بيوت مقفلة عليهم توقد من تحتهم وفوقهم (وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) يخرجهم منها (إِلا الذِينَ تَابُوا) عن النفاق (وَأَصلَحُوا) العمل (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) وثقوا به والتجأوا إليه (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله) من شوائب الرياء فلا يعملون إلا لله (فَأُولئِكَ مَعَ الُمؤْمِنِينَ) في زمرتهم يوم القيامة (وَسَوْفَ يُؤْت اللهُ المُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيمًا) فيشاركونهم فيه (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) أيدفع به ضرًّا أو يستجلب به نفعًا وهو الغني المتعالي لا كالملوك فمن أخرج نفسه عن خساستها الباعثة للمذلة فلا تهان ولا تخذل، قيل: تقديم الشكر لأن الناظر بأدنى نظر في النعم يعرف أن لها منعمًا فيشكر وإن لم يعرفه زيادة معرفة، ثم يفضي به إلى زيادة النظر في معرفته، والتصديق به قدر ما يجب على العبد، فالشكر المبهم أصل التكليف من الإيمان وغيره (وَكَانَ اللهُ شَاكِراً) يرضى بالقليل (عَلِيماً) بظاهركم وباطنكم.

(لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) أي: إلا جهر من ظلم بالدعاء على الظالم، وقيل: هو من يشتمك فتشتمه بمثله فالبادئ ظالم، والأصح أنها نزلت فيمن ضاف أحدًا فلم يؤد إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس فرخص الله شكايته (وَكَان اللهُ سَمِيعًا) لدعاء المظلوم (عَلِيمًا) بفعل الظالم (إِن تُبْدُوا خيْرًا) عمل بر (أَوْ تُحفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) يأتيكم من أخيكم (فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا) لمن عفى (قَدِيرًا) على الانتقام وهو إشارة إلى حثِّ المظلوم على العفو وإن جاز له الشكاية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بأن يؤمنوا به ويكفروا برسله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) أي: ببعض الأنبياء (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي: بعضهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ) أي: الإيمان والكفر (سَبِيلًا) وسطًا ولا واسطة بين الكفر والإيمان وهم اليهود والنصارى (أُولئِك هُمُ الكَافرُونَ) الكاملون في الكفر، ما نقص ذاك الإيمان من كفرهم شيئًا (حَقًّا) مصدر مؤكد لغيره (وَأَعْتَدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ) في الإيمان به (أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ عفُوراً رّحِيماً) عليهم بتضعيف حسناتهم. * * *

(153)

(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) * * * (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ) قالت اليهود: إن كنت صادقًا فأتنا بكتاب من السماء جملة أو صحفًا مكتوبة بخط سماوي (فَقَدْ سَأَلُوا

مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ) أي: إن استعظمت ما سألوك، فقد سألوا موسى أعظم من ذلك، وهذا السؤال وقع من آبائهم لكنهم تابعون لهذيهم وقوم مثل ذلك لا يستغرب عنهم (فقَالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً) أي: أرنا الله نره عيانا قيل معناه قالوا جهرة لا سرًّا وخفية (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) نار من السماء (بِظُلْمِهِمْ) أي: بسبب ظلمهم وهو تعنتهم في السؤال وطلب ما يستحيل في تلك الحال لهم (ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ) إلهًا (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البَيِّنَاتُ) معجزات موسى عليه السلام (فَعَفَونا عَن ذَلِكَ) ولم نستأصلهم بالكلية وقبلنا توبتهم (وَآتيْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُّبِيناً) يعني هم إن بالغوا في العناد معه لكن نصرناه وعفونا عن قومه، ففيه إشارة ببشارة المصطفى عليه الصلاة والسلام (وَرَفعْنَا فَوْقَهُمُ الطورَ) عند امتناعهم قبول شريعة التوراة

(بِمِيثَاقِهِمْ) بسبب ميثاقهم ليقبلوه (وَقُلْنَا) بلسان نبيهم (لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) متواضعين منحنين (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) لا تظلموا في اصطياد السمك فيه (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) على ذلك (فَبمَا نقْضِهِم) ما مزيدة للتأكيد (مِّيثَاقَهُمْ) فعلنا بهم ما فعلنا (وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ) المعجزات الباهرات (وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) بعناد وتشهي نفس (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) في غطاء لا نسمع ما تقول أو أوعية للعلم ولا نحتاج إلى شيء آخر (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) على الأول معناه: نعم صدقوا فيما ادعوا من عدم السماع لكن بختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم، وعلى الثاني: عكس عليهم ما ادعوه من أن قلوبهم أوعية للعلم (فَلاَ يُؤْمُنونَ إِلا قَلِيلاً) إلا إيمانًا قليلاً لا ينفعهم أو إلا قليلاً منهم (وَبِكفْرِهِمْ) بعيسى (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَريمَ بُهْتَاناً عَظِيمًا) نسبتها إلى الزنا (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ)،، أي: من يزعم أنه رسول الله أو سموه رسولاً استهزاء، فالذم بسبب جرأتهم على الله تعالى وتبجحهم بقتله بعد ما أظهر المعجزات (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) أي: لكن وقع لهم التشبيه بين

عيسى والمقتول فقتلوا شابًا من أنصاره حسبوه عيسى، أو شبه لهم من قتلوه بأن ألقى الله على رجل من اليهود شبهه فقتل (وَإِن الذِينَ اخْتَلَفوا فيه) في شأن عيسى فإنهم لما قتلوا ذلك الرجل قال بعضهم: عيسى، وقال بعضهم: ليس بعيسى وجهه وجه عيسى والبدن بدن غيره، وقال بعضهم: كذاب قتلناه وقال بعضهم: ابن الله رفع إلى السماء (لَفِي شَكّ مِّنْهُ) تردد من قتله (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) لكنهم يتبعون الظن (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) يقينا تأكيد لـ " ما قتلوه " نحو: ما قتلوه حقًا أي: حق انتفاء قتله حقًّا قيل: ما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) فإن السماء محل ظهور سلطانه (وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب إراداته (حَكِيمًا) فيما دبر (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: أحد منهم (إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت عيسى بعد نزوله عند قيام الساعة فتصير الملل واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية، أو قبل موت الكتابي إذا وقع في الباس حين لا ينفعه إيمانه (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) يشهد عليهم أنه قد بلغ الرسالة وأقر على نفسه بالعبودية، قيل: يشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي: ما استمر

(163)

تحريمها إلا بظلم عظيم منهم، " وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ " الآية [الأنعام: 146]، (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا) صدًّا كثيرًا أو ناسًا كثيرًا (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنهُ) في التوراة (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) بالرشوة وغيرها (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ) دون من آمن وتاب (عَذَابًا أَلِيمًا). (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَالْمُؤْمِنُون) منهم، وقيل أي: الصحابة (يُؤْمِنُونَ) خبر المبتدأ (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) نصب على المدح، وهو شائع في كلام الفصحاء، وقيل: مخفوض عطف على ما أنزل أي: آمنوا بإقامة الصلاة أي بوجوبه، أو المراد بالمقيمين: الأنبياء (1) (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قدم الإيمان بالقرآن والكتب، لأنه المقصود من الآية (أوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيمًا). * * * (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا

_ (1) قال العلَّامة السمين ما نصه: قوله: والمقيمين «قراءةُ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة» والمقيمون «بالواو منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها اقوال النحاة، وفيها ستةُ أقوال، أظهرهما: وعزاه مكي لسيبويه، وأبو البقاء للبصريين - أنه منصوبٌ على القطع، يعني المفيدَ للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى، وكذلك القطعُ في قوله {والمؤتون الزكاة} على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكن على هذا الوجه يجب أن يكونَ الخبرُ قولَه:» يؤمنون «ولا يجوز أن يكون قوله {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ} لأن القطع إنما يكونَ بعد تمامِ الكلام. قال مكي:» ومَنْ جَعلَ نَصْبَ «المقيمين» على المدحِ جَعَلَ خبرَ «الراسخين»: «يؤمنون»، فإنْ جَعَل الخبر «أولئك» سنؤتيهم «لم يجز نصب» المقيمين «على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام» وقال الشيخ: «ومَنْ جعل الخبرَ: أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيفٌ» قلت: هذا غيرُ لازمٍ، لأنه هذا القائلَ لا يَجْعَلُ نصبَ «المقيمين» حينئذٍ منصوباً على القطع، لكنه ضعيفٌ بالنسبةِ إلى أنه ارتكبَ وجهاً ضعيفاً في تخريج «المقيمين» كما سيأتي. وحكى ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنق: 167 - 4 - لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ النازلين بكلِّ معتَركٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ على جواز القطع فَرَّق هذا القائلُ بأن البيت لا عطفَ فيه؛ لأنها قطعت «النازين» فنصبته، و «الطيبون» فرفعَتْه عن قولِها «» قومي «، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛ لأنه في غيرِ هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف، أنشد سيبويه: 167 - 5 - ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي فنصب» شعثاً «وهو معطوف. الثاني: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في» منهم «أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في» إليك «أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» ما «في» بما أُنْزِل «أي: يؤمنون» بما أنزل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالمقيمين، ويُعْزَى هذا الكسائي. واختلفت عبارة هؤلاء في «المقيمين» فقيل: هم الملائكة قال مكي: «ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ كقوله: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلمون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي: وبدين المقيمين. الخامس: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في» قبلك «أي: ومِنْ قبلِ المقيمين، ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً. السادس: أن يكونَ معطوفاً على نفسِ الظرف، ويكونَ على حَذْفِ مضاف أي: ومن قبل المقيمين، فحُذِف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامه. فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ. وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنهم لحنٌ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهةِ غلط كاتبِ المصحف، قالوا: وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحف أُبيّ كذلك، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان، وما أحسن قولَ الزمخشري رحمه الله:» ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط المصحف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم يعرف مذاهبَ العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الإنجيل كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله ليسُدَّها مَنْ بعدهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم «وأمَّا قراءةُ الرفعِ فواضحةٌ. قوله: {والمؤتون} فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً. أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب. الثاني: أنه معطوفٌ على» الراسخون «، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِع التابعُ عن متبوعِه لم يَجُزْ أن يعودَ ما بعده إلى إعراب المتبوع فلايُقال:» مررت بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ «بنصب» العاقل «وجر» الفاضل «فكذلك هذا. الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في «الراسخون»، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه مطعوفٌ على الضمير في «المؤمنون» الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في «يؤمنون» السادس: أنه معطوفٌ على «المؤمنون»، السابع: أنه مبتدأ وخبره «أولئِك سنؤتيهم» فيكون «أولئك» مبتدأ، و «سنؤتيهم» خبره، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ في «أولئك» أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفس‍ِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جهةِ أنَّ «زيدٌ ضرتبه» بالرفع أجودُ مِنْ نصبه، لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو «سأضربُ زيداً» مَنَعَ بعضهم «زيداً سأضرب»، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما خلاف فيه. اهـ (الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. 4/ 153 - 156)

حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (171) * * * (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) يعني شأنك في الوحي كشأن الأنبياء فما لهم والعناد معك (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) أي: أولاد يعقوب ((وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ) خصهم بالذكر، لأنَّهُم أشرف الأنبياء وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)

(وَرُسُلاً) نصب على مضمر يدل عليه أوحينا أي: أوحينا إليك وأرسلنا رسلاً أو على مضمر يفسره قوله: (قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ) في السور المكية (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) نصب على المدح أو على الحال أو على تقدير أرسلنا (مُّبَشِّرِينَ) بالثواب على الطاعة (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب على المعصية (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولاً يعلمنا الدين متعلق: بـ " أرسلنا " وبـ " منذرين " ومبشرين وأحد المجرورين خبر كان، والآخر حال والظرف لحجة (وَكَانً اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) فيما أراد ودبر (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) استدراك عما فهم من قبل من تَعَنُّتِهِمْ بأنَّهم لا يشهدون (بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) من القرآن الدال على نبوتك (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) متلبسًا بعلمه الذي

أراد أن يطلع عباده من صفاته ومغيباته وأوامره ونواهيه، أو أنزله عالمًا بأنك أهل لإنزاله إليك (وَالْمَلاِئكَةُ يَشْهَدُونَ) أيضًا بنبوتك نزلت في جماعة من اليهود قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك " (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) فإنه أقام الحجج والبينات الواضحة على صحة نبوتك (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) فإنهم جمعوا بين الضلال والإضلال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) محمدًا صلى الله عليه وسلم بكتمان نعته أو الناس بصدهم أو أنفسهم (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) بعد ما ماتوا عليه أو هذا فيمن علم أنه يموت على الكفر (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) إلى النجاة (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) استثناء منقطع أو متصل على السخرية (خَالِدِينَ) حال مقدرة (فيهَا أَبَدًا وَكَان ذلِكَ) أي: عدم الغفران والخلود (عَلَى اللهِ يَسِيرًا يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) لما قرر أمر النبوة وأوعد المنكر خاطب الناس بالدعوة (فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) أي: إيمانًا خيرًا لكم أو ائتوا أمرًا خيرًا لكم مما أنتم عليه أو يكن الإيمان خيًرا لكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فهو الغني عنكم (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) بأحوالكم (حَكِيمًا) فيما أراد لكم (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) النصارى تجاوزوا الحد في عيسى عليه السلام بل في الأحبار، كما قال: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا " (التوبة: 31)، (وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ) لا تفتروا عليه (إِلا الحَقَّ) لكن قولوا الحق فنزهوه عن شريك وولد (إِنَّمَا

(172)

المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَريمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) أوجده بكلمة كن (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) يعني خلقه بالكلمة التي أرسل الله بها جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة إلقاح الأب الأم (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي: صدر منه بغير مادة وإضافة الروح إلى الله للتشريف (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثةٌ) أي: آلهتنا ثلاثة الله والمسيح ومريم (انتَهُوا) عن التثليث وائتوا أمرا (خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا تعدد فيه أصلاً (سُبْحَانَهُ) أي: أسبح سبحانه من (يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ملكًا وخلقًا لا يماثله شيء حتى يكون له ولد (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) فلا يحتاج إلى ولد؛ لأن الولد وكيل والده وهو وكيل كل شيء. * * * (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) * * * (لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ) لن يأنف من (أَنْ يَكُون عَبْدًا للهِ) فإن عبوديته شرف، قيل: نزلت حين " قال وفد نجران لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعيب عيسى تقول: إنه عبد الله؟ قال: إنه ليس بعار أن يكون عبدًا لله قالوا بلى " (وَلاَ المَلاِئكَة الُمقَربون) عطف على المسيح أي لا يستنكفون مع أن ما بعثكم في دعوى الإلهية

لعيسى أقوى وأشد فيهم لا أب ولا أم لهم ولهم قوة لا تفي بها طاقة البشر كقلع الجبال والتصرف في الأهوال والأحوال وهم مع ذلك لا يستنكفون (وَمَن يَسْتنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) الاستنكاف تكبر مع أنفة والاستكبار بدونه (فسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) مجازاة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) وهذا تفصيل للمجازاة العامة الدال عليها فحوى الكلام، وإن لم يجر سوى ذكر المستنكفين فكأنه قال: ومن استنكف ومن آمن فسيحشرهم. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: محمدًا عليه الصلاة والسلام أو القرآن وقيل: المعجزات (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) أي: القرآن (فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) جمع بين مقامي العبادة والتوكل على الله أو اعتصموا بالقرآن (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ منْهُ وَفَضْلٍ) زائد على قدر أعمالهم (وَيَهْدِيهِمْ

إِلَيْهِ) إلى الله (صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) في العلم والعمل فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة، وفي الآخرة على صراط مستقيم يفضي إلى روضات الجنات، وصراطًا: إما بدل من إليه أو مفعول يهديهم وإليه حال مقدم (يَسْتَفتُونَكَ) أي: عن الكلالة (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) نزلت في جابر بن عبد الله حين " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مريض وكللة، فكيف أصنع في مالي؟ " (إِذ امْرُؤٌ) مرفوع بفعل يفسره ما بعده (هَلَكَ) مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) أصلاً ولا والد أيضًا فإن الأخت لا ترث مع الأب، وهو صفة لا غير (وَلَهُ أُخْتٌ) أي: من الأبوين أو الأب، فإن ذكر ولد الأم مضى حكمه فِي أول السورة (فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ) أي المرء (يَرِثُهَا) أي الأخت (إِن لَّمْ يَكُن لهَا وَلَدٌ) أي إذا ماتت الأخت فجميع ميراثها للأخ إن لم يكن لها ولد أصلاً ولا والد (فَإِن كَانَتَا) أي: الأختان (اثْنَتَيْنِ) فصاعدًا (فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) الأخ (وَإن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً) أصله: وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب الذكر (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الحق كراهة (أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو عالم بمصالح العباد في المعاش والمعاد. والحمد لله حقَّ حمده. * * *

سورة المائدة

سورة المائدة مدنية وهى مائة وعشرون آية وستة عشر ركوعًا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ

حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي: العهود وهو ما حد في القرآن كله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) تفصيل للعقود والإضافة بيانية وهي الإبل والبقر والغنم وألحق بها الظباء وبقر الوحش (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) تحريمه أو إلا محرم ما يتلى عليكم وهو قوله: " حرمت عليكم الميتة " [المائدة: 3] (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من ضمير لكم أو من ضمير أوفوا (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من ضمير محلي يعني أحلت لكم جميع الأنعام إنسيًّا ووحشيًّا وإحلالها عن عمومها مختص بحال كونكم غير محلين للصيد في الإحرام إذ معه تحريم البعض وهو الوحشي أو الاول: حال من الفاعل الحقيقي المتروك لأحلت، والثاني: حال من ضمير لكم المقدر أي: أحللنا حال كوننا غير محلين الصيد لكم في حال إحرامكم (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ): من تحليل وتحريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ): مناسك الحج أو محارم الله أو الهدايا المعلمة للذبح بمكة (وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ) بعدم تعظيمه والقتال فيه والجمهور على أنه منسوخ يجوز ابتداء القتال مع أهل الشرك في أشهر الحرم (وَلاَ الهَدْيَ): ما أهدي إلى

الكعبة بأن تتعرضوا له (وَلاَ القَلاِئدَ): ذوات القلائد من الهدي ذكرها لأنها أشرف الهدي، قال بعضهم: معناه لا تتركوا الإهداء إلى البيت، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها (وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ) أي: لا تستحلوا قتال قوم قاصدين إلى بيت الله (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ): رزقًا بالتجارة حال من ضمير أمين (وَرِضْوَانًا) بزعمهم؛ لأن الكافرين ليس لهم نصيب من الرضوان، نزلت فيمن أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر من البيت فأراد بعض الصحابة أن يتعرضوا عليه في طريقه إلى البيت، وهذا الحكم منسوخ الآن فيهم. قال بعضهم: أهل الجاهلية يقلدون أنفسهم بالشعر والوبر في سفر الحج في غير أشهره وإبلهم من لحا شجر الحرم فيأمنون به، فنهى الله التعرض لهم بقوله: " ولا القلائد " وهو أيضًا منسوخ وقيل: معناه يتقلدون من لحا شجر الحرم فنهى الله عن قطع شجرة (وَإِذَا حَلَلْتُمْ): من الإحرام (فَاصْطَادُوا) إذن فى الاصطياد بعد الإحرام (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ): يحملنكم (شَنَئَانُ قَوْمٍ): بعضهم (أَن صَدُّوكُمْ) أي: لأن صدوكم (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وقرئ إن فحَّرَف الشرط معترض بين العامل والمعمول (أَنْ تَعْتَدُوا) بالانتقام وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب، نزلت حين أراد الصحابة صد بعض المشركين عن العمرة انتقامًا من أصحابهم لما صدوهم عن البيت بالحدييية (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ) المأمورات عطف على لا يجرمنكم (وَالتَّقْوَى) عن المنهيات (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ): المعاصي (وَالْعُدْوَانِ): الظلم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) أي: المسفوح (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) لقوله عند الذبح: بسم اللات والعزى، والإهلال: رفع الصوت

(وَالْمُنْخَنِقَةُ): التي ماتت بالخنق (وَالْمَوْقُوذَةُ) هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، وذلك من عادات الجاهلية (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التي أطيحت من موضع فماتت (وَالنَّطِيحَةُ) كشاتين تناطحتا فماتتا أو ماتت إحداهما، والتاء فيها للنقل (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ). منه فمات (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، وفيه حياة مستقرة فإنه حلال (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) هي حجارة حول

البيت يذبحون عندها وينضحونها بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فحرم الله أكل هذا اللحم وإن ذكر عليها اسم الله لما فيه من الشرك، وقال بعضهم: هي الأصنام ومعناه: ما ذبح على النصب، وعلى هذا هو وما أهل لغير الله واحد (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) أي: حرم الاستقسام بالأزلام وهي عبارة عن قداح مكتوب في بعضها افعل وفي بعضها لا تفعل، وبعضها غفل لا شيء عليه، يستقسمون بها في الأمور فإذا خرج الأمر فعلوه وإذا خرج الناهي تركوه وإذا خرج الغفل أجالوها ثانيًا (ذَلِكُمْ فِسْقٌ) أي: تعاطيه فسق وضلالة وجهالة (اليَوْمَ) أريد به الأزمان الحاضرة (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ): من إبطاله بأن ترجعوا إلى دينهم (فَلَا تَخْشَوْهُمْ): بعد ما أظهرت دينكم (وَاخْشَوْنِ): أخلصوا الخشية لي

(اليَوْمَ) قيل المراد يوم النزول يوم عرفة في حجة الوداع (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فلا زيادة بعده ولم ينزل بعده حرام ولا حلال (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي): بالهداية وإكمال الدين (وَرَضِيتُ) اخترت (لَكُمُ الْإِسْلَامَ دينًا) من بين الأديان فلا أسخطه أبدًا، ودينا، إما حال أو تمييز (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض (فِي مَخْمَصَةٍ): مجماعة (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) غير مائل لمعصية بأن يأكلها تلذذًا أو مجاوزًا حد الرخصة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث رخص فلا يؤاخذه به (يَسْأَلُوئكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) نزلت حين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد حرم الميتة فماذا يحل لنا؟ وماذا مبتدأ وأحل لهم خبره (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) أي: الذبائح الحلال، وقيل: كل ما يستطيبه العرب من غير أن ورد بتحريمه نص (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) يعني

أحل لكم صيد ما علّمتم من كواسب الصيد على أهلها من سباع وطيور (مُكَلِّبِينَ) حال كونكم معلمين إياه الصيد وذكرها للمبالغة في التعليم (تُعَلِّمُونَهُنَّ) حال أو استئناف (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ): من طرق التأديب (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) كثير من السلف على أن الجوارح إذا أخذت الصيد وأكلت شيئًا منه ولم يدركه صاحبه حيًّا فيذبحه فهو حرام، وبعض آخر منهم عليٌّ وابن عباس على حلته وإن أكل منه ثلثيه (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ): على ما علمتم أي عند إرساله إلى الصيد وهذا الأمر على الندب عند الأكثرين (وَاتَّقُوا اللهَ): في الحرام (إِنْ الله سَرِيعُ الحِسَابِ) فيؤاخذكم بما كسبت أيديكم (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ): الذبائح على اسم الله (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) من اليهود والنصارى يعني ذبائحهم (حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) بمعنى حل وجاز لكم أن تطعموهم من ذبائحكم (وَالْمُحْصَنَاتُ): الحرائر العفائف أو الحرائر أو العفائف (مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) أكثر السلف على أنه لا يجوز تزوج الذمية الزانية، وهو يعم كل كتابية عفيفة، وقيل: المراد بها الذميات دون الحربيات، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما -: لما نزلت " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (البقرة: 221) حجر الناس عنهن حتى نزلت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فنكح الناس نساء أهل الكتاب (إِذَا آتيتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ): مهورهن وتقيد الحل به لتأكييد وجوبها، وقيل المراد بإيتائها: التزامها محصنين (مُحْصِنينَ) أعفاء بالنكاح (غَيْرَ مُسَافِحِينَ) مجاهرين بالزنا (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) مسرين به والخدن: الصديق. بعض السلف ذهب إلى أنه لا يصح نكاح البغية من عفيف وعقد

(6)

الفاجر على عفيفة حتى يتوبا وسيأتى الكلام فيه (وَمَن يَكفُرْ بِالإِيمَان): بالله الذي يجب الإيمان به، قيل: أراد بالكفر الإنكار، وبالإيمان: الشرائع والإسلام (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا

نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) أي: إذا أردتم القيام إليها وهو مطلق أريد به التقييد أي: إذا قمتم إليها محدثين وقيل: الأمر شامل للمحدثين على الإيجاب وللمطهرين على وجه الندب وقال بعضهم: إن الآية نزلت إعلامًا من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى صلاة دون غيرها من الأعمال، لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) أي مع المرافق فالجمهور على دخول المرفقين في الغسول، قيل: ومنه علم وجوب النية كما إذا قلنا إذا رأيت الأمير فقم أي: فقم له (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) الباء للإلصاق (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ) نصبه نافع والكسائى وابن عامر وحفص ويعقوب عطفا على (وجوهكم)، وجرَّه الباقون وعلى الإنصاف ظاهر قراءة النصب على وجوب الغسل وظاهر الثانية على وجوب المسح، فإن جر الجوار وإن كان بابًا واسعًا فهو خلاف الظاهر، والأحاديث الصحاح تدل على وجوب الغسل دلالة

لا محيص عنها (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) فاغتسلوا (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) قد مر تفسيره في سورة النساء ولعل فائدة التكرار بيان أنواع الطهارة هنا أيضًا (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ): بما فرض من الغسل والوضوء والتيمم (مِنْ حَرَجٍ): ضيق (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ): من الإحداث والذنوب (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ببيان ما هو مطهرة للقلوب والأبدان عن الآثام والإحداث (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): نعمتي فأزيدها عليكم (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ): من القديم والحديث لأجل الدين والدنيا (وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) حين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطهم ومكرهم أو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من العهود في متابعة محمد عليه الصلاة والسلام (وَاتقُوا اللهَ) في نقض عهده (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بذَاتِ الصدورِ) بخفياتها فضلاً عن جلياتها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا قَوَّامِينَ لله) أي: قائمين بالحق لله لا للرياء (شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) بالعدل لا بالجور (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ) يحملنكم (شَنَئَانُ قَوْمٍ) عداوتهم (عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) بل الزموا العدل مع العدو والصديق (اعْدِلُوا هُوَ) أي: العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) اللام للاختصاص واستعمل أفعل التفضِيل في محل

ليس في الجانب الآخر منه شيء كقوله تعالى: " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا " [الفرقان: 24] وكم مثله في كلام البلغاء (وَاتَّقوا الله إِنْ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغفرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) مستأنفة مبنية لثاني مفعولي وعد أو وعد واقع على تلك الجملة كأنه قال: وعدهم هذا القول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) فلا ينفكون عنها (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكرُوا نعْمَتَ اللهِ عَلَيْكمْ إِذْ هَمَّ) متعلق بنعمة الله (قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ): بَالقتل (فكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) رد مضرتها عنكم (وَاتَّقوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنونَ) فمن توكل عليه كفاه اللهُ أربه، نزلت لما أراد قوم من العرب أن يكبوا على رسول الله وأصحابه صلى الله عليه وسلم إذا اشتغلوا بصلاة العصر، فأخبرهم جبريل وجاء بصلاة الخوف. أو في قوم من اليهود صنعوا طعامًا ليقتلوهم فأوحى الله إليه بشأنهم. أو في بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأسه عليه الصلاة والسلام الرحا إذا جلس تحت الجدار فأطلعه على كيدهم، أو في قوم أرسلوا أعرابيًا لقصده فجاءه وهو صلى الله عليه وسلم راقد تحت شجرة فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من يمنعك مني؟ فقال: اللهُ فأسقطه جبريل من يده وأخذه الرسول - صلى الله عليه وسلم. * * * (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ

(13)

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) * * *

(وَلَقَدْ أَخَد اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) لما أمر المؤمنين بالوفاء بعهده وأمرهم بالحق والعدل وذكرهم نعمه شرع يبين لهم كيفية أخذ العهود على من كان قبلهم وطردهم ولعنهم لما نقضوها ليتعظ المؤمنون (وَبَعَثْنَا منْهُمُ اثْنيْ عَشَرَ نَقيباً) كفيلاً ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد (وَقَالَ اللهُ إِنِّيَ مَعَكُمْ) بالنصرة (لَئِنْ) أي: والله لئن (أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) صدقتموهم بما جاءوا به (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم وعظمتوهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) بأن تنفقوا فى سبيل الخيرات نصب بالمصدر أو بالمفعول الثاني (لَأُكَفِّرَنَّ) جواب القسم سد مسد جواب الشرط (عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تحت غرفها (الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) الميثاق (منكُمْ فَقَدْ ضَل سَوَاءَ السَّبِيلِ) صراط الحق فإن الضلال بعده أظهر وأعظم وأقبح (فَبِمَا نَقْضِهِم) ما زائدة للتأكيد (مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) أبعدناهم عن رحمتنا (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسيَةً) يابسة غليظة لا تنتفع بالمواعظ وقرئ (قَسِيَّة) أي: مغشوشة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) كلام الله (عَنْ مَوَاضِعِهِ) يبدلون نعت محمد أو يأولون الآيات بسوء تأويل (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) تركوا نصيبهم من التوراة فلم يعملوا بها أو زلت بعض آياتها عن حفظهم

(وَلَا تَزَالُ) يا محمد (تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) خيانة وغدر فاعل بمعنى المصدر (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) " لم يخونوا استثناء من ضمير منهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) نسخ باية السيف، وقيل: معناه إن تابوا أو عا@دوا والضزموا الجزية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تعليل للأمر بالعفو (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) كما أخذنا من اليهود، سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله (فَنَسُوا حَظًّا): نصيبًا وافيًا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) من اتباع محمد عليه الصلاة والسلام (فَأَغْرَيْنَا) ألصقنا وأوقعنا (بَيْنَهُمُ) بين اليهود والنصارى أو بين فرق النصارى وهم كذلك (الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) بشنيع صنيعهم بأقطع جزاء (يَا أَهلَ الْكِتَابِ) عام لكل كتابي (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) كآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) لا يتعرض لكثير مما حرفوه وأخفوه لأنه لا يحتاج إلى بيانه (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) أي: قرآن أو محمد عليه الصلاة والسلام (وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي: بالنور والكتاب المبين، فإنهما واحد أو في حكم

الواحد (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ): من آمن منهم (سُبُلَ السَّلَامِ) طرق السلامة والنجاة (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ): أنواع الكفر (إِلَى النُّورِ) إلى الإيمان (بِإِذْنِهِ) بإرادته وتوفيقه (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ): يوصلهم إلى رحمة الله. (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) اليعقوبية من النصارى قالوا: المسيح هو الله (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا): من يستطيع إمساك شيء من قدرة الله (إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أي: هو وجميع الخلائق مقهور تحت قدرته قابل للفناء فلا يكون إلهًا (وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على إيجاد شيء من غير أصل ومادة ولا أب وأم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ) أي: هو كالأب لنا في العطوفة أو وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري فبدلوا بيا أبناء أبكاري، وقيل: نحن أبناء رسل الله، وقيل: جمع ابن الله للابن وأشياعه والابن بزعم الفريقين عزير وعيسى كقول أقارب الملك: نحن الملوك (وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ): في الدنيا والآخرة، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه أقبح لتعذيب والوالد لا يعذب ولده بل يؤدبه ويزكيه (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ): كسائر المخلوقات (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) وهو من آمن برسه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) من مات

(20)

على الكفر لا مزية لكم على سائر الخلق (وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) فيجازي المحسن والمسيء (يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ): الدين (عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) أي جاء على حين فتور من الوحي أو حال من ضمير يبين (أَن تَقُولُوا) كراهة أن تقولوا (مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) فتعتذروا به (فَقَدْ جَاءكُم بَشِرٌ وَنَذِيرٌ) أي: لا تعتذروا فقد جاءكم (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فقادر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال على فترة، وعلى عقاب العاصي وثواب المطيع. * * * (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا

مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) * * * (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ) كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن إبراهيم حتى ختم بعيسى (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) أصحاب خدم وحشم وهم أول من ملك الخدم أو كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم سمي ملكًا، قيل: ملكوا أنفسهم بعد ما كانوا مملوكين في أيدي القبط (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) من فلق البحر والمنِّ والسلوى أو من الفضل والشرف على عالمي زمانهم (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) بيت المقدس أو الطور وما حوله أو الشام، فإنه مقر الأنبياء مطهر من الشرك (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ): وعدكموها الله أنه وراثة من آمن منكم (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) لا ترجعوا مدبرين خوفًا من الجبابرة وجاهدوهم فإنكم غالبون (فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) ثواب الدارين (قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ) متغلبين أقوياء (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ) يوشع وكالبُ (مِنَ الذِينَ يَخَافون) أمر الله وعقابه وقيل: هما من الجبابرة أسلما واتبعا موسى فمعناه يخافون أي بنو إسرائيل منهم (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالعصمة هو الثبات صفة ثانية لرجلين أو

اعتراض (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ) باب قريتهم أي: ازحفوا عليهم (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) لما جربنا ضعف قلوبهم ولتيقُن انجاز وعد الله في نصرة نبيه (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) به مصدقين لوعده (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا) تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول (مَا دَامُوا فِيهَا) بيان للأبد (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا): الجبارين (إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) قال بعض الصحابة يوم بدر: " إنا لا نقوله كما قالت بنو إسرائيل، بل نقول اذهب أنت وربك إنا معكم مقاتلون " (قَالَ): موسى لبث الحزن إلى الله (رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي) عطف على نفسى (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) اقض بيننا وبينهم بما نستحق أو خلصنا من صحبتهم (قَالَ) الله (فَإِنَّهَا) أي: الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ): دخولها (أَرْبَعِينَ سَنَةً) ظرف لمحرمة فيكون التحريم مؤقتًا فقد نقل عن بعض

(27)

السلف أن موسى سار بمن بقي من التيه بعد الأربعين ففتح بيت المقدس أو ظرف لقوله (يَتِيهُونَ) أي: يسيرون متحيرين (فِي الْأَرْضِ) فيكون التحريم مؤبدًا وقد نقل عن كثير من السلف أن موسى وهارون ماتا في التيه ولم يبق أحد من أهل التيه -سوى يوشع وكالبُ- إلا مات فيه، ويوشع سار بأولادهم وفتح الشام (فَلاَ تَأْسَ): لا تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) هذا تسلية لموسى فإنهم مستحقون لما عاملناهم. * * * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ

أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) * * * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ): هابيل وقابيل (بِالْحَقِّ) أي: تلاوة متلبسة بالصدق (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) ظرف للنبأ. والقربان: اسم لكل ما يتقرب به إلى الله من ذبيحة وغيرها (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ) قابيل كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه فبينما هما قاعدان فقالا: نقرب قربانا فقرب هابيل خير غنمه وقرب الآخر أبغض زرعه، فجاءت نار من السماء وأكلت الشاة وتركت الزرع وكان هذا علامة القبول والرد وهذا الكبش هو الذي فدي به إسماعيل أتى به من الجنة فحسد قابيل أخاه (قَالَ لأَقتلَنَّكَ قَالَ) هابيل (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الُمتَّقِينَ) أي: لم تقتلني ولا ذنب لي وإنما أتيت من قبل نفسك بتركك التقوى (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) لا أقابلك على صنيعك الفاشل بمثله (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) كان هابيل أشد وأقوى لكن

منعه الورع (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) بإثم قتلى (وَإِثْمِكَ) الذي عملته قبل ذلك فلم يتقبل من أجله قربانك أي: ترجع متلبسًا بالإثمين حاملاً لهما وقيل: معناه إثمي لو بسطت يدي إليك وإثمك ببسطك يدك إليَّ ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم فإن على البادي إثم سبه ومثل إثم صاحبه، لأنه الباعث، والإثم محطوط عن صاحبه؛ لأنه دافع مكافئ عن عرضه إذا لم يخرج عن حد المكافأة (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظالِمِينَ) وهذا الكلام من هابيل موعظة لأخيه وزجر له، قال ابن عباس رضى الله عنهما: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر، وقيل: هو يعلم أن أخاه ظالم وإرادة جزاء الظالم حسن (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) سهلته ووسعت له (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ): في الدنيا والآخرة (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا

يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) لما قتله تحير في أمره لم يدر ما يصنع به فبعث الله غرابًا إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى واراه (لِيُرِيَهُ): الله أو الغراب (كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) أي: جسده، فإنه مما يستقبح أن يرى، وكيف: حال من ضمير يواري، والجملة ثاني مفعولي (لِيُرِيَهُ) (قَالَ يَا وَيْلَتَى) كلمة جزع والألف بدل من ياء المتكلم أي: احضري يا هلاكى فهذا أوانك (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ) عطف على أكون أو جواب استفهام؛ لأنه للإنكار بمعنى النفي أي: إن لم أعجز واريت (سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على قتله قيل اسود جسده وتبرأ منه أبواه، وقد ذكر أكثر المفسرين إن الله قد شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى وكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر فكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل جميلة فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك، وأمرهما بأن يقربا قربانًا فمن تقبل منه فهي له فتقبل من هابيل فحسد. هذا ما نقلوه والذي صح عن ابن عباس ما نقلناه أولاً وهو يشعر بل يدل على أن قربانهما لا عن سبب ولا عن بداءة في امرأة، وهو ظاهر القرآن فلذلك اخترناه (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي: بسبب قتله أخاه ظلمًا (كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) حكمنا وقضينا عليهم

(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي: بغير قتل نفس يوجب القصاص (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) أو بغير فساد فيها كالشرك وقطع الطريق (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) أى: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس أو لأنه يقتل قصاصًا كما لو قتل الجميع أو كما قتل الناس وزرًا أو إثمًا (وَمَنْ أَحْيَاهَا) حرم قتلها وكف عنها أو عفا عن قاتل أو أنجاها عن هلكة (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) حيى الناس منه جميعًا وحرم قتل جميع الناس أو في الأجر والثواب والمقصود تعظيم القتل والإحياء في القلوب (وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ) أي: بني إسرائيل (رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) بالمعجزات الظاهرات على صدقهم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ): إرسال الرسل مع البينات (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ): في مثل القتل (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)

يحاربون أولياءهما من قاطع الطريق وغيره (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا): مفسدين أو كأنه قال: يفسدون في الأرض فسادًا أو يسعون في الفساد، والفساد يطلق على أنواع الشر قال بعضهم نزلت في بعض أهل الكتاب بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ميثاق فنقضوا وأفسدوا في الأرض أو في جماعة مرضوا في المدينة فداواهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبان الإبل وأبوالها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل فلما أخذوا قطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقوا في الرمضاء حتى ماتوا فعلى هذا تكون تعليمًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا ما سمر بعد ذلك عينًا (أَنْ يُقَتَّلُوا) أي من غير صلب إن أفردوا القتل (أَوْ يُصَلَّبُوا) مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ) أيدي اليمنى وأرجل اليسرى إن أخذوا المال فقط (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إن اقتصروا على الإخافة والنفي هو أن يطلبهم الإمام فيقام عليهم الحد أو يهربوا من دار الإسلام أو ينفى من بلد إلى بلد وهكذا وقال بعضهم لا يخرجون من أرض الإسلام أو المراد من النفي السجن أو يخرج من بلده إلى آخر فيسجن فيه حتى تظهر توبته وقال كثير من السلف: إن الإمام مخير بين هذه العقوبات الأربعة في كل قاطع طريق فيكون أو للتخيير

(35)

لا للتفصيل (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) فضيحة (فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هذا يدل على أن الآية نزلت في جمع من المشركين وإلا فالجمهور على أن من أذنب ذنبًا وعوقب في الدنيا فهو كفارة له (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) على قول من قال هي في أهل الشرك فظاهر لأن من آمن ما بقي عليه شيء وأما المحاربون المسلمون إذا تابوا قبل القدرة سقط عنهم حد الله لا حقوق بني آدم وكثير من السلف يدل على أنه يسقط حقوق بني آدم، أيضًا إلا إذا أخذ مالاً معينًا فيجب الضمان (فَاعْلَمُوا أَن الله غَفُورٌ رحِيمٌ). * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي

الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي: القربة بطاعته (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحاربة أعداء الله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لكي تفوزوا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ومِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ليجعلوه فدية لأنفسهم، واللام متعلق بثبت الدال عليه " لو " وإفراد ضمير به لإجرائه مجرى اسم الإشارة أو لأنه من قبيل إني قيار بها لغريب لا أن ومثله مفعول معه (مِنْ عَذاب يَوْمِ القِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) جواب لو ولو بما في حيزه خبر إن (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) أي: أيمانهما وتقديره عند سيبويه: حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، فيكون جملتين وجملة عند المبرد والفاء للسببية أي: الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا (جَزَاء بمَا كَسَبَا نَكَالاً) عقوبة (مِّنَ اللهِ) منصوبان على المفعول له (وَاللهُ عَزِيزٌ) في الإنتقام (حَكِيمٌ) فيما حكم من القطع (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) سرقته (وَأَصْلَحَ) العمل (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يقبل توبته (إِنْ الله غَفُورٌ رحِيمٌ) فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقط عنه على الأصح (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي: لا تهتم بمسارعَّتَهم فيه (مِنَ الَّذِينَ قَالوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) متعلق بقالوا (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) وهم المنافقون (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا) اليهود عطف على من الذين (سَمَّاعُونَ) أي: هم سَمَّاعُونَ أو تقديره: ومن اليهود قوم سَمَّاعُونَ (لِلْكَذِبِ) أي: قابلون له يقبلون من أحبارهم ما يفترونه وقيل: سَمَّاعُونَ كلامك لأجل الكذب أي: ليكذبوا ويفترون عليك (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي: يسمعون من جمع من اليهود لا يأتون مجلسك ويقبلون كلامهم أو معناه سَمَّاعُونَ منك لأجله، وقيل: سَمَّاعُونَ الثاني للتأكيد، ولقوم متعلق بالكذب أي: سَمَّاعُونَ ليكذبوا لقوم لم يأتوا مجلسك تجافيًا عنك وتكبرًا (يُحَرِّفُونَ الكلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ): من بعد أن وضعه الله مواضعه إما لفظًا وإما معنى بحمله على غير مراده، الجملة صفة لقوم أو مستأنفة أو خبر محذوف، وكذلك قوله (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) أي: إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل يفتى بخلافه (فَاحْذَرُوا) قبوله. " نزلت في رجل وامرأة محصنين من اليهود زنيا وهم قد بدلوا الرجم في التوراة بمائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبًا فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتوا وقالوا: إن حكم بمثل ما قلنا اعملوا أو يكون نبي من أنبياء الله قد حكم بذلك فيكون حجة بينكم وبين الله، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه فأمر عليه الصلاة والسلام بالرجم

وألزمهم أنه حكم التوراة فرجما " (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ): ضلالته (فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) في دفع الفتنة عنه (أوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من خبائث الشرك (لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْيٌ): فضيحة وهتك ستر للمنافقين وجزية وخذلان لليهود (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كرره للتأكيد (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ): الحرام كالرشى، فإنه مسحوت البركة (فَإِن جَاءوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخيير في الحكم والإعراض (وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا) فإن الله يعصمك من الناس قال كثير من السلف: الآية منسوخة بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 48) (وَإِذ حَكَمْتَ فاحْكم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ) أي: العدل وإن كانوا ظلمة مستحقين للتعذيب (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمقْسِطِينَ): يرضى عنهم ويعظمهم (وَكَيْفَ) حال من فاعل (يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ) تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أن الحكم في كتابهم المؤمن به منصوص (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): التحكيم فلا يقبلون حكمك المطابق لما في كتابهم عطف على يحكمونك (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ): لا بك ولا بكتابك. * * *

(44)

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) * * *

ثم مدح التوراة بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى): يهدى إلى الحق (وَنُورٌ): به ينكشف المبهم (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ): أنبياء بني إسرائيل (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) فيه تعريض باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء (لِلذِينَ هادُوا) متعلق بـ أنزلنا أو بـ يحكم أى: لأجل اليهود (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) عطف على " النبيون "، وهم الزهاد والعلماء (بِمَا استحْفِظُوا مِن كَتابِ اللهِ): بسبب أمر الله إياهم بحفظ كتابه، وإظهاره وضمير ما محذوف ومن للتبيين (وَكَانوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ): رقباء لئلا يبدل أو بأنه من عند الله (فَلاَ تَخشَوُا النَّاسَ وَاخشَوْن) نهي للحكام عن المداهنة خشية الناس (وَلاَ تَشْتَرُوا): تستبدلوا (بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً): الرشوة والجاه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) نزلت في أهل الكتاب دون من أساء من هذه الأمة

أو من تركه عمدًا وأجاز وهو يعلم فهو من الكافرين، فيكون في المسلمين أو ليس

بكفر ينقل عن الملة والدين، ولكن كفر دون كفر (وَكتبنا عَلَيْهِمْ): فرضنا على اليهود (فِيهَا): في التوراة (أَن النَّفْسَ) مقتولة (بِالنفْسِ وَالْعَيْنَ) مفقوءة (بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ) مجدوع (بِالأَنفِ وَالأذُنَ) مصلومة (بِالأذُنِ وَالسِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) أي: ذات قصاص فيما يمكن الاقتصاص منه، وأما ما لا يمكن القصاص ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته فلا قصاص فيه، ومن قرأ (والعينُ بالعينِ) بالرفع وكذلك الباقى فيكون عطفًا على أن وما في حيزه أي: كتبنا عليهم فيها العين بالعين (فَمَن تَصَدَّقَ به): بالقصاص بأن عفا عنه (فهُوَ) أي: التصدق (كَفارَةٌ له): للمتصدق يكفر الله به ذنوبه أو للجاني لا يؤاخذه الله به كما أن القصاص كفارة له (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم بالعدل نزلت لما اصطلحوا أن لا يقتل شريف بوضيع ورجل بامرأة (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ) أي: وأتبعناهم فحذف المفعول لدلالة الظرف عليه والضمير للنبيين (بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) مفعول ثان متعدى إليه بالباء (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ): حاكمًا بما فيها (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى) إلى الحق (وَنُورٌ) يستضاء به في إزالة الشبهات، والجملة أعني: " فيه هدى " في موضع نصب على الحال (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) لا يخالفه إلا في قليل (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) زاجرًا عن ارتكاب المحارم لمن اتقى الله وخاف عقابه (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) عطف على وآتيناه الإنجيل أي: وآتيناه الإنجيل، وقلنا لهم: ليحكم ومن قرأ (لِيحكمَ) بكسر اللام وفتح الميم فتقديره وآتيناه ليحكم (وَمَنْ لَمْ

يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): الخارجون عن طاعة ربهم (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) أي: القرآن (بِالْحَقِّ) متلبسًا به (مصَدّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه مِنَ الكِتَابِ): من جنس الكتب المنزلة (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ): رقيبًا على سائر الكتب وشهيدًا. فكل خبر يوافقه فحق وما خالفه منها فمحرف باطل أو حاكمًا على ما قبله من الكتب (فَاحْكُم بَيْنَهُم) بين أهل الكتاب (بمَا أَنزَلَ اللهُ) إليك (وَلاَ تَتَّبِع أهْواءَهُمْ) بالانحراف (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ) وَلتضمن لا تتبع معنى الانحراف تعلق به عن أو حال عن الفاعل أي: مائلاً عما جاءك (لِكل جَعَلْنَا منكُمْ) أيها الناس (شِرْعَةً): سبيلاً (وَمِنْهَاجاً): سنة السنن هي مختلفة في التوراة شريعة وفي الإنجيل

شريعة يحل الله فيها أشياء هي حرام في غيرها ليتميز المطيع من العاصي (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) جماعة متفقين على دين وطريقة واحدة في جميع الأعصار ومفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه (وَلَكِنْ) أراد (ليَبْلُوَكُمْ): ليختبركم (فِي مَا آتَاكُمْ) من الشرائع المختلفة في كل عصر هل تعملون بها وتعتقدون حكمتها (فَاسْتَبِقُوا الخيْرَاتِ) ابتدروا وسارعوا إلى الأعمال الصالحة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أيها الناس (جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) بالجزاء فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين (وَأَنِ احْكُم) عطف على الكتاب أو على الحق أي: أنزلنا إليك الحكم أو أنزلنا إليك الكتاب بأن احكم أو تقديره وأمرنا أن احكم (بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيَّرًا بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم ويردهم إلى حكامهم فأمر أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يردهم إلى حكامهم (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ) أهل الكتاب (أَن يَفْتِنُوكَ) بدل اشتمال من هم أو مفعول له أي: مخافة أن يفتنوك ويضلوك (عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) نزلت حين قالت رؤساء اليهود ننطلق إلى محمد لعلنا نفتنه، فقالوا قد تعلم أنا إن اتبعناك [اتبعك] (1) الناس ولنا خصومة فاقض لنا على خصمنا إن جئنا نتحاكم إليك فنؤمن بك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عما حكمت (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت نكالهم (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ): خارجون عن طاعة ربهم (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي: يريدون، وعن حكم الله يعدلون

_ (1) في الأصل اتبعناك.

(51)

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا) تمييز (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي: عندهم فاللام للبيان أي: هذا الخطاب وهذا الاستفهام لمن له اليقين بأنه أعدل العادلين وأرحم الراحمين. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) فلا تعاشروهم معاشرة الأحباب (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فهم متفقون على مخالفتكم ومعاداتكم

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) يحشر معهم (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فاحذر عن موالاة من ظلم نفسه فإنهم الظالمون (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شك ونفاق كابن أبى ابن سلول وأضرابه (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) في محبتهم (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار (فَعَسَى اللهُ أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ) للمسلمين على أعدائهم (أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ) كضرب الجزية عليهم وهتك ستر المنافقين (فيُصْبِحُوا) هؤلاء المنافقون (عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من النفاق ودس أخبار المسلمين على أعدائهم (نَادِمِينَ وَيَقُولُ الذِينَ آمَنوا) قرئ بالنصب عطف على يأتي بتقدير الضمير أي: عسى الله أن يقول الذين آمنوا به أو باعتبار أن قولهم لما كان مسببًا عن الإتيان بالفتح أقيم مقامه مبالغة في اتحاده معه وبالرفع كلام مبتدأ وبغير أو على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجبًا من كذبهم وحلفهم بالباطل أهؤلاء الذين

أقسموا لكم بأغلظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاونوكم على الكفار أي: يجتهدون جهد أو مصدر من لفظ أقسموا لأنه بمعناه (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) بطل كل عمل خير لهم (فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) في الدنيا والآخرة وهو من قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) قد ارتد عن الإسلام قبائل العرب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبى بكر وعمر رضى الله عنه (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) بدلهم ومكانهم (يُحِبُّهُمْ) يهديهم ويثبتهم (وَيُحِبُّونَهُ) هم أبو بكر

وأصحابه أو أهل اليمن أو الأشعريون (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ): متذللين لهم عاطفين عليهم خافضين لهم أجنحتهم (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ): شداد متغلبين عليهم (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفة أخرى لقوم (وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم) لا كالمنافقين يخافون ويراقبون لوم الكفار (ذَلِكَ) أي: ذلك الأوصاف (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ): كثير الفضل (عَلِيمٌ) بمن هو أهله (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي: ليس اليهود بأوليائكم بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين (الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بدل من الذين آمنوا أو مرفوع،

(57)

أو منصوب على المدح (وَيُؤتونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ) متخشعون في صلاتهم وزكاتهم، أو حال من الذين بمعنى أنهم دائمون للركوع أي لصلاة التطوع أو حال من فاعل يؤتون؛ فإن عليًّا رضى الله عنه أعطى خاتمة في ركوعه لسائل فنزلت (وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي: من يتخذهم أولياء (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) أي: فإنهم الغالبون: كأنه قال فهم حزب الله وجنده وحزب الله هم الغالبون. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا

كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) قرئ والكفار بالجر فيكونون داخلين في المستهزئين، وبالنصب عطف على الذين اتخذوا (وَاتَّقُوا اللهَ) في اتخاذ هؤلاء أولياء (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرعه ودينه الذي اتخذه هؤلاء هزوًا (وَإِذَا نَادَيْتُمْ) الناس (إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا) أي: المناداة (هُزُوًا وَلَعِبًا) تضاحكوا فيما بينهم

يحكونه ويستهزءونه (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) فإن العقل يمنع من الاستهزاء بأمر معقول مشروع (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ): تنكرون وتعيبون (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) قيل: نزلت في اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به فقال: " نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل " إلى قوله " ونحن له مسلمون " فقالوا لما سمعوا ذكر عيسى والله لا نعلم دينًا شرًا من دينكم (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) عطف على " أن آمنا " وحاصله: أنكم ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون عنه، أو عطف على علة محذوفة تقديره: تنكرون منا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ويجوز أن يكون حالاً من فاعل تنقمون (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ): المنقوم (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) تمييز عن شر أي جاء ثابتًا عنده، وهو من باب: تحيتهم بينهم ضرب وجيع. فإن المثوبة مختصة بالخير (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي: هو دين من لعنه الله فلا بد من حذف مضاف هنا أو في قوله بشر من ذلك أي: من أهل ذلك (وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على لعنه والطاغوت: العجل أو الكهنة أو الشيطان (أوْلَئكَ شَرٌّ مكَاناً) فيه مبالغة ليست في قوله أولئك شر قيل: لأن مكانهم سقر (وَأَضَل عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ): قصد الطريق المتوسط والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقًا لا بالإضافة إلى المؤمنين (وَإِذَا جَاءُوكمْ قَالوا آمنَّا) يعني

منافقي اليهود (وَقَد دخَلُوا) حال من ضمير قالوا (بِالْكُفْرِ) حال من فاعل دخلوا (وَهُمْ قَدْ حرَجُوا بِه) أي: دخلوا كافرين وخرجوا كافرين لم يؤثر فيهم كلامك (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانوا يَكْتُمُون): من الكفر وفيه وعيد (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ): من منافقيهم أو من اليهود (يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ): المحارم أو الكذب (وَالْعُدْوَانِ): الاعتداء على الناس أو مجاوزة الحد في المعاصي (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ): الحرام خُصَّ بالذكر للمبالغة (لَبئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون): شيئًا عملوه (لَوْلا يَنْهَاهمُ الربانِيُّونَ): زهادهم (وَالأَحْبَارُ): علماؤهم (عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ): كذبهم وافتراءهم (وَأَكْلِهِم السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ): من عدم النكير عليهم التحضيض لهم على

النهي عن ذلك، فإن لولا إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض (وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَة) مجاز عن البخل أي هو مسك كف الله عنهم نعمة الدنيا حين جحدوا القرآن بعد ما كانوا في خصب ورخاء فقالوا ذلك (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي: هم البخلاء أو دعا عليهم بالبخل. قيل: هي من الغل في النار (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ليس له بخل أصلاً وله غاية الجود وتثنية اليد تدل عليها، وقيل يداه أي: نعمة الدنيا والآخرة (يُنفقُ كيْفَ يَشَاءُ) تأكيد لذلك أي هو مختار يوسع ويقتر بحسب مشيئته وإرادته (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ) فاعل يزيدن (إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا): كلما نزلت آية كفروا وازدادوا طغيانًا وكفرًا (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ): بين طوائف اليهود (الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فلا يتفق كلمتهم (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ): مع المسلمين (أَطْفَأَهَا اللهُ) بأن أوقع

(67)

بينهم منازعة كف بها شرهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا): للفساد أو يسعون بمعنى يفسدون (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ): لا يرضى عنهم ولا يعزّهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ) مع هذه الجرائم (آمَنُوا): بالقرآن (وَاتَّقَوْا): معاصيهم (لَكَفرْنَا عَنْهُمْ َ سَيًّئَاتِهِمْ): الماضية (وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ): بأن يصدقوا ولا يحرفوا ويعملوا بالأحكام (وَمَا أنزِلَ إِلَيْهِم مِّن ربهِمْ) أى: القرآن أو كتب الأنبياء مطلقًا (لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم): لأنزل عليهم المطر وأخرج لهم نبات الأرض، أو من الأشجار والزروع أو من غير كَدٍّ وتعب قيل أراد به التوسعة كقولهم: فلان بالخير من قرنه إلى قدمه (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ): جماعة غير غالية ولا مقصرة كمؤمني أهل الْكِتَاب (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ): مقول في شأنه (سَاءَ مَا يَعْمَلُون): بئس ما يعملونه، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم. * * * (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) * * *

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي: جميعه غير خائف من شيء (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ): ولم تبلغ جميعه وكتمت آية منه (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ): وما أديت شيئًا منها كمن أضاع ركن صلاة، أو فكأنك ما بلغت شيئًا منها، فإن كتمان البعض والكل سواء في الشناعة (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي: أنا ناصرك وحافظ روحك فلا تخف أحدًا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس من قبل ذلك، فلما نزلت تلك الآية تركت الحراسة ويجاهد الأعداء بعيب دينهم وسب آلهتهم بلا خوف. قيل: المائدة آخر ما نزل من القرآن فلا يشكل بشج رأسه الأشرف صلى الله عليه وسلم، أو المراد حفظ روحه (إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) أي: بلغ إليهم رسالتك والله الهادي وليس عليك هداهم قيل معناه: لا يمكنهم مما يريدون بك من الهلاك. قيل: الأمر بتبليغ كل ما قصد منه اطلاع الناس فإن من الأسرار ما يحرم إفشاؤه (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) أي: دين يصح أن يسمى شيئًا (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: تؤمنوا بجميع الكتب وتصدقوها ولا تكتموا شيئًا منها فمن إقامتها الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) كرره ليتعقب عليه قوله: (فَلَا تَأْسَ): لا تحزن (عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ) لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإنهم الأشقياء وضرر كفرهم لا يلحق لغيرهم (إِنَّ الذَينَ آمَنُوا): باللسان كالمنافقين أو المراد منه المسلمون (وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) مرفوع بالابتداء وخبره محذوف

أي وَالصَّابِئُونَ كذلك (1) وهو اعتراض مشعر بأنهم مع كمال ضلالهم إن آمنوا يتاب عليهم فغيرهم من باب الأولى وهم طائفة من النصارى أو من عبدة الملائكة أو قوم يعرفون الله وحده وليست لهم شريعة، وقيل: غير ذلك (وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ): بقلبه أو ثبت على الإيمان مبتدأ خبره " فلا خوف " والجملة خبر إن وضمير اسمها محذوف أي: من آمن منهم أو بدل من اسم إن وخبره فلا خوف (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُ): على ما فات عنهم من الدنيا (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا): ليذكروهم (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى): تشتهي (أَنفُسُهُمْ) جملة شرطية وقوله: (فرِيقًا): من الأنبياء (كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) دال على جواب الشرط وهو استكبروا، وقوله: " فريقًا كذبوا " مستأنفة كأنه قيل: كيف فعلوا برسلهم؟ وجملة الشرط والجزاء صفة " رسلا " أى كلما جاءهم رسول منهم (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم شر بما صنعوا ومن قرأ " أَلَّا تَكُونُ " بالرفع يكون أن مخفف من المثقلة (فَعَمُوا): عن الدين والدلائل (وَصَمُّوا): عن إسماع الحق حين عبدوا العجل (ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي: ثم تابوا فقبل الله توبتهم (ثمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرة أخرى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من ضمير الجمع (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون): فيجازيهم (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي: إني مخلوق مثلكم فاعبدوا خالق الكل (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ): في عبادته (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأوَاهُ): منزله (النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ): ما لهم أحد ينصرهم لأنهم ظلمة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) أي: أحد ثلاثة من الآلهة هو والمسيح وأمه (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ

_ (1) قال العلَّامة السمين ما نصه: قوله تعالى: {والصابئون}: الجمهور على قراءته بالواو وكذلك هو في مصاحف الأمصار. وفي رفعةِ تسعة أوجه، أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل وسيبويه وأتباعِهما - أنه مرفوع بالابتداء وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ، والتقدير: إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا مَنْ آمنَ بهم إلى آخره والصابئون كذلك، ونحوه: «إن زيداً وعمروٌ قائمٌ» أي: إنَّ زيداً قائم وعمرو قائم، فإذا فَعَلْنا ذلك فهل الحذفُ من الأول / أي: يكونُ خبرُ الثاني مثبتاً، والتقدير: إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ قائم، فحذف «قائم» الأول أو بالعكس.؟ قولان مشهوران وقد وَرَد كلٌّ منهما: قال: 176 - 9 - نحنُ بما عِنْدنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ أي: نحن رضوان، وعكسه قوله: 177 - 0 - . ... . ... . ... . ... . ... . ... ... فإني وقَيَّار بها لَغَريبُ التقدير: وقيارٌ بها كذلك، فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ أنه يلزم من ذلك دخولُ اللام في خبر المبتدأ غيرِ المنسوخِ ب «إنَّ» وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضرورة شعر، فالآية يجوز فيها هذان التقديران على التخريج. قال الزمخشري: «والصابئون: رفعٌ على الابتداء، وخبرُه محذوفٌ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز» إنَّ «من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كذلك والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك: 177 - 1 - وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ ... بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ أي: فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنتم كذلك» ثم قال بعد كلام: «فإنْ قلت: فقوله» والصابئون «معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قتل: هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} إلى آخره، ولا محلَّ لها كما لا محلَّ للتي عَطَفَتْ عليها. فإن قلت: فالتقديمُ والتأخير لا يكون إلا لفائدةً فما هي؟ قلت: فائدتُه التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إنْ صَحَّ منهم الإِيمان والعملُ الصالحُ فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدُّهم عتياً، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَؤوا على الأديان كلها أي: خَرَجوا، كما أن الشاعر قدَّم قولَه:» وأنتم «تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغي من قومِه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو» بُغاةٌ «؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغي قبلهم مع كونِهم أوغَل فيه منهم وأثبت قدماً. فإن قلت: فلو قيل:» والصابئين وإياكم «لكانَ التقديمُ حاصلاً. قلت: لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه، وإنما يُقال مقدمٌ ومؤخرٌ للمُزال لا للقارِّ في مكانه، وتجري هذه الجملة مَجْرى الاعتراض». الوجه الثاني: أن «إنَّ» بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع، وخبرُ الجميع قوله: {مَنْ آمَنَ} إلى آخره، وكونُها بمعنى «نعم» قولٌ مرجوح، قال به بعضُ النحويين، وجَعَل من ذلك قول تعالى: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعِه، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير: «إنَّ وصاحبُها» جواباً لمن قال له: «لَعَن الله ناقة حملتني إليك» أي: نعم وصاحبُها، وجَعَلَ منه قولَ الآخر: 177 - 2 - بَرَزَ الغواني في الشبا ... بِ يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ أي: نعم والهاءُ للسكت، وأُجيب بأنَّ الاسمَ والخبرَ محذوفان في قولِ ابن الزبير، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه، والتقدير: إنها وصاحبها معلونان، وتقدير البيت: إنه كذلك، وعلى تقديرِ أن تكونَ بمعنى «نعم» فلا يَصِحُّ هنا جَعْلُها بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيء تكون جواباً له، و «نعم» لا تقع ابتداءَ كلام، إنما تقع جواباً لسؤال فتكونُ تصديقاً له. ولقائل أن يقولَ: «يجوزُ أن يكونَ ثَمَّ سؤالٌ مقدر، وقد ذكروا ذلك في مواضع كثيرةٍ منها قولُه تعالى: {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] {لاَ جَرَمَ} [هود: 22]، قالوا: يُحتمل أن يكونَ رَدَّاً لقائلِ كيتَ وكيتَ. الوجه الثالث: / أن يكون معطوفاً على الضميرِ المستكنِّ في» هادوا «أي: هادوا هم والصابئون، وهذا قول الكسائي، ورَدَّه تلميذه الفراء والزجاج قال الزجاج:» هو خطأ من جهتين «إحداهما: أن الصابئ في هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ اليهودي، وإن جُعِل» هادوا «بمعنى تابوا من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى» الذين آمنوا «في هذه الآية إنما هو إيمانٌ بأفواههم لأنه يريد به المنافقين، لأنه وصفُ الذين آمنوا بأفواهِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم، ثم ذَكَر اليهود والنصارى فقال: مَنْ آمنَ منهم بالله فله كذا، فجعَلَهم يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يحتجْ أَنْ يقال:» مَنْ آمنَ فلهم أجرهم «. قلت: هذا على أحدِ القولين أعني أن» الذين آمنوا «مؤمنون نفاقاً. ورَدَّه أبو البقاء ومكي ابن أبي طالب بوجهٍ آخرَ وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعطوفِ عليه. قلت: هذا لا يلزمُ الكسائي، لأنَّ مذهبَه عدمُ اشتراط ذلك، وإنْ كان الصحيحُ الاشتراطَ، نعم يلزم الكسائي من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحة، والله أعلم. وهذا القولُ قد نقله مكي عن الفراء، كما نَقَله غيرُه عن الكسائي، وردَّ عليه بما تقدَّم، فيحتمل أن يكونَ الفراء كان يوافق الكسائي ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ثم رجع إليه، وعلى الجملةِ فيجوز أن يكونَ في المسألة قولان. الوجه الرابع: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم «إنَّ» لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته، غايةُ ما في الباب أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و «أن» بالتفح، ولكن على رأي بذلك دون سائر أخواتها لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلافِ ليت ولعل وكأن، فإنه خَرَج إلى التمني والتَّرَجي والتشبيه، وأجرى الفراء البابَ مُجرى واحداً، فأجاز ذلك في ليت ولعل، وأنشد: 177 - 3 - يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... في بلدٍ بها أنيسُ فأتى ب «أنت»، وهو ضميرُ رفعٍ نسقاً على الياء في «ليتني»، وهل يَجْري غيرُ العطف من التوابع مَجْراه في ذلك؟ فذهَبَ الفراء ويونس إلى جوازِ ذلك وجَعَلا منه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب} [سبأ: 48] فرفعُ «عَلاَّم» عندهما على النعت ل «ربي» على المحلِّ، وحكوا «إنهم أجمعون ذاهبون»، وغَلَّط سيبويه مَنْ قال مِن العرب: إنهم أجمعون ذاهبون «فقال:» واعلم أنَّ قوماً من العرب يغْلَطون فيقولون: «إنهم أجمعون ذاهبون» وأخذ الناس عليه في ذلك من حيث إنه غَلَّط أهل اللسان، وهم الواضعون او المتلقُّون من الواضع، وأُجيب بأنهم بالنسبةِ إلى عامة العرب غالطون وفي الجملة فالناسُ قد رَدُّوا هذا المذهبَ، أعني جوازَ الرفعِ عطفاً على محلِّ اسم «إنَّ» مطلقاً، أعني قبلَ الخبرِ وبعده، خَفِي إعرابُ الاسمِ أو ظهر. ونقل بعضُهم الإِجماع على جوازِ الرفعِ على المحلِّ بعد الخبر، وليس بشيء، وفي الجملةِ ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ: مذهبُ المحققين: المنعُ مطلقاً، ومذهبُ بعضهم، التفصيل قبل الخبر فيمتنع، وبعده فيجوز، ومذهب الفراء: إنْ خَفِي إعرابُ الاسم جاز ذلك لزوال الكراهية اللفظية، وحُكِي من كلامهم: «إنك وزيد ذاهبان» الرابع: مذهب الكسائي: وهو الجوازُ مطلقاً ويَسْتدل بظواهرِ قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية، وبقوله: - وهو ضابئ البرجمي - 177 - 4 - فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه ... فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ وبقوله: 177 - 5 - يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ ... حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ وبقوله: 177 - 6 - وإلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتمْ ... ... . ... . ... . ... . . . البيت، / وبقوله: 177 - 7 - يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... وبقولهم: «إنك وزيدٌ ذاهبان» وكلُّ هذه تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً، وينبغي أن يوردَ الكسائي دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعرابِ الاسم نحو: «إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان» وردَّ الزمخشري الرفع على المحل فقال: «فإنْ قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطف على محل» إنَّ «واسمها. قلت: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: «إنَّ زيداً وعمرو منطلقان» فإنْ قلت: لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلت: إنَّ زيداً منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعتُه على محل «إنَّ» واسمِها، والعاملُ في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخبر؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم الجزأين في عمله، كما تنتظِمُها «إنَّ» في عمِلها، فلو رَفَعْتَ «الصابئون» المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ ب «إنَّ» لأَعْمَلْتَ في

وَإِن لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي: ولم يوحدوا (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وضع الظاهر موضع الضمير ليعلم أن ترتب العذاب لكفرهم، ومن للبيان (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) بالانتهاء عن تلك العقيدة الوخيمة بعد هذا التهديد (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): يغفر لهم ويرحم عليهم بعد التوبة مع هذا الذنب الجسيم (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ): ما هو إلا رسول كالرسل السابقة (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ): صدقت بكلمات ربها وكتبه (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ): يحتاجان إليه، فكيف يكونان إلهين؟!! (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: كيف يصرفون عن الحق وتدبر الآيات (قُلْ): يا محمد لمن يعبد غير الله ومنهم النصارى (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا): لا يملك أن يدفع عنكم ضر المصائب ولا أن يوصل إليكم نفع الصحة

(78)

والسعة (وَاللهُ هُو السمِيعُ): بالأقوال (العَلِيمُ): بالعقائد فيجازي عنها (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ): لا تتجاوزوا عن الحد فيه (غَيْرَ الْحَقِّ): حال كون دينكم غير الحق أي باطلاً وقيل: صفة مصدر أي غلوًّا باطلاً فإن غلو الحق وهو التفحص عن حقائقه محمود (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أي: أئمتهم الذين ضلوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم (وَأَضَلُّوا): خلقًا (كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) أي: استمروا على الضلال أو بعد بعثته أو ضلوا قبل عن مقتضى العقل ثم عن مقتضى الشرع. * * * (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا

وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) * * * (لعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَريمَ) أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وأصحاب المائدة لما لم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير أو ملعونون في الزبور والإنجيل على لسانهما (ذلِكَ) أي: اللعن (بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي: بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم (كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ): لا ينهى بعضهم بعضًا عن معاودة منكر فعلوه قيل: أي لا ينتهون من تناهى عن الأمر إذا امتنع (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) تعجيب مؤكد بالقسم (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ): من أهل الكتاب (يَتَوَلَّوْنَ): يوالون (الذِينَ كَفَرُوا) فإن المنافقين يوالون المشركين (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ما بعد أن هو المخصوص بالذم كأنه قال: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم أي

موجب سخطه (وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالنَّبِيِّ) أي: محمد عليه الصلاة والسلام (وَمَا أنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوَهُمْ أَوْلِياءَ) إذ الإيمان يمنع عن ذلك (وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنهُمْ فَاسِقُونَ): خارجون عن طاعة الله (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) فإنهم متفقون في الانهماك فى حسدهم وعنادهم (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ عليهم القرآن بكوا وأسلموا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبره وقيل: غير ذلك (ذلِكَ بِأَنَّ مِنهُمْ قِسِّيسِينَ) أي: علماء (وَرُهْبَاناً) أي: عبادًا (وَأنَّهُمْ لاَ يَسْتَكبِرُونَ) كما يتكبر المشركون واليهود (وَإِذا سَمِعُوا) عطف على يستكبرون بيان لرقة أفئدتهم (مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ): محمد عليه الصلاة والسلام (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) جعلت أعينهم من كثرة البكاء كأنها تسيل بأنفسها (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)

(87)

من الأولى للابتداء والثانية للتبيين (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) من الذين شهدوا بأنه حق أو من أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم شاهدون يوم القيامة لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنَّهم قد بلغوا (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ) نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فأجابوا. أي: أي شيء حصل لنا؟ وقوله: لا نؤمن حال من ضمير " لنا " أي: غير مؤمنين (بِاللهِ): بتوحيده (وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ): أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ونطمع حال وعامله عامل الحال الأولى، لكن مقيدًا بالحال الأولى بتقدير: ونحن نطمع وعطف على لا نؤمن أو حال من فاعل لا نؤمن (فَأَثَابَهُمُ اللهُ): أعطاهم (بِمَا قَالُوا): سألوا ربهم وتمنوا (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ): من تحت غرفها (خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ): الذين أحسنوا القول والعمل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) التكذيب بالآيات وإن كان داخلاً في الكفر لكن كفرهم لأجل تكذيبهم آيات ربهم والكلام في بيان المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ

يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي: ما طاب ولذ منه (وَلاَ تَعْتَدُوا): لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليها، أو لا تجاوزوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم، أو لا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر الكفاية (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يرضى عمن تجاوز الحد في الأمور

نزلت في جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه تبتلوا واعتزلوا النساء وطيبات الطعام واللباس وهموا بالإخصاء ولذلك قيل الاعتداء: الإخصاء (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا) من ابتدائية متعلقة بكلوا وحلالاً مفعوله أو للتبعيض مفعول كلوا وحلالاً حال من الموصول (وَاتَّقُوا الله الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ) قيل لما نزلت الآية في منعهم عما اتفقوا عليه من الإخصاء وغيره قالوا: يا رسول الله: إنا قد حلفنا على ذلك فنزل قوله (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ): هو قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا واللهِ، وبلى واللهِ، أو في الهزل أو في المعصية أو على

غلبة الظن أو في الغضب أو في النسيان أو هو في ترك المأكل والملبس (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ): بما صممتم عليه وقصدتموه إذا حنثتم (فَكَفارَتُهُ) أى: كفارة نكثه التي تذهب إثمه (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ): وهو من لا يجد ما يكفيه (مِنْ أَوْسَطِ) صفة إطعام أو تقديره إطعامًا من أوسط أو طعامًا من أوسط (مَا تُطْعِمُون أَهْلِيكُمْ) أي: من أعدله أو من أمثله، قال كثير من السلف: لكل واحد مدّ من برٍّ ومعه إدامه، وقال بعضهم: نصف صاع من برٍّ أو تمر ونحوهما وعند الشافعي مدّ بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على إطعام أى: ما يقع عليه اسم الكسوة أو كسوة تجوز صلاته فيها وقيل غير ذلك (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ): مؤمنة عند الشافعي فالحانث مخير بين هذه الثلاثة (فمَن لمْ يَجِدْ): واحدًا منها بأن لم يفضل ما يطعم عشرة مساكين من قوته وقوت عياله في يومه وليلته (فصِيَامُ ثَلاَثةِ أَيَّامٍ) أي: فكفارته ذلك، والتتابع ليس بشرط عند الشافعي (ذلِكَ) أى: المذكور (كَفارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) يعني: حنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) لا تتركوها بغير تكفير أو لا تحلفوا أو عن الحنث إذا لم يكن على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن الأفضل الحنث والكفارة حينئذ (كَذَلِكَ): مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): نعمه فيزيدنكم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ): هو القمار بجميع أنواعه (وَالأَنصَابُ): هي حجارة كانوا يذبحون

قرابينهم عندها (وَالأَزلامُ): هي قداح كانوا يستقسمون بها وقد مر (رِجْسٌ): سخط وإثم خبر للخمر وخبر الباقي محذوف أو تقديره تعاطي الخمر والميسر رجس (مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَان)، لأنه مسبب من تسويله (فاجْتَنِبُوهُ) أي: الرجس (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لكي تفلحوا بالاجتناب عنه (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ): يمنعكم (عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن

(94)

الصَّلاةِ) ذكر الأنصاب والأزلام اللذين هما من الكفر مع الخمر والميسر كأنه للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة، ولذلك خصهما بإعادة الذكر (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) من أبلغ عبارة في النهي كأنه قال قد تلوت عليكم من أنواع الصوارف فهل أنتم معها منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه ولم ينفعكم الزجر؟! (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا): مخالفتهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الطاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) فلا ضرر له، وإنما ضررتم به أنفسكم، ولما نزل تحريم الخمر قالوا كيف بمن كان يشربها قبل التحريم وبعض الذين قتلوا يوم أحد شهداء والخمر في بطونهم فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ): إثم (فِيمَا طَعِمُوا): مما لم يحرم عليهم (إِذَا مَا اتقَوْا): الحرامَ (وَآمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحات (ثُمَّ اتَّقَوْا) ما حرم عليهم بعد (وَآمنوا) بتحريمه (ثُمَّ اتَّقَوْا) استمروا على اتقاء المعاصي (وَأَحْسنوا): العمل ومعناه في الأول: اتقوا الشرك وآمنوا ثم اتقوا أي: داموا على ذلك وآمنوا وثبتوا عليه وازدادوا إيمانًا ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا العمل (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فلا يؤاخذهم بشيء. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ

الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ): يختبرنكم (بِشَيْءٍ مَنَ الصَّيْدِ) هذا في عمرة الحديبية المسلمون محرمون والصيد من الوحش والطير تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط (تَنالُهُ أَيْدِيكمْ): تتمكنون من أخذه باليد، لأن فيه صغارًا وفراخًا (وَرِمَاحُكُمْ): تحتاجون إلى مزاولة الرمح لأن فيه الكبار (لِيَعْلَمَ اللهُ): ليرى الله وليتميز (مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ): من يخاف الله ولم يره أو من يخاف عقاب الله وهو غائب غير شاهد (فمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ): الإعلام والإنذار (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي: محرمون جمع حرام (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً): ذاكرًا لإحرامه، والأصح عند السلف والخلف أن العمد والخطأ سيان في لزوم الكفارة

دون الإثم والآية فيهما ولذلك قيده بمتعمد، أو يدل عليها صريحًا قوله " ومن عاد فينتقم الله " (فجَزَاءٌ): أي فعليه أو فواجبه جزاء (مِثْلُ مَا قَتَلَ) صفة جزاء (مِنَ النَّعَمِ) بيان للمثل ومن قرأ (فجزاءُ) بالإضافة فمن إضافة المصدر إلى المفعول والمثل غير زائد، لأنه بصدد بيان أن الجزاء ما هو لا بيان أن عليه جزاء ما قتل، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة على الأصح المنقول عن السلف (يَحْكُمُ بِهِ): الجزاء (ذَوَا عَدْلٍ): رجلان صالحان فإن الأنواع تتشابه، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، (مِّنكُمْ): من المسلمين فما حكم الصحابة بالمثلية فهو المتبع وإلا فلا بد من عدلين يحكمان، هذا هو الأصح، (هَدْياً) حال من ضمير به، (بَالِغَ الكَعْبَةِ)، صفة هديًا، والإضافة لفظية أي: واصلاً إليه بأن يذبح فيه، ويتصدق به، (أَوْ كَفارَةٌ)، عطف على جزاء، (طَعَامُ مَسَاكِينَ) بدل منه أو تقديره هي طعام وظاهره التخيير وعليه الأكثرون، وقال بعض من السلف: إن لم يجد هديًا يعدل على أن يقوم مثل ما قتل، فيشترى بثمنه طعامًا لكل مسكين مدّ فإن لم يجد يصوم، (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ

صِيَامًا) أي: ما ساواه من الصوم فيصوم عن إطعام كل مسكين يومًا وصيامًا تمييز للعدل، (ليَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ): ثقل أمره، وجزاء معصيته أي: أوجبنا عليه ذلك ليذوق، (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ): قبل التحريم، (وَمَنْ عَادَ): إلى مثل ذلك، (فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ): في الآخرة أي: فهو ينتقم الله منه ليصح دخول الفاء وعليه مع ذلك الكفارة، وعن ابن عباس رضى الله عنهما لا كفارة عليه فإن الأمر أشد، (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ): على المصر بالمعاصي، (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ): مما لا يعيش إلا في

الماء في جميع الأحوال (وَطَعَامُهُ) أي: ما يتزود منه يابسًا مالحًا أو ما لفظه ميتًا، (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ): منفعة للمقيم، والمسافر، وهو مفعول (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) أي: مصيدها، وعن بعضهم المراد بالصيد في الموضعين فعله (مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) وأما أكل لحم صيد غير المحرم لا لأجله في حال الإحرام فالأصح الجواز بدليل الحديث، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ)، عطف بيان للكعبة على جهة المدح، (قِيَامًا لِلنَّاسِ): في أمر دينهم ودنياهم به الحج وبه يلوذ الخائف، وهو ثاني مفعولي جعل، (وَالشَّهْرَ الحَرَامَ)، عطف على الكعبة جعل الأشهر الحرم قيامًا للناس فيه الحج، والأمن من القتال، (وَالْهَدْيَ): ما أهدى إلى الكعبة، (وَالْقَلَائِدَ): ذوات الْقَلَائِدَ من الهدي ما قلد به الهدي من نعل، أو لحاء شجر أي: علامة يعلم منها أنه هدي، وكانوا يؤمنون بتقليد الهدي فبه يحصل القيام، (ذلِكَ) أي: الجعل وقيل إشارة إلى ما في السورة من أخبار الغيب، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل الوقوع، وجلب المنافع دليل كمال علمه أو لتعلموا أنا نعلم مصالح دينكم ودنياكم،

(101)

فتستدلوا بهذا على أنه عالم بما في السماوات والأرض، (وَأَنْ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، تعميم بعد تخصيص. (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): لمن انتهك محارمه، (وَأَن الله غَفُورٌ رحِيمٌ) لمن حافظ عليها (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ): فإذا بلغ ليس لكم عذر في التفريط، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكتُمُونَ): من تصديق وتكذيب، (قُل لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ): الحرام والحلال، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كثْرَةُ الخَبِيثِ): فإن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى (واتَّقُوا اللهَ): في الخبيث (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ): أرباب العقول السليمة، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): راجين أن تبلغوا الفلاح. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى

الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْألوا): رسول الله صلى الله عليه وسلم. (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ): تظهر لكم، (تَسُؤْكُمْ): تغمكم وتضركم. الشرطية وما عطف عليها من الشرطية الأخرى صفة أشياء نزلت لما سئل من يطعن في نسبه مَن أبي فعينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال آخر أيت أبي؟ قال: " فى النار " أو نزلت

لما نزل وجوب الحج، فقال: " في كل عام، فقال: ولو قلت نعم لوجبت فاتركوني ما تركتم " (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي: وإن تسألوا عنها فى زمان الوحي تظهر لكم، (عَفَا اللهُ عَنْهَا) أي: عما سلف من مسألتكم، فلا تعودوا لمثلها فهي استئناف أو صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها، (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ): لا يعاجلكم بالعقوبة، (قَدْ سَأَلَهَا) أي: عن الأشياء بالحذف والإيصال، وقيل الضمير إلى المسألة التي دل عليها " لا تسألوا " فيكون في موقع الصدر وليس من قبيل سألته درهما، لأنهم ما طلبوه، بل سألوا عنه، (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ)، متعلق بسألها، (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا) أي: بالأشياء أو بسببها، (كَافِرِينَ)، لأنهم تركوها وهجروها وقد ورد " اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) أي ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير، فلا يطلب إلا مفعولاً واحدًا و (مِن) زائدة، وهي ناقة ولدت خمسة أبطن بحروا أى: شقوا أذنها وتركوا الحمل، والركوب عليها، (وَلَا سَائِبَةٍ): هي ناقة لا تركب، ولا تحبس عن كلاء وماء لنذر صاحبها إن حصل ما أراد من شفاء المريض، أو غيره أنها سائبة، (وَلاَ وَصِيلَةٍ): الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظر إن كان السابع ميتًا فهو

للرجال دون النساء، وإن كان ذكرًا فهو مذبوح للرجال، وإن كان أنثى تركوها فلم يذبح، وإن كان ذكرًا وأنثى خلوا الذكر أيضًا من أجل أنثى، وقالوا: وصلت أخاها ولبنها للرجال (وَلاَ حَامٍ): هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، وقد قيل في تفسير كل واحد غير ما نقلنا، (وَلَكِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ): في تحريمهم هذه الأنعام، (وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون): جهلة كالأنعام، بل هم أضل أو أكثرهم مقلدون لرؤسائهم لا يعرفون أن ذلك افتراء منهم، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ): في الفرائض والسنن، (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا): من سننهم السيئة، (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، الواو للحال والهمزة للإنكار أي: أحَسبهم وجدان آبائهم على هذا المثال، ولو كان الحال أن آباءهم جهلة ضلال، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الجار والمجرور اسم فعل أي: الزموا صلاحها، (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، فيه رخصة في ترك الحسنة إذا علم عدم قبولها أو فيها مفسدة وإضرار له منها اتفقت كلمة السلف على ذلك،

والأحاديث تدل عليه أو معنى إذا اهتديتم إذا ائتمرتم بالمعروف، وأمرتم به، وانتهيتم عن المنكر، ونهيتم عنه حسب طاقتكم أو المراد المنع عن هلاك النفس أسفًا على ما عليه الكفرة والفسقة كقوله: " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ " [فاطر: 8]، وهو استئناف أو جواب للأمر أي: إن لزمتم أنفسكم لا يضركم، والقياس الفتح لكن أوثرت ضمة الراء لاتباع الضاد، (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ)، وعد ووعيد للفريقين. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ)، إضافة إلى الظرف على الاتساع، (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)، ظرف للشهادة، وحضوره: ظهور أماراته، (حِينَ الوَصِيَّةِ)، بدل من الظرف وفيه دليل على أن الوصية مما لا ينبغي التساهل فيها، (اثْنَانِ)، خبر شهادة أي: شهادة بينكم شهادة اثنين أو فاعلها أي: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ): من المسلمين، وقيل من أقاربكم وهما صفتان لاثنان، (أَوْ

آخَرَانِ)، عطف على اثنان، (مِنْ غَيْرِكُمْ): من غير المسلمين أو من غير أقاربكم، (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ): أي: شهادة غير المسلم إذا كنتم في السفر يعني: لم تجدوا مسلمًا، (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)، عطف على ضربتم، وجواب الشرط محذوف أي: إن كنتم في سفر ولم تجدوا مسلمين، فيجوز إشهاد غير المسلمين، (تَحْبِسُونَهُمَا): تقفونهما صفة للآخران، أو استئناف كأنه جواب ما قيل كيف نعمل إن ارتبنا في الشاهدين؟! (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي: صلاة العصر، فإن أهل الكتاب أيضًا يعظمونها أو بعد صلاة ما، أو بعد صلاتهم، (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي: إن ارتاب أحد الوارثين فيهما حبسهما للحلف، (لَا نَشْتَرِي بِهِ) بالقسم، (ثَمَنًا)، الجملة مقسم عليه أي: لا نستبدل به عرضًا من الدنيا أي: لا نحلف كاذباً، (وَلَوْ كَان): من نقسم له، (ذا قُرْبَى): قريبًا منا لا نحلف له كاذبًا أي نحن رجال عادتنا الصدق لنا أو علينا، (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) أي: الشهادة التي أمر الله بإقامتها، (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ): إن كتمنا، (فَإِنْ عُثِرَ): اطلع (عَلَى أَنَّهُمَا) أي: آخرين (اسْتَحَقَّا إِثْمًا): استوجبا إثمًا بيمينهما الكاذبة، (فَآخَرَانِ): فشاهدان آخران، (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا)، خبر لقوله (فَآخَرَانِ)، (مِنَ الذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ): من الذين جنى عليهم، وهم الورثة، فضمير استحق للإثم أي ارتكب الذنب بالقياس إليهم، (الْأَوْلَيَانِ) أي: أحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما استئناف كأنه قيل من هما قال:

هم الأوليان، أو بدل من آخران، ومن قرأ الأولين فهو صفة، أو بدل من الذين، ومن قرأ اسْتَحَقَّ غير مجهول، فهو فاعل أي: من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ)، عطف على يقومان، (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ): بالاعتبار، (مِن شَهَادَتِهِمَا)، أو أصدق، (وَمَا اعْتَدَيْنَا): ما تجاوزنا عن الحق فيها، (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ): إن اعتدينا، (ذَلِكَ) أي: الحكم الذي تقدم، (أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) أي: أقرب أن يأتى الشهداء بشهادتهم على نحو تلك الحادثة، فلا يغيرونها، (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ): على المدعين، وهم أولياء الميت، (بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ): إذا ظهر للأولياء أمارات كذب الشاهدين، فيفتضحوا أي: أقرب إلى أحد الأمرين أداء الشهادة على الصدق أو الامتناع عن أدائها بالكذب، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا): بسمع إجابة ما أمرناكم، (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ): أي إن لم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهديهم، ومحصل الآية أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد على وصيته اثنين من المسلمين أو من قرابته، فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع

(109)

ارتياب فيهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت أيضًا، فإن اطلع بأمارة، ومظنة على كذبهما أقسم آخران من أولياء الميت، هكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآيات غير واحد من أئمة السلف والتابعين، وهو مذهب الإمام أحمد، والقاضي شريح في خاصة مثل هذه الواقعة، وقال بعضهم حكم الآية منسوخ إن أريد من الغير الكافرون فإن شهادة الكافر كانت في بدأ الإسلام ثم نسخت، وقال بعضهم المراد من الشهادة الوصاية وكون الوصي اثنين للتأكيد فإنهم قالوا: لا نعلم حكمًا يحلف فيه الشاهد وهو خلاف الظاهر المتبادر، وسبب نزول الآية أن رجلاً من المسلمين خرج مسافرًا معه رجلان من أهل الكتاب، ومات بأرض ليس فيها مسلم فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة مموهًا بالذهب، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأحلفهما بعد صلاة العصر فحلفا على أنهما ما اطلعا على الإناء، ثم وجد الإناء عند من اشترى منهما، فقام رجلان من أوليائه فحلفا أن الإناء لنا وأخذا. * * * (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا

وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) * * * (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) أي: اذكر يوم جمعهم، وقيل ظرف لـ (لا يَهْدِي) (1)، أو بدل اشتمال من مفعول اتقوا، (فَيَقُولُ): لهم، (مَاذَا أُجِبْتُمْ) أي إجابة أجبتم، إجابة إقرار أو إنكار، (قَالُوا لاَ عِلْمَ لنا): إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا أو بالنسبة إلى علمك، (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ): فتعلم ما نعلم، وما لا نعلم، وهذا السؤال لتوبيخ الأمم، (إِذْ قَالَ اللهُ)، بدل من يوم الجمع

_ (1) أى لا يهديهم طريق الجنة.

أو بتقدير اذكر، (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ): قويتك ظرف نعمتي، أو حال منهما، (بِرُوحِ الْقُدُسِ): جبريل، وقيل بكلام ونفس يحيى به الدين، والموتى، (تُكَلِّمُ النَّاسَ): بدعوتهم إلى الله تعالى، (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، عطف على محل في المهد فإنه حال قالوا، وما وصل إلى سن من الكهولة، ففيه إشارة إلى نزوله من السماء، وهو آية من آياته، (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ): الخط، (وَالْحِكْمَةَ): الفهم، (وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ): تشكله وتصوره على هيئة طائر، (بِإِذْنِي): لك في ذلك، (فَتَنْفُخُ فِيهَا): في تلك الصورة، (فَتَكُونُ طَيْرًا): تطير، (بِإِذْنِي): وأمري (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي): بأن تدعوهم فيقومون من قبورهم بإرادة الله وقدرته، (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ) أي: عن قتلك (إِذْ جئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ)، ظرف لكففت، (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا) أي: ما هذا، َ (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ): ألهمت أو بلسانك (إِلَى الحَوَارِيِّينَ): أصحابه، وأنصاره، (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ): يا الله أو يا أيها الرسول، (بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ): منقادون مخلصون، (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ)، منصوب باذكر، (يَا عِيسَى

ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)، وهذا كما تقول: هل تستطيع أن تجيء معي؟ عالمًا باستطاعته أي هل تفعل أم لا؟ أو بمعنى هل يعطيك ربك بإجابة سؤالك فيكون أطاع واستطاع بمعنى كأجاب واستجاب، وقيل: شكُّوا أي في قدرة الله، ولذلك أجابهم عيسى عليه السلام بقوله: " اتقوا الله " (1)، ومن قرأ (هل تستطيع) بالتاء، و (ربَّك) بالنصب، فمعناه هل تستطيع سؤال ربك؟ (أَن يُنَزِّلَ عَلَينَا مَائِدَةً مّنَ السَّمَاءِ قَالَ): عيسى، (اتَّقُوا اللهَ): في سؤالها، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: لا يليق اقتراح الآيات بعد الإيمان، (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا)، فأجابوا بأن طلبها لأجل الحاجة لا أنا نطلب آية، (وَتَطْمَئِنَّ قلوبُنَا): بزيادة علمنا، (وَنَعْلَمَ): علم مشاهدة بعد ما علمناه علم إيمان، (أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا): فيما وعدتنا أو في نبوتك، (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي: من الشاهدين على تلك المائدة الدالة على نبوتك أو من الشاهدين عليها عند من لم يحضرها من بني إسرائيل، وعليها متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين، (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا)، نداء ثان فإن اللهم لا يوصف، ولا يبدل منه، (أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً) أي: خوان إذا كان فيه الطعام، (مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا)، العيد اسم ليوم فيه سرور مخصوص فضمير تكون للمائدة على حذف مضافين أي: تكون يوم نزولها أو اسم سرور يعود فلا حذف، لكن في الإسناد مجاز، (لِأَوَّلِنَا)، بدل من لنا، (وَآخِرِنَا): لمتقدمينا ومتأخرينا أو يأكل منها أولنا وآخرنا (وَآيَةً مِنْكَ): على كمال قدرتك، وصحة نبوتي، (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِين قَالَ اللهُ): مجيبًا له، (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ): بعد نزولها، (مِنكُمْ

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قَرَأَ الْكِسَائِيُّ هَلْ تَسْتَطِيعُ بِالتَّاءِ رَبَّكَ بِالنَّصْبِ/ وَبِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي التَّاءِ، وَسَبَبُ الْإِدْغَامِ أَنَّ اللَّامَ قَرِيبُ الْمَخْرَجِ مِنَ التَّاءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَبِحَسَبَ قُرْبِ الْحَرْفِ مِنَ الْحَرْفِ يَحْسُنُ الْإِدْغَامُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانُوا أَعْلَمَ بالله مِنْ أَنْ يَقُولُوا هَلْ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّمَا قَالُوا هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَسْتَطِيعُ بِالتَّاءِ رَبَّكَ بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ يَسْتَطِيعُ بِالْيَاءِ رَبُّكَ بِرَفْعِ الْبَاءِ وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها: هل تسطيع سُؤَالَ رَبِّكَ؟ قَالُوا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تُوجِبُ شَكَّهُمْ فِي اسْتِطَاعَةِ عِيسَى، وَالثَّانِيَةُ تُوجِبُ شَكَّهُمْ فِي اسْتِطَاعَةِ الله، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُولَى أَوْلَى، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [المائدة: 111] وَبَعْدَ الْإِيمَانِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَقُوا شَاكِّينَ فِي اقْتِدَارِ الله تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بَلْ حَكَى عَنْهُمُ ادِّعَاءَهُمْ لَهُمَا ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْهُمْ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ مُتَوَقِّفِينَ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ كَانَ كَامِلًا فِي الْإِيمَانِ وَقَالُوا: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَرَضٍ فِي الْقَلْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ طَلَبُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِيَحْصُلَ لَهُمْ مَزِيدُ الطُّمَأْنِينَةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُورِثُ الطُّمَأْنِينَةَ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِفْهَامُ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْحِكْمَةِ أَمْ لَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَ الله تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى رِعَايَةِ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ يَكُونُ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا فَإِنَّ الْمُنَافِيَ مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ كَالْمُنَافِي مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الله تَعَالَى هَلْ قَضَى بِذَلِكَ وَهَلْ عَلِمَ وُقُوعَهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْضِ بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وُقُوعَهُ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا غَيْرَ مَقْدُورٍ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ السُّدِّيُّ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَيْ هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ اسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أطاع والسين زائدة. والوجه الْخَامِسُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالرَّبِّ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُرَبِّيهِ وَيَخُصُّهُ بِأَنْوَاعِ/ الْإِعَانَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة: 110] يَعْنِي أَنَّكَ تَدَّعِي أَنَّهُ يُرَبِّيكَ وَيَخُصُّكَ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ، فَهَلْ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْكَ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ كَوْنَهُمْ شَاكِّينَ فِيهِ بَلِ الْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَمَنْ يَأْخُذُ بِيَدِ ضَعِيفٍ وَيَقُولُ هَلْ يَقْدِرُ السُّلْطَانُ عَلَى إِشْبَاعِ هَذَا وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ جَلِيٌّ وَاضِحٌ، لَا يَجُوزُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. اهـ (مفاتيح الغيب 12/ 461 - 462)

(116)

فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا): تعذيبًا، (لَا أُعَذِّبُهُ)، الضمير للمصدر فيكون في موقع المفعول المطلق ويقوم مقام العائد فإن لا أعذبه صفة عذابًا أو من باب الحذف والإيصال أي: لا أعذب به، (أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ): عالمي زمانهم والأصح أن المائدة نزلت وكفروا بها فمسخوا قردة وخنازير، قيل ما مسخ أحد قبلهم خنزيرًا، فالعالمين مطلق قال عبد الله بن عمر: أشد الناس عذاباً (1) يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. * * * (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ

_ (1) في الأصل " عتاباً " والتصويب من بحر العلوم للسمرقندي.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) * * * ((وَإِذْ قَالَ اللهُ): يوم القيامة تقريعًا وتوبيخًا للنصارى على رءوس الأشهاد، (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)، صفة إلهين أو متعلق بـ اتخذوني، (قَالَ سُبْحَانَكَ): أنزهك تنزيهًا من أن يكون لك شريك، (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ): ما ينبغي أن أقول قولاً لا يحق فى أن أقوله فمتعلق لي بحق المقدر قبله، فإن تقدم صلة الجار على المجرور ممتنع، (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ): نعلم ما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه، (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، تصريح بنفى المستفهم عنه، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، بدل من ضمير به، والمبدل ليس في حكم المطروح بالكلية أو عطف بيان له، (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ

شَهِيدًا): مشاهدًا لأحوالهم، (مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي)، بالرفع إلى السماء، والتوفي أخذ الشيء وافيًا، (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ). المراقب لأحوالهم، (وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): مطلع عليه، (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ): لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) مع كفرهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): القوي القادر على الثواب، والعقاب لا تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة، والمغفرة وإن كانت قطعية الانتفاء في الكفار بحسب الوعيد، لكن يحتمل الوقوع، واللاوقوع بحسب العقل فجاز استعمال إن فيه، ومسألة الكلام أن غفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قيل معناه، إن تعذبهم أي: من يكفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم أي: من أسلم منهم، (قَالَ اللهُ): مجيبًا لرسوله فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى، (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ): المستمرين، (صِدْقُهُمْ): في دنياهم إلى آخرتهم وعن ابن عباس رضى الله عنهما معناه ينفع الموحدين توحيدهم، والمشار إليه يوم القيامة، ومن قرأ (يومَ) بالنصب فيكون ظرفًا لقال، والمشار إليه قوله " يا عيسى ابن مريم ءأنت " إلخ، (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): هذا نفعهم، (ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ): خلقًا وملكًا فلا شك فى كذب زعم النصارى، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فلا يكون إلا هو وحده إلها لأنه لو كان متعددًا لابد أن يكون كل واحد قادرًا على كل شيء، وهذا محال. والحمد لله حقَّ حمده .. * * *

سورة الأنعام

سورة الأنعام مكية غير ست أو ثلاث آيات: من قوله " قُلْ تَعَالَوْا " وهي مائة وخمس، أو ست وستون آية وعشرون ركوعًا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا

وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10) * * * (الْحَمْدُ لله الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) جمع السَّمَاوَات لظهور تعددها دون الأرض، (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) أي: أنشأهما، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها، فإن لكل جرم نور، (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، عطف على الحمد لله وثم للاستبعاد ومفعول يعدلون محذوف أي: يسوون الأوثان (بِرَبِّهِمْ) أو بِرَبِّهِمْ متعلق بـ " كفروا " و " يعدلون " من العدول لا من العدل وصلته محذوفة أي: يعدلون عنه، وقيل: الباء بمعنى عن فيتعلق بـ يعدلون، (هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ): ابتدأ خلقكم، (مِن طِينٍ) فإن آدم منه، (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) أي: الموت، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي: الآخرة، (عِندَهُ): لا يعلمه إلا هو، أو مدة الدنيا وعمر الإنسان، أو النوم والموت، أو مدة العمر ومدة البرزخ، والواو إما للعطف على (هو الذي) أو للحال، (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ): تشكون في أمر الساعة، (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ): متعلق بالله باعتبار المعنى الوصفي الذي ضمنه اسم الله وهو مقولية هذا الاسم عليه خاصة

أو متعلق بقوله: (يَعْلَمُ) ولا يلزم كون ذاته أو علمه فيهما: بل يكفي كون المعلوم فيهما وهو إما خبر ثان أو حال، (سرِّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون): من خير وشر، (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) (من) زائدة للاستغراق، (مِنْ آياتِ ربِّهِمْ): الدالة على وحدانيته، و (من) تبعيضية لا تبيينية إلا أن تكون النكرة في النفي بمعنى جميع الأفراد، (إِلا كَانُوا عَنْهَا): عن التفكر فيها، (مُعْرِضِينَ): لا يلتفتون إليها، (فَقَدْ كَذبُوا بِالْحَقِّ) أي: القرآن، (لَمَّا جَاءَهُمْ) أي: إن أعرضوا فلا تعجب فإنهم كذبوا بأعظم آية، وهذا أشد من الإعراض، (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) أي: أخبار القرآن وأحواله بأنَّهم بأي شيء استهزءوا، وهذا تهديد ووعيد شديد، (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ): قوم، (أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) والقرن أهل كل عصر أو مدة أعمار الناس، (مَكنَّاهُمْ فِي الأرْضِ): أعطيناهم من العمر، والمال، (مَا لَمْ نمكِّن لَكُمْ): ما لم نعطه لكم، (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ): المطر والسحاب، (عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا): كثير الدر أي: الصب، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ): بالعذاب من القحط والصواعق وغيرهما، (وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ): بدلاً منهم فليخافوا أن نفعل بهم كما فعلنا بهؤلاء، (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا): مكتوبًا، (فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) واللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة، فإن الأكثر أنه بعد المعاينة، وأكثر السحر والتزوير في المراءي، (لَقَالَ الذِينَ كَفَرُوا): عنادًا، (إِنْ هَذا): ما هذا، (إِلا سِحْر مُبِين) قيل: نزلت حين قالوا لا نؤمن بك حتى تأتينا

(11)

بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملك يشهدون أنه من عند الله، (وَقَالُوا لَوْلا): هلا (أُنزِلَ عَلَيْهِ): على محمد، (مَلَكٌ): يخبرنا أنه نبي، (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا): بحيث يرونه كما اقترحوا، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ): لحق إهلاكهم وعذابهم، فإن سنة الله جرت على أن من اقترح آية ولم يؤمن بها بعد نزولها استؤصلوا بالعذاب، (ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ): لا يمهلون، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ) أي: الرسول الذي أنزل على محمد، (مَلَكًا): يشهد على صدقه، (لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا): في صورة رجل فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، أو معناه؛ ولو جعلنا الرسول إليكم بدل الرسول البشري ملكًا فإنهم قالوا أيضًا: " لو شاء ربنا لأنزل ملائكة " (فصلت: 14)، (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، ولو جعلناه رجلاً لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فينفون رسالته، ويقولون هو بشر مثلنا كما يقولون في شأن محمد حليه الصلاة والسلام، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)، تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام (فَحَاقَ): أحاط أو نزل، (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ): من الرسل وبال، (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ قُلْ): لهم يا محمد. (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ). * * * (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ

الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) * * * (سيروا في الأرض): بالأقدام، أو بالعقل والفكر، (ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين): فتعتبروا، (قل لمن ما في السَّمَاوَات والأرض): خلقًا

وملكًا (قُلْ لله)، فإن الكفرة متفقون معكم في ذلك، فإن هذا من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن ينكره، (كَتَبَ): التزم، (عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ): لطفًا وفضلاً فمن أقبل إليه مع عظم ذنبه قبله، (لَيجْمَعَنَّكُمْ) أي: في القبور، (إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ): فيجازيكم بأعمالكم، (لا رَيْبَ فِيهِ) أي: في اليوم، (الَّذِينَ خسِرُوا أَنفُسَهُمْ): بتضييع الفطرة، والعقل نصب على الذم أو رفع أو مبتدأ ما بعده خبره، (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فإن استعمال العقل باعث على الإيمان، (وَلَهُ) عطف على الله في " قل لله "، (مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار) أي: وله ما استقر في الأزمنة، وهو من السكنى قيل: تقديره ما سكن فيهما وتحرك واكتفى بأحد الضدين عن الآخر، (وَهُوَ السمِيعُ): لكل مسموع، (الْعَلِيمُ): بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء، (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا)، إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليًّا معبودًا ربًا، (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): مبدعهما، صفة الله، فإنه بمعنى الماضي فالإضافة معنوية (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) يَرْزُقُ ولا يُرْزَقُ لا أحد إلا يحتاج إليه، وهو غير محتاج إلى أحد، (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ): من هذه الأمة، (وَلَا تَكُونَنَّ) عطف على أمرت أي: قيل لي لا تكونن، أو على قل، (مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، جواب الشرط دال عليه (أخاف)، والشرط معترض بين الفعل ومفعوله،

وفيه تعريض بأنَّهم مستوجبون للعذاب بألطف وجه، (مَنْ يُصْرَفْ): العذاب، (عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ): وأنعم عليه، ومن قرأ (يَصْرِفْ) مبني للفاعل فالضمير لله، والمفعول وهو العذاب محذوف، (وَذَلِكَ) أي: الصرف والرحم، (الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ): كمرض وبلاء، (فَلا كَاشِفَ لَه): لا قادر على رفعه، (إِلا هوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ): كصحة ونعمة، (فَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْء قَدِيرٌ): فيقدر على حفظه وإدامته، ولا راد لفضله، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ): قهره استعلى عليهم فهم تحت تسخيره، (وَهُوَ الْحَكِيمُ): في أمره، (الْخَبِيرُ) بخفايا العباد.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً)، نزلت حين زعم قريش أن أهل الكتاب أنكروا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فسألوا عنه من يشهد بنبوتك، (قُلِ اللهُ) أعظم شهادة، فإن أعظمية شهادة الله تعالى أمر لا ينكر، (شهِيدٌ) أي: هو شهيد، (بَيْنِي

(21)

وَبَيْنَكُمْ) أو الله مبتدأ، وشهيد خبر فإنه إذا كان هو الشهيد فأكبر شيء شهادة شهيد له، (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ): الذي ترونه ناطقًا بحجج وبينات، (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ): يا أهل مكة، (وَمَنْ بَلَغَ): وسائر من بلغه من الأسود والأحمر قل: (أَئِنَّكُم لَتشْهَدُونَ أَن مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى) تقرير لهم مع إنكار، (قُلْ لا أَشْهَدُ): بما تشهدون، (قلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَىٌ وَاحِدٌ وَإِننِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون): من الأصنام، (الذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَه) أي: محمدًا - عليه الصلاة والسلام - بنعته المذكور في التوراة والإنجيل، (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ): بحيث لا يشكون في رسالته، فعدم شهادكم برسالته لعنادهم، (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ): من أهل الكتاب، وهجروا ما في كتابهم، (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ): به. * * * (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ

يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) * * * (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى): اختلق، (عَلَى اللهِ كَذِبًا): ككذب المشركين، وأهل الكتاب، (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ): كالقرآن، ومعجزات محمد - عليه الصلاة والسلام - أي: لا أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف بمن جمع بينهما؟! (إِنَّهُ) أي: إن الشأن، (لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ): فضلاً ممن هو أظلم، (وَيَوْمَ) أي: اذكر، (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا): العابد والمعبود، (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ): آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي: تزعمونهم شركاءهم "حينئذ" يشاهدون آلهتهم في غاية الهوان، فيسأل عنهم تقريعًا وتوبيخًا، (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا) أي: لم تكن غاية فتنتهم، ومقاتلتهم وكفرهم في الدنيا إلا التبرؤ، في الآخرة أو عاقبة افتتانهم ومحبتهم في الأصنام إلا التبرؤ أو معذرتهم أو جوابهم وسماه فتنة لأنه كذب أو لأنهم قصدوا به الخلاص يقال: فتنت الذهب إذا خلصته، ومن قرأ بنصب (فِتْنَتَهُمْ)، فون تأنيث الفعل للخبر كقولك: من كانت أمك؟ (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فيحلفون

بالكذب لحيرتهم "فحينئذ" يختم على أفواههم، ويشهد عليهم جوارحهم، (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ): في الآخرة بنفي شركهم في الدنيا (وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وغاب عنهم ما كانوا يفترون إلهيته، وشفاعته، (وَمِنهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن كأبي جهل، والوليد، وأضرابهم، (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً): أغطية كراهة (أَن يَفْقَهُوهُ) أو عن أن (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا): ثقلا وصمما مثل نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبول القرآن، واعتقاد صحته بالأكنة والوقر، (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) لقوة عنادهم، (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ): بلغ عنادهم إلى أنَّهم إذا جاءوك، (يُجَادِلُونَكَ) جملة حالية، (يَقُولُ الذِينَ كَفَرُوا) جواب إذا وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، (إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) والأساطير: الأباطيل أو أحاديث الأمم السالفة التي سطروها في كتبهم (وَهُمْ يَنْهَوْنَ): الناس (عَنْهُ) استماع القرآن أو عن الإيمان، (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) يتباعدون

عنه بأنفسهم وعن بعض السلف أنه في شأن أبي طالب، فمعناه ينهون عن التعرض لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه، ويتباعدون عنه، فلا يؤمنون به، (وَإِن يُّهْلِكُونَ): وما يهلكون بذلك (إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ): ذلك، (وَلَوْ تَرَى)، جوابه محذوف أي: لرأيت أمرًا فظيعًا، وحالاً عجيبًا، (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ): وعاينوا ما فيها من أنواع العذاب، (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ): إلى الدنيا، (وَلَا نُكَذِّبَ)، عطف على (نُرَدُّ) فيكون المعنى على تمني مجموع الأمرين، أو عطف على التمني عطف إخبار على إنشاء، وهو جائز باقتضاء المقام أو حال وأما على قراءة النصب فبإضمار أن بعد الواو كما بعد الفاء، (بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم): إضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني، (مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي: ظهر لهم قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرًا لا محبة للإيمان، (وَلَوْ رُدُّوا): إلى الدنيا، (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ): من الكفر لقضاء شقاوتهم في الأزل، (وَإِنَّهُمْ

(31)

لَكَاذِبُونَ): فيما وعدوا صريحًا ضمنًا، (وَقَالُوا)، عطف على لعادوا أو نهوا أو استئنَاف بذكر ما قالوه في الدنيا، (إِنْ هِيَ) أي: الحياة، (إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى): مسألة، (ربهِمْ): وتوبيخهم، وقيل أي: بين يديه، (قَالَ)، استئناف فكأن سائلاً قال: ماذا قال ربهم حينئذٍ؟ (أَلَيْسَ هَذَا): البعث (بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا): إقرار مؤكد باليمين، لكن لا ينفعهم، (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتمْ تَكْفُرُونَ): بسبب كفركم. * * * (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ

أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) * * * (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذبُوا بِلِقَاءِ اللهِ): بالبعث، وما يتبعه، (حَتَّى إِذَا جَاءَتهُمُ السَّاعَةُ): غاية لكذبوا، أو من مات فقد قامت قيامته، (بَغْتَةً): فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من المجيء أو حال، (قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا): تعالى فهذا أوانك، (عَلَى مَا فَرَّطْنَا): قصرنا، (فِيهَا): في الدنيا أو في الساعة أي: في شأنها، (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ): آثامهم، (عَلَى ظُهُورِهِمْ): تمثل ذنوبهم بأقبح صورة منتنة فتركب عليهم وتسوقهم إلى النار، (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُون): بئس شيئًا يزرونه وزرهم، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، لأنها تنقضي عن قريب، ولا تعقيب منفعة، (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ): لدوام لذاتها ومسراتها، (أَفَلا تَعْقِلُونَ):

إنها كذلك، (قَدْ نَعْلَمُ) أي: الشأن، (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ): تسلية لرسوله فيما قال الكفار: إنك كذاب، (فَإِنَّهمْ لا يُكَذِّبُونَكَ): في نفس الأمر، أو في السر، (وَلَكِن الظالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدونَ): لكنهم لظلمهم جحدوا الآيات، وكذبوا بها، نزلت حين قال أبو جهل: لا نكذبك لكن نكذب بما جئت به، أو لما سئل أبو جهل عنه قال: والله إنه لصادق وما كذب قط، لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا): بمعونتهم وإهلاك أعدائهم فاصبر أنت أيضًا كما صبروا فسيجيء نصرك، وما مصدرية، (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ): لمواعيده وحكمه، (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ): بعض أخبارهم كيف صبروا، وكيف دمرنا قومهم، (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ): عظم وشق، (عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ): عن الإيمان، (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا): تطلب منفذًا، (في الأرْضِ): تنفذ فيه إلى جوفه، (أَوْ سُلَّمًا): مصعدًا، (فِي السَّمَاءِ): تصعد به إليه، (فَتَأْتِيَهُمْ): من الأرض أو السماء، (بِآيَةٍ)، وجواب الشرط الثاني مقدر أي: فافعل، والجملة جواب الأول يعني لا مغير لحكم الله فاصبر، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) أي: لو أراد جمعهم على الهدى لجمعهم وهداهم، ولكن

لم يتعلق به مشيئته (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ): بالحرص على خلاف مرادنا والجزع فإنه دأب الجهلة، (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ) أي: يجيب دعوتكم بالإيمان، (الذِينَ يَسْمَعُونَ)، لا من ختم الله على سمعه فلا يتأمل ولا يفهم، (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي: الكفار الذين كالموتى لا يسمعون يبعثهم الله فيعلمون حين لا ينفعهم، (ثمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ): للجزاء، (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كمَلَكٍ يشهد له، وكقولهم: " حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " [الاسراء: 90] (قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيةً): وفق ما طلبوا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ): أنه قادر على ذلك، وأنه لو أنزل ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما هو سنة الله، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ): إتيان الصفة لدابة وطائر لزيادة التعميم، والمبالغة بحيث لا يبقى وهم خروج شيء من الإفراد لكون الوصفين من أوصاف الجنس دون النوع، فيشعر بأن القصد فيها إلى الجنس، (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ): مقدرة أرزاقها وآجالها محفوظة أحوالها أصناف تعرف بأسمائها وجمع الأمم للحمل على المعنى، (مَا

فَرَّطْنَا): ما أهملنا، (فِي الْكِتَابِ): في اللوح المحفوظ (مِنْ شَيْءٍ): فإنه مشتمل على ما يري في العالم ومن شيء أي: شيئًا من التفريط، فيكون مصدرًا فإن فرط غير متعد بنفسه، (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي: الأمم كلها، فينصف بعضها عن بعض، " وإذا الوحوش حشرت " (التكوير: 5)، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - موت البهائم حشرها، (وَالذِينَ كَذبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ): عن سماع آياته سماع قبول وتأثر، (وَبُكْمٌ): لا ينطقون بالحق، (في الظُّلُمَاتِ)، خبر ثالث، أو حال عن المستكن في الخبر ظلمة الكفر، والجهل، والعناد، (مَنْ يَشَإِ اللهُ): إضلاله، (يُضْلِلْهُ): فيميته على الكفر، (وَمَنْ يَشَإِ): هدايته، (يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): فيميته على الإيمان، (قُلْ): يا محمد للكفرة، (أَرَأَيْتَكُمْ): أخبروني استفهام وتعجب، والكاف لتأكيد الفاعل لا محل له من الإعراب، وهو من وضع السبب موضع المسبب فإنه وضع الاستفهام عن العلم موضع الاستخبار؛ لأنه لا يخبر عن الشيء إلا العالم به، (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ): قبل الموت، (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ): القيامة، وأهوالها، (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ): في صرف العذاب عنكم، وهو متعلق الاستخبار، (إِن كُنتمْ

صَادِقِينَ) في أن الأصنام آلهة فأخبروني لم لا تعبدون أصنامكم في ذلك الحال؟! (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ): تخصونه بالدعاء كما قال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [لقمان: 32] (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ): الله، (إِلَيْهِ): إلى كشفه، (إِنْ شَاءَ) لكن لم يشأ كشف عذاب الآخرة عنهم، (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) فلا تذكرونه في ذلك الوقت. * * *

(42)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي

مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ) أي: الرسل فكذبوهم، (فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ): بالشدة والجوع، (وَالضَّرَّاءِ): الأمراض والنقصان، (لَعَلهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)،: لكي يسألوا ربّهم متذللين تائبين، (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)، حاصله نفي التضرع، لكن جاء بـ (لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر سوى العناد والقساوة، لأن (لولا) يفيد اللوم والتنديم، وذلك إنما يحسن إذا لم يكن في ترك الفعل عذر، وعنه مانع، (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ): ما رقت، (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): فأصروا عليه، (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ): من البأساء والضراء ولم يتعظوا به، (فتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء): من أنواع النعم استدراجًا ليكون الأخذ والهلاك أشد عليهم وأفظع، (حَتَّى إِذا فرِحُوا بِمَا أُوتُوا): وحسبوا أنَّهم على شيء، (أَخَذنَاهُمْ بَغتَةً): فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من الأخذ، (فإذَا هُم مُبْلِسُونَ): آيسون من كل خير، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا):

آخرهم لم يترك منهم أحد، (وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): على إهلاك الظلمة الذين من شؤمهم تقطع الرحمة، وتحزن الطير في وكره، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ): أيها المشركون، (إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ): أصمكم وأعماكم، (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ): حتى لا تفهموا شيئًا، (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ): بما أخذ وختم أو بأحد هذه المذكورات، (انظُرْ كَيْفَ نصَرِّفُ الآيَاتِ): نوضحها ونكررها، (ثُمَّ هُم يَصْدِْفُون): يعرضون، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ): أخبروني، (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً): على غفلة أو ليلاً، (أَوْ جَهْرَةً): معاينة تعلمون نزوله أو نهارًا، (هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظّالِمُون) فإن الموحدين لا يهلكون بالعذاب ألبتة بل (أولئك لهم الأمن) كما فعل بالأمم الماضية ما نزل العذاب إلا بعد تمييز المسلمين، ولو نزل على مسلم مصيبة فهي ليست بعذاب، (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ): العمل، (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): بالعذاب، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فات من دنياهم، (وَالّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ): يصيبهم، (بِمَا كَانُوا يفْسُقُون): بسبب فسقهم، (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ): فأعطيكم ما

(51)

تريدون، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ): فأخبركم بكل ما تسألون، عطف على (عندي خزائن الله)، وقيل: على (لا أقول)، (وَلا أَقولُ لَكُمْ إِني مَلَكٌ): فأقدر على ما يقدر، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) وحاصله لا أدعي ما تستبعده العقول؛ بل أدعي النبوة كما كان لكثير من البشر، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ): مثل للجاهل، والعالم أي: لا يستوي متبع الوحي ومن ضل، (أَفَلا تَتَفكَرونَ) أنه لا تستوي كقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) [الرعد: 19]. * * * (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

(وَأَنذِرْ بِهِ): بالقرآن، (الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ): يخافون هول يوم الحشر لا من جزم استحالته، (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ): يتولَّى أمرهم، (وَلا شَفِيعٌ):

يشفع بغير إذنه إن أراد العذاب بهم، والجملة حال، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): عن كفرهم ومعصيتهم، (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ): لا تبعدهم عنك، (يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ): يصلون المكتوبات في ليلهم ونهارهم، أو صلاة الصبح، والعصر، أو يذكرون ربَّهم، (يُرِيدُون وَجْهَهُ) أي: يعبدونه حال كونهم مخلصين فيها، (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، (من) زيدت للاستغراق وهو فاعل عليك لاعتماده على النفي، ومن حسابهم حال من شيء، أو من شيء مبتدأ وما عليك خبره، والحال من ضمير في الخبر أي: من شيء من تبعة حسابهم ليست عليك، ولا تكلف أمرهم، (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ): وليست تبعة حسابك عليهم، ولا يكلفون أمرك أو

معناه إنما حسابهم على الله ليس عليك كما أنه ليس عليهم من حسابك من شيء كقول نوح - عليه السلام - في جواب: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) قال: (قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)) [الشعراء: 111 - 113]، (فَتَطْرُدَهُمْ)، جواب النفي، (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب النهي نزلت في فقراء المؤمنين قال رؤساء قريش: يا محمد نَحِّ هؤلاء الأعبد عن مجلسك حتى نجالسك ونسمع كلامك، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك الفتن العظيمة (فَتَنَّا): ابتلينا، (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا): رؤساء قريش قالوا في شأن فقراء المسلمين وضعفائهم: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّن بَيْنِنَا) إنكارا لأن يخصهم الله بهداية ونعمة كما قالوا: " لو كان خيرًا ما سبقونا إليه " [الأحقاف: 11]، واللام للعاقبة للتعليل، (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)؛ هذا جواب لقولهم أي: الله أعلم بمن يشكر الإيمان وطبعه مستقيم فيهديه، (وَإِذَا جَاءكَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) هم فقراء الصحابة الذين في الله طردهم، (فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ): أكرمهم ببدء السلام عليهم، (كَتَبَ ربُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ): بشرهم بسعة رحمة الله، (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا): من قرأ (أَنَّهُ) بفتح الهمزة يكون بدلاً من الرحمة، ومن قرأها بكسرها فاستئناف، (بِجَهَالَةٍ) في موضع الحال أي: جاهلاً بما يورثه ذلك الذنب أو متلبسًا بفعل الجهالة، لأن ما يؤدي إلى الضرر لا يرتكبه سوى الجاهل قال بعض السلف: كل

(56)

من عصى الله فهو جاهل نزلت في عمر حين أشار بإجابة قريش إلى طرد المؤمنين فأنزل الله، " ولا تطرد الذين " إلخ ثم جاء واعتذر من مقالته، (ثمَّ تَابَ مِن بعدِهِ): العمل أو السوء، (وَأَصلَحَ) عمله أو أخلص توبته، (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) من قرأ (فأنه) بفتح الهمزة تقديره فأمره، أو فله غفرانه ألبتَّة، ومن قرأ بالكسر فتقديره: فالله يغفره ويرحمه ألبتَّة فإنه غفور رحيم، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك التبيين الواضح، (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ): التي يحتاج الناس إلى بيانها، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ): من قرأ تستبين بالتاء وسبيلَ بالنصب فمعناه: ولتعرف طريقهم، فتعاملهم بمقتضى علمك، ومن قرأ بالتاء، ورفعها أي: ولتبين سبيلهم ومن قرأ بالياء ورفعها فلأن السبيل يذكر ويؤنث وهو إما عطف على مقدر أي: فصلنا ليظهر الحق ولتستبين وإما تقديره: ولتستبين فصلنا هذا التفصيل. * * * (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) * * *

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ): عن (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ): تعبدون، (مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) فيه إشارة إلى علة النهي، ومبدأ ضلالهم فإن طريقهم اتباع الهوى لا الهدى، (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) أي: إن فعلت ذلك فقد ضللت، (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) فيه تعريض بأنَّهم كذلك، (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ): حجة واضحة، (مِنْ رَبِّي): غير متبع الهوى، وهو صفة لبينة، (وكَذبتم بِه): بربي، حيث أشركتم أو الضمير للبينة فإنها بمعنى الدليل، (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ): من العذاب كما قالوا: " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً " [الأنفال: 32] (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله): في تعجيل العذاب وتأخيره، (يَقُصُّ الْحَقَّ): يتبع الحق والحكمة فيما حكم، ومن قرأ " يقضي الحقَّ " أي: يحكم القضاء الحق فيكون صفة مصدر أو يصنع، الحق فيكون مفعولاً به، (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ): القاضين، (قُلْ لَوْ أَنْ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ): من العذاب، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي: لعجلته حتى أتخلص منكم حين سألتم أنتم العذاب، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) أي: لكن هو أعلم بوقت العقوبة، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ): خزائنه جمع مفتح بالميم وهو

المخزن أو جمع مِفتاح بكسر الميم وهو المفتاح، وقد صح أن مفاتيح الغيب خمس " إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ " [لقمان: 34] (لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي: يحيط علمه بالمغيبات والمشاهدات، (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)، لأنه لا تسقط إلا بعد تعلق إرادته به، (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ): فوق الأرض أو تحته عطف على ورقة، (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) المراد منه كل شيء، (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ): في اللوح المحفوظ، وهو صفة للمذكورات كما أن " إلا يعلمها " صفة لورقة، (وَهُوَ الذِي يَتَوَفاكُم بِالليلِ): هو التوفي الأصغر استعار التوفي للنوم لما بين الموت والنوم من المشاركات، (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ): كسبتم، (بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ): يوقظكم، (فِيهِ)، الضمير للنهار وقيل: في المنام، (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى): أجل الحياة إلى الممات أي: ليستوفي مدة عمره، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ):

(61)

بالموت، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): يجزيكم بعملكم إن خيراً فخير وإن شرًّا فشر. * * * (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) * * *

(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ): تصوير لقهره وعلوه بالقدرة، (ويرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً): من الملائكة تحفظ أبدانكم كما قال تعالى: " له معقبات من بين يديه " [الرعد:11]. أو تحفظ جميع أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ): حان أجله، (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) لملك الموت أعوان يخرجون الروح فيقبض ملك الموت، (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ): فيما أمروا يفعلون ما يؤمرون (ثم رُدُّوا) أي: الملائكة أو الخلائق كلها، (إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ): الذي يتولى أمرهم، (الْحَقِّ): العدل الذي لا يظلم فضلا (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ): يومئذ لا حكم بوجه لغيره فيه، (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ): لا يحتاج في الحساب إلى ضرب وقسمة وفكر وروية وعقد يد لا يشغله حساب عن حساب، (قُلْ مَن يُنَّجِّيكُمْ): سؤال توبيخ، (مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ): شدائدها وأحوالها (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً): معلنين

ومسرين، أو إعلانًا وإسرارًا (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ) أي: يقولون لئن أنجيتنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ): لا من الكافرين، (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا): الظلمة، (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ): غم سواها، (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ): فلا تشكرون، (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ): كما فعل بعاد وثمود وقوم لوط ونوح، (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ): كالخسف، والزلزلة نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عذاب الفوق أمراء السوء والتحت خدم السوء، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا): يخلطكم فرقًا مختلفين على أهواء شيء، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ): يسلط بعضكم على بعض بالعذاب، والقتل وفي الحديث الصحيح " سألت ربي ثلاثًا فأعطاني

ثنتين ومنعني واحدة سألت أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها، وسألت أن لا يظهر علينا عدوًّا من غيرنا فأعطانيها، وسألت أن لا يلبسنا شيعًا فمنعنيها "، (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ): نوضحها ونكررها، (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ): لكي يفهموا ويتدبروا، (وَكَذبَ بِهِ): بالقرآن وقيل: بالعذاب، (قَومُكَ): قريش، (وَهُوَ الْحَقُّ): الصدق أو الواقع، (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل): ما وكل إليَّ أمركم إنما عليَّ البلاغ، (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ): لكل خبر من أخبار الله تعالى وقوع، ولو بعد حين، (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ): بعضه في الدنيا، وبعضه في الآخرة، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا): بالطعن والاستهزاء، (فَأَعْرِضْ عَنْهمْ): اترك مجالستهم، (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ): الضمير للآيات

باعتبار القرآن، (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ): النهي عن مجالستهم بوساوسه، (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى) بعد أن تذكر، (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، معهم فإنهم ظلمة لوضع التكذيب، والسخرية موضع التصديق والتعظيم، (وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء): ما عليهم شيء مما يحاسبون عليه أي: من آثام الخائضين إن قعدوا معهم، (وَلَكًن ذِكرى) أي: لكن عليهم أن يذكروهم، ويمنعوهم، ويعظوهم، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون): يجتنبون الخوض كراهة لمساءتهم نقل أنه لما نزل النهي عن مجالستهم قال المسلمون: إذا لم نستطع أن نجلس في الحرم ونطوف فإنهم يخوضون أبدًا، فنزلت رخصة لهم في القعود بشرط التذكير، قال كثير من السلف: هذا منسوخ بآية النساء المدنية، وهي قوله " إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ " [النساء: 140]، وفي رواية قال المسلمون: نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم وحينئذ معنى قوله: " ولكن ذكرى " أي: ولكن عليكم التجنب وتذكر النهي لعلهم يتقون حين يروا إعراضكم عنهم، وصح عن سعيد ابن جبير: إن معناه ما عليكم أن يخوضوا في آيات الله شيء من حسابهم إذا تجنبتم، وأعرضتم عنهم أي: عليكم الإعراض، (وَذَرِ الذِينَ اتخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) أي: استهزءوا بالدين الحق الذي يجب أن يعظم غاية التعظيم، أو معناه جعلوا اللعب كعبادة الأصنام وتحريم البحائر وغيرها دينا واجبًا أي: أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) حتى اطمأنوا بها، (وَذَكِّرْ بِهِ): بالقرآن، (أَنْ

(71)

أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ): مخافة أن تسلم إلى الهلكة بسوء عملها، أو تفضح، أو تجس أو تؤاخذ أو تجزى، (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ): يدفع العذاب عنها، والجملة إما صفة أو حال، (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ): وإن تَفْدِ النفس كل فداء، ونصبه على المصدر، (لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا): فاعله منها لا ضمير العدل؛ لأنه مصدر وهو ليس بمأخوذ، (أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا): سلموا للعذاب، (بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ): الماء المغلي، (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ). * * * (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ

هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) * * * (قُلْ أَنَدْعُو): نعبد، (مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا): لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا): نرجع إلى الشرك، (بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ): كالذي ذهبت به الغيلان مردة الجن، وأضلته، و (كالذي) حال من ضمير (نرد) أي: ننكص مشبهين من أضلته الغيلان (فِي الْأَرْضِ): في المهمه (1) (حَيْرَانَ): متحيرًا، (لَه): لهذا المستهوى، (أَصحابٌ): رفقاء، والجملة (كحيران)، (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى): إلى الطريق المستقيم، (ائْتِنَا) أي: قائلين إيتنا، فلا يلتفت إليهم، ويصير مع الغول حتى يلقيه إلى الهلكة، (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى): فما عداه ضلال وهلكة، (وَأُمِرنا): عطف على (إن هدى الله)، (لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: بأن نُسْلِمَ،

__ (1) أي: البادية.

ونخلص له العبادة أو اللام للتعليل أي: أمرنا بذلك لنسلم (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ)، عطف على لنسلم، (وَهُوَ الذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُون). (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ): بالعدل والحكمة، (وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فيَكُون)، عطف على السماوات فذكر بدء الخلق وإعادته أو على مفعول اتقوه أو بتقدير واذكر، والمراد يوم القيامة فإن الأمر فيه غير تدريجي، (قَوْلُهُ الْحَقُّ) أي: الصدق الواقع لا محالة مبتدأ وخبرًا أو (قوله) مبتدأ و (الحق) صفته " ويوم يقول " خبره أى: قضاؤه الحكمة والصواب حين يقول للشيء كن فيكون ذلك الشيء يعني ما ظهر من مكوناته شيء إلا عن حكمة وصواب، فلا يكون المراد من يوم يقول يوم القيامة، (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إما ظرف لقوله: " له الملك " كقوله: " لِمَنِ

الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " [غافر: 16] وإما بدل من " يقول " والصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وقيل: جمع صورة أي ينفخ فيها فتحيا، (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي: هو عالم الغيب، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ)، عطف بيان لأبيه والأصح أنه اسم أبيه وله اسمان (آزر) و (تارخ) أو أحدهما لقبه، (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً): دون الله، (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ): عن الحق، (مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ) أي: مثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية، (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: ملكها والتاء زائدة للمبالغة، (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي: ليستدل، وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون، (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليْلُ): ستره بظلامه، وهذا تفصيل لإراءته، (رَأَى كَوْكَبًا): هو الزهرة أو المشترى، (قَالَ هَذا ربي)، قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة وهذا النوع أدعى إلى القبول فإن قومه يعبدون الكواكب، وهذا هو الأصح، أو قال ذلك على وجه النظر والاستدلال في أول بلوغه (1)، بل قبله فقد نقل أنه في السرب سبع سنين أو أكثر لخوف والديه من نمرود لأنه يقتل الصبيان، فإنه قد أخبر بمولود ذهاب ملكه على يديه، وهو ما رأى في السرب لا سماء ولا أرضًا فلما خرج ورأى كوكبًا قال هذا ربي، (فَلَمَّا أَفَلَ): غاب، (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ): عبادة شيء يتغير عن حال إلى حال فعرفهم جهلهم، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا): طالعًا، (قَالَ هَذَا رَبِّي

_ (1) الصواب أن الخليل - عليه السلام - كان مناظرًا ولم يكن ناظرًا. والله أعلم.

فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا) أي: الشيء الطالع صان ما سماه ربا عن وصمة التأنيث، (رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) جرمًا، وإضاءة، فأليق بالربوبية، (فَلَمَّا أَفَلَتْ): وظهر حدوثه، وأنه مسخر، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ): من الأجرام المفتقرة إلى محدث يحدثها، ثم توجه إلى موجدها الذي دلت هذه الممكنات عليه وقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ): أخلصت ديني وأفردت عبادتي، (لِلذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض): ابتدعهما على غير مثال سبق، (حَنيفًا): حال كوني مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، (وَمَا أَنا مِنَ الْمُشْرِكِينَ): لله، (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) جادلوه في التوحيد، (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ): في وحدانيته، (وَقَدْ هَدَانِ): إلى التوحيد، وأنا على بينة منه، (وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُون بِهِ) أي: معبوداتكم فإنها لا تملكَ ضَرًّا ولا نفعًا وهم يخوفونه منها، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، استثناء منقطع، أي: لكن أَخاف مشيئة الله، أو متصل تقديره لا أخاف معبوداتكم في وقت قط إلا وقت مشيئة ربي شيئًا من مكروه يصيبني من جهتها مثل أن يرحمني بكوكب أو يجعلها قادرة على مضرتي، (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ): فتعتبروا أن ما قلت لكم حق

فتتركوا عبادتها، (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) وهو لا يملك ضرًا، (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ): الذي هو حقيق بأن يخاف منه، لأنكم أشركتم المصنوع بالصانع، وسويتم بين العاجز والقادر، (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا): شيئًا لم ينزل بإشراك ذلك الشيء حجة من كتاب وغيره، (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ): من الموحدين والمشركين، (أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كنتُمْ تَعْلَمُونَ): إن لم يكن لكم جهل، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ): لم يخلطوه بشرك، (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ): وقد صح أنها لما نزلت قد شق على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: " ليس كما تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:

(83)

" يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " [لقمان: 30] " إنما هو الشرك "، وقد فسره السلف بذلك، والمراد من الخلط النفاق، أو المراد من الإيمان مجرد تصديقه وشركه عدم توحيده، أو المراد الثبات على الإيمان وكثير من الناس يزعمون إيمانهم وهم عنه بمراحل لفساد عقيدتهم بصفة من صفات الله. * * * (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) * * * (وَتِلْكَ) إشارة إلى ما مر من قوله: " فلما جنَّ " إلى قوله: " وهم مهتدون "، (حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ): ألهمناها، (عَلَى قَوْمِهِ) متعلق بـ (حُجَّتُنَا)، (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ

نَشَاءُ) قرئ بالإضافة، وبلا إضافة فـ (من نشاء) مفعول (نرفع) و (درجات) إما مصدر أو ظرف أو تمييز إن جوزنا تقديمه، (إِن رَبَّكَ حَكِيمٌ) في الرفع والخفض، (عَلِيمٌ)، بحال من يرفعه ويخفضه وقابليته، (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا): منهما، (هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف للولد، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)، الضمير لإبراهيم، ولوط هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبًا أو الضمير لنوحٍ - عليه السلام (دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) أي: هدينا من ذريته داود وسليمان، (وَأيوبَ ويُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ): مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيىَ وَعِيسَى)، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية، (وَإِلْيَاسَ) الصحيح أنه غير إدريس، (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ): بالنبوة، (وَمِن آبائِهِمْ) عطف على (كُلًّا) أي: فضلناهم وبعض آبائهم، (وَذرّيَّاتِهِمْ) وفيهم سيد الكونين - عليه السلام - فهم أفضل جميع المخلوقات بأسرها، (وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ): اخترناهم، (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ ذَلِكَ) إشارة إلى ما هم عليه، (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) بحسب الفرض أي: هؤلاء الأنبياء مع علو درجتهم (لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بطل عملهم كآحاد الناس، (أُولَئِكَ الذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)، يريد جنس الكتاب، (وَالْحُكْمَ): العلم والحكمة، (وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا): بالنبوة، أو بهذه الثلاثة،

(91)

(هَؤُلاءِ): أهل مكة (فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا): بمراعاتها، (قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) وهم المهاجرون والأنصار، ومن تبعهم إلى يوم الدين، وعن قتادة هم الأنبياء المذكورون ومن تبعهم، (أُولَئِكَ) أي: الأنبياء المذكورون، (الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ): في التوحيد، والصفات الحميدة، والهاء للوقف، (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ): على التبليغ أو القرآن، (أَجْرًا): جعلا كما لم يسأل الأنبياء، (إِنْ هُوَ) أي: القرآن، (إِلَّا ذِكْرَى): تذكرة وعظة، (لِلْعَالَمِينَ). * * * (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ

الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) * * * (وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه): ما عظموه حق تعظيمه، أو ما عرفوه حق معرفته في اللطف والرحمة على عباده، (إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ): إذ كذبوا إرسال الرسل الذي هو من عظائم نعمه، (قُلْ): لهم، (مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ): نزلت في قريش، وهم يسمعون كتاب موسى من اليهود، ويسلمونه، ويقولون: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ، أو في طائفة من اليهود حين قالوا ذلك مبالغة في إنكار القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألزموه ما لابد لهم من الإقرار به أو رجل معين من اليهود قال: ما أنزل الله على بشر من شيء حين غضب، (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) أي: جملتها بجعلها قطعًا قطعًا، ويجزئونها جزءًا جزءًا يبدون ما يحبون ويخفون بعضًا لا يشتهون، مثل صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وآية الرجم، وقراءة الخطاب يؤيد كلام من يقول: إن الآية في اليهود اللهم إلا أن يقال إن قريشًا واليهود والنصارى متشاركون في إنكار القرآن، فلم يبعد أن يكون الكلام بعضه خطابًا مع قريش، وبقية

مع اليهود، والنصارى كأنهم طائفة واحدة، وأما قراءة الياء أي: الغيبة تكون التفاتًا عند من يقول الآية في اليهود، (وَعُلِّمْتُمْ): بسبب القرآن، (مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ): من خبر ما سبق ونبأ ما يأتي، وإذا كان الخطاب مع اليهود فمعناه علمتم بالقرآن زيادة على التوراة وبيانًا لما التبس عليكم، وعلى آباءكم كما قال تعالى " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ " [النمل: 76]، (قُل اللهُ): أنزله أَجِبْ عنهم ذلك، لأنه متعين وفيه إشعار بأنَّهم تحيروا في الجواب (ثمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ): دعهم في أباطيلهم، (يَلْعَبُونَ): يعملون ما لا ينفع، وهو حال من مفعول ذر، (وَهَذَا): القرآن، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ): كثير النفع، (مُصَدّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ): من الكتب السماوية، (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) أي: أهل مكة فـ (عطف على) صريح لفظ مبارك أي: كتاب مبارك كائن للإنذار، (وَمَنْ حَوْلَهَا): أهل الشرق والغرب، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ): بالقرآن، (وَهُمْ عَلَى صَلاِتهِمْ يُحَافِظُونَ)، فإن لازم الإيمان بها الخوف، والخوف يجره إلى الإيمان بالقرآن والمداومة بصلاته فإنها عماد الدين، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا): كمن ادعى أنه أرسله كاذبًا، (أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ)، نزلت في مسيلمة الكذاب ادعى النبوة والوحي، (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ):

كما قالوا: " لو نشاء لقلنا مثل هذا " [الأنفال: 31]، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ)، جوابه محذوف أي: ولو ترى زمان سكراتهم لرأيت أمرًا فظيعًا، (فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ): شدائده، (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ)، بتعذيبهم لقبض أرواحهم، فقد ورد أن أرواح الكفرة تتفرق في أَجسادهم وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج، (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي: قائلين ذلك تعنيفًا وتغليظًا وزجرًا وإضرارًا لهم، (الْيَوْمَ): يوم الموت، (تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ): الهوان والذل، (بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ): كإثبات الشريك والولد، وإدعاء النبوة، (وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ): فلا تؤمنون بها، فالهوان لاستكبارهم، (وَلَقَدْ جئتُمُونَا فُرَادَى).

(95)

منفردين عن الشفعاء، والأموال، والأهل، (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقد كنتم تنكرون ذلك حال ثانية أو صفة مصدر جئتمونا أي: مجيئًا مثل خلقناكم أو بدل من فرادى، (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ): تفضلنا عليكم من المال، (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ): تركتموه كليًّا وليس معكم شيء منه، (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ): في ربوبيتكم واستعبادكم، (شُرَكَاءُ): لله، (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)، على قراءة رفع (بينُكم) يكون بمعنى الوصل ليس بظرف، أو ليس بلازم الظرفية، وعلى قراءة النصب أسند لتقطع إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس أي: تقطع الأمر بينكم، (وَضَلَّ عَنْكُمْ): ضاع وبطل، (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ): تزعمونه شفيعًا. * * * (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) * * * (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) يشقهما في الثرى فينبت منهما الزرع والشجر، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ): النبات والحيوان من الحب والنطف، (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ): الحب والنطف (مِنَ الْحَيِّ): النبات والحيوان عطف على فالق الحب فإن (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالبيان له ولذا ترك العطف، (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) لا يصلح للبيان، لأن فلق الحب ليس إلا لإخراج الحي، (ذَلِكُمُ اللهُ) أي: فاعل هذه الأشياء هو الله، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): تصرفون عنه إلى غيره، (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ): شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل، (وَجَعَلَ الليْلَ)، إعمال اسم الفاعل، لأنه بمعنى الدوام التجددي نحو: " ولقد أمر على اللئيم يسبني " لا بمعنى الثبوت الدائمي كـ " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ "، (سكَنًا): يسكن فيه خلقه، ويستريح، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) أي: تجريان بحساب معين لا

تتجاوزان، أو معناه جعلهما علمي حسبان؛ لأن حساب الأوقات يعرف بدورهما، (ذلِكَ) أي: المذكور من فلق الصبح، وجعل الليل، والشمس، والقمر، (تقدِيرُ الْعَزِيزِ): الذي يفعل ما يريد، (الْعَلِيمِ): بما قدر وأراد، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُم النُّجُومَ): خلقها لكم، (لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي: في ظلمات الليل فيهما، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ): بيناها مفصلاً لا مجملاً، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، فإن الجاهل لا ينتفع به، (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: آدم، (فَمُسْتَقَرٌّ) أي: فلكم مستقر في الأرحام، (وَمُسْتَوْدَعٌ): في الأصلاب، أو بالعكس أو في الأرحام، وعلى ظهر الأرض أو في القبر وفي الدنيا أو في الرحم والقبر أو في الجنة أو النار وفي القبر وهما اسما مكان أو مصدران، وفي قراءة كسر القاف الأول اسم فاعل، والثاني اسم المفعول أي: فمنكم قار ومنكم مستودع، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ

لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)، الفقه: تدقيق النظر، فهو أليق بالاستدلال بالأنفس لدقته بخلاف الاستدلال بالآفاق، ففيه ظهور ولهذا قال في الأول: " لقوم يعلمون ". (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ): من جانبه، (مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِه): بسبب الماء، (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ): تنبت، (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ): من النبات أو الماء، (خَضِرًا): زرعًا وشجرًا أخضر، (نُخْرِجُ مِنْهُ): من الخضر، (حَبًّا مُتَرَاكِبًا): بعضه على بعض كسنابل البر وغيره، (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ)، الطلع: أول ما يخرج من ثمرها والقنو: العرجون، وهو مبتدأ " ومن النخل " خبره، " ومن طلعها " بدل، (دَانيَةٌ): سهلة المجتنى لقصر النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، أو قريب بعضها من بعض على التفسير الأول ذكر الدانية لأن النعمة فيها أظهر أو دل بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله " سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ " [النحل: 81] أي: والبرد، (وَجَنَّاتٍ من أَعْنَابٍ) عطف على (نبات)، أو على (خضراً) (وَالزَّيتونَ وَالرُّمَّانَ) أي: شجريهما بدليل انظروا إلى ثمره، (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أي: متشابهًا ورقهما، فإن ورقهما قريب غير متشابه

(101)

ثمرهما، أو بعضه متشابه ببعض آخر منه في الهيئة، واللون والطعم وبعضه غير متشابه، (انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ): ثمر كل واحد من ذلك، (إِذَا أَثْمَرَ): أخرج ثمره، (وَيَنْعِهِ): وإلى نضجه نظر استدلال بعد أن كان حطَبًا صار عنبًا ورطبًا وبعد أن كان جافًّا تفها صار لذيذًا، (إِن فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ) أي: على كمال قدرته، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): يصدقون بالله. (وَجَعَلُوا لله شُرَكاَءَ الْجِنَّ): عبادة غير الله تعالى، عبادة الشيطان هم جعلوا الشيطان شريكًا له، أو كما قال الثنوية: الله خالق النور، والشيطان خالق الشرور، (وشركاء الجن) مفعول (جعلوا) أو (للهِ) متعلق بـ (شركاء) أو حال منه أو (لله شُرَكَاءَ) مفعولاه، و (الْجِنَّ) منصوب بمقدر، كأنه قيل: من جعلوه شركاء؟ فقال: " الجن "، (وَخَلَقَهُمْ)، حال بتقدير قد والضمير إما إلى الكفار أي: جعلوا غير خالقهم شريكًا لخالقهم، وإما إلى الجن: أي جعلوا المخلوقين شركاء للخالق، (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ): اختلقوا وافتروا، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من فاعل خرقوا أي: خرقوا عن عمى وجهالة لا عن فكر وروية، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) تعالى عطف على أسبح. * * * (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) * * * (بَدِيع السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: هو مبدعهما ومحدثهما على غير مثال سبق قيل: من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي: هو بديع سماواته، وقيل الإضافة حقيقية بمعنى في أي هو عديم النظير فيهما، (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)، والولد إنما يكون بين متجانسين ولا يناسبه شيء فإنه خالق الأشياء وأين الخالق من المخلوق؟! (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، لم يقل وهو به عليم لأن علمه أشمل من خلقه، (ذلِكُمُ) أي: الموصوف بما سبق من الصفات، وهو مبتدأ، (اللهُ رَبُّكُمْ

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، أخبار مترادفة، (فَاعْبُدُوهُ)؛ لأن من له هذه الصفات استحق العبودية، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ): متولي أموركم فكلوها إليه، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) أي: في الدنيا أو لا يحيط به الإبصار، فإن الإدراك أخص من الرؤية أو لا يراه أحد على ما هو عليه لا بشر ولا ملك، لكن إذا تجلى بوجه يمكن رؤيته تدركه الأبصار، أو لا يراه جميع الأبصار؛ بل الكفار عنه محجوبون، (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ): يحيط علمه بها ويراها، (وَهُوَ اللَّطِيفُ): بأوليائه، (الْخَبِيرُ):

بأعمالهم قيل من باب اللف والنشر أي لا تدركه الأبصار، لأنه لطيف لا كثافة فيه بوجه، وهو يدرك الأبصار؛ لأنه خبير، (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ): البصيرة للقلب كالبصر للجسد أي: جاءتكم بالوحي الآيات البينات، والحجج القرآنية التي هي للقلوب كالبصائر، (فَمَنْ أَبْصَرَ): يرى تلك الآيات وآمن بها، (فَلِنَفْسِهِ): أبصر، وله نفعه، (وَمَنْ عَمِيَ)، فلا يؤمن بها، (فَعَلَيْهَا): فعلى نفسه عمى، وعليها ضره، (وَمَا أَنَا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ): أحفظ أعمالكم فأجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ، وهذا وارد على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ): مثل ذلك التبيين نبينها ونكررها، (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ)، معلله محذوف أي: وليقولوا درست نصرفها، والدرس القراءة، والتعلم أي: ليقول المشركون درست، وتعلمت من اليهود، ثم تزعم أنه من عند الله عليك يعني لشقاوة بعض كما قال تعالى: " يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا " [البقرة: 26]، فيكون اللام على أصله أو اللام لام العاقبة، وقرئ (دارست) أي: دارست أهل الكتاب وقارءتهم، وقرئ (دَرَسَتْ) أي: قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين، (وَلِنُبَيِّنَهُ)، الضمير للقرآن أو الآيات باعتبار أنها قرآن أي: كررناه لنبينه، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: لهداية المؤمنين، وحاصله تصريف الآيات لشقاوة بعض وسعادة بعض آخر، (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ): بالعمل به، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) حال مؤكدة (مِنْ رَبِّكَ) أي: منفرداً بالألوهية، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: لا تجادلهم، واحتمل أذاهم حتى ينصرك الله فإن لله حكمة في

إضلالهم، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ): توحيدهم، (مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا): رقيبًا تحفظ أعمالهم وتجازيهم أو تحفظ من عذاب الله، (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل): تقوم بأمرهم. (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ): يعبدون، (مِن دُون اللهِ) أي: أصنامهم، (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا): ظلمًا، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): على جهالة بالله يعني سب آلهتهم، وإن كان حقًا لكن فيه مفسدة عظيمة، نزلت حين قالوا: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك أو كان المسلمون يسبون آلهتهم وهم يسبون الله عدوًا، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التزيين، (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ): من أمم الكفار، (عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بالمجازاة.

(111)

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ): أوكدها أي: أقسموا قسمًا غليظًا (لَئِنْ جَاءَتهُمْ آيةٌ): كما لموسى وعيسى، (لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ): لا عندي حتى آتيكم بها (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) ابتداء كلام وليس في حيز (قل) و (ما) استفهام إنكار (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ): تلك الآية التي طلبوها، (لَا يُؤْمِنُونَ) أي: لا تدرون أنهم لا يؤمنون والله يعلم ذلك، ولا ينزلها وقيل: لا مزيدة، وقيل: فيه حذف تقديره: ما يدريكم أنَّهم لا يؤمنون، أو يؤمنون وقيل: إن بمعنى لعل، ومن قرأ إنها بكسر الهمزة على أن الكلام قد تم قبله بمعنى وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بما علم منهم فقال ذلك، والخطاب للمؤمنين أو للمشركين، ويؤيده قراءة التاء في " لا تؤمنون " نزلت حين قالوا: والله لئن تجعل لنا الصفا ذهبًا لنتبعنك أجمعين، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ): عن الحق لو أنزلنا ما اقترحوا من الآيات فلا يفقهونه عطف على (لا يؤمنون) أو جملة على حيالها، (وَأَبْصَارَهُمْ): فلا يبصرونه، ولا يؤمنون بها، (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ): بما أنزل من الآيات، (أَوَّلَ مَرَّةٍ): من انشقاق القمر وغيره، أو المراد كما لم يؤمنوا بما أنزلنا على موسى، وعيسى لقوله: " أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ " [القصص: 48]، وعن بعض السلف نقلبهما فلا يؤمنون لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا، (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ): في كفرهم، وضلالهم متحيرين. * * * (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا

هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) * * * (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ): فرأوهم عيانًا، (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى): فشهدوا لك، (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا): جمع قبيل بمعنى كفيل، أو بمعنى جماعات، أو هو مصدر بمعنى القابلة، وهو حال من (كل)، (مَا كَانوا لِيُؤْمِنوا): في حال، (إِلا أَنْ يشَاءَ اللهُ) أي: إلا حال مشيئته، فيبدل طبعهم لتمرنهم في الكفر وسبق القضاء

بشقاوتهم، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ): أنَّهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا، فيقسمون جهد أيمانهم قيل: أو إن أكثر المسلمين يجهلون أنَّهم لا يؤمنون فيتمنون نزول آية طمعًا في إيمانهم، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي: كما جعلنا لك عدوًّا جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، (شَيَاطِينَ): مردة، (الْإِنسِ وَالْجِنِّ) بدل من (عَدُوًّا)، أو أحد مفعولي (جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ) ظرف (عَدُوًّا)، (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ): يوسوس ويلقى بعضهم بعضًا، (زُخْرُفَ الْقَوْلِ): أباطيله المزينة يغرونهم، (غُرُورًا) أو للغرور، يعني أن مردة الجن يوحون إلى مردة الإنس، ويغرونهم بالإضلال، وهذا هو الأصح، وقال بعضهم: معناه الشيطان الموكل بالجن يوحي، ويعلم الشيطان الموكل بالإنس أباطيل القول في إضلال المسلمين وبالعكس، (وَلَوْ شَاءَ ربُّكَ): ألا يكون لهم عدو، (مَا فَعَلُوهُ) أي: إيحاء الزخارف، (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ): ولا تغتم أنت منهم، (وَلِتَصْغَى) أي: ولتميل، (إِلَيْهِ): إلى زخرف القول، (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، عطف على (غرورًا) إن جعلته مفعولاً له، وإلا فهو متعلق بمحذوف أي: وجعلنا لكل في عدوا لتصغى، أو تقديره: جعلنا ذلك لمصالح لا تحصى ولتصغى، (وَلِيَرْضَوْهُ): ليحبوه، (وَلِيَقْتَرِفُوا): ليكتسبوا، (مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ):

من الآثام، (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) أي: قل أغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم، و (حكما) حال من غير الله، (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ): القرآن، (مُفَصَّلًا): بين وميز الحق والباطل، (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): من اليهود والنصارى، (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)، لأن وصفه مذكور في كتبهم، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في أنه من عند الله، وهذا من باب التحريض، والتهييج، قال تعالى: " فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ " الآية [يونس: 94]، وقد جاءت في الحديث أنه عليه السلام قال حين نزوله: " لا أشك ولا أسأل " أو المراد نهي الأمة، وقيل: معناه لا تكن من الشاكين في أنَّهم يعلمون ذلك، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ): بلغت الغاية، وعداته وأقضيته، (صِدْقًا): فيما وعد،

(وَعَدْلًا): فيما حكم وهو إما حال أو تمييز، (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): لا راد لقضائه، ولا مغير لحكمه، ولا خلف لوعده، (وَهُوَ السَّمِيعُ). لأقوالهم، (الْعَلِيمُ): لما في صدورهم، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ): فإن أكثرهم على الضلال، (يُضِلوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ): الموصل إليه، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ): فإن دينهم ظن وهوى لم يأخذوه عن بصيرة، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ): يكذبون على الله، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي: بمن يضل، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ): أعلم بالفريقين، (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)، أي: على ذبحه لا مما مات حتف أنفه، ولا مما ذكر عليه اسم غيره، (إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضي

استباحة ما أحله الله لا ما أحله الظن، والهوى، (وَمَا لَكُمْ): أيُّ غرضٍ لكم، (أَلَّا تَأْكلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي: منه وحده وتأكلوا من غيره، (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ): في " حرمت عليكم الميتة " الآية [المائدة: 3]، (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (ما) موصولة والاستثناء من ضمير حرم، أو (ما) مصدرية في معنى المدة أي: الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها، (وَإِنْ كثِيرًا لَّيُضِلونَ): بتحليل الحرام وتحريم الحلال، (بِأَهْوَائِهِمْ): بتشهيهم، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): غير متعلقين بدليل، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ): المتجاوزين الحق إلى الباطل، (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ): معصية العلن والسر، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ): يكسبون، (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الضمير لـ " ما " أو للأكل، وعند بعض السلف إن ذبيحة تركت التسمية عليها عمدًا أو سهوًا حرام، والآية دليلهم وعند بعض التسمية مستحبة، وقالوا: الآية فيما ذبح لغير الله، وقيل: الواو في (وإنه لفسق) حالية، والفسق: ما أهل لغير الله بدليل قوله: " أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ "، وقال بعض منهم المراد من الآية الميتة، وعند كثير من السلف: إن ترك التسمية نسيانًا لا يضر أما عمدًا، فالذبيحة حرام، (وَإِنَّ

(122)

الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ): يوسوسون، (إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ): من الكفار، (لِيُجَادِلُوكُمْ): يقولون تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك، والصقر والكلب حلال، وما قتله الله حرام، وهو يؤيد التأويل بالميتة، (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ): في استحلال ما حرم، (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ): فإن اتباع غير الله في الدِّين إشراك وكفر. * * * (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ

حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) * * * (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا): بالكفر والجهل، (فَأَحْيَيْنَاهُ): بالعلم والإيمان، (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ): يهتدي كيف يسلك وكيف ينصرف والنور القرآن أو الإسلام، (كَمَنْ مَثَلُهُ): صفته، (فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا): بقي على الضلالة لا يفارقها بحال حال من المستكن في الظرف وحاصله أنه كمن إذا وصف يقال له " في الظلمات ليس بخارج "، فـ (في الظلمات ليس بخارج) خبر مثله على سبيل الحكاية، والجملة صلة من، (كَذَلِكَ): كما زين للمؤمنين الإيمان، (زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قيل: الآية نزلت في حمزة وأبي جهل، أو في عمر وأبي جهل، أو في عمار بن ياسر وأبي جهل، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) أي: كما صيرنا فساق مكة أكابرها صيرنا مجرمي كل قرية رؤساءَها، ومترفيها و (أكابر مجرميها) بالإضافة هي المفعول الأول والثاني (في كل قرية) أو (ليمكروا فيها) مفعولاه قيل: جاز أن يكون (أكابر) مضافًا إلى مجرميها مفعوله الأول، و (ليمكروا) مفعوله الثاني، (لِيَمْكُرُوا فِيهَا): لصد الناس عن الهدى، (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ): فإن وباله يحيط بهم، (وَمَا يَشْعُرُون): ذلك، (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ): دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، (قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي:

حتى تأتينا الملائكة بتصديقك كما يأتي إلى الرسل، (اللهُ أَعْلَمُ حَيثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ): استئناف يرد عليهم أنَّهم ليسوا بأهل الوحي والرسالة أي: أعلم بالمكان الذي فيه يضعها، (سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَار): ذل وحقارة، (عِندَ اللهِ): يوم القيامة، (وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ): بسبب مكرهم، (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ): يوسع قلبه، (لِلْإِسْلَامِ): للتوحيد وفي الحديث تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات قالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال: " نور يُقذف به في القلب " قالوا: هل لذلك من أمارة؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله "، (وَمَن يُّرِدْ): الله، (أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا): فلا يبقى فيه منفذ للخير، ومكان حرج أي: ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ): أي: مثله في امتناع قبول الإيمان مثل صعود السماء، فإنه ممتنع غير مستطاع أو معناه كأنما يتصاعد إلى السماء هربًا من الإيمان، وتباعدًا عنه، (كَذَلِكَ): كما ضيق الله صدره، (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ): يسلط الشيطان أو العذاب، (عَلَى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي: عليهم لعدم إيمانهم، (وَهَذَا): الذي أنت عليه يا محمد، (صِرَاطُ رَبِّكَ): الطريق الذي ارتضاه، (مُسْتَقِيمًا): لا عوج فيه حال، وعامله معنى الإشارة، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ

لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ): لهم فهم ووعي، (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ): الجنة، لأن فيه سلامة عن الآفات أو السلام من أسماء الله، (عِنْدَ رَبِّهِمْ): في ضمانه أو يوم القيامة، (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ): ناصرهم، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بسبب أعمالهم، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) أي: اذكر يوم نحشر الثقلين قائلين: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ) أي: الشياطين، (قَدِ

اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي: من إغوائهم أي: أضللتم كثيرًا، (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ): محبوهم ومطعوهم، (مِنَ الْإِنْسِ): مجيبين لله عن ذلك، (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ): بعضهم مطاع وبعضهم مطيع، أو كان في الجاهلية إذا نزلوا مفازة قالوا: أعوذ بكبير هذا الوادي، فيفتخر كبير الجن بتعوذ الإنس بهم، ويقولون: نحن سيد الإنس والجن، وهذا هو الاستمتاع، (وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) أي: القيامة والبعث، وهذا اعتراف بطاعة الشيطان وتكذيب البعث، وتحسر على حالهم، (قَالَ): الله، (النَّارُ مَثْوَاكُمْ): منزلكم، (خَالِدِينَ فِيهَا)، حال، والعامل معنى الإضافة، (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) أي: هم مخلدون جميع الأوقات إلا مدة حياتهم في الدنيا والبرزخ أو المراد الانتقال من النار إلى أنواع أُخر من العذاب كالزمهرير، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارًا، (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ): في أفعاله، (عَلِيمٌ): بأعمال خلقه. (وَكَذَلِكَ): كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض، (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): نسلط بعضهم على بعض، كما ورد

(130)

" من أعان ظالمًا سلطه الله عليه " أو نتبع بعضهم بعضًا في النار أو نكل بعضهم إلى بعض فيغويهم أو نجعل الكافر ولي الكافر أينما كان. * * * (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا

إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) * * * (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) هو الله سبحانه يقرع الكافرين يوم القيامة بهذا السؤال وهو استفهام تقرير، والأصح بل الصحيح أن الرسل من الإنس والجن تبع لهم قالوا نظيره " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " [الرحمن: 22] وهما لا يخرجان من العذب كما سنذكر إن شاء الله تعالى، (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا): يوم القيامة، (قَالُوا): جوابًا، (شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا): أنَّهم قد بلغوا ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم قال تعالى: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا): فأعرضوا عن رسلنا ولم يرفعوا إليهم رأسا، (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ): يوم الميامة، (أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ): في الدنيا، (ذَلِكَ): أي: إرسال الرسل، (أَن لَمْ يَكُن ربُّكَ) خبر ذلك، وأن إما مصدرية أو مخففة، واللام محذوف أي: لأن، أو تقديره الأمر ذلك لأن لم يكن إلخ، (مُهْلِكَ الْقرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا غافِلُونَ): أي: لانتفاء كون ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلمهم وأهلها غافلون

لم ينبهوا برسول كما قال تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا " [الإسراء: 15] أو (بظلم) حال من (ربك)، وحاصله أنه لا يهلكهم دون التنبيه بالرسل والآيات فإنه ظلم والله غير ظلام للعبيد (وَلِكُلٍّ): من المكلفين، (دَرَجَاتٌ): مراتب، (مِمَّا عَمِلُوا): من أعمالهم، (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ): فيخفى عليه خافية. (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ): عن خلقه من جميع الجهات، (ذُو الرَّحْمَةِ) بهم فلا يعجل بالعقوبة، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ): إذا عصيتم، (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ): قومًا آخرين يعملون بطاعته، (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي: هو قادر على ذلك كما أذهب القرن الأول وأتى بالذي بعده، (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ): من أمر المعاد، (لَآتٍ): كائن ألبتَّة، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ): اللهَ في قدرته، (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ): على تمكنكم من أمركم أو على جهتكم، وحالكم التي أنتم عليها، (إِنِّي عَامِلٌ): على ما أنا عليه أي: اثبتوا على الكفر فإني ثابت على الإسلام، وهو أمر تهديد شديد، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) أي: سوف تعلمون أينا له العاقبة المحمودة، والجنة أو المراد من عاقبة الدار أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، و (من) استفهامية مبتدأ خبره تكون، وفعل العلم علق عنها أو موصولة فهو مفعول (تعلمون) على أنه متعد إلى مفعول واحد بمعنى يعرفون، (إِنَّهُ): إن الشأن، (لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ): لا يسعد من كفر، (وَجَعَلُوا) أي: مشركو العرب، (لِلّهِ مِمَّا ذَرَأَ): خلق، (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لله فَهُوَ

يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ): كانوا يجعلون من أموالهم نصيبًا لله ومصرفه الضيفان، ونصيبًا لآلهتهم ومصرفه خدم أصنامهم فإن سقط شيء من الثمر مثلاً من نصيب الوثن فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن هلك أو انتقص منه شيء أخذوا بدله مما جعلوا لله، وإن سقط شيء من نصيب الله في نصيب الأوثان خلوه أو مات شيء منه لم يبالوا به، وقالوا: الله غني، وهذا معنى قوله: " فما كان لشركائهم " الآية، وفي قوله: " مما ذرأ " إشارة إلى جهلهم بأنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادًا، ثم جعلوا له النصيب الأوفر، وقوله: " بزعمهم " إشارة إلى أن هذا مخترعهم ليس من أمر الله، ولا يصل إليه، (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ): حكمهم هذا، (وَكَذَلِكَ): مثل هذا الفعل القبيح، (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)، فإن الشياطين وهم

آلهتهم أمروهم وزينوا لهم وأد أولادهم، ومن قرأ (زُيَّنَ) بالمجهول ورفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء على إضافة القتل إليها، والفصل بينهما يدل على أن هذا الفصل جائز فصيح، والمطعون من طعن فيه، (لِيُرْدُوهُمْ): ليهلكوهم بالإغواء، (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ): ليدخلوا الشك في دينهم، فكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان، وقيل: دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ) أي: المشركون ما زين لهم، أو الشركاء التزيين، (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ): ما يختلقون من الكذب على الله، (وَقَالُوا هَذِهِ): إشارة إلى مما جعل للآلهة، (أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ): حرام، (لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ): من رجال خدم الأوثان، (بِزَعْمِهِمْ): لا حرمة من الله، (وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا): كالسائبة والبحيرة والحام، (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا): يذبحونها باسم الأصنام لا باسم الله، أو لا يحجون على ظهورها، والمعنى أنهم قسموا أنعامهم، فقالوا: هذه حجر، وهذه محرمة الظهور، وهذه لا يذكر عليها اسم الله (افْتِرَاءً عَلَيْهِ)، نصبه على أن قالوا بمعنى افتروا أو حال أي: مفترين أو مفعول له، (سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ): بسبب افترائهم، (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنعَامِ) أي: أجنة البحائر والسوائب، (خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا): نسائنا خاصة للذكور دون الإناث إن ولد حيًّا، (وَإِن يَّكُن مَّيْتَةً فَهُمْ): الذكور والإناث، (فِيهِ شُرَكَاءُ)، وتأنيث خالصة، وتذكير محرم لمعنى ما فإنه الأجنة ولفظه أو التاء للمبالغة، (سَيَجْزِيهِمْ): الله، (وَصْفَهُمْ) أي: جزاء وصفهم الكذب على الله قيل: تقديره على وصفهم، (إِنَّهُ حَكِيمٌ): في فعله، (عَلِيمٌ): بأعمال خلقه، (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ):

(141)

بناتهم بالوأد، (سَفَهًا): للسفه أو سفهاء، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): جاهلين، (وحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ): من البحائر ونحوها، (افْتِرَاءً عَلَى اللهِ): يحتمل المصدر، والحال والمفعول له، (قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ). * * * (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) * * * (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ): أبدع، (جَنَّاتٍ): بساتين من الكروم، (مَعْرُوشَاتٍ):

مرفوعات على ما يحملها، (وغير معروشات) قيل: الأول ما غرسه الناس، والثاني ما نبت في البراري، (والنخل والزرع مختلفًا أكله) أي: أكل كل واحد منهما يعني ثمره في الكيفية، والهيئة و (مختلفًا) حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، (والزيتون والرمان متشابهًا): في النظر، (وغير متشابه): في الطعم قيل: بعض أفرادهما يتشابه في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها، (كلوا من ثمره): ثمر كل واحد، (إذا أثمر): وإن لم ينضج، (وآتوا حقه يوم حصاده): هذا شيء كان واجبًا قبل وجوب الزكاة، وعن بعض السلف أنه الزكاة، قيل فيه دليل على رخصة الأكل قبل أداء الزكاة، (ولا تسرفوا): في التصدق أو في الأكل والتصدق أو في البخل فلا تعطوا حق الله، (إنه لا يحب المسرفين): لا يرتضي فعلهم، (ومن الأنعام) عطف على جنات أي: أنشأ من الأنعام، (حمولة): ما يحمل الأثقال، (وفرشًا): ما يفرش المنسوج من شعره أو الصغار منها ولدنوها من الأرض كأنها فرش أو ما يفرش للذبح، (كلوا مما رزقكم الله): من الثمار، والزروع، والأنعام، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان): طرائقه وأوامره كما اتبعها المشركون افتراء على الله، (إنه لكم عدو مبين): ظاهر العداوة، (ثمانية أزواج): بدل من حمولة وفرشًا أو مفعول كلوا أو الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، (من الضأن): زوجين، (اثئين): الكبش والنعجة، وهو بدل من ثمانية إن جوزنا البدل من البدل، وإلا فمن

(145)

الضأن بدل من الأنعام واثنين من حمولة وفرشًا، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ): التيس، والعنز، (قُلْ): يا محمد، (آلذكَرَيْنِ): من الضأن والمعز، (حَرَّمَ): الله عليكم أيها المشركون، (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ): منهما، (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أو ما حملت إناث الجنسين ذكرًا كان أو أنثى كما قالوا " ما في بطون هذه الأنعام خالصة " الآية [الأنعام: 139]، (نَبِّئونِي بِعِلْمٍ): دليل على حرمته، (إن كنتمْ صَادِقِينَ): في دعوى التحريم، (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) بل أكنتم حاضرين: (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذا): حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله وهذا من باب التهكم، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ): متلبسًا بغير دليل، (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي فإنه أول من غير دين إسماعيل. * * * (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا

حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) * * * (قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ): طعامًا، (مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يطْعَمُهُ): يعني أن التحليل والتحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى، ولا يعلم بالوحي أن شيئًا من الطعام حرام في وقت، (إِلا): في وقت، (أَنْ يَّكُونَ): الطعام، (مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفوحًا): مصبوبًا سائلاً لا كالكبد والطحال، ومن قرأ برفع (مَيْتَةٌ) فعنده كان تامة

و (دمًا) عطف على أن يكون أي: إلا وجود ميتة، (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ): لحمه أو الخنزير، (رِجْسٌ): حرام، (أَوْ فِسْقًا) عطف على لحم خنزير (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة له موضحة، (فَمَنِ اضْطُرَّ): إلى كل شيء من ذلك، (غَيْرَ بَاغٍ): على مضطر مثله، (وَلَا عَادٍ): قدر الضرورة وقد مرَّ معناهما في البقرة، (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لا يؤاخذه، والآية دالة على أن ما أُوحي في حرمته إلى تلك الغاية هو ذلك، وهذا لا ينافي التحريم في أشياء أخر بعد هذا، (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ

ذِي ظُفُرٍ) أي: حرمنا على اليهود ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعامة والبط، أو كل ذي حافر، وقيل: كل ذي مخلب من الطير، (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) أي: حرمنا جميع شحومهما، (إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا): ما علق بالظهر من الشحوم (أَوِ الْحَوَايَا): ما اشتمل على الأمعاء، (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) أي: ما اختلط من الشحوم بالعظام فإنه حلال وأو هاهنا كأو في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين، وما بقي على الحرمة الثروب وشحوم الكلى، (ذلِكَ): التحريم والتضييق، (جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ): بسبب ظلمهم ومخالفتهم أوامرنا، (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ): فيما أخبرنا من تحريمنا ذلك عليهم كما زعموا أن إسرائيل حرمه، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ): فيمهلكم، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ): عذابه إذا نزل، (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ): فلا تغتروا بالإمهال. (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ): خلاف ذلك، (مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ): فإن ما لم يشأ لم يكن، وما شاء فهو مرضي مأمور به فأرادوا بذلك أن ما هم عليه مرضى عند الله مأمور به، (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي: بهذه الشبهة الداحضة كذب الأمم السالفة أنبياءهم، (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا): فعلموا

أنهم على دين مبغوض غير مرضي أراد الله لهم خزيهم وسوء شكيمتهم، (قُلْ هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ): يدل على رضى الله عنكم فيما أنتم عليه، (فَتُخْرِجُوهُ لَنَا): تظهروه لنا، (إِن تَتبِعُونَ إِلا الظّنَّ): في ذلك لا العلم، (وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون): تكذبون على الله فإنه منع الشرك، وغضب على المشركين مع أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لا يزاحمه أحد تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا، (قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ): التي بلغت غاية المتانة وهي الكتاب والرسول والبيان، (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) لكن شاء هداية قوم، وضلال آخرين، والمعنى وإذ قد ظهر ألا حجة لكم فلله الحجة لكن لا يهدي الله الكل إليها لعدم مشيئته، وله في ذلك حكم، ومصالح لا يهتدي إليها إلا من هداه الله، (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ): أحضروهم، اسم فعل متعد ويكون لازمًا، (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا): وهم قدوتهم ليلزمهم الحجة، (فَإِنْ شَهِدُوا): عنادًا، (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ): لا تصدقهم فيه وبين فسادهم، (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أي: لا تتبعهم فإنهم يكذبون بآياتنا، (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ): كعبدة الأوثان، (وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ): يجعلون له عديلاً سبحانه! * * *

(151)

(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) * * * (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ): أقرأ، (مَا حَرَّمَ ربُّكمْ عَلَيْكمْ): حقًّا لا ظنًّا ولا تخرصًا متعلق بـ (حَرَّمَ) أو (أَتْلُ)، (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ): (أن) مفسرة يعني أي: لا تشركوا، ولا للنهي، (شَيْئًا) مصدر أو مفعول به، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: أحسنوا بهم، وضع أحسنوا موضع ألا تسيئوا للدلالة على أن عدم الإساءة في شأنهما غير كاف، (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ): من أجل فقر، (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، بدل من (الفواحش) أي: العلانية والسر فإن المشركين لا يستقبحون الزنا سرًا، (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ): بجهة من الجهات، (إِلَّا بِالْحَقِّ): القود، والارتداد والرجم، (ذَلِكمْ) إشارة إلى المذكور، (وَصَّاكمْ بِهِ): بحفظه، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): عنه أمره ونهيه أو ترشدون، (وَلا تَقْربوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالتي هِيَ أَحْسَنُ) أي: إلا بطريقة هي أحسن الطرق كحفظه

وتثميره، (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ): حتى يصير بالغًا فادفعوا إليه جمع شده، (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ): بالعدل أي: لا تبخسوهما، (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا): إلا ما يسعها ولا تعجز عنه فإن أخطأ بعد بذل جهَده فلا حرج، (وَإِذَا قُلْتُمْ): تكلمتم في شيء، (فَاعْدِلُوا): في القول لا تجوروا فيه، (وَلَوْ كَانَ): المقول له أو عليه، (ذَا قُربى): من قرابتكم، (وَبعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا): وبوصيته أوفوا فاعملوا بكتابه لا تنكثوه، (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ): تتعظون به، (وَأَنَّ هَذَا) إشارة إلى ما في الآيتين، وقيل إلى ما في السورة، (صِرَاطِي): ديني، (مُسْتَقِيمًا): لا عوج فيه، (فَاتَّبِعُوهُ): عطف على لا تشركوا " وأن هذا صراطي " إلخ علة الاتباع أي: لأن (هذا) إلخ، والجمع بين حرفي العطف الواو والفاء عند تقديم المعمول فصلاً بينهما شائع، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)، وقيل عطف على لعلكم تذكرون أي وصاكم به لأن هذا ديني المستقيم، (وَلا تَتَّبعُوا السُّبُلَ) أي: الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) الباء للتعدية، (عَن سَبِيلِهِ): الذي هو اتباع الحق، (ذَلِكُمْ): الاتباع، (وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): الضلال، (ثُمَّ آتيْنَا مُوسَى

(155)

الْكِتَابَ)، عطف على ذلكم وصاكم وثم للتراخي للإخبار، (تَمَامًا): كاملاً جامعًا لما يحتاج إليه، (عَلَى الذِي أَحْسَنَ) أي: جزاءً على إحسانه في الطاعة وتبليغ الرسالة أو تمامًا بمعنى كرامة، ونعمة أي: حال كون الكتاب نعمة على من أحسن القيام به أي: على المحسنين أو معنى تمامًا زيادة أي: حال كون الكتاب زيادة على ما أحسنه من العلم أي: على علمه، (وَتَفْصِيلاً): بيانًا مفصلاً، (لِكلِّ شَيْءٍ): يحتاج إليه عطف على تمامًا، فهو حال، وقيل نصبهما بالعلية أو بالمصدر، (وَهُدًى وَرَحْمَة لَعَلَّهُمْ): بني إسرائيل، (بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ): لكي يؤمنوا بالبعث. * * * (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا

كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) * * * (وَهَذَا) أي: القرآن، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ): كثير النفع، (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا): مخالفته، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون): بواسطة العمل به، (أَنْ تَقُولُوا): علة لـ أنزلناه أي: كراهة أن تقولوا، (إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ): اليهود، والنصارى، (مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا) أي: وإنه كنا، (عَنْ دِ رَاسَتِهِمْ): قراءتهم (لَغَافِلِينَ): ما نفهم ما يقولون فإنه ليس بلساننا، (أَوْ تَقُولُوا)، عطف على ما تقولوا، (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) أي: إن صدقتم فيما

قلتم فقد جاءتكم حجة واضحة فيها بيان الحلال والحرام، (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ): لمن عمل به، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ): بعد ما تمكن من معرفته، (وَصَدَفَ عَنْهَا): أعرض أو صدَّ الناس عنها، (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ): بسبب إعراضهم أو صدهم، (هَلْ يَنْظُرُونَ) أهل مكة أي: ما ينتظرون، (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ): لقبض أرواحهم، وهم إن كانوا غير منتظرين لذلك لكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بهم، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ): المراد يوم القيامة، (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ): كطلوع الشمس من

المغرب، (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ): التي تضطرهم إلى الإيمان، (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة نفسًا، (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا): عطَف على، آمنت أي: لا ينفع الكافر إيمانه في ذلك الحين ولا الفاسق الذي ما كسب خيرًا في إيمانه وتوبته، فحاصله أنه من باب اللف التقديري أي: لا ينفع نفسًا إيمانها ولا كسبها في الإيمان إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه أي: لا ينفعهم تلهفهم على ترك الإيمان بالكتاب، ولا على ترك العمل بما فيه، (قُلِ انْتَظِرُوا): إتيان أحد هذه الثلاث، (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ): له، وعيد شديد (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ): اليهود والنصارى أخذوا بعض ما أمروا وتركوا بعضه، أو أهل الشبهات والبدع من هذه الأمة، (وَكَانُوا شِيَعًا): فرقًا بعضهم يكفر بعضًا، وقد ورد " ستفترق أمتي على ثلات وسبعين كلها في النار إلا واحدة "، (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ): لست من عقابهم في شيء، ومن قال: إنه نهي عن التعرض لهم، فعنده الآية منسوخة وإذا كان المراد هذه الأمة فيحتمل أن يكون معناه أنت بريء منهم، (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ): بالعقاب، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) أي: عشر

حسنات أمثالها فضلاً من الله، وهذا أقل ما وعد لا ينقص منه، (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) أي: إلا جزاء مثلها لا يضاعف، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ): بنقص الثواب، وزيادة العقاب، (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي): بالوحي، (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا) أعني دينًا أو بدل من محل (صراط) إذ معناه وهداني صراطًا: (قِيَمًا)، مصدر بمعنى القيام أي: قائمًا ثابتًا لا زوال له كرجل عدل، (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، عطف بيان لـ (دينًا) لما في الإضافة من زيادة التوضيح، (حَنِيفًا): مائلاً عن غير الصواب حال عن إبراهيم فإنه بمنزلة الحال من المضاف الذي هو معمول الفعل، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): كما يقول المشركون، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي): الذبح في الحج والعمرة وقيل: عبادتي (1) كلها، (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) أي: حياتي وموتي، (لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: ملك له، وهو خالقه فأنا خالص في العبادة لا شرك أو ما أنا عليه في حياتي ومماتي من الإيمان والطاعة خالص له، (لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ): القول والطريق، (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ): من هذه الأمة، (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) غير الله حال من ربًا والهمزة للإنكار، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)، حال في موقع العلة،

_ (1) في الأصل " عبادة " والتصويب من تفسير البيضاوي.

(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)، فإثم الجاني عليه لا على غيره، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى): لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى، وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم قائلين: " اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ " [العنكبوت: 12]، (ثُمَّ إِلَى ربَِّكُم مَّرْجِعُكُمْ): يوم القيامة، (فَيُنَبِّئُكُم بمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فتعلموا أننا على الحق أو أنتم، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ). يا أمة محمد، (خَلائِفَ الأرْضِ): خلفاء الأمم السالفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة، لأنه يخلفه في الأرض، وقيل: يخلف بعضكم بعضًا أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها فالخطاب عام، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ): بالغنى والرزق منصوب على التمييز أو بدل من بعضكم أو بنزع الخافض أي: بدرجات، (لِيَبْلُوَكُمْ): ليختبركم، (فِي مَا آتَاكُمْ): يمتحن الغني في غناه، ويسأله عن شكره والفقير في فقره ويسأله عن صبره، (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ): بمن عصاه، وخالف رسله وكل ما هو آت قريب، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ): لمن والاه واتبع رسله. والحمد لله حقَّ حمده ..

سورة الأعراف

سورة الأعراف مكية إلا ثمان آيات من قوله " وَاسْأَلْهُمْ " إلى قوله " وَإِذْ نَتَقْنَا " وقيل إلى قوله " وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ " وآياتها مائتان وست. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سورة الأعراف بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) * * * (المص كِتَابٌ) أي: هو كتاب أو خبر (المص) إن كان اسم سورة (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفته، (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي: شك ونهيه عنه للمبالغة،

أو نهي لأمته أو ضيق قلب من تبليغه مخافة التكذيب (لِتُنذِرَ بِهِ) متعلق بأنزل أو بـ فلا يكن فإنه إذا لم يكن ذا حرج كان أجسر على الإنذار (وَذكْرَى) موعظة، (لِلْمُؤْمِنِينَ) تقديره: لتنذر به الكافرين ولتذكر ذكرى للمؤمنين أو عطف على محل تنذر، أو عطف على كتاب (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) اتبعوا أوامر الله ونواهيه، (وَلا تَتَّبعُوا مِن دُونِهِ): من دون ربكم، (أَوْلِيَاءَ) من الجن والإنس فيضلوكم (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) تتعظون اتعاظًا قليلاً وما مزيدة لتأكيد القلة (وَكَم مِّن قَريةٍ) كثيرًا منها (أَهْلَكْنَاهَا) بالعذاب لمخالفة الرسل، أي: أردنا إهلاك أهلها (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) عذابنا (بَيَاتًا) بايتين ليلاً (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) عطف على بياتًا فإنه حال من القيلولة، أي: الضحى وكلا الوقتين وقت غفلة واستراحة فالعذاب فيهما أفظع (فمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ) دعاؤهم وقولهم (إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) أي: أقروا بحقية العذاب تحسرًا (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِليهم) عن إجابتهم الرسل (وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عن إبلاغ الرسالة وعما أجيبوا به

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) على الرسل والأمم يخبر عباده بما عملوا من جليل وقليل (بِعِلْمٍ) عالين بجملته (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عنهم فيخفى علينا (وَالْوَزْنُ) أي: للأعمال (يَوْمَئِذٍ) يوم السؤال (الْحَقُّ) العدل ووزن الأعمال بتقليبها أجسامًا أو بوزن

(11)

صحيفة الأعمال أو صاحب الأعمال، قيل: تارة توزن الأعمال وتارة صحيفتها وتارة صاحبها جمعًا بين الأحاديث، ويومئذ خبر الوزن والحق صفته. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) جمع موزون أي: أعماله مطلقًا أو ميزان وجعه على الثاني باعتبار كثرة الموزون. (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ) الفائزون الناجون. (وَمَنْ خَفتْ مَوَازَينُهُ فأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ) بتضييع الفطرة السليمة. (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) فينكرونها. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) بالتمليك والتصرف والقدرَة. (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) أسباب تعيشون بها. (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أي: شكرًا قليلاً، وما مزيدة. * * * (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ

لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) * * * (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) خلق آدم من طين غير مصور ثم صوره نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره، لأنه أبو البشر، أو خلقناكم يا بني آدم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم أو صورناكم في ظهر آدم أو يوم الميثاق حين أخرجهم

كالذر، أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء، وعلى هذا (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ): للتراخي في الإخبار. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) وقد مر الكلام في أن المأمور به جميع الملك، أو ملائكة الأرضين وأن إبليس منهم، أو من الجن (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) منع بمعنى أحوج واضطر؛ لأن الممنوع عن شيء مضطر إلى خلافه، أي: ما أحوجك إلى عدم السجدة؟ أو لا زائدة مؤكدة معنى الفعل الداخلة هي عليه والسؤال للتوبيخ (إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) كأنه قال: المانع أني خير منه. (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) والنار ألطف وأنور، فقاس وقصر النظر بالعنصر، وما نظر إلى تشريف خلقه بيده ونفخ روحه فيه، وأخطأ في القياس أيضًا؛ فإن (مِنْ طِينٍ) الحلم والوقار والرزانة والصبر وهو محل النبات والنمو، ومن النار الإهلاك والطيش والسرعة والارتفاع. (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) من الجنة أو من السماء أو من منزلتك (فمَا يَكُونُ لَكَ) ما يستقيم (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) ممن أهانه الله لكبره.

(قَالَ أَنظِرْنِي) أمهلني فلا تمتني (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) إلى ابتداء القيامة وهي النفخة الثانية فتموت حين موت الخلائق. (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: بسبب إغوائك إياي أقسم بالله لأقعدن لهم كما يقعد القطاع للسابلة طريق الإسلام والباء متعلق بأقسم القدر، ولأن لام القسم مانع من تعلقه بأقعدن، ونصب صراط على الظرف، أو تقديره على صراطك (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل آخرتهم فأشككهم فيها أو دنياهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) دنياهم أزين لهم أو آخرتهم (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) من قبل حسناتهم، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) قبل سيآتهم، أو المراد من أي وجه ممكن، (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) مطيعين، وإنما قاله ظنًّا وقياسًا، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه. (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا) معيبًا، والذأم: أشد العيب (مَدْحُورًا) مطرودًا، (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) لام توطئة القسم وجوابه (لأمْلأَن جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) وهو ساد مسد جواب الشرط. (وَيَا آدَمُ) أي: قلنا (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) وقد مر الخلاف في الشجرة (فَتَكُونَا) يحتمل النصب على الجواب، والجزم على العطف (مِنَ الظَّالِمِينَ).

(فوَسْوَسَ لَهُمَا) فعل الوسوسة لأجلهما (الشَّيْطَانُ) والوسوسة حديث يلقيه في القلب (لِيُبْدِيَ لَهُمَا) ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة وإما للغرض، فإن اللعين يعلم أن العصيان في الجنة سبب لسلب اللباس والفضيحة (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا) ما غطى عنهما وستر (مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا) أكل (عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا) كراهة (أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) يحصل لكما ما للملائكة من القوة والاستغناء عن الغذاء وغيره (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) في الجنة (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي: أقسم لهما على ذلك، و " لكما " متعلق بـ الناصحين على حذف المفسر، أو التوسع في الظرف (فَدَلَّاهُمَا) خدعهما (بِغُرُورٍ) بما غرهما به من القسم (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) وجد طعمها (بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا) بأن تافت عنهما لباسهما (وَطَفِقَا) أخذا (يَخْصِفَان) يلزقان (عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ) أشجار (الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الهالكين، والأصح أن هذه كلمات تلقاها آدم من ربه فتاب عليه

(26)

(قَالَ اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية (1) والعمدة في العداوة آدم وإبليس كما قال تعالى في سورة طه " اهبطا منها جميعًا " [طه: 123]، أو الخطاب لآدم وحواء وذريتهما (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو) في موضع الحال أي: متعادين لكم (وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ) موضع قرار (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) وتمتع إلى آجال معلومة (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) يوم القيامة. * * * (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) * * *

__ (1) ما ورد في أمر الحية من الإسرائيليات المنكرة. والله أعلم.

(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ) أي: خلقنا لكم ولما كان بقضاء سماوي، وأسباب من السماء قال: (وأنزلنا) وكم مثله في القرآن (لِبَاسًا يُوَارِي) يستر (سَوْءَاتِكُمْ) فأغناكم عن خصف الورق (وَرِيشًا) مالاً أو ما يتجمل به من الثياب، أو جمالاً (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) خشية الله أو الإيمان أو العمل الصالح، أو العفاف، أو هو اللباس الأول يعني لباسًا يواري عوراتكم، أو لباس الحرب وهو مبتدأ (ذلِك خَيْرٌ) خبره (ذلِكَ) أي: خلق اللباس (مِنْ آيَاتِ اللهِ) الدالة على فضله (لَعَلَّهُمْ يَذكرونَ) يتعظون فيتورعون عن كشف العورة. (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) لا يضلنكم (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) فتنهما فأخرجهما (مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) حال من أبويكم أو من فاعل أخرج، والشيطان سبب الإخراج والنزع (لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا) فإن كل واحد منهما ما رأى عورة صاحبه قط (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) جنوده (مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) تعليل للنهي فإن عدوًا يراك ولا تراه لشديد المؤنة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ) أحباء (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) فإنهم متابعوهم، أو سلطناهم عليهم ليزيد غيهم

(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) ككشفهم عورتهم في الطواف نسائهم ورجالهم (قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا) على تلك الفعلة المتناهية في القبح (آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا) اعتقدوا أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) فإنه لا يأمر إلا بما لا ينفر عنه الطبع السليم، ولا يستعيبه العقل المستقيم (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل لا الإفراط ولا التفريط (وَأقِيمُوا) عطف على أمر ربي، ومثله شائع (وُجُوهَكمْ عِنْدَ كلِّ مَسْجِدٍ) استقيموا في العبادة في محالها وهي متابعة الأنبياء أو وجهوا وجوهكم إلى الكعبة في الصلاة حيث كنتم، أو صلوا في أي مسجد كنتم فيه إذا حضرت الصلاة ولا تؤخروها إلى مساجدكم (وَادْعُوهُ مخلصينَ) فلا تقبل عبادة إلا إذا كانت موافقة للشريعة خالصة (لَهُ الدِّينَ) الطاعة (كَمَا بَدَأَكُمْ) أنشأكم ابتداء (تَعُودُونَ) بإحيائكم وإيجادكم بعد موتكم وفنائكم أو كما خلقكم مؤمنًا وكافرًا تعودون مؤمنًا وكافرًا (فَرِيقًا هَدَى) فوفقهم للإيمان (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) وانتصابه بمقدر

(32)

تفسيره ما بعده، أي: وفريقًا أضل (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ) فيتبعونهم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) ثيابكم التي تستر عورتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) بصلاة وطواف (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) نزلت حين كان بنو عامر لا يأكلون دسمًا في أيام حجهم، ولا يأكلون إلا قوتًا فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك، أي: كلوا ما طاب (وَلَا تُسْرِفُوا) بتحريم الحلال (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ) لا يرتضي فعل (الْمُسْرِفِينَ) المعتدين حده في حلال أو حرام، أو معناه لا تسرفوا بإفراط الطعام والشراب. * * * (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي

فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) * * * (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) التي حرمتموها على أنفسكم في الطواف (الَّتِي أَخْرَجَ) من النبات والحيوان والمعادن كالقطن والحرير والدروع (لِعِبَادِهِ وَالطّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ) المستلذات من المآكل والمشارب كما حرمتم من عند أنفسكم في أيام الحج (قُلْ هِيَ) أي: الطيبات مخلوقة (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا) بالأصالة والكفرة شريكهم تبعًا (خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لا يشاركهم الكافرون وقيل: خالصة في الآخرة من التنغيص والغم خلافًا للدنيا، ونصبه على الحال من المستكن في الظرف (كَذَلِكَ) كتفصيلنا هذا الحكم (نفَصِّلُ) جميع (الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أن الله هو الذي يحرم ويحلل أو لقوم غير جاهلين (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) ما تزايد قبحه كالكبائر (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) جهرها وسرها (وَالْإثْمَ) كل ذنب، أو الصغائر أو

الخمر (وَالْبَغْيَ) الظلم (بِغَيْرِ الْحَقِّ) متعلق بالبغي مؤكد له معنى (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) برهانًا ومن المحال إنزال البرهان على الإشراك فيكون هذا تهكمًا واستهزاء (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) بالافتراء عليه (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) كذبت رسولها (أَجَلٌ) وقت معين لنزول العذاب والاستئصال (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) أي: إذا جاء وقت العذاب لا يتأخر ولا يتقدم أقصر وقت، ويصل إليهم في ذلك الوقت المقدر، أو لا يطلبون التأخر والتقدم؛ لشدة الهول (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) إن حرف شرط وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) التي فيها الفرائض والأحكام (فَمَنِ اتَّقَى) الشرك منكم (وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلا هُمْ يَحْزنونَ) وهذا الشرط والجزاء إما يأتينكم (وَالّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) منكم عطف على من اتقى (وَاستَكْبَرُوا عَنْهَا) فتركوا العمل بها (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) تَقَوَّل عليه ما لم يقله (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) أو كذب ما قاله (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) ينالهم

ما كتب عليهم وهو قوله: " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ " [الزمر: 60]، أو ما وعدوا في الكتاب من خير وشر أو ما أثبت لهم في اللوح المحفوظ أو مما كتب لهم من العمل والرزق والعمر (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا) ملكْ الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي: أرواحهم حال من الرسل (قَالُوا) جواب إذا (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ما موصولة أي: أين الآلهة التي كنتم (تَدْعُون) تعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) وهو سؤال وتقريع (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا فلا نراهم ولا ننتفع بهم (وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ) الله لهم يوم القيامة (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي: ادخلوا في النار كائنين في زمرة أمم تقدم زمانهم أي: كفار الجن والإنس (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ) في النار (لَعَنَتْ أُخْتَهَا) في الدين التي ضلت بالاقتداء بها (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) تلاحقوا واجتمعوا (فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ) دخولاً في النار (لأُولاهُمْ) أي: لأجل أولهم دخولاً، أي: الأتباع للمتبوعين، فإن المتبوع دخل قبل التابع، لأنه أشد جرمًا، أو آخر كل أمة لأولها، أو أهل آخر الزمان لأولهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين (رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا) أي: سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا) مصاعفًا (مِنَ النَّارِ) أي: أضعف عليم العقوبة (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي: لكل واحد

(40)

ضعف من عذاب جهنم في هذا الحين، أو لكل عذاب لا مزيد له، أو عذاب ضعف ما يتصور أحدكم في شأن الآخر (وَلَكِن لَا تَعْلَمُون) ما لكل فريق منكم من العذاب. (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ) القادة (لِأُخْرَاهُمْ) الأتباع (فَمَا كاَنَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْل) رتبوا هذا الكلام على قول الله يعني: أن القادة لما سمعوا قوله تعالى: (لكل ضعف) قالوا للسفلة: ما لكم فضل علينا فإنا متساوون في الضلال والعذاب (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتمْ تَكْسِبُونَ) من قول القادة، أو من قول الله. * * * (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) * * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا) أي: عن الإيمان بما (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ) لأرواحهم (أَبْوَابُ السَّمَاءِ) بل يُهوَى بما إلى السجين أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) أي: حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ) فراش (وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) لحاف جمع غاشية (وَكَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ) سماهم مرة ظالمًا ومرة مجرمًا؛ لتعدد قبائحهم وتكثرها (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) " لا نكلف " جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب والإعلام بأن هذه المرتبة الجليلة ممكنة الوصول إليها بسهولة (وَنزَعْنَا) أخرجنا (مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ) حسد وحقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) تحت منازلهم (الْأَنْهَارُ وَقَالُوا) لما رأوا تلك النعمة (الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) لعملٍ هذا ثوابه (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) اللام لتوكيد النفي ويدل ما قبل لولا على جوابه (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فحصل لنا هذه النعمة بإرشادهم (وَنُودُوا أَن تِلْكُم الْجَنَّةُ) إذا رأوها من بعيد، أو بعد دخولها، وأن هي المخففة أو مفسرة فإن المناداة من القول (أورِثْتُمُوهَا) حال من الجنة أو خبر والجنة صفة (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون)

أعطيتموها بلا تعب كالميراث، أو ميراثكم من أهل الجنة، فقد ورد " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة وفي النار، والكافر يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن الكافر من الجنة " (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) تبجحًا بحالهم وشماتة بالكفرة (أَن قَد وَجَدْنَا) يحتمل المخففة والتفسير (مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا) في الدنيا من الثواب (حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العذاب وأهوال الآخرة (حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد (بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) " أن " كما مر (الَّذِينَ يَصدُّونَ عَن سبِيلِ اللهِ) صفة الظالمين أي: يمنعون الناس عن اتباع شرعه (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) زيغًا وميلاً حتى لا يتبعها أحد (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) بين الجنة والنار حاجز يمنع من وصول أهل النار إلى الجنة، وهو الأعراف (وَعَلَى الأعْرَافِ) وهو السور المضروب بينهما (رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة والنار (بِسِيمَاهُمْ) بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها قبل دخول أهل الجنةِ الجنةَ والنارِ النارَ وَبَعَّدَه لارتفاع محلهم وإشرافهم، وبإعلام الله تعالى إياهم فهم يعرفونهم بأشخاصهم، والأصح بل الصحيح أنهم قوم استوت حسناتهم وسيآتهم (وَنَادَوْا) عطف على يعرفون (أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وأن مثل ما مر (لَمْ يَدْخُلُوهَا) استئناف (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في دخولها عطف، أو حال من النفي أي: هم عند عدم الدخول

(48)

كانوا طامعين (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ) فيه إشارة إلى أن نظرهم إلى أصحاب النار لا برغبة منهم وميل (تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) في النار. * * * (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) * * *

(وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاً) من الكفرة (يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهمْ) من رؤساء الكفرة يقولون: يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل يا فلان يا فلان (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) لم تنفعكم كثرتكم أو جمعكم المال (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرونَ) عن الحق (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من تتمة قول أهل الأعراف لأولئك الكفار، والإشارة إلى ضعفاء الجنة التي كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنَّهم لا يدخلون الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي: ثم يقال لأهل الأعراف ذلك، أو لما عير أهل الأعراف أهل النار قال أهل النار: إن دخل هؤلاء الجنة فوالله أنتم لا تدخلونها تعييرًا لهم فقال الملائكة: أهؤلاء أي: أهل الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار أنه لا ينالهم الله برحمته؟!، ثم قالت الملائكة لهم " ادخلو الجنة " الآية (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ) ألقوا علينا (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الطعام (قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا) أي: ماء الجنة وطعامها (عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا) فاستهزءوا به أو جعلوا اللهو واللعب دينهم، وهو ما زين لهم الشيطان كتحريم البحيرة والتصدية وغيرهما (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) فتركوا الآخرة (فَالْيَوْمَ نَنسَاهمْ) نعاملهم معاملة الناسين فنخليهم في جهنم (كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) فلم يستعدوا له (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) وكما كانوا منكرين أنه من عند الله.

(54)

(وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ) قرآن (فَصَّلْنَاهُ) بينا مواعظه وأحكامه (عَلَى عِلْمٍ) منا بما فصلناه به حال من المفعول (هُدًى وَرَحْمَةً) نصبهما بالحال من المفعول (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون (إِلا تَأوِيلَهُ) ما يئول إليه أمر الكتاب من صدق وعده ووعيده وكذبهما (يَوْمَ يَأتِي تَأوِيلُهُ) وهو يوم القيامة (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) تركوا الإيمان به والعمل له (مِن قَبْلُ) قبل إتيانه أي: في الدنيا (قَدْ جَاءَتْ رُسُل ربنَا بِالْحَقِّ) ونحن كذبناهم (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) اليوم (أَوْ نُرَدُّ) أي: هل نرد إلى الدنيا؛ (فَنَعْمَلَ) جواب هل نرد (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف العمر في الكفر (وَضَلَّ) غاب وبطل (عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: لم ينفعهم آلهتهم. * * * (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي

أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) * * * (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي: في مقدار ستة أيام الدنيا أو أيام الآخرة كل يوم ألف سنة (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)

أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفة له بلا كيف نؤمن به ونكل العلم إلى الله تعالى وليس المراد منه خلق العرش بعد السماوات والأرض كما فسر بعض العلماء (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) يغطيه به وفيه حذف، أي: ويغشى النهار الليل ولم يذكر للعلم

به (يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) يعقبه سريعًا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والجملة حال من النهار وحثيثًا صفة مصدر، أي: طلبًا سريعًا (وَالشَّمْسَ) عطف على السماوات (وَالْقَمَرَ وَالنجُومَ مُسَخَّرَاتٍ) نصب على الحال (بِأَمْرِهِ) بقضائه وتصريفه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) لا خالق إلا هو (وَالأمْرُ) لا يجري في ملكه إلا ما يشاء (تَبَارَكَ اللهُ) تعالى وتعظم (رَبُّ الْعَالَمِينَ). (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضرعًا وَخُفْيَةً) أي: ذوي تذلل واستكانة وخفية، فالأصح أنه يكره الصياح والنداء في الدعاء (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين في شيء أمروا به ومنه الإطناب في الدعاء بمثل مسألة الجنة ونعيمها وإستبرقها وقصورها وأمثال ذلك (وَلا تُفسِدُوا في الأرضِ) بالشرك والمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِهَا) ببعث الأنبياء، وقيل: لا تفسدوا بالمعاصي فإن من شؤمها يمسك المطر فتخرب الأرض بعدما كانت مخضرة (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) من عقابه وثوابه حالان من الفاعل (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) المطيعين في أمره ونهيه لم يقل قريبة، لأن الرحمة بمعنى الثواب ولاكتساب المرجع التذكير من المضاف إليه كما صرح الزمخشري في " ما إن مفاتحه لينوء " [القصص: 76]، بالياء التحتانية (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا) جمع بشير

يبشر بالمطر، أي: باشرات، أو للبشارة، ومن قرأ نُشُرًا بالنون وضمها وشين مضمومة أو ساكنة أو فتح النون وسكون الشين فمن النشر أي: ناشرات للسحاب الثقال (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قدام المطر قيل: الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ) حملت الرياح (سَحَابًا) أي: سحائب (ثِقَالًا) بما فيها من الماء (سُقْنَاهُ) أي: السحاب (لِبلَدٍ ميِّتٍ) لأجل أرض لا نبات فيها (فَأَنْزَلْنَا بِهِ) بالبلد أو بسبب السحاب (الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ) بسبب الماء أو بالبلد فالباء للظرفية (مِن كُلِّ) أنواع (الثمَرَاتِ كَذَلِكَ) مثل إخراج الثمرات وإحياء البلد (نُخْرِجُ الْمَوتى) من قبورهم بعد إحيائهم (لَعَلكُمْ تَذَكرُونَ) أن من قدر على ذلك قدر على هذا (وَالْبلَدُ الطيِّبُ) أي: أرض كريمة التربة (يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) بمشيئته وتيسيره سريعًا حسنًا (وَالذِي خَبُثَ) ترابه (لا يَخْرُجُ) أي: نباته حذف المضاف وأقيم المضاف إليه، أي: الضمير المجرور مقامه فصار مرفوعًا مستترا (إِلَّا نَكِدًا) بطيئًا عديم النفع ونصبه على الحال (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) نبينها مكررًا (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) فيتفكرون في الآية وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر. (لَقَدْ أَرْسَلْنَا) جواب قسم محذوف (نوحًا إِلَى قَوْمِهِ) لما ذكر قصة آدم في أول السورة شرع في قصص الأنبياء (فقَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا اللهَ) أي: وحده (مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) صفة إله باعتبار محله (إِني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) القيامة

(65)

(قَالَ الْمَلأ) أي: الأشراف والسادة (مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ) بين لأنك تركت دين آبائك (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي: أقل ما يطلق عليه اسم الضلال (وَلَكِنِّي رَسُولٌ من ربِّ الْعَالَمِينَ) ثابت على الصراط المستقيم (أبَلِّغُكُمْ) صفة لرسول أو استئناف (رِسَالاتِ ربي وَأَنصَحُ لَكُمْ) يقال نصحته ونصحت له (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من جهته بالوحي (مَا لا تَعْلَمُون) من صفات لطفه وقهره (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار، أي: أكذبتم وعجبتم من (أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ) موعظة (مِن ربكُمْ عَلَى) لسان (رَجُلٍ مِنْكُمْ) من جنسكم (لِيُنذِرَكُمْ) عاقبة المعاصي (وَلِتَتَّقُوا) من المعصية بسبب الإنذار (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بالتقوى (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) ظرف معه أي: صاحبوه في الفلك، أو حال من ضمير معه، أو من الموصول، والأصح أنَّهم ثمانون (وَأَغرَقنا) بالطوفان (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) عمى القلوب عن معرفة الله تعالى. * * * (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا

لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) * * * (وَإِلَى عَادٍ) أي: إلى قومه عطف على " نوحًا " (أَخَاهُمْ) في النسب، أو واحد منهم كقولك: يا أخا العرب (هُودًا) عطف بيان لـ أخاهم (قَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتقُونَ) عذاب الله (قَالَ الْمَلأ) الأشراف (الذِين كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ) ومن أشرافهم من آمن به (إِنَّا لَنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ) في خفة عقل (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي) كامل العقل لأني

(رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ ربِّي وَأَنَا لَكمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) على الرسالة لا أكذب فيها (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) قد مر تفسيره قريبًا فلا نعيده (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نوحٍ) في مساكنهم أو في الأرض بأن أخذ منهم وأعطاكم (وَزَادَكمْ في الْخَلْق بَصْطَةً) قامة وقوة (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تعميم بعد تخصيص (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بسبب ذكر النعم وشكره (قَالُوا أَجِئْتَئنا) مجاز من القصد والتعرض أي: أقصدتنا (لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) من الأصنام (فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الوعد (قَالَ قَدْ وَقَعَ) وجب وحق أو جعل متحقق الوقوع كالواقع (عَلَيْكُمْ مِنْ ربِّكمْ رِجْسٌ) عذاب (وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) أي: في أشياء ما هي إلا أسماء أحدثتموها فما هي إلا من موضوعاتكم ومخترعاتكم وليس تحتها مسميات، فإن معنى الإلهية فيها بالكلية منتف فكيف تتخذونها إلها (مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) ما جعل الله لكم في عبادتها حجة ولا دليلاً (فانتَظِروا) أمر الله تعالى (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) حتى تروا حالكم وحالنا (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا

(73)

دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أهلكناهم عن آخرهم واستأصلناهم (وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) والناجي في الدارين المؤمنون. * * * (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ

أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) * * * (وَإِلَى ثَمُودَ) أي: إلى قبيلته (أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) معجزة (مِنْ ربِّكُمْ) على صدقي (هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيةً) استئناف يبين البينة وإضافة الناقة إلى الله؛ لأنها جاءت من عنده بلا سبب معهود، فإنها خرجت من الصخرة يوم عيدهم بمحضرهم حين سألوا تلك المعجزة وعهدوا أن يؤمنوا به بعد ما تظهر، ونصب آية على الحال والعامل معنى الإشارة (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) من الضرب والطرد والأذى (فَيَأخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) جواب للنهي (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) في مساكنهم (وَبَوَّأَكُمْ) سكنكم (فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا) تبنون القصور من سهولة الأرض مما تصنعون منها من اللبن والآجر (وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) كانوا يثقبون في الجبال ويسكنون في الشتاء فيها لتنعمهم، ونصب بيوتًا على الحال المقدرة، لأن الجبل ما كان بيتًا في حال النحت، أو تقديره من الجبال

بيوتًا (فَاذْكرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا) العثي: أشد الفساد (فِي الأرْضِ مُفْسدِينَ) أي: لا تبالغوا في الفساد في حال فسادكم (قَالَ الْمَلأ) الأشراف (الَّذِينَ استَكْبَرُوا) عن الإيمان (مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استُضْعِفوا) أي: الرعايا (لِمَنْ آمَن مِنْهمْ) بدل من للذين بدل البعض؛ لأن ضمير منهم راجع إلى للذين فإن المستضعفين كثيرون والمؤمنون أربعة آلاف (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قيل قالوه على الطنز والسخرية. (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) عدلوا به عن مثل نعم إشارة إلى أن إرساله معلوم مسلم إنما الكلام في الإيمان به ونحن مؤمنون (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) فما سلموا إرساله الذي ادعوا ظهوره (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) نحروها وكلهم راضون بنحرها فأسند الفعل إلى جميعهم (وَعَتَوْا) استكبروا (عَنْ) قبول (أَمْرِ ربهِمْ وَقَالوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة فإنه كان عذابهم صيحة من السماء وزلزلة من الأرض تقطعت قلوبهم في صدورهم (فأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ) أرضهم ومسكنهم (جَاثِمِينَ) خامدين ميتين (فَتَوَلَّى) أعرض (عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب نبينا - عليه الصلاة والسلام - قليب بدر بقوله " هل وجدتم ما

وعد ربُّكم حقًا " قيل: ويجوز أن يتولى عنهم ويقول ذلك حين مقدمة نزول العذاب وهذا كما قال بعضهم في الآية تقديم وتأخير. (ولوطًا) أي: أرسلنا، أو واذكر لوطًا (إِذ قَالَ) ظرف على الأول وبدل من لوطًا على الثاني (لِقَوْمهِ أَتَأتونَ الْفَاحِشَةَ) تلك الفعلة القبيحة (ما سَبَقَكُمْ) استئناف مقررة للإنكار (بِهَا) الباء للتعدية (مِنْ أَحَدٍ) من زائدة للاستغراق (مِنَ الْعَالَمِينَ) من للتبعيض أي: ما فعلها أحد قط قبلكم (إِنَّكُمْ) الهمزة للإنكار (لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ) من أتى المرأة إذا غشيها (شَهْوَةً) للاشتهاء أنكر أن يكون الحامل على هذه القباحة مجرد الشهوة، أو حال أبي: مشتهين غير ملتفتين إلى سماجتها (مِنْ دُون النسَاءِ) المخلوق لكم (بَلْ أَنتمْ قَوْمٌ مُسْرِفون) إضراب على الإنكار إلى الإخبار عن طريقتهم وعادتهم كأنه قال: بل أنتم قوم لكم الإسراف في الأمور كلها وهو الباعث لكم إلى تلك القبيحة (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي: قال بعضهم لبعض: أخرجوهم في مقابلة النصح والإرشاد (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) من دبر الرجال والنساء قيل قالوا سخرية (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) فإنه ما من

(85)

أحد سوى أهل بيته (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإنها تستر الكفر (كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) الباقين في ديارهم فهلكت (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) نوعًا من المطر وهو حجارة (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ). * * * (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا

لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) * * * (وَإِلَى مَدْيَنَ) قبيلة، أو المراد بلد مدين (أَخَاهُمْ) في النسب (شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيّنَةٌ) معجزة (مِنْ ربِّكُمْ) وليس في القرآن أنها ما هي (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أراد بالكيل الذي هو المصدر ما يكال به كالعيش على المعاش (وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) لا تنقصوهم حقوقهم قيل كانوا مكاسين (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر (بَعْدَ إِصْلاحِهَا) ببعث

النبي وأمره بالعدل (ذَلِكُمْ) إشارة إلى العمل بما أمرهم (خيْرٌ لَكُم) في الدنيا والآخرة (إِنْ كنتمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين بمقالي (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون) فإنهم يقعدون طرق الناس يوعدون الآتين إلى شعيب للإيمان بالقتل وغيره، أو معناه النهي عن وعيد الناس لإعطاء أموالهم فإنهم مكاسين ويوعدون في موضع الحال (وَتَصُدُّونَ) عطف على توعدون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) بشعيب أو بالله وتوعدون وتصدون تنازعا في من آمن والعمل للثاني (وَتَبْغونَهَا) وتطلبون لسبيل الله (عِوَجًا) بإلقاء الشبه ووصفها للناس بالاعوجاج (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا) في العدد والعُدد (فَكَثَّرَكُمْ) بالأموال والبنين (وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) قبلكم فاعتبروا منهم (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا) بتعذيب المكذبين (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) لا حيف في حكم@ ولا معقب له (قَالَ الْمَلأُ) الأشراف (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان (مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) أي: ليكونن أحد الأمرين إما الإخراج أو العود، وشعيب - عليه السلام - قط لم يكن على ملتهم لكن غلَّبوا قومه عليه فإنهم كانوا على ملتهم (قَالَ) شعيب (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) أي: أنعود في ملتكم وإن كنا

كارهين لها؟ (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا) يدل على جواب الشرط قد افترينا، أي: قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها فإن المرتد مفترى في إثبات الند، وفي ظهور الحقية عنده للدين الباطل فهو أقبح من الكافر (وَمَا يَكُونُ) لا يمكن (لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ ربُّنَا) ارتدادنا فإنه مصرف القلوب كيف يشاء، ولو أراد الله بأحدٍ سوءًا فلا مرد له (وَسِعَ ربُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) أحاط علمه بما كان وما يكون وعلمًا تمييز (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا) في تثبيتنا على الإيمان وتخليصنا منكم (رَبَّنَا افْتَحْ) اقض واحكم (بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) أنزل على كل منا ما يستحقه لا أن تهلكهم بدعائي وهم غير مستحقين للعذاب (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) لاستبدالكم دينه الباطل بدين آبائكم الحق، وجملة إنكم إذًا لخاسرون ساد مسد جواب القسم والشرط (فأَخَدتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ) مدينتهم (جَاثِمِينَ) ميتين قد اجتمع عليهم أنواع من العذاب بسحابة فيها شرر من النار ولهيب وهو قوله تعالى " عَذَابُ يَوْمِ

(94)

الظُّلَّةِ " [الشعراء: 189] في سورة الشعراء ثم جاءتهم صيحة من السماء وهو قوله تعالى " فأخذتهم الصيحة " [الحجر: 83] في سورة الحجر ورجفة من الأرض فزهقت أرواحهم وخمدت أجسادهم (الذِينَ كَذبُوا شُعَيْبًا) مبتدأ (كَأَنْ لَمْ يَغنَوا فِيهَا) خبره أي: كأن لم يقيموا فيها قط (الَّذِينَ كذبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) لا الذين صدقوه كما زعموا (فتَوَلى عَئْهُمْ) الظاهر أنه بعد عذابهم وموتهم (وَقَالَ) تأسفًا بهم (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) وقد كفرتم (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) مستحقين للعذاب. * * * (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) * * * (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ) فكذبه أهلها (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ) الفقر (وَالضَّرَّاءِ) المرض (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) كي يتضرعوا ويتركوا الاستكبار عن الإيمان (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أعطنا السلامة والسعة مكان البلاء والشدة ابتلاء واستدراجًا (حَتَّى عَفَوْا) كثروا عددًا ومالاً (وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ

وَالسَّرَاءُ) فأصابنا مثل ما أصابهم وهذا عادة الدهر ولم ينتبهوا وغفلوا (فأَخَذناهُمْ بَغتَةً) فجأة مصدر أي: هذا النوع من الأخذ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بنزول العذاب (وَلَوْ أَنَّ أَهلَ الْقُرَى) أي: تلك القرى التي أرسلنا فيها رسلاً (آمنوا وَاتَّقَوْا) المعاصي (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ) يسرنا الخير لهم (مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) من كل جانب أو قطر السماء ونبات الأرض (وَلَكِنْ كَذبُوا) رسلنا (فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) بسبب كفرهم وعصيانهم (أَفَأَمِنَ) الهمزة للإنكار وهو عطف على فأخذناهم بغتة، أو فأخذناهم بما كانوا، وحاصله فعلوا كيت وكيت فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن (أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا) عذابنا (بَياتًا) أي: وقت بيات، أي: بيتوتة فنصبه على الظرف بحذف المضاف (وَهُمْ نائِمُون) جملة حالية (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى) ضحوة النهار ظرف (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) من فرط غفلتهم (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر واستدراجه (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) فطرتهم. * * *

(100)

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) * * * (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بعْدِ أَهْلِهَا) أي: يرثون ديار من قبلهم (أَنْ) أي: أن الشأن (لَوْ نَشَاءُ أَصَباهُمْ) بالبلاء (بِذُنُوبِهِمْ) بسببها كما عذبنا من قبلهم وجملة أن لو نشاء فاعل يهد ومن قرأ بالنون فهو مفعول وفي الهداية حينئذ تضمين التبيين ولهذا عدي باللام (وَنَطْبَعُ) نختم (عَلَى قُلُوبِهِمْ) هو استئناف ولهذا غير الأسلوب أي: نحن نطبع، أو عطف على مدلول أو لم يهد يعني يغفلون ونطبع وليس بعطف على أصبناهم؛ لاستلزام انتفاء كونهم مطبوعين مع بطلانه لقوله: " فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ " وقوله: " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " وقوله: " فما كانوا ليؤمنوا "؛ لدلالته على أن حالهم منافية للإيمان (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) الموعظة أبدًا سماع قبول.

(تِلْكَ الْقُرَى) إشارة إلى قرى الأمم التي مر ذكرها (نَقُصُّ عَلَيْكَ) حالٌ، أو خبرٌ إن جعلت القرى صفة تلك (مِنْ أَنْبَائِهَا) أي: بعض أخبارها (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) المعجزات (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي: ما صلحوا للإيمان بعد رؤية المعجزات (بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي: قبل رؤيتهم تلك المعجزات يعني بعدما طبعناهم لا يمكن لهم الإيمان بما جاءهم الرسول أو الباء للسببية أي: كفرهم السابق سبب كفرهم اللاحق وعن بعض السلف المراد من قبل يوم أخذ الميثاق فإنهم حينئذ أقروا باللسان وأضمروا التكذيب (كذَلِكَ) مثل ذلك الطبع الشديد (يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافرينَ) الوارثين والموروثون (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ) أي: الأمم الماضية (مِنْ عَهْدٍ) وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق، أو عهدهم مع أنبيائهم (وَإِنْ وَجَدْنَا) أي: إن الشأن علمنا (أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) خارجين عن طاعتنا وعند الكوفيين أن نافية واللام بمعنى إلا. (ثمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: الرسل الذين مر ذكرهم (مُوسَى بِآيَاتِنا) المعجزات (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا) أي: بالآيات بأن وضعوا الكفر بها مكان الإيمان (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) على بمعنى الباء أي: بألاَّ أقول، كما تقول: رميت على القوس أو أصله حقيق على ألاَّ أقول كما هو قراءة نافع فقلب لأمن الإلباس، أو أراد موسى أن يغرق في وصف نفسه بالصدق فيقول: أنا حقيق على قول الحق، أي: واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، ولا

(109)

يرضى إلا بمثلي ناطقًا به أو معناه أني حريص على ألَّا أقول (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنةٍ) وهي العصا (مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) خلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة فإن فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) من عند من أرسلك (فَأتِ بِهَا) أحضرها عندي (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) حية عظيمة لا يشك في أنها حية (وَنَزَعَ يَدَهُ) أخرجها من جيبه بعدما أدخلها فيه (فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) لها شعاع غلب نور الشمس ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول وللناظرين متعلق بـ بيضاء، أي: بيضاء للنظارة (1). * * * (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ

_ (1) في الأصل " للنضارة " والتصويب من تفسير البيضاوي.

لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) * * * (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) في صنعته أي: قالوا ذلك موافقين لقول فرعون كما حكاه تعالى: " قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم " [الشعراء: 34]، فوافقوه وقالوا كمقالته أو قال الملأ بطريق التبليغ من لسان فرعون إلى القوم يعني القبط (1) (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) يا معشر القبط (مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأمُرُون) تشيرون في أمره (قَالُوا) بعدما اتفقوا رأيهم (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) الإرجاء التأخير أي: أخر أمره وأمر أخيه أو احبسه وأصله أرجئه (وَأَرْسِلْ في الْمَدَائِن حَاشرينَ) أي رجالاً يحشرون إليك من في مدائن صعيد مصر من نواحي مصر من السحرة (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) على موسى (قَالَ) فرعون (نَعَمْ) إن لكم أجرًا (وَإِنَّكُم لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فهو معطوف على محذوف سد مسد نعم (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) ما معنا من الحبال ورغبتهم في أن

_ (1) في الأصل " قبط " والتصويب من الكشاف.

يلقوا قبله، ولهذا غيروا نظم الكلام إلى آكد وجه (قَالَ) موسى كرمًا ووثوقًا على الله (أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) خيلوا إليها ما لا حقيقة له (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) خوفوهم (وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) قيل خمسة عشر ألف ساحر وقيل أكثر، ومع كل عصي وحبال غلاظ طوال، وألقوا فإذا حيات قد ملأت (1) الوادي تركب بعضها بعضًا (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) فألقاها (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع (مَا يَأْفِكُونَ) ما يزورونه من الإفك، فلما أكلت حبالهم وعصيهم بأسرها، قالت السحرة: لو كان هذا سحرًا لبقيت حبالنا وعصينا (فَوَقَعَ الْحَقُّ) ثبت وظهر (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من السحر (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) صاروا أذلاء، وأرجعوا إلى مدينتهم أذلاء مغلوبين، والضمير لفرعون وقومه (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) ألقاهم الله تعالى، أو ألهمهم أن يسجدوا، أو من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا (قَالُوا آمَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَارونَ) لا رب

_ (1) في الأصل " امتلأت " والتصويب من تفسير البيضاوي.

(127)

القبط فإنه فرعون (قَالَ فِرْعَوْن آمَنتمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكمْ) في الإيمان (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) أي: حيلة صنعتموها أنتم وموسى في مصر قبل الخروج إلى هنا (لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا) أي: القبط فتبقى مصر (1) لكم (فَسَوْفَ تَعْلَمونَ) عاقبة صنيعكم، ثم فصل ما أجل وقال: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) من كل شق طرفًا (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا) بالموت (مُنْقَلِبُونَ) فلا نخاف من وعيدك، أو مصيرنا ومصيرك إلى الله فيحكم بيننا (وَمَا تَنْقِمُ) تنكر (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا) ثم أعرضوا عنه وفزعو إلى الله تعالى، وقالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ) أفض (علَيْنَا صَبْرًا) حتى لا نرجع من الدين (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره: كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شهداء. * * * (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ

__ (1) في الأصل " المصر "

عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) * * * (وَقَالَ الْمَلاً مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ) لفرعون (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ) بني إسرئيل (لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) بدعوتهم إلى مخالفتك (وَيَذَرَكَ وَآلِهتَكَ) عطف على يفسدوا، أو جواب للاستفهام بالواو، كما يجاب بالفاء قيل: [كان] لفرعون بقرة يعبدها ويأمر أن يعبدوا بقرة حسناء، وقيل علق على عنقه صليبًا يعبده، وقيل: اتخذ لقومه أصنامًا وأمر بعبادتها، وقال لهم: هذه آلهتكم وأنا ربكم الأعلى (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ) كما كنا نفعل من قبل حين حكمت الكهنة بوجود مولود على يده زوال ملكنا (وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) نتركهن أحياء للخدمة (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) هم تحت أيدينا مقهورون (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) حين شكوا إليه (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) فلربما يأخذ منهم ويعطيكم بسهولة كالميراث (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي: عاقبة الأمر بالنصر والظفر للمتقين فثقوا بالله تعالى وقال بعضهم معناه الآخرة للمتقين خاصة (قَالُوا) بنوا إسرائيل (أُوذِينَا) بقتل الأبناء (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأتِيَنَا) بالرسالة (وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) بإعادة القتل (قَالَ)

_ (1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

(130)

موسى (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أرضهم وملكهم (فَيَنْظُرَ) يرى (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) من شكر وكفران وطاعة وعصيان. * * * (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ

آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) * * * (وَلَقَدْ أَخَدنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) بالجدوب لقلة الأمطار (وَنَقْصٍ مِن الثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذكرونَ) لكي ينتبهوا ويتعظوا (فَإِذَا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة) السعة والمال (قَالوا لَنا هَذِه) لأجلنا ونحن مستحقوها ولم يشكروا منعمها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) بلاء وجدب (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) يتشاءموا بهم وقالوا ما هذا إلا بشؤمهم (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي: شؤمهم من قبل الله ومن عنده، أو سبب شؤمهم وهو أعمالهم القبيحة عنده مكتوب (وَلكِنَّ أَكثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما أصابهم من الله تعالى (وَقَالُوا) لموسى (مَهْمَا تَأتِنَا بِهِ) أي: أيما شيء تأتنا به فمحل مهما الرفع وجاز النصب بفعل يفسره (تَأتِنَا) أي: أيما شيء تحضرنا تأتنا به (مِنْ آيَةٍ) بيان لهما وسموها آية على زعم موسى (لِتَسْحَرَنَا بِهَا) الضمير لما في

مهما باعتبار المعنى فإن من آية فضلة جيء للتبيين (فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) فدعا عليهم موسى عليه السلام (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ) أرسل الله تعالى مطرًا سبعة أيام امتلئت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل مع أن بيوتهم مشتبكة أو المراد من الطوفان الوباء أو الجدري ثم فزعوا إلى موسى وعهدوا بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، فلما كشف نقضوا عهودهم (وَالْجَرَادَ) فأرسل الله إليهم الجراد فأكل زروعهم وثيابهم حتى مسامير أبوابهم ثم عهدوا وكشف فنقضوا (وَالْقُمَّلَ) فأرسل الله إليهم السوس أو أولاد الجراد قبل أجنحتها أو الحمنان صغار القردان أو دواب سود صغار أو القمل بفتح القاف حتى أكلت أبدانهم ومصت دماءهم فعهدوا فلما كشف نقضوا (وَالضَّفَادِعَ) فأرسل الله تعالى إليهم الضفادع حتى لا يستطيعوا الطبخ والأكل فإنه يمتلئ قدورهم وظروفهم وأفواههم فعهدوا ونقضوا (وَالدَّمَ) صارت مياههم دمًا وسالت النيل عليهم بالدم أو المراد بالدم

الرعاف فعطشوا فعهدوا ونقضوا (آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) مبينات لا يشتبه على أحد أنها نقمة من الله ونصبها على الحال (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان (وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِين وَلَما وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) الآيات المفصلات أو الطاعون فهو عذاب سادس (قَالُوا يَا مُوسى ادعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) أي: بحق عهده عندك وهو النبوة أو بما أنت تعلمه من أسمائه التي تدعو بها فيستجيب الدعاء (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ) حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون أو مهلكون فيه وهو الغرق (إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) عهدهم أي: فلما كشفنا العذاب فجاءوا النقض بلا مهل وتأمل (فَانْتَقَمْنَا) أردنا الانتقام (مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) البحر العميق (بِأَنَّهُمْ كَذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) لا يتفكرون في آياتنا (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم (مَشَارِقَ الأرْضِ) أرض الشام (وَمَغَارِبَهَا التِي بَارَكْنَا فيهَا) بالسعة والرخاء (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ ربِّكَ) هي وعده إياهم بالنصر والظفر (الْحُسْنَى) صفة الكلمة (عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) بسبب صبرهم على الشدائد (وَدَمَّرْنَا) استأصلنا (مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من العمارات (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) يرفعون من البيوت والقصور أو من البساتين.

(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) عبرنا بهم (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ) مروا عليهم (يَعْكُفُونَ) يقيمون (عَلَى) عبادة (أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا) مثالاً نعبده (كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) ما كافة (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لأن العاقل لا

(142)

يطلب معبودًا مخلوقًا لا يضر ولا ينفع (إِنَّ هَؤُلاءِ) إشارة إلى القوم (مُتَبَّرٌ) مكسر مدمر (مَا هُمْ فِيهِ) أي: دينهم فاعل متبراً أو مبتدأ و (مُتَبَّرٌ) خبره (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ألبتة لا محالة (قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ) أطلب لكم (إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) بأن أعطاكم نعمًا وخصكم بها (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي: واذكروا هذا اللطف العظيم (يَسُومُونَكُمْ) استئناف أو حال أي: يبغونكم (سُوءَ الْعَذَاب) شدته (يُقَتِّلُونَ) بدل من يسومون مبين له (أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ) أي: العذاب (بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قيل الإشارة إلى الإنجاء فالبلاء بمعنى المنحة لا المحنة. * * * (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ

الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) * * * (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاِثينَ لَيْلَةً) ذا القعدة للمناجاة وإرسال كتاب من عنده (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) من ذي الحجة نقل أنه بعد صوم الشهر استاك فزال خلوفه فلذلك أمر بصوم عشر ليكون لفمه خلوف (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي) كن خليفتي (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) ارفق بهم واحملهم على طاعة الله تعالى (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) لا تطع من دعاك إلى الفساد.

(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا) أي: لوقتنا الذي وقتنا له (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) فلما سمع كلامه اشتاق لقاءه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي) نفسك بأن تتجلى إلي (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أراك (قَالَ لَنْ تَرَانِي) في الدنيا وقد وردت أحاديث صحاح صريحة على رؤية الله تعالى في الآخرة وأجمعت الأمة على ذلك سوى المعتزلة وحسبهم من الخسران والحسرة أن عاملهم الله تعالى في الآخرة بعقيدتهم وحرمهم من نعمة لقائه كما قال جدي قدس سره (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ) ويطيق الرؤية مع أنه أعظم

وأئقل جسمًا (فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) ظهر نور ربه وقد ورد ما تجلى إلا قدر الخنصر (جَعَلَهُ دَكًّا) أي: مدكوكًا كالتراب ومن قرأ دكاء فمعناه أرضًا مستوية (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) سقط مغشيًا عليه (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ) أنزهك مما لا يليق بك أو قال سبحانك لعظمة ما رأى (تُبْتُ إِلَيْكَ) من مسألة الرؤية بغير إذن (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنه لا يراك أحد إلى يوم القيامة أو أول قومي إيمانًا. (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) اخترتك (عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي) بوحيي (وَبِكَلامِي) من غير واسطة (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) أعطتك من الرسالة (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ولا تطلب ما لا طاقة لك به. (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ) ألواح التوراة وقيل الألواح قبل نزول التوراة وهي من خشب أو من جوهرة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) هم إليه محتاجون في أمر دينهم (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) تبيينًا لكل أمر ونهي حلال وحرام فنصبهما على المفعول له أي: للموعظة ولتبيين الحلال والحرام وقيل من كل شيء مفعول كتبنا وموعظة وتفصيلاً بدل منه (فَخُذْهَا) أي: فقلنا له خذ الألواخ (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) أي: التكليف عليك يا موسى أشد من التكليف على قومك قيل في الألواح ما هو أحسن كالصبر بالإضافة إلى الانتصار مثلاً فأمرهم على طريقة الندب

(148)

أن يتبعوا أفضل ما فيها وهو الصبر والعفو (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) أي: سترون عاقبة من خالف أمري كيف تصير إلى الهلاك أو هي جهنم فاحذروا أن تكونوا منهم أو منازلهم كيف تكون خاوية على عروشها قيل هذا بشارة بأنه سيرزقهم أرض أعدائهم (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) أي: أمنعهم عن فهم الحجج والأدلة الدالة على وحدانيتي وعظمتي وأنزع عنهم فهم كلامي (بِغَيْرِ الْحَقِّ) صلة يتكبرون أو حال فإن تكبر المحق على المبطل حق والتكبر على المتكبر صدقة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) معجزة (لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) لعنادهم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) طريق الهدى والسداد (لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ) طريق الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ) إشارة إلى مصيرهم إلى هذه الحالة (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) لا يتدبرون فيها (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ) أي: لقائهم الدار الآخرة (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) بطلت فليس لها نفع (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إلا جزاء أعمالهم. * * * (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي

فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) * * * (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) أي: اتخذ السامري لهم بإعانتهم ورضاهم فكأنهم هم الذين اتخذوا (مِنْ بَعْدِه) من بعد ذهابه إلى الجبل (مِنْ حُلِيِّهِمْ) التي استعاروا من القبط (عِجْلًا جَسَدًا) بدنا ذا لحم ودم بدل من عجلا (لَهُ خُوَارٌ) صوت البقر قال بعضهم: استمر على كونه من الذهب إلا أنه يدخل في فيه الهواء فيصوت كالبقر (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) أي: ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه حيوان لا يقدر على كلام ولا على إرشاد فكيف اعتقدوا على أنه خالق القوى والقدر؟! (اتَّخَذُوهُ) إلهًا (وَكَانُوا ظَالِمِينَ) فلوضعهم الأشياء في غير موضعها اتخذوه إلها (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) كناية عن الندامة فإن النادم يعض يده (وَرَأَوْا) اعلموا (أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا) بقبول توبتنا (وَيَغْفِرْ لَنَا) هذا الذنب العظيم (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الهالكين.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ) عليهم (أَسِفًا) شديد الغضب أو حزينًا فإنه قد أعلمه الله بذلك وهو على الطور كما قال تعالى: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك " [طه: 85]، (قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتمونِي مِنْ بَعْدِي) أي: فعلتم بعد ذهابي وفاعل بئس ضمير يفسره ما والمخصوص بالذم محذوف أي: بئس فعلاً فعلتموه من بعدي فعلكم (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) وهذا كما يقال لمن ولى أحدًا غير مستحق للولاية: عجلت أمر السلطنة أي: في حالها وأمرها أو ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته أي: سبقتم أمر ربكم أو ميعاد ربكم أو سخط ربكم (وَأَلْقَى الألْوَاحَ) طرحها غضبًا (وَأَخَد بِرَأْسِ أَخِيهِ) بشعره (يَجُرُّهُ إلَيْهِ) خوفًا عن أن يكون قد قصر في نهيهم وهارون أكبر من موسى (قَالَ ابْنَ أُمَّ) كانا أخوين من أب وأم وذكَر الأم ليرققه (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي: بذلت وسعي في النهي حتى قهروني وقاربوا قتلى (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ) لا تفعل بي شيئًا يشمتون

(152)

لأجله (وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) معدودًا في عداد عابدي العجل في عقوبتك. (قَالَ) لما علم براءة ساحته (رَبِّ اغْفِرْ لِي) ما صنعت بأخي (وَلِأَخِي) إن قصر في نهيهم (وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ) بمزيد الإنعام أو في جنتك (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). * * * (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) * * *

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلهًا (سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو أمرهم بقتل أنفسهم للتوبة كما مر فهو حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى حين أخبره أو غضب في الآخرة (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إخراجهم من ديارهم وهوانهم إلى الأبد وقيل المراد من الذين اتخذوا العجل: أبناؤهم وهم يهود زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف الأبناء بقبائح فعل الآباء (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) على الله تعالى (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) أي: الشرك (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا) بعد السَّيِّئَاتِ (وَآمَنُوا) أخلصوا الإيمان واشتغلوا بما هو مقتضى الإيمان (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا) بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَمَّا سَكَتَ) أي: سكن (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ) التي ألقاها (وَفِي نُسْخَتِهَا) أي: في الألواح فإنها نسخت من اللوح المحفوظ أو لما ألقى الألواح تكسرت ثم رد عليه لوحان أو لما تكسرت نسخ منها نسخة أخرى (هُدًى) من الضلال (وَرَحْمَةٌ) من العذاب (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) للخائفين ودخول اللام في المفعول لضعف الفعل بالتأخير وقيل في يرهبون تضمين معنى الخضوع (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) منصوب بنزع الخافض أي: من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنا) أمر موسى أن يختار من بني إسرائيل سبعين ليدعوا ربَّهُم فلما دعوا قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدًا من قبلنا ولا من بعدنا فكره الله تعالى ذلك

فأخذكم الرجفة أو اختار سبعين ليعتذروا من عبادة العجل فلما سمعوا كلام الله تعالى قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا أو أخذتهم الرجفة فإنهم علماء وما نهوا بني إسرائيل عن عبادة العجل، وقال بعضهم: ما ماتوا ثم بعد تضرع موسى كشف عنهم الرجفة فاطمأنوا أو ماتوا لكن أحياهم الله تعالى بدعاء موسى (فَلَمَّا أَخَذَتهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ) موسى: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ) لو للتمني (أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبلُ وَإِيَّايَ) تمنى هلاكهم وهلاكه قبل أن يرى ما يرى، أو المراد أهلكتهم أي: عبدة العجل من قبل عبادتهم (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) من التجاسر على طلب الرؤية فإن بعضًا من السبعين طلبوا الرؤية، أو من عبادة العجل، ولذلك قيل: علماؤهم ما عبدوا العجل (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) اختبارك وامتحانك حين أسمعتهم كلامك فطمعوا في الرؤية، أو حين خلقت في العجل خوارًا فضلوا (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ) ضلاله (وَتَهْدِي) بها (مَنْ تَشَاءُ) هداه (أَنْتَ وَلِيُّنَا) القائم بأمرنا (فَاغْفِرْ لَنَا) ذنوبنا الماضية (وَارْحَمْنَا) بأن لا توقعنا بعد في مثله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) لأنك تغفر الذنوب جميعًا بلا عرض ولا عوض (وَاكْتُبْ) أي: أثبت (لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً) عافية وطاعة (وَفِي الْآخِرَةِ) جنة وقربة (إِنَّا هُدْنَا) رجعنا وتبنا (إِلَيْكَ قَالَ) الله مجيبًا له في قوله: " إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ " (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ

أَشَاءُ) تعذيبه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) في الدنيا حتى الشجر والحجر (فَسَأَكْتُبُهَا) فسأوجب رحمتي في الآخرة (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكبائر (وَيُؤتونَ الزكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) بما أنزل على جميع الأنبياء لا يكفرون بشيء منها قيل لما اختار موسى سبعين قال لهم: أجعل لكم الأرض مسجدًا وطهورًا وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم؟ فقالوا: لا نريد إلا أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في القلوب، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرًا قال تعالى: " فسأكتبها للذين يتقون " الآية (الذِينَ يَتَّبِعُونَ) أي: هم الذين أو بدل من الذين يتقون، والمراد اليهود الذين فِي آخر الزمان وآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام أو عامة أمته الصالحين (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) الذي لا يكتب ولا يقرأ (الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ) اسمه وصفته (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأمُرُهُمْ) النبي

(158)

(بِالْمَعْرُوفِ) والخير (وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) والشر (ويحِل لَهُمُ الطيِّبَاتِ) مما حرموا على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة ومما حرم عليهم في التوراة من لحوم الإبل والشحوم (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) كالدم ولحم الخنزير والميتة والربا (وَيَضَعُ) يخفف ويسقط (عَنْهمْ إِصْرَهمْ) أي: ثقلهم العهد الثقيل الذي أخذ عليهم بالعمل بالتوراة (وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) التكاليف الشاقة التي كانت في دينهم (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) بهذا الرسول (وَعَزَّرُوهُ) عظموه (وَنَصَرُوهُ) على عدوه (وَاتَّبَعُوا النُّورَ) أي: القرآن (الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي: مع نبوته وقيل: متعلق باتبعوا القرآن مع اتباع النبي أي: اتبعوا الكتاب والسنة (أُولَئِكَ هُمُ الْمفْلِحون) الفائزون في الدارين. * * * (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ

فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) * * * (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب عام لا يشذ عنها أحد (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي) صفة الله والفصل غير أجنبي أو منصوب بتقدير أعني (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) بدل اشتمال من له ملك السماوات (يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ) جميع كتبه (وَاتَّبِعُوهُ) في الإيمان بالله وجميع الكتب وبما أمر ونهى (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى) بني إسرائيل (أمَّةٌ يَهْدُون) الناس (بِالْحَقِّ) محقين (وَبِهِ) بالحق (يَعْدِلُون) في الحكم وهم الثابتون على الحق من اليهود قرنا بعد قرن أو من

آمن منهم كعبد الله بن سلام وأتباعه أو قوم وراء الصين هم على الحق آمنوا بمحمد لا يصل أحد منهم إلينا ولا منا إليهم. (وَقَطَّعْنَاهُمُ) صيرنا بني إسرائيل قطعًا وفرقناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول ثان لقطع لأنه متضمن معنى صير أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة (أَسْبَاطًا) تمييز له وهو من الجمع الذي وقع موقع المفرد فإن معناها القبيلة؛ لأن كل قبيلة أسباط لا سبط أو بدل منه (أُمَمًا) بدل أو نعت لأسباطًا (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ) في التيه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) جنس الحجر أو حجرًا خاصًا كان

معه كما مر ذكره في سورة البقرة (فَانْبَجَسَتْ) أي: فضرب فانفجرت (مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ) كل قبيلة (مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ) لدفع حر الشمس (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ) شيء كالترنجبين (وَالسَّلْوَى) طير كالسماني وقلنا لهم (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ) مستلذات (مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا) ما رجع ضر كفران نعمه إلينا (وَلَكِنْ كَانُوا أَئفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يضرون أنفسهم ووبال فعلهم راجع إليهم (وَإِذ قِيلَ لَهُمُ) أي: واذكر هذا الزمان (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَريةَ) بيت المقدس أو أريحا (وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شئْتُمْ وَقُولُوا حِطةٌ) أي: مغفرة يعني استغفروا أو أقروا بالذنب أو احطط عنا الخطايا (وَادْخُلُوا الْبَابَ) باب البلد (سُجَّدًا) شكرًا لله تعالى على الفتح والإنقاذ من التيه (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابًا وهو استئناف ولم يأت بالعطف إشعارًا على أنه تفضل محض (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بدلوا بحطة حنطة استهزاء (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا) عذائا مقدرًا (مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) بسبب ظلمهم. * * *

(163)

(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) * * * (وَاسْأَلْهُمْ) أي: سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين بحضرتك سؤال توبيخ وتقريع (عَنِ الْقَريةِ) أي: خبر أهلها (التِي كَانتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) قريبة منه، وهي أيلة بين مدين والطور (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) بدل من اشتمال القرية أو ظرف كانت أو حاضرة،

ومعناه يتجاوزون حدود الله يوم السبت (إِذ تَأتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ) ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) أي: يوم تعظيمهم أمر السبت من سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة (شُرَّعًا) ظاهرة على الماء حال من الحيتان (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُون) لا يعظمون سبتهم وهو غير يوم السبت (لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ) مثل ذلك الامتحان التام (نَبْلُوهُمْ) نختبرهم بإظهار السمك في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائها في اليوم المحلل لهم (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى (وَإِذْ قَالَتْ) عطف على إذ يعدون (أُمَّةٌ مِنْهُمْ) أي: فرقة من أهل القرية فإنهم ثلاث فرق: فرقة ارتكبوا الخطيئة، وفرقة ناهية، وفرقة سكتوا فما ارتكبوا وما نهوهم، فقالت الفرقة الساكتة للناهية: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) فإنهم علموا لكثرة عدم نفع الموعظة أنها لا تنفع لا محالة استحقوا سخط الله تعالى (قَالُوا) أي: الفرقة الناهية ترهيبًا لهم هذه (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر، ومن قرأ بالنصب فتقديره وعظناهم معذرة (وَلَعَلَّهُمْ يَتقُونَ) عن الاصطياد في السبت فلا نيأس من أن تدركهم الرحمة (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) تركوا ترك الناسي (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) خالفوا أمرنا (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) شديد (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم والأصح أن

الفرقة المرتكبة دون غيرهم صاروا قردة والفرقتين الأخريين نجوا وعند بعضهم أن الفرقة الساكتة أيضًا مسخوا (فَلَمَّا عَتَوْا) تكبروا (عَن) ترك (مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ) عن بعض السلف أنَّهم سمعوا مناديًا قال: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) ذليلين أو المراد من أمرهم سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك لا حقيقة الأمر والأصح أن المسخ صوري ومعنوي ثم هلكوا بعد ثلاثة أيام ولم يبق منهم نسل، والعذاب البئيس هو المسخ فهذه الآية تقرير وتفصيل للأولى. (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أعلم أو قال أو أمر وحكم (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) على اليهود وأجرى تَأَذَّنَ كعلم الله وشهد الله مجرى القسم ولذلك أجيب بقوله ليبعثن (إِلَى يَوْمِ الْقيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ) يعذبهم (سُوءَ الْعَذَابِ) أي: أوجب الله على نفسه ليسلطن عليهم من يعذبهم بضرب الجزية والإهانة وسبي النساء إلى آخر الدهر (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ) لمن أصر على المعصية (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) على من تاب وأناب (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) فرقناهم في البلاد فلا تجتمع كلمتهم مفعول ثان؛ لأن القطع بمعنى التصيير (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة أمم (وَمِنْهُمْ) ناس (دُونَ ذَلِكَ) منحطون عن الصلاح (وَبَلَوناهُمْ) امتحناهم (بِالْحَسَنَاتِ) بالنعم (وَالسَّيِّئَاتِ) بالنقم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما كانوا فيه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح (خَلْفٌ) والخلف بسكون العين البدل السوء (وَرِثُوا الْكِتَابَ) التوراة من أسلافهم (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) أي: حطام هذه الدنيا الحقير كالرشوة في تبديل حكم الله والجملة حال من فاعل ورثوا (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ

لَنَا) الفعل مسند إلى الجار والمجرور (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي: يرجون المغفرة والحال أنَّهم مصرون على الذنب عائدون على مثله. عن السدي كان بعضهم يطعن في حكامهم بأخذ الرشوة فإذا جعل مكان حاكمهم من يطعن بأخذ الرشوة هو أيضًا يأخذ فحاصله وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ) أي: في التوراة (أَنْ لَا يَقُولُوا) أي: بأن لا يقولوا أو عطف بيان لميثاق (عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) فهم ذاكرون لهذا الميثاق عطف على (أَلَمْ يُؤْخَذْ) (وَالدَّارُ الْاخِرَةُ خَيْرٌ لِلذِينَ يَتَّقُونَ) المعاصي لا للذين يخالفون أمر الله تعالى فإن مصيرهم إلى النار (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فيعلموا ذلك ويرتدعوا عما هم فيه (وَالذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكتَابِ) اعتصموا بكتابهم فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ) خبر الذين يمسكون (أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي: أجرهم لإصلاحهم (وَإِذْ نَتَقْنَا) رفعنا (الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) الظلة: كل ما أظلك (وَظَنُّوا) تيقنوا (أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ) ساقط عليهم إن خالفوا وقلنا لهم: (خُذُوا مَا آتيْنَاكُم) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد واجتهاد في العمل به (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) فاعملوا به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) كي تتقوا عن القبائح وذلك أنَّهم أبوا قبول أحكام التوراة فرفع الطور فوقهم، وقيل لهم: إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فسجدوا وقبلوا. * * *

(172)

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلله الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) * * * (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من بني آدم (ذُرِّيَّتَهُمْ) أي: أن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في

الترتيب (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أشهد بعضهم على بعض (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) قال بعضهم: شهدنا قول الملائكة لا قول بني آدم وهو أنه قال الله تعالى للملائكة اشهدوا على إقرارهم قالوا شهدنا (أَنْ تَقُولُوا) أي: كراهة أن تقولوا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا) أي: عن إنك ربنا (غَافِلِينَ) لم ننبه عليه ولذلك نصبنا الأَدلة على الربوبية وأرسلنا الرسل بذكرهم العهد فلا يكون لهم عذر (أَوْ تقُولُوا) عطف على أن تقولوا (إِنَّمَا أَشْرَكَ آباؤُنَا مِنْ قَبْلُ) قبل زماننا (وَكُنَّا ذُريةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الآباء المبطلون بتأسيس الشرك. اعلم أن الأحاديث الصحاح الدالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة والنار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربُّهم ففي حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - كما حققه الثبات من المحدثين

ووافقهما أكثر السلف والخلف كأبي بن كعب ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيرهم وقال بعض السلف والخلف: المراد بهذا الإشهاد أنه خلقهم على فطرة الإسلام ونصب لهم دلائل التوحيد ولظهورها صارت بمنزلة أنه قيل لهم: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى " وأنت تعلم أن ابن عباس حبر الأمة وأعلم الناس بمعاني القرآن (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك التبيين (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ) لفوائد جمة (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يرجعوا عن اتباع الأصل. (وَاتْل عَلَيْهِمْ) على اليهود أو على قومك (نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) من الآيات بأن أعرض وكفر (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) لحقه وأدركه (فَكَانَ مِنَ

الْغَاوِينَ) صار من الضالين هو رجل من بني إسرائيل والأكثرون على أنه بلعم بن باعوراء عالم باسم الله الأعظم سألوا عنه أن يدعو على موسى وجنوده فأبى ثم ألحوا فألحوا وجاءوه بالرشوة فقبل فدعا عليهم فقبل الله ثم دعا موسى عليه فنزع عنه الإيمان والاسم الأعظم، وقال بعضهم: ما يسر الله له الدعاء على موسى لكن قال لهم: أخرجوا النساء تستقبلهم فعسى أن يزنوا ففعلوا فوقع واحد من بني إسرائيل في الزنا فنزل عليهم الطاعون فقتل أحد علمائهم الزاني فكشف عنهم العذاب قيل فحسب من هلك في الطاعون في ساعة من النهار فوجدوا سبعين ألفًا (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ) إلى الدرجات العلى (بِهَا) بسبب تلك الآيات (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) مال إلى الدنيا وزخارفها فإن جميع زخارفها من الأرض (وَاتبَعَ هَوَاهُ) في أخذ الرشوة والإعراض عن أمر الله تعالى (فَمَثَلُهُ كَمَثلِ الْكَلْبِ) في أخس أحواله وهو (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) إن شد عليه فطرد (يَلْهَثْ): هو إخراج الكلب اللسان (أَوْ تَتْرُكْهُ) غير متعرض له بالزجر (يَلْهَثْ) قد نقل: إن بلعم لما دعا عليهم اندلع لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب أو مثله في أنه إن وعظته أو تركته فهو على

الضلال كالكلب في لهثته فِي الحالتين أو إن قلب الكافر ضعيف كالكلب فإن لهث الكلب من ضعف قلبه ولا يلهث سائر الحيوان إلا في حال إعياء أو عطش (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) المذكور على اليهود أو على كفار مكة (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيعلموا أنها شابهت قصتهم وحالهم فيتعظوا (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ) أي: مثل القوم على حذف المضاف (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) أي: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فتقديم المفعول للتخصيص (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) والاهتداء من أعظم الصفات (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) والإفراد في الأول والجمع في الثاني إشارة إلى أن طريق الهدى واحد فهم كرجل واحد وأنواع الضلال مختلفة متكثرة (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا) خلقنا (لِجَهَنَّمَ) اللام للعاقبة (كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وهم الذين حقت عليهم كلمة الشقاوة (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) أي: لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي خلقها الله للاهتداء (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) فِى عدم فقه معرفة الحق والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر بل صرفوا مشاعرهم وقصروها في أسباب التعيش (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) فإن الدواب تفعل ما خلقت له إما بالطبع وإما بالتسخير وترتدع عن مضارها بخلاف الكافر فإنه خلق ليعبد الله وهو يعبد الشيطان ويعلم بعضهم أنه يضره ويرتكبه عنادًا (أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) أشد غفلة لا

غفلة بعد (وَلله الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) هي أحسن الأسماء دالة على أحسن المعاني وليست منحصرة في التسعة والتسعين (فَادْعُوهُ بِهَا) سموه بتلك الأسماء (وَذَرُوا

(182)

الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) ذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على آلهتهم بزيادة ونقصان كاللات من الله والمنات من المنان والعزى من العزيز وقيل الإلحاد فيها تسميته بما لم يرد في الكتاب ولا في السنة كـ يا سخي ويا مكار، ويا عاقل (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من الإلحاد (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) يقولونه ويدعون إليه (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) يعملون ويقضون وهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان إلى يوم الدين وهذه صفة من ذرأ للجنة كما وصف من ذرأ لجهنم. * * * (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) * * * (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنقربهم إلى الهلاك والعذاب قليلاً قليلاً (مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) كلما جددوا معصية جددنا لهم وأسبغنا عليهم النعم وننسيهم الشكر والاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة درجة (وأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم ليزدادوا ضلالاً بعد ضلال (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) مكري شديد (أَوَلَمْ يَتَفَكرُوا) فيعلموا (مَا بِصَاحِبِهِمْ) أي: محمد عليه الصلاة والسلام (مِنْ جِنَّةٍ) جنون نزلت حين علا عليه الصلاة والسلام الصفا فدعاهم يحذر فقال قائل منهم: إن صاحبكم مجنون بات يهوت إلى الصباح (إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبينٌ) إنذاره (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال (فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ربوبيتها وملكها وقيل

عجائبها والتاء فيه للمبالغة (وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وفيما يقع عليه اسمًا لشيء ففي كل شيء له آية (وَأَنْ) أي: أنه (عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي: أولم ينظروا في اقتراب آجالهم ليسارعوا إلى ما ينجيهم من العذاب واسم كان ضمير الشأن (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) إن لم يؤمنوا به وليس بعد هذا البيان حديث آخر ينتطر وروده ليؤمنوا به (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) حال من هم ومن قرأ ويذرهم بالياء والجزم فعطف على محل فلا هادي. (يَسْألونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي: القيامة (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) متى يكون، وأي وقت إثباتها؟ نزلت في قريش يسألون وقتها استبعادًا لوقوعها (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) أي: لا يظهر أمرها في وقتها إلا هو أي: الخفاء به مستمر إلى وقت الوقوع واللام للتأنيث كقولهم كتب لثلاث من رجب (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) عظمت وشقت على أهل السماوات والأرض لهولها أو ثقلت عليهما عند الوقوع حتى انشقت وانهدمت، أو ثقل علمها وخفاؤها على أهلهما وعلى الوجوه كلمة في استعارة منبهة على تمكن الثقل، أو معناه خفيت في السماوات والأرض لا يعلمها شيء وكل خفي ثقيل (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) فجأة على غفلة ونصبه على المصدر فإنها نوع من الإتيان (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي: عالم بها

من حفى عن الشيء بالغ في السؤال عنه، والمبالغة في السؤال مستلزم للعلم أطلق الحفى وأريد العالم، أو كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمت، أو عنها متعلق بـ يسألونك أي: يسألونك عنها كأنك شفيق بهم من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشًا قالوا يا محمد بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة، وكأنك في موقع الحال أي: مشبهًا حالك بحال الحفي (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه أحد كرره تأكيدًا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن علمها مختص بالله (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا) أي: جلب نفع ولا دفع ضر (إِلا مَا شَاءَ اللهُ) أي: لكن ما شاء يصل فمنقطع أو إلا نفعًا وضرًّا يملكني الله ويوفقني به فمتصل (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي: لكانت حالي من استكثار الخير واستفراز المنافع واجتناب السوء على خلاف ما هي عليه، فلم أكن غالبًا مرة ومغلوبًا أخرى، ورابحًا وخاسرًا في التجارة (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي: إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة لهم فإنهم المنتفعون بهما، أو ما أنا إلا نذير

(189)

للكافرين وبشير للمؤمنين فمتعلق النذير محذوف، ونزلت حين قالت قريش: ألا تعلم الرخص قبل الغلاء فتشتري وتربح والأرض التي تريد أن تجدب فترتحل إلى المخصبة. * * * (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ

الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) * * * (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة) آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) خلق من ضلع آدم حواء (لِيَسْكُنَ) ليطمئن (إِلَيْهَا) ويأنس بها فإنها جزءه (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) جامعها (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) عليها يعني النطفة (فَمَرَّتْ بِهِ) استمرت به أو قامت وقعدت بالحمل لخفته (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل لكبر الولد (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا) بشرًا سويًّا فإنهما أشفقا أن يكون بهيمة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) (1) لما حملت حواء جاءها إبليس في غير صورته وقال: هذا الذي في بطنك ربما يكون بهيمة، وهل تدري من أين يخرج فخوفها مرارًا كثيرة ثم قال: لي عند الله منزلة وإن دعوت أن يخرج سالمًا سويًّا أتسميه عبد الحارث وهذا اسم إبليس في الملائكة، فلم يزل بها حتى غرها فسمته عبد الحارث بإذن من آدم ولم تعرف حواء أنه إبليس وقد صح هذا النقل عن ابن

__ (1) قال قتادة أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة.

عباس - رضي الله عنهما - وكثير من السلف والخلف، وهذا ليس بشرك حقيقي لأنهما ما اعتقدا أن الحارثَ ربُّه بل قصدا إلى أنه سبب صلاحه فسماه الله تعالى شركًا للتغليظ ويكون لفظ شركاء من إطلاق الجمع على الواحد (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فإن الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم، وعن الحسن البصري رحمه الله يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصروا، وعلى هذا تقدير الآية جعل أولادهما له شركاء فيما أتى أولادهما فسموه عبد شمس وعبد مناف وغيرهما، فحذف المضاف وهو الأولاد وأقيم المضاف إليه مقامه، وقوله: " شركاء " و " تعالى الله عما يشركون " بلفظ الجمع يدل عليه قيل معناه هو

الذي خلق آل قصي وهم قريش من نفس واحدة وهو قصي فجعل من جنسها زوجها عربية قرشية فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد المناف وعبد العزي وعبد قصي وعبد الدار وقيل تم الكلام عند قوله آتاهما ثم ذكر كفار مكة فقال: " فتعالى الله عما يشركون " (1) (أَيُشْرِكُونَ) ابتداء كلام وإنكار على المشركين (مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا) كالأصنام (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) مخلوقون لله جيء بضمير العاقلين بناء على اعتقادهم وتسميتهم إلهًا (وَلا يَسْتَطعُونَ لَهُمْ) لِعُبَّادهم (نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) لا يقدرون على دفع مكروه كمن أراد كسرهم (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي: الأصنام أو المشركين (إِلَى الْهُدَى) إلى أن يهدوكم أو إلى الإسلام (لا يَتَّبِعُوكُمْ) إلى مرادكم ولا يجيبوكم (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) أي: سواء إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمت عن دعائهم فإن الكفار إذا نزل عليهم أمر دعوا الله تعالى دون الأصنام.

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَجَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا الله مِنْ ضِلْعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاها آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً ... فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ/ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ؟ فَخَافَتْ حَوَّاءُ، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ: إِنْ سَأَلْتِ الله أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِكِ تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أَيْ لَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شَرِيكًا أَيْ جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ له شريكاً، والمراد به الحرث هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَافِ: 191] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لله تَعَالَى، وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ بِصِيغَةِ «مَنْ» لَا بِصِيغَةِ «مَا» الرَّابِعُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ، وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فَكَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أن اسم إبليس هو الحرث فَمَعَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ؟ الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُسَمِّيَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ. فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْقَدْرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا السَّادِسُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ، أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً لَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أنه عبد الحرث وَمَخْلُوقٌ مِنْ قِبَلِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا بالله لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ لَا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَقَدَ أَنَّ لله شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ. التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ/ وَبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ وَظَهَرَ الْحَمْلُ، دَعَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا، جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ لله شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَنَزَّهَ الله عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا عَرَبِيَّةً قُرَشِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّاتِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمَا فِي الشِّرْكِ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي شَرْحِ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَيَرْجِعُ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إِلَيْهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَحَكَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صَالِحًا لَاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ وَرَدَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْعِيدِ، وَالتَّقْرِيرُ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا أجعلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى الله عَنْ شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالشِّرْكِ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يُنْعِمَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِنْعَامِ، ثُمَّ يُقَالُ لِذَلِكَ الْمُنْعِمِ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ ذَمَّكَ وَإِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْمُنْعِمُ: فَعَلْتُ فِي حَقِّ فُلَانٍ كَذَا وأحسنت إليه بكذا وكذا وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ يُقَابِلُنِي بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فِي حَقِّ آدَمَ وَحَوَّاءَ/ وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِهَا إِلَّا قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَنَقُولُ: التَّقْدِيرُ، فَلَمَّا آتَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ أَيْ جَعَلَ أَوْلَادَهُمَا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَكَذَا فِيمَا آتَاهُمَا، أَيْ فِيمَا آتَى أَوْلَادَهُمَا وَنَظِيرُهُ قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. فَإِنْ قِي

(إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ) تعبدونهم (مِنْ دُون الله) أي: الأصنام (عبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) مملوكون مسخرون (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي: لا يقدرون على إنجاح سؤال سائل (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إنهم آلهة (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا) هذا بيان لقصور معبودهم عن عبادهم كأنه قال: عباد أمثالكم بل أنتم أكمل (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قلِ) يا محمد (ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) في عداوتي (ثُمَّ كِيدُونِ) ثم بالغوا أنتم وشركاؤكم في مكروهي (فَلَا تُنْظِرُونِ) لا تمهلوني فإني لا أعبأ بكم (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) القرآن (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) يلي أمرهم وينصرهم (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) دون الله (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فكيف أخاف ذاك العابد وذاك المعبود (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) الأصنام (إِلَى الْهُدَى) أي: ما هو صلاحهم أو إلى أن يهدوكم (لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي: كأنهم ينظرون فإنهم نحتوها مصورين بالعين والأنف والأذن (وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) لأنَّهُم لا يقدرون إيجاد النور في أعين أصنامهم أو ضمير تدعوهم وتراهم إلى المشركين لقوله تعالى: " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ " [البقرة: 18] (خُذِ الْعَفْوَ) من أخلاق الناس من غير تجسس كقبول أعذارهم والمساهلة معهم وقد ورد أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما هذا يا جبريل قال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من

قطعك " أو خذ الفضل وما تسهَّل به من أموالهم وذلك قبل وجوب الزكاة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) بالعروف وهو كل ما يعرفه الشرع (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) لا تقابل السفه بالسفه (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) نزغه إذا طعنه وكأن الشيطان يطعن حين يغري الناس إلى المعاصي وحاصله إذا عرض لك منه أدنى وسوسة تصدك عن الإعراض عن الجهال (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فإنه الملجأ أو المنجى (إِنَّهُ سَمِيعٌ) بالدعاء (عَلِيمٌ) بالمصالح وبأحوال الناس (إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكبائر (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ) لمة ووسوسة من طاف به الخيال يطيف أو من طاف يطوف ومن قرأ (طَيفٌ) فهو مصدر، أو تخفيف طيف كلين من لان يلين أو كهين من هان يهون (مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) وعيد الله ووعده (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فأنابوا لا كالكفار العمى (وَإِخْوَانُهُمْ) أي: الكفرة فإنهم إخوان الشياطين وأتى بضمير الجمع للشيطان؛ لأن المراد منه الجنس (يَمُدُّونَهُمْ) ضمير الفاعل للشياطين أي: يكون الشياطين مددًا لهم (فِي الْغَيِّ) أو المراد من الإخوان الشياطين وضمير إخوانهم للجاهلين أي: شياطينهم يكونون مددًا لهم (ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) لا يمسكون على إغوائهم، أو الضمير للكفرة أي: لا يكفون عن الغي أو الضمير للكفرة والشياطين جميعًا أي لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من القرآن أو معجزة اقترحوها (قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا) اختلقتها من قبل نفسك قيل: كانوا يسألون الآيات تعنتًا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها وأنشأتها من نفسك، أو معناها لم لا تجهد نفسك في طلب الآيات من الله

تعالى حتى نراها ونؤمن بها (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) لست بمختلق أو إن منعها لا أسألها إلا بإذنه (هَذَا) أي: القرآن (بَصَائِرُ) للقلوب بها تبصر الحق (مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فلو كان لكم بصيرة لكفاكم القرآن آية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأصح أنها نزلت في ترك التكلم في الصلاة أو ترك القراءة مع الإمام إذا جهر فيها ولا شك أنه يستحب

الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن مطلقًا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أمر بذكره أول النهار وآخره (تَضَرُّعًا) متضرعًا (وَخِيفَةً) خائفًا (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)

وهو كما قال ابن عباس - رضى الله عنهما - أن تسمع نفسك دون غيرك (بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) بهذين الوقتين لفضلهما (وَلا تَكنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) عن ذكره وهدا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، والآية مكية وأما حمل الآية على غير هذا المعنى فبعيد، ولا يساعده نقل سديد (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي: الملائكة المقربين (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزهونه (وَلَهُ) لا لغيره (يَسْجُدُونَ) لا يشركون بالعبادة غير الله تعالى أي: هم مع كونهم آمنين من سوء العاقبة وعذابه متوجهون إلى الله تعالى دائما فأنتم مع خوفكم تتمادون في الغفلة وتعبدون غيره وهذه أول سجدة في القرن لتاليها ومستمعها بالإجماع. والحمد لله حقَّ حمده .. * * *

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية وعشر ركوعات بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) * * * (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) أيِ: حكم الغنائم نزلت حين اختلف كلام الشبان

والشيوخ في غنائم بدر، والشبان ادعوا الأحقية بأنَّهم باشروا القتال (قُلِ الْأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ): فيضعها الرسول حيث يأمره الله، ولذلك قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم بدر بين الشبان والشيوخ على السواء، وعن بعض: إن هذا في بدر ثم نسخت بقوله: " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ " إلى آخره، فإن غنائم بدر قسمت من غير تخميس وفيه نظر، لأن بعض الأحاديث يدل على تخميسها صريحًا (فَاتَّقُوا اللهَ): في الاختلاف (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ): الحال التي بينكم بترك المنازعة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن من مقتضى الإيمان طاعة الله ورسوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ): بأن سمعوا الأذان والإقامة (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): من الله فأدوا فرائضه (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا): تصديقًا (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): لا يرجون غيره، وإن سألوا غيره، فإنهم يعلمون أنه المعطي والمانع (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)؛ يديمونها (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ): يؤدون الصدقة الواجبة (وأُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمنونَ حَقًّا): صدقًا من غير شك، صفة مصدر محذوف أي: إيمانًا حَقًّا، أو مصدر مؤكد، بخلاف المنافق، فإنه لا يدخل في قلبه شيء من ذكر الله تعالى عند الصلوات، ولا يصدقون بآيات الله تعالى كلما نزلت، فلا يزداد إيمانهم،

ولا يصلون إذا غابوا عن محضر المسلمين، ولا يؤدون الزكاة، فهم ليسوا بمؤمنين حقًّا، هكذا فسرها ابن عباس - رضى الله عنهما -، أو معناها المؤمن الكامل الإيمان من ضم إلى مكارم أعمال قلبه من الخشية عند ذكر الله تعالى من الإخلاص، واطمئنان النفس ورسوخ اليقين، ومن التوكل عليه في جميع الأمور، محاسن أفعال الجوارح، من الصدقة والصلاة (لَهُمْ دَرَجَاتٌ): من الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يرتقونها بأعمالهم لا للمنافقين (وَمَغْفِرَةٌ) لسيئاتهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): حسن، وهو رزق الجنة. (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) خبر مبتدأ محذوف، أي: الحال في كراهتهم القتال كحال إخراجك من المدينة، أو متعلق بما بعده، وهو يجادلونك ومعنى الوجهين واحد، أو تقديره: حالهم في كراهة حكمنا بأن الأنفال لله تعالى كحالهم في حكمنا بإخراجك من المدينة (بِالْحَقِّ) أي: إخراجًا متلبسًا بالحكمة والصواب (وَإِن فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): بعضًا منهم (لَكَارِهُونَ): الخروج وحينئذ الجملة في موقع الحال، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام في تجارة عظيمة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقبهم، فبلغ الخبر أهل مكة، فخرج أبو جهل مع عسكر عظيم، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القتال ووعد الأصحاب بالظفر فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، ثم واجهوا العدو وقاتلوا في بدر، والظفر للمسلمين (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ): وهو إيثار الجهاد (بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ): نصرتهم بإعلام رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي: يكرهون القتال كراهة من يجر إلى القتل، وهو مشاهد ناظر إلى أسبابه (وَإِذ يَعِدُكم اللهُ) أي: اذكر إذ يعدكم (إِحْدَى الطَّائِفتَيْنِ): العير التي فيها التجارة، أو النفير التي خرت من مكة (أَنَّهَا لَكُمْ) بدل اشتمال من ثاني مفعوليه، وهو إحدى (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ) أي: العير التي ليس فيها عدد كثير ولا عُدَد (تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ): أن يثبت ويظهر (الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ): بأمره إياكم بالقتال، قيل الباء بمعنى مع أي: يرفع كلمة الله ويجعل دينه عاليًا غالبًا (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) الدابر: الآخر، وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعني إرادتكم إصابة مال بلا مكروه، وإرادة الله إعلاء كلمته، وفوز الدارين لكم (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) متعلق بمحذوف أي: لهذين الجهتين فعلنا ما فعلنا أو متعلق بيقطع (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ): ذلك (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ): هو إلحاح دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رأى شوكة الأعداء، وهو بدل من إذ يعدكم بأن يكون عبارة عن زمان واسع وقع الوعد في بعض أجزائه والاستغاثة في بعض، أو متعلق بـ " ليحق " (رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي: بأني ومن قرأ " إني " بالكسر فعلى إرادة

(11)

القول، أو استجاب بمنزلة قال (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ): متتابعين بعضهم على إثر بعض، أو مردفين بألف آخر فقد نقل عن علي رضي الله عنه -: إن جبريل في ألف عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم - وفيها أبو بكر وميكائيل في ألف عن ميسرته وأنا فيها، ومن قرأ بفتح الدال فمعناه أردف الله المسلمين بهم، أو أردف الله ألفًا بألفٍ آخر وقد أنزل الله تعالى أولاً ألفًا ثم ألفًا ثم ألفًا إلى خمسة آلاف كما ذكرناه في سورة آل عمران (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ) أي: الإمداد (إِلا بُشْرَى): بشارة (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيزول منها الوجل (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْد اللهِ) وإمداد الملائكة وكثرة العدد والعُدَد وسائط لا تأثير لها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ): َ لا يغالب (حَكِيمٌ) في أفعاله. * * * (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ * * *

وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) * * * (إِذْ يُغَشِّيكُمُ): الله (النُّعَاسَ) بدل ثان من إذ يعدكم أو بإضمار اذكر (أَمَنَةً): أمنًا وهو مفعول له وفيه شرط النصب؛ لأن حاصل معنى يغشيكم النعاس تنعسون والأمنة فعل لفاعله (مِنْهُ) أي: حاصلة من الله تعالى وهذه السِّنَة في البدر أيضًا ففي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصديق يدعوان يوم بدر في العريش أخذته سنة ثم استيقظ متبسمًا وقال: أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع، وعن علي - رضي الله عنه - قال: لقد رأينا يوم بدر وما فينا إلا نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويبكي حتى أصبح (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِن السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ): من الجنابة والحدث (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ

الشَّيْطَانِ): وسوسته، فإنهم في البدر نزلوا على غير الماء، فاحتلم أكثرهم وقد غلب الكفار على الماء، وقد وسوس إليهم الشيطان بأنكم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسول الله وحينئذ تصلون على جنابة، فأنزل الله تعالى المطر، وسال الوادي (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) بالصبر واليقين (وَيُثَبِّتَ بِهِ): بسبب المطر والربط (الأقْدَامَ) على المحاربة يعني قوى قلوبهم، وشجعهم أو المطر لبد الرمل بحيث لا يغوص أرجلهم فيه، فثبت أقدامهم، فإنهم في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام (إِذْ يُوحِي) بدل ثالث أو بإضمار اذكر (رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ): بالعون والنصر، وهو مفعول يوحي، وعند بعضهم أن الخطاب مع المؤمنين أي: أوحى للملائكة أن يقولوا للمؤمنين: إن الله معكم (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ببشارة النصر، أو بتكثير سوادهم، ومحاربة أعدائهم (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ): الخوف (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ) أي: الرؤوس أو أعاليها، وهي المذابح، قال ربيع

بن أنس: كان الناس يعرفون قتلى الملائكة من قتيلهم، بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق بها (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ): أصابع أو كل طرف ومفصل، قيل: الخطاب في قوله فاضربوا للمؤمنين، والأكثرون على أنه للملائكة (ذَلِكَ) أي: الضرب أو الأمر به (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ): خالفوهما، تركوا الشرع فصاروا في شق (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): له (ذَلِكُمْ): الخطاب مع الكفرة أي: الأمر ذلكم، أو ذلكم العذاب (فَذوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) عطف على ذلكم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا) الزحف: الجيش الكثير منصوب عطى الحال (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) بالانهزام (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ): يوم القتال مطلقًا، أو يوم قتال البدر خاصة (دُبُرَهُ): فانهزم (إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ): يفر مكيدة، ليرى أنه خاف، فيتبعه العدو فيكر عليه ويقتله (أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) فر من ههنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونونه، حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إمامه الأعظم لجاز، ونصب متحرفًا ومتحيزًا على الحال، أو استثناء من المولين أي: إلا رجلاً متحرفًا

(فَقَدْ بَاءَ): رجع (بِغَضَب مِنَ اللهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): جهنم، أكثر السلف على أن هذا في يوم بدر خاصة (1)، ولهذا " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيه: " اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدًا "، وأما في سائر الحروب فجاز الفرار إذا كان الكفار أكثر من مثليهم وعن بعض الفرار مطلقًا حرام وكبيرة إلا عن هذين السببين، وعن بعض هذا خاصة الصحابة (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) تقديره: إن فخرتم بقتلهم يوم بدر، فلم تقتلوهم بقوتكم (وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ): بأن أظفركم عليهم، وأرسل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، نزلت حين انصرفوا عن القتال يتفاخرون، يقولون: قتلنا فلانًا أو أسرنا فلانًا، فهو تعالى يبين أنه خالق أفعالهم وأنه المحمود على جميع خير صدر عنهم (وَمَا رَمَيْتَ): يا محمد قبضة التراب في أعينهم (إِذْ رَمَيْتَ) أتيت بصورة الرمي (وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) أتى بما هو غاية الرمي، فصورة الرمي منك، وحقيقتها مني كأنه قال: ما رميت خلقًا إذ رميت كسبا،

__ (1) فيه إشكال، فإن الآية نزولها إن كانت قبل وقعة بدر لها فائدة لكن ما قبل الآية وما بعدها صريح في أن نزولها بعد وقعته، إلا أن يقال: مضمونها وحكمها قبل كما في " فثبتوا الذين آمنوا سألقي " لكن لفظها للامتنان بعد تأمل فإنك لا ترى مفسرًا حام حول تحقيقها. اهـ (حاشية الكتاب).

" وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ قبضة من تراب، بتعليم جبريل عليه السلام فرمى بها وجوه الأعداء، قائلاً: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا وامتلأت عينه منها "، فاشتغلوا بأعينهم فردفهم المؤمنون بالقتل والأسر، وهذه الرمية ليست من جنس أفعال البشر وقوتهم (وَلِيُبْلِيَ) تقديره: ولكن الله رمى لفوائد كثيرة وليبلي (الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ): من الله (بَلاءً حَسَنًا) أي: ولينعم عليهم نعمة حسنة عظيمة بالنصر، ومشاهدة الآيات فيشكروا (إِنَّ الله سَمِيعٌ): بدعائهم (عَلِيمٌ) بضمائرهم (ذلِكُمْ): إشارة إلى البلاء الحسن، وتقديره: الأمر والحكمة ذلكم (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) أي: الحكمة إبلاء المؤمنين، وإبطال حيل الكافرين (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) المشركون حين خرجوا تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الحزبين وأهدى الفئتين، أو قال أبو جهل يوم بدر: اللهم أهلك أيتنا أقطع للرحم، فيقول تعالى: إن طلبتم الفتح للأكرمين أو لواصل الرحم، فقد استجاب الله تعالى، فالخطاب على سبيل التهكم (وَإنْ تَنْتَهُوا) عن الشرك (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا): إلى الكفر والمحاربة (نَعُد) لكم بمثل وقعة بدر (وَلَنْ تُغنِيَ): ترفع (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ): جماعتكم (شَيْئًا) من الإغناء أو المضار (وَلَوْ كَثُرَتْ) فئتكم (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ): بالنصر، فلا يغلبون، ومن قرأ " أن " بفتح الهمزة تقديره: لأن الله مع المؤمنين وقعت تلك الواقعة. * * *

(20)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ) لا تتولوا عن الرسول، ولا تعرضوا عنه، فإن طاعته طاعة الله تعالى (وَأَنتمْ تَسْمَعون) القرآن أي: بعد ما علمتم وأجبتم داعي الله (وَلا تَكُونوا كَالذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا) هم الكفرة أو المنافقون (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع انتفاع، فكأنهم ما سمعوا، أو معناه يقولون: أطعنا وهم لا يطيعون. (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ): جميع الحيوانات (عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ): عن الحق (الْبُكْمُ) عن التكلم به (الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) فهذا الضرب من بني آدم شر الخلائق (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا): انتفاعًا بالآيات (لَأَسْمَعَهُمْ): إسماع تفهيم (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) وقد علم ألا خير فيهم (لَتَوَلَّوْا): ما صدقوا وما انتفعوا به، فكيف على تقدير عدم

الإسماع، كقوله: نعم العبد صهيب، ولو لم يخف الله لم يعصه (وَهُمْ مُعْرِضون): عنه عنادًا بعد الفهم، أو معناه وهم قوم عادتهم الإعراض عن الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ) بالطاعة (إِذَا دَعَاكُمْ) وحَّد الرسول لأن دعوة الله تسمع من رسوله (لِمَا يُحْيِيكُمْ) أي: الإيمان فإنه يورث الحياة الأبدية، أو القرآن فيه الحياة والنجاة، أو الشهادة فإنهم أحياء عند الله يرزقون، أو الجهاد فإنه سبب بقائكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ): بين المؤمن وكفره وبين الكافر وإيمانه، أو يحول حتى لا يدري ما يعمل، أو حتى لا يستطيع أن يعزم على شيء إلا بإذنه، أو تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله: " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " [ق: 16]. (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لجزاء الأعمال. (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) حذر الله المؤمن عن محنة تعم المسيء وغيره، لا تخص من باشر الذنب، والفتنة إقرار المنكر بين أظهرهم والمساهلة في

الحسبة، بمعنى لا تصيبن وبالها، أو نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وما وقع عليهم يوم الجمل بعد شهادة عثمان - رضى الله عنهم - أو في قوم مخصوصين من الصحابة أصابتهم الفتنة يوم الجمل، والأول أصح، وقوله " لا تصيبن " إما جواب الأمر على مذهب الكوفيين فتقديره إن لا تتقوا لا تصب الظالمين خاصة، ودخول النون لما فيه من معنى النهي، كأن إصابة الفتنة إليهم خاصة مطلوب، وإما صفة فتنة ولا للنهي؛ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم بتقدير القول أي: فتنة مقولاً في حقها (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). (وَاذْكُرُوا): ياَ معشر المهاجرين (إِذْ أَنتمْ قَلِيلٌ): في العدد (مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ) بمكة قبل الهجرة (تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطكُمُ النَّاسُ): يذهب بكم، ويعدمكم كفار قريش أو كفار سائر البلاد (فَآوَاكُمْ) إلى المدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) على الأعداء يوم بدر وغيره (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) الغنائم، وكانت لا تحل للأمم السابقة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): لكي تشكروا نعمة، والآية خطاب للعرب كافة لا للمهاجرين خاصة، فإن العرب كانوا أذل الناس وأجوعه وأعراه وأضله، حتى جاء الله بالإسلام فمكنهم في البلاد، وسلطهم على العباد وجعلهم ملوكًا شرفاء، وصيرهم مترفهين أغنياء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بترك فرائض الله وسننه، أو بما تضمروا خلاف ما تظهرون (وَتَخُونُوا) داخل في النهي، أو نصب

بإضمار أن (أَمَانَاتِكُمْ) أي: لا تنقضوا كل عمل ائتمن الله عليه العباد، أو لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها أمانة، أو أنتم علماء، قال كثير من السلف: نزلت في أبي لبابة حين حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم فأشار إلى حلقه أنه الذبح فتلك خيانة (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ): اختبار وامتحان ليختبركم أنكم

(29)

تشتغلون بها عن الله سبحانه، فتنسونه وتعصونه أو تذكرونه وتطيعونه فيها، فإن أبا لبابة خان بسبب الأولاد والأموال (وَأَنْ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): خير لكم من أموالكم وأولادكم، فحافظوا على حدود الله تعالى فيهم. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) * * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا): مخرجًا ونجاة في الدنيا والآخرة، أو فصلاً بين الحق والباطل أو يفرق بينكم وبين ما تخافون، أو ظهورًا يعلي قدركم (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ): يسترها عن أعين الناس (وَيَغفِرْ لَكُمْ) لا يؤاخذكم بها (وَاللهُ ذو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فبمحض إحسانه يفي بما وعدكم على التقوى. (وَإِذْ يَمْكُرُ) أي: واذكر هذا الزمان (بِكَ الذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ): ليقيدوك ويحبسوك (أوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرِجُوكَ): من مكة، اجتمع قريش وشاور بعضهم بعضًا في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: قيدوه حتى يموت وقيل: أخرجوه فتستريحوا من أذاه ثم اتفقوا على رأى أبي جهل وهو: أن يؤخذ من كل بطن رجل، يضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقوى بنو هاشم على طلب قوده من جميع قريش، وهذا بتصويب الشيطان فإنه بينهم في صورة شيخ جليل فأمر الله تعالى نبيه بالهجرة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ): يعاملهم الله تعالى معاملة الماكرين (وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) إذ مكره أنفذ تأثيرًا (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ

الْأَوَّلِينَ): ما هذا إلا ما سطره الأولون من القصص، هو اقتبسها وتعلم منها، نزلت في نضر بن الحارث ومن وافقه ورضى بقوله حين ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم، فلما رجع يحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: تالله أينا أحسن قصصًا أنا أو محمد، وهذا غاية مكابرته وفرط عناده، فإنهم لا يجدون إلى أقصر سورة سبيلاً. (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا) أي: القرآن (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) هذا قول النضر بن الحارث أيضًا أو قول أبي جهل، وغرضه إظهار عدم الشك في بطلان القرآن، والتعريف في الحق إشارة إلى الحق الذي يدعيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه منزل من ربه، فإنهم يسلمون أنه قصص القرون الماضية، وقد نقل أن معاوية قال لرجل من سبأ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة أي: بلقيس قال: أجهل من قومي قومك؛ قالوا حين دعاهم إلى الحق: " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ " الآية، ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ): مقيم بمكة، فإن الله تعالى لا يستأصل قومًا وفيهم نبيهم، واللام لتأكيد النفي (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي:

وفيهم مَن يستغفر كالمومنين الذين كانوا بمكة، وما استطاعوا الهجرة أو لما أمسوا ندموا على قولهم: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ، فقالوا: غفرانك غفرانك، فنزلت، أو المراد من استغفارهم أنه في علم الله تعالى أن بعضهم يؤمنون، فالمعنى يمهلهم، لأن فيهم من يستغفر بعد ذلك، وقد ورد: " أنزل على أمانين لأمتي: " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ " الآية فإذا مضيت تركت فيكم الاستغفار "، قيل: هذا دعوتهم إلى الإسلام والاستغفار، أي: استغفروا لا أعذبكم كما تقول: لا أعاقبك وأنت تطيعني، أي: أطعني لا أعاقبك، وقيل معناه: وفي أصلابهم من يستغفر (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) قال بعضهم: قوله: " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " نزل بمكة، فلما خرج عليه الصلاة والسلام إلى المدينة نزل: (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي: من بقى من المؤمنين في مكة، فلما خرجوا أنزل الله تعالى " وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ " والتعذيب فتح مكة، أو القتل يوم بدر، أو الجوع والضر، وقال بعضهم: قوله " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ " الآية منسوخة بقوله: " وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ " وهذا عند من قال المراد بالاستغفار: صدور الاستغفار منهم نفسهم، كما ذكرنا غفرانك غفرانك (وَهُمْ يَصُدُّونَ): يمنعون المؤمنين (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) كعام الحديبية وإخراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ) مستحقين ولاية أمر المسجد الحرام، فإنهم يقولون: نحن أولياء الحرم نفعل فيه ما نريد (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ):

عن الشرك (وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إنهم غير مستحقين لولاية الحرم ومنهم من يعلم ويعاند. (وَمَا كَانَ صَلاتهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً) أي: كيف لا يستحقون العذاب، وكيف يكونون ولاة الحرم، وتقربهم إلى الله تعالى وما يضعون موضع صلاتهم الصفير يدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون في الطواف (وَتَصْدِيَةً): تصفيقًا، وقد نقل كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون بأفواههم ويصفقون بأيديهم، وقال بعضهم: كان إذا - صلى النبي صلى الله عليه وسلم - في الحرم قام رجلان عن يمينه يصفران، ورجلان عن يساره يصفقان ليخلطوا عليه صلاته، وقال بعضهم: المراد صد الناس عن سبيل الله تعالى، فحينئذ من قلب إحدى الدالين تاء كما في ظنيت من الظن (فَذُوقُوا الْعَذَابَ): ببدر (بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا): الناس (عَنْ سبِيلِ اللهِ) لما رجع من بقى من الكفرة من بدر إلى مكة، استعانوا من أبي سفيان وغيره من مال تجارة الشام، واستقرضوا أيضًا ثم أنفقوا في غزوة أحد، ولهذا قالوا: نزلت في أبي سفيان، أو المراد صرف أموالهم في غزوة بدر (فَسَيُنْفِقُونَهَا) أي: بعد ذلك في غزوة أحد (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً): في الآخرة، أو في الدنيا لذهاب الأموال، وعدم نيل المرام (ثُمَّ يُغْلَبُونَ): عاقبة الأمر، وقيل: المراد من قوله: " فَسَيُنْفِقُونَهَا " ذكر قرب زمان الإنفاق ثم الحسرة على صرفه ثم غلبة المؤمنين، فإنه وإن كان الإنفاق وحده واقعًا متقدمًا لكن الإنفاق والحسرة

(38)

والمغلوبية، لم يقع بعد حين نزول الآية، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون) يعني: من مات على الكفر منهم (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطيِّبِ): الشقي من السعيد، أو الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل الله تعالى، واللام متعلق بـ يحشرون، وهذا التمييز في الآخرة أو في الدنيا وحينئذ متعلق اللام مقدر أي: يسر الله للكافرين إنفاق أموالهم في محاربتكم، ليميز الخبيث من الطيب، أي: من يطيعه بقتال أعداء الله ممن يعصيه بالنكول عنه كما قال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " [آل عمران: 109]، وقال تعالى " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " [آل عمران: 166] (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ) أي: الفريق الخبيث (بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا): عبارة عن الضم والجمع حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم، أو معناه يضم على الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه، كقوله " فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ " [التوبة: 35]. (فَيجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولَئِكَ) أي: الفريق الخبيث (هُم الْخَاسِرُونَ). * * * (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ

كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) * * * (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا): كأبي سفيان وغيره أي: لأجلهم (إِنْ يَنْتَهُوا): عن الكفر ومعاداة الدين (يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ): من الذنوب (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى القتال ويستمروا على كفرهم (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) في نصرة أنبيائه وإهلاك أعدائه، أو سنة الأولين في قريش يوم بدر (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ): لا يوجد شرك، أو لا يفتن مؤمن عن دينه (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله): لا يعبد غير الله تعالى في جزيرة العرب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

يجازيهم مجازاة البصير بهم، أو معناه فإن انتهوا عما هم فيه من الكفر والقتال، فكفوا عنهم وإن كنتم لا تعلمون بواطنهم، فإن الله بما يعملون بصير ومن قرأ " تعملون " بالتاء، فمعناه: فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام، وتسببكم إلى إخراجهم من ظلمة الكفر بصير، فيجازيكم (وَإِن تَوَلوْا) ولم ينتهوا عن الشرك والقتال (فَاعْلَمُوا أَن الله مَوْلاكُمْ): ناصركم (نعمَ الْمَوْلَى): لا يضيع من تولاه (وَنِعمَ النَّصيرُ) فمن نصره لا يغلب أبدًا. (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ): أخذتم من الكفار قهرًا لا صلحًا، أي شيء كان (فأَن لله خُمُسَهُ) مبتدأ خبره مقدر أي: فثابت أن لله خمسه، والأصح أن ذكر الله افتتاح كلام للتبرك، وقال بعضهم: سهم الله يصرف إلى الكعبة (وَلِلرَّسُولِ) كان يصرف فيما شاء، والآن لمصالح المسلمين أو للخليفة، أو مردود إلى الأصناف الباقية، أو لقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَلِذِي الْقُربى) هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، أو من لا يحل له الزكاة، أو بنو هاشم وحدهم، أو

قريش كلهم (وَالْيَتَامَى): يتامى المسلمين فقراءهم، أو فقرائهم وأغنيائهم، أو يتامى ذوي القربى (وَالْمَسَاكِينِ): المحاويج الذين لا يجدون ما يصدون خلتهم، أو مساكين ذوى القربى (وَابْنِ السَّبيلِ): المسافر أو مريد السفر إلى مسافة القصر، وليس له ما ينفقه في سفره، أو ابن السبيل من ذوي القربى، فعلى هذا الغنيمة تقسم على خمسة: أربعة منها للمحاربين، وخمس لهؤلاء المذكورين (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) تقديره: امتثلوا ما شرعت لكم في الغنيمة، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ): يوم فرق فيه بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، والآية نزلت فيه (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ): المسلمون والكفار، وهو يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان (وَاللهُ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولهذا قدر على نصر القليل على الكثير.

(إِذ أَنْتُمْ) بدل من يوم الفرقان (بِالْعُدْوَةِ): شط الوادي (الدُّنْيَا): الأقرب من المدينة (وَهُمْ): كفار مكة (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى): جانب الوادى الأبعد من المدينة (وَالرَّكْبُ) أي: ركب أبي سفيان الذين جاءوا من الشام (أَسْفَلَ مِنْكُمْ): في مكان أسفل من مكانكم أي: ساحل البحر، منصوب على الظرف واقع موقع خبر و " الركب " (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ) أنتم والكفار للقتال (لَاخْتَلَفْتُمْ): أنتم (فِي الْمِيعَادِ): خوفًا وهيبة لقلتكم وكثرتهم (وَلَكِنْ) جمع الله تعالى بينكم بصنعه من غير ميعاد وإرادة لكم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا): في علمه، أو معناه حقيقًا بأن يفعل من نصر أوليائه، وإعلاء كلمة الإسلام (لِيَهْلِكَ) بدل من ليقضي، أو متعلق بمفعولاً (مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة) أي: ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآيات، فلا يبقى له حجة وعذر بوجه، ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين، فالهلاك والحياة: الكفر والإيمان، أو ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش عن حجة شاهدها، لئلا يكون له حجة ومعذرة (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ): بكفر من كفر، وإيمان من آمن (عَلِيمٌ) بما في قلوبهم. (إِذ يُرِيكَهمُ اللهُ) بدل ثان من يوم الفرقان، أو مقدر باذكر (في مَنَامِكَ قَلِيلاً) لتخبر أصحابك فيكون تشجيعًا لهم، وهو ثالث مفاعيل يريكم (وَلَوْ أَرَاكَهم كَثِيرًا لَفَشِلْتمْ): لجبنتم (وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ): اختلفت كلمتكم في أمر القتال (وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ): أنعم بالسلامة من التنازع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ما كان وما سيكون

(45)

من الجبن والتنازع (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ) لا في المنام (قَلِيلًا) حال عن ثاني مفعولي يريكموهم لا مفعول ثالث، لأنه من رؤية العين ههنا، وإنما قللهم في أعين المسلمين تثبيتًا لهم، وتصديقًا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم - (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ليجترؤا، أو لا يستعدوا للحرب حتى قال أبو جهل: إنهم أكلة جزور، ثم كثرهم في أعينهم حتى يرونهم مثليهم، لتفاجئهم الكثرة فتكسر قلوبهم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا): من إهلاكهم وإذلالهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ): فلا أمر إلا وهو خالقه، وعلى الحقيقة هو فاعله، أو بعد الدنيا مصير الكل إليه فيجازيهم. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً): حاربتم جماعة، والمؤمنون لا يحاربون إلا الكفار (فَاثْبُتُوا): ولا تنهزموا (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا): في تلك الحال بأن تستغيثوا به، وتتوكلوا عليه وتسألوا النصر (لَعَلكمْ تُفْلِحون): كي تظفروا بمرامكم (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا): باختلاف الآراء (فَتَفْشَلُوا) فتجبنوا جواب النهي (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ): دولتكم ووقاركم وريح النصر، فإن النصرة لا تكون إلا بريح كما في الحديث: " نصرت بالصبا " (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا): فخرًا

وطغيانًا (وَرِئَاءَ النَّاسِ): ليثنوا عليهم بالشجاعة والغلبة والرياسة، كما قال أبو جهل، لما قيل: إن العير قد نجا فارجعوا، فقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزور، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عطف على بطرًا، سواء كان مفعولاً، أو حالاً على تأويل المصدر (وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ): عالم بما جاءوا به وله، ولهذا جازاهم شر الجزاء (وَإِذْ زَيَّنَ) مقدر باذكر (لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) في معاداة الرسول، فإنه تمثل لهم في سورة سراقة بن مالك الكناني، وهو من أكابر بني كنانة معه عسكر وراية (وَقَالَ لا غَالبَ لَكُمُ) خبر لا، أو صفة غالب، ولو كان ظرفًا لغالب لوجب أن يقال: لا غالبًا (اليوْمَ مِنَ النَّاسِ) لكثرة عددكم وعددكم (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ): مجيركم من بني كنانة وممدكم في الحرب، وكان بين قريش وبني كنانة حرب وعداوة،

(49)

وخافوا من بني كنانة فلهذا أجارهم (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ): التقى الجمعان (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ): رجع القهقري وكانت يده في يد أحد من المشركين فقال له: أفرارًا من غير قتال؟! فضرب في صدر صاحبه المشرك فانطلق (وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ) من جنود الله: ملائكته (إِنِّي أَخَافُ اللهَ) وهذا كذب منه، ما به مخافة الله تعالى لكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، أو أخاف الله أن يهلكني فيمن أهلك، أو خاف أن يصله مكروه من الملائكة، وهذا عادته الشؤمة كما حكاه تعالى " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " الآية [الحشر: 16] (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) من تتمة كلام الشيطان، أو ابتداء كلام الله تعالى. * * * (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) * * * (إِذْ يَقُولُ) مقدر باذكر (الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شرك، أو قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وخرجوا مع الكفار يوم بدر، ولما رأو المسلمين قليلاً ارتابوا وارتدوا، وقالوا: (غرَّ هَؤلاءِ) أي: المؤمنين (دِينُهُمْ) حتى تعرضوا مع قلتهم كثرتنا، فقتلوا جميعًا، فقال تعالى مجيبًا لهم: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ): لا غالب لأمره، ولا يضام من التجأ إليه (حَكِيمٌ): في أفعاله لا يضعها إلا في موضعها (وَلَوْ تَرَى) يا محمد (إِذْ يَتَوَفَّى الذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ) أي: لو رأيت حالهم حين قتلَهم الملائكةُ يوم بدر، وقال بعضهم: هذا عند الموت لا يخص بيوم بدر (يَضْرِبون وجُوهَهمْ): إذا أقبلوا (وَأَدْبَارَهمْ): إذا أدبروا، والجملة حال (وَذوقوا) أي: ويقولون: ذوقوا، عطف على يضربون (عَذابَ الْحَرِيقِ): بشارة لهم بجهنم، قال بعضهم: مع الملائكة مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها، وجواب " لو " مقدر أي: لو ترى لرأيت أمرًا فظيعًا هائلاً (ذلِكَ) الضرب (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي؛ بشؤم ذنوبكم (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدمت، قيل: للدلالة على

أن سببية مقيدة بانضمامه إليه، إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنب، وظلام للتكثير لكثرة العبيد فالظالم لهم كثير الظلم. (كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي: دأبهم وطريقتهم كدأبهم (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): من قبل آل فرعون (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ) تفسير الدأب (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنوبِهِمْ) كما أخذ هؤلاء (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ) لا يغلبه شيء (شَديدُ الْعِقَابِ): للكافرين (ذَلِكَ) أي: الأخذ بالذنوب، لا التعذيب بغير ذنب (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) أي: بسبب أن عادة الله جارية، بأن لا يبدل نعمة على قوم [بنقمة] (1)، حتى غيروا حالهم إلى أسوءها كقريش، كذبوا بآيات الله واستهزؤا بما، وصدوا عن سبيل الله وغيرها من القبائح (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ): لما يقولون (عَلِيمٌ) بما يضمرون، ولولا إحاطة علمه كيف يأخذهم بأعمالهم؟! (كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: عادتهم كعادتهم (كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) تكرير للتأكيد (وَكُلٌّ): من الأولين والآخرينَ (كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا): رسخوا في الكفر (فَهمْ لا يُؤْمِنونَ): لرسوخهم فيه (الَّذِينَ) بدل من الذين كفروا (عَاهَدْتَ مِنْهمْ) أي:

_ (1) في الأصل " بنعمة " والتصويب من تفسير البيضاوي.

(59)

أخذت منهم العهد (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) كيهود بني قريظة، نقضوا عهدهم وأعانوا المشركين بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا يوم الخندق (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ): عاقبة الغدر (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ): تظفرن بهم وتأسرهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) أي: بسبب قتلهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) أي: فافعل بهم عقوبة، يفرق منك ويخافك من ورائهم من الكفرة ليعتبروا، فلا ينقضوا العهد بعد ذلك، يعني: غلظ عقوبتهم ليكون عبرة لغيرهم (لَعَلهُمْ) أي: من خلفهم (يَذكرُون): يتعظون، فيحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل صنيعهم (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ): معاهدين (خِيَانَةً): نقض عهد بإمارة تلوح لك (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ): اطرح إليهم عهدهم (عَلَى سَوَاءٍ) أي: ثابتًا على طريق مستو متوسط، بأن تخبرهم أنك قطعت العهد الذي بينك وبينهم، فلا يكونون على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك، فالجار والمجرور حال (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) تعليل لنبذ العهد وعدم مفاجأة القتال بلا إعلام. * * * (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ

أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) * * * (وَلا يَحْسَبَنَّ): يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا): فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا، ومن قرأ " لا يحسبن بالياء فالذين كفروا فاعله، بتقدير: أن سبقوا فحذفت أن، أو تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، أو فاعله ضمير إلى " من خلفهم " أو إلى جيل المؤمنين، وفي الجميع تكلف (إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ): لا يجدون طالبهم عاجزًا عن إدراكهم، ومن قرأ بالفتح فتقديره: لأنَّهُم لا يعجزون، قال بعضهم: نزلت فيمن أفلت يوم بدر من المشركين. (وَأَعِدُّوا لَهُمْ): للكفار (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ): من كل ما يتقوى به في الحرب، وفي الحديث الصحيح: " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثًا (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) الرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله (تُرْهِبُونَ): تخوفون (به): بما استطعتم (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ): كفار مكة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي: من دون كفار مكة (لَا تَعْلَمُونَهُمُ): لا تعرفونهم (اللهُ يَعْلمُهُمْ): يعرفهم، هم المنافقون أو

اليهود أو أهل فارس (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ): قليل أو كثير (فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أجره وجزاؤه (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون) بتضييع العمل. (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ): مالوا للصلح (فَاجْنَحْ لَهَا): مل إليها، قال بعضهم: الآية منسوخة بقوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون "، وفيه شيء لأن المهادنة لكثرة الأعداء ولغيرها جائزة إذا رأى الإمام، وقال بعضهم: الآية مخصوصة بأهل الكتاب (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في الصلح، ولا تخف خداعهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ): لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بنياتهم (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ): يريدون بالصلح خديعة (فَإِنَّ حَسْبَكَ): محسبك وكافيك (اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مع ما فيهم من الضغينة في أدنى شيء (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) لتناهي عداوتهم وجهالتهم، فإن بين الأوس والخزرج من العداوة والحروب ما لا يمكن الإصلاح، فالله بمحض قدرته ألف بينهم فاجتمعوا وأنفقوا، وأنساهم الله تلك الشحناء فصاروا أنصارًا (وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فإنه مقلب القلوب (إِنَّهُ عَزِيزٌ): غالب لا يغالب أبدًا (حَكِيمٌ) يضع كل شيء في موضعه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ): كافيك (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

(65)

مفعول معه، أي: محسبك مع المؤمنين الله، أو عطف على " الله "، نزلت في غزوة بدر، وقال بعضهم: نزلت حين أسلم عمر، ثم اعترض عليه بأن الأنفال كلها مدنية، وإسلام عمر قبل الهجرة فلا يصح هذا. * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) أي: بالغ في حثهم عليه (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة والوعد بالغلبة (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ): بسبب جهالتهم بالله يقاتلون لأجل حظ دنيوي، فلا تثبت أقدامهم إذا رأوا شدة القتال وظنوا الهلاك (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) نزلت لما ثقلت على المسلمين مقابلة الواحد مع العشرة، فنسخها وخفف عنهم (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) في البدن أو في البصيرة، فإن في بعضهم ضعف البصيرة (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) أي: إن كانوا على الشطر من عدوهم لم يجز الفرار، وإلا جاز ولم يجب القتال، ثم اعلم أنه ذكر في الأول العشرين والمائة، وفي الثاني المائة والألف، للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره وإرادته (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): بالنصر والظفر (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) ما صح وما استقام لبى من الأنبياء أن يأخذ أسرى، ولا يقتلهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ): يكثر القتل فيعز الإسلام ويذل الكفر (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا): حطامها، أي: الفداء (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي: يريد لكم ثواب الآخرة، أو ما هو سبب نيل الجنة من إعزاز الدين وقمع الملحدين (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يعلم ما

(70)

يليق بالأحوال، نزلت حين جاءوا بأسارى بدر، فاستشار فيهم، فقال عمر: هم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء فاضرب أعناقهم، وقال أبو بكر: هم قومك وأهلك لعل الله يتوب عليهم، خذ منهم فدية تقو ي بها أصحابك، فقبل الفداء وعفى عنهم (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) يعني في أم الكتاب أن لا يعذب مسلم شهد بدرًا، وهم [مغفور لهم] (1)، أو فيه أن المغانم والفداء حلال لكم، أو لا أعذب من عصاني إلا بعد تصريح بنهي (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ): من الفداء قبل أن آذن لكم (عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا) أي: أبحْت لكم الغنائم فكلوا (مِمَّا غَنِمْتُمْ): من الفدية، فإنها من جملة الغنائم (حَلَالًا) حال، أو أكلا حلالاً (طَيِّبًا) قيل: إنهم أمسكو عن الغنائم أيضًا، وخافوا وَاتَّقُوا اللهَ أشد خوف، فنزل " فكلوا " الآية (وَاتَّقُوا اللهَ): في مخالفته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) فيغفر ذنبكم (رَحِيمٌ) فأباح لكم الفداء. * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)

_ (1) في الأصل [مغفورون].

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا) بأن يتعلق علم الله بحصول إرادة إيمان وإخلاص فيها (يُؤْتِكُمْ) إن أسلمتم (خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ): من الفداء (وَيَغفِرْ لَكُمْ) ما صدر قبل الإسلام منكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت في [العباس] وأصحابه، أسروا يوم بدر وأخذ منهم الفداء، وكان العباس بعد ذلك يقول: أعطاني الله مكان عشرين أوقية أفديتها لنفسي ولابني أخي كانت معي، والتمست من النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يحاسبني من جملة فدائي وفداء ابني أخوي فأبى فأبدلني الله في الإسلام عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله.

(وَإِنْ يُرِيدُوا) أي: الأسارى (خِيَانَتَكَ) فيما أظهروا لك من الإسلام والإخلاص (فَقَّدْ خَانوا الله): بالكفر (مِنْ قَبْلُ): من قبل بدر (فَأَمْكَنَ) أي: فأمكنك (مِنْهُمْ) يوم بدر، فإن عادوا فعد، قال بعضهم: نزلت في عبد الله بن سعد الكاتب حين ارتدَّ ولحق بالمشركين، قال بعض: نزلت في العباس وأصحابه حين قالوا: آمنا بك ولننصحن لك على قومنا، والأكثرون على أنه عامر (وَاللهُ عَلِيمٌ): بخيانة من خان (حَكِيمٌ): بتدبيره. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا): أسكنوا المهاجرين منازلهم (وَنَصَرُوا) أي: نصروهم على أعدائهم (أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ): في الميراث دون أقاربهم، آخا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) أي: ليسوا لكم بأولياء في الميراث (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) أي: المؤمنون الذين لم يهاجروا (فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) فواجب عليكم نصرتهم على المشركين (إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ): عهد فلا تنقضوا عهدكم في نصرتهم عليهم (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُون) من الوفاء بالعهد ونقضه

(بَصِيرٌ): فيجازيكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) في الميراث دون المسلمين (إِلا تَفْعَلُوهُ) أي: إن لم تفعلوا ما أمرتم من قطعِ العلائق حتَّى في الميراث بينكم وبين الكفار (تَكُنْ): تحصل (فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) في الدين كقوة الكفر وضعف الإسلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا): صدقًا من غير ريب، دون من آمن وسكن دار الشرك، وفي الحديث المتفق على صحته بل المتواتر: " المرء مع من أحب "، ونصب حقًا على المصدر المؤكد، أو تقديره: إيمانًا حقًا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكمْ): من جملتكم، أيها المهاجرون والأنصار، فإن المهاجرين بعضهم هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم بعد صلحها قبل فتح مكة وهي الهجرة الثانية (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) في التوارث من الأجانب (فِي كِتَابِ اللهِ) في حكمه، أو في اللوح وهذه ناسخة للإرث بالحلف والإخاء الذي كانوا يتوارثون به أولاً (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم صلاح الأوقات.

سورة التوبة

سورة التوبة سورة براءة والتوبة ولها أسماء أخر مدنية قيل إلا الآيتين (لقد جاءكم رسول) وآيها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون ولها ستة عشر ركوعًا * * * (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) * * * (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)، أي: هذه براءة واصلة من الله ورسوله (إِلَى

الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي: الله ورسوله برءا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وإن كان صادرًا من رسوله - صلى الله علمِه وسلم - بإذن الله تعالى، يعني وجب نبذه ولا عهد بعد ذلك (فسِيحُوا في الأَرْضِ): أيها المشركون، (أَرْبَعَةَ أَشْهُر)، والأصح أنه من يوم النحر إلى عاشر ربيع الآخر، وعند بعضهم أنه إلى سلخ المحرم؛ لأن الآية نزلت في شوال والأكثرون على أن من كان له عهد مؤقت ولم ينقض عهده فأجله إلى مدته مهما كان، ومن له عهد غير مؤقت أو دون أربعة أشهر أو أكثر لكن نقضه فيكمل له أربعة أشهر وقد صحت بهذا الروايات عن على رضي الله عنه -، وفي رواية عن ابن عباس أن من له عهد مؤقت أو غير مؤقت فأجله أربعة أشهر ومن ليس له عهد فأجله انسلاخ الأشهر الحرم فمن يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسون ليلة ثم السيف حتى يدخلوا في الإسلام، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ): لا تفوتونه وإن أمهلكم، (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ): مذلهم في الدنيا والآخرة، (وَأَذَانٌ) أي: إعلام، عطف على براءة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ): يوم أفضل أيام المناسك وأكبرها جميعاً وهو يوم العيد أو يوم عرفة أو أيام الحج كلها، وعن الحسن البصري رحمه الله: عام، حج فيه أبو بكر - رضي الله عنه -

بالاستخلاف، وعن بعضهم: الذي حج فيها النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين ولم يجتمع قبله ولا بعده وقال بعضهم الحج الأصغر العمرة، (أَن الله) أي: بأنه (بَرِيءٌ منَ الُمشْرِكِينَ) أي: من عهودهم، (وَرَسُولُهُ) عطف على المستكن في بريء، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: ورسوله كذلك وعند ابن حاجب جاز في مثله أن يكون عطفًا على محل اسم " أن "، (فَإِنْ تُبْتُمْ): من الكفر والغدر، (فَهُوَ)، أي: الرجوع، (خَيْرٌ لَكُمْ وَإِن تَوَلَّيتمْ): من التوبة، (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ): غير فائتين أخذه وعقابه، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيم)، في الآخرة، (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، استثناء من المشركين في قوله " بريء من المشركين " فالمستثنى من جميع المشركين من كان أجل عهده فوق أربعة أشهر ولم ينقضوا العهد، فوجب إتمام عهدهم على الأصح، وأما على ما نقلنا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -

في بعض الروايات فمعناه: أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، أي: مدة قدرنا وهي أربعة أشهر لكن في الاستثناء يختل الفصل بأجنبي أو تقديره: فقولوا لهم: سيحوا واعلموا أن الله بريء منهم لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا عهدهم أتموا عهدهم وأمهلوهم بعد أربعة أشهر إلى انقضاء أجلهم، (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا): من شرط العهد، (وَلَمْ يُظَاهِرُوا): لم يعاونوا (عَلَيْكمْ أَحَداً): من أعدائكم، (فَأَتِموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهمْ إِلَى)، تمام (مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، فإتمام العهد من التقوى، (فَإِذَا انسَلَخَ)، انقضى، (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ): الأشهر التي حرمنا فيها قتالهم وأجلناهم فيها وهو أربعة أشهر لغير من كان معاهدته أكثر من أربعة أشهر ولم ينقض عهده وأكثر من أربعة أشهر لهم فإن بني ضمرة وبني كنانة بقي من مدة عهدهم تسعة أشهر وأوله يوم النحر أو يوم نزول الآية وقد نزلت في شوال كما ذكرنا، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ): كافة ناكثاً وغير ناكث، وعلى ما نقلنا عن ابن عباس رضي الله عنهما فمعناه: إذا انقضى الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم فاقتلوا المشركين الذين لا عهد لهم أصلاً، فعلى هذا أول [صفر] ابتداء جواز المقاتلة مع من ليس له عهد، (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ): من حل أو حرم، (وَخذوهمْ): ائسروهم، (وَاحْصُروهُمْ)، احبسوهم وضيقوا عليهم، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ): كل ممر حتى لا يتوسعوا في البلاد، (فَإِنْ تَابُوا): عن الشرك، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ): فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء، (إِنَّ اللهَ غَفورٌ رَّحِيمٌ): يغفر زلاتهم وينعم عليهم. (وَإِنْ أَحَدٌ منَ المشْرِكِينَ): الذين أمرتك بقتلهم ورفع " أَحَدٌ " بشريطة التفسير، (اسْتَجَارَكَ): طلب منك الأمان، (فَأَجِرْهُ): أمنه، (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)،

(7)

تقرأه عليه وتقيم عليه حجة الله تعالى، (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)، هو مستمر الأمان إلى أن يرجع بلاده، (ذَلِكَ): الأمر بأمنه، (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ): جهلة فلابد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا كلام الله لعلهم يعقلون فيطيعون. * * * (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا

يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) * * * (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ)، استفهام إنكار، أي: يمكن ذلك وهم على الشرك والكفر وخبر يكون " عند الله " و " كيف " حال من العهد، (إِلا الذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الَمسْجِدِ الحَرَامِ)، يعني يوم الحديبية ومحله الجر والنصب على الاستثناء المتصل، لأنه في معنى ليس للمشركين عهد إلا الذين، أو منقطع أي: لكن تربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم، (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)، أي: فإن استقاموا على الوفاء بالعهد فاستقيموا أنتم أيضاً " فما " شرطية، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، والوفاء بالعهد من التقوى، هم أهل مكة نقضوا عهدهم

وقاتلوا حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعند ذلك قاتلهم وفتح مكة، وقال بعضهم: هم قبائل من بني بكر قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم ينقضوا والناقض قريش وبعض قبائل بني بكر فإن بني ضمرة ممن استمر على عهده فما قاتلهم أحد حتى أسلموا بلا مقاتلة، (كَيفَ)، تكرار للاستبعاد، أي: كيف لهم عهد عندك؟! (وَإِن يَظْهَروا عَلَيْكمْ)، والحال أنَّهم إن يظفروا بكم، (لَا يَرْقُبُوا): لا يراعوا، (فِيكُمْ إِلًّا): قرابة، أو حلفا قال بعضهم الإل هو الله عبراني، (وَلَا ذِمَّةً): عهدا، (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ)، استئناف، أي: يظهرون خلاف ما يضمرون، (وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ) الوفاء بما قالوا (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ): ناقضون للعهد، (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ): استبدلوا بالقرآن، (ثَمَنًا قَلِيلاً): متاع الدنيا قيل نقضوا العهد بأكلة أطعمهم أبو سفيان، (فَصَدُّوا عَن سبِيلِهِ): أعرضوا عن دينه، أو منعوا الناس عن الدخول في دينه، (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، عملهم هذا، (لَا يَرْقُبُونَ): لا يحافظون، (فِي مؤْمنٍ)، فإنهم يحبون الكفر وأهله، (إِلًّا وَلَا ذِمَّةً): قرابة وعهداً، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ): المتجاوزون الغاية في الشرارة، (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ

فَإِخْوَانُكُمْ)، أي: فهم إخوانكم، (فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ): نكررها ونبينها، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وهم المؤمنون، (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ): نقضوا مواثيقهم، (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ): رؤساء مشركي قريش فإنهم ناقضون للعهد مستهزئون بدين الله، أي: قاتلوهم؛ لأنَّهُم صاروا بذلك ذوي الرياسة في الكفر قال بعضهم: هم أهل فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان: لم يأت أهلها بعد، (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ): لا عهود لهم فإن عهدهم على الحقيقة ليس بعهد ومن قرأ لا إيمان بكسر الهمزة فمعناه لا إسلام أوْ لا أمان لهم، (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)، أي: قاتلوهم لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد، (أَلاَ تُقَاتِلُونَ)، تحريض على القتال، (قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ): كفار مكة

نقضوا عهد الحديبية، (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ): من مكة كما مر في قوله: " وإذ يمكر بك الذين كفروا " (وَهُمْ بَدَءُوكُمْ): بالقتال، (أَوَّلَ مَرَّةٍ)، يعني يوم بدر فإنهم خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت استمروا على وجههم طلبًا للقتال بغياً وتكبراً، أو المراد أنَّهم بدءوا بالقتال مع حلفائكم خزاعة، (أَتَخْشَوْنَهُمْ): أتتركون قتالهم خشية منهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ): فلا تتركون لدينه ضعفاً وتسعون في إعلاء كلمته (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فإن الإيمان الكامل ينفى الخشية عن غير الله، (قَاتِلُوهُمْ)، أمر بالقتال بعد التوبيخ على تركه، (يعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ويخْزِهِمْ): يذلهم، (وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)، وعد من الله بنصر المؤمنين وقتل الكافرين وإذلالهم، (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي: بني خزاعة أعانت قريش بني بكر عليهم، (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ): كربها بمعونة قريش بني بكر، (وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ): من المشركين كأبي سفيان وعكرمة بن أبى جهل وغيرهما، (وَاللهُ عَلِيمٌ): بما كان وما لم يكن (حَكِيمٌ): لا يأمر إلا بما هو المصلحة (أَمْ حَسِبْتُمْ): أيها المؤمنون، وأم منقطعة بمعنى الهمزة فيها توبيخ على الحسبان وقيل خطاب للمنافقين، (أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، أي: نترككم مهملين ولا نختبركم بأمور يظهر الخلص من غيرهم، نفى العلم، وأراد نفي المعلوم للمبالغة نفياً للملزوم بنفى اللازم، (وَلَمْ يَتَّخِدوا)، عطف على جاهدوا، (مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً): بطانة وأولياء يفشون إليهم أسرارهم، (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): يعلم أغراضكم من أفعالكم. * * *

(17)

(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) * * * (مَا كَانَ): ما صح، (لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ)، أيُّ مسجد كان، أو المراد مسجد الحرام، وجمعه لأنه قبلة المساجد، ويدل عليه قراءة من قرأ مسجد الله وعمارته مرمته عند الخراب، أو الصلاة والقعود فيه أو أعم، قيل: نزلت في العباس حين أسر في بدرٍ فأغلظ علي - رضى الله عنه - له القول في التعيير فأجاب: تعدون مساوئنا

ولا تذكرون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، (شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْر)، حال من فاعل يعمروا، أي: ما استقام الجمع بين عمارة بيت الله وعبادة غيره، (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، لأن الكفر يذهب ثوابها، (وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ)، في باب الدين وأمره يعني من كان بهذه الصفات فهو اللائق بعمارة المساجد قال صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان "، قال الله تعالى: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ "، وقد ورد " عمار المساجد هم أهل الله " (فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، قيل الإتيان بلفظ عسى إشارة إلى ردع الكفار وتوبيخهم بالقطع في زعمهم أنهم مهتدون فإن هؤلاء مع هذه الكمالات اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل فما ظنك بمن هو أضل من البهائم! وإشارة أيضاً إلى منع المؤمنين من الاغترار والاتكال على الأعمال، (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، أي: أهل السقاية والعمارة، وقيل المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي: الساقي والعامر،

(كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ)، وفي مسلم قال رجل من: الصحابة ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد خير مما قلتم فقال عمر: استفتيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج " الآية، وعن كثير من السلف: أنها نزلت في مفاخرة العباس وطلحة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء أبيت فيه، وقال العباس بعد إسلامه: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي: ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، وأنزلت حين قال المشركون: عمارة البيت والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد، (لاَ يَسْتَوُون عِندَ اللهِ)، بل المجاهد أفضل لكن للمرجوح درجة ثم بين بقوله، (وَاللهُ لاَ يَهْدَي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، أن من ليس له فضل، ولا هداية ولا درجة هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادة الأوثان مكان عبادة الله، وإن كان سبب النزول مفاخرة المشركين فقوله: " والله لا يهدي القوم الظالمين " لبيان عدم التساوي (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ): ممن لم

يستجمع هذه الصفات، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ): بالنجاة الكلية عن النار والظفر المطلق بالأمنية، (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ): دائم، (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): يستحقر دونه نعيم الدنيا بأسرها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ): أصدقاء، (إِنِ اسْتَحَبُّوا): اختاروا، (الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ)، نزلت حين أمروا بالهجرة من مكة فإن بعض المؤمنين قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا، أو نزلت نهياً عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ): بوضع الموالاة مكان المعاداة، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ): أقرباؤكم، (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا): اكتسبتموها، (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا): تستطيبونها، (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا)، جواب الشرط، أي: انتظروا، (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ): عقوبته العاجلة والآجلة، (وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الْفَاسِقِينَ): لا يرشد الخارجين عن الطاعة وفي الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إليَّ من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر، قيل المراد الحب الاختيارى دون الطبيعي الذي لا يدخل تحت التكليف. * * *

(25)

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) * * * (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ): أماكن، (كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)، أي: وموطن يوم حنين واد بين مكة وطائف وقع فيه المقاتلة بعد فتح مكة، (إِذ أَعْجَبَتْكُمْ)، بدل من يوم حنين، (كَثْرتُكُمْ)، المؤمنون اثنا عشر ألفا والكفار أربعة آلاف، (فَلَمْ تُغْنِ)، أي: لم تدفع الكثرة، (عَنكُمْ شَيْئًا): من أمر العدو، (وَضَاقَتْ عَلَيْكُم

الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، أي: برحبها وسعتها فلم تجدوا موضعاً للفرار تطمئن به نفوسكم، (ثُمَّ وَلَّيتم): فررتم، (مُّدْبِرِينَ): منهزمين حتى بلغ فُلُّكُم مكة وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مركزه معه العباس وأبو سفيان، (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ): ما سكن واطمئن به الفؤاد من رحمه، (عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ): فنادى العباس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان صيتاً: يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة. فكرُّوا عنقاً واحداً قائلين لبيك لبيك، (وَأَنْزَلَ جُنُودًا): من الملائكة، (لَمْ تَرَوْهَا)، لكن قالوا: سمعنا صلصلة بين السماء الأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد، (وَعَذب الذِينَ كَفَرُوا): بالقتل والسبي ستة آلاف أسير من صبي وامرأة، (وَذلِكَ)، إشارة إلى ما فعل بهم، (جَزَاءُ الكَافِرِينَ): في الدنيا، (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)، فإن كثيراً ممن بقي من هؤلاء المقاتلين بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمين فرد عليهم سبيهم كلها برضى المؤمنين وقسم أموالهم بين الغانمين، (وَالله غَفُورٌ رحِيمٌ): لمن آمن يتجاوز عنه ويتفضل عليه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ): باطنهم ودينهم قال قتادة

لأنَّهُم لا يتطهرون من جنابة ولا من حدث، (فَلاَ يَقْربوا المَسْجِدَ الحَرَامَ)، منعوا من دخول الحرم، وقيل: منعوا عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقًا، (بَعْدَ عَامِهِمْ هَذا)، وكان سنة تسع أرسل علياً ونادى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، (وَإِذ خِفتمْ عَيْلَةً): فقراً بسبب منع الكفار من الحرم لانقطاع المتاجر، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ): من عطائه بوجه آخر، (إن شَاءَ)، قيده بالمشيئة لينقطع الآمال إلى الله عوضهم الجزية وأموال البلدان، (إِن الَلَّهَ عَلِيمٌ): بأحوالكم، (حَكِيمٌ): في المنع والإعطاء، (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)، أمر بقتال أهل الكتاب، فهم لا يؤمنون إيماناً كما ينبغي فإيمانهم كلا إيمان، (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ): كالخمر والربا، (وَلاَ يَدِينونَ دِينَ الحَقِّ): لا يعتقدون دين الثابت الناسخ لسائر، الأديان، (مِنَ الذِينَ

(30)

أُوتُوا الْكِتَابَ)، بيان للذين لا يؤمنون، (حَتَّى يُعْطُوا الجِزيةَ): ما تقرر عليهم أن يعطوه، (عَن يَدٍ): عن قهر وذل يقال لكل شيء أعطي كرها: أعطاه عن يد أي: عاجزين فهو حال أو يعطونها بأيديهم ولا يرسلون على يد غيرهم، أي: المسلمين بأيديهم وقيل: عن غنى ولذلك قيل لا يؤخذ من الفقير، (وَهُمْ صَاغِرُونَ)، ذليلون، عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤخذ منه وتوجأ عنقه. * * * (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) * * * (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)، وذلك لأن العزير كتب التوراة بعدما فات منهم وضاع، ثم لما وجدوا نسخة من نسخ التوراة قابلوها بها فوجدوها صحيحاً فقال بعض جهلتهم، إنما جاء بها لأنه ابن الله، (وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ)، وسبب ضلالهم في المسيح ظاهر، (ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ): لا مستند لهم كالمهمل يتفوهون به ليس له مفهوم عيني، (يُضَاهِئُونَ)، أي: يضاهي قولهم فحذف القول وأقيم المضاف إليه مقامه، (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)، من قبلهم، أي: قدمائهم فالكفر فيه قدم، أو المشركين الذين يقولون الملائكة بنات الله، (قَاتَلَهُمُ اللهُ)، قال ابن عباس: أي لعنهم الله، (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، كيف يضلون عن الحق (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ)، علماؤهم، (وَرُهْبَانَهُمْ)، زهادهم والأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، (أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)، حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام

فأطاعوهم وتركوا كتاب الله تعالى، (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)، بأن جعلوه ابناً له، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا)، هو الله، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، صفة ثانية أو استئناف، (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، هو المنزه عن شريك وولد، (يُرِيدُونَ أَنْ

يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ) الذي أرسل به رسوله من الهدي ودين الحق، (بِأَفْوَاهِهِمْ)، بتكذيبهم، (وَيَأْبَى اللهُ)، لا يرضى، (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)، بإعلاء كلمته، والاستثناء مفرغ لأن الفعل الموجب في معنى النفي وهذا تمثيل لحالهم في طلب إبطال الدين بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور منبث في الآفاق بنفخة، (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، إتمامه، ويدل على جواب لو ما قبله، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى)، القرآن والمعجزة، (وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، ليعليه على سائر الأديان فينسخها فالضمير إما لدين الحق، أو للرسول، أو على أهل الكتاب فيخذلهم، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، غلبته وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)، يأخذ علماء أهل الكتاب الرشى ويبطلون دين الله وحكمه والمقصود

التحذير من علماء السوء وعباد الضلال، (وَيَصُدونَ عَن سَبِيلِ اللهِ)، يصرفون الناس عن اتباع الحق، (وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذْهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا)، الضمير للدنانير والدراهم الكثيرة الدالة عليها يَكْنِزُونَ الذهب والفضة، أو للكنوز أو للفضة، لأنها أقرب وتدل على أن حكم الذهب بطريق الأولى، (في سَبِيلِ اللهِ فبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، عن كثير من السلف كعمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أن الكنز مال لم يؤد منه الزكاة وما أدي زكاته فليس بكنز وقد صح عن عليٍّ رضي الله عنه قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة فما أكثر من ذلك فهو كنز ومثل هذا مذهب كثير من السلف، والأخبار في مدح التقلل وذم التكثر أكثر من أن يخفى، (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، أصل معناه يوم تحمى النار، أي: توقد ذات حمي وحر شديد على الكنوز ثم طوى ذكر النار وحول الإسناد إلى الجار والمجرور للمبالغة في شدة حر الكنوز، (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)، لا يوضع دينار على دينار لكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم في موضع على حدة قال بعضهم صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وولى ظهره وأعرض عنه كشحه ولهذا خص الجباه والجنوب والظهور، (هَذَا مَا كَنَزْتُمْ)، أي: يقال لهم ذلك، (لِأَنْفُسِكُمْ)، فصار النفع ضرًّا، (فَذُوقُوا): وبال، (مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)، ما

مصدرية أو موصولة وأكثر السلف على أن الآية عامة في المسلمين وأهل الكتاب وبه بالغ وحلف أبو ذر. (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ)، مبلغ عددها، (عِندَ اللهِ)، متعلق بعدة فإنها مصدر، (اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا)، لا أزيد من ذلك كما يفعله المشركون وسنذكره في قوله: " إنما النسىِء زيادة " الآية [التوبة: 37]، (فِي كَتابِ اللهِ): في اللوح المحفوظ أو في حكمه، (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، أي: ثابت في كتاب الله يوم خلق الأجسام فيكون " في كتاب الله " صفة لاثني عشر و " يوم خلق " متعلق بمتعلقه، (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، (ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)، أي: تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين الأنبياء، (فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، بهتك حرمتها فإن الظلم فيها أعظم وزراً فيما سواه، والطاعة فيها أعظم أجراً قال بعضهم: ضمير فيهن راجع إلى اثني عشر، أي: لا تظلموا في الشهور كلها قال الأكثرون: حرمة المقاتلة في أشهر الحرم منسوخة فأولوا نهي الظلم بترك المعاصي، وقال بعضهم: محكمة وجازت المقاتلة إذا كانت البدأة منهم وأجابوا عن محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف بأن ابتداءه في الشهر الحلال، (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً): جميعاً، (كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً): هو تهييج وتحضيض للمسلمين بالاتفاق في محاربة أهل الشرك والنفاق، (وَاعْلَمُوا أَنْ اللهَ مَعَ الُمتَّقِينَ): بشرهم بالنصرة بعدما أمرهم بالمقاتلة، (إِنَّمَا النَّسِيءُ): هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر وذلك لأنه إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا بدله شهرًا من أشهر الحل حتى رفضوا خصوص الأشهر الحرم واعتبروا مجرد العدد، (زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ): فإن

(38)

تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه كفر ضموه إلى كفرهم، (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا): ضلالاً زائداً، (يُحِلُّونَهُ): أي: النسيء من الأشهر الحرم، (عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً): إذا قاتلوا فيه أحلوه وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه، (لِيُوَاطِئُوا): متعلق بما دل عليه الكلام، أي: حرموا مكانه شهرًا آخر ليوافقوا، (عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ): لا يزيد ولا ينقص الأشهر الحرم من الأربعة، (فيُحِلوا مَا حَرَّمَ اللهُ)، [فإنهم] لم يحرموا الشهر الحرام بل وافقوا في العدد وحده، قيل: وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت فلذلك قال تعالى: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر " الآية، (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ): فإن الشيطان يغويهم، (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِي)، أي: لا يهدي من هو في علم الله كافر مؤبد الكفر أو معناه، لا يهديهم في حال كفرهم. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا): اخرجوا، (فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ)، تباطأتم، (إِلَى الْأَرْضِ)، متعلق بـ اثاقلتم لتضمنه معنى الميل والخلود نزلت في شأن غزوه تبوك أمروا بها حين رجعوا من فتح مكة والطائف في وقت عسرة وشدة حر فشق عليهم، (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ)، أي: بدلها

يعني الجنة، (فمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، التمتع بها، (فِي الْآخِرَةِ)، أي: في جنبها، (إِلَّا قَلِيلٌ)، فإنها لا تتناهى وأين نعيم الدنيا من نعيمها (إِلا تَنفِرُوا)، شرطية، (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، في الدنيا والآخرة، (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)، يأت بقوم آخرين مطيعين بعد هلاككم، (وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً)، بالتثاقل فإنه هو الناصر لدينه، أو الضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي: سينصره إن قعدتم عن الحرب، (وَاللهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ)، فيقدر على تبديلكم ونصرته بلا مددكم، (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ)، بمنزلة العلة له، (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، حاصله أنه ينصره كما نصره جواب الشرط محذوف وهو فسينصره، وقوله: " فقد نصره الله " حين إن وقع الكفار سببًا لخروجه، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، أي حال كونه أحد اثنين هو - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه، (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)، في جبل ثور وهو بدل البعض من " إذ أخرجه "، لأن المراد منه زمان متسع، (إِذ يَقُولُ)، بدل آخر أو ظرف لـ ثاني، (لِصَاحِبِهِ)، أبي بكر حين طلع الكفار فوق الغار يطلبونهما، (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)

بالنصرة والعصمة، (فَأَنزَلَ اللهُ سكِينَتَهُ)، أمنته، (عَلَيْهِ)، أي تجدد أمنته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن الضمير لأبي بكر رضى الله عنه ويؤيد الأول قوله، (وَأَيَّدَهُ)، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، (بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا)، أي: الملائكة ليحرسوه، قال بعضهم: المراد بقوله: " وأيده بجنود لم تروها " التأييد يوم [بدر] فعلى هذا عطف على أخرجه الذين كفروا، (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، كلمة الشرك، (السفْلَى)، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فلم يروه أو حين قتلوا وأسروا يوم بدر، (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا)، كلمة التوحيد عالية ظاهرة حين هاجر المدينة أو حين غلبوا ونصروا يوم بدر، (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، في أمره وتدبيره، (انْفِرُوا)، إلى جهاد تبوك، (خِفَافًا وَثِقَالًا)، شبانًا وشيوخًا أو نشاطًا وغيره أو ركبانًا ومشاة أو فقيرًا وغنيًّا أو قليل العيال وغيره أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه أو أصحاء ومرضى أو مسرعين، وبعد الاستعداد، (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، من التثاقل إلى الأرض، (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون)، فإن من لم يكن من أهل العلم لا يصدق بخيرية النفور ويختار هوى النفس، قال ابن عباس رضى الله عنه: نسخت هذه الآية بقوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، قال بعضهم: لما نزلت اشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله:

(43)

" ليس على الضعفاء ولا على المرضى " الآية [التوبة: 91]، (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً)، لو كان ما دعوا إليه نفعًا وغنيمة دنيوية قريبة، (وَسَفراً قَاصِداً)، متوسطاً، (لاتَّبَعوكَ)، وافقوك، (وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)، المسافة التي تقطع بمشقة فإنه عليه الصلاة والسلام خرج بنية الروم، (وَسَيَحْلِفون بِاللهِ)، إذا رجعت من تبوك عذراً للتخلف يقولون، (لَوِ اسْتَطَعْنَا)، استطاعة بدن ومال، (لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ)، هذا ساد مسد جوابي القسم والشرط، (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ)، بإيقاعها في العذاب للحلف الكاذب حال من فاعل سيحلفون، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، فإنهم مستطيعون. * * * (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا

فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (59) * * * (عَفَا اللهُ عَنْكَ)، خطأك في إذنهم للتخلف (1)، بدأ بالعفو قبل [التعبير] (2) بالذنب لنهاية العناية في شأنه عليه الصلاة والسلام، (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ): في القعود وهلا توقفت،

_ (1) عبارة فيه سوء أدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبع فيها المؤلف الزمخشري والبيضاوي - غفر الله لنا ولهم أجمعين. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية). (2) في الأصل [التعيير] ولعل ما أثبتناه هو الصواب. والله أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

(حَتَّى يَتَبينَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا): في الاعتذار فتأذن لهم، (وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ): فلا ترخصهم في التخلف، (لاَ يَسْتَئْذِنكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، في التخلف كراهة، (أَن يُجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)، لأنَّهُم يرون الجهاد قربة أو لا يستأذنون في أن يجاهدوا بل يسرعون إلى الجهاد من غير طلب إذن، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتقِينَ)، فيجازيهم على حسب تقواهم، (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ)، في التخلف، (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)، يتحيرون، (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ)، معك إلى القتال، (لأَعَدُّوا لَه)، للخروج، (عُدَّةً)، أهبة من الزاد والركوب، أي: هم أهل ثروة واستطاعة، (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ)، يعني ما خرجوا ولكن تثبطوا؛ لأن الله أبغض

خروجهم معك، (فَثَبَّطَهُمْ)، حبسهم ومنعهم عن الخروج، (وَقِيلَ اقْعُدُوا)، في بيوتكم تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم، أو قال بعضهم لبعض، (مَعَ الْقَاعِدِينَ)، الذين لهم عذر، أو مع الصبيان والنسوان وعلى هذا صلاحكم في تخلفهم، وعتاب الله تعالى عليه لمبادرة الإذن في التخلف، (لَوْ خرَجُوا)، يبين وجه كراهته تعالى، (فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ)، بخروجهم شيئاً، (إِلَّا خَبَالًا)، فساداً ولا يلزم من هذا أن يكون للمؤمنين فساد وهم زادوه، (وَلأَوْضَعُوا)، لأسرعوا ركائبهم، (خِلَالَكُمْ)، في وسطكم بإيقاع العداوة للنميمة، (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)، يريدون أن يفتنوتكم بإيقاع الخلاف فيكم، (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، مطيعون مستجيبون لحديثهم أو سماعون لهم الأخبار لينقلوها عليهم، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، فيجازيهم، (لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ)، تفريق أصحابك

وتشتيت أمرك، (مِنْ قَبْلُ)، في أوائل ما جئت المدينة رمته العرب واليهود ومنافقوها عن قوس واحد، (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ)، دبروا لك الحيل، (حَتَّى جَاءَ الحَقُّ)، التأييد الإلهى، (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ)، وعلا كلمته يوم بدر ويوم فتح مكة، (وَهُمْ كَارِهُونَ)، كما قال ابن سلول الملعون حين سمع قصة بدر: هذا أمر قد توجه، (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذن لِّي)، في القعود، (وَلاَ تَفْتِنِّي)، لا توقعني في الفتنة ببنات الأصفر نزلت في جد بن قيس من أشراف بني سلمة حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له هل لك في جهاد بني الأصفر يعني الروم فقال لنفاقه: ائذن لي ولا تفتني ببنات الأصفر فوالله إني أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمالي، (أَلاَ فِي الفِتْنَةِ)، بسبب تخلفهم عنك، (سَقَطُوا)، لا بسبب بنات الأصفر وما دعوتهم إليه، (وَإِنْ جَهنمَ لَمُحِيطَةٌ بالْكَافِرِينَ) جامعة لهم لا مهرب ولا محيص، (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ)، ظفر وغنيمة، (تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ)، كما أصاب يوم أحد، (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ)، عملنا بالحزم كما قال ابن سلول وأصحابه حين تخلفوا عنك يوم أحد، (وَيَتَوَلَّوْا)، عن مقام التحدث أو أعرضوا عن الرسول، (وَهُمْ فَرِحُونَ)، بما نالكم من المصيبة، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا)، في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، (هُوَ مَوْلَانَا)، ملجؤنا وناصرنا، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكلِ المُؤْمِنُونَ)، لا على كثرة العدد والعدد، (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ)، تنتظرون، (بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)، النصرة والشهادة وكل

منهما حسنى، (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ)، إحدى السوءين، (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)، بقارعة وبلاء من السماء، (أَوْ بِأَيْدِينَا) أو بعذاب بأيدينا كالقتل، (فَتَرَبَّصُوا)، انتظروا ما هو عاقبنا، (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)، ما هو عاقبتكم، (قُلْ أَنفِقوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)، طائعين أو مكرهين، (لن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ)، أمر في معنى الخبر، أي: لن يتقبل الله منكم نفقاتكم إن أنفقتم طوعاً أو كرهًا كما قال جد بن قيس أعينك بمالي، (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ)، تعليل لعدم القبول على سبيل الاستئناف، (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا)، أي: إلا كفرهم فاعل منع، (بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى)، متثاقلين ليس لهم قصد صحيح، (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)، لأنَّهُم لا يرجون بها ثواباً؛ بل غرضهم إظهار الإسلام، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ)، فإنها لهم استدراج ووبال، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، بزكاتها والنفقة في سبيل الله على كره والتعب في جمعها والوجل في حفظها والشدائد والمصائب فيها فهي لهم عذاب وللمؤمنين أجر، قال بعضهم: في الحياة الدنيا متعلق بـ لا تعجبك، (وَتَزْهَقَ)، تخرج، (أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)، أي: يموتوا كافرين مشتغلين بصعوبة فراق [المستلذات] الدنيوية غافلين عن النظر في العاقبة، (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ)، من جملة المسلمين، (وَمَا هُم مِّنكمْ)، فإنهم

منافقون، (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)، يخافون فيحلفون تقية، (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً)، حصنًا يلجئون إليه، (أَوْ مَغَارَاتٍ)، غيرانًا في الجبال، (أَوْ مُدَّخَلًا)، نفقاَ ينحجرون فيه كنفق اليربوع، (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)، لأقبلوا نحوه، (وَهُم يَجْمَحُون)، يسرعون إسراعًا لا يردهم شيء وحاصله أنَّهم لو وجدوا مهربًا منكم أى مهرب لفروا منكم لضيقهم في أيديكم، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ)، يعيبك، (فِي الصَّدَقَاتِ)، أي: في قسمتها، (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)، أي: ينكرون ويعيبون لحظ أنفسهم، وإذا للمفاجأة نائب مناب فاء الجزاء نزلت في ذوى الخويصرة أصل الخوارج وآبائهم حين قال: اعدل في القسمة فقال صلى الله عليه وسلم: قد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل فمن يعدل؟، أو نزلت في أبي الجواظ من المنافقين حين قال: أتقسم بالسوية، (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ)، أعطاهم، (اللهُ وَرَسُولُهُ)، من الغنيمة والصدقة، وفعل الرسول بأمر الله، فلذلك أتى بلفظ الله، (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ)، محسبنا وكافينا، (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ)، في أن يوسع علينا من فضله وجواب لو محذوف، أي: لكان خيرًا لهم وأقوم. * * *

(60)

(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) * * * (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) أي: الزكاة لهؤلاء لا لغيرهم والفقير المستضعف الذي لا يسأل، وعند الشافعي رضي الله عنه: من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من

حاجته أو المحتاج المريض أو فقراء المهاجرين، (وَالْمَسَاكِينِ)، المستضعف الذي يطوف ويسأل وعند الشافعي رضي الله عنه من له مال أو كسب لكن لا يكفيه أو المحتاج الصحيح والفقراء من أهل الكتاب، (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)، الساعين في تحصيل الصدقات غنيًا أو فقيرًا، (وَالْمُؤَلفَةِ قُلُوبُهُمْ)، وهم أقسام منهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه، ومنهم من يعطى رجاء إسلامه، ومنهم من يعطى لإسلام نظرائهم وأمثالهم، ومنهم من يعطى ليأخذ الزكاة ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد، قال كثير من العلماء: سهمهم الآن بعد أن أعز الله تعالى الإسلام ساقط، وقال قوم: باق إلى الأبد، (وَفِي الرِّقَابِ)، أي: للصرف في فك الرقاب بإعانة المكاتَب أو باشتراء الرقاب للعتق، والعدول عن اللام إشارة إلى أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب، (وَالْغَارِمِينَ)، المديونين إن صرفه في غير معصية وحينئذ لو صرفه في مصالحه فيعطى إذا لم يكن له ما يفيء بالدين ولو صرفه في المعروف وإصلاح ذات

البين فيعطى وإن كان غنيًا، (وَفِي سَبِيلِ اللهِ)، هم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وإن كانوا أغنياء قال بعضهم: والحجاج أيضًا، (وَابْنِ السَّبِيلِ)، المسافر المنقطع عن ماله وإن كان له مال في بلده، (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ)، أي: فرض لهم الزكاة فريضة، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، يضع الأمور في مواضعها ثم اعلم أن أكثر السلف على أنه لا يجب استيعاب الأصناف الثمانية بل يجوز الدفع إلى واحد منها وقال بعضهم يجب، (وَمِنْهُمُ)، أي: من المنافقين، (الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)، الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع كانوا يقولون في شأنه ما لا ينبغي فيقول بعضهم: لا تقولوا ربما يبلغه قولكم فقالوا لا بأس إنه أذن لو ننكر ما قلنا وحلفنا ليصدقنا، (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، كأنه قال: نعم أذن، لكن هو أذن خير يسمع الخير ويقبله لا أذن شر فلا طعن ولا ذم بفطنته إلا شرف

وشهامته وهو من أهل سلامة القلوب عليه أشرف الصلوات وأكمل التسليمات ثم فسر ذلك بقوله، (يُؤْمِنُ بِاللهِ)، يصدق به، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)، يسلم لهم أقوالهم لكونهم صادقين، (وَرحْمَةٌ)، أي: هو رحمة، وقراءة جرِّها لعطفها على " خير "، (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)، وحجة على الكافرين قيل المراد من الذين آمنوا: من أظهر الإيمان حيث لا يكشف سره، ففيه إشارة إلى أن قبول قولكم رفق وترحم منه لا لجهله وبلاهته، (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ)، على مدعاهم، (لِيُرْضُوكُمْ)، بيمينهم، نزلت في قوم من المنافقين، قالوا: إن كان ما يقول محمد حقًّا فنحن شر من الحمير، فلما بلغت مقالتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وسألهم حلفوا بالله إن المبلِّغ كذاب، أو في رهط تخلفوا عن غزوة تبوك وحلفوا في معاذيرهم، (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين فكأنهما واحد، (إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)، صدقًا، (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ)، الضمير للشأن، (مَن يُحَادِدِ الله وَرَسولَهُ)، يشاقق الله ويخالفه، (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ)، تقديره فحق أن له نار جهنم على حذف الخبر، (خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)، الذل والفضيحة العظيمة، (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم)، على المؤمنين، (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ)، تخبرهم، (بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)، من الكفر والحسد وتهتك عليهم أستارهم يعني يقولون القول ويستهزئون، ثم يقولون عسى الله أن لا

يفشي علينا سرنا، (قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ)، مظهر مبرز، (مَا تَحْذَرُونَ)، ظهوره، (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)، نزلت في ركب من المنافقين قالوا في غزوة تبوك انظروا إلى هذا الرجل يريد فتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فلما نزل الوحي دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قلتم كذا وكذا فحلفوا أن لسنا في شيء من أمرك لكنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر وليقطع الطريق بالحديث واللعب، (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)، توبيخًا لهم فإنهم كاذبون في عذرهم، (لَا تَعْتَذِرُوا)، فإني أعلم كذبه، (قَدْ كَفَرْتُمْ)، أظهرتم الكفر بما قلتم، (بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، بعدما أظهرتم الإيمان، (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ)، لتوبتهم، (نُعَذِّبْ طَائِفَةً)، منكم، (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)، مصرين على النفاق والاستهزاء، قيل كانوا ثلاثة فعفى الله عن واحد كان يضحك ولا يخوض. * * * (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ

(67)

الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) * * * (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ)، أي: وهم على دين وطريق واحد وبعضهم مشابه ومقارب من بعض كأبعاض الشيء الواحد، (يَأْمُرُون بِالْمُنكَرِ)، بالكفر والمعاصي، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ)، الإيمان والطاعة، (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)، عن الإنفاق في سبيل الله، (نَسُوا اللهَ)، تركوا ذكره وطاعته،

(فَنَسِيَهُمْ)، تركهم من لطفه وإنعامه، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، الكاملون في التمرد، (وَعَدَ اللهُ الُمنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، مقدرين للخلود، (هيَ)، أي: النار، (حَسْبهُمْ)، كافيهم جزاء على نفاقهم، (وَلَعَنَهُمُ اللهُ)، أبعدهم من رحمته، (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)، لا تصير النار قط عليهم بردًا، (كالَّذِينَ)، أي: أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين، (مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ)، بدينهم أو بنصيبهم من ملاذ الدنيا، (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ)، فحالكم وفعلكم كفعلهم القبيح الشنيع، بين أولاً بقوله " فاستمتعوا " قباحة طرائقهم ثم شبههم بهم حذو النعل بالنعل، (وَخُضْتُمْ)، في الكذب والباطل، (كَالَّذِي خَاضُوا)، أي: كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، (أُوْلَئِكَ حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنيَا وَالْآخِرَةِ)، لم يستحقوا عليها في الدارين جزاء، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، دينهم ودنياهم، يعني: كما حبطت أعمال من قبلكم حبطت أعمالكم، (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ)، أهلكوا بالطوفان، (وَعَادٍ)، بالريح، (وَثَمُودَ)، بالصيحة، (وَقَوْمِ

إِبْرَاهِيمَ)، بسلب النعمة وهلاك ملكهم نمرود ببعوض، (وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ)، قوم شعيب بالنار يوم الظلة، (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ)، قريات قوم لوط ائتفكت بهم انقلبت فصارت عاليها سافلها، (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، المعجزات الظاهرات فكذبوهم فأخذوا بتعجيل النقمة، (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ)، بأن عاقبهم بلا جرم، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، بتكذيب رسلهم فاستحقوا العذاب فنزل عليهم، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، أي: يتناصرون ويتعاضدون في مقابلة قول: " المنافقون والمنافقات " الآية، (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)، في جميع ما أمر ونهي (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ)، لا محالة والسين مؤكدة للوقوع، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ)، غالب، (حَكِيمٌ)، يضع الأشياء في مواضعها، (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، تحت أشجارها وغرفها، (خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيبَةً)، من أنواع الجواهر، (فِي جَنَّاتِ عَدْن)، وقد ورد: العدن دار الله التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر، أو نهر في الجنة جناته على حافتيه، أو أعلى درجة في الجنة، (وَرِضْوَانٌ من اللهِ)، أي: شيء من رضاه، (أَكْبَرُ)، من جميع ذلك أو مما يوصف، فإن رضى الله هو المبدأ لكل سعادة وهو المؤدي إلى الوصال واللقاء، (ذلِكَ)، أى: الرضوان أو جميع ما تقدم، (هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ). * * *

(73)

(ييَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكفَّارَ)، بالسيف، (وَالْمنَافِقِينَ)، بتغليظ الكلام وترك الرفق، أو بإقامة الحدود عليهم أو بالسيف إذا أظهروا النفاق، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، مصيرهم، (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا)، نزلت حين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في ظل شجرة إذ طلع رجل أزرق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق وجاء بأصحابه وحلفوا بالله أنَّهم ما قالوه، أو نزلت في جلاس ابن سويد حين قال: إن كان ما جاء به محمد - حقًا لنحن أشر من الحمير ومعه ابن امرأته فأوعده بأن يذكر قوله هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل أقلت كذا وكذا؟ فحلف، أو نزلت في ابن أبي حين قال لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر وحلف، (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ)، سبه أو تكذيبه، (وَكفَرُوا بَعْد إِسْلامِهِمْ)، أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان، (وَهَمَّوا)، قصدوا، (بِمَا لَمْ يَنَالُوا)، ما قدروا عليه من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم - في العقبة التي بطريق تبوك، أو من قتل ابن امرأة الجلاس حين أوعد السعاية، أو أرادوا أن يعقدوا على رأس ابن سلول تاجًا يباهي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما سئلوا عن هذه الإرادة حلفوا أنا ما أردنا، (وَمَا نَقَمُوا)، ما أنكروا وما عابوا، (إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) وحاصله أنَّهم جعلوا الشكاية والعيب موضع الشكر والمدح فإنه ما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته بعدما كانوا في ضنك وضيق، (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ)، أي: التوب، (خَيْرًا لَهُمْ)، فتاب الجلاس وحسنت توبته، (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا)، بالإصرار على النفاق، (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، ينجيهم من عذابه، (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ

لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)، نزلت في ثعلبة بن حاطب التمس الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكثير ماله وعهد أن لو رزق ليعطي كل ذي حق حقه فلما رزق غنمًا تضيق بها المدينة أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب الزكاة منه فأبى وقال: ما هذه إلا أخت الجزية. فلما نزلت الآية جاء بالزكاة فقال: إن الله تعالى منعني أن أقبل منك. فجعل التراب يحثو على رأسه، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قبل منه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضى الله عنه، (فَلَمَّا آتَاهُمْ): الله (مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا) عن طاعة الله، (وَهُم مُّعْرِضُونَ)، قوم عادتهم الإعراض، (فَأعْقَبَهُمْ)، أورثهم الله وجعل عاقبة فعلهم، (نِفاقًا)، متمكنًا، (فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)، يلقون الله بالموت، (بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ)، من التصدق والصلاح، (وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)، وبسبب كذبهم فإن خلف الوعد مستقبح من وجهين الإخلاف والكذب، (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ

سِرَّهُمْ)، من إضمار النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، (وَنَجْوَاهُمْ)، ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية، (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فلا يخفى عليه شيء، (الذِينَ يَلْمِزُونَ)، يعيبون مرفوع أو منصوب بالذم، أو بدل من ضمير سرهم، (الْمُطَّوِّعِينَ)، المتطوعين، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ)، نزلت لما حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة جاء بعضهم بكثير مال وبعضهم الفقراء بالقليل، فقال المنافقون: من أكثر فهو مراء، ومن أقل أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات (وَالذِينَ)، عطف على المطوعين، (لاَ يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ)، طاقتهم وهم الفقراء، (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)، يستهزءون بهم، (سَخِرَ الله مِنْهُمْ)، جازاهم على سخريتهم، أي: أذلهم، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، أي: ساوي استغفارك وعدمه في عدم الإفادة لهم، (إِن تَسْتَغفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)، المراد منه التكثير لا العدد المخصوص، (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)، وقد نقل أنه لما نزلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد رخص لي فأزيدن على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم "

(81)

حرصًا على مغفرتهم فأنزل الله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). وهو من باب حمل اللفظ على ما يحتمل مع العلم بأنه غير مراده، كقول بعضهم: مثل الأمير يحمل على الأدهم. والأشهب في جواب قول الحجاج: لأحملنك على الأدهم. أي: السلسلة إلى (ذَلِكَ)، أي: عدم قبول استغفارك، (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، المتمردين في الكفر، فإن من طبع على الكفر لا ينقطع أبدًا ولا يهتدي، فعدم قبول دعائك لا لبخل منا ولا لقصور فيك؛ بل لعدم قابليتهم. * * * (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ

لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) * * * (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ)، بقعودهم عن الغزو، (خِلافَ رَسُولِ اللهِ)، أي: خلفه كما في: أقام خلاف الحي. أي: بعده أو من المخالفة، أي: لمخالفته أو مخالفين له، (وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا)، بعضهم لبعض أو للمؤمنين، (لاَ تَنفِرُوا)، لغزوة تبوك، (فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا)، وقد اخترتموها بهذه المخالفة، (لوْ كَانُوا يَفقَهُون)، أنها كيف هي، أو أن مصيرهم إليها، أو لو أنَّهم يفهمون ويفقهون لنفروا ليتقوا به من حر جهنم، (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً)، عن ابن عباس رضى الله عنهما - وغيره: الدنيا قليل،

فليضحكوا فيها ما شاءوا (وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا)، فإنهم في النار لا يزالون باكين أبد الآباد، (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، من النفاق، (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ)، أي: من المخلفين. وليس كل من تخلف عن تبوك منافقًا، يعني: إن وصلت إلى المدينة وفيها طائفة منهم، (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ)، إلى غزوة أخرى بعد تبوك، (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، إخبار في معنى النهي، (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ)، استئناف تعليل له، (أَوَّلَ مَرَّةٍ)، هي الخرجة إلى تبوك، (فَاقْعُدُوا)، حينئذٍ، (مَعَ الْخَالِفِينَ)، أي: الرجال الذين تخلفوا بغير عذر، أو مع النساء والصبيان والمرضى والزمنى قيل: مع المخالفين. (وَلَا تُصَلِّ)، صلاة الجنازة، وقيل: لا تدع ولا تستغفر، (عَلَى أَحَدٍ منْهم مَّاتَ أَبَدًا)، الموت على الكفر موت أبدي، فإن إحياءه للتعذيب أسوأ وأسوأ من الموت فكأنه لم يحيى، (وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)، لا تقف تستغفر، أو تدع له أو لا تتول دفنه، (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)، تعليل للنهي، نزلت بعد أن مات ابن

أبى بن سلول وهو - صلى الله عليه وسلم - أرسل قميصه الأشرف لكفنه بالتماسه، في مرض موته، وقام ليصلى عليه، وعمر - رضى الله عنه - قام بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقبلة؛ لئلا يصلي عليه، فقال الأكثرون: نزلت بعد أن صلى عليه. وقال بعضهم: نزلت حين قام عمر فلم يصل عليه. ولما رأوا أنه تبرك بقميصه أسلم من المنافقين يومئذ ألف، وقال بعضهم: إنما ألبسه مكافأة؛ لأن ابن سلول ألبسه ثوبه يوم بدر العباس، فإنه بين الأسارى ليس له ثوب، (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا)، بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله منها على كره والشدائد والمصائب بلا طمع ثواب، (وَتَزْهَقَ)، تخرج، (أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)، فإن الأبصار طامحة على الأموال والأولاد سيما عند المفارقة فيبغضون حكم الله وملائكته.

(90)

(وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا)، أي: بأن آمنوا، (بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ)، أصحاب الغنى، (مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ)، أي: النساء، جمع خالفة، أي: بحيث لا يتحرزون عن هذا العار (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أحدث فيها هيئة تمرنهم على استحباب الكفر واستقباح الإيمان بحث لا ينفذ فيها الحق كأنه مطبوع مختوم، (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) ما فيه صلاحهم ولا ما فيه مضرتهم، (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) أي: إن لم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم، (وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ) نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الخيرات لا يعلم معناها إلا الله، (وأُوْلَئِكَ هُمُ الُمفْلِحُونَ) الفائزون، (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فإن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. * * * (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ

يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) * * * (وَجَاءَ الُمعَذِّرُونَ) من عذر إذا قصر أو من اعتذر إذا مهد العذر، (مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في القعود عن ابن عباسٍ ومجاهد - رضي الله عنهم - هم أهل العذر وقال الحسن وقتادة: اعتذروا فلم يعذرهم الله، (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في ادعاء الإيمان، أي: قعد آخرون من الأعراب المنافقين عن المجيء للاعتذار، وعن الحسن وقتادة الذين كذبوا عبارة عن المعذرون وأتى بالظاهر بدل المضمر إشارة إلى أن كذبهم بعثهم على القعود يعني وقعد عن الحرب من كذب في المعذرة، (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) فإن منهم من قعد للكسل لا للكفر، (عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) كالزمنى والمشايخ، (وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا

يُنْفِقُونَ) الفقراء، (حَرَجٌ)، إثم في التأخر، (إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ) أخلصوا الإيمان والأعمال من الغش، (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) إلى عقوبتهم، وضع المحسنين موضع الضمير إشارة إلى أنَّهم المحسنون، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمسيء فكيف للمحسن، (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) هم سبعة نفر من الفقراء التمسوا مراكب للمرافقة في الغزو، (قلْتَ) يا محمد حال من مفعول أتوك بإضمار قد: (لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) من الركب، (تَوَلوْا) جواب إذا وقلت جواب وتولوا استئناف كأنه قيل: كيف صنعوا إذا قيل لهم ذلك؟ (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) من للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز وهي أبلغ من تفيض دمعها، (حَزَنًا) مفعول له أو حال، (أَلَّا يَجِدُوا) أي: لئلا متعلق بتفيض أو حزنًا، (مَا يُنفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ) بالمعاتبة والعقوبة، (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) النساء وقبلوا تلك الدناءة، (وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قلُوبِهِمْ) حتى لم يذكروا مواعظ الله، (فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) كأنهم مجانين، (يَعْتَذرُون إِلَيْكُمْ) في التخلف، (إِذَا رَجَعتمْ) من هذه الغزوة، (إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لن نصدقكم لأنه، (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) بالوحي، (مِنْ

أَخْبَارِكُمْ) بعض ما في صدوركم، (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) في المستأنف أتتوبون أم تستمرون على نفاقكم؟ وجاز أن يكون معناه يمهلكم حتى تكتسبوا جرائم أخرى، (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الذي [لا] يفوت عن علمه شيء، (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في سركم، (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) بأن لهم في التخلف أعذارًا، (لتعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا تعاتبوهم، (فأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) دعوهم ونفاقهم، (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) نجس بواطنهم لا يقبل التطهير من النفاق، (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً)، مفعول له، أو مصدر، (بِمَا كَانُوا يكْسِبُونَ) من الآثام، (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بحلفهم، (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) بأن تصدقوهم في العذر، (فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فإنه لا يمكن التلبيس على الله تعالى بوجه والمقصود النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانوا ثمانين من المنافقين أمرنا حين قدمنا المدينة بأن لا نكلمهم ولا نجالسهم. (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) أي: أهل البدو وكفرهم ونفاقهم أعظم من أهل الحضر لقساوتهم وبعدهم عن العلماء، (وَأَجْدَرُ)، أولى، (أَلَّا) بأن لا، (يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) من الشرائع، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بقلوب أهل الوبر والمدر، (حَكِيمٌ) فيما قسم بين عباده وفي الحديث (من سكن البادية جفا ومن

(100)

اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن) (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ) في سبيل الله، (مَغْرَمًا) غرامة وخسارة لا يرجون ثوابًا، (وَيَتَرَبَّصُ) ينتظر، (بكُمُ الدَّوَائِرَ) دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم، (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) الأَمر منعكس والسوء دائر عليهم فلا يرون فيكم إلا ما يسوءهم، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالهم، (عَلِيمٌ) بضمائرهم، (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ) يعد، (مَا يُنفِقُ) في سبيل الله تعالي ويتصدق به، (قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ) أي: سبب قربات، (وَصَلَوَاتِ الرسُولِ) أي: سبب صلاته فإنه يستغفر ويدعوا للمتصدقين، (أَلاَ إِنَّهَا) أي: نفقتهم، (قُرْبَةٌ لهُمْ) أي: ما يرجون الحاصل ألبتة، (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ في رَحْمَتِهِ) السين للتأكيد، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) فيغفر زلاتهم ويدخلهم الجنة برحمته. * * * (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا

عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) * * * (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلونَ مِنَ الُمهَاجِرِينَ)، هم الذين [صلوا إلى القبلتين]، أو من

_ (1) في الأصل [صلوا القبلتين] والتصويب من البيضاوي. (مصحح النسخة الإلكترونية).

أدرك بيعة الرضوان بالحديبية، أو من شَهد البدر، (وَالأَنصَارِ) هم الذين آمنوا قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم، (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ) بإيمان وطاعة إلى يوم القيامة كسائر الصالحين من أهل السنة وقال بعضهم: المراد بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ)، أي تحت أشجارها، (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة خبر لقوله والسابقون، (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ) أعراب حوالي المدينة، (مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على ممن حولكم وقوله: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو عطف الجملة على الجملة تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا، أي: تمردوا أو تمهروا، (لاَ تَعْلَمُهُمْ) يا محمد بأعيانهم، (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) فإنه لا يخفى علينا شيء،

(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) فضيحتهم في الدنيا وعذاب القبر ومصائب في أموالهم وأولادهم فهذه لهم عذاب وللمؤمنين أجر وعذاب القبر أو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ثم عذاب القبر، (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) وهو الخلود في جهنم، (وَآخَرُون) من أهل المدينة لا من المنافقين، (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) في التخلف عن الغزو، (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا) كصلاتهم وإنابتهم وغيرهما، (وَآخَرَ سَيِّئًا) كتقاعدهم عن تلك الغزوة كسلاً، قيل: الواو بمعنى الباء كما في بعت الشاة شاة ودرهماً أي بدرهم، والأولى أن الواو على أصله دال على أن كل واحد مخلوط بالآخر كما تقول: خلطت الماء واللبن، أي: خلطت كل واحد منهما بصاحبه، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) يقبل توبتهم، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن تبوك ثم إذا رجعت الغزاة عن غزوتهم ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت حلهم وعفا عنهم، (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)، نزلت لما أطلق هؤلاء الذين ربطوا أنفسهم بالسوارى وقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا تصدق ها وطهرنا فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: " ما أمرت بأخذ شيء من أموالكم "، (تطَهِّرُهُمْ) عن الذنوب، (وَنُزكِّيهِم بِهَا) ترفعهم بهذه الصدقة إلى منازل المخلصين،

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ادع لهم، (إِن صَلاَتكَ سَكَنٌ) طمأنينة ورحمة ووقار، (لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ) بدعائك، (عَلِيمٌ) بما هو أهل له أو سميع باعترافهم عليهم بندامتهم، (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) تعديته بعن لتضمنه معنى التجاوز، (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) يقبلها وهذا تهييج إلى التوبة والصدقة عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يقبل توبة تائبين ويتفضل عليهم، (وَقُلِ اعْمَلُوا) يا معشر المخالفين، (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) لا يخفى عليه شيء، (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فإن الله يطلعهم على أعمالكم لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة يوم تبلى السرائر، (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) بالموت، (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة عليه فعلى هذه الآية وعيد أو معناه يا معشر المحسن والمسيء اعملوا فلا يخفى على الله خير وشر والله يطلع الرسول والمؤمنين على ما في قلوبكم فيحبون المحسن ويبغضون المسيء ثم يوم القيامة يجازيكم فعلى هذه الآية وعد ووعيد، (وَآخَرُون)

من المتخلفين، (مُرْجَوْنَ) مؤخرون يعني: موقوف أمرهم، (لأَمْرِ اللهِ) في شأنهم، (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) لم يقبل توبتهم، (وَإِمَّا يَتوبُ عَلَيْهِمْ) يقبل توبهم، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمن يستحق العقوبة، (حَكِيمٌ) فيما يفعل والمراد منهم الثلاثة الذين خلفوا من جملة من قعد كسلاً لا نفاقًا ولم يربطوا أنفسهم بالسراري ولم يبالغوا في التوبة كما فعل أبو لبابة وأصحابه فنزلت توبتهم بعد خمسين ليلة بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا) مبتدأ خبره محذوف أي: وفيمن وصفنا من المنافقين الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص، (ضِرَارًا) مفعول له أو مصدر محذوف الفعل، أي مضارة للمؤمنين، (وَكُفْرًا) أي: تقوية للكفر، (وَتَفْرِيقًا بَيْن الْمُؤْمِنِينَ) فإنهم يجتمعون في مسجد قباء فأرادوا افتراقهم، (وَإِرْصَادًا) ترقبًا، (لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ) أبي عامر الراهب، (مِن قَبْلُ) متعلق بحارب، (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا)، أي: ما أردنا ببنائه، (إِلَّا الْحُسْنَى)، أي: إلا الخصلة الْحُسْنَى وهي الصلاة فيه والتوسعة على المسلمين، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) في حلفهم كان بالمدينة أبو عامر الراهب تنصر في الجاهلية وما آمن بمحمد عليه السلام وبعد بدرٍ التحق بقريش وحثهم على المحاربة وكان معهم في أُحد ثم ذهب إلى عظيم الروم وكتب إلى أعوانه من المنافقين يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش لمحاربة الإسلام وأمرهم ببناء مسجد له فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء إرصادًا لرجوعه من القيصر فلما أتموا بناءه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك وقالوا: أتممنا مسجدًا للضعفاء وأهل العلة والليلة المطيرة نلتمس أن تصلي فيه وتدعوا بالبركة فنزلت

في تكذيبهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدموه وأحرقوه، (لاَ تَقُمْ فِيهِ) في ذاك المسجد، (أَبَدًا) للصلاة، (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ) بني أصله، (عَلَى

التَّقْوَى) على طاعة الله ورسوله، (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيام وجوده، (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) للصلاة جماعة من السلف على أنه مسجد قباء منهم ابن عباس رضي الله عنهما وبعض منهم على أنه المسجد الذي في جوف المدينة وعليه حديث صحيح وقال بعضهم لا منافاة، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى فمسجد المصطفى صلي الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ولي في هذا التوفيق خدشة والله تعالى أعلم، (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الأحداث والنجاسات هم أهل قباء كان من عادتهم أنَّهم يستعملون الماء في الاستنجاء عقيب الحجر قيل: ولا ينامون على الجنابة وقيل: يتطهرون بالتوبة عن الشرك والمعاصي، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يرضى عمن طهر ظاهره وباطنه، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) أي: بنيان مبنية، مصدر كالغفران، (عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ) أي: على قاعدة محكمة قوية هي التقوى من

(111)

مخالفته، (وَرِضْوَانٍ) وطلب مرضاته، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) أي: بنيان مبنيه، (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) جانب وادٍ من أودية جهنم تكاد تسقط على جهنم والشفا الحرف وجرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيًا والهار المنصدع الذي أشفى على السقوط قيل حاصله أنه على قاعدة ضعيفة رخوة تكاد تسقط، (فَانْهَارَ بِهِ) طاح ببانيه وأسقطه، (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) قد صح عن بعض الصحابة أنه رأى الدخان يخرج من هذه الأرض حين حفر وهو اليوم مزبلة، (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى ما فيه صلاحهم، (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ) أي: مبنيهم مصدر أريد به المفعول، (الَّذِي بَنَوْا) صفة لبنيانهم وجاز أن يكون بنيانهم على معناه المصدري والذي بنوا مفعوله، (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) سبب شك ونفاق فإنهم بنوا للكفر والتفريق فلما خربوه ازدادوا غيظًا وحسدًا وبغضًا (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) بالموت والاستثناء من أعم الأزمنة، أي: يسئلون عنه حينئذ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأعمال الخلائق، (حَكِيمٌ) في مجازاتهم من خير وشر. * * * (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) * * * (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ)، التي هو خلقها (وَأَمْوَالَهُمْ) التي هو رزقها، (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيل الله الجنة، (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) استئناف ببيان ما لأجله الشرى، (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان فإن الاشتراء بالجنة يستلزم الوعد بها، (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ)، أي: هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين ثابت فيهما

كما هو ثابت في القرآن، قال بعضهم: الأمر بالجهاد في جميع الشرائع، وقال بعض: كتب فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ)، يعني لا أحد أوفى بما وعد " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا " [النساء: 122]، (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي، (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: " لربي أن تصدقوه ولا تشركوا به شيئًا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم "، قالوا: فما لنا؟ قال: " الجنة "، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، (التَّائِبُونَ) أي: هم التائبون مدحهم الله تعالى به، (الْعَابِدُونَ) بالإخلاص، (الْحَامِدُونَ) لله تعالي على كل حال، (السَّائِحُونَ) الصائمون كما ورد " سياحة أمتي الصوم " يعني في رمضان، وقيل: من يديم الصوم، أو المجاهدون أو طلبة العلم، (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) المصلون، (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان والطاعة، (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعاصي وجاء بحرف العطف إشارة إلى أن ما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) القائمون بطاعته وهذا مجمل الفضائل، وما قبله مفصل، قال بعض العلماء: هذه الثلاثة في حكم خصلة واحدة، يعني: يرشدون الخلائق إلى الطاعة بأمرهم بالمعروف

ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله تعالى في تحليله وتحريمه علمًا وعملاً وعلى هذا وجه العطف أظهر، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: الموصوفين بتلك الفضائل وذكر لفظ المؤمنين دون الضمير للإشعار بأن الإيمان داع إلى ذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه شيء لا يمكن بيانه، (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) بأن ماتوا على الكفر نزلت في استغفار النبي صلي الله عليه وسلم لأبي طالب أو لأبيه وأمه أو حين استأذن المسلمون أن يستغفروا لأبويهم، (وَمَا كَانَ اسْتِغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا) إبراهيم، (إِيَّاهُ) بقوله: لأستغفرن لك، أي: أطلب لك المغفرة من الله، أو وعدها أبوه إياه أي: إبراهيم وهى عدته بالإيمان والأول أصح عن على رضى الله عنه أني سمعت رجلاً يستغفر لأبويه المشركين فنهيته، فقال: ألم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه فذكرت ذلك

للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل " ما كان للنبي " إلى قوله: " إن إبراهيم لأواه حليم " ولما استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لأمه فلم يأذن رحم عليها وبكى فجاء جبريل عليه السلام بقوله " وما كان استغفار إبراهيم " الآية وقال: تبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) بالوحي أو بموته على الكفر، (أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ) ما دعا له بعد، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ) متضرع كثير الدعاء أو الرحيم أو الموقن بلسان الحبشة أو المؤمن التواب أيضًا بلسانهم أو المسبح أو كثير الذكر والتسبيح أو فقيه أو يتأوه من الذنوب كثيرًا نقل أنه عليه السلام يتنفس تنفس الصعداء كثيرًا ويقول آه من النار قبل أن لا ينفع آه، (حَلِيمٌ) صبور على الأذى صفوح، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِل قَوْمًا)، ليحكم عليهم بالضلالة ويؤاخذهم، (بعْدَ إِذ هَدَاهُمْ) للإسلام، (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون) أي: ما يجب اتقاؤه والغافل غير مكلف فلا نؤاخذكم باستغفاركم أبويكم المشركين قبل أن تعلموا أنه خطر حرام لكن لما بينت حرمته إن عدتم إليه ليتحقق الضلال قال بعضهم: نزلت في قوم عملوا بالمنسوخ قبل أن يعلموا نسخه، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ

مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) فتبرءوا عن المشركين وتوجهوا إلى الله تعالى بالكلية، (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)، أي: في وقت العسرة، يعني غزوة تبوك، فإنها في وقت شدة وحر وقلة زاد وماء ومركوب، (مِن بَعْدِ مَا كَادَ) اسم ما كاد ضمير الشأن، (يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنْهُمْ)، تميل عن الحق، فإن كثيرًا منهم هموا بالتخلف ثم عصمهم الله تعالى فلحقوا أو لما نالوا شدائدها من الجوع وغاية العطش والحر كادوا يشكون في دين الإسلام وأما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: " لقد تاب الله على النبي " معهم فلأنه أذن للمنافقين في التخلف قبل إذن الله تعالى وقال بعض افتتح به الكلام لأنه كان صلى الله عليه وسلم سبب توبتهم فذكره معهم، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتأكيد، فإنه لما ذكر ذنبهم أعاد ذكر توبتهم، (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ) عطف على النبي، (الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي: خلف الله تعالى أمرهم عمن ربط نفسه بالسواري وعمن اعتذر بالأكاذيب وقيل: خلفوا عن الغزو، (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، أي: برحبها ووسعتها وهو مثل لشدة الحيرة فإنهم مهجورون بالكلية في المعاملة والمجالسة والمكالمة، (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ) قلوبهم من كثرة الهم، (وَظَنُّوا) علموا، (أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) من

(119)

سخطه، (إِلَّا إِلَيْهِ) بالتضرع والاستغفار، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) وفقهم للتوبة أو رجع عليهم بالرحمة، (لِيَتُوبُوا) أو قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل إن صدر عنهم خطيئة أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم، (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يقبل توبة العباد بمحض رحمته وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفى. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في نياتهم وأعمالهم أو في الاعتراف بالذنب لا كمن اعتذر بالأكاذيب والخطاب لأهل الكتاب، أي: كونوا مع

محمد عليه السلام وأصحابه، (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) نهي بصيغة النفي للمبالغة، (وَلاَ يَرْغَبُوا)، أي: ولا أن يرغبوا، (بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) لا أن يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه الأشرف عنه، (ذلِكَ) أي: النهي عن التخلف ووجوب الموافقة، (بِأنَّهُمْ) بسبب أنهم، (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش، (وَلاَ نَصَبٌ) تعب، (وَلاَ مَخْمَصَةٌ) مجاعة، (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ) لا يدوسون، (مَوْطِئًا) مكانًا، (يَغِيظُ) وَطْؤُه، (الكُفارَ) يضيق صدورهم ويغضبهم، (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا) قتلاً وأسرًا أو غنمية وغلبة، (إِلا كُتِبَ لَهُم بِهِ) بكل واحد من الظمأ وغيره، (عَمَلٌ صَالِحٌ)، إلا استوجبوا الثواب والاستثناء المفرغ في موقع الصفة للنكرة قبله أو الحال، (إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ) على إحسانهم وهو كالعلة لكتب، (وَلاَ يُنفِقُونَ نفَقَةً) في سبيل الله، (صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً) قليلاً ولا كثيرًا، (وَلاَ يَقْطَعُون) في سفرهم، (وَادِيًا) أرضًا، (إِلا كُتِبَ لَهُمْ) أثبت لهم كل من الإنفاق والقطع، (ليَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) أي: يجزيهم جزاء أحسن من أعمالهم، (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ) ما استقام لهم، (لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي: جميعًا لغزو

نزلت حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السرايا بعد تبوك ينفر المؤمنون جميعًا إلى الغزو حذرًا مما أنزل الله تعالى في تخلف المنافقين عن تبوك فيتركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (فَلَوْلَا) أي: هلا، (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) جماعة كثيرة، (طَائِفَةٌ) جماعة قليلة، (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أي: ليحصل القاعدون الفقه والقرآن وأحكامه، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ): ليعلموا النافرين ويخوفوهم بما نزل

(123)

من الوحي، (إِذَا رَجَعُوا) من الغزو، (إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) عما ينذروا عنه أو ليتفقه النافر أي: ليتبصروا بالغلبة على المشركين وينظروا صنائع الله تعالى ثم إذا رجعوا ينذروا قومهم من الكفار ويخبرهم بنصرة الدين لعلهم يحذرون، أو نزلت حين نزلت أحياء العرب المدينة فغلت أسعارهم وفسدت طرقهم بالعذرات وحينئذ معنى الآية ظاهر، أو نزلت حين خرج بعض الصحابة في البوادي فأصابوا منهم معروفًا ودعوا الناس إلى الهدى فقال أهل البوادي: ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم فرجعوا كلهم إلى المدينة فقال تعالى هلا رجع طائفة منهم يستمعوا ما أنزل الله تعالى بعدهم من الوحي ولينذروا ويخبروا قومهم أي: أهل البوادي بالفقه الذي تعلموه إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد ذكر في وجه النزول غير ما ذكرنا أيضًا. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ

مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمروا بقتال الأقرب فالأقرب ولهذا لما فرغوا عن جزيرة العرب شرعوا في الشام، (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) شدة في القتال وصبرًا، (وَاعْلَموا أَنْ الله مَع المتَّقِينَ)، بالإعانة والحفظ، (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ) المنافقين، (مَّن يَقول) أي: يقول بعضهم لبعض استهزاء وتثبيتًا على النفاق، (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ) السورة، (إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) بزيادة المؤمن به أو لزيادة عمله الحاصل منها، (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر ونفاق، (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا) كفرًا، (إِلَى رِجْسِهِمْ) الذي كانوا عليه، (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ) أي: المنافقون، (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يختبرون بالسَّنَة والقحط أو الغزو والمصائب، (فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) لأن يتنبهوا، (ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ولا يعتبرون، (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فيها عيب المنافقين، (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) إنكارًا لها وسخرية أو تدبيرًا للفرار قائلين، (هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) يعني من المسلمين إن قمتم من الخطبة والمسجد فإن لم يرهم أحد قاموا وإلا أقاموا، (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن حضرته، (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان دعاء أو إخبار، (بِأَنَّهُمْ) أي: بسبب

أنهم، (قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) عن الله دينه، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) تعرفون حسبه ونسبه، (عَزِيزٌ) شديد شاق، (عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: عنتكم ومضارتكم، (حَرِيصٌ عَلَيْكُم) على صلاحكم وإيمانكم، (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ) له شدة الرحمة على المطيعين، (رَحِيمٌ) على المذنبين لكن غليظ شديد على الكافرين، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان وقاتلوك، (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) في الحماية والنصرة، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فلا أرجوا ولا أخاف غيره، (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلق تحته وعن بعض السلف أن آخر ما نزل هاتان الآيتان. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة يونس

سورة يونس قيل مكية إلا ثلاث آيات من قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) وهي مائة وتسع آيات، وأحد عشر ركوعًا * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) * * * (الر) عن ابن عباس رضى الله عنهما، أي: أنا الله أرى، (تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي، (آيَاتُ الْكِتَابِ) القرآن، (الْحَكِيمِ) المحكم الذي لم ينسخ، أو الحاكم بين الناس أو ذوي الحكم، (أَكَانَ لِلنَّاسِ) استفهام لإنكار تعجب الكفار، (عَجَبًا) خبر كان، (أَنْ أَوْحَيْنَا) اسم كان، (إِلَى رَجُلٍ منهُمْ) نزلت حين قالت قريش: الله أعظم أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد يعني ممن لم يكن له رياسة ومال وما يعدونه من أسباب الجلال (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)، أن مفسرة، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ) أي: بأن، (لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، أي: سابقة وأثرة حسنة أجرًا حسنًا بما قدموا أو سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وذكر الصدق إشارة إلى أن نيل تلك الرفعة بسبب الصدق، (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا) أي: الكتاب، (لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

كهذه الأيام أو كل يوم كألف سنة، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ): يقدر أمر الكائنات على مقتضي

حكمته، (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) رد على المشركين أن آلهتهم شفعاء لهم، (ذَلِكُمُ اللهُ) أي: الموصوف بتلك الصفات العظيمة، (رَبُّكُمْ) لا غير، (فَاعْبُدُوهُ) وحده، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) في أمركم أيها المشركون، (إِلَيْهِ) لا إلى غيره، (مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) بالموت، (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه، (حَقًّا) مصدر مؤكد لغيره، (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد إهلاكه، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) بعدله لا ينقص من ثوابهم وفضل الله يؤتيه من يشاء وقيل: المراد عدلهم أي: إيمانهم فإن الشرك لظلم عظيم، (وَالذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ) ماء حار انتهى حره، (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم وحاصله ليجزى الذين كفروا بشراب لكن غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعذاب، وللإشارة إلى أن المقصود بالذات من الإعادة هو الإثابة، وأما عقاب الكفرة فشيء ساقه إليهم شؤم أعمالهم وهذا أيضًا عدل لكن خصص المؤمنين بذكره لمزيد عناية وبشارة، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً) ذات ضياء، (وَالْقَمَرَ نُورًا)

أي: ذا نور قيل: ما بالذات ضوء وما بالعرض نور، (وَقَدَّرَهُ)، أي: مسير القمر، (مَنَازِلَ) أو قدر القمر ذا منازل، (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) حساب الشهور والأيام، (مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ) أي: المذكور، (إِلَّا) متلبسًا، (بِالْحَقِّ) فيه الصنائع والحكم، (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون بالتدبر، (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَّقُونَ) العواقب فإنه يحملهم على التدبر، (إِنْ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ) لا يتوقعون، (لِقَاءَنَا) لأنَّهُم ينكرون البعث، (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) من الآخرة، (وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) قصروا هممهم على زخارفها، (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا) الكونية والشرعية، (غَافِلُونَ) فلا يتفكرون فيها ولا يأتمرون بما، (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي، (إِن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ

(11)

رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)، بسبب إيمانهم إلى الصراط حتى يصلوا إلى الجنة بالسلامة، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) استئناف أو خبر ثان، (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلق بـ تجري أو حال من الأنهار، (دَعْوَاهُمْ) أي: دعاؤهم، (فيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ) مخففة من المثقلة، (الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ) عن كثير من السلف أن أهل الجنة كلما اشتهوا شيئًا قالوا: سبحانك اللهم فيأتيهم الملك بما يشتهون فيسلم عليهم فيردون عليه، وذلك تحيتهم فإن أكلوا حمدوا الله وذلك قوله وآخر دعواهم. * * * (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ

عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لله فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) * * * (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم) تعجيل الله تعالى لهم، (بِالْخَيْرِ) حاصله لو يستجيب دعاءهم بالشر عند الغضب لأهلهم وأولادهم وأموالهم كما يستجيب دعائهم بالخير، (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)، لأميتوا وأهلكوا لكن بفضله يستجيب في الخير سريعًا لا في الشر قال بعضهم: نزلت حين قالوا: " اللهم إن كان هذا هو الحق " الآية [الأنفال. 32]، (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) لا يخافون

البعث، (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) تقديره لا نعجلهم ولا نقضي فنذرهم إمهالاً واستدراجًا، (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ) المرض والشدة، (دَعَانَا) لإزالته ملقيا، (لِجَنبِهِ) أي: مضطجعًا، (أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)، أي: في جميع حالاته فإن الإنسان لا يخلوا عن إحدى هذه الثلاثة، (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) مضى واستمر على طريقته قبل الضر ونسي، (كَأَن لمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مسَّهُ) أي: كأنه لم يطلب منا كشف ضره فحذف ضمير الشأن وخفف، (كَذَلِكَ) مثل ذلك التزيين، (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من الانهماك في اللذات والإعراض عن الطاعات، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة، (لَمَّا ظَلَمُوا) بتكذيب رسلهم، (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِِ) الحجج الدالة على صدقهم عطف على ظلموا أو حال بإضمار قد، (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) لأن الله طبع على قلوبهم جزاء على كفرهم، (كَذَلِكَ) مثل ذلك الجزاء وهو الإهلاك بأفضح وجه، (نجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ) أي: كل مجرم فاحذروا يا أهل مكة، (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاِئفَ فِي الأَرْضِ) استخلفناكم فيها، (مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فنعاملكم على مقتضى أعمالكم وكيف حال عن ضمير تعملون، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) أي: المشركون، (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) أي: جيء من عند ربك بكتاب آخر ليس فيه عيب آلهتنا، (أَوْ بَدِّلْهُ) أنت من عند نفسك بأن تأتى بآية أخرى

مكان آية فيها ما نكرهه، (قُلْ مَا يَكُون) ما يصح، (لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) من قبل نفسي، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) يعني التبديل من قبل نفسي لا يمكنني ومن جهة الوحي موقوف على الوحي لا دخل لي فيه إنما عليَّ اتباعه (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالتبديل، (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لما علم من جواب التبديل جواب الإتيان بقرآن آخر اكتفى به عنه، (قُل لوْ شَاءَ اللهُ) أن لا أتلوا، (مَا تَلَوتهُ عَلَيْكُمْ) أي: تلاوته من مشيئة الله تعالى وإرادته فإني رجل أمي تعرفوني، (وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم الله به على لساني ومن قرأ لأدراكم بلام جواب " لو " فإنه عطف على جواب " لو " لا لام الابتداء فمعناه لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري لكنه خصني بهذه المزية ورآني أهلا لها دون غيري، (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا) مقدار أربعن سنة، (مِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) إنه لا يكون من قبلى فإني نشأت بين ظهرانيكم وما مارست علمًا وما شاهدت عالمًا، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) بأن يقول: إنه من عند الله وما هو من عنده، (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) برسوله وقرآنه ومن تأمل في أمري يظهر له صدقي فلا أحد أظلم منكم، (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا

لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) لأنه لا يقدر على ضر ولا نفع فإنه جماد، (وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ) الأوثان، (شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) في أمور دنيانا أو في الآخرة إن يكن بعث، (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ)، تخبرونه، (بِمَا لَا يَعْلَمُ)، وهو أن له شريكًا وأن هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بكل شيء لم يكن له ثبوت بوجه، (فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، حال من ضمير مقدر في يعلم يرجع إلى ما تأكيد لنفيه إذ العرف جار بأن يقال عند تأكيد النفي ليس هذا في السماء ولا في الأرض، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ما مصدرية أو موصولة، (وَمَا كَانَ

(21)

النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)، بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، (فَاخْتَلَفُوا)، فبعضهم عبدوا الأصنام، (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)، بأنه لا يهلك أحدًا إلا بعد قيام الحجة وأن لكل أمة جعل أجلاً معينًا، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، عاجلاً، (فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، فيهلك المبطل ويبقي المحق، قال بعضهم: أي لولا أنه في حكمه أنه لا يقضي بينهم إلا في القيامة لقضى في الدنيا فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار قبل القيامة، (وَيَقُولُونَ)، أهل مكة، (لَوْلا)، أي هلا، (أُنْزِلَ عَلَيْهِ)، على محمد، (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، مثل الناقة والعصا أو مما اقترحوه من جعل الصفا ذهبًا، (فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لله)، أي: ما تطلبونه غيب وهو القادر عليه، (فَانتَظِرُوا)، لنزول ما تطلبونه، (إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الُمنتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم. * * * (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ

نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) * * * (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) كالرخاء والصحة، (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مسَّتْهُمْ)، كالجدب والمرض، (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) يحتالون في طعنها وتكذيبها وإذا

للمفاجأة جواب لـ إذا الشرطية، (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) منكم بأن يدبر العقاب قيل إن تدبروا المكر والمكر من الله استدراج أو جزاء على المكر، (إِنَّ رُسُلَنَا) أي: الحفظة من الملائكة، (يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) للمجازاة، (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) يمكنكم من السير ويحفظكم، (فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ) في السفن، (وَجَرَيْنَ) الضمير للفلك لأنه جمع فلك، (بِهِم) عدل إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكرهم لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) لاستوائها ولينها، (جَاءَتْهَا)، أي تلك السفن جواب لـ إذا، (رِيحٌ عَاصِفٌ) أي: ذات عصف يعني شديدة قيل العاصف كالحائض مخصوص بالريح فلذا لم يقل عاصفة أو الريح يذكر ويؤنث، (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) من جميع الأطراف، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) فلا يمكن لهم الخلاص، (دَعَوُا اللهَ) بدل اشتمال من ظنوا أو استئناف جواب ماذا صنعوا بعد هذه الحالة وما قيل هو جواب للشرط وجاءتها حال فليس بشيء، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، مفعول مخلصين أي: تركوا الشرك فلم يدعوا إلا الله،

(لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا)، أي: قائلين أو مفعول دعوا لأنه من جملة القول، (مِنْ هَذِهِ)، الريح والشدة، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ)، فأجاءوا الفساد فيها، (بغيرِ الحَقِّ) لا كتخريب المسلمين ديار الكفر فإنه إفساد بحق، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ) منفعة، (الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لا تبقى ويبقى عقابها وهو خبر بغيكم وعلى أنفسكم متعلق بالبغي أو على أنفسكم خبره أي ما وبال بغيكم إلا على أنفسكم لا يضرون به أحدًا غيركم ومتاع

خبر محذوف، أي: ذلك متاع ومن قرأ بالنصب تقديره يتمتعون متاع، (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْمَلُونَ) بالجزاء عليه. (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) في سرعة تقضيها واغترار الناس بها، (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) أي: بسببه اشتبك نبات الأرض حتى خالط بعضه بعضًا، (مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ) من الزرع والبقل، (وَالأَنعَامُ) من الحشيش، (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) كعروس أخذت ألوان ثيابها وحليها فتزينت بها وأصل ازينت تزينت فأدغم، (وَظَنَّ أَهْلُهَا) أهل الأرض، (أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، (أَتَاهَا أَمْرُنَا) وهو ضرب زرعها ببعض العاهات، (لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا) أي: زرعها، (حَصِيدًا) شبيهاً بما حصد، (كأَن لمْ تَغْنَ) أي: كأن لم يلبث ولم يكن زرعها على حذف المضاف، (بِالأَمْسِ) والأمس مثل في الوقت القريب يعني المتسبب بالدنيا المغرور بها يأتيه عذابه أغفل ما يكون ومضمون الحكاية وهو الممثل به لا الماء وحده (كَذَلِكَ) مثل ذلك

التبيين، (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكرُونَ) فإنهم المنتفعون بها، (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السلامِ) هي الجنة والسلام من أسماء الله تعالى أو دار السلامة من الآفات أو دار تحيتها سلام يسلم الملائكة على من فيها، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيمٍ) بأن يوفقه على التقوى الذي هو طريق الجنة فالدعوة عام والهداية خاص، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) العمل في الدنيا، (الْحُسْنَى) الجنة، (وَزِيَادَةٌ) النظر إلى وجه الله الكريم وهو قول أبي بكر الصديق وكثير من السلف رضي الله عنهم وعليه أحاديث كثيرة أحدها في صحيح مسلم وابن ماجه لكن من يضلل الله من العباد فما له من هاد أو الْحُسْنَى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر أو الزيادة الرضوان، (وَلاَ يَرْهَقُ) لا يغشى، (وَجُوهَهُمْ قتَرٌ) غبار أي: سواد، (وَلاَ ذِلةٌ) هوان وكآبة؛ بل لقاهم نضرة وسرورًا، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ) مبتدأ بتقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات، (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) لا يزاد عليها شيء أو عطف على الذين أحسنوا، أي: للذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها كقولك: في الدار زيد والحجرة عمرو عند من يجوزه، (وَتَرْهَقُهُمْ) تغشاهم، (ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ) يعصمهم ويحميهم، (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) لكمال سوادها ومظلمًا حال من الليل وهو صفة

(31)

لـ قطعًا ومن قرأ قطْعًا بسكون الطاء فالأولي أن يكون مظلمًا صفة، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) والآية في الكفار قسيم المؤمنين المراد من قوله للذين أحسنوا، (وَيَوْمَ) بتقدير اذكر، (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) المؤمن والكافر، (ثمَّ نَقول لِلذِينَ أَشْرَكوا) الزموا، (مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المنتقل إلى مكانكم من عامله، (وَشُرَكَاؤُكُمْ) أي الأوثان، (فَزَيَّلْنَا) فرقنا، (بَيْنَهُمْ) وقطعنا ما كان بينهم من التواصل، (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) ينطق الله الأصنام فينكرون عبادتهم ويتبرأون منهم مكان شفاعتهم، (فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنكمْ إِنْ) أي أنه، (كنَّا عَنْ عِبَادَتِكمْ لَغَافِلِينَ) لأنا كنا جمادًا لا نعلم ولا نشعر فما أمرناكم بها ولا رضينا منكم بها، (هُنَالِكَ) في ذلك المقام، (تَبْلُو) تختبر وتعلم، (كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) من عمل فتعاين نفعه وضره ومن قرأ تتلو فهو من التلاوة أي تقرأ أو من التلو أي: تتبع عمله قال بعضهم: تتبع كل أمة ما كانت تعبد، (وَرُدُّوا) أي: أمرهم، (إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) متولي أمورهم بالحقيقة لا ما اتخذوه مولىً بالباطل، (وَضَل عَنْهم) ضاع وبطل، (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فيعبدونه من دون الله. * * * (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ

يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) * * * (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ) بالمطر، (وَالْأَرْضِ) بالنبات قيل: تقديره من أهل السماء والأرض، (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) أي: من يملك خلقهما أو حفظهما من الآفات، (وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ) الحيوان، (مِنَ المَيِّتِ) النطفة، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ) النطفة، (مِنَ الْحَيِّ) الحيوان وقيل: من يحيي ويميت، (وَمَن يُدَبَرُ الأَمْرَ) يلي تدبير أمر العالم، (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) إذ الأمر أوضح من أن ينكر، (فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) الشرك مع هذا الإقرار، (فَذَلِكُمُ) إشارة إلى من هذه قدرته، (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) لا ما جعلتم معه شريكاً أخبار مترَادفة،

(فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) أي: ليس بعد الحق إلا الضلال، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق إلى الضلال وعن عبادته إلى عبادة غيره، (كَذَلِكَ)، أي: كما حق أن بعد الحق الضلال أو أنَّهم مصروفون عن الحق، (حَقتْ كَلِمَتُ ربِّكَ) أي: حكمه السابق، (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) تمردوا في كفرهم، (أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) بدل من كلمة، وقيل تقديره: لأنهم لا يؤمنون فالمراد منها كلمة العذاب، (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم) أي: آلهتكم، (مَّن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أدخل الإعادة في الإلزام وإن يكونوا قائلين بها لظهور برهانها، (قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وأنتم تعلمون أن شركاءكم لا يقدرون على مثل هذا، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن سواء السبيل، (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) والهداية كما يعدى بإلى يعدى باللام، (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أمره وحكمه، (أَمَّنْ لَا يَهِدِّي) أصله يهتدي فأدغم وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، (إِلَّا أَنْ يُهْدَى)، الهداية قد تجيء بمعنى النقل أي الأوثان لا ينتقل من مكان إلا أن ينقل أو يكون هذا حال أشرف شركائهم كالملك والمسيح أو لا يصح منه الاهتداء إلا أن يهديه الله بأن يجعل الجماد حيوانًا عالمًا، (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بما يبطله

العقل بتا، (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) مستندًا إلى خيال باطل ووهم زائل والمراد من الأكثر الجميع أو المراد رؤساؤهم فإن السفلة مقلدون ليس لهم ظن أيضًا، (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) أي: لا يقوم مقام العلم فالمراد من الحق العلم، وشيئاً مفعول مطلق، أو مفعول به، ومن الحق حال قيل معناه: الظن لا يدفع من عذاب الحق شيئاً، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بمَا يَفْعَلُونَ) تهديد ووعيد، (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ) أي: ما صح أن يكون القرآن مفترى من الخلق وهذا محال، (وَلَكِن): كان، (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المتقدمة، (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ) تبيين ما كتب وفرض من الشرائع، (لَا رَيْبَ فِيهِ) خبر ثالث أو حال أو استئناف، (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) خبر آخر أو حال، (أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون، (افْتَرَاهُ) محمد والهمزة للإنكار، (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) في البلاغة على وجه مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الافتراء، (وَادْعُوا) إلى معاونتكم على المعارضة، (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) من الجن والإنس، (من دُونِ اللهِ) سوى الله تعالى فإنه القادر على ذلك متعلق بـ ادعوا لا بـ استطعتم، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه من عند نفسه فإنه بشر مثلكم بل تمرنكم في

(41)

النظم والنثر أكثر فإنه أمي، (بَلْ كذبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) يعني لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها سارعوا بجهلهم إلى التكذيب، (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ) بعد، (تَأْوِيلُهُ) فإنهم إن صبروا يظهر لهم بالآخرة تأويله، لكن فأجاءوا الإنكار قبل أن يقضوا على تأويله، (كذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) رسلهم، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فيه وعيد لهم بمثل عقاب الأمم السالفة، (وَمِنْهُم) من المكذبين، (مَّن يُؤْمِنُ بِه) بعد ذلك، (وَمِنْهُم مَّن لَا يُؤْمِنُ بِهِ) بل يموت على الكفر، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) المصرين وقيل: معناه بعضهم من يصدقه باطنًا لكن يعاند، وبعضهم لا يعلم صدقه لغباوة وأنا أعلم بالمعاند. * * * (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ

يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) * * * (وَإِن كَذَّبُوكَ) أصروا عَلى تكذيبك، (فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي: لي الإيمان ولكم الشرك أو لكل جزاء عمله، يعني تبرأ منهم فقد أعذرت، (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) من الطاعة، (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) من المعاصي أو لا تؤخذون بعملي ولا أوخذ بعملكم، قال بعضهم: الآية منسوخة بآية السيف، (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن لكن لا يقبلون، (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) يعني:

أتطمع أن تسمع الأُطْرُوشُ فإنهم بمنزلته في عدم وحيه، (وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُون) أي: ولو انضم إلى صممهم عدم العقل فإن الأصم العاقل ربما يتفرس، (وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ) ويعاينون أدلة صدقك لكن لا يصدقون، (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) أتطمع أنك تقدر على هداية فاقد البصر، (وَلَوْ كَانُوا لاَ يُبْصِرُونَ) وإن انضم إليه عدم البصيرة فإن العمى مع الحمق جهد البلاء، والآية كالتعليل للأمر بالتبري، (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا)، من الظلم بأن يشقيهم وهم مصلحون، (وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بارتكاب أسباب الشقوة وتفويت منافع العقول أو معناه ما يحيق بهم في الآخرة عدل من الله تعالى لأنَّهُم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه فعلى هذا يكون وعيدًا لهم، (وَيَوْمَ يَحْشُرهُمْ كَأَن لَمْ) أي: كأنه لم، (يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ)، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبر لهول المحشر وكأن لم يلبثوا حال أي: مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضًا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً وهو متعلق الظرف أعني يوم نحشرهم أو تقديره اذكر يوم نحشرهم وعلى هذا يتعارفون بيان لقوله لم يلبثوا، (قَدْ خَسِرَ الذِينَ كَذبوا بِلِقَاءِ اللهِ) هي شهادة من الله على خسرانهم، (وَمَا كَانوا مهْتَدِينَ) لرعاية مصالح هذه التجارة،

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي: ننتقم في حياتك لتقر عينك وجوابه محذوف، أي: فذاك، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريكه، (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) فنريكه في الآخرة وهو جواب نتوفينك، (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) فيعاقبهم ويجازيهم إن لم ننتقم في الدنيا ننتقم منهم في الآخرة، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) يدعوهم إلى الحق، (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل وهو هلاك من كذبه ونجاة من تبعه أو لكل أمة يوم القيامة رسول فإذا جاء رسولهم الموقف قضي بينهم بالعدل، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فلا ينقص ثوابهم ولا نأخذهم بغير ذنب، (وَيَقُولُونَ)، أي: المشركون استهزاء واستبعادًا، (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) الذي تعدوننا من العذاب، (إِنْ كُنْتُمْ) أيها الرسول وأتباعه، (صَادِقِينَ قُل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) فكيف أملك لكم فأستعجل في عذابكم، (إِلا مَا شَاءَ اللهُ) أن أملكه أو منقطع، أي: لكن ما شاء الله من ذلك كائن، (لكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مضروب لهلاكهم، (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يتأخرون ولا يتقدمون، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي: أعلمتم أو أخبروني، (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً) وقت بيات، (أَوْ نَهَارًا) وقت اشتغالكم بطلب المعاش، (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) متعلق بـ أرأيتم ومعناه التعجب والتهويل يعني أعلمتم إن أتاكم عذابه في حين غفلة أي شيء هول شديد يستعجلون من الله تعالى وإذا كان ضمير منه للعذاب فمن للبيان

(54)

وهذا كقولك: أعلمت ماذا جنيت؟ وجواب الشرط محذوف يدل عليه أعلمتم أي شيء يستعجلون، وعدل عن الخطاب في يستعجلون إلى ذكر فاعله لإفادة أن تعلق الحكم باعتبار وصف الإجرام أو ماذا يستعجل جواب كقولك: إن لقيت أسدًا ماذا تصنع؟ ومجموع الشرط والجزاء متعلق بـ أرأيتم أو الاستفهام ليس للتعجب فحاصله أن العذاب كله مكروه فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال، (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) الهمزة للتوبيخ والتقريع يعني إذا نزل العذاب آمنتم به، (آلْآنَ) بتقدير القول أي: قيل لهم بعدما نزل العذاب وآمنوا الآن آمنتم فهو استئناف أو بدل من آمنتم أو من إذا ما وقع إلى آخره، (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثمَّ قِيلَ)، عطف على قيل المقدر، (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)، في الدنيا فلا ظلم، (وَيَسْتَنْبِئونَكَ)، يستخبرونك، (أَحَقٌّ هُوَ)، ما تقول من البعث والقيامة أو العذاب وفي إعرابه وجهان كـ أقائم زيد قيل الهمزة للإنكار والسخرية، (قُلْ إِي)، بمعنى نعم ويلزمها القسم، (وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)، كائن ثابت، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)، أي: ليس صيرورتكم ترابًا بمعجز الله تعالى عن إعادتكم أو بفائتين العذاب. * * * (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ

وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) * * * (وَلَوْ أَنَّ)، تحقق وثبت، (لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ)، بالشرك، (مَا فِي الأَرْضِ)، من الخزائن، (لافْتَدَتْ بِهِ)، لجعلته فدية لها من العذاب، (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ)، أي: أظهروا الندامة أو أخفى روساؤهم الندامة من سفلتهم حذرًا من تعييرهم أو أخفوا لأنَّهُم لم يقدروا أن ينطقوا لشدة الأمر، (وَقُضِيَ بَيْنَهُم) بين المؤمنين والكافرين، أو بين الكفار أو بين الرؤساء والأتباع، (بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). فيقدر على العقاب والإثابة، (أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) لا خلاف فيه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) لغفلتهم وقصور عقلهم، (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) في الدنيا، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالنشور، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) زجر عن الفواحش، (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) من سوء الاعتقاد والشكوك، (وَهُدًى) إلى الحق، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فيه حصل لهم النجاة من الظلمات إلى النور، (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا فحذف أحد الفعلين لدلالة الباقي

عليه والفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوا الفضل والرحمة بالفرح فإنه لا مفروحاً به أحق منهما، أو تقديره قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبمجيئها فليفرحوا، أو الفضل الإيمان أو القرآن أو الإسلام ورحمته القرآن أو أنه صيرنا من أهل القرآن أو السنن أو الجنة، (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، من حطام الدنيا، (قُلْ أَرَأَيتم مَّا أَنزَلَ اللهُ)، ما مفعول أرأيتم، أي: أخبرونيه، (لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ)، الرزق مقدر من السماء محصل بأسباب منها، (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا)، المراد ما حرم المشركون من البحائر والسوائب [والوصائل] (1)، وأحلوا من الميتة وغيرها، (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ)، بالتحليل والتحريم، (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)، في نسبة ذلك إليه

_ (1) في الأصل [والوسائل] والصواب ما أثبتناه لقوله تعالى (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103). وهذا موضع غفل عنه المحقق أيضًا. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(61)

قيل الهمزة للإنكار، وأم منقطعة، (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أيحسبون أن لا يجازوا عليه وفي إبهام الوعيد تهديد شديد، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث لا يستعجل عقوبتهم أو فيما أباح لهم المنافع ولم يحرم عليهم إلا المضار، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ) هذه النعمة فيحرمون ويحللون بمقتضى هواهم. * * * (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لله مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا

يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) * * * (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) ما نافية والشأن الأمر والخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلم، (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ) الضمير لله وقيل للشأن، (مِن قُرْآنٍ) من مزيدة للنفي وقيل: للتبعيض، (وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) خطاب له ولأمته، (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) رقباء مطلعين عليها، (إِذْ تُفِيضُونَ) تخوضون، (فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ) لا يبعد ويغيب، (عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ) موازن نملة صغيرة أو هباء، (فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ) أي: في الوجود فإن العوام لا يعرفون إلا ما فيهما، (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) جملة برأسها مقررة لما سبق و (أصغر) اسم (لا) و (فِي كِتَابٍ) خبره، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) حين يخاف الناس عقاب الله، (وَلاَ هُمْ يَحْزنُونَ) على فوات مأمول، (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَقُونَ) بيان

لأولياء الله، (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم ويرى له، وقال بعضهم: هي بشرى الملائكة عند احتضاره بالجنة وعن الحسن هي ما يبشر الله تعالى المؤمنين في كتابه من جنته ونعيمه، (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة ورضوان الله تعالى قال بعضهم: المراد بشارة الملائكة في القبر، (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) لا إخلاف في مواعيده، (ذَلِكَ) أي: كونهم مبشرين في الدارين، (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) إشراكهم وتكذيبهم، (إِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا) استئناف بمعنى التعليل كأنه قال: لا تحزن؛ لأن العزة كلها ملك له ولا يمكلها إلا لمن

ارتضى، (هُوَ السمِيع) لأقوالهم، (العَلِيم) لنياتهم فيجازيهم ويكافئهم، (أَلاَ إِنَّ لله) ملكًا وخلقًا، (مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ) من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف المخلوقات، فكيف بالجمادات وهو كمقدمة ودليل على قوله: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ) ما نافية، أي: ما يتبعون شركاء على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء، (إِن يَتَّبِعون إِلا الظنَّ) أو ما استفهامية وعلى هذا شركاء مفعول يدعون، أي: أي شيء يتبعون، وقيل: ما موصولة عطف على من في السماوات (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون أو يحرزون حرزًا باطلاً، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لتستريحوا من نصب النهار، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) مضيئًا تبصرون فيه مكاسبكم فكيف جاز عبادة غيره، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لا للصم الذين لا يسمعون سماع انتفاع، (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) كما قالوا الملائكة بنات الله، (سُبْحَانَهُ) تنزيه عن التبني وتعجب من حماقتهم، (هُوَ الْغَنِيُّ) واتخاذ الولد مسبب عن الحاجة، (لَه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) مقرر لغناه، (إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا) أي: ليس عندكم دليل بهذا، بل أنتم تابعون للجهالة، (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فيه تهديد شديد ووعيد أكيد، (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) في الدنيا

(71)

والآخرة، (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا) لهم متاع قليل في الدنيا أو الافتراء متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم، (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) بالموت، (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم. * * * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ

بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) * * * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ)، حاله مع قومه، (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم) عظم وشق عليكم، (مَقَامِي) بين أظهركم، (وَتَذْكِيرِي) إياكم، (بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) قال بعضهم: جواب الشرط هو قوله فَأَجْمِعُوا إلخ، وقوله (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) معترضة بين الشرط والجزاء، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) من أجمع الأمر إذا قصده وعزم عليه، (وَشُرَكَاءَكُمْ) الواو بمعنى مع أي: اعزموا أنتم وشركاءكم الذين تزعمون أن لهم اختيارًا وأثبتُّم الربوبية لهم على كيدي وإهلاَكي فإني متوكل لا أبالي ولا أخاف، (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مبهمًا مستورًا ليكن مكشوفًا تجاهرونني به وحاصله لتجاهدوا في كيدي وإهلاكي كل غاية في المكاشفة والمجاهرة، (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أدوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي ووجهوا كل الشرور إليَّ، (وَلَا تُنْظِرُونِ) ولا تمهلوني، (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن تذكيرى، (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) حتى يكون إعراضكم ضرًّا

ونقصًا عليَّ، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فليس إعراضكم إلا نقصًا وضرًّا عليكم، أو معناه إن أعرضتم فما هو إلا لتمردكم وعنادكم لا لتقصير وتفريط مني، فإني ما سألت منكم أجرًا ينفركم عني وتتهموني لأجله، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المستسلمين لأمر الله، (فَكَذبُوهُ) أصروا على تكذيبه، (فَنَجَّيْنَاهُ) من الغرق، (وَمَن مَّعَهُ فِي الفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاِئفَ) من الهالكين وأعطيناهم ملكهم، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذبُوا بِآيَاتِنَا) بالطوفان، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الُمنذَرِينَ) المكذبين فهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذير لمن كذبه، (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد نوح، (رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) المعجزات الظاهرات، (فَمَا كَانُوا) ما استقام لهم، (لِيُؤْمِنُوا) لشدة عنادهم وكفرهم، (بِمَا كَذبُوا بِه مِن قَبْلُ) أي: بما كذب به قوم نوح وقد علموا حالهم فهم وآباؤهم على منهاج واحد والباء للسببية، أي: لم يؤمنوا بسبب تعودهم تكذيب الحق قبل بعثة الرسل، (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِي) نختم عليها فلا يدخلها رشاد ولا سداد، (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم) بعد هؤلاء الرسل، (مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ) أشراف قومه، (بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) معتادين الإجرام، (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ) المعجزات المزيحة للشك، (مِنْ عِندِنَا قَالُوا) من فرط التمرد: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) واضح ظاهر، (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ) إنه سحر فحذف محكي القول لدلالة الكلام عليه قيل: فمعناه أتعيبونه وعلى هذا لا يستدعي مقولاً ثم

قال: (أَسِحْرٌ هَذَا) استفهام إنكار، (وَلاَ يفْلِحُ السَّاحِرُونَ) من تمام كلام موسى، أي: لو كان سحرًا لاضمحل وذل وغلب فاعله، فكيف أرتكبه وأنا أعلم أنَّهم لا يفلحون؟! (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا): لتصرفنا، (عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) لكما العزة والملك يعني لستما بمخلصين؛ بل هذا غرضكما، (وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) مصدقين، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) حاذق فيه، (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ) أي: الذي جئتم به هو، (السَّحْر) لا ما جئت به ومن قرأ آلسحر بالاستفهام فما استفهامية، أي: أي شيء جئتم به أهو السحر؟ أو السحر بدل من المبتدأ الذي هو ما، (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه، (إِنَّ اللهَ لاَ يُصلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يقويه ولا يثبته، (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ) يثبته، (بِكَلِمَاتِهِ) بوعده أو بقضائه السابق، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك. * * *

(83)

(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) * * * (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الضمير لفرعون فإن بني إسرائيل آمنوا بموسى إلا قليلاً منهم كقارون وما آمن من القبط إلا قليل، وقال بعضهم: الضمير

لموسى، أي: ما آمن له في مبدأ الأمر إلا شبانهم، (عَلَى خَوْفٍ من فرْعَوْنَ) أي: مع خوف منه، (وَمَلإِهِمْ) الضمير للذرية أي: أشراف آل فرعون، أو لفرعون فالمراد من فرعون هو وآله، (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يعذبهم وهو بدل من فرعون أو مفعول خوف، (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ) لغالب، (فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الكبر حتى ادعى الربوبية، (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) مستسلمين لأمره والمعلق بالإيمان وجوب التوكل والمشروط بالإسلام وجود التوكل وحصوله لا وجوبه كما يقال: إن شتمك أحد فاصبر إن قدرت، (فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي: موضع فتنة لهم يعذبوننا، أو لا تعذبنا بعذاب، فيقولون: لو كانوا على حق ما عذبوا ولا تسلطهم علينا فيحسبوا أنهم على الحق فيفتنوا بذلك، (وَنَجِّنَا) خلصنا، (بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا) أي: اتخذا مباءة يعني موضع إقامة، (لقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا) أنتما وقومكما، (بيُوتَكُمْ) أي: في بيوتكم التي اتخذتموها، (قِبْلَةً) أي: مساجد فإنهم كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وكانوا يخافون من فرعون فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد يصلون فيها سرًّا أو اجعلوا بيوتكم قبلة مصلى، أو متقابلة والمقصود على هذا حصول الجمعية، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي: فيها قال بعضهم: أمروا بكثرة الصلاة كما قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)

[البقرة: 45]، (وَبَشِّرِ) يا موسى، (الُمؤْمِنِينَ) بالنصر في الدارين، (وَقَال مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً) من اللباس والمراكب، (وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا) تكرير وتأكيد للأول، (لِيُضِلوا عَن سَبِيلِكَ) واللام لام العلة فليس بمحال أن الله يريد إضلال بعض، وهذا الكلام من موسى؛ لأنه علم بمشاهدة أحوالهم أن أموالهم سبب ضلالهم أو إضلالهم ولا حاجة إلى أن يقال اللام لام العاقبة أو لام الدعاء كقولك: ليغفر الله فهو دعاء بصيغة الأمر، (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ): أهلكها (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أقسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، (فَلاَ يُؤْمِنُوا) جواب للدعاء وقيل: عطف على ليضلوا وقيل: دعا بلفظ النهي، (حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) وهذه الدعوة من موسى - عليه السلام - غضبًا لله ولدينه لقوم تبين له أنه لا خير فيهم كما تقول: لعن الله إبليس كما دعا نوح عليه السلام (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26]، (قَالَ): الله، (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) فإنه دعا موسى وأَمَّنَ هارون، (فَاسْتَقِيمَا) على أمري وامضيا له قال بعضهم: مكثوا بعد إجابة دعائهم أربعين سنة وقال بعضهم: أربعين يومًا ومن إجابة دعائهما أنه صار دنانيرهم ودراهم حجارة منقوشة كهيئة ما كانت، (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ

لَا يَعْلَمُونَ) طريقة الجهلة في عدم الوثوق بوعدي، (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) أي: جوزناهم في البحر بلا سفينة وتعب، (فَأَتْبَعَهُمْ) أدركهم، (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) قيل: كانوا في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان، (بَغْيًا وَعَدْواً) للبغي أي: طلب الاستعلاء والظلم أو باغين، (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي: بأنه، (لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ) أي: أتؤمن

(93)

الآن حين يأسك عن نفسك؟ وهذا قول جبريل أو قول الله تعالى، (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) مدة عمرك، (وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ) المضلين، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر أو نلقيك بنجوة من الأرض، أي: بأرض مرتفعة، (بِبَدَنِكَ) أي: حال كونك متلبسًا بالبدن عاريًا عن الروح، أو الباء بمعنى مع والبدن الدرع وكانت له درع من ذهب يعرف بها، (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ)، لمن يأتي بعدك من بني إسرائيل وغيرهم، (آيَةً): عبرة ونكالاً عن الطغيان، (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) فلا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها. * * * (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) * * * (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا) أنزلنا، (بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزلاً صالحًا بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه، (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطيِّبَاتِ) من اللذائذ، (فَمَا اخْتَلَفُوا) في أمر دينهم، (حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) الأمن بعد نزول التوراة المزيح للشك والاختلاف، أو ما اختلفوا في تصديق النبي - صلى الله عليه ولمملم - حتى جاءهم القرآن، (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيثيب المحق ويعاقب المبطل، (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم مكتوب في الكتب السماوية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، أو لزيادة

تثبيته وفرض الشك فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا أشكُّ ولا أسأل " (1)، (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه، (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) بالتزلزل عما أنت فيه ومن اليقين قيل خطاب لكل من يسمع أي: إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك فسألهم ولا تكن من الشاكين، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهو كالأول المراد به غير المخاطب، أو من باب التهييج وقطع الأطماع عنه، (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) ثبتت، (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بالعذاب والسخط، قيل: هي قوله هؤلاء للنار ولا أبالي، (لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) فإن إرادة الله تعالى لا تتعلق بإيمانهم فكيف يؤمنون، (حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم، (فَلَوْلاَ) أي: فهلا، (كَانت قَريَةٌ) من القرى التي أهلكناها، (آمَنَت) قبل معاينة العذاب، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) لوقوعه في وقت الاختيار، (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) لكن قومه، (لَمَّا آمنوا) قبل معاينة العذاب في وقت الاختيار، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي: إلى

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ غَيْرُهُ، أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: فَاخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] وَكَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وكقوله: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ: إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وُجُوهٌ: الأول: قوله تعالى في آخر السورة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [يُونُسَ: 104] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أول الآية على سبيل الزمر، هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ لَوْ كَانَ شَاكًّا فِي نُبُوَّةِ نَفْسِهِ لَكَانَ شَكُّ غَيْرِهِ فِي نُبُوَّتِهِ أَوْلَى وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ الشَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي نُبُوَّةِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ بِأَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ نُبُوَّتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْأَكْثَرِ كُفَّارٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَالْكُلُّ مُصَحَّفٌ مُحَرَّفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأُمَّةُ، وَمِثْلُ هَذَا مُعْتَادٌ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ الْكَبِيرَ إِذَا كَانَ لَهُ أَمِيرٌ، / وَكَانَ تَحْتَ رَايَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ جَمْعٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ الرَّعِيَّةَ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّهُ لَا يُوَجِّهُ خِطَابَهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يُوَجِّهُ ذَلِكَ الْخِطَابَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي قُلُوبِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ مَتَى سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ، فَإِنَّهُ يُصَرِّحُ وَيَقُولُ: «يَا رَبِّ لَا أَشُكُّ وَلَا أَطْلُبُ الْحُجَّةَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَلْ يَكْفِينِي مَا أَنْزَلْتَهُ عَلَيَّ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ» وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] والمقصود أَنْ يُصَرِّحُوا بِالْجَوَابِ الْحَقِّ وَيَقُولُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سَبَأٍ: 41] وَكَمَا قَالَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُصَرِّحَ عِيسَى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا هاهنا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَانَ حُصُولُ الْخَوَاطِرِ الْمُشَوَّشَةِ وَالْأَفْكَارِ الْمُضْطَرِبَةِ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْجَائِزَاتِ، وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِإِيرَادِ الدَّلَائِلِ وَتَقْرِيرِ الْبَيِّنَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّقْرِيرَاتِ حَتَّى إِنَّ بِسَبَبِهَا تَزُولُ عَنْ خَاطِرِهِ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هُودٍ: 12] وَأَقُولُ تَمَامُ التَّقْرِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا إِشْعَارَ فِيهَا الْبَتَّةَ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَلَا بِأَنَّ الْجَزَاءَ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ بَلْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا بَيَانُ أَنَّ مَاهِيَّةَ ذَلِكَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَقَطْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَ الْخَمْسَةِ زَوْجًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ زَوْجٌ وَلَا عَلَى أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ فكذا هاهنا هَذِهِ الْآيَةُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ هَذَا الشَّكُّ لَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ هُوَ فِعْلَ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا أَنَّ هَذَا الشَّكَّ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَالْفَائِدَةُ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرَّسُولِ أَنَّ تَكْثِيرَ الدَّلَائِلِ وَتَقْوِيَتَهَا مِمَّا يَزِيدُ فِي قُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَسُكُونِ الصَّدْرِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَكْثَرَ الله فِي كِتَابِهِ مِنْ تَقْرِيرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ تَقُولَ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَتَقْرِيبُهُمْ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ طَالَبُوهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَكَأَنَّهُمُ اسْتَحْيَوْا مِنْ تِلْكَ الْمُعَاوَدَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ، وَذَلِكَ الِاسْتِحْيَاءُ صَارَ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ نُبُوَّتِكَ فَتَمَسَّكْ بِالدَّلَائِلِ الْقَلَائِلِ، يَعْنِي أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ لَا يَشُكَّ/ فِي نُبُوَّتِهِ هُوَ نَفْسُهُ، ثُمَّ مَعَ هَذَا إِنْ طَلَبَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّةِ نفسه بعد ما سَبَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْقَاهِرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ وَلَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ نُقْصَانٌ، فَإِذَا لَمْ يُسْتَقْبَحْ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَأَنْ لَا يُسْتَقْبَحَ مِنْ غَيْرِهِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ كَانَ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ الْقَوْمِ وَإِزَالَةُ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ فِي تَكْثِيرِ الْمُنَاظَرَاتِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّكَ لَسْتَ شَاكًّا الْبَتَّةَ وَلَوْ كُنْتَ شَاكًّا لَكَانَ لَكَ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّكِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ الْمُمْتَنِعُ وَاقِعًا، لَزِمَ مِنْهُ الْمُحَالُ الفلاني فكذا هاهنا وَلَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَ هَذَا الشَّكِّ فَارْجِعْ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِتَعْرِفَ بِهِمَا أَنَّ هَذَا الشَّكَّ زَائِلٌ وَهَذِهِ الشُّبْهَةَ بَاطِلَةٌ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الله خَاطَبَ الرَّسُولَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وَهُوَ شَامِلٌ لِلْخَلْقِ وهو كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ الرَّسُولُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ فَقَدْ عَادَ السُّؤَالُ، سَوَاءٌ أُرِيدَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يُرَدْ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُرَادَ هُوَ مَعَ غَيْرِهِ، فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يُرَادَ بِانْفِرَادِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ التَّحْصِيلِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: هُوَ أَنَّ لَفْظَ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ لِلنَّفْيِ أَيْ مَا كُنْتَ فِي شَكٍّ قَبْلُ يَعْنِي لَا نَأْمُرُكَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّكَ شَاكٌّ لَكِنْ لِتَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا ازْدَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُعَايَنَةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى يَقِينًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ مَعَ الرَّسُولِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِهِ كَانُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً، الْمُصَدِّقُونَ بِهِ وَالْمُكَذِّبُونَ لَهُ وَالْمُتَوَقِّفُونَ فِي أَمْرِهِ الشَّاكُّونَ فِيهِ، فَخَاطَبَهُمُ الله تَعَالَى بِهَذَا الْخِطَابِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَان

أي (1): إلى آجالهم وقيل الجملة في معنى النفي أى: ما كانت قرية آمنت أهلها بتمامها فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إلا قوم يونس آمنوا بتمامهم ونفعهم الإيمان وحاصله أنه ليست قرية آمنت أهلها بتمامها إلا وقت نزول العذاب فلا ينفعهم إيمانهم؛ لأنه اضطراري وأما قوم يونس وهم أهل نينوى من أرض الموصل بعدما عاينوا أسباب العذاب جأروا إلى الله تعالى ولبسوا المسوح وفرقوا بين كل حيوان وولده وعجوا إلى الله تعالى فكشف الله تعالى عنهم الدخان والعذاب وقبِل منهم الإيمان وهم مائة ألف أو يزيدون، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ): يا محمد، (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا): مجتمعين على الإيمان، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) بما لم يشاء الله منهم، (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذا عند حرصه - صلى الله عليه وسلم - بإيمان الخلائق كما قال تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) [فاطر: 8]، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته فليس عليك هداهم، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) العذاب والضلال، (عَلَى الذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) حجج الله تعالى وأدلته فهو العادل الحكيم في هداية من هدى وإضلال من أضل، (قلِ انظُروا): تفكروا، (مَاذَا) إن

_ (1) في الأصل شطر الآية السابقة وهو مكرر تم حذفه. (مصحح النسخة الإلكترونية).

(104)

كانت استفهامية فانظروا معلق عن العمل، (في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، من الصنائع الدالة على وحدته، (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ) أي: الرسل أو الإنذارات (عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) في حكم الله تعالى، أي: لا تفيد لهم وبعضهم على أن ما استفهامية إنكارية أي: أي شيء تغني الآيات عنهم؟ (فَهَلْ يَنتَظِرُونَ) أي: أهل مكة، (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا): مضوا، (مِن قَبْلِهِمْ) أي: مثل وقائع الأمم السالفة والعرب تسمي العذاب أيامًا، وهم وإن كانوا لا ينتظرون عذاب الله لكن لما استحقوه ناسب أن يشك في أنَّهم منتظرون، قيل: معناه هل ينتظرون لك يا محمد إلا مثل تلك الوقائع لمن سلف؟ (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي) عطف على محذوف كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجى، (رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) معهم، (كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين حين نهلك المشركين وحقًا علينا معترضة، أي: حق ذلك علينا حق بحسب وعدنا. * * * (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ

عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) * * * (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍ من دِينِي): وصحته، (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) يقبض أرواحكم، أي: هذا خلاصة ديني فاسمعوا وصفه واعرضوا على عقولكم لتعلموا حقية ديني وبطلان دينكم وخصه بوصف التوفي تهديدًا لهم، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) أي: بأن أكون، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ) عطف على أن أكون وصلة أن محكية بصيغة وعبارة أمره الله بها والغرض وصل إن بما يتضمن معنى المصدر والإنشاء والخبر في ذلك سواء، (وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي: أمرت بالاستقامة في الدين وإخلاص الأعمال لله، (حَنيفًا) منحرفًا عن الشك حال، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ) لا يقدر عليهما، قيل: لا يضرك إن تركت عبادته ولا ينفعك إن عبدته، (فَإِنْ فَعَلْتَ): عبدت غيره، (فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين العبادة في غير موضعها (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) يصبك ببلاء، (فَلَا كَاشِفَ لَهُ) يدفعه، (إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) بنعمة، (فَلَا رَادَّ

لِفَضْلِهِ) الذي أراد بك وإنما قال لفضله مكان له إشارة إلى أنه متفضل بالخير، (يُصِيبُ بِهِ): بالخير، (مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن تاب من أي ذنب كان فتعرضوا لرحمته بالتوبة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ) القرآن، (مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى) بالإيمان به، (فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) نفعه لها، (وَمَنْ ضَلَّ) بالكفر به، (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) وبال الضلال عليها، (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بموكول إليَّ أمركم، أو بكفيل أحفظ أعمالكم إنما أنا نذير، (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) بالامتثال، (وَاصْبِرْ) على مخالفة من خالفك، (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بنصرك وقهر عدوك، أو بالأمر بالقتال وعن ابن عباس - رضي الله عنه - نسختها آية القتال، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) لأن جميع أحكامه على نهج الحكم والصواب لا يمكن طرآن الخطأ فيه. والله أعلم. * * *

سورة هود

سورة هود مكية وهى مائة وثلاث وعشرون آية، وعشر ركوعات بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8) * * * (الر كِتَابٌ)، خبر (الر) أو هذا كتاب، (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي:

هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها أو أحكمت بأنها لم تنسخ بكتاب ثم فصلت بالأحكام والعقائد والمواعظ والأخبار أو نزلت شيئًا فشيئًا، (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة أخرى لكتاب أو متعلق بـ أحكمت وفصلت أو خبر بعد خبر، (أَلَّا تَعبدُوا إِلا اللهَ) مفعول له أي: أحكمت ثم فصلت لأجل أن لا تعبدوا إلا الله أو أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول، وقيل: هذا كتاب بأن لا تعبدوا، (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ): من الله، (نَذِيرٌ) بالعقاب على من عبد غير الله، (وَبَشِيرٌ): بالثواب على من عبد الله، (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) عطف على أن لا تعبدوا، (رَبَّكُمْ) من الذنوب السالفة، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه، أو ثم ارجعوا إليه بالطاعة، (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) يعيشكم في أمن وسعة، (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى حين موت مقدر، (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) عن ابن عبَّاسٍ يؤت كل من فضلت وزادت حسناته على سيئاته فضل الله، أي: الجنة أو يعط كل ذى عمل صالح جزاء عمله الصالح، (وَإِن تَوَلَّوْا) أى: تتولوا، (فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يوم القيامة، (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على تعذيب المعرض، (أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهمْ) ثنيت الشيء إذ عطفته وطويته عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كانوا

يكرهون استقبال السماء بفروجهم حال وقاعهم فنزلت، أو كان إذا مر أحدهم برسول الله ثنى عنه صدره وأعرض عنه وغطى رأسه فنزلت، أو نزلت حين يقولون إذا رخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم، أو نزلت في الأخنس بن شريق كان يظهر المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله منطق حلو وكان يعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجالسته ومحادثته وهو يضمر عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إما بمعنى الصرف من ثنيت عناني أو بمعنى الإخفاء أو بمعنى الانحناء، (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) من الله وعلى ما نقلنا في الوجه الثاني من سبب النزول الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) يغطون رءوسهم بثيابهم، (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يستوي في علم الله تعالى سرهم وعلنهم فكيف يمكن لهم أن يخفوا من الله تعالى شيئًا، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بما في قلوبهم. (وَمَا مِن دَابَّة فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا) أي: هو المتكفل بذلك فضلاً إن لم يرزقها فلا يمكن أن يرزقها أحد غير الله تعالى، (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)، أماكنها في الحياة والممات أو أرحام الأمهات وأصلاب الآباء والمستقر الجنة أو النار والمستودع القبر، (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) مثبت في اللوح المحفوظ، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) كأيام الدنيا أو كل يوم كألف سنة، (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) والماء على متن الريح وروي الترمذي وابن ماجه " أن الله كان في عماء (1) ما تحته

_ (1) قال أحمد: يريد بالعماء أنه ليس معه شيء، وقال البيهقى: إن كان العماء ممدود فمعناه سحاب رقيق والمعنى فوق سحاب مدبرًا له وعاليًا له، وإن كان مقصورًا فمعناه لا شىء ثابت؛ لأنه عمى عن الخلق لكونه غير شيء ونحوه قال جمع من أهل العلم، قال الأزهرى: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته/ 12 فتح ملخصًا.

(9)

هواء وما فوقه هواء ثم خلق العرش بعد ذلك، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي: خلق ذلك ليعاملكم معاملة المختبر لأحوالكم كيف تعملون فعلم أن خلق العالم لنفع عباده وإحسان العبادة أن تكون خالصة لله وعلى شريعة شرعها الله تعالى، (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، أي: ما البعث أو القرآن المتضمن لذكره إلا خديعة كالسحر الباطل، (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ) الموعود، (إِلَى أُمَّةٍ) جماعة من الأوقات والأمة تستعمل في معان متعددة، (مَعْدُودَةٍ) محصورة قليلة، (لَيَقُولُنَّ) استهزاء، (مَا يَحْبِسُهُ) ويمنعه من الوقوع، (أَلاَ يَوْمَ يَأتِيهِمْ) أي: اليوم المقدر لنزول العذاب، (لَيْسَ) العذاب، (مَصْرُوفًا عَنهُمْ) ويوم ظرف مصروفًا، (وَحَاقَ بِهِم) وأحاط بهم ذكر بلفظ الماضي تحقيقًا ومبالغة، (مَّا كَانوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) أي: العذاب. * * * (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ

اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) * * * (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) أعطيناه نعمة ووجد لذتها، (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ) قنوط كأنه لا يرجو بعد ذلك فرجًا، (كفُورٌ) مبالغ لكفران نعمه السابقة

كأنه لم ير خيرًا، (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) كغنى بعد فقر، (لَيَقولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) ما بقي ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء، (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) بما في يده مغتر، (فَخُورٌ) على الناس مشغول عن الشكر، (إِلا الذِينَ صَبَروا) على الضراء استثناء منقطع إن حمل الإنسان على الكافر وإلا فمتصل، (وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِِ) في السراء والضراء، (أُوْلَئِكَ لَهم مَّغفِرَةٌ) لم عاصيهم، (وَأَجْرٌ كَبير) كالجنة، (فَلَعَلَّك تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) تترك تبليغ بعض القرآن وهو ما فيه سب آلهتهم وطعن دينهم مخافة سخريتهم وسبهم وزيادة انهماكهم في الكفر عصمه الله تعالى عن الخيانة في الوحي ونبهه، (وَضَائِقٌ) الضائق بمعنى الضيق، إلا أن الضائق يكون لضيق عارض غير لازم كزيد سيد وعمرو سائد، (بِهِ) بأن تتلوه عليهم، (صَدْرُكَ) مخافة، (أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) كما قالوا {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7، 8] قال بعضهم: ضمير به مبهم يفسره أن يقولوا، (إِنَّمَا أَنتَ نَذيرٌ) ما عليك إلا الإنذار فما بالك يضيق صدرك، (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) موكول إلى الله تعالى لا إليك أمر الكل، (أَمْ يَقولونَ) أم منقطعة، (افْتَرَاهُ) الضمير لما يوحى، (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) أي: يكون كل واحد مثل القرآن في البلاغة والغرض إلزامهم، والدليل على أنه معجز من عند الله والعجز عن الإتيان بمثل الكل والبعض أعم من أن يكون عشر سور أو سورة واحدة دليل عليهم مع أن سورة البقرة متأخرة في النزول عن هود، والأصح أن يونس أيضًا متأخرة فتحداهم أولاً بعشر سور ثم عجزوا فتحداهم بسورة واحدة، (مفتَرَيَاتٍ) من عند أنفسكم مع أن ممارستكم للقصص والأشعار أكثر

وأكثر، (وَادْعُوا) إلى المعاونة على المعارضة، (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه مفترى، (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) يا أصحاب محمد، (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ): متلبسًا بما هو يعلمه ولا يقدر عليه غيره، (وَأَن لَا إِلَهَ إِلا هُوَ) لأنَّهُم مع آلهتهم عجزوا والعاجز لا يكون إلهاً فلا إله إلا الله، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ثابتون على الإسلام، أو معناه فإن لم يستجب من تدعونهم إلى المعاونة لكم يا من تدعون افتراءه ولا يتهيأ لكم المعارضة فاعلموا إلخ فالخطاب كله حينئذ للكفار وهو أظهر. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فقط عمله، (وَزِينَتَهَا) كأهل الرياء، (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره، (وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئًا نزلت في المرائين، قال بعضهم: في اليهود والنصارى أو في بر الكافرين، (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) فإنهم استوفوا جزاء أعمالهم وبقي لهم الأوزار، (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فيهَا) لأنه لم يبق لهم ثواب والضمير للآخرة إن كان الظرف لحبط وللدنيا إن كان لصنعوا،

(وَبَاطِلٌ ما كانوا يَعْمَلُون) أي عملهم في نفسه باطل لأنَّهُم لم يعملوا بوجه صحيح، وفي الحديث (أشد الناس عذابًا من يرى الناس فيه خيرًا ولا خير فيه) (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ): برهان، (مِنْ رَبِّهِ) يدله على الصواب، وتقديره أفمن كان على بينة كمن يريد الحياة الدنيا، (وَيَتْلُوهُ) يتبع من كان على بينة، (شَاهِدٌ مِنْهُ) من الله يشهد بصحته، فالبينة الفطرة السليمة للمؤمن والدليل العقلي له والشاهد جبريل أو محمد عليهما الصلاة والسلام يأتي بالقرآن من عند الله أو القرآن، (وَمِن قَبْلِهِ) قبل الشاهد الذي يأتي بالقرآن أو الذي هو القرآن، (كتاب مُوسَى) أي: التوراة، (إِمَامًا) كتابًا مؤتمًا؛ في الدين، (وَرَحْمَةً) من الله تعالى لهم، (أوْلَئِكَ) إشارة إلى من كان على بينة، (يؤْمِنُونَ بِهِ): بالقرآن، (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ) أصناف الكفار، (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) قال بعضهم: من كان على بينة هو محمد عليه السلام والشاهد جبريل وأولئك إشارة إلى من آمن من أهل الكتاب، وقال بعضهم: من كان على بينة

مؤمنو أهل الكتاب وبينتهم دلائلهم العقلية، والشاهد إما جبريل أو محمد عليهما السلام أو القرآن، (فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ منْهُ) من الموعد أو القرآن، (إِنَّهُ الحَقُّ مِن ربكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) كـ مثبت الولد والشريك له ونافي القرآن عنه، (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ) يوم القيامة فيسألهم عن عقائدهم وأعمالهم، (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ) من الملائكة والأنبياء أو جميع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو الجوارح، (هَؤُلاءِ الًذِينَ كَذَبُوا عَلَى ربِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الًذِينَ يَصُدُّونَ) يمنعون الناس، (عَن سَبِيلِ اللهِ) دينه، (وَيَبْغونَهَا عِوَجًا) يصفونها بالانحراف عن الصواب أو يريدون أن يكون سبيل الله تعالى عوجًا وهو ما هم عليه، (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافرُونَ أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونوا مُعْجِزِينَ في الأَرْضِ): في الدنيا أن يعاقبهم، بل هم تحت قهره وسلطانه وهو قادر على [الانتقام منهم في الدنيا] لكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) يمنعوهم من العذاب، (يضَاعَفُ لَهُمُ العَذَابُ) لضلالهم وإضلالهم، (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) لأن الله تعالى حال بينهم وبين سماع الحق فيبغضون سماعه، (وَمَا كَانوا يُبْصِرُونَ) لتعاميهم عن آيات الله تعالى قيل: كأنه العلة لتضاعف العذاب، (أُوْلَئِكَ الًذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأنَّهم اشتروا شيئًا هو سبب

_ (1) في الأصل [انتقامهم في الدنيا] (مصحح النسخة الإلكترونية).

(25)

عذابهم المؤبد، (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها فضاع عنهم ما حصلوا في الدنيا فلم يبق لهم سوى الندامة، (لاَ جَرَمَ) حقًا، (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لا أحد أكثر خسرانًا منهم، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا): اطمأنوا، (إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) الكافر والمؤمن، (كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ) هو مثل الكافر، (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) هو مثل المؤمن يميز بين الحق والباطل ويفرق بين البرهان والشبهة، (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) أي: تمثيلاً، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) فتفرقوا بين هؤلاء وهؤلاء. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ

أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي) أي بأني ومن قرأ بالكسر فعلى إرادة القول، (لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا) بدل من إني لكم على قراءة النصب، أو معناه نذير لأن لا تعبدوا، أو مفسرة متعلقة بأرسلنا، (إِلا الله إِني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ): مؤلم وصف اليوم بالأليم المبالغة وهو في الحقيقة صفة المعذب (فَقَالَ الْمَلَأُ): الأشراف، (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا) لا فضل لك علينا

نخصك بقبول كلامك، (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) سفلتنا لا يتبعك الأشراف، (بَادِيَ الرَّأيِ) أي: وقت حدوث أول أو ظاهر رأيهم بلا روية وفكر من بداء أو بدائ بالهمزة أو الياء فهو ظرف بحذف المضاف لـ اتبعك، قيل: معناه اتبعوك ظاهر الرأى وباطنهم على خلاف ذلك، (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) إياك في دعواك ومتبعيك في دعوى العلم بصحته، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني، (إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) حجة، (مِّن ربي) تدل على صدق دعواي، (وَآتانِي رَحْمَةً) نبوة ومعرفة، (مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ) خفيت والتبست، (عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا) نكرهكم على الاهتداء بها، (وَأَنتمْ لَهَا) للبينة، (كَارِهون) أو حاصله إن كنت على معرفة من الله تعالى ونبوة ومعجزة من عنده لكن صارت ملتبسة في عقولكم فهل أقدر على أن أجعلكم معترفين بها، أي: لا أقدر على ذلك لكن لو تركتم العناد وتأملتم فقد عرفتم، (وَيَا قَوْمٍ لاَ أَسْألكُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ، (مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ) لا عليكم، (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) كأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين احتشامًا ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم، (إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) يلاقون الله تعالى فيعاقب الله من طردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من تمكن الإيمان وتزلزلة حيث تزعمون أن إيمانهم بادي الرأي، وأنا لا أعرف منهم إلا الإيمان فكيف أطردهم (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُون) عواقب الأمور، (وَيَا قَوْمِ

مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ) من يمنعني من عقابه، (إِن طَرَدتُّهُمْ) ظالمًا، (أَفَلاَ تَذَكرونَ) لتعرفوا ما تقولون، (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ) جواب لقولهم " ما نرى لكم علينا من فضل "، (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) حتى تسألوني عن وقت العذاب وغيره وتكذبوني، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني من غير بصيرة وعقد قلب، (وَلاَ أَقُولُ) لكم، (إِني مَلَكٌ) جواب لقولهم: " ما نراك إلا بشرًا مثلنا "، (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي) تستصغر وتحقرهم، (أَعْيُنُكُمْ) لفقرهم والإسناد إلى الأعين لأنَّهُم استرذلوهم بما عاينوا من رثاثتهم لا لأن فيهم عيبًا معنويًا، (لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا) أي: لا أحكم على المؤمنين أنه ليس لهم عند الله ثواب ونعمة، (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ) فإن كان باطنهم موافقًا للظاهر فلهم الأجر، (إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إن طردتهم، أو قلت شيئًا من ذلك، (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) فأطلت مخاصمتنا، (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ) فإن منزل العذاب هو الله تعالى، (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) الله يدفع العذاب، (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي: إن أراد الله تعالى ضلالكم، فإن أردت نصحكم لا ينفعكم نصحي فقوله لا ينفعكم نصحي دال على جواب الشرط الأول والمجموع دال على جواب الشرط الثاني، (هُوَ رَبُّكُمْ) فله التصرف فيكم كيف يشاء، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم، (أَمْ يَقُولُونَ) منقطعة، (افْتَرَاهُ) أي: نوح وعن مقاتل أي: محمد فيكون

(36)

معترضًا في وسط هذه القصة، (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) أي: وباله، (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي وقيل: معناه من الكفر والمعاصي. * * * (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ

أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) * * * (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ): لا تحزن، (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وكن تابعًا لمراد الله تعالى ومشيئته، (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) أي: متلبسًا بأعيننا كأن لله تعالى معه أعينًا تحفظه عن الميل في صنعته عن الصواب وحاصله اصنعها وأنت محفوظ، (وَوَحْيِنا) إليك كيفية صنيعها، (وَلاَ تُخَاطِبْنِي) بالدعاء، (فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي: في شأنهم ودفع العذاب عنهم، (إِنَّهُم مغرَقُون) بالطوفان لا سبيل لهم إلى الخلاص، (وَيَصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ

مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به قائلين نبي نجار، (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) حين ينزل عليكم العذاب، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) يهينه في الدنيا، (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مقِيمٌ) دائم في الآخرة فقوله من منصوب بـ تعلمون ويخزيه صفة عذاب ويحل عطف على يأتيه، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) غاية لقوله يصنع وما بينهما حال، (وَفَارَ التَّنُّورُ) نبع الماء فيه مكان النار قال بعضهم: تنور من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح، وعن علي رضي الله عنه: أي طلع الفجر ونور الصبح وعن بعضهم التنور وجه الأرض، (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا)، في السفينة، (مِن كُلٍّ)، من أنواع الحيوانات، قال بعضهم: ما حمل ما يتولد من الطين كالبق والذباب، (زَوْجَيْنِ اثْنيْنِ)، ذكرًا وأنثى فقوله اثنين تأكيد ومبالغة، (وَأَهْلَكَ) أي: أهل بيتك وقرابتك عطف على زوجين وأما عند من قرأ (مِنْ كُلِّ) زوجين بالإضافة فهو عطف على اثنين، (إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ) بالهلاك كامرأته واعلة وابنه كنعان، (وَمَنْ آمَنَ) عطف على زوجين كما في وأهلك، (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ثمانون نفسًا أو اثنان وسبعون أو ثمانية نفر أو عشرة، (وَقَالَ

ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) أي: اركبوا قائلين بسم الله أو مسمين الله وقت إجرائها ووقت إرسائها أي: ثباتها أو بسم الله خبر لمجريها أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها فيكون إخبارًا من نوح بأن إجراءها وإرساءها باسم الله، وقد نقل أنه إذا أراد إجراءها قال بسم الله فجرت، وإذا أراد إثباتها قال بسم الله فرست، (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لما نجانا من عذابه، (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) أي: ركبوا فيها وهي تجري وهم فيها، (فِي مَوْج كَالْجِبَالِ) كل موجة كجبل، (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان، (وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) مكان عزل وأبعد فيه نفسه عن أبيه، (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) في السفينة، (وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) في الدين والبعد عنا، (قَالَ سَآوِي) أصير وألتجئ، (إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ

اللهِ) عذابه، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي: إلا الراحم وهو الله أو عاصم بمعنى ذا عصمة كـ لابن وتامر إلا من رحم أي: من رحمه الله، أو الاستثناء منقطع يعني لكن من رحمه الله فهو معصوم قيل: تقديره لا عاصم لأحد إلا من رحمه الله (وحَالَ بَيْنَهُمَا) بين نوح وولده، (الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) صار منهم، (وَقِيلَ) بعدما تناهي أمر الطوفان، (يَا أَرْضُ ابْلَعِي) انشفي، (مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) أمسكي عن المطر، (وَغِيضَ) نقص، (الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي: إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين، (وَاسْتَوَتْ) استقرت السفينة، (عَلَى الْجُودِيِّ) جبل شامخ قريب الموصل أو الشام، (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكًا لهم، (وَنادَى) أي: أراد النداء، (نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ) أو نادى على حقيقته وقوله تعالى فقال تفصيل للمجمل، (رَبِّ إِن ابْنِي مِن أَهْلِي) وقد وعدت إنجاءهم، (وَإِنْ وَعْدَكَ الحَقُّ) لا خلف فيه، (وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ) أعدلهم، (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذي وعدت نجاته فإنه داخل في المستثنى، أي: إلا من سبق عليه القول أو ليس من أهل دينك، وقال بعضهم: إنه ولد زنية (1) وعن ابن عباس وغيره رضى الله عنه: ما زنت امرأة نبيٍّ قط، وعن كثير من السلف كان ابن امرأته، (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) أي: إنه ذو عمل فاسد ولا ولاية بين المؤمن والكافر قيل إنه أي: سؤالك إياي بنجاته عمل فاسد، (فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) ما لا تعرف أنه خطأ أم صواب والظاهر أن هذا قبل غرق ولده أو بعده لكن قبل علم نوح هلاكه، (إِنِّي أَعِظُكَ) أنهاك، (أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ قَالَ

_ (1) كالحسن البصري، وكلامه هذا مردود لقوله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) وقول نوح عليه السلام: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، وقول ابن عباس: ما زنت امرأة نبيٍّ قط.

رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ) بعد ذلك، (مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا) أي: إن لم، (تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ) بعد استقرار السفينة على الجودي، (يَا نوح اهْبِطْ) من السفينة، (بِسَلامٍ منا) بسلامة أو بتحية وهو حال، (وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ) البركة ثبوت الخير، (وَعَلَى أُمَمٍ ممَّن معَكَ) أي: على أمم ناشئة ممن معك من المؤمنين، ولهذا قالوا دخل فيه كل مومن ومؤمنة إلى يوم القيامة، قال بعضهم: المراد من الأمم المؤمنون الذين معه وسماهم أمما لتحزبهم، أو لتشعب الأمم منهم، (وأُمَمٌ) أي: وممن معك أمم، (سَنُمَتِّعُهُمْ) في الدنيا، (ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهم الكافرون من ذرية من ممن، (تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح، (مِن أَنبَاءِ الغَيْبِ) أي: من أخباره، (نوحِيهَا إِلَيْكَ) خبر ثان لـ تلك أو حال، (مَا كُنت تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا) خبر ثالث أو حال، (فَاصْبِرْ): كما صبر نوح، (إِنَّ الْعَاقِبَةَ) في الدنيا والآخرة بالنصرة، (لِلْمُتَّقِينَ). * * *

(50)

(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) * * * (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ) عطف على " نوحًا " إلى قومه، (هُودًا) عطف بيان، (قَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا اللهَ) وحده، (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) صفة تابعة لمحل الجار والمجرور،

(إِن أَنتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ): على الله، (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ): على تبليغ الرسالة، (أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الذِي فَطَرَنِي) يعني نصيحتي خالصة لا مشوبة بالمطامع، (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) حتى تميزوا بين المخطئ والمصيب، (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بالإيمان، (ثُمَّ تُوبُوا إِليهِ) ارجعوا إليه بالطاعة، (يرْسِلِ) جواب الأمر، (السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) كثير الدر، (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) يضاعف قوتكم بالمال والولد والشد في الأعضاء، ومنه قال الحسن بن على رضي الله عنه: من كثر استغفاره كثر نسله، (وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) لا تعرضوا عني مصرين على إجرامكم، (قَالُوا يَا هُودُ مَا جتَنَا بِبَيِّنَةٍ) حجة تدل على مدعاك وهذا كذب منهم وجحود، (وَمَا نَحْنُ

بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) حال من ضمير تاركي، أي: صارفين عن قولك، (وَمَا ئحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نقُولُ) ما نقول، (إِلا اعْتَرَاكَ) أي: إلا قولنا أصابك، (بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوء) بجنون لأنك تتكلم بالهذيانات، (قالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ) على نفسي، (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي: من إشراككم آلهة، (مِن دُونِهِ) ظرف لغو لـ تشركون، أو بيان لما، (فَكِيدُونِي) أنتم وأوثانكم، (جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) لا تمهلوني فإني لا أبالي بكم وبكيدكم ومن أعظم الآيات مواجهتهم بهذا الكلام مع أنهم عطاش بإراقة دم من خالفهم وهم مع كثرتهم كرجل واحد يرمون من قوس واحد، (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) الأخذ بالنواصي تمثيل لاشتمال ربوبيته على الكل وذل الكل وخضوعه تحت قهره وسلطانه فإن من أخذت ناصيته فقد قهرته، (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) على العدل والإحسان مع غلبته وقدرته قيل تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم، (فَإِن تَوَلوْا) تتولوا، (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فلا عليَّ شيء فإني بلغت الرسالة وما عليَّ إلا الإبلاغ، (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) هذا وعيد بإهلاكهم واستخلاف قوم آخرين مطيعين في ديارهم، (وَلَا تَضُرُّونَهُ) بإعراضكم، (شَيْئًا) من الضرر وقيل: لا تنقصونه شيئًا إذا أهلككم، (إِنَّ ربي عَلَى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ) فيحفظ أعمالكم ويجازيكم أو هو الحافظ للأشياء فهو الضار النافع فيستحيل أن يضره شيء أو هو الحافظ يحفظني من كيدكم، (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) بهلاك عاد، (نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) الريح التي أهلك بها عادا قيل المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضًا والتعريض بتعذيب المهلكين في الدنيا والآخرة، (وَتِلْكَ)، إشارة إلى القبيلة وقيل: إلى قبورهم وآثارهم، (عَادٌ جَحَدُوا) كفروا، (بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) من عصى رسولاً واحدًا فقد عصى الرسل فإن كلامهم واحد، (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِي) أي: سفلتهم اتبعوا كبراءهم

(61)

الذين طغوا فلم يقبلوا الحق، (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) قال السدي: ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه، (وَيَوْمَ القِيَامَةِ) أي: لعنوا في الدارين، (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي: نعمه أو بربهم فحذف الجار، (أَلَا بُعْدًا) من رحمته وهلاكاً، (لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) جىء بعطف البيان للتمييز عن عاد الإرم قيل: ينادي في القيامة بقوله: " ألا إن عادًا " إلخ. * * * (وَوَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) * * * (وَإِلَى ثَمُودَ) عطف على (وإلى عاد)، (أَخَاهُمْ) واحد منهم، (صَالِحًا) عطف بيان، (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) صفة تابعة لمحل الموصوف،

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ) فإنهم من آدم وآدم من تراب، (وَاستَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أقدركم على عمارتها، وعن الضحاك أطال عمركم فيها فإن الواحد منهم يعيش ثلاثمائة إلى ألف سنة، (فَاسْتَغفِرُوهُ) لما مضى، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما بقي، (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) يسمع أو قريب الرحمة، (مُجِيبٌ) لداعيه، (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) نرجوا أن تكون لنا سيدًا مستشارًا في الأمور لما نرى فيك من الرشد (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) عدوا هذا النهي منه بلاهة وشبه جنون، (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍ ممَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) من التبرء عن الأوثان، (مُرِيبٍ) موقع في الريبة، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) يقين وبصيرة، (مِنْ رَبِّي) وحرف الشك باعتبار المخاطبين، (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) نبوة، (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) يمنعني من عذابه، (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ الرسالة، (فَمَا تَزِيدُونَنِي) إذن حينئذ، (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) غير أن تخسروا أعمالي وتبطلوا أو ما تزيدونني بما تقولون إلا أن أنسبكم إلى الخسران، (وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) آية حال، ولكم حال منها أو بيان، (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ): عاجل، (فَعَقَرُوهَا فقالَ) لهم صاع، (تَمَتَّعُوا): عيشوا، (فَى دَارِكُمْ) الدنيا أو منازلكم، (ثَلاَثةَ أَيَّامٍ) ثم تهلكون، (ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) مصدر كالمجلود والمصدوقة أو غير مكذوب فيه فاتسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به كيوم شهدناه

(69)

سليمًا وعامرًا، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ منَّا وَمِنْ خِزْيِ) عطف على نجينا بتقدير: ونجيناهم من خزي، (يَوْمِئِذٍ) يوم هلاكهم بالصيحة وقيل: يوم القيامة، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر الغالب، (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) كان عذابهم صيحة من السماء وزلزلة من الأرض به تقطعت قلوبهم في صدورهم، (فَأَصْبَحُوا فِي ديَارِهِمْ جَاثِمِينَ) خامدين ميتين، (كَأَن لَّمْ يَغنَوْا): لم يقيموا ولم يكونوا، (فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا) من رحمة الله، (لِثَمُودَ) وصرف ثمود للذهاب إلى الحي أو الأب الأكبر. * * * (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا

اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) * * * (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) أي: الملائكة، (إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى) ببشارة الولد وقيل هلاك قوم لوط، (قَالُوا سَلامًا) سلمنا عليك سلامًا، (قَالَ سَلامٌ) أي: عليكم سلام، (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي: فما أبطأ مجيئه بعجل مشوي على الحجارة المحماة أو ما أبطأ في المجيء به أي: أسرع في ضيافتهم وكانت عامة ماله البقرة، (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ) لا يمدون إليه أيديهم، (نَكِرَهُمْ) أنكر ذلك منهم، (وَأَوْجَسَ) أدرك، (مِنْهُمْ خِيفَةً) لأن الضيف إذا أتى بشر لا يأكل، (قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) بالعذاب،

(وَامْرَأَتُهُ) سارة، (قَآئِمَةٌ) وراء الستر أو قائمة بخدمتهم، (فَضَحِكَتْ) سرورًا بالأمن أو تعجبًا، وقالت: يا عجبًا بأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة وهم لا يأكلون طعامنا أو تعجبًا من خوف إبراهيم من رجال قلائل وهو بين خدمه وحشمه، أو ضحكت بمعنى حاضت، (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) بشروها بأن لها ولدًا يكون له عقب ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق ونصب يعقوب لأنه في تقدير وهبناها من وراء إسحاق يعقوب، أو بحذف حرف الجر وإيصال الفعل، ومن قرأ بالرفع فهو مبتدأ، أي: ويعقوب مولود من بعده، (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى) أي: يا عجبًا، (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ابنة تسعين أو تسع وتسعين، (وَهَذَا بَعْلِي): زوجي، (شَيْخًا) ابن مائة وعشرين أو مائة [ونصبه على الحال والعامل فيها معنى اسم الإشارة]، (إِن هَذَا لَشَيْء عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِن أَمْرِ اللهِ) قدرته، (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ) فتخصيصكم بمزيد الكرامات لا عجب، (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي: أهل بيت إبراهيم وهو خبر من الملائكة أو دعاء

_ (1) لعل في هذا الموضع سقطا والله أعلم.، وما بين المعقوفتين زيادة من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

منهم، (إِنَّهُ حَمِيدٌ) محمود في أفعاله، (مَّجِيدٌ) كريم، (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ) بأن عرفهم، (وَجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي: يجادل رسلنا في أمرهم كيف تهلكونهم وفيهم لوط ويجيء جواب لما مضارعًا لحكاية الحال، أو تقديره: أخذ يجادلنا أو اجترأ على خطابنا يجادلنا قيل: لما تَردُّ المضارع إلى معنى الماضي، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) كثير التأسف على الذنوب، (منِيبٌ) راجع إلى الله تعالى يعني رقة قلبه وفرط ترحمه باعثه إلى المجادلة، (يَا إِبْرَاهِيمُ) أي: قالت الملائكة (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) الجدال، (إِنَّهُ) إن الشأن، (قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ): عذابه، (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) بجدال ودعاء. (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا) أي: هذه الملائكة، (لُوطًا سِيءَ بِهِمْ) حزن بمجيئهم وساءة، (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) طاقة، يقال: ضقت بالأمر ذرعًا إذا لم يطقه وذلك لأنهم جاءوا في أحسن صورة غلمان فخاف عليهم من خبث قومه وعدم قوته بمدافعتهم، (وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد بلاؤه وقد نقل أن امرأة لوط خرجت فأخبرت قومها بأن في بيته غلمانًا حسانًا، (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ) يسرعون، (إِلَيهِ) عجلة لنيلهم مطلوبهم من أضيافه، (وَمِن قبْلُ): قبل ذلك الوقت، (كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) يأتون الرجال يعني هذه عادتهم من قديم الأيام، (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ

بَنَاتِي) أي: فتزوجوهن واتركوا أضيافي وكانوا يطلبونهن قبل ذلك ولا يجيبهم، وكان تزويج المسلم من الكافر جائزًا أو المراد من البنات نساؤهم وأضاف إلى نفسه؛ لأن كل نبي أبو أمته، (هُنَّ أَطْهَرُ لَكمْ) من نكاح الرجال، (فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ) لا تفضحوني، (في) شأن، (ضَيْفِي) فإخزاء ضيف الشخص إخزاؤه، (أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رشِيدٌ) يعرف حقية ما أقول، (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ): من حاجة، (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) من إتيان الرجال، (قَالَ لَوْ أَن لِي بِكُمْ قُوَّةً) قويت بنفسى على دفعكم، (أَوْ آوِي): أنضم، (إِلَى ركْنٍ شَدِيدٍ) إلى قوي أستند إليه شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته، وجواب لو محذوف أي: لفعلت وصنعت بكم كيت وكيت، (قَالُوا) أي: الملائكة، (يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) إلى إضرارك بإضرارنا، (فَأَسْرِ): يا لوط، (بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ): بطائفة، (مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ) استثناء من قوله (فأسر بأهلك)، أي: لا تسر بها وخلفها ومن قرأ مرفوعًا فهو استتناء من قوله لا يلتفت منكم أحد يعني إذا سمعتم ما نزل بهم من الأصوات المزعجة فاستمروا ذاهبين ولا يلتفت

منكم أحد إلا امرأتك فإنا لا نمنعها عن الالتفات وقيل الاستثناء منقطع ومن الإسرائيليات أنها كانت معهم ولما سمعت أصوات البلاء التفتت وقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها ولا يجوز قطعًا حمل القراءتين على الروايتين في أن خلفها أو أخرجها، ولذلك قيل: إنها سرت معهم بنفسها لا أنه أخرجها والنهي عن إخراجها لا عن مصاحبتها وقيل: الاستثناء بقراءة النصب أيضًا عن قوله لا يلتفت وإن كان الأفصح الرفع حينئذ، (إِنَّهُ) الشأن (مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) من العذاب، (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ) أي: موعد عذابهم، (الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) جواب لاستعجال لوط عذابهم، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرنَا): بالعذاب، (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) أدخل جبريل عليه السلام جناحه تحت قريتهم فقلعها وصعد بها إلى السماء ثم قلبها وفيها أربعمائة ألف أو أربعة آلاف ألف، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهَا) على تلك القرى قبل التقليب أو حين التقليب، (حِجَارَةً) أو كانت الحجارة على شدادهم ومسافريهم، (مِنْ سِجِّيلٍ) أصله سنك كل أي: حجر وطين فارسية معربة أو الطين أو الآجر قيل اسم لسماء الدنيا أو لجبل فيها، (مَنْضُودٍ) متتابع أو معد في السماء لذلك، (مُسَوَّمَةً) معلمة

(84)

مكتوبًا فيها اسم من يقتل بها، أو معلمة بسيما متميزة عن أحجار الأرض مَا (عِنْدَ رَبِّكَ) ي خزائنه، (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ما هذه النقمة ممن يشبههم ببعيد، وقيل معناه: ما هذه القرى من ظالمي مكة ببعيد يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان. * * * (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ

عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) * * * (وَإِلَى مَدْيَنَ) اسم بلدة، (أَخَاهُمْ) من أشرافهم نسبًا، (شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده، (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) نهاهم عن هذا بعد الإيمان؛ لأنَّهُم اعتادوا البخس، (إِنِّي أَرَاكُم بخَيْرٍ) موسرين في نعمة وخصب لا حاجة لكم إلى التطفيف، (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍّ مُّحِيطٍ) وعدهم بعذاب يحيط بهم فلا يفلت منهم أحد ووصف اليوم بالإحاطة لاشتماله على عذاب محيط، (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) أمر بالإيفاء بعد أن

نهى عن ضده مبالغة، (بِالْقِسْطِ) بالعدل والسوية، (وَلَا تَبْخَسُوا) لا تنقصوا، (النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص وقيل: كانوا مكاسين، (وَلَا تَعْثَوْا) لا تبالغوا، (فِي الْأَرْضِ) بالفساد حال كونكم، (مُفْسِدِينَ) وقد كانوا يقطعون الطريق، (بَقِيَّت اللهِ) ما أبقى الله من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن، (خَيْرٌ لكمْ) مما تأخذونه بالتطفيف أو طاعة الله خير لكم، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط الإيمان فإن الثواب بالأعمال مشروط بالإيمان أو إن كنتم مؤمنين مصدقين لي، (وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن القبائح وإنما أنا ناصح، (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ) بتكليف، (أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) من الأصنام أجابوه على سبيل التهكم وكان عليه السلام كثير الصلاة، (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) عطف على ما، أي: وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا، ما نشاء قيل: عطف على أن نترك بتقدير أصلاتك تأمرك بنهيك عن أن نفعل إلخ، (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قالوا ذلك استهزاء وأرادوا ضدهما أو أنت حليم رشيد فكيف تبادر على مثل كلام المجانين (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) حجة وبصيرة، (مِّن ربي وَرَزَقَنِي مِنْهُ) من الله بلا كدًّ مني، (رِزقًا حَسَنًا)، حلالاً وكان عليه السلام كثير المال، أو أراد من

الرزق الحسن العلم والمعرفة وجواب الشرط محذوف، أي: فهل يجوز لي الخيانة في الوحي والمخالفة في أمره وفيه، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْ) ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستقل بها دونكم، (إِذ أُرِيدُ) فيما آمركم وأنهاكم، (إِلا الإِصْلاحَ) أي: إصلاحكم، (مَا اسْتَطَعْتُ) أي: ما دمت أستطيع الإصلاح فما مصدرية واقعة موقع الظرف أو إصلاح ما استطعته فالموصولة مفعول الإصلاح، ولا يبعد أن يكون معناه ما قصدت إلى ما نهيتكم عنه مجرد مخالفتكم؛ بل الإصلاح قصدي وهو الباعث إلى النهي، (وَمَا تَوْفِيقِي) لإصابة الحق، (إِلَّا بِاللهِ) بإعانته، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فإنه القادر المطلق، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) في المعاد أو فيما ينزل عليَّ من المصائب، (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يكسبنكم، (شِقَاقِي) عداوتي، (أَنْ يُصِيبَكُمْ) ثاني مفعوليه فإنه يتعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب، (مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق، (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح المهلكة، (أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ) من الصيحة، (وَمَا قَوْمُ لُوط مِّنكُم بِبَعِيدٍ) زمانًا فلا تنسوهم، أو مكانًا فإنهم جيران قوم لوط ولم يقل ببعيدة ولا ببعيدين لأن المراد، وما إهلاكهم ببعيد أو لأنه يستوي في مثله المذكر والمؤنث لأنه على زنة المصادر كالصهيل والشهيق، (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عما سلف، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما بقى من عمركم، (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فاعل بالتائبين ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) قالوه على وجه الاستهانة كما تقول لمن لم تعبأ بحديثه ما

أدري ما تقول، (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) لأنه كان أعمى (1) أو لأنه لا خدم ولا عسكر له، (وَلَوْلا رَهْطُكَ) أي: عزتهم فإنهم على ديننا والرهط من الثلاثة إلى العشرة، (لَرَجَمْنَاكَ) قتلناك بأذل وجه، (وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) يمنعنا عزك عن الرجم، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ) فإنكم تبقون عليَّ لرهطي ولا تبقون عليَّ لله وأنا رسوله، (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي: الله، (وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) جعلتموه كالشيء الملقى وراء الظهر وهو منسوب إلى الظهر والكسر من تغيرات النسب كالإمسيّ في الأمس، (إِنَّ رَبِّي)، أي: علمه، (بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فيجازي عليه، (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) أي: قارين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك أو على تمكنكم من أمركم، (إِنِّي عَامِلٌ) ما أنا عليه، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) استئناف كأنه قيل فماذا يكون بعد ذلك؟ فقال: سوف تعلمون (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) أي: سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب فإنهم أوعدوه وسموه كاذبًا، أو من استفهامية منقطعة عن سوف تعلمون أي: أينا يأتيه إلخ، (وَارْتَقِبُوا) انتظروا ما أقول لكم، (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر،

__ (1) لا دليل عليه ولو صح ذلك لعيروه شعيبًا - عليه السلام - بذلك.

(96)

(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) عذابنا، (نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبربل فهلكوا، (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) ميتين، الجثوم: اللزوم في المكان، (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) لم يكونوا فيها، (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ) هلاكاً لهم، (كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) فإن عذابهم أيضًا صيحة قيل: صيحة أهل مدين من فوق وصيحتهم من تحت ثم اعلم أن الصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة كلها لأهل مدين. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ

وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) التوراة أو المعجزات والحجج الواضحة سيما العصى، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا) أي: الملأ، (أَمْرَ فِرْعَوْنَ): في الكفر بموسى، (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) مرشد إلى الخير، (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: يتقدمهم إلى النار فهو في الدارين قدوتهم، (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) جاء بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، (وَبِئْسَ الوِرْد) أي: المورد، (المَوْرُودُ) أي: الذي يردونه والمخصوص بالذم، أي: النار نزل النار لهم منزلة الماء ثم قبحه، لأن الورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده والآية كالدليل على قوله: " وما أمر فرعون برشيد "، (واتْبِعُوا في هَذِهِ) أي: الدنيا، (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فإنهم ملعونون في الدارين، (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) العون المعان أو العطاء المعطى والمخصوص بالذم محذوف، أي: رفدهم وهو لعنة بعد لعنة، (ذلِكَ): النبأ، (مِنْ أَنبَاءِ القُرَى): المهلكة، (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر، (مِنْهَا قَائِمٌ) بقيت آثاره كالحيطان، (وَحَصِيدٌ) أي: ومنها عافي الأثر والجملة مستأنفة، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فاستحقوا العذاب، (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ) ما دفعت عنهم، (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) شيئًا من عذابه، (لَمَّا جَاءَ) حين جاء، (أَمْرُ رَبِّكَ) عذابه، (وَمَا زَادُوهُمْ) أي: ما زاد الآلهة الظالمين، (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) بلاء وتخسير، (وَكَذَلِكَ) مثل

ذلك الأخذ، (أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ) أهل، (الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) حال من القرى وعلى الحقيقة لأهلها، (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع صعب، (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: هلاك تلك الأمم أو الأنباء بإهلاكهم، (لَآيَةً): عبرة، (لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ) فيجعلها أنموذجًا ودليلاً على صدق ما أعد الله تعالى للمجرمين، (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه عذاب الآخرة، أي: يوم القيامة، (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) لأن يجازيهم، (وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) فيه الخلائق البر والفاجر اتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، أو المراد بالمشهود الذي كثر شاهدوه، (وَمَا نُؤَخِّرُهُ) أي: اليوم، (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) الأجل يطلق على مدة التأجيل وعلى منتهاها والعد للمدة لا لغايتها فتقديره إلا الانتهاء أجل معدود على حذف المضاف، (يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم المعين على أن يوم بمعنى حين، (لَا تَكَلَّمُ): لا تتكلم، (نَفْسٌ) وهو الناصب للظرف، (إِلَّا بِإِذْنِهِ): بإذن الله تعالى، وهذا في موقف ويوم لا ينطقون في موقف آخر، (فَمِنْهُمْ) الضمير لأهل الموقف دل عليه قوله لا تكلم نفى، (شَقِيٌّ وَ) منهم (سَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير إخراج النفس والشهيق ردُّه،

أو الصوت الشديد والضعيف، أو الزفير أول نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردده في جوفه، (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ)، أي: أبدا دائمًا لا ينقطع،

والعربي إذا أراد التأبيد قال: دائم دوام السماوات والأرض، (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) استثناء من الخلود فإنه ليس لبعضهم وهم فساق الأمة خلود وهم الأشقياء من وجه وهو المراد بالاستثناء الثاني فإنهم ليسوا في الجنة مدة عذابهم والتأبيد من مبدأ معين

كما ينتقص من الانتهاء ينتقص من الابتداء وهو المنقول عن كثير من السلف أو هو كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك على ضربه فعلى هذا الاستثناء في الموضعين لبيان أنه لو أراد عدم خلودهم لقدر لا أنه واجب عليه ويؤيده قوله: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) أو هو من باب (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 45]، و (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) [الدخان: 56] على إحدى التأويلات أو المستثنى توقفهم في الموقف أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ أو الاستثناء لخروج الكل من النار إلى الزمهرير ومن الجنة إلى المراتب والمنازل الأرفع، (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) حاكم غير محكوم (1). (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) قيل المراد منهما سماوات الآخرة وأرضها وهما مؤبدان، (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) والأحسن عندى في الاستثنائين قول قتادة والله أعلم بثنياه اعترف رضى الله عنه بالعجز عن الفهم وأحال العلم على الله تعالى، (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) غير مقطوع ونصبه على الحال أو المصدر المؤكد صرح في الجنة بأنها غير مقطوع لئلا يتوهم متوهم بعد ذكر المشيئة أن ثمة انقطاعًا ولم يذكر في شق النار، (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) شكٍّ، (مِمَّا يَعْبُدُ

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نِهَايَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ السموات وَالْأَرْضِ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عِقَابِ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعَةً. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُدَّةِ عِقَابِهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي وَقْتِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَمِمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ: لابِثِينَ فِيها أَحْقابًا [النَّبَأِ: 23] بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لُبْثَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَحْقَابًا مَعْدُودَةً. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَوَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْصِيَةَ الْكَافِرِ مُتَنَاهِيَةٌ وَمُقَابَلَةُ الْجُرْمِ الْمُتَنَاهِي بِعِقَابٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ ظُلْمٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنِ النَّفْعِ فَيَكُونُ قَبِيحًا بَيَانُ خُلُّوِّهِ عَنِ النَّفْعِ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ لَا يَرْجِعُ إِلَى الله تَعَالَى لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَلَا إِلَى ذَلِكَ الْمُعَاقَبِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَشْغُولُونَ بِلَذَّاتِهِمْ فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الِالْتِذَاذِ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ النَّفْعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ دَائِمٌ وَعِنْدَ هَذَا احْتَاجُوا إِلَى الْجَوَابِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فَذَكَرُوا عَنْهُ جَوَابَيْنِ: الأول: قالوا المراد سموات الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا. قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْآخِرَةِ سَمَاءً وَأَرْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزُّمَرِ: 74] وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِأَهْلِ الْآخِرَةِ مِمَّا يُقِلُّهُمْ وَيُظِلُّهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَرْضُ والسموات. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّشْبِيهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ حَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَعْلُومًا مُقَرَّرًا فَيُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُهُ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي المشبه ووجود السموات وَالْأَرْضِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يكون وجوده معلوما إلا أن بقاءها عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْنَى الْبَتَّةَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ وُجُودِهِمَا مَجْهُولًا لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ وَدَوَامُهُمَا أَيْضًا مَجْهُولًا لِلْأَكْثَرِ، كَانَ تَشْبِيهُ عِقَابِ الْأَشْقِيَاءِ بِهِ فِي الدَّوَامِ كَلَامًا عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وَأَرْضٍ فِي الْآخِرَةِ وَثَبَتَ دَوَامُهُمَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّشْبِيهُ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أَهْلِ الْآخِرَةِ وَدَوَامِ أَرْضِهِمْ هُوَ السَّمْعُ، ثُمَّ السَّمْعُ دَلَّ عَلَى دَوَامِ عِقَابِ الْكَافِرِ، فَحِينَئِذٍ الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ حَاصِلٌ بِعَيْنِهِ فِي الْفَرْعِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ ضَائِعٌ وَالتَّشْبِيهَ باطل، فكذا هاهنا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالُوا إِنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الدَّوَامِ وَالْأَبَدِ بِقَوْلِهِمْ مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا طَمَا الْبَحْرُ، وَمَا أَقَامَ الْجَبَلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ فَلَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبَادِ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ الْخَالِيَ عَنِ الِانْقِطَاعِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامت السموات وَالْأَرْضُ، يَمْنَعُ مِنْ بَقَائِهَا مَوْجُودَةً بَعْدَ فَنَاءِ السموات، أَوْ تَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْإِشْكَالُ لَازِمٌ، لِأَنَّ النَّصَّ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ مُسَاوِيَةً لِمُدَّةِ بقاء السموات وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ بَقَائِهِمْ فِي النَّارِ بَعْدَ فناء السموات، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَنَاءِ السموات فَعِنْدَهَا يَلْزَمُكُمُ الْقَوْلُ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ الْعِقَابِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْتُمْ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ كونهم في النار بعد فناء السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ ضَائِعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْحَقَّ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ المعهود من الآية أنه متى كانت السموات وَالْأَرْضُ دَائِمَتَيْنِ، كَانَ كَوْنُهُمْ فِي النَّارِ بَاقِيًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ: أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ. فَإِنْ قُلْنَا: لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَإِنَّهُ يَنْتُجُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَمْ يَنْتُجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ لا ينتج شيئا، فكذا هاهنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم، فإذا قلنا لكن السموات دَائِمَةٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُهُمْ حَاصِلًا، أَمَّا إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: فإذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السموات أَوْ لَمْ تَبْقَ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّشْبِيهِ فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفَاذِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَهْرًا، وَزَمَانًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِطُولِهِ وَامْتِدَادِهِ، فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ آخِرُ أَمْ لَا فَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلَائِلَ أُخَرَ، وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي قَرَّرْتُهُ جَوَابٌ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَفْهَمُهُ إِنْسَانٌ أَلِفَ شَيْئًا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَجْوِبَةِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ اسْتَثْنَاهُ الله تَعَالَى وَلَا يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، كَقَوْلِكَ: والله لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ عَزِيمَتَكَ تَكُونُ على ضربه، فكذا هاهنا وَطَوَّلُوا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَفِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ فِيهِ، وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، مَعْنَاهُ: لَأَضْرِبَنَّكَ إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب، وَهَذَا لَا يَدُلُّ أَلْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ قَدْ حَصَلَتْ أَمْ لَا بِخِلَافِ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِخُلُودِهِمْ فِيهَا إِلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي شَاءَ رَبُّكَ، فَهَهُنَا اللفظ تدل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ قَدْ حَصَلَتْ جَزْمًا، فَكَيْفَ يَحْصُلُ قِيَاسُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كلمة إِلّ

(110)

هَؤُلَاءِ) من عبادة المشركين في أنها ضلال تؤدي إلى مثل ما حل بمن قبلهم، (مَا يَعْبُدُونَ) عبادة، (إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ) إلا كعبادتهم، (مِنْ قَبْلُ) استئناف أي: هم وآباؤهم سواء لا مستند لهم في الشرك وتقديره: كما كان يعبد وحذف كان لدلالة قبل عليه، (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حظهم من الجزاء، (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال مقيدة فإنه يقال وفيته نصيبه منصفًا. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بأن آمن به بعض وكفر به بعض كما اختلف في القرآن، (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير العذاب عن قومك، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لفرغ من جزائهم، (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ منْهُ) من القرآن، (مُرِيبٍ) موقع للريبة، (وَإِنَّ كُلًّا) جميع المختلف من المؤمنين والكافرين وإن مع أنه مخففة عمل باعتبار الأصل والتنوين عوض عن المضاف إليه، (لَمَّا) ما زائدة للفصل بين اللام الموطئة للقسم ولام التأكيد ومن قرأ بالتشديد فأصله لمن ما فقلبت النون ميمًا للإدغام فحذفت أولى الميمات الثلاث، (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) أي: إن جميعهم والله ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم أو لمن الذين يوفينهم إلخ، (إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ

خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ) استقامة، (كَمَا أُمِرْتَ) أي: مثل الاستقامة التي أمرت بها على دين ربك والدعاء إليه، (وَمَن تَابَ) عن الكفر وآمن، (مَعَكَ) عطف على ضمير استقم، (وَلاَ تَطْغَوْا) لا تخرجوا عن حدود الله، (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا)، لا تميلوا أدنى ميل، (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بأن تعظموهم وتسعينوا بهم، (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) بركونكم إليهم؛ بل استقيموا كما أمرت ولا تميلوا إلى جانب، (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) أعوان يمنعونكم من عذابه والواو للحال، (ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) لا تجدون من ينصركم أو لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن لا يرحم على من ركن وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) أحد طرفيها الصبح والآخر إما العصر أو الظهر والعصر، (وَزُلَفًا) ساعات، (مِنَ

اللَّيْلِ) قريبة من النهار العشاء أو المغرب والعشاء قيل: هذا قبل وجوب الصلوات الخمس فإنه كان يجب صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى أمته ثم نسخ، (إِن الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وفي الحديث: (إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا) (1) نزلت في رجل أصاب من امرأة ما دون الجماع فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فنزل " أقم الصلاة " الخ فقال الرجل: أليَّ هذا؟ قال: لأمتي كلهم) (ذلِكَ) بها إشارة إلى استقم فما بعده، (ذكْرَى لِلذاكِرِينَ) عظة للمتعظين، (وَاصْبِرْ) على حكم الله، (فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - المحسنين أي: المصلين، (فَلَوْلاَ) فهلا، (كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولوا بَقِيَّةٍ) يقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم، أي: هلا كان منهم من فيه خير ينهى عن الفساد؛ وهذا تحريض لأمة محمد عليه الصلاة والسلام كما قال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) الآية [آل عمران: 104]، (يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِّمَّن أَنجَيْنَا مِنْهُمْ) (من) في (ممن) للبيان، أي: لكن قليلاً منهم أنجيناهم لأنَّهُم كانوا كذلك وجاز أن يكون

_ (1) في الأصل [تمحوها] والحديث عند الإمام أحمد - رحمه الله - برقم (21487). (مصحح النسخة الإلكترونية).

الاستثناء متصلاً لأن التخصيص ملزوم للنفي، أي: ما كان فيهم أولو بقية كذا إلا قليلاً وهم من أنجيناهم، (وَاتَّبَعَ الذِينَ ظَلَمُوا) عطف على ما دل عليه الكلام، أي: لم ينهوا عن الفساد واتبعوا، (مَا أُتْرِفوْا) نعموا، (فيه) من الشهوات بتحصيل أسبابها فأعرضوا عن الآخرة، (وَكَانُوا مُجْرِمِينَ): كافرين، وهذا سبب استئصالهم وإهلاكهم فلابد من الحذر عن مثل ما هم كانوا عليه، (وَمَا كَان ربُّكَ) ما صح وما استقام له، (لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ): بشرك، (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) أي: لا يهلكهم بمجرد الشرك إذا لم يضموا إلى شركهم فسادًا أو ظلمًا فيما بينهم، بل ينزل عليهم العذاب إذا أفسدوا وظلموا بعضهم بعضًا أو لا يهلكهم بظلم منه وهم مصلحون لأعمالهم فإنه سبحانه " حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرمًا " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " [هود: 101] وهذا توجيه وجيه لا اعتزال فيه، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) مسلمين كلهم، (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الأديان والاعتقادات، (إِلا مَن رحِمَ ربُّكَ) وهم أتباع الرسل تمسكوا بما أمروا به، (وَلِذَلِكَ) أي: للرحمة أو للاختلاف أو لهما، (خَلَقَهُمْ) الضمير لمن على الأول وللناس على الأخيرين، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) قضاؤه وقدره، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ): من عصاتهما، (أَجْمَعِينَ) أو منهما أجمعين لا من أحدهما، (وَكُلًّا) التنوين عوض،

أي: كل نبأ، (نَقُصُّ عَلَيكَ) وقوله: (مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ) بيان لـ (كُلًّا) أو صفة لنبأه المحذوف ومن للتبعيض، (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) بدل بعضو من كلا أو مفعول نقص، وكلا مفعول مطلق حينئذ، أي: كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك وتثبيت فؤاده زيادة يقينه واحتمال الأذى، (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ) السورة، (الْحَقُّ) خص هذه السورة تشريفًا وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور أو جاءك في هذه الدنيا الحق (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى) جاءتك فيها، (لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: عمت فائدة تلك السورة لك ولأمتك، (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ): على طريقتكم تهديد شديد، (إِنَّا عَامِلُونَ): على حالنا، (وَانتَظِرُوا) لنا الدوائر، (إِنَّا مُنتَظِرُونَ) أن ينزل بكم مثل ما نزل على أمثالكم أو انتظروا ما يعدكم الشيطان إنا منتظرون ما يعدنا ربنا، (وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) لا يخفي عليه خافية، (وَإِلَيهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ) في المعاد ويمكن أن يكون معناه كل الأمور راجعة إلى خلقه وقدرته فهو الفاعل على الحقيقة للأشياء، (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازي كلًّا مايستحقه. والحمد لله وحده .. * * *

سورة يوسف

سورة يوسف وهي مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعًا * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) * * * (الر تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة، (آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ): الواضح الجلي، أو المفصح عن الأشياء المبهمة، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) أي: الكتاب، (قُرْآنًا)، حال، فإنه مصدر بمعنى مفعول، (عَرَبِيًّا) صفة له، أو حال،

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: أنزلناه بلغتكم كي تفهموا معانيه، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) مصدر بمعنى الاقتصاص، وأحسنيته في كونه بالغة في الفصاحة، فيكون مفعولاً مطلقًا، والمقصوص محذوف، أو فعل بمعنى مفعول، وأحسنيته لما فيه من النكت والحكم والعجائب، فيكون مفعولاً به، (بمَا أَوْحَيْنَا): بإيحائنا، (إِلَيكَ هَذَا القُرْآنَ) أي: السورة، وهو إما مفعول الإيحاء، أو مفعول نَقُصُّ على الوجه الأول، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ): عن هذه القصة، لا تعلمها، وإن هي المخففة، (إِذ قَالَ) بتقدير اذكر، أو بدل اشتمال من أحسن القصص على تقدير مفعوليته، (يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ) تاء التأنيث عوض عن الياء، ومن يفتح التاء، فلأنه كان يا أبتا، فحذفت الألف، (إِنِّي رَأَيْتُ): من الرؤيا، (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

(7)

رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) استئناف، كأنه قيل: كيف رأيتهم؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين، وأجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم، وساجدين حال، (قَالَ يَا بُنَيَّ) التصغير للشفقة، (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا): يحتالون لإهلاكك حيلة، حسدًا منهم، فإنَّهم يعلمون تأويلها، (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فيحملهم على الكيد، (وَكَذَلِكَ)، كما اجتباك بهذه الرؤيا العظيمة، (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ): يصطفيك، (وَيُعَلِّمُكَ) كلام برأسه غير داخل في التشبيه، (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) تعبير الرؤيا، وقيل: تأويل آيات كتب الله - تعالى، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ): بالنبوة، (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ) أراد سائر أولاده، (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبلُ): من قبل هذا الوقت، (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ) عطف بيان لأبويك، (إِنْ رَبَّكَ عَلِيمٌ): بمن يستحق النبوة، (حَكِيمٌ): في أفعاله. * * * (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ

تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) * * * (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ): في قصتهم، (آيَاتٌ): عظة وعبرة، (لِّلسَّائِلِينَ): عنها المستخبرين، فإنه خبر عجيب يستحق الإخبار عنه، وقيل: اليهود سألوه ومن آياته وضوح دلالته على صدق محمد - عليه السلام - فإنه موافق لما في التوراة، (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ) اللام للابتداء، (وَأَخُوهُ) أي: من الأبوين، (أَحَبُّ) يستوي في أفعل، من الواحد والجمع، (إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ) الواو للحال، (عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء، أليق بالمحبة، (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) لتفضيل المفضول أي: ضلال دنيوي، ولا يجب عصمة الأنبياء عن ذلك الضلال،

ولا شك أن إخوته ليسوا في ذلك الحين أنبياء، قال بعضهم: لم يقم دليل على أنهم صاروا أنبياء، (اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة المحكي، (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) بعيدة منكورة، وهو معنى تنكيرها، ولإبهامها نصبت نصب الظروف المبهمة، (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) جواب الأمر، يخلص لكم وجهه عن إقباله بيوسف، فيقبل بكليته عليكمَ، (وَتَكونوا) عطف على يخل، (مِنْ بَعْدِهِ): بعد يوسف، (قَوْمًا صَالِحِينَ): تائبين أو يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم، (قَالَ قَائِلٌ منْهُمْ) هو يهوذا، أو رويبيل، أو شمعون، (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ): في قعر البئر قيل: هو بئر بيت المقدس، (يَلْتَقِطْهُ): يأخذه، (بَعْضُ السَّيَّارَةِ): المسافرين، (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): عازمين على أن تفعلوا به شيئًا، كأنه لم يرض بإضراره، (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) أي: لم تخافنا عليه، ونحن مشفقون عليه مريدون له الخير (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا): إلى الصحراء، (يَرْتَعْ) الرتع الاتساع في الملاذ، (وَيَلْعَبْ): بالاستباق، (وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ): من أن يناله ضر، (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ): لشدة مفارقته على، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فإن أرضهم كانت مذأبة، (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ): مشتغلون بلعبكم، (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ) اللام موطئة للقسم، (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ): جماعة أقوياء والواو للحال، (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ): ضعفاء عاجزون وهو جواب القسم، (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا): اتفقوا، (أَنْ يَجْعَلُوهُ

فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) وجواب لما محذوف، أي: فعلوا به ما فعلوا، (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا)، لتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا، (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون): بوحي الله وإعلامه إياه ذلك، أو هم لا يعرفونك حين تخبرهم، كما قال تعالى: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)، (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)، العشاء: آخر النهار، ويبكون حال، (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ): نتسابق في الرمي أو العدو، (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ): بمصدق، (لَنَا): في هذه القصة، (وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ): عندك في القضايا لسوء ظنك بنا، (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)، وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب، وعلى قميصه حال من دم، وجاز تقدمه على صاحبه، لأنه ظرف، أو محله النصب على الظرف، أي: فوق قميصه، كما تقول: جاء على جماله بأحمال، (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ):

سهلت، (لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا): عظيمًا، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ): أجمل، أو فأمري صبر جميل، (وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، أي: على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف، وقد نقل أنَّهم ذبحوا سخلة ولطخوا ثوبه بدمها فلما جاءوا بثوبه، قال يعقوب: ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا، أكل ابني، ولم يمزق عليه قميصه، (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ): مسافرون، (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ)، وهو الذي يطلب لهم الماء، (فَأَدْلَى): أرسل، (دَلْوَهُ)، في الجب فتدلى بها يوسف فلما رآه، (قَالَ يَا بُشْرَى): نادى البشرى: كأنه يقول: تعالي فهذا من أونتك، قال بعضهم: بشرى اسم صاحب له ناداه (1)، (هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ): أخفى الواردون أمره من بقية السيارة، (بِضَاعَةً)، حال، أي متاعًا للتجارة، قالوا: هو بضاعة لنا من أهل هذا الماء، أو ضمير الجمع لإخوة يوسف أي كتموا أنه أخوهم، وباعوه، فإنهم يستخبرون كل يوم منه، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ): بيوسف، (وَشَرَوْهُ): باعه الواردون أو إخوته (2)، (بِثَمَنٍ بَخْسٍ): زيف أو قليل، (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ): قليلة، بدل من الثمن، والدراهم عشرون أو اثنان وعشرون أو أربعون، (وَكَانُوا)، أي: إخوته، (فِيهِ):

_ (1) لا يخفي ما فيه من بُعْدٍ بعيد. (مصحح النسخة الإلكترونية). (2) لا يصح أبدًا. (مصحح النسخة الإلكترونية).

(21)

في يوسف، (مِنَ الزَّاهِدِينَ): من الراغبين عنه أو كان الواردون زاهدين في يوسف فهم الذين باعوا بثمن بخس، لأنه ملتقط وهم خائفون من انتزاعه فاستعجلوا في بيعه فيكونوا راغبين عنه وفيه متعلق بمحذوف يبينه من الزاهدين، لأن ما بعد الجار والموصول لا يعمل فيما قبله. * * * (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) * * *

(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ) وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، (لِامْرَأَتِهِ): راعيل أو زليخا، (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ): منزله، أي: أحسني تعهده، (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا): يكفينا أمورنا أو نبيعه بالربح، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) وكان عقيمًا، (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي: مكناه في مصر، وجعلناه ملكًا، مثل ما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، (وَلِنُعَلِّمَهُ)، عطف على مقدر أي: مكنا لمصالح ولنعلمه، (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) تعبير الرؤيا وقيل: معاني كتب الله تعالى (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ): يفعل ما يشاء لا يغلبه شيء قيل: الضمير ليوسف أي أراد إخوته شيئًا والله أراد شيئًا آخر ولا رادَّ لما أراد، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): إن الأمر كله بيده، والمراد منه الكفار أو لا يعلمون لطائف تدبيره، فالمراد منه أعم، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ): استكمل خلقه وتم كان سنه حينئذ ثلاثة وثلاثين أو بضعًا وثلاثين أو عشرين أو أربعين أو هو الحلم وقيل غير ذلك، (آتَيْنَاهُ حُكْمًا): نبوة وفقهًا في الدين، (وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): فإنه محسن في عمله صابر على النوائب، (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ): طلبت منه أن يواقعها، (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) وكانت سبعة، (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ): أقبل وبادِر اسم فعل واللام للتبيين كما في سقيا لك، (قَالَ): يوسف، (مَعَاذَ اللهِ):

أعوذ بالله معاذًا (إِنَّهُ)، أي: الشأن، (ربي): سيدي الذي اشتراني، (أَحْسَن مَثْوَايَ): أكرمني فلا أخونه وقيل إن الله ربى أحسن منزلتي فلا أعصيه (1)، (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ): المجازون الحسن بالسيئ أو لا يسعد الزناة، (وَلَقَدْ هَمَّتْ به): قصدت مخالطته، (وَهَمَّ بِهَا): قصد مخالطتها لميل الطبع والشهوة الغير الاختياري (2)، (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) جوابه محذوف أي لخالطها وما ذكره أكثر السلف هو أن رأى صورة أبيه عاضًّا على أصبعه يعظه، (كَذَلِكَ): مثل

_ (1) هذا هو الراجح عند المحققين. والله أعلم. (2) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِالْبَحْثِ عَنْهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ أَمْ لَا؟ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِالْفَاحِشَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمُ الْمَرْجُوعُ إِلَى رِوَايَتِهِمْ هَمَّ يُوسُفُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ هَمًّا صَحِيحًا وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ مِنْ رَبِّهِ زَالَتْ كُلُّ شَهْوَةٍ عَنْهُ. قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ رَضِيَ الله عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: طَمِعَتْ فِيهِ وَطَمِعَ فِيهَا فَكَانَ طَمَعُهُ فِيهَا أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَحِلَّ التِّكَّةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَائِنِ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا اسْتَلْقَتْ لَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْوَاحِدِيَّ طَوَّلَ فِي كَلِمَاتٍ عَدِيمَةِ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَا ذَكَرَ آيَةً يَحْتَجُّ بِهَا وَلَا حَدِيثًا صَحِيحًا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَمَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْعَارِيَةِ عَنِ الْفَائِدَةِ رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: 52] قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا حِينَ هَمَمْتَ يَا يُوسُفُ فَقَالَ يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يُوسُفَ: 53] ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا هَذَا الْعَمَلَ لِيُوسُفَ كَانُوا أَعْرَفَ بِحُقُوقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَارْتِفَاعِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ الله تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ نَفَوُا الْهَمَّ عَنْهُ، فَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْعَمَلِ الْبَاطِلِ، وَالْهَمِّ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَبِهِ نَقُولُ وَعَنْهُ نَذُبُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَثِيرَةٌ، وَلَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا نُعِيدُهَا إِلَّا أَنَّا نَزِيدُ هاهنا وُجُوهًا: فَالْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الزِّنَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الْكَبَائِرِ وَالْخِيَانَةَ فِي مَعْرِضِ الْأَمَانَةِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ بِالْإِسَاءَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَضِيحَةِ التَّامَّةِ وَالْعَارِ الشَّدِيدِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا الصَّبِيُّ إِذَا تَرَبَّى فِي حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون الغرض مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى زَمَانِ شَبَابِهِ وَكَمَالِ قُوَّتِهِ فَإِقْدَامُ هَذَا الصَّبِيِّ عَلَى إِيصَالِ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمُنْعِمِ الْمُعَظَّمِ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَعْمَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِجَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَوْ نُسِبَتْ إِلَى أَفْسَقِ خَلْقِ الله تَعَالَى وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ لَاسْتُنْكِفَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِسْنَادُهَا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! الْمُؤَيَّدُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الواقعة: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ [يوسف: 24] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نسبوها إليه أعظم أنواع/ وَأَفْحَشُ أَقْسَامِ الْفَحْشَاءِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَشْهَدَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِكَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ السُّوءِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ. وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ الْبَالِغَ، فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الله تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ عَنْ إِنْسَانٍ إِقْدَامَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَعْظَمِ الْمَدَائِحِ وَالْأَثْنِيَةِ عَقِيبَ أَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، فَإِنَّ مِثَالَهُ مَا إِذَا حَكَى السُّلْطَانُ عَنْ بَعْضِ عَبِيدِهِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ وَأَفْحَشَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ يَذْكُرُهُ بِالْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ عَقِيبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَنْكَرُ جِدًّا فَكَذَا هاهنا والله أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَتَى صَدَرَتْ مِنْهُمْ زَلَّةٌ، أَوْ هَفْوَةٌ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَأَتْبَعُوهَا بِإِظْهَارِ النَّدَامَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَوْ كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا عَلَى هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الْمُنْكَرَةِ لَكَانَ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلَوْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ لَحَكَى الله تَعَالَى عَنْهُ إِتْيَانَهُ بِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ذَنْبٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَدْ شَهِدَ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا، وَالنِّسْوَةُ وَالشُّهُودُ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ شَهِدَ بِبَرَاءَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ، وَإِبْلِيسُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِ تَوَقَّفٌ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ عَنِ الذَّنْبِ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف: 26] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُفَ: 33] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَلِأَنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يُوسُفَ: 32] وَأَيْضًا قَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يُوسُفَ: 51] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُفَ: 28، 29] وَأَمَّا الشُّهُودُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ [يُوسُفَ: 26] وَأَمَّا شَهَادَةُ الله تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] فَقَدْ شَهِدَ الله تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَتِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَالْفَحْشاءَ أَيْ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا [الْفُرْقَانِ: 63] وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: الْمُخْلَصِينَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: تَارَةً بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَأُخْرَى بِاسْمِ/ الْمَفْعُولِ فَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَعَ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ. وَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الله تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِحَضْرَتِهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَدَلِّ الْأَلْفَاظِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ إِبْلِيسَ أَقَرَّ بِطَهَارَتِهِ، فَلِأَنَّهُ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِغْوَاءَ الْمُخْلَصِينَ وَيُوسُفُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ فَكَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْ إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ مَا أَغْوَاهُ وَمَا أَضَلَّهُ عَنْ طَرِيقَةِ الْهُدَى، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ

ذلك التثبيت ثبتناه، (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ): خيانة صاحبه، (وَالْفَحْشَاءَ): الزنا، (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ)، من الذين أخلصهم الله تعالى لعبادته، (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) فيه تضمير الابتدار ولذلك عدي بنفسه أو تسابقا إليه بحذف إلى، (وَقَدَّتْ): شقت، (قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ): من خلف، وذلك لأنه فر منها وأسرعت وراءه واجتذبت ثوبه لتمنعه الخروج فانقد، (وَأَلْفَيَا): صادفا، (سَيِّدَهَا): زوجها، (لَدَا الْبَابِ) فأحضرت كيدها وبرأت ساحتها ونسبت إليه، (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) جزاؤه إلا السجن أو أي شيء جزاؤه إلا السجن، (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) الشاهد كان صبيًّا في المهد أو وجلًا من أقارب زليخا أو من خاصة الملك، (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ) أي: فقال الشاهد: إن كان قميصه وسماه شاهدًا، لأنه ثبت قول يوسف بكلامه قال بعضهم: شهد شاهد أي: حكم حاكم فقال: إن كان إلخ، (قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ): فإنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها قدت قميصه من قدامه بالدفع، (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ): فإنه دال على أنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها والجمع بين إن التي للاستقبال وكان على تأويل أن يعلم أنه كان قميصه، (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ): لما عرف خيانة امرأته، (إِنَّهُ): إن هذا الصنيع، (مِن

(30)

كَيْدِكُنَّ) والخطاب لها ولسائر النساء، (إن كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ) أي: يا يوسف، (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا): اكتمه ولا تَذكره، (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ): من القوم المتعمدين للذنب والتذكير للتغليب قيل: إنه كان قليل الغيرة. * * * (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لله مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) * * *

(وَقَالَ نِسْوَةٌ)، اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي، (فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ): تطلب من عبدها الفاحشة، (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا)، أي: خرق حبه شغاف أي: حجاب قلبها، فوصل إلى الفؤاد، و (حُبًّا) تمييز، وفاعل شغف ضمير الفتى، (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ)، تسميته مكرًا لما علمت أنهن أردن بهذا القول أن تريهن يوسف أو لأنهن أفشين سرها، (أَرْسلَتْ إِلَيْهِنَّ): دعتهن، (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا): ما يُتَّكَأ عليه قال أكثر السلف المتكأ المجلس المعد فيه مفارش ومخاد وطعام فيه ما يقطع بالسكين، (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) لقطع ما في المائدة مما يحتاج إليه، (وَقَالَتِ): حين أخذن السكاكين: (اخرُج): يا يوسف، (عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) عظمنه وهبهن ذلك الحسن وقيل: أكبرنه أي: حضن له من شدة الشبق (1) فإن المرأة إذا أكبرت حاضت أو الهاء للسكت، (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ): جرحنها من فرط الحيرة، (وَقُلْنَ حَاشَ لله): أصله حاشا فحذفت الألف تخفيفًا وهى من حروف الجر وضعت موضع التنزيه والبراءة كأنه قال: براءة ثم قال: لله؛ لبيان من يبرئ وينزه كـ سقيا لك والمعني تنزيهًا لله من العجز وتعجبًا من قدرته على هذا الخلق الجميل، (مَا هَذا بَشَرًا): فإنه لم يعهد للبشر مثل ذلك الجمال

_ (1) كلام لا يعول عليه.

وأعمل ما عمل ليس لمشاركتهما في نفي الحال وهو لغة الحجاز، (إِن هَذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فإن جماله فوق جمال البشر، (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمتنَّنِي فيهِ) وضع ذلك موضع هذا رفعًا لمنزلته واستبعادًا لمحله في الحسن، (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ): بالغ في عصمته اعترفت عندهن لما علمت أنهن يعذرنها، (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) بحذف حرف الجر أي: ما أمر به، (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ): من الأذلاء والنون الخفيفة يكتب في خط المصحف ألفًا على حكم الوقف، (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ): من المعصية أصناف الدعوة إليهن لأنهن تنصحن له مطاوعتها، (وَإِلَّا) أي: وإن لم، (تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ): أمل، (إِلَيْهِنَّ) بإجابة كلامهن، وقيل: إنهن جميعًا دعونه إلى أنفسهن، (وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ): من السفهاء الذين يعملون القبائح، (فَاسْتَجَابَ): أجاب، (لَهُ ربُّهُ): دعاءه، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ): بأن عصمه الله حتى اختار السجن، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ): لدعوات الملتجئين إليه، (العَلِيمُ): بأحوالهم، (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ): ظهر للعزيز وأصحابه، (مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ): على براءة يوسف من قدِّ القميص وكلام الطفل

(36)

وغيرهما وفاعل بدا ضمير يفسره قوله (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أى: إلى مدة يرون فيه رأيهم فإن المرأة [خدعت زوجها] (1) وحملت على سجنه ليظهر للناس أنه راودها عن نفسها. * * * (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا

_ (1) في الأصل [خدعت لزوجها] والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) * * * (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ): أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه اتهما بأنهما يريدان إهلاك الملك بالسُّم، (قَالَ أَحَدُهُمَا) أي: الشرابي (إِنِّي أَرَانِي): في المنام (أَعْصِرُ خَمْرًا) أي: عنبًا سماه باسم ما يئول إليه (وَقَالَ الآخرُ) أي: الخباز (إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا): أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ): بتعبير ما قصصنا قال بعضهم: إنهما اخترعا تلك الرؤيا لاختبار يوسف (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): في أعمالك وأقوالك أو من الذين يحسنون تعبير الرؤيا (قَالَ لاَ يأْتِيكُمَا طَعام تُرْزَقَانِهِ): في نومكما (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) التعبير في اليقظة أو معناه لا يأتيكما طعام من بيتكما تطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بقدره ولونه ووقته قبل وصوله إليكم وهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران: 49] (ذلِكُمَا): العلم (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). لا من التكهن والتنجيم (إِنِّي تَرَكْتُ) كأنه قال علمني لأني تركت (مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ

بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) لتأكيد كفرهم كرر الضمير (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ): ما صح وما استقام، (لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْء) أيُّ شيء كان (ذَلِكَ): التوحيد (مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ): على الرسل والمرسل إليهم فإنهم أرشدوهم إلى فضل الله ونبهوهم عليه (وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) ذلك الفضل، بل يعرضون عنه (يَا صَاحِبَي السِّجْنِ): يا ساكنيه دعاهما إلى الإسلام فقال: (أَأَرْبَابٌ متَفَرِّقُونَ): آلهة شتى واحد من فضة وواحد من ذهب وواحد من حديد وواحد من حجر (خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ): الذي ذل كل شيء لعز جلاله (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ): من دون الله خطاب لهما ولمن على دينهما (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) إلا أسماء خالية عن المعنى لا مسميات تحتها فإنهم سموا ما لا يستحق الإلهية آلهة ثم يعبدونها (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا): بتسميتها، (مِنْ سُلْطَانٍ): حجة (إِنِ الحُكْمُ): الأمر والنهي (إِلا لله أَمَرَ): على لسان أنبيائه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ): المستقيم الذي لا عوج فيه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

لَا يَعْلَمُونَ): فيهلكون في جهالتهم (يَا صَاحِبَي السجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) أي: الشرابي (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا): يعود منصبه إليه (وَأَمَّا الآخَرُ) أي: الخباز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) قال بعضهم: لما عبر رؤياهما قالا: ما رأينا شيئًا فقال: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ): هذا ما يئول إليه أمركما وهو لا محالة واقع صدقتم أو كذبتم وفي الحديث " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت، وأيضًا " الرؤيا لأول عابر " (وَقَالَ): يوسف (لِلَّذِي ظَنَّ): علم يوسف (أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا): أو الظان الشرابي (اذْكُرْنِي): اذكر حالي (عِنْدَ رَبِّكَ) أي: الملك كي يخلصني، (فَأَنْسَاهُ) أي: الشرابي، (الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي: ذكره لربه أو معناه أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه فاستعان بغير الله تعالى (1)، (فَلَبِثَ فِي

_ (1) في غاية البعد، والصحيح الأول.

(43)

السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) هو ما بين الثلاث إلى التسع وأكثرهم على أنه سبع سنين. * * * (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) * * * (وَقَالَ المَلِكُ): بعد مضى سبع سنين، (إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ): وسبع بقرات مهازيل، (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ): ابتلعت المهازَيل السمان والعجف غاية الهزال، (وَسَبْعَ سنبلاتٍ خُضْرٍ) قد انعقد حبها، (وَأُخَرَ) أي: وسبعًا أخر، (يَابسَاتٍ): قد استحصدت والتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي: الأشراف من العلماء والحكماء، (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ): عبروها، (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ): عالمين بتعبيرها واللام لتقوية العامل فإن معموله مقدم عليه فضعف عمله فقوى باللام أو لتضمين تعبرون معنى تنتدبون، (قَالُوا): هذه، (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ): أضغاث الأحلام تخاليطها وأباطيلها والأحلام جمع حلم وهو الرؤيا لتضمنه أشياء

مختلفة جمعوا وإن لم يكن إلا حلم واحد أو للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان، (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ) أي: ذلك الأحلام التي هي الأضغاث، (بِعَالِمِينَ) أو المراد أنهم اعترفوا بالعجز وقالوا لسنا في علم التعبير بنحارير، (وَقَالَ الذِي نجَا مِنْهُمَا): من صاحبي السجن، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ): تذكر يوسف بعد جماعة كثيرة من الزمان يعني مدة طويلة (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ): إلى من عنده علمه فأرسل إليه فجاء وقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ): الكثير الصدق، (أَفْتِنَا فِي): رؤيا، (سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ): إلى الملك وأهله، (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ): تأويلها أو فضلك ولما جرب كمال علمه كلمه كلام محترز وبناه على الرجاء لا على اليقين فربما اخترم دون الرجوع وربما لم يعلموا، (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا): على عادتكم حال، (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ): لئلا يفسد ويحفظ من السوس، (إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُون): في تلك السنين، (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): السبيع، (سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ): أصناف الأكل إلى السنين وهو لأهلهن على المجاز، (مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ): ما ادخرتم لأجلهن، (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) تحرزون للبذر والظاهر أن قوله: " تزرعون " على أصله بدليل قوله: " ثم يأتي " لا أنه خبر بمعنى الأمر

(50)

وقوله: " فما حصدتم " اعتراض لاهتمامه عليه الصلاة والسلام بشأنهم يأمرهم بما فيه صلاحهم في أثناء التأويل، (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) من الغيث أي: يمطرون، (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ): العنب والزيتون وما يعصر قال بعضهم: ويدخل فيه حلب اللبن أيضًا، أوَّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بمجدبة وأكل العجاف السمان بأكل ما جمع في الخصبة في المجدبة ثم بشرهم بما يكون بعد المجدبة بإلهام الله تعالى إياه لا من تأويل رؤياه. * * * (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) * * *

(وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ): بعد مراجعة الرسول، (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) ليخرجه، (قَالَ ارْجِعْ إِلَى ربِّكَ): إلى الملك، (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أراد أن يعلم الملك براءة ساحته ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبًا واحترامًا وهن يعلمن أيضًا براءته بإقرارها عندهن وفي الحديث " لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعى " وفيه أيضًا " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه - والله يغفر له حين سئل عن تعبير الرؤيا ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني "، (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ): حين قلن: أطع مولاتك، فيه الاستشهاد بعلم الله تعالى على براءته أو الوعيد لهن على كيدهن أو تعظيم كيدهن، (قَالَ): الملك لهن، (ما خَطْبُكُنَّ): ما شأنكن، (إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسهِ): هل وجدتن منه سوءً خاطبهن والمراد الأصلي امرأة العزيز، (قُلْنَ حَاشَ لله) تعجبًا من عفته ونزاهته، (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ

قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ): ثبت واستقر، (الحَقُّ) قيل: أقبلن كلهن عليها فقررنها، (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ): الذي فعلت من رد الرسول، (لِيَعْلَمَ): العزيز، (أَني لَمْ أَخنْهُ بِالْغَيْبِ): بظهر الغيب حال من الفاعل أي): وأنا غائب أو من المفعول أو ظرف أي: بمكان الغيب، (وَأَن الله لاَ يَهْدِي): لا ينفذ ولا يسدد، (كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) عن السلف أنه لما قال: ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل: ولا حين هممت (1) فقال ذلك، (إِنَّ النَّفْسَ): بطبعها، (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) إلا وقت رحمة ربي أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه، (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال بعضهم: قوله: " ذلك ليعلم " إلخ من كلام امرأة العزيز أي: اعترفت بما هو الواقع ليعلم زوجي أني لم أخنه وما صدر مني المحذور الأكبر وإنما راودته مراودة فامتنع ولست أبرئ نفسي فإن النفس تتمني وتشتهي ولذلك راودته: لأنها أمارة بالسوء إلا نفس من عصمه الله تعالى إنه غفور حليم وعند بعض المفسرين إن هذا القول أليق وأقرب، (وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ):

_ (1) لا يصح والذي عليه المحققون أن قوله تعالى (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) من كلام امرأة العزيز، وهو ما ذكره المصنف بعد ذلك فتأمله.

بيوسف)، (أَسْتَخْلصْهُ): أجعله خالصًا، (لنَفْسِي فَلَمَّا): أتوا به، (كَلَّمَهُ) وشاهد منه الكمالَ، (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ): ذو منزلة، (أَمِينٌ)، مؤتمن على الأشياء صادق، (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ): ولنى أمر خزائن أرض مصر، (إِنِّي حَفِيظٌ): لها، (عَليمٌ) بوجوه التصرف فيها وقيل: حفيظ عليم كاتب حاسب أو عليم بسنين الجدب وسأل العمل لما في ذلك من مصالح الناس ليتصرف لفهم في القحط على الوجه الأحوط قيل: إن العزيز توفي أو عزل فجعل الملك يوسف مكانه فزوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء وولد له منها ابنان (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ): أرض مصر، (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا): ينزل، (حَيْثُ يَشَاءُ): بعد الضيق والحبس أو يتصرف فيها كيف يشاء، (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، فما أعد الله ليوسف في الآخرة أعظم وأجل مما خوَّله في الدنيا. * * *

(58)

(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) * * * (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ)، لما ولاه ملك مصر الوزارة العدل اجتهد في العدل وتكثير الزراعات فدخلت السنون المجدبة وعم القحط حتى وصل بلاد كنعان

فجاءه إخوته ليشتروا منه الطعام، (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ): يوسف، (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُون) لم يعرفوه فإنه قد تقرر في أنفسهم هلاكه وكان مدة المفارقة أربعين سنة، (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بجَهَازِهِمْ): أصلحهم بعدتهم وأوفر حمولاتهم بما جاءوا له، (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) لما دخلوا عليه قال كالمنكر عليهم: لعلكم عيون جواسيس قالوا: معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد نبي من أنبياء الله تعالى قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية وله أخ من أمه احتبسه أبوه ليتسلى به عنه قال: ائتوني به حتى أعلم صدقكم، (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ): أتمه، (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ): المضيفين، (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي): ليس لكم عندى طعام أكيله لكم، (وَلَا تَقْرَبُونِ): لا تدخلوا بلادى وهو إما عطف على الجزاء أو نهي، (قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ): نلح في طلبه من أبيه، (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ): ما وعدناك، (وَقَالَ): يوسف، (لِفِتْيَانِهِ): لغلمانه، (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ): ثمن طعامهم، (فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا): بأنها بضاعتهم، (إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ): وفتحوا أوعيتهم، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) إذا عرفوا ذلك فإنهم لا يستحلون إمساكها أو إذا عرفوا كرامتهم علينا وبرنا عليهم أو فعل ذلك حذرًا من ألا يكون عندهم بضاعة أخرى

فلا يمكن لهم الرجوع أو رأى لؤم أخذ الثمن من أبيه وإخوته مع حاجتهم، (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ): بعد ذلك إن لم نذهب بأخينا، (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ): نحن وهو الطعام، ونرفع المانع من الكيل، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ) فإنكم ذكرتم في يوسف مثل ما ذكرتم هنا بعينه فهل يكون أماني هنا إلا كأماني هنالك أي كما لا يحصل الأمان هناك لا يحصل هنا، (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا) فأعتمد عليه ونصبه على التمييز، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): فالله أسأل أن يرحمني بحفظه، (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) أي: لا نطلب أو أي شيء نطلب وراء ذلك من الإحسان قيل: لا نبغي منك شيئًا في ثمن الكيل وقيل: هو من البغي بمعنى الكذب أي: لا نبغي في القول ولا نتزايد فيه، (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) استئناف موضح لما نبغي، (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) مار أهله حمل إليهم الطعام من بلد آخر عطف على محذوف أي: ردت إلينا فنستظهر بها ونمير ويحتمل عطفه على ما [نبغي] إذا كانت نافية، (وَنَحْفَظُ أَخَانَا): عن المكاره، (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ): حمل بعير من الطعام لأن يوسف إنما يعطي كل شخص وقرًا، (ذَلِكَ): الذي جئنا به، (كَيْلٌ): مكيل، (يَسِيرٌ): قليل لا يكفينا أو ذلك أي: كيل بعير شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك، (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ)، تعطوني، (مَوْثِقًا مِنَ اللهِ): عهدًا مؤكدًا بذكر الله تعالى، (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم إذ معناه حتى تحلفوا لَتَأْتُنَّنِي، (إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ): إلا أن تغلبوا فلا تقدروا على إتيانه أو إلا أن تهلكو جميعًا أي: لتأتنني على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ): يعقوب، (اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ): من العهد، (وَكِيلٌ): مطلع ويمكن أن يكون معناه الله تعالى وكيل على حفظ ذلك العهد نَكِلُ أمره إليه، (وَقَالَ يَا

(69)

بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) لأن لا يصيبكم العين، (وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ)، أي: لو أراد الله بكم سوءًا لا يدفع عنكم ما قلت لكم من التفرق وهو مصِيبكم لا محالة، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أى: من أبواب متفرقة في البلد، (مَا كَانَ يُغْنِي): يدفع دخولهم متفرقين، (عَنْهُم مَنَ اللهِ): من قضاءه عليهم، (مِن شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) استثناء منقطع أي: لكن حاجة أي: شفقة في نفسه قضاها أي: أظهرها ووصى بما، أو معناه ما دفع عنهم بسبب دخولهم كذلك إلا إصابة العين وهي الحاجة التي في نفس يعقوب، (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ): لذو يقين أو لذو عمل، (لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أن يعقوب لذو علم فإن المشركين لا يعلمون ما ألهم الله أولياءه. * * * (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)

قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) * * * (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) من أبويه في منزله وأجلسه معه في مائدته واسمه بنيامين (قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ): ولا تحزن، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): في حقنا فيما مضى، (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ): أصلحهم بعدتهم، (جَعَلَ السِّقَايَةَ): المشربة، (فِي رَحْلِ أَخِيهِ): من أبويه وهي من

فضة أو من ذهب أو من زبرجد وكان يشرب فيها ويكيل بها للناس من عزة الطعام (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ): نادى مناد (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي: القافلة (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) قال بعضهم: إن كان النداء بأمر يوسف فعلى تأويل إنهم سرقوا يوسف من أبيه - عليه السلام - أو النداء برضى أخيه، (قَالوا وَأَقْبَلُوا عَلَيهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ) أيُّ شيء ضاع عنكم (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام (وَأَنَا بِهِ): بحمل من الطعام (زَعِيمٌ): كفيل قاله المؤذن (قَالُوا تَاللهِ) قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم ثم استشهدوا بعلمهم على براءة ساحتهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرتى مجيئهم فقالوا (لَقَدْ عَلِمتم مَّا جئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ): لا نوصف بها قط، (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ) أي: السارق، (إِن كنتمْ كَاذِبِينَ): في ادعاء البراءة، (قَالُوا جَزَاؤُهُ) أي: جزاء سرقته، (مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي: أخذ من وجد واسترقاقه، (فهُوَ جَزَاؤهُ) تقرير للحكم وقيل: جزاء لمن على أنها شرطية والجملة الشرط والجزاء خبر جزاؤه على إقامتة الظاهر مقام الضمير وأصله فهو هو وضمير الثاني إلى جزاؤه (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ): بالسرقة وشريعة إبراهيم أن السارق يدفع إلى المسروق منه، (فَبَدَأَ): المؤذن أو يوسف

بعد ما ردوا إليه، (بِأَوْعِيَتِهِمْ) فتشها أولاً، (قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ): من أبويه، (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ): مثل ذلك الكيد، (كِدْنَا لِيُوسُفَ): بأن علمناه إياه، (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) فإن دين ملك مصر الضرب والتغريم في السارق دون الاسترقاق، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ)، أي: لم يكن يتيسر له أخذه في دين الملك بحال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله تعالى بأن أجرى على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق فوجد السبيل إلى ذلك وجاز أن يكون منقطعًا (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ): بالعلم كما رفعنا درجة يوسف (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ): حتى ينتهى العلم إلى الله تعالى، (قَالوا) أي: إخوته (إِن يَسْرِقْ): بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) أي: يوسف (مِن قَبْلُ) يعني لا عجب فإن هذا طريقتهم ونحن براء منها وإما وصفهم إياه بالسرقة فإنه كان لجده أبى أمه صنم يعبده فأخذه سرًّا وكسره أو كانت عمته تحضنه بعد وفاة أمه فلما ترعرع أراد يعقوب أن يكون معه ويأخذه من عمته وكانت لا تطيق فراقه فعمدت إلى منطقة هي لها ورثتها من إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه ثم قالت: فقدت المنطقة اكشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف وهو صغير فقالت: صار يوسف سلمًا لي فأمسكته، فإن السارق يُسْتَرَقُّ لمن سُرق منه كما مر وكان يأخذ من البيت للسائل أشياء فيعطيه ففطن به إخوته،

(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) ضمير أسرها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) يعني قال في نفسه: أنتم شر منزلة في السرقة: لأن خيانتكم حقيقة وأنث الضمير لأن المراد منه جملة وهي بدل من أسرها وهو المنقول عن ابن عباس - رضى الله عنهما - وقيل: الضمير للإجابة أو للمقالة أو لنسبة السرقة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ): في شأني من السرقة فإنه كذب وهذا أيضًا من جملة ما أسر يوسف (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ): بدله فإن أباه مستأنس به على أخيه الهالك (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): إلى الخلق فأحسن إلينا (قَالَ مَعَاذَ اللهِ): أعوذ بالله معاذًا من (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ): في فتواكم لو أخذنا غير السارق. * * *

(80)

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) * * *

(فَلَما اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ): من يوسف وإجابته إياهم وباب الاستفعال للمبالغة (خَلَصُوا): انفردوا واعتزلوا، (نَجِيًّا): ذوي نجوى أو فوجا نجيًّا وكان تناجيهم في تدابير أمرهم، (قَالَ كَبِيرُهُمْ): في السن روبيل أو في الرأي وهو يهوذا أو في الرياسة وهو شمعون، (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللهِ): عهدًا وثيقًا بذكر الله، (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ما صلة أى: من قبل هذا قصرتم في شأنه أو مصدرية عطف على مفعول تعلموا أو موصولة أي: لم تعلموا ما قدمتموه فهو من الفرط وهو التقدم، (فَلَنْ أَبْرَحَ): أفارق (الأَرْضَ): أرض مصر (حَتَّى يَأذَنَ لِي أَبِي): في الرجوع (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي): بخلاص أخي أو بخروجي أو بالمقاتلة (وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ) فحكمه الحق، (ارْجِعُوا إِلَى أَبيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ): على حسب الظاهر، (وَمَا شَهِدنا): عليه، (إِلا بمَا عَلِمْنَا): بأن رأينا إخراج الصاع من متاعه، (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ): فلا ندري أنه سرق أو دست الصاع في رحله أو ما كنا حين عهدنا أن نأتي به للعواقب عالمين فلم ندر أنه

سيسرق (وَاسْأَلِ القَرْيَةَ)، أي: أرسل مصر واسألهم عن القصة، (الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ)، أي: القافلة، (الَّتِي أَقْبَلْنَا): توجهنا (فِيهَا وَإِنَّا): والله (لَصَادقُونَ قَالَ) أي: لما رجعوا وقالوا ليعقوب ما قالوا قال: (بَلْ سَوَّلَتْ): زَينت وسهلت (لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا): عظيمًا قررتموه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ): أجمل، (عَسَى اللهُ أَن يَأتِيَنِي بِهِمْ): بيوسف وأخيه وأخيهما الذي توقف بمصر (جَمِيعًا): مجتمعين (إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ): بحالي (الحَكِيمُ): في أفعاله (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ): أعرض عنهم كراهة (وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ): يا شدة حزني إليه تعالي فهذا أوانك والألف عوض عن ياء المتكلم، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ): عمى من كثرة العبرة التي لا يتمالك فيها نفسه، (فَهُوَ كَظِيمٌ): مملوء من الغيظ على أولاده لا يظهره (قَالُوا تَاللهِ) لا (تَفتَؤُا) بحذف حرف النفي فإنه لا يلتبس بالإثبات لأنه لو كان إثباتًا لابد في جوابه من اللام والنون

المؤكدة أي: لا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا): مشفيا على الهلاك أو ذابيًا من الغم أو من المرض مصدر وضع موضع الاسم (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ): الميتين، (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي) هو أصعب هَمٍّ لا يصبر صاحبه على كتمانه فيبثه وينشره إلى الناس، (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ): لا إليكم ولا إلى غيركم فخلوني وشكايني، (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ): فإني أعلم أن رؤيا يوسف صدق وإني سوف أسجد له أو أخبره ملك الموت بحياة يوسف (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا): تفحصوا (مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا): لا تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللهِ): من فرجه وتنفيسه (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ): فإن المؤمن لا يزال يطمع في رحمة الله تعالى (فَلَمَّا دَخَلُوا): بعدما رجعوا إلى مصر (عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ): شدة الجوع (وَجِئنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ) رديئة أو قليلة كانت دراهم رديئة أو الغرايئر والحبائل أو الصوف والأقط أو حبة الخضراء أو الأدم والنعال، (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ): أتمه لنا، (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا): برد أخينا أو بقبض هذه البضاعة المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها، (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ): أحسن الجزاء، (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ): قُبْحَ (مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ): فرقتم بينهما وذللتموه حتى لا يستطيع أن يتكلم

بينكم بعد فقد يوسف إلا بذلة (إِذْ أَنتمْ جَاهلُونَ): فإن فعلكم فعل الجهال (قَالُوا أَئِنَّكَ) استفهام تقرير (لأَنتَ يُوسُفُ) وضع التاج وكان فوق جبهته مثل شامة بيضاء وكانت لسارة ويعقوب مثلها فعرفوه أو هو من وراء ستر فرفع الحجاب فعرفوه، (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي): من الأبوين ذكره لتعريف نفسه ولإدخاله في قوله: (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا): بالوصال (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ): الله، (وَيَصْبِرْ): على المصائب (فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي: أجره لإحسانه بالجمع بين الصبر والتقوى (قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ): اختارك، (اللهُ عَلَيْنَا): بالعلم والحسن (وَإِنْ كُنَّا): إن شأننا إنا كنا (لَخَاطِئِينَ): مذنبين (قَالَ لاَ تَثْرِيبَ): لا تعيير ولا مؤاخذة (عَلَيْكُمُ اليَوْمَ) متعلق بمتعلق الخبر أي لا مؤاخذة في هذا اليوم فكيف بما بعده من الأيام أو المراد من اليوم الدنيا أي: لا مؤاخذة في الدنيا وأما في الآخرة فبِيَدِ الله ولذلك قال، (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) دعا لهم بالمغفرة، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): فإنه يغفر الصغائر والكبار (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا) أي: القميص الذي كان عليه، (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي

(94)

يَأْتِ بَصِيرًا): يصير بصيرًا ذا بصر قالوا: القميص من نسج الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي (1)، (وَأْتُونِي): أنتم وأبي، (بِأَهْلِكُمْ): نسائكم وذراريكم، (أَجْمَعِينَ). * * * (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ

_ (1) لا يخفي ما فيه بعد وضعف.

وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) * * * (وَلَمَّا فَصَلَتِ): خرجتَ، (العِيرُ): من مصر (قَالَ أَبُوهُمْ): لمن حضره (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) هاجت ريح فجاءت برائحة قميصه من مسيرة ثمانية أيام (لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ) أي: لولا تسفهوني وتنسبوني إلى نقصان عقل للهرم لصدقتموني وجواب لولا محذوف (قَالُوا): الحاضرون، (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ): لفي خطئك القديم من حبِّ يوسف (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ) أى: البريد قال البصريون: تقديره لما ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال بعضهم: البشير يهوذا الذي جاء بقميصه ملطخًا بدم كذب (أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ):

عاد (بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ): بتعليمه (مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ): يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي): أخَّر الدعاء إلى السحر أو إلى ليلة الجمعة أو إلى أن يستحل لهم من يوسف، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ): في موضع خارج عن البلد حين استقبلهم بوسف وأهل مصر (آوَى): ضم (إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ): أباه وخالته فإن أمَّه ماتت وعن بعض السلف أن أمه في حياة، (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ): من القحط والمكاره فالاستثناء متعلق بالدخول المكيف بالأمن، (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ): السرير (وَخَرُّوا لَهُ سُجًدًا): أبواه وإخوته وكان سجود التعظيم شائعًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام فحرم في هذه الملة الغراء وجعل السجود مختصًّا بجناب الرب تعالى شأنه قال بعضهم: المراد من السجود الانحناء، وعن بعضهم معناه: خروا لله تعالى سجدًا شكرًا له والأول أصح، (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قبْلُ): الشمس والقمر أبواي وأحد عشر كوكبًا إخوتي (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا): صدقًا وكان بين رؤياه وتأويله أربعون سنة أو ثمانون سنة أو خمس وثلاثون سنة أو ثماني

عشرة سنة والله تعالى أعلم، (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ): ولم يذكر الْجُبَّ لأنه وعد مع إخوته لا تثريب عليكم بعد هذا، وأيضًا عد لهم نعمًا غير معلومة لهم وإخراجه من الْجُبِّ معلوم لإخوته (وَجَاءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ): البادية فإنهم كانوا أهل بادية ومواشي (مِنْ بَعْدِ أَن نَزَغَ): أفسد (الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ): تدبيره (لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ): بالأمور (الحَكِيمُ): الذي لا يفعل إلا على وفق الحكمة (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي: بعضه وهو ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ): بعض تعبير الرؤيا (فَاطِرَ): مبدع (السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، منصوب بالمنادى (أَنتَ وَلِيِّي): ناصري ومتولي أمري (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي): اقبضني (مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ): من آبائى وغيرهم سأل الوفاة على الإسلام واللحاق

(105)

بالصالحين إذا حان أجله وانقضى عمره وكلام بعض السلف وهو أنه ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام يشعر بأنه سأل منجزًا وهو جائز في ملتهم ويحتمل أن مراده أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام كما أن نوحًا عليه السلام أول من قال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) الآية [نوح: 28]، وقالوا: أقام يعقوب عند يوسف أربعًا وعشرين سنة ثم مات وحمل جسده الشريف عند أبيه إسحاق عليه السلام بالشام، (ذَلِكَ) أي: نبأ يوسف (مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نوحِيهِ إِلَيْكَ): يا محمد (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ): لدى إخوة يوسف (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ): عزموا على أمرهم (وَهُمْ يَمْكرونَ). بيوسف وهذا كالدليل على أنه بالوحي لأنه لم تكن عندهم وما كان أحد من قومك يعلمه فيعلمك (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ): على إيمانهم (بِمُؤْمِنِينَ): لعنادهم وعدم إرادة الله تعالى قال بعضهم: نزلت حين سألت قريش واليهود عن قصة يوسف فلما أخبرهم رجاء إيمانهم، (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ): على تبليغ الوحي (مِنْ أَجْرٍ): من جعل، (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ): عظة، (لِلْعَالَمِينَ): عامة لا تختص بهم. * * * (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) * * * (وَكَأَيِّنْ) أي: وكم، (مِنْ آيَةٍ): دلائل دالة على وجوده وصفاته الحسني (فِي السَّمَاوَات وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا): على الآيات يشاهدونها (وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ): لا يتفكرون فيها (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ): في الإقرار بخالقيته (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ): لعبادتهم غيره إنهم إذا قيل لهم: من خلق السماوات

والأرض؟ قالوا: الله وهم يشركون به، وعن الحسن البصري أن هذا في المنافقين قال بعض السلف: ثمة شرك آخر لابد أن تشعره وهو الرياء (أَفَأَمِنُوا أَن تَأتِيَهُمْ غَاشيَةٌ منْ عَذَابِ اللهِ): عقوبة تغشاهم وتشملهم (أَوْ تَأتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغتَةً): فجأَة مفعول مطلق (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ): فلا يستعدون لها، (قُلْ هَذِهِ) أي: الدعوة إلى التوحيد (سَبِيلِي): طريقتي (أَدْعُو إِلَى اللهِ): بيان وتفسير للسبيل (عَلَى بَصِيرَةٍ): معرفة وحجة (أَنَا): تأكيد لضمير أدعو، (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أى: من آمن بى أيضًا يدعوا إلى الله تعالى، قال بعضهم: تم الكلام عند قوله: (إلى الله) و (على بصيرة) خبر (أنا) وما عطف عليه (وَسُبْحَانَ اللهِ) أي: قل أنزهه تنزيهًا عن الشريك (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ): يا محمد (إِلَّا رِجَالًا): لا نساء ولا ملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ): كما أوحينا إليك (مِّنْ أَهْلِ القُرَى) فإن أهلها أعقل من أهل البادية، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): من الأمم المكذبة فيعتبروا (وَلَدَارُ): الحياة (الآخِرَةِ خَيرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا): الشرك، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ):

يستعملون عقولهم فيؤمنوا (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) متعلق بما دل عليه الكلام كأنه قيل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا فتراخى نصرهم وتطاول عهدهم في الكفار حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، أو استيأسوا من نصرهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) فيه قراءتان التخفيف والتشديد وعلى الأول: الضمائر كلها لمن أُرسل الرسل إليهم فإن الرسل دال عليهم وحاصله أنهم حسبوا كذب الرسل في الوعيد والوعد والضمائر للرسل يعني قد خطر بخواطرهم خلف الوعد من الله تعالى في نصرهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما لأنَّهُم كانوا بشرًا وتلا: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ) [البقرة: 214]، وقيل معناه: ظنوا كذب القوم بوعد الإيمان وخلف وعدهم وعلى الثاني، الضمائر للرسل والظن بمعنى اليقين وهو شائع أي: أيقنوا تكذيب القوم لهم أو بمعناه أي: ظنوا أنَّهم يكذبهم من آمن بهم أيضًا يرتد عن دينهم لاستبطاء النصر (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نشَاء) وهم أتباع الأنبياء، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا) أي: عذابنا (عَنِ القَوْمِ الُمجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ): قصص المرسلين مع قومهم أو قصص يوسف وإخوته (عِبْرَةٌ): عظة (لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ): القرآن، (حَدِيثًا يُفْتَرَى): يختلق، (وَلَكِن) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ): من الكتب السماوية (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ): يحتاج إليه العباد من أمر الدين (وَهُدًى): من الضلال (وَرَحْمَةً): ينال بها خير الدارين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): يصدقونه. اللهم اجعلنا منهم. * * *

سورة الرعد

سورة الرعد مكية أو مدنية وهي ثلاث وأربعون آية وست ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) * * *

(المر) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنا الله أعلم وأرى (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) أي: تلك الآيات التي في هذه السورة آيات القرآن، (وَالّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ): القرآن كله، (الحَقُّ) لا هذه السورة وحدها وهو خبر والذي (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) لما فيهم من العناد، (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي: أساطين جمع عماد أو عمود (تَرَوْنَهَا)، صفة لـ عمد، وعن بعض السلف أن لها عمدًا ولكن لا ترى، أو استئناف للاستشهاد لرؤيتهم للسماوات كذلك فضمير المؤنث حينئذ للسماوات (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)،

قال السلف: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وقيل: علا عليه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما لما أراد منهما (كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مسَمًّى) أي: لدرجاتهما

ومنازلهما ينتهيان إليها لا يجاوزانها، أو إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا (يدَبِّرُ الأَمْرَ): جميع أمور ملكوته (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ): يوضحها، وينزلها مفصلة (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ): لكي تتفكروا فيها فتعلموا كمال قدرته بحيث لا يعجز عن الإعادة والجزاء (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ): بسطها، (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت (وَأَنهَارًا): ضمها مع الجبال فإنها تخرج من الجبال أكثرها (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، ظرف لقوله: (جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي: صنفين أسود وأبيض، أكبر وأصغر، حلوًا وحامضًا قيل: أول ما خلق العالم خلق من كل نوع من الأشجار اثنين فقط كما خلق الإنسان من زوجين (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ): يلبسه مكانه فيصير مظلمًا بعدما كان مضيئًا، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ): فيما فيها من الصنائع والبدائع، (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ متَجَاوِرَاتٌ): بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة صلبة إلى رخوة ومن غير ذلك وهي دالة على قدرته واختياره (وَجَنَّاتٌ): بساتين، (مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ) هي: نخلة لها رأسان وأصلهما واحد (وَغَيْرُ صِنْوَان): مختلفة الأصول (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ): في الثمر طعمًا وشكلًا، ورائحة وقدرًا مع أنها تستمد من طبيعة واحدة وهي الماء، بل وبعضها من أصل واحد فسبحانه من قادر ومختار (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): يستعملون عقولهم، (وَإِن تَعْجَبْ):

يا محمد من إنكارهم النشأة الآخرة، (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي: فعجبت في موضعه حقيق بأن تتعجب، أو أن تعجب من تكذيبهم إياك، بعد ما حكموا بصدقك فاعجب

من قولهم أو إن تعجب من شيء فاعجب من قولهم: (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا) مرفوع بأنه بدل من قولهم أو منصوب به وإذ نصب بما دل عليه قوله: (أَئنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ): هم الكاملون في الكفر (وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ): يوم القيامة يسحبون بها في النار، (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ): بالعقوبة، (قَبْلَ الحَسَنَةِ) أي: العافية سألوا نزول العذاب استهزاء أو يطلبون النقمة لا النعمة كقولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (وَقَدْ خَلَتْ) مضت (مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ): عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) أي: لذو إمهال وستر (عَلَى ظُلْمِهِمْ): على كفرهم ومعاصيهم، وإن فسرت المغفرة بالعفو فعلى ظلمهم حال ولابد أن يفسر الظلم بمعاصي غير الكفر، ولا يناسب المقام فإنه إن

(8)

فسرت بما يعمه فلا يخفى أن العفو من غير توبة فلا يصح بمذهب، وإن كان بعد التوبة فلا يلائم، لأنَّهُم بعد التوبة ليسوا على الظلم (وَإِنّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ): لمن شاء (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا): هلا، (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، لم يعتدوا بالآيات الباهرات واقترحوا مثل ما أوتي موسى وعيسى، (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ): لا عليك الإتيان بما اقترحوا كجعل الصفا ذهبًا (وَلِكُل قَوْمٍ هَادٍ): نبي مخصوص يدعوهم إلى الهدى، أو معناه أنت منذر ولكل قوم هاد يهديهم إذا أراد، وهو الله، وعن بعض السلف الهادي علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - وأيضًا في ذلك حديث؛ لكن قيل فيه نكارة شديدة. * * * (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) * * *

(اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى) من ذكر وأنثى سوى الخلق أو ناقصه، واحد وأكثر (وَمَا تَغِيضُ): تنقص، (الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ): في مدة الحمل أو عدد الولد أو المراد نقصان غذاء الولد وازدياده وهو دم الحيض وغاض وازداد جاءا لازمين ومتعديين، فإن كانا لازمين تعين أن يكون ما مصدرية (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ): بقدر معلوم وحد لا يجاوزه، وعنده ظرف للمقدار، (عَالِمُ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ)، ما غاب عن الخلق وحضر (الكَبِيرُ): العظيم القدر، (الْمُتَعَالِ): المستعلي على كل شيء أو متعال عما لا يليق بكماله (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) كما يحيط علمه بعلانيته يحيط بسره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ): طالب للخفاء، (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ): بارز به يراه كل أحد، وهو إما عطف على من أو على مستخف على أن من في معنى الاثنين كأنه قال: سواء منكم اثنان مستخف وسارب، (له) الضمير لمن، أي: لمن أسر وجهر واستخفى وسرب (مُعَقِّبَاتٌ): ملائكة يعقب بعضهم بعضًا في الليل والنهار (مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ): ملكان من قدامه وورائه (يَحْفَظُونهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ): من بأسه وبلائه، أو من أجل أمر الله وبإذنه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وعن بعض السلف المعقبات الحرس حول السلطان يحفظونه بزعمهم من أمر الله قيل: مراده بهذا أن حرس الملائكة تشبه حرس هؤلاء لملوكهم (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ): من النعمة أو النقمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ): من

الأحوال الجميلة أو القبيحة وقد ورد " قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجال ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي ما يحبون من رحمتي " (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ): لا راد له (وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ): يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء (هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) نصبهما بالمفعول له بتقدير إرادة خوف وطمع، أو التأويل بالإخافة والإطماع، وعن بعض السلف الخوف للمسافر والطمع للمقيم (وَيُنْشِئُ): يخلق، (السَّحَابَ الثِّقَالَ): من كثرة الماء، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) هو اسم لهذا الصوت أو لملك موكل بالسحاب (بِحَمْدِهِ): متلبسًا بحمده (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ): من خوف الله تعالى، (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا): فيهلك، (مَن يَشَاءُ وَهُمْ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ) يكذبون آياته ورسله، والواو للحال أو للعطف نزلت في كافر قال: مم ربك؟ من ذهب أو فضة أو لؤلؤ، وهو يجادل إذ أخذته صاعقة فأحرقته (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ): الحول أو القوة أو الأخذ أو المحال المماحلة وهي شدة

المماكرة والمكائدة (له): لله (دَعْوَةُ الحَقِّ): دعوة الحق التوحيد، وقيل: معناه العبادة والدعاء الحق لا الباطل، كان له لا لغيره (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ): الأصنام، (مِن

دُونِهِ): من دون الله - تعالى، أو المراد من الذين الأصنام، أي: الأصنام الذين يدعونهم من دون الله (لاَ يَسْتَجِيبُونَ) أي: الأصنام (لَهُمْ): لعبادهم، (بِشَيْء إِلَّا كَبَاسِطِ): إلا استجابة كاستجابة من بسط (كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ): يطلب منه أن يبلغ، (فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) لأن الماء جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر أن يصل إلى فيه كالأصنام وعن بعض السلف كمثل الذي يناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا، فكيف يبلغ فاه؟! وعن بعض معناه مثلهم كمثل من بسط كفيه ناشرًا أصابعه والماء لا يبقى في الكف إذا نشرت الأصابع (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ): فى ضياع لا منفعة فيه أو ما دعاؤهم ربّهم إلا في ضلال؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى (وَلله يَسْجُدُ): ينقاد ويخضع (مَن فِي السَّمَاوَاتِ): الملائكة، (وَالأَرْضِ): الثقلين (طَوْعًا وَكَرْهًا) نصبهما بالمفعول له أو بالحال قيل: المراد من السجدة وضع الجبهة وهو من المؤمنين بالطوع ومن الكفرة وقت الضرورة قيل: اللفظ عام والمراد منه الخصوص (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ): في هذين الوقتين يسجد ظلال الكافر والمؤمن بكيفية لا تُعرف، وهل يبعد أن يخلق الله - تعالى - في الظلال عقولاً يسجد لخالقه كما خلق في الجبال وتجلى له والمأوَّلة يأولونها إلى تصريفه إياها بالمد والتقليص فقالوا: تخصيص الوقتين لأن المد والتقليص فيهما أظهر والأظهر أن بالغدو ظرف ليسجد والتخصيص لأنهما أشرف أوقات العبادة أو المراد بهما الدوام (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) أجاب عنهم فإنهم مضطرون إلى هذا

الجواب (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) ألزمهم بأنكم [تتخذون] الأصنام ربَّا مع أنكم تُسلِّمون أن الله - تعالى - رب السمماوات والأرض (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا): لا يقدرون على أن ينفعوا أنفسهم ويدفعوا عنها ضرًّا، فكيف يملكون لكم؟! (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ): فلا يستوي المؤمن والكافر، وقيل المراد: هل يستوى الإله الغافل عنكم والإله المطلع على أحوالكم؟، (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) فلا يستوي الكفر والإيمان، (أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكَاءَ): بل أجعلوا والهمزة للإنكار، (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة لشركاء، (فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ): خلق الله وخلق الشركاء، (عَلَيْهِمْ) أي: ما اتخذوا شركاء خالقين حتى يتشابه عليهم الأمر، فيقولوا: هؤلاء خالقون كما أن الله - تعالى - خالق فاستحقوا العبادة أيضًا، بل اتخذوا شركاء من أعجز الخلق، (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ): وحده لا شريك له فلا تشركوا في عبادته غيره، (وَهُوَ الْوَاحِدُ): بالألوهية، (الْقَهَّارُ): الغالب، (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ) جمع واد، وهو موضع يسيل فيه الماء، فنسبة السيل مجاز للمبالغة، (بِقَدَرِهَا) أي: أخذ كل واد بحسبه، فالكبير يسع

الكثير، والصغير يسع القليل، قيل: بمقدارها الذي علم الله أنه نافع، (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا) أي: الزبد الذي يظهر على وجه الماء من غليانه، (رَابِيًا): مرتفعًا على وجه السيل، (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) أي: جواهر الأَرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، (ابْتِغَاءَ): طلب، (حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ): كالأواني وآلات الحرث والحرب، (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي: مما توقدون عليه زبد مثل زبد الماء ومن للابتداء أو للتبعيض، (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) أي: مثلهما، فالحق كالماء الذي ينتفع به الناس بقدر وسع أنهارهم وأوديتهم، ويمكث في الأرض وكالجواهر الأرضية المنتفعة بما في صواغ الحلي والأمتعة عنها ويدوم نفعها والباطل كالزبد الذي ليس له نفع ويزول بسرعة وإن علا بعض الأحيان على الماء الصافي وعلى الجواهر حين أذيبت، وعن بعض السلف أراد من الماء القرآن، ومن الأودية القلوب احتملت القلوب منه على قدر يقينها وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله، وقالوا أيضًا: العمل السيئ يضمحل عن أهله كالزبد لا نفع له ولا يبقى وأما من عمل بالحق كان له ويبقى كما يبقى الماء الصافي والجواهر الخالصة، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أي: يرمى به السيل منصوب على الحال، (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ): كالماء الصافي وخلاصة الفلزات، (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وبه ينتفع

(19)

الخلق، (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ): للإيضاح والتبيين، (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ) وهم المؤمنون، (الْحُسْنَى): المثوبة الحسني وهي الجنة مبتدأ، والذين استجابوا خبره، (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة مبتدأ وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) خبره، أي: لو كان لهم جميع الدنيا ومثله في دار الآخرة لافتدوا به للتخلص من عذابه، قيل: ضرب المثل لبيان الفريقين، فقوله: " للذين " متعلق بـ يضرب، والحسني صفة مصدر، أي: استجابوا الاستجابة الحسني، وقوله: " لو أنَّ لهم " إلخ ... كلام مبتدأ لبيان مآل الفريق الآخر، (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ): المناقشة فيه وعدم غفر شيء من ذنبه، (وَمَأْوَاهُمْ): مرجعهم، (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) جهنم، أي: المستقر. * * * (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) * * * (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ): فيؤمن به، (كَمَنْ هُوَ أَعْمَى): القلب لا يعلم فلا يؤمن، والهمزة لإنكار تشابهما، (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ): العقول السليمة، (الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ): بما أمرهم في كتابه، أو بالعهد الذي أخذ منهم حين أخرجهم من صلب آدم، (وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ): ذلك الميثاق أو مطلق الميثاق، (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ أَن يُوصَلَ): من صلة الرحم والإيمان بجميع الرسل ومراعاة الحقوق، (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا): على أمر الله تعالى أو على المصائب، (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)، طلب مرضاته، (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ): بحدودها وبركوعها وسجودها على الوجه

الشرعي، (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يؤدون الزكاة أي: من يجب عليه، (سِرًّا وَعَلَانِيَةً): لم يمنعهم عن ذلك حال من الأحوال في الليل والنهار وفسر بعضهم بوجه يشمل صدقة التطوع وهو الأولى، (وَيَدْرَءُونَ): يدفعون، (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي: بالصالح من العمل السيئ منه، أو يجازون الإساءة بالإحسان، إذا أذاهم أحد قابلوه باللطف، (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ): عاقبة الدنيا وهي الجنة؛ لأنها التي ينبغي أن تكون عاقبة أهلها ومرجعهم، (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار، والعدن الإقامة، أي: جنات يقيمون فيها، أو في الجنة قصر يقال له عدن له خمسة آلاف باب، أو مدينة من الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم بعد، والجنات حولها، (يَدْخُلُونَهَا) صفة جنات عدن، (وَمَن صَلَحَ) عطف على فاعل يدخلون وجاز للفصل بالضمير، (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذريَّاتِهِمْ) يعني يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغهم كرامة لهم، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ): من أبواب منازلهم للتهنئة قائلين (سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرتمْ) متعلق بما تعلق عليه عليكم أو تقدير هذه بما صبرتم والباء

(27)

للسببية أو البدلية، (فنعْمَ عُقْبَى الدَّارِ): جنة العدن، (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ): بعد ما أوثقوه وأقروا وقبلوا وهذا قسيم الأولين، (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ): بالكفر والمعاصي، (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي: سوء عاقبة الدنيا وهو جهنم، (اللهُ يَبْسُطُ): يوسع، (الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيقه، (وَفَرِحُوا) أي: مشركو مكة، (بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا): فرح بطر وأشر، (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا في): جنب، (الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ): نزر قليل مثل ما يستمتع به الراكب كتميرات. * * * (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) * * *

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كما قالوا: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء: 5]، حتى نعلم حقيقتها فنؤمن بها، (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) كما أضلكم بأن طلبتم الآية بعد تلك الآيات البينات، (ويَهْدِي إِلَيْهِ): يرشد إلى دينه (مَنْ أَنَابَ): من أقبل إليه ورجع عن العناد وحاصل الجواب أن الله أنزل آيات بينات دالة على صدقه بأوضح وجه لكن الله تعالى هو المضل والهادي وقد أضلكم الله تعالى فلا تهتدون إلى تلك الآيات، بل وإن أنزلت كل آية ما اهتديتم بها، (الَّذِينَ آمَنوا)، بدل من " مَنْ "، (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكرِ اللهِ): بالقرآن فلا يشكون فيه أو تطيب وتسكن قلوبهم عند ذكره أُنسًا به، (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ): تسكن إليه ويزول عنها القلق، وعن ابن عباس هذا في الحلف إذا حلف المسلم في شيء يشك أخوه المسلم فيه اطمئن قلبه، (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مبتدأ، (طُوبَى لَهُمْ) خبره وهو مصدر لطاب كبشرى قلبت ياؤه واوًا [لضمة ما قبلها] (1)، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أي: فرح وقرة عين، أو اسم الجنة بلغة الحبشة، أو شجرة في الجنة، وذكروا في وصفها ما يطول الكتاب بذكره، (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي: حسن النقلب، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن، (أَرْسَلْناكً فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ): مضت، (مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ

_ (1) في الأصل [والضمة ما قبلها] والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

الذي أوحينا إليك) أي: القرآن، (وهم) الواو للحال، (يكفرون بالرحمن): بالبليغ الرحمة، لا يشكرونه، نزلت في قريش حين قيل لهم: " اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن " [الفرقان: 60]، أو في أبي جهل حين قال: إن محمدًا يدعو إلهين الله وإلهًا آخر يسمى الرحمن، (قل هو) أي الرحمن (ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب): مرجعى، (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) عن مقارها وزعزعت عن مضاجعها، (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ): حتى تتصدع وتزايل قطعًا أو شققت فجعلت أنهارًا وعيونًا، (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)، فتسمع وتجيب وجواب لو محذوف، أي: لكان هذا القرآن ومع هذا هؤلاء المشركون كافرون به، وقال بعضهم: تقديره لما آمنوا به، فقد نقل في سبب نزوله أنَّهم قالوا: يا محمد لو سيرت لنا جبال مكة حتى يتسع أو قطعت بنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان لعيسى، وقيل: جواب لو ما يدل عليه وهم يكفرون بالرحمن، وقوله (قل هو ربي) بينهما اعتراض، (بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعًا) هو إضراب عن معنى النفي الذي تضمنه لو أي: بل لله القدرة على كل شيء، لو يشأ إيمانهم لآمنوا به وإذا لم يشأ لا ينفعهم إتيان ما اقترحوا من الآيات، (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا): عن إيمانهم

(32)

ولم ينقطع رجاؤهم عنه مع ما عاينوا من لجاجهم، (أن لو يشاء الله) متعلق بمحذوف، أي: علمًا منهم أن لو يشاء الله - تعالى، (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) وقيل: متعلق بـ آمنوا، وفسر أكثر السلف أفلم ييأس بـ أفلم يعلم، فقيل: هو بمعنى العلم في لغة النخع، أو هوازن، وقيل فسروه به؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين أفلم يتبين الذين آمنوا، قيل: نزلت حين أراد المسلمون أن تظهر آية مما اقترحوا، ليجتمعوا على الإيمان، (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا): من خبائث أعمالهم، (قارعة): داهية تفزعهم وتقلقهم، (أو تحل قريبًا من دارهم) أو تصيب القارعة مَن حولهم، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى) الآية [الأحقاف: 27]، (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ): الموت أو القيامة وعن بعض السلف، أن المراد من الذين كفروا أهل مكة ومن القارعة السرية التي يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، أو عذاب من السماء ينزل إليهم، أو تحل أنت يا محمد بنفسك قريبًا من دارهم وتقاتلهم حتى يأتي وعد الله - تعالى - أي: فتح مكة، (إن الله لا يخلف الميعاد). * * * (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) * * * (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا): أطلت لهم المدة، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) أي: عقابي إياهم وهذا تسلية لنبينا عليه السلام، (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ): رقيب، (عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ): من خير وشر فيحفظها ويجازيها والخبر محذوف، أي: كمن لا يكون كذلك والهمزة لإنكار المساواة، (وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ) عطف على كسبت أو استئناف، وقيل: نقدر الخبر المحذوف لم يوحدوه فقوله وجعلوا عطف عليه، وقيل تقديره أفمن هو قائم على كل نفسٍ) موجود وقد جعلوا لله شركاء فعلى هذا الواو للحال، (قُلْ سَمُّوَهُمْ)

بأسماء من القادر أو الرازق، أو الخالق، أو القاهر أو غيرها من مثل أسماء الله الحسنى حتي تعرفوا أنهم غير مستحقين للعبادة، (أَمْ)، أي: بل، (تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ)، أي: تخبرون الله تعالى - بشركاء لا يعلمهم، (في الْأَرْضِ) وهو العالم بكل شىء، (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي: أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول لا حقيقة له أصلاً، (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ): كيدهم وما هم عليه من الضلال، (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ): عن طريق الهدى، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): بالقتل والأسر وغيرهما، (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ): يقيهم ويمنعهم منه، (مَثَلُ الجَنَّةِ) أي: صفتها التي هي مثل في الغرابة، (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) من الشركَ وهو مبتدأ خبره مقدر أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) حال من العائد المحذوف من الصلة أو هو خبر مثل الجنة كقولك: صفة زيد أسمر أو تقديره مثل الجنة جنة تجرى، (أُكُلُهَا دَائِمٌ): لا ينقطع نعيمها، (وَظِلُّهَا): كذلك، (تِلْكَ) أي: هذه الجنة، (عُقْبَى): مآل، (الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) المراد مسلموا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، (يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ): من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، (وَمِنَ الأَحْزابِ) أي: ومن أحزاب اليهود والنصارى، (مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ) أي: ما يخالف كتبهم أو رأيهم،

(38)

قال بعضهم: هذا في مؤمني أهل الكتاب حزنوا بقلة ذكر لفظ الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما نزل " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " [الإسراء: 110]، فرحوا وكفر المشركون به، فقالوا: وما الرحمن، (قل): لهم، (إنما أمرت أن أعبد الله): وحده، (ولا أشرك به إليه أدعو): لا إلى غيره، (وإليه): لا إلى غيره، (مئاب): مرجعي للجزاء، يعني قل لهم: هذا شغلي وأمري حتى يعلموا أن إنكارهم إنكار عبادة الله مع ادعائهم واتفاقهم وجوبها، (وكذلك) أي: كما أنزلنا على قلبك الكتاب بلغاتهم، (أنزلناه) أي: القرآن حال كونه، (حكمًا عربيًا): حكمه مترجمة بلسان العرب، قال بعضهم: سماه حكمًا، لأنه منه يحكم في الوقائع، أو لأن الله تعالى حكم على الخلق بقبوله، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ): بحقيقة ما معك وبطلان ما معهم، (مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ): ينصرك، (وَلَا وَاقٍ): يمنع العقاب عنك وهذا في الحقيقة وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ

وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلله الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً): نساء وأولادًا كما هي لك، قيل: نزلت حين قال المشركون أو اليهود: ليست همة هذا الرجل إلا في النساء، (وَمَا كَانَ): ما صح، (لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ): خارقة للعادة، (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قيل: هذا جواب لسؤالهم توسيع مكة، (لِكلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) أي: لكل مدة مضروب كتاب مكتوب بها وكل شيء عنده بمقدار، (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيثْبِتُ)، أي: ينسخ الله تعالى ما يشاء من الأقدار ويثبت منها ما يريد، عن ابن عباس رضى الله عنهما وغيره يمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة، والموت

وعن كثير من السلف: أنهم يدعون بهذا الدعاء اللهم إن كتبتنا أشقياء فامحه واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، ولكل وقت حكم يكتب على عباده فيمحوا ما يشاء ويثبت بنسخ ما يستصوب نسخه، وإثبات ما يقتضيه حكمته، أو فيه تقديم وتأخير تقديره لكل كتاب أي: منزل من السماء مدة مضروبة عند الله - تعالى - يمحو ما يشاء ويثبت حتى نسخت كلها بالقرآن، ويمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت بدلها الحسنات أو هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ثم يعود بمعصيته فيموت على الضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت ما يشاء فلا يغفرها، أو يمحو الذنوب بالتوبة ويثبت هو الرجل يعمل بطاعته ويموت عليها أو يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة كالمباحات ويثبت ما يتعلق به جزاء، أو قالت: قريش حين نزلت وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه تخويفًا ووعيدًا لهم، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) هو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - الكتاب كتابان، كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وكتاب لا يغير منه شيء، أو المراد منه علم الله - تعالى، (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ)، أي:

كيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم من عذابهم، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ): قبل نزول عذابهم، (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ): ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، (وَعَلَيْنَا): لا عليك، (الحسَابُ)، أي: حسابهم وجزاؤهم فلا تستعجل بعذابهم ولا يهمنك إعراضهم، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ): أرض الكفر، (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا): بما نفتح على المسلمين من بلادهم ونزيد في دار الإسلام وما ذلك إلا من آيات نصرتهم، وقال بعضهم معناه: أولم يروا أنا نأتى الأرض ننقصها فنخربها من أطرافها ونهلك أهلها، أو ننقص أهلها وثمارها، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك، أو نقصانها موت علمائها وذهاب فقهائها، (وَاللهُ يَحْكُمُ): بما يشاء، (لَا مُعَقِّبَ): لا راد (لِحُكْمِهِ) والنفي مع المنفي في موضع الحال، أي: نافذًا حكمه، (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا، (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: الكفار الذين من قبل مشركي أهل مكة مكروا بأنبيائهم، (فَلله الْمَكْرُ جَمِيعًا)، فإن مكر الماكرين في جنب مكر الله تعالى كلا مكر، فإنه القادر

على ما هو المقصود منه دون غيره، أو هو خالق جميع المكر فلا يضر مكر إلا بإذنه، فلا تخف إلا من الله تعالي، (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ)، ويعد لها الجزاء، (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ): لمن تكون الدائرة والعاقبة المحمودة لهم أو للمسلمين في الدنيا والآخرة، (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)، هم من اليهود والنصارى، فإنهم عرفوا حقيته في التوراة والإنجيل، أو من عنده علم الكتاب هو الله تعالي ويؤيده قراءة من قرأ (مِن عندِه) بكسر الميم والدال قال بعضهم المراد مؤمنوا أهل الْكِتَاب، ثم اعترض عليه بأن هذه الآية مكية ومن آمن منهم ما آمن إلا بعد الهجرة والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم مكية وهي اثنتان وخمسون آية وسبع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) * * * (الر كِتَابٌ) أي: هو كتاب، (أَنزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ): بدعوتك إياهم إلى ما فيه، (مِنَ الظُّلُمَاتِ): أنواع الضلال، (إِلَى النُّورِ): الهدى، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ): بأمره وتوفيقه، (إِلَى صِرَاطِ) بدل من إلى النور، (العَزِيزِ): الغالب، (الحَمِيدِ): المستحق للحمد، (اللهِ) عطف بيان للعزيز وعلى قراءة الرفع مبتدأ خبره قوله: (الذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أو خبر مبتدأ محذوف والذي صفته، (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) والويل اسم معنى كالهلاك، (الَّذِينَ

يَسْتَحِبُّونَ): يختارون، (الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): يمنعون الناس عن دين الله تعالى، (وَيَبْعونَهَا عِوَجًا)، أي: يطلبون لها الاعوجاج، ويقولون للناس: إنَّهَا معوجة بحذف الجار وإيصال الفعل، (أُوْلَئِكَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ): عن الحق ووصفه بالبعد مع أنه في الحقيقة للضال للمبالغة، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ): بلغة، (قَومِهِ): الذي هو بعث فيهم، (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ): ما أمروا به فيفهموه بلا كلفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن بعث إلى الأحمر والأسود بصرائح الدلائل، لكن الأولى أن يكون بلغة مَن هو فيهم حتى يفهموا ثم ينقلوه ويترجموه لغيرهم، (فيضِل الله من يَشَاء) أي: بعد البيان، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ): باتباعه، (وَهُوَ الَعَزِيزُ): الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، (الحَكِيمُ): في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال، ويهدى من هو أهل الهداية، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا) كاليد والعصا، (أَنْ أَخْرِجْ) أي: بأن أخرج أو أن مفسرة ففي الإرسال معنى القول، (قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ): بنعمائه عليهم من فلق البحر والإنجاء من يد فرعون وغير ذلك أو بوقائعه في الأمم السالفة، (إِنَّ

(7)

فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، أي: ما صنعنا ببني إسرائيل أو ما نزل من البلاء على الأمم عبرة لمن يصبر على بلائه ويشكر لنعمائه، (وَإِذْ قَالَ) أي: واذكر إذ قال، (مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ) ظرف للنعمة بمعنى الإنعام وقيل بدل اشتمال من نعمة الله، (مِّنْ آلِ فِرْعَوْن يَسُومُونَكُمْ) أي: والحال أنه يبغونكم، (سُوءَ الْعَذَابِ): أفضحه وهو ثاني مفعوليه، (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ): يتركونهن أحياء، (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ): ابتلاء من حيث إنه أمهلهم فيه أو ذلكم إشارة إلى الإنجاء بمعنى النعمة. * * * (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ

أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) * * * (وَإذْ تَأَذَّنَ) عطف على إذ أنجاكم أي: أذن وأعلم، (رَبُّكُمْ): فقال، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ): يا بني إسرائيل نعمتي فأطعتموني، (لَأَزِيدَنَّكُمْ): في النعمة، (وَلَئِن كَفَرتمْ): نعمني، (إِن عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، لمن كفر نعمتي، (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ)، عن خلقه وشكرهم، (حَمِيدٌ)، مستحق للحمد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون، (أَلَمْ يَأتِكُمْ نَبَأُ الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، من الكفار كلام مستأنف من الله تعالى أو من تمام كلام موسى والأول أظهر فقد نقل أن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، (قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: بعد هؤلاء من الأمم المكذبة، (لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلا اللهُ): لا يحصي عددهم لكثرتهم إلا الله تعالى ولهذا قال بعض السلف: كذب

النسَّابون، (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات الواضحات، (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)، أي: الكفار عضوها من الغيظ أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما نطقت ألسنتهم به من قولهم: (إنا كفرنا بما أرسلتم به)، أي: هذا جوابنا ليس عندنا غيره أو وضعوا أيديهم على أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك، أي: ضحكوا وتعجبوا ووضعوها عليها مشيرين للأنبياء بالسكوت أو أخذ الكفار أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم أو الرسل لما أيسوا منهم، وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم، وسكتوا ووضعوا الكفار أيدي أنفسهم على أفواه الرسل، ردًّا أو تكذيبًا لهم، أو منعًا لهم من الكلام، أو سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب: رد يده في فيه، (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ)، على زعمكم، (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ): موقع في الريبة، (قَالَتْ): لهم، (رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ)، أي: في تفرده بوجوب العبادة له، (شَكٌّ): فاعل الظرف، (فاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ): لا يستحق العبادة إلا من ابتدعهما من غير مثال سبق، (يدْعُوكُمْ): إلى طاعته، (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، أي: بعض ذنوبكم الذي يُكَفَّر بالإيمان فإن المظالم لا يُكَفَّرُ بالإيمان للذمي خصوصًا، وقيل من

(13)

صلة، وقيل بمعنى البدل، (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): فلا يعاجلكم بالعذاب، (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا): فمن أين لكم المتبوعية، (ترِيدُود أَنْ تَصُدُّونَا): تمنعونا، (عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة ومعجزة ظاهرة دالة على فضلكم وصحة دعواكم كأنهم اقترحوا آيةً أظهر مما جاءوا به من المعجزات، (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نحْنُ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ): في الجنس والصورة، (وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فاختصنا بالنبوة والمتبوعية من فضل الله، (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي: ليس هذا في وسعنا بل شيء يتعلق بمشيئة الله تعالى وإذنه، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فنحن نتوكل عليه في الصبر على معاداتكم، (وَمَا لَنَا): وأي عذر لنا في، (أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا): طرق الرشاد، (وَلَنَصْبِرَنَّ) جواب قسم محذوف، (عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ونحن متوكلون ومن توكل على أحد فليتوكل على الله لا على غيره أو فليثبت المتوكلون على توكلهم فإنه إذا قيل للمتوكل توكل فمعناه اثبت. * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ

عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) حلفوا بأن لا محالة يكون أحد الأمرين، إما إخراجكم وإما عودكم، والأنبياء ما كانوا على ملة الكفرة، فلذلك قالوا العودة بمعنى الصيرورة، (فأَوْحَى إِلَيْهِمْ) إلي الرسل، (رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ) أي: أرضهم، (مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ) أي: وعدي هذا، (لِمَنْ خَافَ مَقَامِي)، موقفه بين يدي الله في القيامة، (وَخَافَ وَعِيدِ): تخويفي وعذابي، (وَاسْتَفْتَحُوا)، استنصرت الرسل ربها على قومها وسألوا منه الفتح على أعدائهم أو استفتحت الأمم الفتح كما قالوا: (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ) الآية أو الضمير للرسل والأمم أي: سألوا كلهم نصر المحق وهلاك المبطل، (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ): متكبر معاند للحق كأنه قال استفتحت الرسل فنصروا وأفلحوا وخاب أو استفتح الكافر فلم يفلح وخاب، (مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّم) أي: أمامه

وبين يديه وقيل: من وراءه حياته، (وَيُسْقَى) نقديره من وراءه جهنم يلقى فيها ويسقى، (مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)؛ ما يسيل من جلود أهل النار من القيح والدم قيل ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر عطف بيان للماء، (يَتَجَرَّعُهُ): يتكلف جرعه يعني يشربه قهرًا، فإنه لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد، [وهو صفة لـ ماءٍ] (1) أو حال من ضمير يسقى، (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ): لا يقارب أن يسيغه، فكيف يكون إلا ساغه وهي جواز الشراب على الحلق بسهولة، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي: أسبابه من الشدائد، (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): من جميع جوانبه وقيل: كل مكان من أعضائه، (وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ): ليستريح، (وَمِن وَرَائِه) بين يديه، (عَذَابٌ غَلِيظٌ) أي: له عذاب آخر أدهى وأمر، فإن أنواع عذاب الله تعالى لا يحصيها إلا هو، (مَثَلُ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) مبتدأ، (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ)، خبره أو تقديره فيما يقص عليكم مثل الذين كفروا وقوله أعمالهم كرماد مستأنفة كأنه قيك: كيف أعمالهم؟ فقال: أعمالهم كرماد، أو أعمالهم بدل وكرماد خبره، (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) العصف اشتداد الريح فهو في المبالغة كنهاره صائم يعني لا ينتفعون بأعمالهم ولا يجدونها كرماد ذرته الريح هل يجد أحد منه ذرة، (لا يَقْدِرُونَ): في القيامة، (مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ): لحبوطه، (ذَلِكَ) إشارة إلى عدم وجدان أعمالهم،

_ (1) زيادة من تفسير البيضاوي.

(هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) فإنه الغاية في البعد عن الحق، (أَلَمْ تَرَ): يا محمد والمراد خطاب أمته، (أَنْ الله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) لا بالباطل في خلقه حكم ومصالح، (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يعدمكم، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ): يخلق خلقًا آخر مكانكم أطوع منكم فإن من قدر على خلق السماوات والأرض قدر على مثل ذلك، (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ): بمتعسر ومن كان كذلك فحقيق بأن يعبد رجاء لثوابه وخوفًا من عقابه، (وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا): خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا، (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ) الأتباع، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا): رؤسائهم الذين استكبروا عن عبادة الله - تعالى -، أو تكبروا على الناس، (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا): في الدين جمع تابع، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ)، دافعون، (عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ) حال ومن للتبيين، (مِنْ شَيْءٍ)، مفعول ومن للتبعيض، (قَالُوا) أي: الرؤساء جوابًا عن الضعفاء، (لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) أي: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم لكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، أو لو هدانا الله ووفقنا للإيمان لهديناكم، أي: إنما أضللناكم لأنا كنا على الضلال، (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا) هما مستويان علينا، (مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ): مهرب نقل أن بعض أهل النار قالوا لبعضهم: تعالوا نبكي ونتضرع، فإنما أدركوا الجنة بالبكاء والتضرع، فلما

(22)

رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا: تعالوا نصبر فإنما أدركوها بالصبر فصبروا صبرًا لم ير مثله، فلما لم ينفعهم قالوا: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ). * * * (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ (27) * * * (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ): لما فرغ منه ودخل أهل الجنة الجنة، والنار النار، (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ): وعدًا من حقه الإنجاز أو أنجزه وهو الوعد

بالبعث وأن الناجي من اتبع الرسل، (وَوَعَدتكُمْ) إنه غير كائن والناجي عابد الصنم، (فَأَخْلَفْتُكُمْ)، كما قال (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ): ليس لي عليكم دليل ولا حجة، أو ليس لي تسلط فألجئكم إلى الآثام، (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ): لكن دعوتكم، (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ): حيث أجبتموني، وما أطعتم ربكم مع ظهور حجته، (مَّا أَنَا بِمصْرِخِكمْ): بمغيثكم، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ): بمغيثي، (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)، أي: إني جحدت وتبرأت أن أكون شريكًا لله - تعالى -، فما مصدرية، ومن متعلقة بـ أشركتموني، أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي في الدنيا، وقيل: كفرت بسبب إشراككم إياي في الدنيا، وقيل: ما بمعنى مَن، ومن متعلقة بـ كفرت، أي: كفرت قبل إشراككم، أي: حين أبيت السجود بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى، (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ابتداء كلام من الله، أو تتمة كلام إبليس، (وَأُدْخِلَ) والمُدْخِل الملائكة، (الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أى: أدخل بأمر الله تعالى وإذنه، (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ): ويحيي بعضهم بعضًا، والملائكة تحييهم بالسلام، (أَلَمْ تَرَ كيْفَ ضَرَبَ اللهُ) أي: قصد، (مَثلاً): ووضعه، (كَلِمَةً طَيِّبَةً) هي كلمة التوحيد، ونصبها بتقدير جعل كلمة، ويكون تفسيرًا لقوله ضرب الله، (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ): هي النخلة أو شجرة في الجنة، (أَصْلُهَا ثَابِتٌ): في الأرض، (وَفَرْعُهَا): غصونها ورأسها، (فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي): هذه الشجرة، (أُكُلَهَا): ثمرها، (كُلَّ حِينٍ) عينه الله تعالى لإثمارها، أو صيف وشتاء، صباح ومساء، (بِإِذْنِ رَبِّهَا): بإرادة خالقها وكلمة التوحيد كشجرة أصلها في أرض قلب المؤمن، وثمرها صوالح أعمال المؤمن، وفرعها في السماء، يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، والشجرة لا تكون شجرة إلا بعرق وأصل وفرع، كذلك الإيمان لا يتم إلا بتصديق وإقرار وعمل، (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فإن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ): هى الشرك، (كَشَجَرَةٍ) أي: كمثل شجرة، (خَبِيثَةٍ) وهي الحنظلة، (اجْتُثَّتْ)

(28)

اقتلعت وأخذت جثتها بالكلية، (مِن فَوْقِ الأَرْضِ) لأن عروقها قريبة منه، (مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) استقرار، فإن الكفر لا أصل له، ولا يصعد للكافر عمل، (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ): بالحجة عندهم، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فلا يزلون عنه بحال، (وَفي الْآخِرَةِ): في القبر، عن ابن عباس، من دام على الشهادة في الدنيا، يلقنه الله تعالى إياها في قبره، (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ): لا يلقنهم إياها في قبورهم، فيقولون في جواب الملكين لا ندري، (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ)، ولا اعتراض. * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لله أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)

وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) أي: نفس نعمته، (كُفْرًا) فإن كفار قريش أنعم الله - تعالى - عليهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وغيره من النعم، فكفروا ذلك، فسلبت منهم فبقوا مسلوبي النعمة، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة، وقحطوا وأسروا وقتلوا، أو بدلوا شكر نعمته كفرًا بأن وضعوه مكانه، (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ): الذين اتبعوهم، (دارَ البَوَارِ): الهلاك، (جَهَنَّمَ) عطف بيان، (يَصْلَوْنَهَا): يدخلونها حال، (وَبِئْسَ القَرَارُ) أي: بئس المقر جهنم، (وَجَعَلُوا لله أَندَادًا) أمثالاً، (لِّيُضِلوا) الناس، (عَن سَبِيلِهِ) عن دينه، والإضلال نتيجته فجعل غرضًا مثل لدوا للموت، (قُلْ تَمَتَّعُوا) بلذاتكم، (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) والأمر للتهديد، (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا) أي: ليقيموا (الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) منصوبان بالظرفية، أي: وقتي سر

(35)

وعلانية، أو على المصدر، أي: اتفاقهما أو على الحال، أي: ذوي سر وعلانية، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ) فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، (وَلَا خِلَالٌ) لا مودة، يعني مودة تكون بميل الطبيعة لكن مودة المتقين لما كانت لله تنفعهم. (اللهُ) مبتدأ، (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) خبره (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمَرَاتِ) أي: بعضها، (رِزْقًا) مفعول له أو حال أو مصدر، فإن أخرج بمعنى رزق، (لَّكُمْ وَسخَّرَ لَكمُ الفلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ) بإرادته، (وَسخَّرَ لَكم) لأجل انتفاعكم، (الأَنْهَارَ وَسخَّرَ لَكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) سراجًا ونورًا وحسبانًا وغير ذلك، (دَائِبَيْنِ) وهو مرور الشيء على عادة مطردة، يعني: يجريان لمصالح العباد دائمًا، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ) من تبعيضية، (مَا سَأَلْتُمُوهُ) بلسان القال والحال، (وَإن تَعدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا) لا تطيقوا عدها فضلاً عن القيام بشكرها، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ) على النعمة بترك شكرها، (كَفَّارٌ) لها وقيل: يشكر غير منعمه ويجحده. * * * (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي

زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) * * * (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ) مكة شرفها الله - تعالى، (آمِنا) ذات أمن، يذكر الله كفار مكة أنه إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده، (وَاجنبْنِي) بعدني، (وَبَنِيَّ) المراد أبناؤه من صلبه، (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) أسند إلى السبب، (فَمَن تَبِعَنِي) على ديني، (فَإِنَّهُ مِنِّي) بعضي لفرط اختصاصه بي، (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تقدر أن تغفر له، ولا يجب عليك شيء، قيل: معناه ومن عصاني فيما دون الشرك أو إنك غفور بعد الإنابة، (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعضها أي: إسماعيل، (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي: مكة، (عِندَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ) الذي في علمك أنه يحدث في ذلك

الوادي، قال بعض المفسرين: هذا دعاء بعد بناء البيت بعد الدعاء الأول بزمان، (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي: أسكنتهم كي يقيموا الصلاة عند بيتك، وتوسيط النداء للإشعار بأنها المقصودة بالذات والغرض من إسكانهم، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أفئدة من أفئدتهم، (تَهْوِي) تسرع، (إِلَيْهِمْ) شوقًا، وعن السلف لو قال: أفئدة الناس لازدحم إليه فارس والروم والناس كلهم، ولكن قال: من الناس فاختص به المسلمون، (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) نعمتك وقد استجاب الله دعاءه، (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) فلا حاجة إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارًا للعبودية، أو ما نخفي من الوجد بإسماعيل وأمه، حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع، وما نعلن من الدعاء (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ) صفة شيء، (وَلَا فِي السَّمَاءِ) هو من تتمة كلام إبراهيم، أو مبتدأ من الله، (الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ) أي: وأنا كبير وآيس من الولد، (إِسْمَاعِيلَ) وهو في تسع وتسعين، (وَإِسْحَاقَ) وهو في مائة واثنتي عشرة، وهذا دليل علي أن الدعاء بعد بناء البيت (إِنَّ ربي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) لمجيبه، (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) محافظًا عليها معدلاً لأركانها، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) واجعل منهم من يقيمها، وهو يعلم من الله - تعالى - أن في ذريته بعضًا من الكفار، (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) فيما سألتك كله،

(42)

أو عبادتي، (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) وهذا قبل أن يتبين أنه عدو لله - تعالى، قيل: أراد وفقهما على الإيمان، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ) يثبت، (الْحِسَابُ). * * * (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52) * * *

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ) إذ أجل المشركين وأنظرهم، (غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) والآية تسلية لمحمد - عليه الصلاة والسلام - وتهديد للمشركين، (إِنَّمَا يُؤَخرُهُمْ) يؤخر عذابهم، (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) لا تقر في أماكنها لهول ذلك اليوم، (مُهْطِعِينَ) مسرعين، أي: إلى المحشر، كما قال - تعالى: (مهطعين إلى الداع) [القمر: 8] (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) رافعيها لا ينظر أحد أحدًا، (لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) فعيونهم شاخصة يديمون النظر ولا يطرفون لمحة، (وَأَفْئِدَتُهُمْ) في ذلك اليوم، (هَوَاءٌ) خالية عن الفهم خلاء، قال بعضهم: أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت عن أماكنها، (وَأَنذِرِ النَّاسَ) يا محمد، (يَوْمَ) مفعول ثان لأنذر، (يَأتِيهِمُ العَذَابُ) يوم القيامة، (فيقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشركوا، (رَبَّنَا أَخِّرْنَا) أمهلنا، (إِلَى أَجَلٍ) حد من الزمان، (قَرِيبٍ) سألوا الرد إلى الدنيا، (نجِبْ) جواب للأمر، (دعْوَتَكَ وَنَتَّبِع الرُّسُلَ) فيجابون بقوله: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ) حلفتم في الدنيا، (مَا لَكم مِّن زَوَالٍ) جواب القسم، أي: أقسمتم أنكم لا تنتقلون إلى الآخرة، ولا معاد لكم، فذوقوا وباله، (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) بالكفر والعصيان، (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) من أحوالهم فما اعتبرتم، (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، (وَعِندَ اللهِ) مكتوب، (مَكْرُهُمْ) فهو مجازيهم، (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) في العظم، (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) مهيأ لإزالة الجبال،

وعن بعضهم معناه: وما كان مكرهم لتزول إلخ والجبال مَثَلٌ لأمر محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن نافية واللام مؤكدة لها، ومن قرأ بفتح لام لتزول فإنْ مخففة، واللام هي الفاصلة، وعن بعضهم معناه: وإن كان شركهم لتزول كقوله تعالى: " تكاد السَّمَاوَات يتفطرن منه " الآية. وعن على - رضي الله عنه: إن الآية في نمرود حيث اتخذ تابوتًا وربط قوائمه الأربع بنسور ومكر حتى طرن إلى جانب السماء ثلاثة أيام، وغابت الدنيا عن نظره يريد محاربة إله السماء، فلما هبط إلى الأرض سمعت الجبال خفيق التابوت ففزعت ظنًّا من حدوث القيامة، فكادت تزول عن أماكنها. (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) من نصرهم في الدارين، أضاف إلى المفعول الثاني إيذانًا بأنه لا يخلف الوعد أصلاً، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالِب ولا يغالَب، (ذُو انْتِقَامٍ) لأوليائه، (يوْمَ) بدل من يوم يأتيهم العذاب أو ظرف للانتقام، (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) أي: والسماوات غير السماوات فتكون الأرض من فضة والسماء من ذهب أو الأرض خبزة بيضاء يأكلها المؤمن من تحت

قدميه، أو تكون السماوات جنانًا والأرض نيرانًا، أو المراد تغيير هيئتها تبسط وتمد مد الأديم العكاظي وتكور شمسها وتنشر نجومها وتخسف قمرها، (وَبَرَزُوا) من قبورهم، (لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) لمجازاة الله الواحد الغلاب فلا مستجار لأحد إلى غيره، (وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مقَرَّنِينَ) كل كافر مع شيطان في غل أو بعض الكفار مع بعض أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم، (في الأَصْفادِ) في الأغلال متعلق بـ (مقَرَّنِينَ) أو حال من ضميره، (سَرَابِيلُهُم) قمصانهم، (مِّن قَطِرَانٍ) ما يطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرِّه وحدته والجلد فيصير كيًّا ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وهو أسود منتن، وعن بعض السلف هو النحاس المذاب، وهذا التفسير لمن قرأ قطرٍ وهو النحاس، وانٍ وهو المتناهي حره، (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تعلوها، (لِيَجْزِيَ اللهُ) أي: فعل بهم ذلك ليجزي الله، (كُل نَفْسٍ) من الكفار، (مَا كَسَبَتْ) أو معناه برزوا ليجزي الله كل نفس من المؤمن والكافر ما كسبت من خير وشر، (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ) لأنه لا يخفى عليه شيء ولا يشغله شيء عن شيء، (هَذَا) أي: القرآن، (بَلاغٌ) كفاية في الموعظة، (للنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ) تقديره بلاغ لينصحوا ولينذروا به، أو تقديره ولينذروا به أنزل (وَلِيَعْلَمُوا أنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) يستدلوا بالآيات على وحدانيته، (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ذووا العقول الخالصة. * * *

سورة الحجر

سورة الحجر مكية وهي تسع وتسعون آية وست ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) * * * (الر تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة، (آيَاتُ الْكِتَابِ) القرآن، (وَقُرْآنٍ مُّبين) أي: تلك آيات جامعة لكونها آيات كتاب كامل، وقرآن يبين الأحكام، (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين موتهم، أو يوم القيامة، أو حين اجتمع بعض

المسلمين مع الكفار في النار، فيقول الكفار معهم: ما أغني عنكم الإسلام فغضب الله - تعالى - على الكفار وأخرج المسلمين من النار، وما كافة تكفه عن الجر، فجاز دخوله على الفعل والمترتب في أخبار الله - تعالى - كالماضي في تحققه، ولذلك أجرى المضارع مجرى الماضي، فدخلت رُبَّ عليه مع أنه لا يجوز دخولها عليه، (لَوْ كَانُوا مسْلِمِينَ) حكاية ودادتهم بلفظ الغيبة كقولك: حلف بالله ليفعلن، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) في الدنيا بدنياهم، (وَيُلْهِهِمُ) يشغلهم، (الْأَمَلُ) عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء عملهم وهذا من باب الإيذان بأن غضب الله - تعالى - حلَّ عليهم فلا ينفعهم نصح ناصح، وقيل: منسوخة بآية القتال، (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ) أهل، (قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) أجل مؤقت مكتوب عند الله - تعالى - لا يهلكهم حتى يبلغوه، جيء بين الصفة والموصوف وهما لها كتاب وقرية بالواو تأكيدًا للصوقها بالموصوف، (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)

لا يتأخرون عنه، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي: القرآن وهذا استهزاء منهم، (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي: هلا تأتينا بهم يشهدون بصدقك، قيل: هلا تأتينا بهم للعقاب على تكذيبنا لك، (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أجاب الله - تعالى - عنها بأن إنزالهم لا يكون إلا تنزيلاً متلبسًا بحق عند حصول الفائدة، وقد علم الله أنَّهم معرضون عن الحق، وإن شاهدوا الملائكة، قال - مجاهد: بالحق أي بالعذاب، (وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ)، أى: لو نزلنا الملائكة ما أخر عذابهم، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) من التحريف والزيادة والنقص، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ) رسلاً، (فِي شِيَع) في فرق، (الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية، فإن ما لا يدخل إلا على مضارع بمعنى الحال أو ماض قريب من الحال، (مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) وهذا تسلية لمحمد - صلى الله عليه وسلم (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ) ندخل الاستهزاء والتكذيب، (فِي قُلُوبِ الُمجْرِمِينَ لاَ يُؤْمنونَ بِهِ) حال من المجرمين، أو بيان الجملة أو مثل ذلك السَّلْك نسلك الذكر ونلقيه في قلوبهم مكذبًا به غير مقبول، (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَولِينَ) أي: قد مضت سنة الله - تعالى - بأن يسلك الكفر في قلوبهم أو بإهلاك

(16)

من كذب الرسل من الأمم الماضية، (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ) على هؤلاء المشركين، (بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا) أي: المشركون، (فِيهِ يَعْرُجُونَ) يصعدون فينظرون إلى ملكوت الله - تعالى - وعبادة الملائكة، أو ظل الملائكة فيه يصعدون والكفار ينظرون ذلك، (لَقَالُوا) من غلوهم في العناد، (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) أغشيت وسدت بالسحر أو حيرت كما يتحير السكران، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا محمد بذلك. * * * (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) * * *

(وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّمَاءِ بُرُوجًا) اثني عشر منازل الشمس والقمر، أو المراد من البروج الكواكب، (وَزَيَّنَّاهَا) بالنجوم، (لنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) فلا يقدر أن يطلع على أحوالها، (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) استراقه اختلاسه سرًّا، وعن بعضهم أن الشياطين كانوا غير محجوبين عن السماوات، فلما ولد عيسى - عليه السلام - منعوا عن ثلاث سمات، ولما ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - منعوا من كلها بالشهب، والاستثناء منصوب متصل من كل شيطان، أو منقطع، (فَأَتْبَعَهُ) لحقه، (شِهَابٌ) شعلة نار ساطعة، (مُبِينٌ) ظاهرة لأهل الأرض، (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) بسطانها (وَأَلْقَيْنَا ِيهَا رَوَاسِي) جبالًا ثابت، (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدر بمقدار معين، قيل: ضمير فيها للجبال والأشياء، الموزون جواهرها كالذهب وغيره، (وَجَعَلْنَا لَكُلْ فِيهَا مَعَايِشَ) تعيشون بها من المطاعم والملابس والمشارب، (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) عطف على معايش، أي: جعلنا في الأرض من رزقه على الله - تعالى - ونفعه لكم كالخدم والعيال والدواب، أو عطف على محل لكم، أي: جعلنا المعايش فيها لكم، ولمن رزقه على الله - تعالى - كالعبيد والإماء وسائر الحيوانات، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)

ضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور، وقد نقل في الحديث، خزائن الله - تعالى - الكلام، إذا أراد شيئًا قال له: كن فكان، (وَمَا نُنَزِّلُهُ) ما نعطيه، (إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) تعلقت به مشيئتنا فإن المقدورات غير متناهية والموجودات متناهية، وقيل المراد من الشيء: المطر وما من عام أكثر مطرًا من العام الآخر، لكن الله - تعالى - يقسمه حيث شاء، عامًا يكثر في بلد، وعامًا يقل، (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) أي: حوامل شبه الريح إذا جاءت بخير من سحاب ماطر بالحامل، أو بمعنى اللاقح، أي: للشجر والسحاب يقال ألقحها الفحل، إذا ألقى عليها الماء فحملته، وعن كثير من السلف أن الله - تعالي - يرسل الريح فيحمل الماء من السماء، ثم يجري السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة، (فَأنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) جعلناه لكم سقيا، (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) حافظين بل نحن نحفظه عليكم في العيون والآبار والأنهار، ولو شاء الله - تعالى - لأغاره وذهب به، أو معناه: نحن ننزل المطر، وهو في خزائننا، لا في خزانتكم، (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) الباقون بعد فناء الخلق، (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) كل من هلك من لدن آدم وكل من هو حي ومن سيأتي إلى آخر الدنيا، أو المستقدمين

(26)

الخير والمبطئين عنه، أو المستقدمين في الصف الأول والمستأخرين منه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رغب في الصف الأول ازدحموا عليه، أو أناس يستقدمون في الصفوف لئلا يرو النساء، وبعضهم يستأخرون لينظروا إليهن، أو المراد في صف القتال، (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) للجزاء، (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) باهر الحكمة واسع العلم. * * * (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)

قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) * * * (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) أراد آدم، (مِن صَلْصَالٍ) طين يابس يصوت إذا نقر أو من طين منتن من صَل اللحم إذا أنتن وهو كزلزال، (مِّن حَمَأٍ) أي: كائن من طين أسود، (مسنونٍ) أي: أملس أو منتن أو مصبوب كالجواهر المذابة تصب في القوالب، (وَالْجَانَّ) أي: إبليس وهو أبو الشياطين، أو أبو الجن مطلقًا، (خَلَقنَاهُ مِن قَبْلُ) من قبل خلق آدم، (مِن نارِ السَّمُومِ) نار الحر الشديد، أو نار لا دخان لها، وعن بعضهم من نار الشمس. (وَإِذْ قَالَ ربُّكَ) أي: اذكر وقت قوله (لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) عدلت صورته وأتممت خلقته، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) إضافة الروح للتشريف، (فَقَعُوا) فاسقطوا، (لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وقد مر أن المأمورين بالسجود جميع الملائكة أو جمع خاص منهم، (إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي: لكن هو أبى

السجود، وجاز أن يكون الاستثناء متصلاً، وجملة أبى أن يكون حينئذ مستأنفة، (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ) أيُّ غرض لك في، (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفي، أي: لا يصح مني ويستحيل أن أسجد، (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) استكبر واستعظم نفسه، (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من تلك المنزلة التي أنت فيها من الملأ الأعلي، (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من الخير والشرف باعتبار الكرامة عند الله تعالى لا باعتبار النوع، (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) أي: تلك اللعنة لا تزال متصلة لاحقة بك إلى يوم القيامة، وهذا بُعدُ غاية يضربها الناس، (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أخر أجلي، (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) آخر الدنيا، (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو نفخة الأولى، أمهله الله استدراجًا له وابتلاء وامتحانًا للخلق، قيل: سأل الإمهال إلى يوم يبعثون لئلا يموت؛ لأنه لا يموت حينئذ أحد، فلم يجب إلى ذلك وأمهل إلى آخر أيام

التكليف فهو ميت، بين النفختين أربعين سنة، (قَالَ رَبِّ بِمَا أَعوَيْتَني) أي: أقسم بإغوائك إياي، (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) المعاصي، (في الأَرْضِ)، أو معناه بسبب غوايتك إياي، أقسم لأزينن الخ .. ، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ)، أحملنهم علي الغواية، (أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، أي: إلا عبادك الموصوفين بالإخلاص لطاعتك حال كونهم من أولاد آدم. (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى قول إبليس: لأغوينهم إلا عبادك أي: هذا هو الذي حكمت به وقدرت على عبادي، وهو حق مستقيم، كما قال تعالى: " ولكن حق القول مني " [السجدة: 13] الخ .. أو تهديد، كما تقول لخصمك: طريقك على أي لا تفلت مني، أو الإشارة إلى تخلص المخلصين من إغوائه الدال عليه الاستثناء، أي: تخلُّصهُم طريق حق علي أن أراعيه لا انحراف عنه، أو الإخلاص طريق عليَّ من غير اعوجاج يؤدي إلى الوصول إلى كرامتي ولقائي، (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أي: ليس لك حجة وتسلط على أحد منهم، فمن أين لك الاختيار في غوايتهم، (إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ) لكن من اتبعك هو من الغاوين، أو الاستثناء متصل ويكون كالتصديق لقول إبليس، (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُم) أي:

(45)

الغاوين، (أَجْمَعِين) تأكيد للضمير، (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) سبعة أطباق، وعن علي - رضى الله عنه - إن أبواب جهنم هكذا، ووضع إحدى يديه على الأخرى، أي: بعضها فوق بعض أو سبعة منازل لكل منزل باب، (لِكُلِّ بَابٍ) طبقة أو منزل، (مِنْهُمْ) من أتباعه، (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أفرز له، ومنهم حال من الجزاء، أو من ضمير الظرف. * * * (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) * * *

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) عن الكفر والفواحش، (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بساتين وأنهار، (ادْخُلُوهَا) أي: يقال لهم ادخلوها، (بِسَلامٍ) سالمين من الآفات، وقيل مسلمًا عليكم، (آمِنِينَ) من المكاره، (وَنَزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّن غِلٍّ) حسدٍ وحقدٍ، (إِخْوَانًا) في المودة وهو حال، (عَلَى سُرُر متَقَابِلِينَ) متواجهين وهما صفتان أو حالان، وعن علي - رضى الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم - رضى الله عنهم، (لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) تعب، (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) وقد نقل أنه - صلى الله عليه وسدم - خرج على أصحابه، وهم يضحكون فقال أتضحكون وبين أيديكم النار؟!، فنزل جبريل بهذه الآية، " وقال: يقول لك ربُّك يا محمد لم تقنط عبادي؟ "، (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ

ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) ذكر لهذه هذه القصة عقيب هذه الآية، لتحقق أن رحمته واسعة وعذابه أليم، (إِذ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا) نسلم عليك (سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) خائفون؛ لأنَّهُم ما أكلوا من طعامه، ودخلوا بغير إذن، (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، وهو إسحاق والأضياف ملائكة في صور البشر، (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) بالولد، (عَلَى أَن) أي: أنه، (مَسَّنيَ الكِبَرُ) والولد في هذه الحال كالمحال، (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) بأي شيء تبشرون، فإن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء، (قَالُوا بَشَّرناكَ بِالْحَق) بالصدق واليقين، (فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ) من الآيسين، (قَالَ)، إبراهيم لهم: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي: لم أستنكر ذلك قنوطًا، بل استبعادًا عاديًّا، من استفهامية إنكارية، فكأنه قال: لا يقنط أحد إلا الضالون، (قَالَ) إبراهيم لهم: (فَمَا خَطْبُكُمْ) شأنكم، (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) وما الذي جئتم به، (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي: قوم لوط، (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء متصل من ضمير المجرمين، أي: إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط منهم، (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) استئناف، وجاز أن يكون استثناءً منقطعًا عن قوم، فإن القوم موصوفون بالإجرام دونهم حينئذ، إنا لمنجوهم جرى مجري خبر لكن ولم يكن

(61)

مستأنفًا، (إِلا امْرأَتَهُ) استثناء، من ضمير لمنجوهم، (قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، وإنما علق مع أن التعليق من خواص أفعال القلوب لتضمن التقدير معنى العلم، أو لأنه أجرى مجرى قلنا، قال بعضهم: هذا من كلام الله - تعالى - لا من كلام الملائكة، وجاز أن يكون من كلامهم، وإسناد التقدير إلي أنفسهم لا لهم من القرب إلى الله - تعالى. * * * (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) * * *

(فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ المُرْسَلُونَ قَالَ) لوط لهم: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ منكَرُونَ) لا أعرفكم أو تنكركم نفسي وتنفر منكم مخافة شركم، (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانوا فيهِ يَمْتَرُون) أي: ما جئناك لتعرفنا أو ما جئناك لشرك، بل جئناك بما يسرك وهو ما أوعدت به أعداءك من العذاب، فيشكون فيه ولا يصدقونك، (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ) باليقين من عذابهم، (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) اذهب بهم في الليل، (بِقِطْعٍ) في طائفة، (مِّنَ الليْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهمْ) سر خلفهم لتطلع على حالهم حتى لا يتخلف منهم أحد، (وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكم أَحَدٌ) إلى ما وراءه إذا سمعتم الصيحة بالقوم وذروهم، (وَامضوا حَيثُ تؤْمَرُون) إلى حيث أمركم الله، (وَقَضيْنَا) أوحينا، (إِلَيْهِ) مقضيًّا، (ذَلِكَ الأَمْرَ) مبهم مفسر بقوله: (أَنْ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) ودابرهم آخرهم، أي: يستأصلون عن آخرهم، وهو بدل من ذلك الأمر، (مُّصبِحِينَ) داخلين في الصبح، (وَجَاءَ أَهْل المَدِينَةِ) أي سدوم، قرية قوم لوط، (يَسْتَبْشرُون) يفرحون بأضياف لوط طمعًا في ركوب الفاحشة منهم، (قالَ) لوط، (إِن هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحونِ) بفضيحة ضيفى، (وَاتَّقُوا اللهَ) في تلك الفاحشة، (وَلَا تُخْزُونِ) لا تخجلوني فيهم، من الخزاية وهي الحياء، (قَالوا

أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) أي: عن ضيافة أحد من العالمين، أو أن تجير منهم أحدًا، (قَالَ هَؤُلاءِ بَناتِي) فتزوجوهن واتركوا أضيافي وعن كثير من السلف أن المراد من البنات نساء القوم، فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، (إِن كُنتُمْ فاعِلِينَ) لا محال قضاء وطركم بمحال المباشرة دون المنكر، (لَعَمْرُكَ) أي: لعمرك قسمي، (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ)، حيرتهم وغوايتهم، (يَعْمَهُونَ) يتحيرون عن ابن عباس - رضى الله عنهما - ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد - عليه الصلاة والسلام - وما سمعت الله - تعالى - أقسم بحياة أحد غيره، وعن بعض المفسرين أن الضمير لقريش والجملة اعتراض، (فأَخَدتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) هي ما جاءتهم من الصوت العاصف حال كونهم داخلين في وقت طلوع الشمس، (فَجَعَلنا عَالِيَهَا) أي: المدينة، (سَافِلَهَا) صارت منقلبة، (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً) قبل التقليب أو

(80)

معه، أو التقليب للموطنين والحجارة للمسافرين، (مِّن سِجِّيلٍ) من حجر وطين، وقد مر في سورة هود، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) المتفرسين، من توسمتي فلان كذا، إذا عرفت وسم ذلك وَسمَتُهُ فيه، (وَإِنها)، أي: تلك المدينة، (بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) بطريق ثابت يسلكه الناس ولم يندرس آثارهم وهو تنبيه لقريش، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسله فيعرفون أن ذلك انتقام لأوليائه من أعدائه، (وَإِن كَانَ) أي: إنه كان، (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) قوم شعيب، والأيكة الشجر الملتف، (لظَالِمِينَ) بالشرك وقطع الطريق ونقص المكيال والميزان، وكانوا قريبًا من قوم لوط بعدهم في الزمان، ومستأمنين لهم في المكان، (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) بالصيحة وعذاب الرجفة وعذاب يوم الظلة، (وَإِنَّهُمَا) مدينة لوط وأصحاب الأيكة، (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح ظاهر. * * * (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) * * * (وَلَقَدْ كذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ) وهو مدينة بين المدينة والشام يسكنها ثمود، (المرْسَلِينَ) أي: صالحًا، ومن كذب نبيًا فقد كذب الرسل بأجمعهم، (وَآتيْنَاهُمْ آياتنا) معجزات، كما في الناقة من غرائب الآيات، (فَكَانوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) ما استدلوا بها علي صدق نبيهم - عليه الصلاة والسلام، (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) من أن تنهدم، أو من عذاب الله، يحسبون أن الجبال تحميهم منه، (فأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبحِينَ) داخلين في الصباح، (فَمَا أَغنَى عَنْهُم) ما دفع عنهم العذاب، (ما كَانوا يَكْسَبُون) من البيوت الوثيقة والزراعة والأموال، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)، خلقًا متلبسًا بالحق (ليجزي الذين أساؤوا بما

عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) [النجم: 31]، (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، (فَاصْفَحِ) يا محمد عن المشركين، (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) يعني عاملهم معاملة الحليم الصفوح، وهذا قبل القتال، فإنما هذه مكية والأمر بالقتال بعد المهاجرة، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الذي خلق كل شيء فقادر على الإعادة، (العَلِيمُ) بجميع الأحوال فيجازى بما علم منهم، (وَلَقَدْ آتيْنَاكَ سَبْعًا) هي السبع الطوال من البقرة إلى الأعراف ثم يونس، نص عليه ابن عباس وغيره - رضي الله عنهم -، أو من البقرة إلى براءة على أن الأنفال وبراءة سورة واحدة، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: أوتي النبي - عليه الصلاة والسلام - السبع الطوال، وأعطي موسى ستًّا، فلما ألقى الألواح رفعت ثنتان وبقي أربع، أو المراد فاتحة الكتاب، روي ذلك عن عمر وعلى - رضى الله عنهما -، وفي البخاري قال - صلى الله عليه وسلم -: " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم "، (مِنَ الْمَثَانِي) بيان

للسبع لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنِّيت في تلك السورة؛ أو لأن الفاتحة تثني في كل صلاة فيقرأ في كل ركعة، (وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ) إن أريد به جميع القرآن، فمن عطف الكل على البعض، وإن أريد به الفاتحة كما دل عليه حديث البخاري، فمن عطف أحد الموصوفين على الآخر، وعن بعض السلف القرآن كله مثاني؛ لأن الأنباء والقصص ثُنِّيت فيه، فعلى هذا المراد بالسبع أسباع القرآن، (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمح ببصرك طموح راغب متمن، (إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) أصنافًا من الكفار، أي: استغن بما آتاك الله - تعالى - من القرآن عما فى الدنيا من الزهرة الفانية، (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يؤمنوا أو عن بعضهم لا تحزن على ما فاتك من مشاركتهم فِي الدنيا، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: ارفق بهم، (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) تقديره أنا النذير لمن لا يؤمن عذابًا مثل ما أنزلنا عليهم، والمقتسمون المتحالفون الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وأذاهم، كما قال - تعالى - في قوم صالح: (تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ)، أي: نقتلهم ليلاً (الذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ) أي: جعلوا كتبهم المنزلة عليهم أجزاء، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أو معناه اقتسموا كتبهم

وجزءوه أجزاءً، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، فعلى هذا من القسمة لا من القسم، والقرآن يطلق على جميع الكتب السماوية، وعن بعضهم هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجزءون القرآن، يقولون: سحر، ويقولون: مفترى، ويقولون: أساطير الأولين، فأنزل الله تعالي بهم خزيًا فماتوا شر ميتة، أو اقتسموا القرآن منهم من قال: سحر، ومنهم من قال: كذب، ومنهم من قال: أساطير الأولين، فعلى هذا الذين جعلوا القرآن عضين بيان للمقتسمين، وهو جمع عضة، وأصلها عِضْوَة، فِعْلَة من عضَّى الشاة، إذا جعلها أعضاء، وعن عكرمة العضة السحر بلسان قريش، (فوَربكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانوا يَعْمَلُونَ) أي: نسأل عن لمية تحالفهم واقتسامهم وجعلهم القرآن عضين، أو عن كل ما فعلوا، يقول: لم فعلتم كذا وكذا، أو سؤال توبيخ لا استعلام، (فَاصْدَعْ) أظهر، (بِمَا تُؤْمَرُ) به من الشرائع، ولا تخفه، وعن مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة، وعن بعضهم ما زال - صلى الله عليه وسلم - مستخفيًا حتى نزلت فخرج هو وأصحابه، (وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ) لا تلتفت إلى أقوالهم، (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) كان عظماء المستهزئين خمسة نفر من كبار قريش، مات كل

واحد منهم في أقرب زمان، (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) من أذاك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ ربكَ)، فاشتغل بتسبيحه وتحميده وتوكل على الله تعالى (وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) المصلين، (وَاعبدْ ربَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ) الموت المتيقن لحاقه. اللهم أمتنا على أحسن الأحوال والأعمال. * * *

سورة النحل

سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرونَ آية وستة عشر ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) * * * (أَتَى أَمْرُ اللهِ) أي: القيامة التي هي بمنزلة الواقع في تحققه، أو العذاب الذي وعده نبينا فيمن خالفه، (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإنه لا محالة واقع، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

ما مصدرية أو موصولة بحذف مضاف أي: إن مشاركة ما يشركون رد لما قالت الكفرة لو صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا، (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ) بالوحي، (مِنْ أَمْرِهِ) من أجل أمر الله تعالى، (عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا) أي: بأن اعلموا متعلق بالروح أو بدل منه، (أَنَّهُ) إن الشأن، (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) عقوبتي لمن عبد غيري رجع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) متلبسًا، (بِالْحَقِّ) لتجزى كل نفس بما كسبت، (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه نفسه عن مشاركة غيره فإنه هو الخالق وحده ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق، (خَلَقَ الإِنسَانَ) أي: جنسه، (مِن نطْفَةٍ فإذَا هُوَ) حين استقل، (خَصِيمٌ) يخاصم ربه ويكذب رسله، (مبينٌ) ظاهر الخصومة، (وَالأَنعَامَ) منصوب بما أضمر عامله، (خَلَقَهَا لَكُمْ) أو عطف على الإنسان وخلقها لكم مستأنفة يبين ما خلق لأجله، (فِيهَا دِفْءٌ) ما يدفأ به من البرد، فإن من أشعارها بيوتًا ولباسًا وملاحف، (وَمَنَافِعُ) بالنسل والدر والركوب وغيرها، (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) قدم الظرف للاختصاص كأن الأكل من الصيد والطيور ليس هو المعتدل بل بمنزلة التفكه، (وَلَكُمْ فيهَا جَمَالٌ): زينة، (حِينَ تُرِيحُون) تردّونها بالعشي من مراعيها إلى مراحها، (وَحِينَ تَسْرَحُون) حين تخرجونها إلى المراعي بالغداة وقدم الأول، لأن الزينة إذا أقبلت ملأى البطون ممتلئة الضروع أظهر، (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ) أحمالكم، (إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ) إن لم تكن الأنعام، (إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ) بكلفة ومشقة، (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ) عطف على الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم،

(10)

(وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) عطف على محل لتركبوها أو تقديره ولتتزينوا بها زينة، (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أي: ويخلق لكم ما لم يحط به علمكم، (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أوجب على نفسه بفضله ولطفه بيان مستقيم الطريق أو معناه طريق الحق على الله تعالي يصل إليه لا محالة من يسلكه والمراد بالسبيل الجنس، (وَمِنْهَا) أي: وبعض السبيل، (جَائِرٌ) مائل عن الحق، (وَلَوْ شَاءَ) هدايتكم، (لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) إلى قصد السبيل. * * * (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) * * * (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) من جانبه أو من السحاب، (مَاءً لكُم مِّنْه شرابٌ) ما تشربونه ومياه العيون والآبار مما أنزل من السماء، (وَمِنهُ شَجَرٌ فيهِ) أى: في الشجر (تُسِيمُونَ) ترعون أنعامكم والمراد من الشجر الجنس الذي ترعاه المواشي، وقيل هو كل نبت من الأرض، (ينبِتُ لَكُم بِهِ) أي: بسبب الماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) أي: بعض كلها لأن ما يمكن من الثمار لم ينبت في الأرض كله، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ

يَتَفَكَّرُونَ) على وجوده وكمال قدرته ووحدته، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) أي: هيأها لمنافعكم حال كون الكل مسخرات تحت قدرة الله تعالى وسلطانه، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإن من له عقل يفهم أنواع دلالاتها ولا يحتاج إلى إمعان نظر كأحوال النبات (وَمَا ذَرَأَ لَكُم) عطف على الليل، (فِي الأَرْضِ) من الحيوانات والجمادات، (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) أشكاله، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فإن اختلاف أشكالها دال على حكمته وقدرته، (وهُوَ الذِي سَخَّرَ البَحْرَ) جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به، (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) أي: السمك، (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَة) كاللؤلؤ والمرجان، (تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ) المخر شق الماء بصدرها أو صوت جري الفلك بالرياح، (فيه وَلِتَبْتَعوا مِن فَضْلِهِ) سعة رزقه أي: سخر البحر للأكل والاستخراج والتجارة للربح، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه وإحسانه، (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) جبالاً ثوابت، (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميل بكم وتضطرب فإنه لما خلق الأرض كانت تتحرك فقالت

الملائكة: ما هي بمقر أحد فأصبحت الملائكة وقد خلقت الجبال ولم تدر الملائكة مم خلقت، (وَأَنْهَارًا) أي: وجعل فيها أنهارًا لأن في ألقى معنى الجعل، (وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم، (وَعَلامَاتٍ) كالجبال والتلال والوهاد وغيرها فإنها علامات للطرق، (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) أي: بجنس النجم خصوصًا لقريش خصوصًا يهتدون في البراري والبحار فإن لقريش بذلك علمًا لم يكن مثله لقوم غيرهم فالشكر عليهم أوجب، (أَفَمَن يَخْلُقُ) وهو الله سبحانه، (كَمَن لَا يَخْلُقُ) وهو كل معبود من دون الله تعالى وغلب جانب أولي العلم فجاء بمن أو المراد الأصنام وجعلها من أولي العلم بزعمهم أو للمشاكلة وحق الكلام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق وعكس للتنبيه على أنَّهم جعلوا الله بالإشراك من جنس المخلوقات العجزة شبيهًا بها، (أَفَلاَ تَذَكرُونَ) فتعرفوا فساد ذلك، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا) لا تضبطوا عددها لكثرتها فكيف تطيقون القيام بشكرها، (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رحيمٌ) حيث لا يعاقبكم بتقصير في شكرها ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) من عقائدكم وأعمالكم، (وَالَّذِينَ) أي: والآلهة الذين، (يَدْعُونَ) أي: يعبدونهم، (مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا) فكيف تجوزون شركتهم مع الله الخالق لا سيما، (وَهُمْ يُخْلَقُون) بخلق الله أو بخلقهم الناس بالنحت والتصوير، (أَمْوَاتٌ) أي: هم أموات لا أرواح لهم، (غيرُ أَحْيَاءٍ) في وقت من الأوقات لا يعقب موته حياة فهم أغرق في الموت من النطف أيضًا،

(22)

(وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) لا يعرفون وقت بعثهم فإن الأصنام تبعث فتتبرأ من عبادتها وقيل: ضمير يبعثون إلى عبدتهم يعني هم جهلاء فلا يستحقون الإلهية. * * * (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) * * * (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) بعد ذكر حجج وحدانيته أخبر بالنتيجة، (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) لا يتأملون في الحجج وإن كانت واضحات ويستكبرون عن اتباع الرسل بخلاف من يؤمن بالآخرة فإنه طالبٌ الدلائل متبع للحق، (لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) فيجازيهم وهو في موضع الرفع بمحذوف أي: حق أن الله تعالى يعلم سرهم وعلانيتهم حقًّا، (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الُمسْتَكْبِرِينَ) لا يثيبهم، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) السائل الحاجُّ يسألون هؤلاء المكذبين، (قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي: بها يدعي نزوله مأخوذ من الكتب المتقدمة ليس بمنزل من الله تعالى، (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هي لام العاقبة فإن قولهم هذا أدَّاهم إلى حمل أوزار ضلالهم كاملة لم يكفر منها شيء بمصيبة أصابتهم في الدنيا لكفرهم، (وَمِنْ أَوْزارِ) أي: ليحملوا أوزار أنفسهم وبعض أوزار، (الذِينَ يُضِلونَهُم) يعني خطيئة إغوائهم لغيرهم، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من مفعول يضلون أو من فاعله، (أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُون) أي: بئس شيئًا يزرونه صنيعهم. * * *

(26)

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (34) * * * (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ من قَبْلِهِمْ) ليهدموا ما أسس الله تعالى من بنيان دينه، (فأَتَى اللهُ) أي: أَمْرُ الله تعالى (بنْيَانَهُم منَ القَوَاعِدِ) أي: من جهة أساطين ما بنوا عليه وخُربت من أصله وأُسّه، (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وصار سبب هلاكهم، (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) لا يتوقعون وهذا على سبيل

التمثيل وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد به نمرود حين بنى الصرح ليصعد إلى السماء فهبت الريح وألقت رأسها في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته وكان طولها خمسة آلاف ذراع، (ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) يذلهم، (وَيَقُولُ) الله تعالي تقريعًا وتوبيخًا، (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) في زعمكم ليدفعوا العذاب عنكم، (الذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ): تحاربون، (فِيهِمْ) في سبيلهم، (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ) هم السادة في الدارين إظهارًا للشماتة وزيادة للإهانة، (إِن الخِزْيَ اليَوْمَ وَالسُّوءَ) العذاب، (عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفاهُمُ المَلاِئكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) حال من مفعول تتوفى، (فأَلْقَوُا السَّلَمَ) سالموا وانقادوا عند الموت قائلين: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ) كفر وعدوان، (بَلَى) أي: فقالت الملائكة بلى، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم، (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) أي: كل صنف بابها المعد له، (خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى): منزل، (المُتَكَبِّرِينَ) عن عبادة الله جهنمُ.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ ربُّكُمْ قَالُوا) أنزل، (خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنوا) مكافأة، (فِي هَذِهِ) الحياة، (الدُّنْيَا حَسَنةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لهم، (وَلَنِعْمَ دَارُ الُمتَّقِينَ) دار الآخرة، (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر مبتدأ محذوف أو مخصوص بالمدح أو بدل من دار المتقين، (يَدْخلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنهَار لَهمْ فيهَا مَا يَشَاءونَ) كلُّ ما يشتهون يجدون فيها لا في الدنيا، (كَذَلِكَ) مثل هذا الجزاء، (يَجْزِي اللهُ المتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفاهُمُ المَلاِئكَةُ طَيِّبِينَ) طاهرين من الشرك وقيل: فرحين (يَقُولُونَ) أي: الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُم) لا يلحقكم بعد مكروه وقيل: يبلغونهم سلام الله تعالى، (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) المعدة لكم حين تبعثون ويمكن أن يكون المراد دخول أرواحهم الجنة قبل البعث كما في الحديث، (بِمَا كنتمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنظُرُونَ) أي: هل ينتظر الكفرة، (إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ المَلاِئكَةُ)، لقبض أرواحهم، (أَوْ يَأْتِيَ أَمْر ربِّكَ)، العذاب والهلاك أو القيامة يعني ما لهم إما أن يموتوا حتف أنفهم أو يقتلوا فكأنهم لا ينتظرون إلا فردًا من هذين لكن المؤمنون ينتظرون أنواع رحمة الله تعالى بعد الموت، (كَذَلِكَ) أي: مثل فعلهم من التكذيب، (فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتعذيبهم، (وَلَكِن كَانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون) فاستحقوا به عذاب الله تعالى

(35)

(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي: وبال سيئات عملهم، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِم) جزآء، (مَّا كَانوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ). * * * (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) * * * (وَقَالَ الَّذِينَ أَشركُوا لَوْ شَاءَ اللهُ) أن لا نعبد غيره، (مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شيْءٍ نحْنُ) أي: ما عبدنا نحن، (وَلاَ آباؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شيْء) أي: البحيرة والسائبة وغيرهما ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا ولما مكننا منه وقيل: إنما قالوا استهزاء، (كذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) من الشرك وتحريم الحلال ورد الرسل، (فَهَلْ عَلَى الرسُلِ إِلا البَلاغُ الُمبِينُ) أي: ليس الأمر

كما زعمتم من عدم الكره كيف وقد أنكرنا عليكم أشد الإنكار بلسان رسلنا وإنما عليهم التبليغ لا الإهداء، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَّسُولاً أَن اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطاغُوتَ) أي: بعثناهم بذلك الأمر فكيف يتمسكونَ بمشيئته؟! (فَمنهُم منْ هَدَى اللهُ) فلا يشرك ولا يحرم حلاله، (وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ) وجبت، (عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) إذا يوفقهم ولم يهدهم فالله تعالى عنهم غير راض؛ بل أراد شقاوتهم، (فَسيرُوا) يا معشر قريش، (فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْف كَانَ عَاقبَة المُكَذِّبِينَ) حتى تعرفوا أنهم في سخط من الله تعالى، (إِن تَحْرصْ) يا محمد، (عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) من أراد الله تعالى إضلاله ولا يغير إرادته القديمة بحرصك على هدايتهم، (وَمَا لَهُم مِّن ناصِرِينَ) ينصرونهم وينجونهم من عذابه عطف على إن الله أي: إن تحرص على هدايتهم فلا فائدة فيه، لأن الله لا يهديهم وليس لهم ناصر فمجموع المعطوف والمعطوف عليه علة للجزاء قائمة مقامه. (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) غلظوا في الحلف، (لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى) يبعثهم، (وَعْدًا)، مصدر مؤكد لنفسه فإن بلي دال على وعد الله تعالى

(41)

بعثهم، (عليهِ) إنجازه لامتناع خلف وعد (حَقًّا) صفة أخرى لوعدًا، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنَّهم يبعثون، (لِيُبَيِّنَ) أي: يبعثهم ديبين، (لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) الضمير لمن يموت والمختلف فيه هو الحق، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ) في إقسامهم لا يبعث الله من يموت، (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) أي: احدث، (فَيَكُونُ) فيحدث وهو بيان سهولة الأشياء له حتى يعلم أن البعث لا يتعسر على الله بوجه. * * * (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لله وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) * * * (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ) أي: في رضاه وحقه، (مِن بَعْدِ مَا ظُلموا)، عذبوا وأوذوا والمراد المهاجرون إلى الحبشة وغيرها كعثمان بن عفان رضي الله عنه - وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - وغيرهما، (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا) تبوئة، (حَسَنَةً) وهى أن مكنهم الله تعالى في البلاد وحكمهم على رقاب العباد فصاروا أمراء حكامًا وللمتقين إمامًا أو مباءة حسنة وهي المدينة، (وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) مما أعطى لهم في الدنيا، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) قيل الضمير للكفار فإن المؤمنين يعلمون، (الذينَ صَبَرُوا) منصوب أو مرفوع على المدح، (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا) لا ملائكة رد على من قال: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، (نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الكتاب ليخبروكم أنَّهم بشر لا ملائكة، (إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ) كأنه جواب قائل: بم أرسلوا؟ فقال: أرسلناهم بالمعجزات والكتب وقيل صفة رجالاً، وقيل: متعلق بما

أرسلنا، وقيل: بما تعلمون أو بـ نوحي، (وَأَنزَلنا إِلَيْكَ): يا محمد، (الذِّكْرَ):، القرآن، (لِتبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يعني لتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك عليه، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيما أنزلنا إليك فيهتدون، (أَفأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) المكرات، (السَّيِّئَاتِ) كأهل مكة، (أَنْ يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأَرْضَ) كما خسف بقارون، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) لا يعلمون مجيئه إليهم، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ): في المعايش واشتغالهم بما من أسفار ونحوها من الأشغال الملهية، أو تقلبهم في الليل والنهار، (فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ) الله، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) أي: في حال خوفهم من أخذه لا بغتة أو على تنقص بأن يأخذ شيئًا بعد شيء حتى يستأصلوا، (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) حيث لا يعاجلكم بعقوبته، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ الله) ما موصولة مبهمة، (مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ) بيانه أي: يميل ويدور، (عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) جمع الشمال باعتبار كل حتى ما خلق الله تعالى، (سُجَّدًا لله) حال من الظلال كل شيء له ظل يسجد ظله لله تعالى ولا يبعد ذلك عن قدرة الله تعالى أو

سجودها انقيادها لما قدر له من التفيؤ، أو حال من ضمير ظلاله قال كثير من السلف: إذا زالت الشمس سجد كل شىء لله تعالى، (وَهُمْ دَاخِرُونَ): صاغرون حال من ضمير ظلاله لأنه في معنى الجمع وجمعه بالواو والنون للتغليب، أو لأن الدخور والسجود من أوصاف العقلاء واليمين يمين الفلك أي: الجانب الشرقي والشمال الجانب الغربي أو المراد من اليمين والشمائل جانبا كل شيء استعارة من يمين الإنسان وشماله، (وَلله يَسْجُدُ): ينقاد، (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ) والدبيب هي الحركة الجسمانية فجاز أن يكون بيانًا لما في السماوات أيضًا (وَالْمَلائكَةُ) عطف على ما في السماوات عطف خاص على عام فإن في السماوات غير الملائكة من الأرواح، (وَهُمْ لاَ يَسْتكبرُون) عن عبادته، (يَخَافُونَ رَبَّهُم) حال أو بيان أو تأكيد لنفي الاستكبار، (مِن

فَوْقِهِمْ) أي: حال كون الرب قاهرًا عاليًا لهم، وهو القاهر فوق عباده، أو

(51)

معناه يخافون من فوقهم، أي: أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم، وقيل: أي يخافون والحال أن الملائكة من فوق ما في الأرض من الدواب فمن دونهم أحق بالخوف، (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). * * * (وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لله الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلله الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) * * * (وَقَالَ اللهُ لاَ تَتخِدوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) فإن الاثنينية تنافي الإلهية، (إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِدٌ) فإن الوحدة من لوازم الإلهية، (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) كأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد فإياى فارهبون لا غيرى، (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ) أي: الطاعة، (وَاصِبًا) دائمًا فإن طاعة غير الله تنقطع، (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) مع أنه ْ

تعالى خالق الأشياء وحده، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) ما شرطية، أي: أي شيء اتصل بكم من النعم فهو من الله تعالى، (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) إليه لا إلى غيره تتضرعون، (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) وهم الكفار، (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) من النعم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعم واللام لام العاقبة، (فَتَمَتَّعُوا) أمر وتهديد، (فسَوْفَ تَعْلَمُونَ): عاقبة أمركم، (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُون) أي: لأصنامهم التي لا علم لهن فضمير الجمع لما، (نَصيبًا مِّمَّا رَزَقناهُمْ)، كما مر (هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) [الأنعام: 136]، (تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ) سؤال توبيخ، (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من إثبات الشريك وغيره، (وَيجْعَلُونَ لله البَنَات): يقولون: الملائكة بنات الله تعالى، (سُبْحَانَهُ) تنزيه له من قولهم، (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) أي: البنون والجملة مبتدأ وخبر، أو تقديره يجعلون لهم ما يشتهون، أي: يختارون لأنفسهم البنين، (وَإِذا بُشِّرَ): أخبر، (أَحَدُهُم بِالأُنْثَى) بولادتها، (ظَلَّ) صار، (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) من الكآبة وهو كناية عن شدة الغم، (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوٌ غمًّا وغيظًا، (يتوَارَى): يستخفي، (مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ) الضمير لما ولفظه مذكر، أي: متفكرًا في أن يتركه، (عَلَى هُونٍ): على ذل، (أَمْ يَدُسُّهُ): يخفيه، (في التُّرَابِ) فإنهم كانوا يدفنون البنات أحياء، (أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) حيث يجعلون لمن تنزه عن الولد أخس الولد عندهم، (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ): صفة النقص،

(61)

وَلله الْمَثَلُ الْأَعْلَى) الكمال المطلق والنزاهة عن صفات الخلائق، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): المتفرد بكمال الغلبة والحكمة التامة. * * * (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لله مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) * * * (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم) بما كسبوا من المعاصي، (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا) الضمير للأرض لدلالة الدابة عليها، (مِن دَابَّةٍ) وعن بعض السلف كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم، وعن بعضهم معنى من دابة: من مشرك يدب على

الأرض فإنه لو أهلك الآباء الكفرة لم تكن الأبناء، (وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى) انقضاء عمرهم المقدر فيتوالدون، (فَاِذَا جَاءَ أَجَلُهم) أي: وقته، (لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) أي: لا يمهلون لحظة، (وَيَجْعَلُونَ لله مَا يَكْرَهُونَ) أي: ما يكرهون لأنفسهم من البنات والشريك في الرياسة والأموال، (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ) فسر الكذب بقوله: (أَنَّ لَهُمُ الحُسْنَى) كما قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) [فصلت: 55]، (لاَ جَرَمَ) أي: ليس الأمر كما زُعم كسب قولُهم هذا، (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) مقدمون إلى النار من الفرط وهو السابق إلى الماء أو منسيون من أفرطت فلانًا خلفي إذا نسيته ومن قرأ بكسر الراء فهو من الإفراط بالمعاصي، (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا): رسلاً، (إِلَى أُمَمٍ من قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) فأصروا على ما هم عليه ولم يتبعوا رسلنا فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة، (فهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ) أي: الشيطان ناصرهم الآن وهم تحت نكاله ومن هو ناصره فالويل عليه، وقيل: المراد من اليوم يوم القيامة، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ): للناس، (الذِي اخْتَلَفُوا فيهِ): من أمر الآخرة، (وَهُدًى وَرَحْمَةً) معطوفان على

(66)

محل لِتُبَيِّنَ ولا يجوز أن يقال إلا تبيينًا لأنه فعل المخاطب لا المنزل بخلاف الهداية والرحمة، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لا لمن هو أصم فيتدبر في دلالته على البعثة المختلف فيها. * * * (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) * * * (وَإِن لَكمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) دلالة على كمال قدرته، (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ): لما كان الأنعام اسم جمع وحد ضميره ومن قال: جمع نَعَم فالضمير للبعض

فإن اللبن لبعضها أو من للتبعيض، (مِن بَيْنِ فَرْثٍ) هو ما في الكرش من الثفل ومن للابتداء، (وَدَمٍ لبَنًا خَالِصًا): صافيًا ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث، (سَائِغاً لِّلشَّارِبِينَ) هنيئًا يجري على السهولة في حلوقهم، (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعنابِ) متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمراتهما يعني عصيرهما، (تَتَّخِذونَ) استئناف لبيان الإسقاء، (مِنه سَكَرًا) وهو الخمر والآية قبل تحريمه وتذكير الضمير لأنه يرجع إلى المضاف المقدر أعني العصير قيل من ثمرات متعلق بـ تتخذون ومنه تكرير التأكيد، وقيل: تقديره ومن ثمراتهما ثمر تتخذون منه فتتخذون صفة لمبتدأ محذوف، (وَرِزْقًا حَسَنًا) كالخل والدبس، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم قيل: ناسب ذكر العقل ها هنا فإنه أشرف ما في الإنسان ولهذا حرم السكر صيانة لعقولهم، (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ألهمها وأرشدها، (أَنِ اتَّخِذِي) أي: بأن اتخذي أو أن مفسرة للوحي وتأنيث الضمير لأن المراد منه الجمع، (مِنَ الجبالِ بُيُوتًا) تأوي إليها، (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ضمير الجمع للناس يعني أرشدنا النحل باتخاذ المسكن لأنفسها من الجبال والأشجار ومما يبنون لها في أي موضع كان أو منهما ومن البيوت فإنه قد يكون بيوت الناس مسكنه، (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) التي تشتهينها، (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) في الجبال والبراري والأودية في ذهابك إلى رعيك وإيابك إلى بيتك، (ذُلُلًا) حال كون السبل مُذَلَّلَة سهلها لك أو اسلكي أنت حال كونك ذُلُلًا منقادة لما أمرتك به، (يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ) هو

حال كونك ذُلُلًا منقادة لما أمرتك به، (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شرًابٌ) هو العسل، (مخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) أبيض وأصفر وأحمر وأسود، (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) في الحديث: (عليكم بالشفائين العسل والقرآن) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في صنع الله وإحكام أمره، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أخسه وهو الهرم وعن علي - رضي الله عنه - أنه خمس وسبعون سنة ففيه ضعف القوى وسوء الحفظ وقلة العلم، (لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا): ليصير إلى حالة شبيهة بالطفولية في أكثر الأشياء، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بما يصنع، (قَدِيرٌ) على ما يريد. * * *

(71)

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لله الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) * * * (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) بسط على واحد وضيق على آخر، (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا): في الرزق، (بِرَادِّي): بمعطي، (رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) أي: مماليكهم، (فَهمْ فيه سَوَاءٌ): فيستوون في الرزق عن ابن عباس رضي الله عنه - وغيره يقول الله تعالى: " لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟! " فهو رد وإنكار على المشركين حيث لا يرضون أن يكون حيوانًا مثلهم شريكًا لهم ويقولون مخلوقات الله شركاؤه في

ألوهيته تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، (أَفبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُون) حيث يتخذون معه شركاء والباء لتضمين الجحود معنى الكفر، وقيل: معناه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهو بشر مثلكم فكان ينبغي أن تَرُدوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في المطعم والملبس ثم جعل عدم ردهم إلى المماليك من جملة جحود النعمة، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم منْ أَنفُسِكُمْ) أي: من جنسكم، وقيل: المراد خلق حواء من آدم، (أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنينَ وَحَفَدَةً) أولاد الأولاد، أو بني امرأة الرجل أي: الربائب أو الخدم فعلى هذا تكون عطفًا على أزواجًا لا على بنين أو البنات أو الأختان أي: الأصهار والحفد في اللغة الخدمة، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) اللذائذ، (أَفَبِالْبَاطِلِ): الأصنام، (يؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث يضيفونها إلى غيره، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): لا المطر ولا النبات والثمار، (شَيْئًا) بدل من رزقًا أي: لا قليلاً ولا كثيرًا وإن جعلت رزقًا مصدرًا فمفعوله أي: لا يملك أن يرزق شيئًا، (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) أي: لا يستطيع تلك الآلهة أن يتملكوه أو لا استطاعة لهم أصلاً، (فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمثالَ): لا تشبهوه بخلقه فإن ضرب المثل تشبيه ذات

بذات أو وصف بوصف وتعالى عن ذلك، (إِنْ الله يَعْلَمُ) خطأ ما تضربون، (وَأَنتم لاَ تَعْلَمُونَ) قيل: معناه لا تضربوا لله المثل فإنه يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ثم علمهم كيف تضرب فقال: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكاً) لا عبدًا حرًا، (لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ) هو تمثيل للكافر والمؤمن فالكافر رزقه الله مالًا فلم يقدم فيه خيرًا فهو كالعبد لا يملك شيئًا وإن كان هو متصرفًا فيه، والمؤمن أعطاه الله مالاً فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه فِي رضاه سرًّا وجهرا فهو كالحر يتصرف في ماله ولا يسلب عنه أبدًا، أو مَثَّل الصنم بالمملوك العاجز ومثَّل نفسه الأقدس بالحر المالك الذي رزقه الله مالاً يتصرف فيه كيف يشاء فالتسوية بينهما مع الاشتراك في النوعية ممتنعة فكيف بالقادر الغني المطلق والصنم العاجز على الإطلاق؟! وجمع الضمير في يستوون، لأن معناه هل يستوي الأحرار والعبيد؟! (الحَمْدُ لله) كل الحمد له لأنه وحده مُولي النعم كلها، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون)، أنه وحده مُولي النعم فيعبدون غيره، (وَضَرَبَ اللهُ مَثلاً رَّجُلَيْنِ) أي: جعل رجلين مثلاً، (أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ): ولد أخرس، (لاَ يَقْدِرُ عَلَى شيْءٍ) من الصنائع لنقصان جسده وعقله، (وَهُوَ كَلٌّ)

(77)

ثقل، (عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ) حيثما يرسله سيده في أمر، (لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ) لا يَكْفِ مُهمَّ مُرْسِلِهِ، (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، فَهِمٌ منطيق ذو رشد ينفع الناس أحسن نفع، (وَهُوَ) في نفسه، (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ): مسيرة صالحة لا يرجى منه شيء إلا وهو يأتي بأمثل منه فالأول: هو الأصنام لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل ومع ذلك كلفة إلى عابدها تحتاج إلى أن يخدمها، والثاني: هو الله القادر المتكلم النافع الصمد المستغني مطلقًا المحتاج إليه ما عداه، أو مثل للكافر والمؤمن وقد نقل أن الأول في عبد رجل من قريش والثاني في عثمان بن عفان والأبكم الذي هو مولاه ينفق عليه عثمان وهو يكره الإسلام ويأباه. * * * (وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) * * * (وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) يختص به علم ما غاب عن العباد، (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ) قيام القيامة في السرعة والسهولة، (إِلا كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أو أمرها أقرب منه بأن يكون في أقل من ذاك الزمان وأو للتخيير أو بمعنى بل، (إِنْ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) فيقدر على إعادة الخلائق دفعة. (وَاللهُ أَخْرَجَكُم) دليل على كمال قدرته، (مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) حال كونكم، (لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ) أنشأ، (لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ) التي هي سبب معرفتكم الجزئية والكلية، (لَعَلَّكُمْ تشكُرُون) هذه النعم فلا تعبدون غير موليها، (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ) مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، (فِي جَوِّ السَّمَاءِ) الجو الهواء المتباعد من الأرض، أي: في هواء العلو، (مَا يُمْسِكُهُنَّ) فيه، (إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والآيات خلق الطير بهيئة يمكن معها الطيران وخلق الجو بحيث يمكن فيه الطيران وإمساكها في الهواء مع ثقل جثة الطير ولا ينتفع بها إلا كل مؤمن، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُم

سَكَنًا): موضعًا تسكنونها كالبيوت الحجرية والمدرية والسكن بمعنى المسكون، أي: ما يسكن إليه بأن خلق الآلات ثم علمكم الترصيف، (وَجَعَلَ لَكم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بيوتًا) هي القباب المتخذة من الأدم والأنطاع، (تَسْتَخِفُّونَهَا) تجدونها خفيفة، (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) ترحالكم في سفركم، (وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ): وقت حضركم أو نزولكم، (وَمِنْ أَصْوَافِهَا): هي للضأن، (وَأَوبارِهَا): هي للإبل، (وَأَشْعَارِهَا) هى للمعز، (أَثَاثاً) من الفرش والأكسية وغيرهما، (وَمتاعًا) ما يتمتعون به، (إلَى حِينٍ) مدة متطاولة أو إلى أجل معلوم، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً) تستظلون بها من الحر كالأشجار وغيرها، (وَجَعَلَ لَكل مِّنَ الجِبَالِ أَكنانًا) جمع كِنّ وهو ما يستكن به من الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال والحصون، (وَجَعَلَ لَكُلْ سَرَابيلَ) القمصان والثياب، (تقيكُمُ الحَرَّ) والبرد واكتفى بأحد الضدين عن الآخر أو خصه بالذكر، لأن الحجاز بلاد الحر، (وَسَرَابيلَ) لباس الحرب كالدروع، (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) تمنعكم الطعن والقطع والرمي، (كَذَلِكَ) مثل تمام هذه النعم التي مر ذكرها، (يتمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) لتستعينوا بها على الطاعة، (لَعَلَّكمْ تُسْلِمُون): تنظرون في نعمه فتؤمنون به أو تنقادون لحكمه وعن عطاء إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب هم أصحاب جبال وأوبار وأشعار ألا ترى إلى قوله: " سرابيل

(84)

تقيكم الحر " وما يقي من البرد أعظم لكنهم أصحاب حر، (فَإِنْ تَوَلَّوْا): أعرضوا عن قبول كلامك، (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ) لا يضرك إعراضهم، (يعْرِفُونَ) أى: المشركون، (نِعْمَتَ اللهِ) وأن كلها من الله، (ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) بعبادتهم غيره ويقولون: إنَّهَا بشفاعة آلهتنا، (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ): الجاحدون عنادًا وذكر الأكثر؛ لأن بعضهم لنقصان عقلهم لم يعرفوا أنها من الله أو الأكثر بمعنى الجميع، وعن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قرأ على أعرابي أتاه: (والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا) قال الأعرابي: نعم " وجعل لكم من جلود الأنعام " إلى آخر النعم فقال: نعم، فلما بلغ " كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون " ولى الأعرابي، فأنزل الله " يعرفون نعمة الله " إلى " وأكثرهم الكافرون ". * * * (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) * * * (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) أي: اذكر هول هذا اليوم، (مِن كلِّ أُمَّةٍ شهِيدًا) يعني رسولها يشهد لهم وعليهم، (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار لأنه لا عذر لهم، (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا هم يسترضون أي: لا يكلفون بإرضاء ربِّهم لأن الآخرة ليست بدار عمل، (وَإذَا رأَى الذِينَ ظَلَمُوا العَذَابَ): عذاب جهنم عطف على " يوم نبعث "، (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ): يمهلون، (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ) أوثانهم التي جعلوها شركاء لله، (قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو)، نعبدهم، (مِنْ دُونِكَ) كأن هذا القول منهم التماس بأن يشاركهم في عذابهم، (فأَلْقَوْا) آلهتهم، (إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) أي: أجابوهم بالتكذيب وقالوا: لسنا شركاء الله وما دعوناكم إلى عبادتنا بل عبدتم أهواءكم وليس ببعيد إنطاق الله الأصنام، (وَأَلْقَوْا): الكفار، (إِلَى اللهِ يَوْمَئِد السَّلَمَ) استلموا لحكمه، (وَضَل) ضاع وبطل، (عنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من شفاعة آلهتهم ونصرتها، (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا): الناس، (عَن سَبِيلِ اللهِ) عن

(90)

دخوله في الإسلام، (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ): بسبب إفسادهم فإنهم ضالون مضلون، (وَيَوْمَ نبْعَثُ) أي: اذكر هذا اليوم وهوله، (فِي كُلِّ أُمَّةٍ شهِيدًا عَلَيْهِم منْ أَنفُسِهِمْ) نبي كل أمة بعث من قومه، (وَجِئْنَا بِكَ): يا محمد، (شهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ): على أمتك، (وَنَزَّلنا) حال بإضمار قد، (عَلَيك الْكِتَابَ تِبْيَانًا): بيانًا بليغًا، (لِّكُلِّ شَيءٍ) يحتاجون إليه من أمور الدين، (وَهُدًى): من الضلال، (وَرَحْمَةً): للجميع، (وبُشْرَى) وبشارة، (للمُسْلِمِينَ) خاصة وحاصله أن الله أمره أن يخوف أمته بيوم شهادته - عليه الصلاة والسلام - على أمته حال كونه مسئولاً عن تبليغ أحكام الله المبينة في القرآن والأمة عن قبولها كما قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) " [الأعراف: 6]، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)) [الحجر: 92]. * * * (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ

إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) * * * (إِنَّ الله يَأمُرُ بِالْعَدْلِ)، بالتوسط في الأمور اعتقادًا وعملاً (وَالإِحْسَانِ): إلى الناس وعن ابن عباس العدل التوحيد، والإحسان الإخلاص فيه، (وَإِيتاءِ ذي القُرْبَى): صلة الرحم، (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ): ما غلظ من المعاصي كالزنا، (وَالْمُنكَرِ) وما تنكره الشريعة، (وَالْبَغْيِ): العدوان على الناس، (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَذَكَّرُونَ): تتعظون ولله در من قال: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة ولعل إيرادها عقيب قوله: " ونزلنا عليك الكتاب " للتنبيه عديه، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) البيعة التي بايعتم على الإسلام أو كل عهد وميتاق، (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) أي: أيمان البيعة بعد توكيدها بذكر الله أو الأيمان مطلقًا (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا): شاهدًا بتدك البيعة والواو للحال، (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) تهديدًا لمن نقض الأيمان، (وَلَا تَكُونُوا): في نقض الأيمان، (كَالَّتِي نَقَضَتْ): أفسدت، (غَزْلَهَا) مصدر بمعنى المفعول، أي: ما غزلته، (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي: نقضت بعد إحكامه وفتله، (أَنْكَاثًا) جمع نكث وهو ما ينكث فتله ثاني مفعولي نقضت بتضمين معنى الجعل أو بأنه بمعنى صيرت، أو مفعول مطلق لـ نقضت وهو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده وقد نقل أن في مكة كانت امرأة حمقاء تفعل ذلك، (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ) حال من اسم كان، (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي: مفسدة ودغلاً، وهو ثاني مفعولي تتخذون، (أَن تَكُونَ) أي: بسبب أن تكون، (أُمَّةٌ): جماعة، (هِيَ أَرْبَى) أكثر عددًا وعُددًا، (مِنْ أُمَّةٍ) من جماعة أخرى كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر وأعز منهم فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون، الأكثرين، (إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) يختبركم الله بكونهم أربى لينظر أنكم متمسكون بحبل الوفاء أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين

وفقرهم أو ضمير به راجع إلى الأمر بالوفاء، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكمْ يَوْمَ القِيامَةِ مَا كُنتمْ فيهِ تَخْتَلِفُونَ): في الدنيا فيجازي كلٌ بعمله، (وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): متفقة الكلمة والدين، (وَلَكِن يُّضِل مَن يَشَاءُ) عدلاً منه، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ): فضلاً منه، (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): يوم القيامة بنقير وقطمير ويجازيكم، (وَلاَ تَتَّخِذوا أَيْمَانَكُمْ) صرح بالنهي بعد النهي مبالغة، (دَخَلاً بَيْنَكمْ): مكرًا وخديعة، (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن محجة الإسلام، (بَعْدَ ثُبُوتِهَا): عليها، (وَتَذُوقُوا السُّوءَ): العذاب في الدنيا، (بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ) أي: بسبب صدكم غيركم عنه فإن الكافر إذا رأى المؤمن قد غدر لم يبق له وثوق بالدين فانصد عن الإسلام، أو لأن من نقض البيعة جعل ذلك سنة لغيره، أو يصدودكم عن الوفاء، (وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ): في الآخرة، (وَلاَ تَشْتَروا): لا تستبدلوا، (بِعَهْدِ اللهِ): بيعة رسوله، (ثَمَنًّا قَلِيلاً): عرضًا يسيرًا من الدنيا، (إِنَّمَا عِندَ اللهِ): من الثواب على الوفاء، (هوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كنتمْ تَعْلَمُونَ) أي: من أهل العلم والتمييز، (مَا عِندَكُمْ): من أمتعة الدنيا، (يَنفَدُ): ينقضي، (وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ): دائم لا ينقطع، (ولَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا): على الوفاء أو على أذى الكفار، (أَجْرَهم) ثاني مفعولي نجزين فإنه بمعنى نعطين، (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بجزاء أحسن من أعمالهم، قيل معناه: نجزيهم بما ترجح فعله من أعمالهم وهو الواجب

(101)

والمندوب، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً): نرزقه رزقًا حلالاً وقناعة وحلاوة طاعة وانشراح صدر، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ): ولنعطينهم، (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فإذَا قَرَأتَ القُرْآنَ) أردت قراءته، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ): سل الله أن يعيذك من وساوسه وهو أمر ندب، (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ): تسلط، (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ): تسلطه، (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ): يحبونه ويطيعونه، (وَالَّذِينَ هُم به): بالله أو بسبب الشيطان، (مُشْرِكُونَ). * * * (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) * * * (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ): رفعناها وأنزلنا غيرها لمصالح، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ): أعلم بمصالح عباده في التبديل والنسخ، (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، أي: قالت الكفرة وهو جواب إذا وما بينهما اعتراض أو حال، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ): جبريل عليه السلام، (مِن رَبِّكَ بِالْحَقِّ) متلبسًا بالحكمة، (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمنوا) على إيمانهم حين تأملوا وفهموا مصالح النسخ، (وَهُدًى وبشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) معطوفان على محل (لِيُثَبِّتَ) أي: تثبيتًا وهدايةً وبشارةً، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، كان غلام لبعض بطون قريش، وكان بيَّاعًا فربما كان - صلى الله عليه وسلم - يجلس إليه ويكلمه ولسانه أعجمي لا يعرف من العربي إلا قدر ما يرد الجواب فقال المشركون: هو الذي يعلمه القرآن، وقد نقل أن كاتب وحيه الذي ارتد افترى هذه المقالة، (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ): لغة الرجل

الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة، (إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا): القرآن، (لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ذو بيان وفصاحة فكيف يعلمه من لا يعرفه؟! (إِن الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ): إلى الحق فيتفوهون بكلمات هي أضحوكة لمن يسمع (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، (إِنَّمَا يَفْتَري الكَذِبَ): بالله، (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ): فلا يخافون عقابه، (وأُولَئِكَ): المفترون بهذا الافتراء، (هُمُ الْكَاذِبُونَ): الكاملون في الكذب، فإن الطعن بمثل هذه الخرافات أعظم الكذب، (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ)، (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على كلمة الكفر استثناء متصل، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ): لم يتغير عقيدته، (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا): طاب به نفسًا، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ منَ اللهِ) جزاءً لمن شرح، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) عن ابن عباس: إنَّهَا نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون ليرتد فوافقهم مكرهًا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرًا والإجماع على جواز كلمة الكفر عند الإكراه لكن الأفضل تركه وإن قتل، (ذلِك): الكافر بعد الإيمان أو غضب الله عليهم، (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ

(111)

الْكَافِرِينَ) أي: قومًا كفروا في علم الله وخلقهم على الكفر، (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ): ختم، (اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون الحق، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ): الكاملون في الغفلة، (لاَ جَرَمَ): حقًا، (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، إذ اشتروا برأس مالهم العذاب المخلد، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا) أي: ربك لهم لا عليهم وليهم وناصرهم وهم المستضعفون الذين كانوا بمكة ما تيسرت لهم الهجرة مع المهاجرين، (مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا) عذبوا وثم لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، (ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا) على المشاق للدين، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا) بعد الهجرة والجهاد والصبر، (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنوبهم ويرحمهم فينعم عليهم. * * * (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)

مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) * * * (يوْمَ) منصوب بـ غفور رحيم أو بتقدير اذكر، (تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) تحتج عن ذاتها وتسعي في خلاصها، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ)،: جزاء (مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون): بنقص أجورهم، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً) أي: جعلها مثلاً لمن أنعم الله عليه فكفر بالنعمة فأنزل الله عليه النقمة، (كَانَتْ آمِنَةً) أي: كـ مكة كانت ذات أمن، (مُطْمَئِنَّةً): مستقرة لا يزعج أهلها خوف، (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا): أقواتها، (رَغَدًا): واسعًا، (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): من نواحيها، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) قد جرت الإذاقة عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في الشدائد فيقولون ذاق فلان البؤس، واستعار اللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، ثم إن أهل مكة لما استعصوا فدعا عليه السلام عليهم بسبع كسبع يوسف أصابتهم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف، وأما الخوف فمن سطوة سرايا المؤمنين حتى فتح الله على أيديهم، (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ): بسبب صنيعهم، (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ): من نسبهم

وأصلهم، (فَكَذبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ) من الجوع والخوف والقتل، (وَهُم ظَالِمُونَ) أي: حال التبساهم بالظلم، (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أمرهم الله بأكل الحلال وشكر النعمة بعد أن هددهم وزجرهم عن الكفر، (حَلالاً طَيِّبًا) مفعول كلوا والظرف حال أو بالعكس، (وَاشْكرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِن كنتُمْ إِيَّاهُ تَعبدُونَ) إن كنتم تطيعون الله وحده، (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عدد عليهم ما حرم الله لا ما حرموا من عند أنفسهم من البحائر والسوائب وغيرهما بعد ما أمرهم بتناول ما أحل لهم وقد مر تفسيره مفصلاً في سورة البقرة، (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في كذبهم كأن الكذب مجهول وألسنتهم تعرفه وتصفه بكلامهم هذا كقولهم: وجهها يصف الجمال والكذب مفعول تصف وما مصدرية أي: لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب يعني: لا تحللوا ولا تحرموا بمجرد قول ينطق به ألسنتكم من غير حجة، أو نصب الكذب بـ لا تقولوا واللام في لما تصف كاللام في لا تقولوا لما أحل الله لك هذا حرام وقوله هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب أو متعلق بـ تصف على إرادة القول، أي: لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من الأنعام والحرث بالحل والحرمة فيقول هذا حلال وهذا حرام، (لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ) اللام لام العاقبة، (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ): لا ينجون من عذابه،

(120)

(مَتَاعٌ قَلِيلٌ) أي: ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة، (وَلَهُمْ): في الآخرة، (عَذَابٌ أَلِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ) في سورة الأنعام وهو: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام: 146] الآية، (مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ): بالتحريم، (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فاستحقوا التضييق عليهم وهذا إشارة إلى أن تحريم بعض الأشياء على المؤمنين لمضرة فيه وعناية في شأنهم وأما تحريم بعض الأشياء على اليهود فجزاء نكالهم وتضييق عليهم كما قال تعالى: " فبظلمٍ من الذين هادوا " الآية [النساء: 160]، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ) لا عليهم أي: لهم بالنصر والرحمة، (عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) أي: متلبسين بها أو بسببها، وعن بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل، (ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا)، حالهم، (إِذ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا) من بعد التوبة، (لَغَفُورٌ): كثير المغفرة، (رحِيمٌ): واسع الرحمة لهم فيثيبهم على أعمالهم وجاز أن يكون لغفور رحيم خبر إن الأولي وإن ربك من بعدها تكرير وتأكيد. * * * (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ * * *

فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) أي: مأمومًا مقصودًا يقصده الناس ليأخذوا منه الخير أو مؤتمًا به مقتدى فُعْلة بمعنى مفعول كرحلة ونخبة، أي: ما يرتحل إليه وما ينتخب أي يختار أو أمة لأنه وحده مؤمن والناس كلهم كفار، أو لكماله واستجماعه فضائل لا توجد إلا في أمة، (قَانِتًا): مطيعًا، (لله حَنِيفًا)، مائلاً عن الباطل، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الُمشْرِكِينَ) كما زعم قريش أنَّهم على ملة إبراهيم وهم مشركون، (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) لقلائل نعمه فكيف بالكثير، (اجْتَبَاهُ) للنبوة، (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) عبادة الله وحده، (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) هي كونه حبيب الخلائق

ومن أولاده الأنبياء، (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): جمعنا له خير الدارين ومن دعائه عليه السلام: (وألحقني بالصالحين) (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ): يا محمد، (أَنِ اتَّبِعْ) أي: بأن أو تفسيرية، (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وهذا أدل دليل على عظمته فإن مثل أفضل الخلائق قاطبة مأمور باتباعه، (وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) كما يزعم قومك، (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ) فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ): اليهود، فإن موسى عليه السلام أمرهم بتعظيم الجمعة فأبوا إلا شرذمة منهم، وقالوا: نريد يومًا فرغ الله فيه من الخلق وهو السبت فأذن الله لهم في السبت وغلظ وشدد الأمر فيه عليهم فابتلاهم بتحريم صيده فما أطاعوا إلا الشرذمة التي رضوا بيوم الجمعة وعن قتادة اختلفوا فيه أي: استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وقيل: أي: إنما جعل وبال السبت، أي: المسخ على الذين حرموه تارة وحللوه أخرى وهو الاختلاف، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيجازي كل فريق بما يستحقه، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ ربِّكَ): دينه، (بِالْحِكْمَةِ): بالقرآن، (وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ): مواعظ القرآن وقيل المراد القول

اللين بلا تغليظ وتعنيف، (وَجَادِلْهُم بِالتي هِيَ أَحْسَنُ) أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق وحسن خطاب وقيل نسختها آية القتال، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي: قد علم الشقي والسعيد وكتب ذلك عنده وفرغ منه فادعهم أنت إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات فإنما عليك البلاغ، (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) السورة مكية وهذه الآيات مدنية نزلت حين وقعت وقعة أحدٍ وفعلوا ما فعلوا بحمزة - رضى الله عنه - فحين نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله لئن أظفرني لله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فلما نزلت كفَّر عن يمينه، وعن بعضهم أن هذا أمر بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق مطلقًا، (وَلَئِن صَبَرتمْ): عن المجازاة بالمثلة، (لَهُوَ) أي: الصبر، (خَيْرٌ للصَّابِرِينَ) من الانتقام للمنتقمين وعلى ما فسرنا الآية محكمة وعن بعضهم، هذا هو الأمر بالصبر عن القتال والابتداء به فنسخت بسورة براءة وعلى كل تقدير الآية في غاية المناسبة مع قوله: " ادع إلى سبيل ربِّك " الآية، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ): بتوفيقه وعونه، (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) على من خالفك وقيل: على ما فعل بالمؤمنين، (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) في ضيق صدر من مكرهم فإن الله كافيك وناصرك، (إِنَّ اللهَ

مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) المحرمات أو الشرك بتأييده ومعونته، (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في العمل وقيل: بالشفقة على خلقه. اللهم اجعلنا منهم برحمتك الواسعة. * * *

سورة بني إسرائيل

سورة بني إسرائيل مكية وقيل إلا قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إلى ثمان آيات وهي مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعًا * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) * * *

(سُبْحَانَ) اسم بمعنى التسبيح، أي: أنزهه تنزيهًا من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله تعالى مجد الله نفسه وعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، (الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) محمدٍ صلى الله عليه وسلم، (لَيْلاً) أي: في بعض الليل،

فإنه مع تنكيره دال على تقليل مدة الإسراء، (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) مسجد مكة أو من مكة لا من المسجد ويطلق على مكة كلها مسجد الحرام، (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا) الذي ببيت المقدس ببدنه الأشرف والأصح، بل الصحيح أن الإسراء في اليقظة بعد البعثة مرة واحدة وإن كان في المنام قبلها، (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) بالثمار والأنهار وببركات الدين والدنيا، (لِنُرِيَهُ) أي: محمدًا، (مِنْ آيَاتِنَا) الكبرى عجائب سماواته وغرائب آياته، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد مصدقين ومكذبين،

(البَصِيرُ) فيجزيهم وفق ما يستحقون، (وَآتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) كثيرًا ما يقرن بين ذكر محمد وموسى - عليهما السلام - والقرآن والتوراة، فأولاً ذكر شرف سيدنا محمدٍ رسول الله ثم شرع في فضل كليمه موسى، (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا) أن مفسرة، ومن قرأ بالغيبة فأن ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي: لئلا، (مِنْ دُونِي وَكِيلًا): ربًّا تَكِلُون إليه، (ذُرِّيَّةَ) نصب على الاختصاص وعلى قراءة الخطاب جاز نصبه بالنداء، (مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ): نوحًا، (كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) كثير الحمد فيه تذكير لنعمة إنجائهم من الغرق ثم الحث للذرية على الاقتداء به. (وَقَضَيْنَا): أوحينا وحيًا مقضيًّا مقطوعًا، (إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ): التوراة، (لَتُفْسِدُنَّ) جواب قسم محذوف، (فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي، (مَرتيْنِ) مخالفة أحكام التوراة، ثم قتل يحيى وزكريا، (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) تستكبرن عن طاعة الله أو تظلمن الناس، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ): عقاب، (أُولَاهُمَا)، أي: أولى الإفسادتين، (بَبَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا) هم جالوت وجنوده، أو ملك الموصل سنجاريب أو بُخْت نَصَّر فأذلهم وقهرهم وقتلهم، (أُولِي): ذوي، (بَأْسٍ): قوة، (شَدِيدٍ فَجَاسُوا): ترددوا لطلبكم، (خِلَالَ): وسط، (الدِّيَارِ) للقتل والغارة والسبي، (وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً) فإنه قضاء مبرم، (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ): الدولة، (عَلَيْهِمْ) بأن سلط داود على جالوت فقتله أو دانيال على جنود بخت نصَّر، (وَأَمْدَدْناكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) حتى عاد أمركم كما كان،

(وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا): مما كنتم وهو من ينفر مع الرجل من قومه أو جمع نفر، أي: أكثر عددًا مما كنتم، (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا) أي: الإحسان والإساءة كلاهما مختصان بما لا يتعدى النفع والضر إلى غيركم، وقيل: أتى باللام دون على في قوله (وإن أسأتم فلها) للازدواج، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ) عقوبة المرة، (الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا) تقديره بعثناهم ليسوءوا، (وُجُوهَكُمْ) يهينوكم ومن قرأ ليسوءَ فالضمير لله أو للوعد أو للبعث، (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) عطف على ليسوؤا، (كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي: كما خربوا أولاً بيت المقدس بعثناهم ليخربوا ثانيًا، (وَلِيُتَبِّرُوا): يهلكوا، (مَا عَلَوْا) مفعول يُتَبِّرُوا، أي: ليهلكوا كل شيء غلبوه، (تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم برد الدولة إليكم، (وَإِنْ عُدتُّمْ): إلى المعصية، (عُدنا) إلى العقوبة وعن بعض السلف عادوا فبعث الله عليهم المسلمين، (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) محبسًا، أو بساطًا كما يبسط الحصير، (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي) للحالة أو الطريقة التي، (هِيَ أَقْوَمُ) أسد الحالات، (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ) أي: بأن، (لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ) عطف

(11)

على أنَّ لهم، (الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعتدنا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، أي: يبشرهم بثوابهم وعقاب أعدائهم. * * * (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ

عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) * * * (وَيَدْعُ الإِنسَانْ بِالشَّرِّ) أي: يسأل الله عند غضبه الشر على نفسه وأولاده وأمواله، (دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي: مثل مسألته الخير، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا): يسارع إلى ما لا يعلم خيريته لكن الله تعالى صبور عليهم لا يجيب جميع مسألته لطفًا وإنعامًا، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) تدلان على قدرة خالقهما وحكمته، (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ)، الإضافة بيانية، (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر وعن ابن عباس كان القمر وهو آية الليل يضيء كما تضيء آية النهار وهي الشمس فمحونا آية الليل محوه السواد الذي في القمر، وسئل عن على ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال: ويحك! أما تقرأ القرآن فمحونا آية الليل فهذه محوه، وروي عن آخرين من السلف ما يدل على ذلك، (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) لتطلبوا في النهار أسباب معاشكم، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)

لولا محو آية الليل لكان الليل مثل النهار مضيئًا فما عرفنا عدد السنين ولا جنس الحساب، (وَكُل شَيْءٍ) مما تحتاجون إليه، (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا): بيناه بحيث لا يلتبس، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ) أي: ما قضي عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة وشقاوة وكانوا يتيمنون بسنوح الطير ويتشاءمون ببروحها فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة، (فِي عُنُقِهِ) أي: لازم له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) مفعول نخرج، أو حال من مفعوله المحذوف وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة من قرأ يخرج بالياء وفتحه، (يَلْقَاهُ) صفة، (مَنْشُورًا) إما حال من مفعول يلقى أو صفة أخرى أي: يجده منشورًا لكشف غطائه، (اقْرَأ كِتَابَكَ) أي: يقال له ذلك، (كَفَى بِنَفْسِكَ) الباء مزيدة في الفاعل، (اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) أي: حاسبًا عليك تمييز يعني كفيت أنت في محاسبة نفسك لا تحتاج

إلى من يحاسبك وتذكير حسيبًا لأن مثل هذه الأمور يتولاها الرجال كأنه قال: كفى بنفسك اليوم رجلاً حسيبًا، (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ): لا ينجي غيره، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) لا يضر ضلاله غيره، (وَلَا تَزِرُ): لا تحمل، (وَازِرَةٌ) نفس حاملة، (وِزرَ أُخْرَى) نفس أخرى، بل لا تحمل إلا وزرها، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) يبين لهم ما يجب عليه فلا يُدْخِل أحدًا في النار إلا بعد إرسال الرسل إليه كما قال تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا) الآية [الملك: 8]، فعلى هذا الظاهر أن يقال: إن من نشأ في شاهق جبل ولم يسمع رسولاً فهو معذور وكذا المجنون الدائم المطبق وكذا الأطفال مطلقًا، لكن الشيخ الأشعري ذهب إلى أنَّهم يمتحنون يوم القيامة بأن يأمرهم الله بدخول النار فمن أطاع نجا ودخل الجنة وانكشف علم الله فيه لسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرًا وانكشف تقدم شقاوته وحكاه عن أهل السنة والجماعة وهو مختار البيهقي ومحققي العلماء والنقاد وعلى هذا أحاديث منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف.

ولولا التزام الاختصار لذكرنا نبذًا منها مع تحقيق المسألة ردًا وإثباتًا، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) متنعميها بالفسق والمراد بالأمر الأمر القدري يعني سخرهم الله إلى فعل الفواحش فاستحقوا العقوبة فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قيل معناه كثرنا يقال: أمرت الشيء إذا كثرته وقراءة من قرأ آمرنا يؤيده ومن قرأ أمَّرنا فمعناه جعلناهم أمراء، وقيل: أمرناهم بالطاعة على لسان رسول وفيه بعد؛ لأنه يبقى حينئذٍ تخصيص المترفين غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فتدبر، (فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي: كلمة العذاب، (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا): استأصلناها، (وَكَمْ) أي: كثيرًا مفعول، (أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ) تمييز لِكَم، (مِن بَعْدِ نُوحٍ) كـ عاد وثمود فإن بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الإسلام، (وَكَفَى بِرَبِّكَ) الباء مزيدة على الفاعل، (بِذُنُوبِ عِبَادِهِ) متعلق بقوله: (خَبِيرًا بَصِيرًا) وهما منصوبان على التمييز أو الحال فإن الذنوب هي أسباب الهلكة وهو تعالى عالم بها فمعاقب عليها، (مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ) أي: همته مقصورة على الدنيا، (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) بدل البعض من له فإن ضميره لمن وهو في معنى الكثرة، (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا) يدخلها، (مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) مطرودًا قيل: الآية في المنافقين يغزون مع المسلمين وليس غرضهم إلا الغنائم، (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) حقها من السعي وهو الإتيان بالأوامر والانتهاء عن النواهي، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأُوْلَئِكَ): الجامعون للشرائط الثلاثة، (كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا): مقبولاً عنده

(23)

مثابًا عليه، (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) أي: كل واحد من الفريقين أعني هؤلاء الذين أرادوا الدنيا وهؤلاء الذين أرادوا الآخرة نمدهم ونزيدهم من عطاء ربك فنرزق المطيع والعاصي وهؤلاء منصوب بتقدير أعني أو بدل من كلًا، (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) ممنوعًا في الدنيا عن مؤمن ولا عن كافر، (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) في الدنيا فمنهم الغني والفقير والحسن والقبيح والصحيح والمريض وغير ذلك ونصب كيف بـ فضلنا على الحال، (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي: التفاوت في الآخرة أكثر وأكبر ونصبها على التميز، (لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ) الخطاب لكل أحدٍ أو للرسول والمراد أمته، (فَتَقْعُدَ) تصير، (مَذْمُومًا): من الملائكة والمؤمنين، (مَخْذُولًا) من الله. * * * (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) * * * (وَقَضَى رَبُّكَ) أمر أمرًا قطعيًّا، (أَلَّا) أي: بألا، (تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فإنه المستحق للعبادة وحده، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: وبأن تحسنوا بهما إحسانًا، (إِمَّا) إن شرطية وما زائدة، (يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبرَ أَحَدُهُمَا) فاعل يبلغن، (أَوْ كِلاهُمَا) ومن قرأ يبلغانِّ فأحدهما بدل البعض من الضمير، (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) هو صوت دال على تضجر وهو مبني على الكسر والتنوين والتنكير ومن قرأ بالفتح فَعلى التخفيف يعني إن عاش أحد والديك أو كلاهما حتي يشيب ويكون كلًّا عليك فلا تسمعهما قولاً سيئًا حتى التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا): لا تزجرهما، (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، جميلاً بتأدب وتوقير، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) تذلل لهما واخضع جعل للذل جناحًا وأمره بخفضه مبالغة في التواضع لهما، (مِنَ الرَّحْمَةِ) من فرط رحمتك عليهما، (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) رحمة مثل رحمتهما عليَّ في حال صغري، وعن حذيفة أنه استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

في قتل أبيه وهو في صفِّ المشركين فقال: (دَعْهُ يَلِهِ غَيْرُك)، (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكمْ) من قصد البر والعقوق، (إِن تَكُونوا صَالِحِينَ): قاصدين للصلاح مطعين لله، (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ) هم التائبون من الذنب الراجعون عن المعصية إلى الطاعة، (غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) من صلة الرحم والبر عليهم وعن علي بن الحسين: أراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) بأن تصرف مالك في غير حق، وعن السلف لو أنفقت مُدًّا في غير حقه صرت مبذرًا، ولو أنفقت جميع مالك في الحق لم تكن مبذرًا، (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) أصدقاءهم وأتباعهم وأمثالهم في الشرارة، (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)، جحودًا منكرًا لأنعم الله فلا تتبعوه ولا تكونوا مثله، (وَإِمَّا تعْرِضَنَّ عَنْهم) وإن أعرضت عمن أمرتك أن تؤتيه من الأقارب وغيرها حياء من ردهم وليس عندك شيء تعطيه حين سألك، (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطه، (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا) يعني: إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة فعدهم وعدًا بسهولة ولينٍ مثل أن تقول: إذا جاء رزق الله فسنصلكم

إن شاء الله كذا فسرها السلف وقيل: القول الميسور الدعاء لهم مثل رزقنا الله وإياكم، (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) لا تمسكهما عند البذل كل الإمساك حتى كأنها مقبوضة إلى عنقك، (وَلَا تَبْسُطْهَا) بالخير، (كُلَّ الْبَسْطِ) تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر، (فَتَقْعُدَ) تصير، (مَلُومًا) يلومك الناس ويذمونك إن بخلت، (مَحْسُورًا) نادمًا إن بسطت كل بسط وأيضًا دابة عجزت عن السير ضعفًا تسمى حسيرًا فعلى ما فسرنا من باب اللف والنشر وجاز أن يكونا متعلقين بالإسراف فإن المسرف ملوم عند الله والناس نادم عن فعله، أو بكل من البخل والسرف قيل: نزلت حين وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يجد ما يلبسه للخروج حين أذنوا للصلاة، (إِن ربَّكَ يَبْسُطُ)، يوسع، (الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيق لمن يشاء، (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا): يعلم سرهم وعلنهم فيوسع على من يرى مصلحته في التوسعة له، ويضيق على من يعلم مصلحته في

(31)

، تضييقه، وفي الحديث " إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ". * * * (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) * * * (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) فقر وفاقة وكانوا يئدون بناتهم مخاففة الفقر، (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا): ذنبًا عظيمًا والخطأ الإثم،

(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) في عن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه فضلاً عن مباشرته، (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا): بئس طريقًا طريقه، (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللهُ): قتله، (إِلَّا بِالْحَقِّ)، بردَّةٍ وزنًى بعد إحصان وقتل معصوم عمدًا، (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا) غير مستوجب القتل، (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ) وهو الوارث لأنه يلي أْمره بعده، (سُلْطَانًا): تسلطًا على القاتل بقتله أو أخذ الدية أو عفوه، (فَلَا يُسْرِفْ) أي: الولي، (فِي الْقَتْلِ) بأن يقتل غير القاتل أو يمثل بالقاتل، أو معناه لا يسرف القاتل فيه بأن يقتل من لا يحق قتله وقراءة لا تسرفوا يؤيده، (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) استئناف أي: لا يسرف الولي لأن الله نصره ولطف عليه حيث أوجب القصاص له وأمر الناس بمعونته، وعلى الوجه الثاني معناه: فإن المقتول منصور لا محالة يقتل به الظالم، (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ) فضلاً أن تتصرفوا فيه، (إِلَّا بِالَّتِي) أي: إلا بالطريقة التي، (هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) حتى يصير بالغاً فادفعوه إليه، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم أو بما عاهدكم الله من تكاليفه، (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) عنه أو مطلوبًا يطلب من العاهد أن لا

يضيعه، (وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ) من غير تبخيس، (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان العدل وهو لفظ رومي عُرِّبَ، (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً) عاقبة من آل إذا رجع، (وَلاَ تَقْفُ) لا تتبع، (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما لم يتعلق به علمك من قول وفعل فيدخل فيه شهادة الزور والكذب والبهتان، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كل أُوْلَئِكَ) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد وأولئك قد يجيء لغير العقلاء، (كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، من جوز تقديم مفعول ما لم يسم فاعله؛ لأنه في المعنى مفعول سيما إذا كان ظرفًا فعنده أن عنه فاعل مسئولاً، ومن لم يجوز فعنده أن في مسئولاَّ ضَمير يرجع إلى كل أولئك أي كان كل واحد منها مسئولاَّ عَن نفسه يعني عما فعل به صاحبه، أو ضمير عنه راجع إلى صاحب كل واحد، (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) وهو التكبر أي: ذا مرح، (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تجعل فيها خرقًا لشدة وطأتك، (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) بتطاولك وكبرك وهو تهكم بالمتكبر، وعن بعضهم إنك لن تقطع الأرض حتى تبلغ آخرها ولا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها فأنت عاجز أو ما أقبح منه التكبر، (كل ذَلِكَ) إشارة إلى ما مر من قوله

(41)

(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) (1) وهي خمسة وعشرون خصلة، (كَانَ سَيِّئُهُ) أي: المنهي عنه لا المأمورات، (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) مبغوضًا، ومَن قرأ (سيئةً) فذلك إشارة إلى ما نهى عنه خاصة واسم كان ضمير لكل ومكروهًا خبر بعد خبر أو بدل من سيئه أو حال من ضمير كان، (ذَلِكَ) أي: الأحكام المتقدمة، (مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) وهي معرفة الحق لذاته والخير للعمل، (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ) كرره لأنه المقصود والتوحيد رأس كل حكمة، (فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا) من الله والملائكة ومن نفسك، (مَدْحُورً): ملعونًا والمراد من هذا الخطاب اهتداء أمته عليه السلام، (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) أي: أفخصكم ربكم بأفضل الأولاد؟ فالهمزة للإنكار، (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا) بناتًا لنفسه كما قلتم الملائكة بنات الله تعالى، (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) إضافة الولد إلى الله تعالى ثم تفضيل أنفسكم عليه حين تنسبون إليه ما تكرهون ثم جعل الملائكة إناثًا وأي خطأ وقولٍ أعظم من هذا. * * * (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ

__ (1) ذكرت الآية كاملة لئلا تلتبس بقوله تعالى (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) لأن الآية كتبت في الأصل هكذا (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ). اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) * * * (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) بينا مكررًا، (فِي هَذَا القُرْآنِ) العبر والأمثال والحجج والأحكام أو بينا فيه مكررًا إبطال إضافة البنات إليه، (لِيَذكَّرُوا): يتدبروا ويتعظوا، (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا): عن الحق، (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا): لطلبوا إلى من له الملك سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، أو معناه إن كان الأمر كما زعمتم أنهم آلهة شفعاء فهم طالبون الوسيلة والتقرب إلى الله تعالى محتاجون إليه فكيف تسمونهم آلهة وتعبدونهم، (سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا): تعاليًا، (كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) إجماع السلف أن للأشياء تسبيحات لا يسمع [لا يسمع الله إياه] إلا من يَسْمع، وقال المتأخرون لكل شيء تسبيح بلسان حاله وهو دلالته على صانع قديم واجب لذاته، (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وفي البخاري عن ابن مسعود: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل "، والأحاديث الدالة على التسبيح القالي للحيوانات والجمادات كثيرة وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله - صلى الله عليه - وسلم قال: " إن نبي الله نوحًا " لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال: " آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء "، وعن ابن عباس وبعض من السلف إنما يسبح ما كان فيه روح من حيوانات ونبات، (إِنَّهُ كَانَ

حَلِيمًا): لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، (غَفُورًا) لمن رجع وتاب، (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا) يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم والانتفاع به أو حجابًا لا يرونه عند قراءة القرآن فإن المشركين الذين في عزمهم أن يؤذوه يمرون به ولا يرونه، (مَسْتُورًا) لا يرى ذلك الحجاب أو ذا ستر كسيل مفعم أي: ذو إفعام، (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً): أغطية، (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي: كراهة أن يفقهوا القرآن، (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا): ثقلا لئلا يسمعوا سماع انتفاع، (وَإِذَا ذَكرتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ) من غير ذكر آلهتهم وأصله يَحِد وَحْده فهو مصدر يقع موقع الحال، (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)، نفرة من التوحيد أو جمع نافر، (نحنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُون بِهِ) أي: ما يستمعون بسببه ولأجله من الهزء والتكذيب، (إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْكَ) ظرف لأعلم، (وَإِذ همْ نَجْوَى) حين هم ذوو نجوى يتناجون بالتكذيب، (إِذ يَقُولُ الظالِمُون) بدل من إذ هم بوضع الظاهر موضع المضمر، (إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَّسْحُورًا) سُحِرَ فَجُنَّ وعن بعضهم مشتق من السَّحر وهو الرئة أي: رجلاً مثلكم، (انظُرْ كَيْفَ ضَربُوا لَكَ الأَمثالَ) مثلوك بساحر وشاعر وكاهن ومجنون، (فَضَلُّوا): عن طريق الحق، (فَلاَ

يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) إلى الرشاد أو هم متحيرون ليس لهم سبيل يسلكونه، (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا) بعد الموت، (وَرُفَاتًا): ترابًا، (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الهمزة لتأكيد الإنكار والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون فما بعد إن لا يعمل فيما قبله، (خَلْقًا جَدِيدًا) مصدر أو حال، (قُلْ) جوابا لهم، (كُونوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا) وهما أشد امتناعًا من العظام والرفات في قبول الحياة، (أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) وهو الموت، أي: لو فرضتم أنكم صرتم حجارة أو حديدًا أو موتًا هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء، وعن مجاهد في تفسيره أي: السماء والأرض والجبال، (فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا) إذا كنا حجارة أو خلقًا شديدًا، (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ): يحركون، (إِلَيْكَ رُءوسَهُمْ) تعجبًا وتكذيبًا، (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا) فكل ما هو آت قريب، أن يكون اسم عسى وكان تامة وقريبًا خبره أو اسم عسى ضمير البعث وما بعده خبره، (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) ربكم من قبوركم، (فتسْتَجِيبُونَ): تجيبون بحمده (بِحَمْدِهِ) متلبسين بحمده حين لا ينفعكم الحمد، وعن ابن عباس: أي بأمره وعند بعض: أنه خطاب للمؤمنين، وقد ورد أنهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ): في الدنيا أو في البرزخ، (إِلَّا قَلِيلًا) (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ) [المؤمنون: 112، 113]. * * *

(53)

(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) * * * (وَقُلْ لِعِبَادِي): المؤمنين قولوا التي هي أحسن، (يَقُولُوا): الكلمة، (الَتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني في محاوراتهم ومخاطباتهم فيقولوا جواب الأمر والمقول محذوف، (إِنَّ

الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ) يهيج الشر، (بَيْنَهُمْ) فإذا لم يكونوا على دين الكلام فلربما يفضي إلى المخاصمة والمشاجرة، (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) وعن الكلبي، أنها نزلت حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحش كلام المشركين وسوء خلقهم فقيل: الكلمة التي هي أحسن أن يقولوا يهديك الله، وقيل: هذا قبل الإذن في الجهاد، (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فيوفقكم للإنابة والطاعة الظاهر أنه خطاب للمؤمنين وحث على المداراة، (أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) وقيل: ربُّكم أَعْلَمَ تفسيرًا للكلمة التي هي أحسن أي: يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يقولوا لهم إنكم من أهل النار ومعذبون وما يشبهها، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً) ليس أمرهم موكولاً إليك إنما أنت نذير فما عليك إلا التبليغ وحسن المعاشرة وطيب الكلام في النصح والله الهادي، (وَرَبُّكَ أَعْلمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فإنه خلقهم على قوابل مختلفة ومراتب متفاوتة في الفهم وقبول الفيض من مفيض الحكمة فليس لأحد أن يستبعد في نبوة يتيم أبي طالب عليه السلام وفي سيادة الجوَّع العراة رضي الله عنهم وأرضاهم، (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) بمزيد العلم اللدني لا بوفور المال الدني، (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) إشارة إلى وجه تفضيله فعلم من هذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل فإن كتابه أشرف الكتب (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105]، وما وقع في الصحيحين من النهي عن التفضيل بين الأنبياء فمحمول على التفضيل بالتشهي والعصبية ولا خلاف

أن محمدًا رسول الله أفضلهم ثم إبراهيم ثم موسى على المشهور عليهم الصلاة والسلام، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمتم) أنها آلهة، (مِّن دُونِهِ) كالملائكة وغيره، (فَلا يَمْلِكُونَ) فلا يستطيعون، (كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ) بالكلية، (وَلاَ تَحْوِيلاً) إلى غيركم أو تحويل حال من العسر إلى حال اليسر نزلت حين شكى المشركون قحطهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)، الذين صفة أولئك ويبتغون خبره أي: هؤلاء الذين تعبدونهم يطلبون القربة إلى الله كالملائكة وعيسى وأمه وعزير والشمس والقمر، (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدل من فاعل يبتغون أي: يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة فكيف لغيره، (وَيَرْجُون رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) فكيف يستحقون الألوهية، (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) حقيقًا بأن يحذر منه كل شيء حتى الرسل من الملائكة والبشر، وعن ابن مسعود أنها نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن فأسلم الجنيون

والإنس الذين يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، (وَإِن مِّن قَريةٍ إِلا نَحْن مهْلِكوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) بالموت، (أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا) بأنواع العذاب وعن مقاتل وغيره الأول في قرية المؤمنين والثاني في الكفار، (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ) اللوح المحفوظ، (مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ) أي: ما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة لقريش كفسحة مكة وجعل الصفا ذهبًا، (إِلا أَن كَذب بِهَا الأَولون) أي: إلا تكذيب من هو قبلهم وقومك مثلهم طبعًا فلو أرسلناها وكذبوا بها لاستأصلناهم فقد جرت سنتنا على أن لا نؤخر من كذب بالآيات المقترحة فليس عدم إرسالها إلا العناية فإنه سهل علينا يسير لدينا، (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ) بسؤالهم، (مُبْصِرَةً) آية بينة، (فَظَلَموا بِهَا)، كفروا بها أو فظلموا أنفسهم بسببها فإنهم منعوا شربها وعقروها فعاجلناهم بالعقوبة، (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ) المقترحة أو مطلق الآيات، (إِلَّا تَخْوِيفًا) للعباد ليؤمنوا والباء زائدة أو المفعول محذوف وبالآيات حال، (وَإِذْ قلْنَا لَكَ) أي: واذكر إذ أوحينا إليك، (إِن رَّبكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) هم في قبضته وتحت مشيئته فهو حافظك منهم فامض لما أمرك ولا تهبهم، (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ) هي قصة المعراج والرؤيا من الرؤية عن ابن عباس وغيره هي

(61)

رؤيا عين، (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) فقد أنكر بعضهم ذلك وكفروا وزاد إيمان بعضهم فما هي إلا اختبار وفتنة وعن بعضهم أن المراد بهذه الرؤيا رؤيا عام الحديبية رأى عليه السلام أنه دخل هو وأصحابه مكة فتوجه إليها قبل الأجل فصدَّه المشركون ورجع إلى المدينة وكان ذلك فتنة وشكًّا في قلوب بعض حتى دخلها في العام القابل كما قال تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) الآية [الفتح: 27]، (وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآن) أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة وهي شجرة الزقوم يقال طعام ملعون أي: مكروه ضار وملعون أكلها وصفت به مجازًا للمبالغة أو لأن منبتها أصل الجحيم وهي أبعد مكان من رحمة الله، وفتنتها أنَّهم قالوا: محمد يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أن فيها شجرة وقالوا: لا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر فجاء أبو جهل بهما وقال يا قوم: زقموا فهذا ما يخوفكم به محمد، (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُمْ) التخويف، (إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) تمردًا وعتوًّا عظيمًا. * * * (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى

بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) * * * (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قد مرَّ الخلاف في أن المأمورين جملة الملائكة أو ملائكة الأرضين، (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ) أي: لمن خلقته، (طِينًا) حال من (مَن) أو من ضميره أو نصبه بنزع الخافض، (قَالَ): إبليس (أَرَأَيتَكَ) أي: أخبرني والكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الإعراب، (هَذَا) مفعول أرأيت، (الذِي) صفة هذا، (كَرَّمْتَ عَلَيَّ) أي: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليَّ بأن أمرتني [بالسجود له] لم كرمته عليَّ فمتعلق الاستخبار محذوف يدل عليه الصلة (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) اللام توطئة القسم وجوابه، (لَأَحْتَنِكَنَّ) لأستأصلن، (ذُرِّيَّتَهُ): بالإغواء، (إِلَّا قَلِيلًا) لا أقدر أن أقاومهم وكأنه لعنه الله تفرس من خلقه فإنه قد جبل بشهوة ووهم وغضب، (قَالَ): الله: (اذهَبْ) أي: خليتك وأنظرتك فامض لما قصدت، (فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ) أي: جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب، (جَزَاءً موْفورًا): مكملاً ونصب جزاء بما في جزاؤكم من معنى تجازون أو بإضمار تجازون وجاز أن يكون حالاً فإنه مقيد بـ موفورا،

(وَاسْتَفزِزْ): استخف، (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم): أن تستفزه، (بِصَوْتِكَ): بدعائك إلى معصية الله وعن ابن عباس كل داع دعا إلى معصية الله فهو شيطان يصوته، وقيل هو الغناء والمزامير، (وَأَجْلِبْ): صِحْ (عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) الخيل الفرسان والرجل اسم جمع للراجل، أي: صح عليهم بأعوانك من راكب وراجل وهو كل راكب وماشٍ في المعصية، وعن قتادة أن له خيلاً ورجالاً من الجن والإنس، قيل: هذا تمثيل لتسطله بشخص كثير الغارة صوت على قوم فاستفزهم وأقلقهم عن أماكنهم وأجلب عليهم بجنده فاستأصلهم، والمعنى تسلط عليهم بكل ما تقدر والمراد من الأمرين أمر القدري أو أمر تهديد، (وَشَارِكْهُمْ فَى الأَمْوَالِ)

كل ما أُنفق في حرام أو جُمع من حرام (وَالأَوْلادِ)، ببعثهم على الزنا حتى يكون الولد منه وعلى قتلهم خشية إملاق وعلى تسميتهم بعبد الشمس ونحوه وغير ذلك، (وَعِدْهمْ) المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة وكرامة الآباء، (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب، (إِن عِبَادِي) أي: المخلصين، (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ): تسلط على إغوائهم، (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أي: كفى الله لأن يكل أولياءه فيعصمهم منك، (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي): يجري، (لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ): لتطلبوا من رزقه وتتجروا، (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) حيث هيأ لكم ما تحتاجون، (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ): خوف الغرق، (فِي البَحْرِ ضَلَّ): زال عن خاطركم، (مَن تَدْعُونَ): كل من تدعونه،

(إِلَّا إِيَّاهُ): الله وحده فحينئذ لا يخطر ببالكم سواه فتدعونه وحده، (فَلَمَّا نَجَّاكمْ)، من الغرق، (إِلَى البَرِّ أَعْرَضتمْ): عن التوحيد، (وَكَانَ الإِنسَان كَفُورًا) يعني سجية الإنسان نسيان النعم وجحدها، (أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة للإنكار والفاء عطف على محذوف أي: أنجوتم من البحر فأمنتم من (أَن يَخْسِفَ بِكمْ جَانِبَ البَرِّ) أي: يقلبه الله وأنتم عليه وبكم حال من مفعول يخسف أو الباء للسببية متعلق بـ يخسف وذكر الجانب إشارة إلى أنهم إذا وصلوا الساحل أعرضوا وأن الجوانب بقدرة الله، (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا): المطر الذي فيه الحجارة أو الريح التي ترمي بالحصباء، (ثُمَّ لاَ تَجِدوا لَكمْ وَكِيلاً): يحميكم من العذاب، (أَمْ أَمِنتمْ أَن يُعِيدَكمْ فِيهِ): في البحر، (تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ): ريحًا تكسر كل شيء تمر عليه، (فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ): بسبب كفركم أو كفرانكم، (ثمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)، التبيع المُطَالِبُ أي: لا تجدوا أحدًا يطالبنا بما فعلنا انتقامًا منا، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ): بأشياء كثيرة منها العقل والنطق وحسن الصورة، (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ) على الدواب والسفن، (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطيِّبَاتِ)، المستلذات، (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) أي: كثيرًا بينًا وافرًا ولا يلزم من هذه الآية على ما فسرنا تفضيل الملائكة نعم يلزم نفي الأفضلية الكثيرة الوافرة ولا يلزم من نفي هذه الأفضلية نفي مطلقها. * * *

(71)

(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) * * * (يَوْمَ) أي: اذكر يوم، (نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) أي: نبيهم كـ يا أمَّةَ فُلانٍ، أو بكتابهم الذي أنزل عليهم أو بكتاب أعمالهم أو إمام هدي وإمام ضلالة كـ يا متبعي محمد - عليه السلام - ويا متبعي شيطان، وعن محمد بن كعب هي جمع أم كخفاف

فلا يفتضح أولاد الزنا ويلزم إجلال عيسى والحسن والحسين عليهم السلام، (فمَن أُوتِيَ كِتَابَهُ) كتاب أعماله، (بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) فلا ينقص من أجورهم أدنى شيء والفتيل الخيط المستطيل في شق النواة، (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ): الدنيا، (أَعْمَى): عمى القلب فلم ير رشده، (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) لا يرى طريق النجاة قيل أعمى الثاني أفعل التفضيل كالأجهل، (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) منه في الدنيا، وقد نقل عن بعض السلف أن معناه من كان في هذه النعم التي قد مر وهو قوله: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ) الآية، أعمى وهو يعاين فهو في أمر الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضل، (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إن مخففة، أي: إن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة قيل: نزلت في ثقيف حين قالوا: لا نؤمن حتي تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب [لا نجبي] في الصلاة، أي: لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنةً من غير أن نعبدها فإن خشيت أن

يسمع العرب لم أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، وقيل نزلت حين قالت قريش: لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا وقيل قالوا: نؤمن بك أن تمس آلهتنا، وقيل غير ذلك، (عَنِ الذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ): من الأحكام، (لِتَفْتَرِيَ عَلَينا غَيْرَهُ): غير ما أوحينا إليك، (وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا): لو اتبعت مرادهم يؤمنوا بك ولكنت لهم وليًّا، (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ) لولا تثبيتنا لك وعصمتنا، (لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ): لقاربت أن تميل، (إِلَيْهِمْ): إلى اتباع مرامهم، (شَيْئًا قَلِيلًا)

لكن عصمناك فما قاربت من الركون مع قوة اهتمامك بإيمانهم فضلاً من الركون وقيل خطر خطرة بقلبه الأشرف ولم يكن عزمًا والله قد عفى الخلق عنه والأول هو الأولى، (إِذًا): لو قاربت، (لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ) أي: عذاب الدنيا والآخرة ضعف ما يُعذب به غيرك بمثل هذا الفعل فإن المقربين على خطر عظيم وأصله عذابًا ضعفًا في الحياة، أي: مضاعفًا فأقيمت الصفة مقام الموصوف بعد ما حذف ثم أضيفت كما يقال: أليم الحياة، أي: عذابًا أليمًا في الحياة، (ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا): يدفع عنك عذابنا، (وَإِن كَادوا) إن مخففة مثل الأول، (لَيَسْتَفِزونَكَ): يزعجونك، (مِنَ الأَرْضِ): أرض مكة أو المدينة، (لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) قيل: نزلت حين هم قريش بإخراج الرسول من بين أظهرهم، (وَإِذاً): لو خرجت، (لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ): لا يبقون بعد خروجك، (إِلَّا قَلِيلًا): إلا زمانًا قليلاً وقد كان كذلك فإنه قد وقع على أكثرهم بعد سنة واقعة بدر، وقيل نزلت في المدينة حين قالت اليهود: إن الشام مسكن الأنبياء وأنك إن كنت تسكن فيها آمنَّا بك فوقع ذلك في قلبه الأشرف لكن السورة مكية بتمامها عند الأكثر فالأول أقرب، (سُنَّةَ) أي: سن الله ذلك سنة، (مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا) وهو أن يهلك كل أمة أخرجوا رسولهم فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل؛ لأنها من أجلهم، (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا): تغييرًا. * * *

(78)

(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) * * * (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ): زوالها واللام للتأقيت، (إِلَى غسَقِ اللَّيْلِ): ظلمته فيدخل فيه صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أو المراد من الدلوك الغروب وأصل لغته الانتقال، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الصبح سميت قرآنًا كما سميت الصلاة ركوعًا وسجودًا تسمية للشيء باسم ركنه وجزئه عطف على الصلاة، (إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا): يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي:

بعضه، (فَتَهَجَّدْ): اترك الهجود والتهجد ترك الهجود للصلاة كالتأثم والتحرج، (بِهِ): بالقرآن، (نَافِلَةً لَكَ): فضيلة لك، فإنه قد غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر فجميع نوافله زيادة في رفع درجته، أو معناه فريضة زائدة لك على الصلاة المفروضة، وعن كثير من السلف أن التهجد واجب عليه ونصبها بالعلية على التوجيه الأول أو بتقدير فرضها فريضة أو حال من ضمير به، (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا) أي:

في مقام، (مَحْمُودًا) أو تقديره فيقيمك مقامًا، أي: في مقام هو مقام الشفاعة لأمته يحمده فيه الأولون والآخرون، (وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي): المدينة، (مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي: إدخالاً مرضيًّا، (وَأَخْرِجْنِي): من مكة،. (مُخْرَج صِدْقٍ) إخراجًا حسنًا مرضيًّا نزلت حين أمر بالهجرة، أو أدخلني الجنة وأخرجني من الدنيا أو أدخلني القبر وأخرجني منه وفيه أقوال أُخر، (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) ملكًا وعزًا قويًّا مظهرًا للإسلام على الكفر أو حجةً بينةً تنصرني على من خالفني، (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ): الإسلام، (وَزهَقَ) هلك، (الَباطِلُ): الشرك، (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا): مضمحلاً غير ثابت وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يوم فتح مكة، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) من للبيان قدم علي المبين لكونه أهم، (مَا هُوَ شِفَاءٌ): لأمراض القلوب من الشك والنفاق والزيغ، (وَرحْمَةٌ للْمؤْمِنِينَ): يحصل فِي القلب الإيمان والحكمة والرغبة في الخير، (وَلاَ يَزِيدُ): القرآن، (الظَّالِمِينَ): الكافرين، (إِلا خَسَارًا): نقصانًا وخذلانًا لكفرهم به، (وَإِذَا

(85)

أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ): بمال وعافية، (أَعْرَضَ): عن طاعة الله، (وَنَئَا بِجَانِبِهِ) والنائي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره أي: بعد عنا أو استكبر عن طاعتنا، (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ) من المصائب والنوائب، (كَانَ يَئُوسًا): شديد اليأس قَنِطَ أن يعود له بعد ذلك خير، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ): دينه ونيته وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة أو على طبيعته التي جبلت عليها، (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا): أسدَّ طريقًا وسيجزي كل عامل بعمله، وهو وعيد للمشركين كما قالَ تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) [هود: 121، 122]. * * * (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ

لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) * * * (وَيَسْألونَكَ) أي: اليهود والأحاديث الواردة في نزول هذه الآية مشعرة بأنَّهَا نزلت في المدينة والأصح أن السورة كلها مكية فأجيب بأنه نزلت مرتين، أو أنه نزل في المدينة عليه وحي بأن يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه في مكة، وما ذكره الإمام أحمد يدل على أنها مكية فإنه نقل عن ابن عباس أن قريشًا قالت لليهود أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت، (عَنِ الرُّوحِ): روح بني آدم أو جبريل أو ملك عظيم، (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، مما استأثر

بعلمه، (وَمَا أُوتِيتم مِّنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلاً)، أي: ما اطلعتم من علمه إلا على القليل يعني في جنب علم الله قليل وأمر الروح مما لم يطلعكم الله عليه، وقد روي أن اليهود قالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا فنزلت (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) [لقمان: 27] الآية، (وَلَئِنْ شِئْنَا) اللام توطئة القسم، (لَنَذْهَبَنَّ) جواب القسم ساد مسد جواب الشرط، (بِالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) أي: إن شئنا محونا القرآن عن مصاحفكم وصدوركم، (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا): من يصير وكيلاً علينا باسترداده، (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي: لكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به أو الاستثناء متصل يعني: إن نالتك رحمته تسترده عليك كأن رحمته تصير وكيلاً عليه، (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) حيث أنزل عليك الكتاب وأبقاه، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) وإن فرض أن كلهم بلغاء، (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ) في البلاغة والإخبار عن المغيبات، (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لعدم قدرتهم وهو جواب القسم الدال عليه اللام، (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا): معينًا وناصرًا في الإتيان، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) بيَّنا مكرَّرًا، (لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من

(94)

كل معنى هو كالمثل في الغرابة والحسن، (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا)، جحودًا للحق وهو في معنى الكلام المنفي فلذلك جاز الاستثناء، (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ): أرض مكة، (يَنْبُوعًا): عينًا لا ينضب ولا ينقطع ماؤها، (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي: بستان، (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا) حتى نعرف فضلك علينا، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ) أن ربك إن شاء فعل، (عَلَيْنَا كِسَفًا) أي: قطعًا فلا نؤمن لك حتى تفعل يعنون قوله تعالى: (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) [سبأ: 9]، (أَوْ تَأتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاِئكَةِ قَبِيلاً)، كفيلاً بما تقول شاهدًا بصحته أو مقابلاً معاينة نراه وهو حال من بالله وحال الملائكة محذوفة أي قبيلاً وقبلاء، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مَن زُخْرُفٍ): من ذهب، (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ): تصعد في سُلَّم ونحن ننظر، (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ): صعودك وحده، (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) أي: مكتوبًا فيه إلى كل واحد هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ويكون فيه تصديقك، (قُلْ)، أي: رسول الله، (سُبْحَانَ رَبِّي) تعجبًا من تمردهم، أو تنزيهًا لله من أن يأتي أو يشاركه أحد في قدرته، (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا) كسائر الناس، (رَسُولًا) كسائر الرسل وهم لم يقدروا ولم يأتوا بمثل ما قلتم فكيف أقدر على ذلك؟!. * * * (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا

عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) * * * (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) مفعول ثان، أي: ما منعهم الإيمان بعد، (إِذْ جَاءَهمُ الهُدَى) بعد نزول القرآن الذي هو معجزة، (إِلا أَن قَالُوا) فاعل منع، (أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا) أي: إلا قولهم هذا أي لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرًا، (رسُولاً قُل) جوابًا لشبهتهم، (لوْ كَانَ في الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ) كما تمشون، (مُطْمَئِنِّينَ): ساكنين في الأرض، (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) أي: من جنسهم يهديهم، لأن انتفاع الجنس من الجنس أكثر

فرحمتنا دعتنا إلى أن أرسلنا إليكم بشرًا من جنسكم وبشرًا وملكًا منصوبان على الحال من رسولاً أو موصوفان برسولاً، (قُلْ كَفَى بِاللهِ) أي: كفى الله، (شَهِيدًا) حال أو تمييز، (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنتم عاندتم أو على أني رسول إليكم وأظهرت المعجزات، (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) فيعلم إبلاغي وعنادكم فيجازي كلاًّ ما يستحقه من الإنعام والهداية والانتقام والإزاغة، (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ)، يهدونهم وينصرونهم، (وَنَحْشُرُهمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) يمشون بها وعن أنس يقول: قيل يا رسول الله: " كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " أو يسحبهم الملائكة إلى النار، (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) هذا في حال دون حال فيكون هذا بعد الحساب أو عميًا عما يقرأ عينهم بكمًا عن حجة وعذر يقبل منهم صمًا عما يُلِذّ مسامعهم، (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ): سكن لهبها، (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) توقدًا بأن نبدل لحومهم وجلودهم فتعود متلهبة بهم، قيل ونعم ما قيل كأنهم لما كذبوا الإعادة بعد الإفناء جازاهم الله بدوام الإعادة بعد الإفناء، (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا): ترابًا، (أَئِنَّا) الهمزة لتأكيد الإنكار والعامل في إذا ما دل عليه قوله: (لَمَبْعوثون) فإن ما

(101)

بعد إن لا يعمل فيما قبله، (خَلْقًا جَدِيدًا): مصدر أو حال، (أَوَلَمْ يَرَوْا): ألم يعلموا، (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فإن خلقهم ليس بأشد من خلق السماوات والأرض، (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً)، أي: القيامة عطف على أولم يروا، (لَا رَيْبَ فِيهِ) أو معناه أولم يعلموا أن من قدر على خلق هذه الأجسام قادر على أن يخلقهم مثل ما كانوا أي: يعيدهم ويجعل لإعادتهم أجلاً [مضروبًا] ومدةً مقدرةً لابد من انقضائها، (فَأَبَى الظَّالِمُونَ): بعد قيام الحجة، (إِلَّا كُفُورًا) جحودًا بذلك الأجل أو بذلك الخلق، (قُل لوْ أَنتُم تَمْلِكُون)، أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده، (خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) خزائن رزقه ونعمه، (إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ) لبخلتم، (خَشْيَةَ الإِنفَاقِ) أي: مخافة النفاد يقال: أنفق التاجرُ ذهبَ مالهُ، (وَكَانَ الإِنسَانُ قَتورًا): بخيلاً. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) * * * (وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) اليد والعصا والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وعن بعضهم بدل السنين ونقص الثمرات فلق البحر وحل العقدة التي بلسانه، وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وقال " صحيح حسن " والنسائى وابن ماجه وابن جرير في تفسيره أن يهوديَّيْنِ سألا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية " ولقد آتينا موسى تسع آيات " فقال لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت فقبَّلا يدَيه ورجلَيه "

فقال بعض المحدثين: لعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين عليه ويدل عليه الآية التي بعده (مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) الآية، (فَاسْأَلْ): يا محمد، (بَنِي إِسرائِيلَ) عن الآيات ليطمئن قلبك ويظهر للمشركين صدقك، (إِذ جَاءَهُمْ) ظرف لـ آتينا أو تقديره سل عن بني إسرائيل زمان ما جاءهم موسى حتى يخبروك عما وقع فيه، (فقَالَ) فرْعَوْن (إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) [فسحرت فتخبط عقلك] (1)، (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ): الآيات، (إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ): بينات تبصرك صدقي وهو حال، (وَإِنِّي لأَظُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا): هالكًا ملعونًا أو مصروفًا عن الخير مطبوعًا على الشر، (فَأَرَادَ): فرعون، (أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ): يخرج موسى

_ (1) في الأصل هكذا [فتتخبط عقلك] والتصويب من البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

وقومه من أرض مصر، (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ اسْكُنوا الْأَرْضِ): التي أراد أن يخرجكم منها، وهذا بشارة للمؤمنين بفتح مكة فإن هذه السورة نزلت قبل الهجرة، (فإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي: الدار الآخرة يعني القيامة، (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا): جميعًا إلى الموقف ونحكم بينكم واللفيف الجماعات من قبائل شتى، (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ) أي: ما أنزلنا القرآن إلا متلبسًا بالحق المقتضي لإنزاله فيه أحكام الله وأوامره ونواهيه، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه أو ما وصل إليك يا محمد إلا محروسًا محفوظًا من تخليط وتبديل، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا): لمن أطاعك، (وَنَذِيرًا): لمن عصاك، (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ): نزلناه مفرقًا منجمًا على الوقائع في ثلاث وعشرين سنة، (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ): مَهلٍ وتؤدةٍ، (وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا): نجومًا بعد نجوم، (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا) أي: سواء آمنتم به أم لا هو حق لا يزيد ولا ينقص منه شيء، (إِن الذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبْلِهِ)، من قبل القران، أي عالمي أهل الكتاب، (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ): القرآن، (لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا): يسقطون على وجوههم وذكر الذقن للمبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحى على التراب أو أنه ربما خر على الذقن كالمغشي عليه لخشية الله واللام لاختصاص الخرور بالذقن، (سُجَّدًا): شكرًا لإنجاز وعده ولأن جعلهم ممن أدركوا هذا الرسول المنزل عليه هذا الكتاب، (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ ربِّنَا): عن خلف الوعد، (إِن كَانَ): إنه كان، (وَعْدُ ربِّنَا) في الكتب السالفة بإرسال رسول خاتم الرسل،

(لَمَفْعُولًا)، واقعًا كائنًا، (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ) حال كونهم باكين لما أثر فيهم مواعظه كرره لتكرار الفعل منهم، (وَيَزِيدُهُمْ) سماع القرآن، (خُشُوعًا): خضوعًا لربِّهم، (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) نزلت حين يقول عليه السلام في سجوده يا رحمن يا رحيم فسمع رجل من المشركين وقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو اثنين والدعاء بمعني التسمية وهو متعد إلى مفعولين كدعوته زيدًا ثم يترك أحدهما فيقال دعوت زيدًا والمراد من الله والرحمن الاسم لا المسمى وأو للتخيير أي: سموا بهذا الاسم أو بهذا، (أَيا مَّا تَدْعُوا) التنوين عوض عن المضاف إليه وما مزيدة للإبهام الذي في أي، (فَلَهُ) الضمير لمسمي الاسمين فإن التسمية للذات لا للاسم، (الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) أي: أي هذين الاسمين سميتم فهو حسن؛ لأن له الأسماء الحسني وهذان الاسمان منها، (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاِتِكَ) أي: بقراءة صلاتك

فيسمعها المشركون فيسبون القرآن، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) ولا تخفها عمن خلفك من أصحابك، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ): بين الجهر والمخافتة، (سَبِيلاً) وسطًا وكان ذلك قبل الهجرة والمراد من الصلاة الدعاء، (وَقُلِ الحَمْدُ لله الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) كما قالت اليهود عزير ابن الله عليهم لعائن الله، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما أثبته النصارى والمشركون فإنهم أثبتوا الربوبية للمسيح والأصنام، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) ناصر من الذل لا يحوم الدخور جنابه ليحتاج إلى ولي يتعزز به، وعن القرطبي أن الصابئين والمجوس يقولون: لولا أولياء الله لذل. أثبت لنفسه الأقدس الأسماء الحسنى ونزه نفسه عن النقائص كمضمون " قل هو الله أحد " [الإخلاص: 1]، (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا): عظمه عن الولد والشريك والولي عظمة تامًة قد جاء في حديث أنه عليه السلام سماها آية العز وفي بعض الآثار ما قرئ في ليلة في بيت فيصيبه سرقة أو آفة.

سورة الكهف

سورة الكهف مكية قيل إلا قوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) الآية. وهي مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعًا * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) * * * (الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) رتب الحمد على إنزاله القرآن على عبده سيد السادات عليه الصلوات والتسليمات؛ لأنه أجل نعم وأعظم كرم، فإنه سبب جميع السعادات (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) شيئًا من العوج، لا في ألفاظه، ولا في معانيه (قَيِّمًا): مستقيمًا معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فقيل قيما على سائر الكتب مصدقًا

لها، منصوب بقدر، أي: جعله قيما، أو حال من الكتاب على أن عطف ولم يجعل بياني حتى لا يلزم العطف قبل تمام الصلة كأنه قال: أنزل على عبده الكتاب الكامل الذي لا يسمى غيره في جنبه الكتاب (لِيُنْذِرَ): الكافرين (بَأسًا): عذابًا (شَدِيدًا): صادرًا (مِن لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَن لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا): الجنة (مَاكِثينَ فِيهِ): في الأجر (أَبَدًا): دائمًا (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) أي: ينذرهم ببأس شديد وخصهم من بين الكفار بالذكر لغلظ كفرهم (ما لَهُم بِهِ مِن عِلْمٍ) أي: يقولون عن جهل وافتراء وضمير به إما إلى الولد أو إلى الاتخاذ أو إلى القول (وَلَا لِآبَائِهِمْ): الذين قالوا ذلك (كَبُرَتْ): عظمت مقالتهم هذه في الكفر (كلَمَةً) تمييز، وهو أبلغ من كبرت كلمتهم (تخرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) صفة للكلمة مفيدة لاستعظام اجترائهم، فإن هذه الكلمة الردية الشنيعة التي لو خطرت ببال لا يليق أن تظهر بحال هم تكلموا بها (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ): قاتل (نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) إذا أعرض بها عن الإيمان، شبهه لما تداخله من الأسف على إعراضهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على فراقهم وآثارهم (إِن لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذا الْحَدِيثِ): القرآن (أَسَفًا) لفرط الحزن (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ): مما يصلح أن يكون زينة (زِينَةَّ لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ): نختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا): في تناوله وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا): من الزينة

(صَعِيدًا جُرُزًا): مثل أرض ملساء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء في إزالة بهجته وإبطال حسنه يعني نميت الحيوانات، ونجفف النباتات وهو ترغيب في الزهد عنها. (أَمْ حَسِبْتَ) بل أحسبت (أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ): الغار الواسع في الجبل (وَالرَّقِيمِ) هو لوح من رصاص، أو حجر موضوع على باب كهفهم مكتوب فيه أسماؤهم، أو اسم لذلك الجبل أو الوادي، أو لقرية هم خرجوا منها (كَانُوا مِنْ آياتِنَا): آية (عَجَبًا) فإن قصتهم بالإضافة إلى ما خلقنا على وجه الأرض من أنواع الحيوانات وغيرها ليس بعجيب. (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ): صاروا إليه

(13)

وسكنوا فيه هم من أهل الروم، قصد دقيانوس تعذبيهم ليرجعوا إلى الشرك فهربوا بدينهم إلى الكهف (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ترحمنا بها وتسترنا من أعين قومنا (وَهَيِّئْ لَنَا): يسر لنا (مِنْ أَمْرِنَا): الذي نحن فيه من الفرار عن الكفار (رَشَدًا): نصير بسببه راشدين مهديين (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) أي: ضربنا عليها حجابًا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، فحذف المفعول كما يقال: بنى على امرأته أي: القبة (فِي الْكَهْفِ سنينَ) ظرفان لـ ضربنا (عَدَدًا) أي: ذوات عدد (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ): أيقظناهم (لِنَعْلَمَ) ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًا، أو لنعلم علم المشاهدة (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم (أَحْصَى) أضبط (لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) أي: أضبط أمدًا لزمان لبثهم فإنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك كما قال تعالى: " قال قائل منهم كم لبثتم " الآية، أو المراد من الحزبين غيرهم، فقد ذكر أن أهل قريتهم تنازعوا في مدة لبثهم ولصدارة أي لما فيه من معنى الاستفهام علق لنعلم عنه فهو مبتدأ، وأحصى الذي هو فعل ماض خبره، وأمدًا مفعوله. * * * (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) * * * (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بالْحَقِّ): الصدق، (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ): شبان (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى): بالتثبت (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ): قويناهم بالصبر والثبات (إِذْ قَامُوا): بين يدي دقيانوس ملكهم حين دعاهم إلى الكفر، وأوعد بأنواع العذاب، ثم القتل إن خالفوا (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) فإنه يأمرهم بعبادة الأصنام (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) أي: إن دعونا غير الله، والله لقد قلنا قولاً ذا بعد عن الحق (هَؤُلَاءِ) مبتدأ (قَوْمُنَا) عطف بيانه (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا): هلَّا (يَأتونَ عَلَيْهِمْ) أي: على عبادتهم (بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ): بدليل واضح فإن دينًا لا دليل عليه فهو باطل (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا): فإنهم افتروا عليه أن له شركاء (وَإِذ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خطاب بعضهم لبعضَ

والعامل فيه الجزاء (وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) عطف على مفعول اعتزل، وهم يعبدون الأصنام مع الله (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ): يبسط (لَكُمْ ربّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ): رحمة يستركم بها من قومكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ): الذي أنتم فيه (مِرْفَقًا): ما تنتفعون به (وتَرَى الشَّمْسَ): لو رأيتهم (إِذا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ): تميل، (عَنْ كَهْفِهِمْ) فلا يقع شعاعها عليهم لتحترق أبدانهم ولباسهم (ذاتَ الْيَمِينِ): جهته، (وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ): تقطعهم وتعدل عنهم، (ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فجْوَةٍ): متسع، (منهُ): من الكهف فلا يؤذيهم حر الشمس وينالهم روح الهواء وذلك إذا كان باب الكهف على بنات النعش فيقع الشعاع على جنبيه وهم في وسطه فيحلل عفونته ويعدل هواءه، وعند بعضهم أن الله صرف عنهم الشمس بقدرته وحال بينها وبينهم لا لأن باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جنبيه (ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ) حيث أرشدهم إلى غار كذلك (مَنْ يَهْدِ اللهُ فهُوَ الْمُهْتدِ وَمَنْ يُضلِلْ): ولم يرشده (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا): من يلي أمرهم ويرشده. * * *

(18)

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) * * * (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا): لانفتاحِ عيونهم ليصل إليها روح الهواء جمع يقظ، كأنكاد في نكد (وَهُمْ رُقُودٌ): نيام (ونُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَال): لئلا تأكل الأرض لحومهم، عن ابن عباس في كل سنة مرة، وعن بعضهم مرتين (وَكَلْبُهُمْ

بَاسِطٌ ذرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) بالفناء وقيل: بالعتبة خارج الكهف؛ لأن الملك لا يدخل بيتًا فيه كلب والأصح أنه كلب صيد لأحدهم وقد نقل أنه كلب تبعهم فطردوه فأنطقه الله وقال: أنا أحب أحباء الله ناموا وأنا أحرسكم، (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ): نظرت إليهم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) هربت وأعرضت عنهم (فِرَارًا) حال أو مفعول له أو مصدر (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا): خوفًا يملأ صدرك لمهابتهم (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ): كما أنمناهم آية بعثناهم كذلك (لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ): ليسأل بعضهم بعضًا مدة لبثهم فيعرفوا حالهم فيزداد يقينهم (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ

بَعْضَ يَوْمٍ) فإنه غالب مدة نوم نائم كأنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) كأنه حصل لهم بعض تردد في طول مدتهم لطول أظفارهم وأشعارهم (فَابْعَثُوا) يعني لا يصل علمكم إليه فاتركوا المقال وابعثوا (أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ): فضتكم، (هَذِهِ) فإنه كان معهم دراهم (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي: إلى المدينة التي خرجتم عنها وهي طرسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا) أي: أهل تلك المدينة (أَزْكَى طَعَامًا): أحل وأطهر، فإن في المدينة المؤمن والكافر (فَلْيَأتِكُمْ برِزْقٍ مِنْه وَلْيَتَلَطفْ): في الذهاب والإياب والمعاملة حتى لا يطلع على حاله أحدَ (وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا): لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد بكم (إِنَّهُمْ): أهل المدينة (إِن يَظْهَرُوا): يظفروا (عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ): يقتلوكم بأفضح أنواعه (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ): كرهًا والعود بمعنى الصيرورة، أو كانوا على دينهم فهداهم الله للإيمان (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا): إن دخلتم في دينهم (وَكَذَلِكَ أَعْثرْنَا عَلَيْهِمْ) أي: كما أنمناهم وأيقظناهم أطلعنا عليهم (لِيَعْلَمُوا) أي: ليعلم من يطلع عليهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ): بالبعث (حَقٌّ): يقاس الموت والبعث بتلك الرقدة، والإيقاظ (وَأَنَّ السَّاعَةَ) آتية (لَا رَيْبَ فيهَا) فإن من حفظ أبدانهم من التفتت ثلاثمائة سنين يمكن له حفظ النفوس إلى أن يحشر أبدانها (إِذْ يَتنَازَعُونَ) ظرف لـ أَعْثَرْنَا (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ): أمر دينهم، فإن لأهل ذلك الزمان شكًّا في البعث فمنهم من قال: يبعث الأرواح لا الأجساد فيبعثهم

الله حجة لمن يقول تبعث الأرواح والأجساد معًا، أو التنازع في البنيان فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدًا يصلي فيه الناس، لأنهم على ديننا والمشركون يقولون: نبني بنيانًا لأنَّهُم من أهل نسبنا أو التنازع في مدة لبثهم وعددهم (فَقَالُوا) أي: المرتابون في البعث (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي: سدوا عليهم باب الكهف وذروهم على حالهم فإن ربهم أعلم بحالهم وقيل: هذا يدل على أن التنازع في مدة اللبث أو العدد (قَالَ الذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) وهم المؤمنون وكانوا غالبين في ذلك الوقت (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) حكى أن المبعوث إلى الطعام لما أخرج الدرهم للطعام أخذوا درهمه واتهموه بوجدان كنز؛ لأن الدرهم على ضرب لم يروه فسألوه عن أمره فقال: أنا من هذه المدينة وعهدي بها عشية أمس وضربه ضرب دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون فحملوه إلى ولي أمرهم فأخبرهم بأمره فقام متولي البلد وأهلها معه حتى انتهى إلى الكهف فقال: دعوني أتقدم في الدخول فعمى عليهم المدخل وأخفى الله عليهم فبنوا ثّمَّ مسجدًا، وعن بعضهم: دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ثم كلمهم وودعهم فتوفاهم الله (سَيَقُولُونَ): القائلون أهل الكتاب والمؤمنون في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام (ثَلَاثَةٌ) أي: هم ثلاثة رجال (رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي: يرمون رميًا بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد والقائل بهما أهل الكتاب (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ) والقائل هم المؤمنون (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وفائدة

هذا الواو بين الصفة والموصوف تأكيد لصوقها به والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهي التي آذنت بأن هذا القول منهم لا عن رجم بالغيب، بل عن دليل وعلم (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّى قَليلٌ) من الناس وقد صح عن ابن عباس أنه قال: أنا من ذلك القليل كانوا سبعة (فَلَا تُمَارِ): لا تجادل (فِيهِمْ): في شأن الفتية (إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا): سهلاً هينًا، فإن معرفته لا يترتب عليه كثير فائدة، فلا تُجَهِّلْهُمْ ولا ترد عليهم (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا): لا تسأل عن قصتهم أحدًا منهم، فإنهم لا يقولون إلا ظنًّا بالغيب. * * *

(23)

(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) * * * (وَلًا تَقُولَنَّ لِشَيْء) أي: لأجل شيء تعزم عليه (إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ): الشيء، (غَدًا) أي: فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد خصوصية الغد (إلا أَنْ يَشَاءَ الله): إلا بأن يشاء الله، أي: متلبسًا بمشيئته، يعني إلا أن يقول إن شاء الله، فهو استثناء من النهي، نزلت حين سأل أهل مكة عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقال عليه السلام: " أخبركم غدًا "، ولم يقل إن شاء الله، فلبث الوحي أيامًا ثم نزلت هذه

الآية تعليمًا وتأديبًا، وقيل معناه: لا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي: مشيئته، وقل إن شاء الله (إِذَا نَسِيتَ): إذا فرط منك نسيان، يعني: إذا أنسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر. وعن ابن عباس: للحالف أن يستثني ولو بعد سنة، قال ابن جرير: السُّنَّة أن يقول ذلك حتى ولو كان بعد الحنث، ليكون أتيا بسنة الاستثناء لا لأن يكون رافعًا للحنث مسقطًا للكفارة، وقال: هذا هو الصحيح الأليق بحمل كلامه عليه، وقد نقل عن ابن عباس إن هذا خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي إنه لا يحنث إن استثني ولو بعد سنين، وقيل معناه إنه تعالى أرشد من نسى الشيء من كلامه إلى أن يذكر الله، فإن النسيان منشؤه الشيطان، وذكر الله يطرده فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان (وَقُل عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) أي: يدلني ويعطيني من الآيات الدالة على نبوتي ما يكون أقرب وأدل في الرشد من قصة أصحاب الكهف، وقيل معناه إذا سُئلت عن شيء لا تعلمه فتوجه إلى الله في أن يوفقك لأقرب طريق إليه وقيل معناه واذكر ربك إذا نسيت شيئًا، واذكر ربك أن تقول عند نسيانه عسى ربي أن يهدين لشيء آخر بدل المنسى أقرب من المنسى رشدًا (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) هذا إخبار من الله بمقدار لبثهم منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم، وسنين: عطف بيان لثلاثمائة عند من قرأ مائة بالتنوين (وَازْدَادُوا تِسْعًا) فإن مقداره ثلاث مائة سنة وتسع بالهلالية، فيكون بالشمسية ثلاث مائة سنة، لأن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين (قُل): يا محمد (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبثُوا) فلا

تختلفوا بعد ما أخبركم الله بمدته (له غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) جملة مستأنفة لتعليل الأعلمية وعن قتادة أن قوله (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة) حكاية قول أهل الكتاب وقد رده الله بقوله: (قل الله أعلم) والأول قول أكثر السلف والخلف (أَبْصرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هما صيغتا التعجب أي: ما أبصره وما أسمعه، فالضمير الراجع إلى الله فاعل والباء صلة (ما لَهُمْ) الضمير لأهل السماوات والأرض (مِنْ دُونه مِنْ وَلِي): يلى أمرهم (وَلَا يُشْرِكُ): الله (فِي حُكْمِهِ): قضائه (أَحَدًا): منهم (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): من القرآن (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): لا أحد يقدر على تبديلها (وَلَنْ

تَجِدَ مِنْ دُونهِ مُلْتَحَدًا): ملجأ تعدل إليه إن لم تتل ولم تتبع (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ): احبسها (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ): طرفي النهار (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ): يريدون الله لا عوضًا من الدنيا نزلت في أشراف قريش حين طلبوا أن يفرد لهم مجلسًا لا يكون فقراء الصحابة فيه ولذلك قال الله: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ): لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والزينة، واستعماله بـ عن مع أنه مستعمل بغير واسطة لتضمينه معنى نبا يقال: نبت عنه عينه إذا ازدرته ولم تتعلق به (تُرِيدُ) حال من كاف عيناك (زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: مجالسة الأشراف (وَلا تُطِعْ): في تبعيد الفقراء (مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ): جعلنا قلبه غافلاً (عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا): متقدمًا للصواب نابذًا له وراء ظهره يقال: فرس فُرُط، أي: متقدم للخيل (وَقُلِ): يا محمد (الْحَقُّ مِنْ ربكُم) أي: هذا هو الحق حال كونه من ربكم أو الحق ما يكون من ربكم (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ): فإني لا أبالي وهو تخيير بمعنى التهديد (إِنَّا أَعْتَدْنَا): هيأنا (لِلظالِمِينَ) أي: الكافرين (نَارًا أَحَاطَ بهِمْ سُرَادِقُهَا): نسطاطها شبه بِهِ ما يحيط بهم من النار أو دخانها (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا)، من العطش (يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ): كمذاب النحاس عن ابن عباس هو ماء غليظ كدردي الزيت (يَشْوِي الْوُجُوهَ): من حره إذا قدم ليشرب (بِئْسَ الشَّرَابُ): المهل (وَسَاءَتْ): النار (مُرْتَفَقًا): متكئًا أو منزلاً (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) قوله: (من أحسن عملاً) هو عين من آمن وعمل صالحًا فجاز أن يكون (إنا لا نضيع) خبر إن أو تقديره إنا لا نضيع

(32)

أجر من أحسن عملاً منهم أو هو جملة معترضة وخبره قوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها يقال: عدن بالمكان، إذا أقام فيه (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) أي: من تحت غرفهم (الأَنْهَار يُحَلَّوْنَ): يزينون (فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ) جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار ومن للابتداء (مِنْ ذَهَبٍ) صفة أساور، ومن للبيان (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ): رقيق الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ): غليظ منه فإن ما يلي البدن رقيق وما فوقه غليظ كما في الدنيا (مُتَّكِئِينَ فِيهَا) الاتكاء الاضطجاع أو التربع في الجلوس (عَلَى الأرَائِكِ): السرر، (نِعْمَ الثوَابُ): الجنة ونعيمها (وَحَسُنَتْ): الأرائك أو الجنات (مُرتفَقًا): متكئًا أو منزلاً. * * * (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا

أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لله الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) * * * (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثلا رَجُلَيْنِ) بيان لمثلاً، أو بدل لحذف المضاف أي مثل رجلين قيل: هما أخوان من بني إسرائيل ورثا مالاً فاشترى أحدهما بميراثه ضياعًا وزينة، وصرفه الآخر في وجوه الخير (جَعَلْنا) الجملة بيان التمثيل أو صفة رجلين (لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ): بستانين (مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ) أي: جعلنا النخل محيطة بهما والباء للتعدية إلى المفعول الثاني يقال: حففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا): وسط النخل والكرم (زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آدتْ اكلَهَا) وإفراد الضمير لإفراد كلتا (وَلَمْ تَظْلِمْ): تنقص (منهُ): من أكلها (شَيْئًا): كما يعهد نقصها في سائر البساتين (وَفَجَّرْنَا خلالَهُمَا): وسط الجنتين (نَهَرًا وَكَانَ لَهُ): لصاحب البستانين (ثَمَرٌ): أنواع من المال (فقَالَ لِصَاحِبِهِ): الذي صرف ميراثه لوجه

الله (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ): يراجعه في الكلام لا أنه يجادله (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) حشمًا وعشيرة وأولادًا ذكورًا (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ): حين أخذ بيد صاحبه وأدخله بستانه يطوف به فيها يفاخره بها (وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): بسبب عجبه وكفره (قَالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ): تفنى (هَذه أَبَدًا): راقه حسنها وغرته زهرتها فتوهم أنها لا تفني، ولله در صاحب الكشاف حيث قال: وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً): كائنة، (وَلَئِن رُددت إِلَى ربي) يعني: وإن فرضنا حقيقة البعث (لأجِدَن خَيْرًا مِنْها): من الجنة (مُنقَلَبًا): مرجعًا وعاقبة؛ لأنه ما أعطاني في الدنيا إلا لاستئهالي لذلك والآخرة لو كانت خير وأبقى (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ): المؤمن (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ) أي: خلق أصل مادتك (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ): فإنها مادتك القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا): عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا بالغًا (لَكِنَّا) أصله لكن أنا، حذفت الهمزة وأدغمت النونان (هُوَ) ضمير الشأن (اللهُ رَبِّي) والجملة خبر أنا، كأنه قال أنت كافر لكني مؤمن (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ

جَنَّتَكَ قُلْتَ) أي: هلا قلت حين دخلت (مَا شَاءَ اللهُ) ما موصولة أي: الأمر ما شاء الله أو ما شاء كائن (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) إقرارًا بأنَّهَا بمشيئته إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها واعترافًا بالعجز على نفسك والقدرة لله قال بعض السلف: من أعجبه شيء فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله (إِنْ تَرَنِ أَنَا) ضمير الفصل أو تأكيد للمفعول (أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فعسَى ربي أَد يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ) في الآخرة أو في الدنيا أيضًا (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا) على جنتك (حُسْبَانًا مِن السَّمَاءِ) مراقي جمع حسبانة وهي الصاعقة (فَتُصْبِحَ) الجنة (صَعِيدًا) أرضًا (زلَقًا) ملساء لا يثبت فيه قدم (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) غائرًا في الأرض مصدر وصف به كالزلق (فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ) للماء الغائر (طَلَبًا) في رده (وأحيطَ بثَمَرهِ) عبارة عن إهلاكه (فأَصْبَحَ يُقَلِّب كَفَّيْهِ) [ظهرًا] لبطن تأسفًا (عَلَى مَا أَنفقَ فِيهَا) متعلق بـ يُقَلِّب لأنه في معنى يتحسر أي: يتحسر على ما أنفق في عمارتها (وَهِيَ خَاوِيَةٌ) ساقطة (عَلَى عُرُوشِهَا) فإن كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا): تذكر موعظة أخيه، وتمني لو لم يكن مشركًا حتى لا يهلك الله بستانه (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي: يقدرون على

(45)

نصرته من دون الله، وحمل ينصرونه حيث لم يقل تنصره على المعنى دون اللفظ (وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا): ممتنعًا عن انتقام الله تعالى منه، أي: لا يقدر أحد ولا هو نفسه على انتصاره (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لله الْحَقِّ) من القراء من يقف على هنالك، فعلى هذا معناه منتصرًا فِي ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، ومن لم يقف عليه فمعناه في ذلك الموطن الذي نزل عليه عذاب الله النصرة له وحده، لا يقدر عليها غيره أو ينصر فيها أولياءه على أعدائه، ومن قرأ الوِلاية بكسر الواو فمعناه: في تلك الحالة السلطان له وحده لا يعبد غيره، وكل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له كما قال الله تعالى: (فلما رأو بأسنا قالوا آمنا بالله وحده) والحق: صفة الولاية أو صفة لله على القراءتين (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا) لأهل طاعته لو كان غيره يثيب (وَخَيْرٌ عُقْبًا) أي: عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره. * * * (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) * * * (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها (كمَاءٍ) أي: هو كماء (أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ): التف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضًا (نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا): يابسًا مكسورًا، (تَذْرُوهُ): تفرقه وتطيره (الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء مُقْتَدِرًا): قادرًا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ): اللذان يفتخر بهما الأغنياء (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): لا زينة

الآخرة (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) أي: الأعمال الصالحة، وعن كثير من السلف إنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا) أفضل جزاء وثوابًا (وَخَيْرٌ أَمَلًا)، لأن صاحبها ينال ما يؤمل بها في الدنيا (وَيوْمَ) أي: اذكر يوم (نُسَيِّرُ الْجِبَالَ): نقلعها ونسيرها كالسحاب (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً): ظاهرة قاعًا صفصفًا سطحًا مستويًا لا وادي فيها ولا جبل (وَحَشَرْنَاهُمْ) الواو للعطف أو للحال أي: وقد حشرنا جميع الخلق وأحييناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا ما أنكروا (فَلَمْ نُغَادِرْ): لم نترك، (مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى ربِّكَ): كما يعرض الجند على السلطان ليأمر فيهم (صَفًّا): مصطفين لا يحجب أحد أحدًا (لَقَدْ جِئْتُمُونَا) حال من نسير أي: قائلين لهم ذلك، وجاز أن يكون تقديره: قلنا لهم ذلك فهو العامل في يوم نسير الجبال، ولا نقدِّر اذكر (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ): عراة بلا مال ولا ولد (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا) للبعث،

والجزاء والخطاب للبعض قيل بل للخروج من القصة إلى أخرى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) أي: صحف الأعمال في أيمانهم وشمائلهم (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ): خائفين (مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا) ينادون هلكتهم من بين الهلكات (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ) تعجيبًا من شأنه، (لا يُغادرُ): لا يترك، (صَغِيرَةً) أي: هنة صغيرة من أعمالنا (وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا). عدها وحصرها (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا): في الصحف أو جزاء ما عملوا حاضرًا عندهم (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، فيكتب عليه ما لم يفعل أو بأن يعاقبه بما لم يفعل. (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) ذكره بعد ذكر صنيع المفتخرين بالأبناء، والأولاد ليعلموا أن الكبر من سنن إبليس، أو لما نفرهم عن الاغترار بزهرة الدنيا نبههم بقدم عداوة إبليس معهم (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) استئناف كأنه قيل لِمَ لم يسجد؟! فقال: لأنه كان من الجن وقد مر خلاف بين السلف في أنه من الملائكة الذين يقال لهم الجن، أو من الجن حقيقة (فَفَسَقَ): خرج، (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ): بترك

السجود والفاء مشعر بأن سبب عصيانه كونه جنيًا فإن الملك لا يعصى (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) الهمزة للإنكار والتعجب أي أَعُقَيب ما صدر منه تتخذونه (وَذُرِّيَّتَهُ) عن بعضهم هم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم وقيل: يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين، (أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي): فتطيعونهم بدل طاعتي (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا): من الله إبليسُ وذريته (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي: ما أحضرت الشياطين زمان خلقي الدنيا لأستعين بهم فأنا المستقل ليس معي شريك فما لكم اتخذتموهم شركاء لي! (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا): أعوانًا، وفي وضع المضلين موضع الضمير ذم لهم واستبعاد للاعتصام بهم، (وَيَوْمَ يَقُولُ) أي: الله للكافرين: (نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ): أنَّهم شركائي أو أنهم شفعاؤكم (فَدَعَوْهُمْ): للإغاثة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا): مهلكًا فلا وصول لهم إلى آلهتهم، بل بينهما مهلك وعن بعضهم هو وادٍ في النار أو نهر من قيح ودم، وعن بعض السلف أن ضمير بينهم إلى المؤمنين والكافرين أي نفرق نجعل بينهم حاجزًا (وَرَأَى الْمُجْرِمُون النَّارَ فَظَنُّواْ): أيقنوا، (أَنهُم مُوَاقِعُوهَا): مخالطوها واقعون فيها، فيكون ذلك من باب تعجيل حزنهم وغمهم (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا): مكانًا ينصرفون إليه. * * *

(54)

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) * * * (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا): بينا وكررنا (في هَذَا الْقُرْآن): الواضح المبين، (لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ): يحتاجون إليه، (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ): يتأتى منه الجدل (جَدَلا): خصومة ومعارضة للحق بالباطل إلا من عصمه الله ونصبه بالتمييز (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ) من (أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى): الرسول والقرآن (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ)

عطف على يؤمنوا أي: من أن يستغفروا (إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ) أي: إلا تقدير أن يأتيهم عذاب الاستئصال فإنه تعالى قدَّر عليهم العذاب فذلك هو المانع من إيمانهم، أو إلا طلب أن يأتيهم العذاب الموعود وأخذهم عن آخرهم كما قالوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ .. ) الآية [الشعراء: 187]، (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ) الآية [الأنفال: 32]. أو إلا انتظار أن تأتيهم كما يقال لمن حان له الرواح عن منزله وهو غير رائح: ما تنتظر إلا الهلاك (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا) عيانًا وهو بضم القاف والباء لغة في قِبَلا بكسر القاف وفتح الباء أو جمع قبيل بمعنى أنواع (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ): للمؤمين، (وَمُنْذِرِينَ): للكافرين، (وَيُجَادِلُ الذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ) كما قالوا: (أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا) [الإسراء: 94]، (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]، وأمثال ذلك (لِيُدْحِضُوا): ليزيلوا، (بِهِ): الجدال، (الْحَقَّ) الذي جاءهم عن مقره ويبطلوه (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي) الحجج والبراهين (وَمَا أُنْذِرُوا) أي: ما أنذروه من العقاب أو ما مصدرية أي: إنذارهم (هُزُوًا) استهزاء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ): بالقرآن، (فَأَعْرَضَ عَنْهَا) تركها ولم يؤمن بها ولم يتفكر فيها (وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ): ما سلف من معاصيه، (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكنَّةً): أغطية وغشاوة تعليل للإعراض والنسيان (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي: كراهة أن يفهموه، ولما كان المراد بالآيات القرآن ذكر الضمير وأفرده (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا): صممًا وثقلاً معنويًا عن استماع الحق حق استماعه (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) إذاً جواب وجزاء كأن قوله: " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة " في معنى لا تدعهم ثم نزل حرصه عليه الصلاة

(60)

والسلام على إيمانهم منزلة قوله ما لي لا أدعوهم؟ فأجيب بقوله وإن تدعهم إلى الآخر. (وَربُّكَ الْغَفُورُ): البليغ المغفرة، (ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بمَا كَسَبُوا): من الذنوب، (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ): في الدنيا، (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) هو يوم القيامة وقيل: بدر (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ): من دون الله في ذلك الموعد، (مَوْئِلًا): منجا، وقيل: لن يجدوا من دون ذلك الموعد ومن عنده منجا ومهربا (وَتِلْكَ الْقُرَى) أي: أصحابها أي قرى عادٍ وثمود وأضرابهم مرفوع بالمبتدأ وقوله: (أَهْلَكْنَاهُمْ) خبره أو منصوب بشريطة التفسير (لَمَّا ظَلَمُوا) بأن كفروا وعاندوا (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ): لهلاكهم (مَوْعِدًا): وقتًا معينًا لا يزيد ولا ينقص فكذلك أنتم يا قريش احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد ظلمتم مثل ما ظلموا، بل أشد ومن قرأ (لمهلِك) بكسر اللام أي: وقت هلاكهم أو مصدر كالمرجع والمحيص. * * * (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) * * *

(وَإِذْ قَالَ) أي: واذكر إِذْ قال (مُوسَى لِفَتَاهُ): يوشع بن نون كان يخدمه: (لا أَبْرَحُ) حذف خبره للقرينة أي: لا أزال أسير (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ): ملتقى بحري فارس والروم مما يلى المشرق فإن فيه موعد لقاء الخضر (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا): أو أسير دهرًا أو عن بعضهم هو ثمانون أو سبعون سنة، أي: حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضى الحقب قيل: أو بمعنى إلا أن أي: إلا أن أمضى حقبًا من الدهر فأتيقن معه فوات المجمع وقصته أن كليم الله قام خطيبًا في بني إسرائيل فَسُئِلَ أيُّ: الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه أن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك فقال: يا رب كيف لي به؟ قال: خذ حوتًا فحيث ما فقدته فهو ثَمَّه (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا) أي: البحرين ظرف أضيف إليه على الاتساع كشهادة بينكم أو بمعنى الوصل (نَسِيَا حُوتَهُمَا) نسي موسى أن يطلبه ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته، أو نسيا تفقده (فَاتخَذَ): الحوت، (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا): مسلكًا وهو مفعول ثان لاتخذ أي: أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه وقد

نقل أنه حوت مملوح في مكمل وكان في ذاك المجمع نهر ماء الحياة، فوصل إلى الحوت قطرة منه فحيي (فَلَمَّا جَاوَزَا): مجمع البحرين (قَالَ لِفَتَاهُ): يوشع، (آتِنَا غَدَاءَنَا): ما نتغدى به (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا): تعبًا ولم يتعب موسى في سفر غيره فلهذا قيده باسم الإشارة، وعن بعضهم ما تعب إلا بعد مجاوزة المجمع (قَالَ أَرَأَيْتَ): ما دهاني (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ): التي في الموضع الموعود (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ) أي: ذكره (إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل من الضمير (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) أي: سبيلاً عجبًا، وهو كالأول ثاني مفعولي اتخذ وقيل: تقديره أعجب عجبًا، قاله يوشع في آخر كلامه تعجبًا (قَالَ): موسى، (ذلِكَ) أي: أمر الحوت (مَا كُنَّا نَبْغِ): نطلبه فإنه أمارة الظفر بالطلبة (فَارْتَدَّا): رجعا، (عَلَى آثَارِهِمَا): طريقها الذي جاء فيه (قَصَصًا): يقصان قصصًا أو حال بمعنى مقتصين (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا) هو الخضر وكان مسجى بثوب فسلم موسى عليه فقال: وأنى بأرضك السلم (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)، علم الباطن إلهامًا من رحمتنا. قال البغوي وغيره: أكثر أهل العلم على أنه ما كان نبيًّا بل

كان وليَّا (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) مما يختص بنا لا يحصل بالكسب (عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى) بعد أن قال له الخضر: من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم. (هَلْ أَتَّبِعُكَ) أصاحبك (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ) حال من مفعول أتبع (مِمَّا عُلِّمْتَ) مفعول تُعَلِّمَنِ ومفعول عُلِّمْتَ ضمير محذوف عائد إلى ما والصيغتان من علم الذي بمعنى عرف (رُشْدًا) أي: علمًا ذا رشدٍ فحذف المضاف أو مفعول له لأتبعك ولا نقص أن يكون نبي يتعلم من غيره في غير أصول الدين وفروعه فإنه لابد أن يكون أعلم أهل زمانه فيهما لا في غيرهما وقد نقل أنه قال الخضر: كفاك بالتوراة علمًا. فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا فجئتك (قَالَ): الخضر (إِنَّكَ لَنْ تَستَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) لما ترى من الأفعال التي تخالف شريعتك (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) أي: وكيف تصبر وأنت نبي على أمور لم يحط ببواطنها خُبْرُك وظواهرها مناكير، فنصب خبرًا على التمييز أو مصدر؛ لأن " لم تحط " بمعنى لم تخبر (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ

(71)

شَاءَ اللهُ صَابِرًا): معك، (وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) عطف على صابرًا أي: غير عاص أو عطف على ستجدني (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ): لا تفاتحني بالسؤال عَمَّا صدر عني (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أي: حتى أكون أنا الفاتح عليك. * * * (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) * * * (فَانطَلَقَا): على الساحل يطلبان سفينة (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا): عرف أهل السفينة الخضر وحملوهما بغير نول، فأخذ الخضر قدومًا وقلع من ألواح السفينة لوحًا (قَالَ): موسى، (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ) قيل: اللام لام العاقبة لا لام التعليل (أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا): عظيمًا من أمِرَ الأَمْرُ إذا عظم (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ): له موسى: (لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)، ما يحتمل الموصولية والمصدرية يعني نسيت وصيتك ولا مؤاخذة على الناسي، وفي الحديث الصحيح كانت الأولى من موسى نسيانًا (وَلا تُرْهِقنِي): لا تغشني، (مِنْ أَمْرِي عُسْرًا): بالمؤاخذة على المنسي وعسرًا ثاني مفعوليه يقال رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه (فَانْطَلَقَا) بعدما خرجا من السفينة (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا): يلعب مع الغلمان، وكان أحسنهم (فَقَتَلَهُ): الخضر بأن أخذ رأسه فاقتلعه، أو ذبحه أو ضرب رأسه بحجر (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً): طاهرة من الذنوب فإنه صغير (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي: لم

تقتل نفسًا وجب عليها القتل (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا): منكرًا لما كان هذا أقبح بحسب الظاهر بالغ في إنكاره (قَالَ أَلَمْ أَقلْ لَكَ) زاد في هذه المرة لك زيادة لعتابه على رفض وصيته وقلة صبره (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا) سؤال اعتراض وإنكار (فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغتَ): وجدت، (مِنْ لَدُنِّي): من قبلي (عُذْرًا): لما خالفتك مرارًا وفي الحديث: " رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحجه لأبصر العجب "، (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي أنطاكية، وقيل أيلة (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا): سألاهم الطعام (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) استعار الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهم والعزم لذلك، يقال: عزم السراج أن يطفأ إذا قرب،

وانقض: إذا أسرع سقوطه، (فأَقَامَهُ) قال: بيده فأقامه أو هدمه فبناه (قَالَ لَوْ شِئْتَ): أن نأخذ جعلاً (لاتَّخَدتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) والتاء من تخذ أصل كتَبِعَ، وليس من الأخذ يعني: قد علمت أنا جياع حتى افتقرنا إلى المسألة، فما وجدنا مواسيًا فلو أخذت على عملك أجرًا (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) إشارة إلى الفراق الموعود بقوله: لا تصاحبني كهذا أخي إشارة إلى الأخ، أو إشارة إلى السؤال الثالث أي: هذا الاعتراض سبب فراقنا، أو إشارة إلى الوقت أي: هذا وقت فراقنا، وإضافته إلى البين من إضافة المصدر إلى الظرف للاتساع (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) قيل: فيه دليل على أن المسكين يطلق أيضًا على ما لا يملك شيئًا يكفيه (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا): أجعلها ذات عيب (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ) أي: أمامهم (مَلِكٌ يَأخُذُ كُل سَفِينَةٍ): صالحة جيدة (غَصْبًا) نصب بالحال أو بالمفعول له (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا): يغشيهما (طُغْيَانًا وَكُفْرًا) يعني: يحملهما حبه على متابعته على الفساد والكفر، وفي الحديث: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا " (فَأَرَدْنَا أَنْ

يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا): يرزقهما بدله ولدًا (خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً): طهارة وتقوى (وَأَقْرَبَ رُحْمًا): رحمة وعطفًا على والديه عن كثير من السلف: أبدلهما الله جارية فقيل: تزوجها نبي وولدت نبيا هدى الله به أمة من الأمم، وعن ابن جريج لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم، ونصب رُحْمًا وزَكَاةً على التمييز (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) أي: في تلك المدينة (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا) أي: مال وعن كثير من السلف أنه لوح من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبًا لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟! عجبًا لمن آمن بالقدر كيف ينصب؟! عجبًا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب؟! عجبًا لمن أيقن بالحسنات كيف يعقل؟! عجبًا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن؟! لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي بعض الروايات: عجبًا لمن عرف النار كيف يضحك؟! وقيل: مكتوب في الجانب الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير فأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، وعن بعض السلف أنه كنز علم. قيل لا منافاة بين الأقوال؛ لأن اللوح الذهبي هو مال، وما كتب فيه كنز علم (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء وكان نساجًا، ويعلم منه أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا

أَشُدَّهُمَا): حلمهما وكمال رأيهما (وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا) ولو سقط الجدار لتلف الكنز (رَحْمَةً مِنْ ربِّكَ) نصب على المفعول له، (وَمَا فَعَلْتُهُ) أي: ما رأيت (عَن أَمرِي): رأيي واختياري، بل فعلته بأمر الله (ذَلِكَ تَأوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ) أي: تستطع حذف التاء تخفيفًا (عَلَيْهِ صَبْرًا). * * *

(83)

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ

لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) * * * (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) بعثت قريش إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سلوه عن رجل طاف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح. فنزلت سورة الكهف، والمشهور أنه الإسكندر الرومي، وما يعلم من تاريخ الأرزقى وغيره أنه غيره، وهذا الرومي كان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وأما هذا الإسكندر فقد كان في زمن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وطاف بالبيت معه ووزيره الخضر ووجه تسميته أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، وقد صح عن علي أنه قال: كان عبدًا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فسمي ذا القرنين، أو لأنه بلغ طرفي الدنيا من حيث تطلع قرنا الشمس وتغرب (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ): أيها السائلون، (مِنْهُ) من ذي القرنين (ذِكْرًا إِنَّا مَكنَّا لَهُ): أمره، (في الْأَرْضِ): بأن تصرف

فيها كيف شاء (وَآتيْنَاهُ مِنْ كُلٌ شَيْءٍ): أراده، (سَبَبًا) وصلة توصله إليه من العلم والقدرة والآلة (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) يوصله إلى المغرب (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي: رأى الشمس في منظره تغرب في عين ذات حمئة أي: طين أسود، ومن قرأ حامية، أي: حارة والجمع بين القراءتين أن تكون العين جامعة للوصفين (وَوَجَدَ عِنْدَهَا): عند تلك العين (قَوْمًا) أمة عظيمة من الأمم كفارًا (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ): بقتلهم وسبيهم (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا): بإرشادهم وتعليمهم الشرائع أو بالمن والفداء؟ أو بأسرهم؛ فإنه إحسان في جنب القتل (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ): بأن يصر على الكفر (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ): بالقتل في الدنيا (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ) إشارة إلى الحشر والبعث (فَيُعَذِّبُهُ): الله في الآخرة (عَذَابًا نُكْرًا): منكرًا لم يعهد مثله (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) أي: فله المثوبة الحسنى، وجزاءً تمييز أو حال أي: مجزيا بها أو تقديره يجزى بها جزاء ومن قرأ برفع جزاء أي فله أن يجازي المثوبة الحسنى وهي الجنة، أو جزاء فعلته الحسنى وهي أعماله الصالحة (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا): لا نأمره بالصعب

الشاق، بل بالسهل المتيسر أي: ذا يسر (ثَمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا): طريقًا إلى المشرق (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي: الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً، ومن قرأ بفتح اللام فهو بحذف مضاف أي: مكان طلوعها فإن المطلع مصدر (وَجَدَهَا تَطْلع عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُم مِّن دونِهَا): من دون الشمس (سِتْرًا) ليس لهم أبنية تكنهم فإن أرضهم لا تمسك الأبنية ولا أشجار تظلهم، فهم حين طلوع الشمس في أسراب أو في ماء فإذا زالت خرجوا (كَذَلِكَ) خبر مبتدأ أي: أمره كما وصفنا في رفعته أو أمره كأمره في أهل الغرب، أو صفة قوم أي: تطلع على قوم مثل ذلك القبيل أي: أهل الغرب أو صفة: مصدر محذوف أي: بلغ مطلعها بلوغًا مثل بلوغه مغربها (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ) من أسبابه (خبْرًا): علمًا؛ لأنا أعطيناه ذلك، فيه تكثير ما لديه كأنه بلغ مبلغًا لا يحيط به علم أحد إلا علم الله (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا): طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب وهو الشمال (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي: بين الجبلين المبني بينهما السد، وهما جبلان عاليان في أقصى الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج، والصحيح أنهم من أولاد آدم وبين هاهنا مفعول به، فإنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفًا (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ) يعني لعجمهم وقلة فطانتهم لا يفهمون كلام أحد، ومن قرأ بضم الياء وكسر القاف أي: لا يفهمون السامع لغرابة لغتهم (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) عن بعض السلف أنه يعلم جميع الألسنة (إِنَّ

يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي: في أرضنا بأنواع المفاسد (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا): جعلا نخرجه من أموالنا (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا): فلا يمكن لهم الوصول إلينا (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي): من المال والملك (خَيْرٌ) من خراجكم لا حاجة بي إليه (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي: بأيديكم وقوتكم وآلات بنائكم لا بمالكم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) حاجزًا حصينًا (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي: قطعة، والزبرة: القطعة الكبيرة (حَتَّى إِذَا سَاوَى) أي: فجاءوا بها حتى إذا ساوى (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) الصدفان: جانبا الجبلين، لأنهما يتصادفان أي: يتقاربان أي: امتلأ بينهما من زبر الحديد (قَالَ): للعَمَلَة (انْفُخُوا) فإنه جعل الفحم والحطب في خلال زبر الحديد (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ)، الضمير للمنفوخ فيه (نَارًا) أي: كالنار بالإحماء (قَالَ آتونِي): قطرًا (أفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي: نحاسًا مذابًا على الحديد المحمي حتى التصق بعضُه ببعض، فحذف مفعول آتوني لدلالة الثاني عليه (فَمَا اسْطَاعُوا) بحذف التاء (أَنْ يَظْهَرُوهُ): يعلوه لطوله وملاسته (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا): من أسفله لشدته (قَالَ): ذو القرنين، (هَذَا) أي: السد (رَحْمَةٌ مِنْ ربي): على عباده (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي: وقت وعده بقيام الساعة أو بخروجهم (جَعَلَهُ

(102)

دَكَّاءَ) أي: أرضًا مستوية ومن قرأ " دكا " بغير مد يكون مصدرًا بمعنى المفعول أي: مدكًّا مسوى بالأرض (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) كائنا ألبتَّة (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ) أي: بعض يأجوج ومأجوج (يَوْمَئِذٍ): يوم فتح السد (يَمُوجُ في بَعْضٍ): يختلط بعضهم ببعض كموج الماء لكثرتهم، أو جعلنا بعض الخلق من الإنس والجن يوم قيام الساعة يختلط إنسهم بجنهم حيارى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): قَرْنٌ ينفخ فيه إسرافيل لقيام الساعة (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا): للحساب (وَعَرَضْنَا): أبرزنا وأظهرنا (جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا): فعاينوها (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ): غشاوة، (عَن ذكْرِي) عن رؤية آياتي الدالة على توحيدي (وَكَانُوا لا يَستَطِيعُونَ سَمْعًا): لكَلامي كأنهم [أصمت] مسامعهم بالكلية. * * * (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ

مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) * * * (أَفَحَسِبَ) همزة الاستفهام للإنكار (الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي): كالملائكة وعيسى أو الشياطين (مِنْ دُونِي أَوْلياءَ): معبودين وثاني مفعولي حسب محذوف للقرينة أي: ظنوا اتخاذهم معبودين نافعًا لهم (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا) أي: منزلاً أو ما يهيأ للضيف حين نزوله مما حضر، وفيه تنبيه على أن لهم وراءها عذابًا أشد (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) تمييز وجمعه لتنوع الأعمال (الَّذِينَ ضَلَّ) أي: هم الذين بطل وضاع (سَعْيُهُمْ) أو نصب على الذم (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسنُونَ صُنْعًا): لاعتقادهم أنَّهم على الحق (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ ربهِمْ): الدالة على توحيده (وَلِقَائِهِ): بالبعث (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ): بسبب كفرهم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا): ليس لهم خطر ولا مقدار ولا اعتبار عند الله (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ) مبتدأ وخبر (جَهَنَّمُ) عطف بيان للخبر، أو هو خبر وجزاؤهم بدل من المبتدأ أو تقديره: الأمر ذلك والجملة مبينة له (بِمَا كَفَرُوا) ما مصدرية (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا). (إِن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) هي أوسط الجنة وأعلاها، ومنه تفجر الأنهار (نُزُلًا) فيه تفسيران كما مر (خَالِدِينَ فِيهَا) حال مقدرة (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا): تحولا إذ لا يتصورون

منزلاً أطيب منها (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ) أي: ماء البحر (مِدَادًا لِكَلِمَاتِ

رَبِّي): لكلمات علمه وحكمته (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) أي: ماؤه (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) فإن ماء البحر متناه وعلم الله غير متناه (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ): بمثل البحر الموجود (مَدَدًا): زيادة معونة؛ لأن المجموع أيضًا متناه نزلت حين قالت اليهود: إنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ثم تقول: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً أو لما نزلت: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " قالت اليهود أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فنزلت " قل لو كان البحر " الآية (قُلْ إِنَّمَا

أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) خصصت بالوحي وتميزت عنكم به (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) يخاف المصير إليه أو يأمل لقاء الله ورؤيته (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) وهو ما كان موافقًا لشرع الله (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) أي لا يرائي بعمله بل لابد أن يريد به وجه الله وحده لا شريك له. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ أكمل الحمد وأتمه * * *

سورة مريم

سورة مريم مكية إلا آية السجدة وهي ثمان أو تسع وتسعون آية وست ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) * * * (كهيعص) عن بعضهم معناه: الله كاف هاد يده فوق الأيدي عالم صادق.

(ذِكْرُ رَحْمَت رَبِّكَ) خبر لـ كهيعص، إن كان اسمًا للسورة، وإلا فتقديره هذا المتلو ذكر رحمة ربك (عبدَهُ) مفعول رحمة (زَكَرِيا) بدل، أو عطف بيان (إِذْ نَادَى رَبَّهُ ندَاءً خَفيُّا) والإخفاء في الدعاء أبعد من الرياء، ولأن دعاءه جوف الليل عند نوم أَهله (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ): ضعف، (الْعَظْمُ مِنِّي) أي: جنس العظم، والعظام التي هي قوام البدن إذا وهنت مع أنها أصلب ما فيه، فكيف بما وراءها؟! (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) شبه الشيب بلهب نار لا دخان فيه وانتشاره باشتعالها، وأسند إلى الرأس الذي هو مكان الشيب مبالغة، ولم يضف الرأس اكتفاء [بعلم] المخاطب وأخرج الشيب مميزًا الإيضاح المقصود (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) بل عادتك الاستجابة لي كلما دعوتك فأنت الذي أطمعتني في قبول الدعاء (وَإِنِّي خِفْتُ

الْمَوَالِيَ) بني عمه وعصبته خاف أن لا يحسنوا الخلافة (مِنْ وَرَائِي) بعد موتي وهو متعلق بمحذوف أي خفت عملهم بعدي (وَكَانتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا): لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ): من محض فضلك فإني وامرأتي لا نصلح للولادة بحسب العادة (وَلِيًّا): من صلبي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ): النبوة والعلم وكان زكريا من ذرية يعقوب وقد ثبت " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة " ولولا أن المراد منه هذه الوراثة الخاصة لكانت تلك الصفة أي: يرثني زائدة لا فائدة فيها إذ الولد يرث أباه في كل شرع (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا): مرضيًّا عندك وعند خلقك،

(يَا زَكَرِيَّا)، جواب لندائه (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا): لم يسم أحدٌ قبله بهذا الاسم أو معناه شبيهًا (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُْ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي): من أول عمرها (عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا): يبسا في المفاصل والعظام كالعود اليابس يقال: عتا العود أي: يبس من أجل الكبر وأصله عتو استثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ثم قلبت الثانية وأدغمت، وهذا تعجب منه عليه الصلاة والسلام واستغراب (قالَ): الملك المبشر له، (كَذَلِكَ) أي: الأمر كذلك (قَالَ ربُّكَ هُوَ) أي اتخاذ الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها (عَلَيَّ هَيِّنٌ): يسير، (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)، فإن خلق أصلك آدم وهو معدوم صرف أغرب (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيةً): علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ): لا تقدر على التكلم (ثَلَاثَ لَيَالٍ): يعني ثلاثة أيام ولياليها (سَوِيًّا) حال كونك سوى الخلق من غير خرس وبكم فإنه كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا بإشارة (فخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ): من المصلى، أو من الغرفة (فأَوْحَى): أشار وأومأ (إِلَيْهِم) وعن بعضهم كتب لهم في الأرض (أَنْ سَبِّحُوا) أن مفسرة أو مصدرية (بُكْرَةً وَعَشِيًّا): طرفي النهار والمراد تنزيهه وتحميده أو الصلاة (يَا يَحْيَى) يعني لما وهبنا له قلنا: يَا يَحْيَى (خُذِ الْكِتَابَ): أي التوراة التي يحكم بها النبيون (بِقُوَّةٍ): بجد وحرص (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ): الفهم والحكمة والنبوة

(16)

صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا): رحمة وتعطفا من عندنا، وقيل تعطفا منا على أبويه عطف على الحكم (وَزَكَاةً): طهارة من المعاصي (وَكَانَ تَقِيًّا)، وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام ما أذنب ولا هَمَّ بذنب (وَبَرًّا بِوَالِدَيهِ)، عطف على تَقِيًّا أي: بارًّا بهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) عاقًّا أو عاصيًا لربه (وَسَلامٌ): من الله (عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أوحش ما يكون الخلق في تلك المواطن الثلاثة فخصه الله تعالى بالسلامة. * * * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً

مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) * * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ): أي القرآن (مَريمَ) أي: قصتها (إِذ انتَبَذَتْ) اعتزلت، بدل اشتمال من مريم أو ظرف لقصتها المقدرة (مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي: شرقي مسجد الأقصى لحيض أصابها، أو لفراغها للعبادة وهو ظرف أو مفعول فإن انتبذت متضمن معنى أتت (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) أي: استترت منهم وتوارت قيل استترت في مقابل شروق الشمس للاغتسال عن الحيض (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا): جبريل (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي: على شكل إنسان تام كامل (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ): يا أيها البشر (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) تتقي الله، وجواب الشرط محذوف أي: فستنتهي مني بتعوذي، أو فلا تتعرض لي، قيل هو للمبالغة أي: إن كنت تقيًّا فأعوذ منك، فكيف إذا لم تكن تقيًّا متورعًا؟! (قَالَ) جبريل (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ ربِّكِ): لم تصابي مني بسوء، قاله وهو كان في صورة بشر أو عاد إلى هيئته

الملكية (لأهَبَ لَكِ غُلامًا): لأكون سببًا في هبته، (زَكِيًّا): طاهرًا، (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي): لم يباشرني (بَشَرٌ): من الحلال (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا): لست بزانية، وهو فعول قلبت الواو وأدغمت ثم كسرت الغين للمناسبة (قالَ كَذَلِكِ) أي: الأمر كذلك صدقها فيما قالت، ثم ابتدأ وجاز أن يتعلق كذلك بـ " قال ربك " وقوله " هو على هين " مفسر ذلك المبهم (قَالَ رَبُّكِ هُوَ) أي: وهب غلام من غير أب (عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ)، تقديره: ونفعل ذلك لنجعله أو لنبين قدرتنا ولنجعله (آيَةً لِلنَّاسِ): على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا): على عبادنا لأنه يهديهم (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا): في علم الله الأزلي الذي لا يتغير (فَحَمَلَتْهُ) بأن نفخ في جيبها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت ومدة حمله تسعة أشهر أو ثمانية، ولهذا لا يعيش ولد لثمانية فيكون آية أخرى أو ساعة (فانتَبَذَتْ بِهِ) أي اعتزلت حال كونها متلبسة بالحمل (مَكَانًا قَصِيًّا) بعيدًا عن الخلق لخوف التهمة عنهم (فأَجَاءهَا) ألجأها: واضطرها (الْمَخَاضُ): وجع الولادة (إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ): لتعتمد عليه عند الولادة، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها متعالم عند الناس، (قَالَتْ): استحياء من الناس (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) الأمر (وَكُنْتُ نَسْيًا) ما من حقه أن يطرح وينسى كالذبح اسم لما من شأنه أن يذبح وبفتح النون

لغة فيه (مَنْسِيًّا)؛ بحيث لا يخطر ببال أحد، (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) فاعل نادى ضمير جبريل، قيل هو كالقابلة لها أو المراد أسفل من مكانها أي: آخر الوادي أو ضمير عيسى قيل أي: من تحت النخلة (أَلَّا تَحْزَنِي) أن مصدرية أي: بأن أو بمعنى أي (قَدْ جَعَلَ ربُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) نهرًا أو سيدًا أو هو عيسى من السرو (وَهُزِّي) أميلي، (إِلَيْكِ بجِذْع النَّخْلَةِ) الباء زائدة للتأكيد أو بمعنى افعلي الهز به (تُسَاقِطْ) تتساقط النخلة (عَلَيْكِ رُطَبًا) تمييز إن كان تساقط من باب التفاعل ومفعول إن كان من المفاعلة (جَنِيًّا): غضًا وكانت تلك النخلة يابسة، فأورقت لتكون آية أخرى يطمئن بها قلبها أو مثمرة لكن لم تكن في حين ثمرها، (فَكُلِي): من الرطب (وَاشْرَبِي): من النهر أو عصير الرطب (وَقَرِّي عَيْنًا): طيبي نفسك وهو من القرأى: البرودة فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة، أو من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره، (فإِمَّا تَرَيِنَّ): فإن تري (مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا): صمتًا وكان شريعتهم ترك الطعام والكلام في الصيام (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا): بعد أن أخبركم بنذري بل لا أكلم إلا ملائكة الله وأناجي ربي، أو كان الإخبار بالنذر أيضًا بالإشارة، وعن بعضهم لما قال عيسى لأمه: لا تحزني، قالت: كيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج، ولا مملوكة! فأي شيء عذري يا ليتني مت قبل هذا، قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام قولي إني نذرت للرحمن صومًا (فَأَتَتْ بِهِ)، الباء للتعدية، والضمير للولد (قَوْمَها)، مفعوله الثاني (تَحْمِلُهُ) حال (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا): منكرًا عظيما (يَا

أُخْتَ هَارُونَ) أي: شبيهه في الزهد والتقوى أو كانت من نسله كما يقال للتميمي والمضري يا أخا تميم، ويا أخا مضر، أو نسبت إلى رجل صالح فيهم اسمه هارون، أو رجل فاجر فيهم يقال له هارون (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا): زانية حتى نقول إنك تابعت في تلك الفاحشة أحد أبويك (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ): إلى عيسى أن كلموه (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صبِيًّا) كان تامة وصبيًا حال أو زائدة والظرف صلة من (قَالَ) عيسى: (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أقرَّ أولاً بالعبودية (آتَانِيَ الْكِتَابَ): الإنجيل جعل ما يأتي بعد في حكم الآتي، أو أنه درس الإنجيل وأحكامه في بطن أمه وقيل: المراد علمني التوراة (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا): في

سابق علمه أو هو نبي حينئذ (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا): معلمًا للخير (أَيْنَ مَا كُنْتُ): حيث كنت (وَأَوْصَانِي): أمرني (بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ): زكاة المال، أو تطهير النفس (مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا) عطف على مباركًا أي: بارًّا أو منصوب بفعل بمعنى أوصاني وهو كلفني، (بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا): مستكبرًا عن عبادة الله وبر والدتي (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ): فلا ينالني شيطان، (وَيَوْمَ أَمُوتُ) فأنجاني من سوء الخاتمة (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا): فليس لي هول (ذَلِكَ): الذي وصفناه هو (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ): لا ما تصفه النصارى (قَولَ الْحَقِّ) أي: هو قول الحق الذي لا ريب فيه، فالإضافة بيانية أو الحق هو الله تعالى أو خبر ثاني لذلك، ومن قرأ بنصب قول جعله مصدرًا مؤكدًا (الذِي فِيهِ يَمْتَرُون) فبعضهم يقولون إنه لزنية ساحر وبعضهم إنه ابن الله (مَا كَانَ لله أَن يَتَّخِد مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانهُ) تكذيب للنصارى وتنزيه لجناب قدسه (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلا يناسبه خلقه ولا يحتاج إلى ولد يعضده (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) عطف على إني عبد الله وهو من مقول عيسى ومن قرأ أن بالفتح فتقديره ولأن أو عطف على

(41)

الصلاة (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ): طريق مشهود له بالاستقامة (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ): أهل الكتاب، أو النصارى فإن فيهم ثلاث فرق (مِنْ بَيْنِهِمْ) من بين الناس، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي: من شهود هول يوم عظيم، أي: يوم القيامة أو من وقت الشهود، أو مكان الشهود فيه وهو الموقف (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) أي: ما أسمعَهم وأبصرَهم في ذلك اليوم لكن لا ينفعهم سمعهم حينئذ ولا بصرهم وحاصله أن كمال بصارتهم واستماعهم في ذلك اليوم جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صمًا عميًا (لَكِنِ الظَّالِمُونَ) أوقع المظهر موقع المضمر لأن يسميهم ظالمًا (الْيَوْمَ): في الدنيا (الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) فيقولون إنه ابن الله، أو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء (وَأَنذرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يتحسر المسيء على الإساءة، والمحسن على قلة الإحسان (إذ قُضِىَ الأمْرُ): فرغ من الحساب، وذبح الموت بدل من اليوم أو ظرف للحسرة (وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنونَ) أي: أنذرتهم حال كونهم غافلين [غير مؤمنين] (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا): يبقى له الملكية وتزول [ملكية] غيره (وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) للجزاء. * * * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ

_ (1) في الأصل [عن غير مؤمنين] والتصويب من البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) * * * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ): لهؤلاء الذين هم من ذرية إبراهيم، ويدعون أنَّهم على ملته (إِبْرَاهِيمَ): كيف نهى أباه عن عبادة الأصنام (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا): ملازمًا للصدق بليغًا فيه (نَبِيًّا إِذْ قَالَ) بدل من إبراهيم (لأَبيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعبدُ مَا لا يَسْمَعُ) دعائك (وَلا يُبْصِرُ) عبادتك (وَلا يُغنِي عَنْكَ شَيْئًا): من المكاره (يَا أَبَتِ)

كرره للاستعطاف (إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ): وإن كنت من صلبك أصغر منك سنًّا (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): مستقيمًا (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّ): ومطاوع العاصي عاص (يَا أَبَتِ إِني أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ) يصيبك (عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ): على شركك وعصيانك (فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا): قريبًا مصاحبًا لمن هو أعدا عدوك وأبغض الخلق إلى الله وذكر الخوف ونكر العذاب لحسن الأدب حيث لم يصرح بأن العذاب لاحق به (قَالَ): أبوه (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ)، قابل استعطافه بالغلظة حيث سماه باسمه ولم يقل يا ولدي وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بهمزة الإنكار، ثم أوعده بأقبح وعيد فقال: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ): عن مقالتك أو عن الرغبة عنها (لأرْجُمَنَّكَ): بلساني أي أشتمك جزاء سبك آلهتي، وقيل بالحجارة حتى تموت (وَاهجُرْنِي)، عطف على مقدر أي: فاحذرني واهجرني (مَلِيًّا) زمانًا طويلاً

(51)

أو سويًا سالمًا قبل أن يصيبك مني مكروه (قَالَ): إبراهيم (سَلامٌ عليْكَ): سلمت بعد مني لا أقول لك ما يؤذيك وهذا جواب الجاهل (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [الفرقان: 63]، (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) رجاء أن يوفقك للتوبة، فتؤمن أو كان يستغفر له أولاً ثم رجع عنه كما قال تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة: 114]، (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) بليغًا في البر واللطف (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ): أفارقكم وأفارق دينكم (وَأَدعُو رَبِّي): أعبده وحده (عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) كما شقيتم أنتم بعبادة آلهتكم فضاع سعيكم صدره بـ عسى تنبيهًا على أن الإجابة فضل غير واجب والحكم على الخاتمة وهي غيب (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فهاجر إلى الشام (وَهَبْنَا لَهُ): بدل والده وقومه (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ): ابنه إسحاق وابن ابنه يعقوب أي جعلنا له نسلاً وعقبًا أنبياء، ولذلك قال: (وَكُلًّا): منهما (جَعَلْنَا) أي: جعلناه (نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهم مِنْ رحْمَتِنَا)، وهي النبوة والمال والرفعة وغيرها (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) الثناء الحسن، فإن جميع الملل يثنون عليهم ويمدحونهم وعبر باللسان عما يوجد به كما تطلق اليد على العطية وأضاف بالصدق دلالة على أنَّهم أحقاء [بذلك] الثناء ووصف بالعلو إشعارًا على أن لمحامدهم إعلاء في الأمصار على تباعد الأعصار. * * * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ

هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) * * * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا) بفتح اللام أي: أخلصه الله ونجاه وبكسر اللام أي خاليًا عن الرياء أو مخلصًا نفسه عما سواه (وَكَان رَسُولاً نَبِيًّا): أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن أمره ونهيه (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانبِ الطورِ الأيْمَنِ): من ناحيته التي يلي يمين موسى، وقيل من اليمن لا من اليمين (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) من النجو وهو الارتفاع فإنه رفعه فوق السماوات حتى سمع صرير القلم، فهو حال من المفعول أو من النجوى أي مناجيًا (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا): من أجل رحمتنا له (أَخَاهُ) أي: معاضدته (هَارُون) عطف بيان (نَبِيًّا) إجابة لدعوته " واجعل لي وزيرًا

من أهلى " [طه: 29]، وهارون أكبر سنًا منه منصوب على الحال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) قد نقل أنه أقام حولاً في مكان ينتظر أحدًا لوعده وأيضًا قال لأبيه " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " [الصافات: 102]، أي: على الذبح فوفى بوعده وفي الجملة هو مشتهر بهذه الجميلة (وَكان رَسُولا نَبِيًّا)، من قال: إن الرسول من يكون له شريعة مجددة والنبي أعم ففيه إشكال فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته ومن قال: الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يقال له ولمن يأتيه الوحي في المنام فلا إشكال (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) كما قال: (وأمر أهلك بالصلاة) [طه: 132]، وقال سبحانه: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6]، وفي الحديث " إذاً استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات " (وَكانَ عِنْدَ ربِّهِ مَرْضِيًّا) لحسن شيمه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا): السماء الرابعة أو السادسة

ومات فيها أو إلى الجنة (أُولَئِكَ): الأنبياء المذكورون في تلك السورة (الذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ): نعما ظاهرة وباطنة (مِنَ النبِيِّينَ)، بيان للموصول (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) بدل منه بإعادة الجار (وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) أي: ومن ذرية من حملنا مع نوح من سفينته سوى إدريس فإنه جد نوح فهو من ذرية آدم وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ) عطف على إبراهيم فموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من ذرية إسرائيل لا إسحاق وإسماعيل (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا) أي هديناه إلى الحق (وَاجْتَبَينَا) للنبوة (إِذا تُتْلَى)، ظرف لـ خرُّوا وهو خبر لأولئك إذا جعلت الذين صفته وإن جعلته خبره فهو استئناف (عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا): سقطوا (سُجَّدًا) جمع ساجد (وبكِيًّا)، جمع باك (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) خلفه أي: عقبه وخلْف بسكون اللام عَقِب السوء وبفتحها عقب الخير (أَضَاعُوا الصلاةَ): تركوها أو أخروها عن وقتها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) مالوا إلى زخارف

الدنيا وهم اليهود والنصارى، وعن بعضهم أنَّهم من هذه الأمة في آخر الزمان (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا): شرًا وخسرانًا أو هو واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)، هذا يدل على أن الآية فِي الكفرة إلا عند من يقول: تارك الصلاة كافر وعليه كثير من السلف (فَأُولَئِكَ يَدْخلُونَ الْجَنةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا): بنقص جزاء أعمالهم فـ شيئًا إما مصدر أو مفعول بمعنى لا ينقصون ولا يمنعون شيئًا من جزاء أعمالهم (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من الجنة بدل البعض، والعدن عَلَم، ولذلك جاز أن يكون بدلاً من المعرفة وجاز وصفها بقوله: (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) أي: وهي غائبة عنهم لم يروها (إِنَّهُ): إن الله (كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا): مفعول لا بمعنى فاعل، فإن الوعد هو الجنة وهم يأتونها (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا): ما لا طائل تحته، (إِلا سَلامًا) استثناء منقطع وهو سلام الملائكة أو بعضهم بعضًا، وقيل السلام الدعاء بالسلامة، والدعاء بها في الجنة من باب اللغو نعم فائدته الإكرام (وَلَهُمْ رِزْقفمْ فيهَا بُكْرةً وَعَشِيًّا) لا فيها ليل ونهار لكن على التقدير وعن بعضهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ومقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب وقيل المراد الدوام (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ

كَانَ تَقِيًّا): الوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك فإنه لا فسخ ولا رجوع فيه قيل: أورثوا المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أبطأ جبريل النزول مدة فقال رسول الله عليهما السلام ما نزلت حتى ظن المشركون كل ظن فأوحى إلى جبريل أن قل له " وَمَا نَتَنَزَّلُ " الآية وقد ورد أن جبريل قال كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون؟! (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) أي: أمر الدنيا وأمر الآخرة وما بين النفختين أو الأرض والسماء والهواء أي: جميع الأزمان أو الأماكن له لا تنتقل في زمان دون زمان أو مكان إلى مكان إلا بأمره (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا): تاركًا لك مودعًا إياك كما زعمت المشركون (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا

(66)

بَيْنَهُمَا)، بدل من ربك أو خبر مبتدأ محذوف (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)، عدي باللام لتضمنه معنى الثبات أي: اثبت لها ولا يضق صدرك عن احتباس الوحي وشماتة المشركين (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا): مثلاً وشبهًا فلا محيص عن عبادته والصبر على مشاقها وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ليس أحد يسمى الرحمن غيره، وعن بعضهم هل تعلم أحدًا يسمى الله غيره؟ * * * (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ

مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) * * * (وَيَقُولُ الإنسَانُ) حرف التعريف للجنس، فإنه إذا قال قائل منهم ذلك صح إسناده إلى جميعهم كما يقال بنو فلان فعلوا، والفاعل أحدهم أو للعهد أي: منكرو الحشر (أَإِذَا مَا مِتُّ) ما زائدة للتأكيد (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) واللام لمجرد التأكيد ليس فيها معنى الحال والعامل في إذا فعل دل عليه " أخرج "؛ لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها والمراد من الخروج الخروج من الأرض، أو حال الفناء (أَوَلا يَذكُرُ): لا يتفكر (الْإِنْسَانُ) عطف على يقول، والهمزة بين المعطوفين ليدل على أن المنكر العجيب هو المعطوف فإنه لو تأمل (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) بل كان عدما صرفا لم يقل ذلك أي: لو تأمل النشأة الأولى حيث أخرجنا الجواهر والأعراض من العدم وأوقعنا تلك التأليف المشحون بأنواع الحكم اختراعًا من غير حذو على مثال له ينكر النشأة الثانية (فوَربكَ) قسم باسمه الأعلى مضاف إلى أشرف مخاطب (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ) الواو

مفعول معه أو للعطف والضمير المفعول لجنس الإنسان فإنه إذا حشر الجميع حشرًا واحدًا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد صدق أن الكل محشورون معهم (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا): قعودا على الركب على المعتاد في مواقف التقاول كما قال تعالى (وترى كل أمة جاثية) [الجاثية: 28]، (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ): أمةٍ شاعت دينا (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا): غيًّا وفسادًا أي: قادتهم ورؤساؤهم في الشر أو يبدأ بالأفسق فالأفسق، فيطرح في جهنم وأيهم مرفوع بالابتداء استفهامي وخبره أشد، والجملة محكية أي لَنَنْزِعَنَّ الذين يقال فيهم أيهم أشد أو مبني على الضم لحذف صدر صلته و " على الرحمن " للبيان لا متعلق بـ عتيا، لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه أو معلق بأشد أي: عتوهم أشد عليه كما يقال: هو أشد على خصمه (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا) أي: احتراقًا " وبها " للبيان أو ظرف لأولى أي: صليهم أولى بالنار يعني ننزع الرؤساء، ونعلم أنَّهم أحق بتضعيف العذاب أو نبدأ بالأعصى فالأعصى ونقدم الأولى فالأولى بالعذاب وجاء بـ ثم لتأخره في الإخبار، ولأن حاصله طرحهم في النار على الترتيب وهو متأخر عن النزع (وَإِنْ مِنْكُمْ) أي: منكم أحد (إِلَّا وَارِدُهَا): داخلها يدخل النار بر وفاجر وتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا وكثير من السلف على أن الورود هو الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها، وعن بعضهم الورود

الحضور والرؤية لا الدخول وقد ورد أنه - عليه السلام - عاد رجلاً من أصحابه وَعِكًا، ثم قال: " إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة " وعن مجاهد الحمى حظ كل مؤمن من النار (كَانَ): الورد (عَلَى ربِّكَ حَتْمًا): واجبًا أوجبه على نفسه أو قسمًا واجبًا (مَقْضِيًّا): قضاه الله عليكم (ثُمَّ نُنَجِّي): عن النار (الَّذِينَ اتَّقَوْا): الشرك (وَنَذَرُ الظالِمِينَ): الكافرين (فِيهَا جثِيًّا) جميعًا جمع مجثوة أو على الركب جمع جاث (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بَيِّنَات): واضحات المعاني والبرهان حال مؤكدة (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا): معهم، ولأجلهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ): منا ومنكم خير (مَقَامًا): مكانًا (وَأَحْسَنُ ندِيًّا): مجلسًا يعني لما سمعوا آيات الله أعرضوا عنها واستدلوا على فضلهم وشرفهم بزيادة حظهم حطام الدنيا فرد الله تعالى عليهم بقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا): متاع البيت (وَرِئْيًا): منظرًا أو هيئة فلم ينفعهم، ولن يدفع عنهم عذاب الله تعالى، وكم مفعول أهلكنا ومن قرن بيانه وهم أحسن في محل النصب صفة كم وأثاثًا ورئيًا تمييز عن النسبة (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) الشرك (فَلْيَمْدُدْ له الرَّحْمَنُ مَدًّا): يدعه ويمهله في طغيانه استدراجًا وهو خبر بلفظ الأمر إشعارًا بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة وقيل هذا دعاء (حَتَّى إِذَا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ): في الدنيا كالأسر والقتل (وَإِمَّا السَّاعَةَ): القيامة

(فَسَيَعْلَمُونَ) عند ذلك (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا): فئة وناصرًا وحتى غاية المد أي: هم في الاستدراج ممدود لهم الغواية إلى أن يأتيهم وعد الله أو غاية قول الكفار أي: الفريقين خير، أي: لا يزالون يقولون ذلك إلى أن يشاهد الموعود (وَيَزِيدُ اللهُ الذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى): إيقانًا على يقينهم عطف على الجملة الشرطية أي " من كان في الضلالة " إلخ وحاصله أن الله يزيد في ضلال الضالين، ويزيد هداية المهتدين (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) الأذكار والأعمال الصالحة التي يبقى أثرها (خيْرٌ عِنْدَ ربِّكَ): من مفاخرات الكفار (ثَوَابًا): جزاء (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) مرجعًا، وهذا من قبيل الصيف أحرُّ من الشتاء أي: أبلغ في حره من الشتاء في برده (أَفَرَأَيْتَ) أي: أخبر بقصة (الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا): عقب حديث أولئك (وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)، وذلك حين تقاضى خباب دَينًا له على العاص بن وائل، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة، ومن كل الثمرات قال: بلى. قال: فإذن موعدك الآخرة أو فيك فيها

فوالله لأوتين مالاً وولدًا (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ): أعلم علم الغيب حتى عرف أنه في الجنة (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا): أن سيؤتيه ذلك وعن بعضهم معناه أم قال لا إله إلا الله فيرجو بها (كَلا) ردع وردٌّ لما تصوره (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ): نحفظها عليه ونجازيه ألبتَّة فالسين لمجرد التأكيد، أو معناه سنظهر له أنا كتبنا، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدو (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا): نطيل مدة عذابه أو نزيده عذابًا فوق العذاب من المدد (وَنَرِثُهُ) أي: نرث منه ولا نرزقه (مَا يَقُولُ): من مال وولد (وَيَأْتِينَا): يوم القيام) (فَرْدًا): لا مال له ولا ولد (وَاتَّخَذُوا) أي: مشركو قريش (مِنْ دُون اللهِ آلِهَةً): يعبدونها (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا): ليتعززوا بهم حيث يكونون لهم شفعاء عند الله (كَلا)، ردع لتعززهم بها (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ) يجحد الآلهة عبادة المشركين كما قال تعالى: " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " [القصص: 63]، أو سينكر الكفرة عبادة الأوثان كما قال الله تعالى: " والله ربنا ما كنا مشركين " [الأنعام: 23]، (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا): أعداء كما نقل أنهم يقولون: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك وتوحيد ضدًا لأنهم كشيء واحد

(83)

لفرط توافقهم في العداوة كما يقال هم يد على من سواهم، أو ضمير يكونون للكفرة وضمير عليهم للآلهة. * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ): سلطناهم عليهم (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) الأز، والهز التحريك أي: تحركهم وتحثهم على المعاصي (فَلا تَعجلْ عَلَيْهِمْ): بطلب عقوبتهم حتى تطهر الأرض من دنسهم (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ): أيام آجالهم وأنفاسهم (عَدًّا) أي: لم يبق إلا أيام محصورة معدودة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ)

منصوب بمقدر وهو اذكر أو تقديره يوم نحشر ونسوق نفعل بهم ما لا يحيط به الوصف، أو بلا يملكون (وَفْدًا): وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ): كما يساق البهائم (إِلَى جَهًّمَ وِرْدًا): عطاشا؛ لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ): كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدً) استثناء منقطع أي: لكن من اتخذ عهدًا هو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها له الشفاعة، أو ضمير لا يملكون للفريقين والاستثناء المتصل بدل من الضمير (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا): عجيبًا أو عظيمًا منكرًا أو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة [التسجيل] عليهم بالجرأة على الله تعالى [وللتنبيه] على عظيم قولهم (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطرْنَ): يشققن (مِنْهُ) من ذلك القول (وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) أي: تهدُّ هَدًّا أي: تنكسر وتسقط (أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) أي: لأن أو بدل من ضمير منه والدعاء بمعنى التسمية وترك مفعوله الأول للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدًا أو بمعنى النسبة وفي اختصاص الرحمن أن أصول النعم وفروعها منه خلق العالمين وجميع ما معهم فمن أضاف إليه ولدا من نعمه فقد جعله كبعض خلقه ونعمه فحينئذ لا يستحق اسم

الرحمن (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) أي: ما يتأتى له اتخاذه لأن الولادة لا مقال في [استحالتها] (1) وأما التبني فلا يكون إلا في مجانس وأين للقديم الرحمن مجانس؟! (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) أي: ما منهم إلا وهو مملوك له يأوى إليه بالعبودية (لَقَدْ أَحْصَاهمْ): حصرهم بعلمه وأحاط بهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا): منفردًا عن الأتباع والأنصار كعبد ذليل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا): سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض للأسباب التي يكتسب بها الناس موادات القلوب وقد صح " إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل إني قد أحببت فلانًا فأحبه فينادى في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله تعالى. (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) أي يسرنا القرآن عليك حال كونه منزلاً

_ (1) في الأصل هكذا [أنه مح] والتصويب من الكشاف. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

بلغتك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) أشداء الخصومة بالباطل (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) تخويف لهم، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ): هل تشعر بأحد منهم وتراه (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا): صوتًا خفيَّا. اللهم اجعلنا من الوافدين إلى الرحمن لا من الواردين إلى النيران. * * *

سورة طه

سورة طه مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية وثماني ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) * * *

(طه) عن كثير من السلف أن معناه يا رجل بالعبرانية، وعن بعض أنه عليه السلام إذا صلى في التهجد قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله طه أي طاء الأرض بقدميك فقلبت همزته هاء. (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى): لتتعب، لما نزل القرآن قام هو عليه السلام وأصحابه واجتهدوا في القراءة والعبادة، فقال المشركون: ما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك، فنزلت (إِلا تَذْكِرَةً) أي: لكن تذكيرًا فنصبه على الاستثناء المنقطع، وقيل علة لفعل محذوف، أي: وما أنزلناه إلا للتذكير والموعظة، وقيل مصدر في موقع الحال من الكاف أو من القرآن (لِمَن يَخْشَى): لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار (تَنْزِيلًا) أي: نزل تنزيلاً أو مفعول به ليخشى، أي: لمن يخشى تنزيل الله، (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى) جمع العُليا، أي: الرفيعة و " مِنْ " صلة تنزيلاً أو صفة له والالتفات للتعظيم. (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ

استَوَى) هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق وعلى العرش استوى خبره أو تقديره هو الرحمن، وعلى العرش استوى إما خبر ثان أو تقديره هو على العرش استوى، سئل الشافعي عن الاستواء فأجاب: آمنت بلا تشبيه، وأقمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك. (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا

تَحْتَ الثرَى): ما تحت سبع أرضين وعن بعضهم هو صخرة تحت الأرض السابعة (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أي: بذكر الله ودعائه (فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) أي: فاعلم أنه غني عن جهرك، فإنه يعلم ما تسر في نفسك وَأخفى منه، وهو ما لم تحدث به نفسك بعد، أو ما أسر الرجل إلى غيره وأخفى منه، وهو ما أسر في نفسه فيكون نهيًا عن الجهر، كما قال تعالى: " واذكر ربَّك في نفسك " [الأعراف: هـ 20]، أو معناه، يعلم السر وأخفى منه فكيف ما تجهر به فحينئذ حاصله أنزل من خلق السماوات والأرض القرآنَ ويعلم السر والجهر (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) تأنيث الأحسن. (وَهَلْ أَتَاكَ): يا محمد (حَدِيثُ مُوسَى): قفّاه بقصته، ليأتم به في تحمل أعباء الرسالة والصبر على الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل (إِذ رَأَى) مفعول لاذكر أو ظرف للحديث (نَارًا): في طريق مصر حيث استأذن شعيبًا في الرجوع إلى مصر لزيارة الوالدة، فخرج بأهله فأضل الطريق في ليلة مظلمة باردة فرأى من جانب الطور نارًا (فقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا): أقيموا مكانكم (إِني آنسْتُ): أبصرت إبصارًا بينًا (نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ): بشعلة منها (أَوْ أَجِدُ عَلَى النارِ

هُدًى): هاديًا يهديني إلى الطريق (فَلَمَّا أَتَاهَا) أي: النار (نودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي): من قرأ بكسر إنَّ فبإضمار القول أو بإجراء النداء مجرى القول، ومن قرأ بالفتح فتقديره نودي بأني (أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)، فإنهما كانا من جلد حمار ميت غير مدبوغ، أو أمر بالخلع تعظيمًا للوادي. (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، عطف بيان، إن كان اسمًا للوادي وقيل معناه مرتين كثنى فهو مصدر لنودي أو المقدس، وقيل تقديره واطو الأرض بقدميك طوى فهو مصدر كهدى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ): اصطفيتك للنبوة، (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى): إليك، (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)، بدل مما يوحى، (وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي): لتذكرني أو عند ذكرك لي، يعني عند ذكر الصلاة، ففي الحديث: " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال: (وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ): لا محالة (أَكَادُ أُخْفِيهَا) عن نفسي أي: وقتها فهو مبالغة في الإخفاء، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود أكاد أخفيها من نفسي، وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم أو أريد إخفاء وقتها أو أكاد أظهرها فالهمزة للسلب، في بعض القراءات أَخفيها بفتح الهمزة أي

أظهرها، وقيل أخفيها فلا أقول هي آتية ولولا ما في الإخبار من اللطف لما أخبرت به (لِتُجْزَى) متعلق بـ آتية (كُل نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى): تعمل (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا): عن التصديق بالساعة (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا) يعني كُنْ شديد الشكيمة حتى لا يؤثر فيك أقوال الكفرة واعتقاداتهم فنهى الكافر والمراد فيه أن ينصد عنها (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ): خالف أمر الله (فَتَرْدَى): فتهلك منصوب على جواب النهي. (وَمَا تِلْكَ)، الحكمة في السؤال تنبيهه وتيقظه ليرى ما فيه من العجائب (بِيَمِينِكَ) حال من معنى الإشارة، أو صلة لتلك، وهي اسم موصول. (يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ): أعتمد (عَلَيْهَا): عند المشي والإعياء (وَأَهُشُّ): أخبط الورق عن الشجر (بِهَا عَلَى) رؤوس. (غَنَمِي): تأكله، (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ): حاجات، (أُخْرَى): كحمل الماء والزاد بها. قيل: لما أمره الله بخلع النعلين وتركهما تصور عند هذا السؤال إنكار التمسك بها، وأمره بالرفض فبسط الكلام، وقال: أنا محتاج إليها غاية الاحتياج، وعن وهب لما قال الله ألقها ظن موسى أنه يقول ارفضها. (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) أي: نردها عصى كما كانت، منصوب بنزع الخافض، أي: إلى سيرتها، أو

(25)

ظرف، أي: في طريقتها (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) أي: إلى جنبك تحت العضد. (تَخْرُجْ)، حال كونها (بَيْضَاءَ): لها شعاع كالشمس. (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ): كـ برص صلة لبيضاء. (آيَةً أُخْرَى)، حال (لِنُرِيَكَ) أي: فعلنا ذلك لنريك، أو تقديره خذ آية أخرى. لنريك فلا تكون آية على هذا حالاً. (مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى)، ثاني مفعولي نريك. (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ): وادعه إلى التوحيد (إِنَّهُ طَغَى): عصى وتكبر. * * * (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) * * * (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي): أفسح ربي قلبى لتحمل أعباء النبوة. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي): سهل عليَّ أبهم الكلام أولا، وعلم أن [ثَمَّ] مشروحًا وميسرًا، ثم رفع الإبهام بصدري وأمري ففيه تأكيد ومبالغة. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَاني) هو في صغره كان يومًا في حجر فرعون فأخذ لحيته ولطمه فتشاءم به وأراد قتله، فقالت امرأته: إنه لا يعرف ولا يعقل ونمتحنه، فقربوا إليه جمرتين ولؤلؤتين فتناول جمرتين ووضعهما في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة وأصابه اللثغ، وعن بعض السلف سأل حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك لأعطي، ولذلك بقي في لسانه شيء من الرتة، ومنها قال فرعون: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 52] (يَفْقَهُوا قَوْلِي): يفهموه هو جواب الأمر (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي) مفعولاه إما وزيرًا أو هارون قدم ثانيها للعناية به أولى ووزيرًا وهارون عطف بيان للوزير، أو وزيرًا ومن أهلى وأخى

على وجه بدل من هارون أو عطف بيان آخر (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي): ظهري أو قوتي. (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي): في الرسالة ومن قرأ (أَشْدُد وأشْركه) بلفظ الخبر فهما جواب الأمر (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا)، فإن التعاون يؤدي إلى تكاثر الخير (إِنَّكَ كنْتَ بِنَا): بأحوالنا (بَصِيرًا)، فأعطنا ما هو الأصلح لنا. (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ): مسئولك (يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ): بالإنعام، (مَرَّةً أُخْرَى): في وقت آخر (إِذ أَوْحَيْنَا): ألهمنا (إِلَى أُمِّكَ) وقيل: أوحى إليها ملكًا لا على وجه النبوة، أو على لسان نبي في وقتها (مَا يُوحَى): ما لا يعلم إلا بالوحي (أَنِ اقْذِفِيهِ): بأن ألقيه وضعيه. (فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ): بحر النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) جعل البحر كأنه ذو تمييز فأمره وأخرج الجواب مخرج الأمر (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) جواب فَلْيُلْقِهِ وتكرير عدو للمبالغة. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً): كائنة (مِنِّي) قد ركزتها في القلوب، يحبك كل من يراك، أو مني ظرف لـ ألقيت، أي: أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي): لتربى ويحسن إليك بمرأى، ومنظر مني كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا اعتني به، تقديره ليتعطف عليك ولتصنع، أو تقديره ولتصنع فعلت ذلك (إِذ تَمْشِي) ظرف

لـ ألقيت أو لتصنع بدل من إذ أوحينا على أن المراد به وقت متسع (أختكَ): مريم (فتَقُولُ): حين ألقاه النيل إلى الساحل وأخذه فرعون وأحبه وكان لا يقبل ثدي أحد من المراضع كما قال تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص: 12]. (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ): فجاءت بأمك فقبلت ثديها. (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا): بلقياك وقد مر اشتقاقه في سورة مريم (وَلا تَحْزَنَ): هي لفراقك قيل أي: لا تحزن أنت على فراقها، قد ذكر أن أمه اتخذت تابوتًا ووضعته فيه، فأرسلته في النيل وأمسكته بحبل، وكانت ترضعه في الليالي ثم ترسله في النيل، لأنه قد ولد في سنة أمر فرعون بقتل الغلمان المولود فيها، فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت من يدها فذهب به البحر فاغتمت، وذهب به النيل إلى دار فرعون فالتقطه آل فرعون (وَقَتَلْتَ نَفْسًا) أي: القبطي الذي استغاثه على الإسرائيلي (فَنَجَّيناكَ مِنَ الْغَمِّ): بأن غفر الله لك، وأمنك من القتل. (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا): ابتليناك ابتلاء أو جمع فتن يعني ضروبًا من الفتنة، وهي ما وقع عليه من الواقعات قبل النبوة (فَلَبِثْتَ): مكثت (سِنِينَ)

أي: عشر سنين (في أَهْلِ مَدْيَنَ): منزل شعيب - عليه السلام - على ثمان مراحل من مصر. (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ): على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى فيه الأنبياء أو قدر قدرته في علمي (يَا مُوسَى وَاصْطَنَعتكَ لِنَفْسِي): اخترتك لرسالتي وأمري تمثيل لكمال قربه ووفور حبه (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخوكَ بِآيَاتِي): معجزاتي (وَلا تَنِيَا): ولا تقصرا ولا تفترا (فِي ذِكْري)، يعني لا تنسياني وقيل لا تقصرا في تبليغ ذكري ورسالتي (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى): تكبر، أمره بالذهاب وحده أولاً حيث قال: اذهب إلى فرعون وثانيًا: مع أخيه (فقولا لَه قَوْلاً لَيِّنًا): فلا تعنفا في قولكما كي لا تأخذه أنفة (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ): يذعن للحق (أَوْ يَخْشَى): أن يكون الأمر كما تصفان فيجر إنكاره إلى هلاكه يعني: اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ترتب الفائدة على سعيه فيجتهد بطوقه، قيل قبل النصح أولاً ثم أضله هامان (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا): أن يعجل علينا بالعقوبة (أَوْ أَنْ يَطْغَى): يجاوز الحد في الإساءة علينا أو فيك (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا): بالحفظ والعون (أَسْمَعُ): ما يجري بينكم (وَأَرَى): لست بغافل عنكما (فَأْتِيَاهُ): فأتياه مكثا في بابه حينًا طويلاً قيل: سنتين حتى أذن لهما (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ

فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ): خل عنهم وأطلقهم (وَلَا تُعَذِّبْهُمْ): بالأعمال الشاقة (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ): ببرهان ومعجزة على رسالتنا (وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) أي: السلامة من عذاب الله عليه (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ): الرسل (وَتَوَلَّى): وأعرض عنهم، ومن لين المقال أنه ما قال: إن العذاب عليك إن كذبت وتوليت (قَالَ): بعدما أتياه، وقالا ما أُمرا به (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى)، خص موسى بالنداء لأنه المتكلم، أو لأنه عرف أنه الأصل وهارون ممده، أو لما علم أن له رتة، ولهارون فصاحة حمله خبثه على ذلك (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ): صورته وشكله اللائق به (ثُمَّ هَدَى): هداه إلى منافعه وأعطى كل حيوان نظيره وزوجه ثم هداه كيف يأتي الذكر الأنثى، وقيل أي: أوجد الأشياء وقدر الأرزاق والآجال والأعمال، ثم الخلائق ماشون على قدر لا يقدر أحد عن الخروج منه، كما قال: (والذي قدَّرَ فهدى) [الأعلى: 3]، وقيل أي: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى استعماله وعلى هذا خلقه مفعوله الأول، ولما كان الجواب بليغًا جامعًا مفحمًا بهت فلم ير إلا صرف الكلام عن الطريق الأول (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى): ما حالهم مع أن أكثرهم عابدو الأصنام. (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ ربي): أعمالهم محفوظة عنده (فِي كِتَابٍ): اللوح المحفوظ (لَا يَضِلُّ رَبِّي): لا يخطيء شيئًا. (وَلَا يَنْسَى): ولا يذهب عنه ويجازيهم أو لا يضل ربي الكافر حتى ينتقم منه ولا ينسى الموحد حتى يجازيه أو لما سأل عن سعادتهم وشقاوتهم

(55)

أحال علمه إلى الله فكأنه قال: لا أعلم حالهم (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا): كالمهد، (وَسَلَكَ): حصل (لَكُمْ فِيهَا سُبُلا): تسلكونها (وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ ماءً) أي: المطر (فَأَخْرَجنا بِهِ) قيل: تم كلام موسى وهذا من كلام الله، وقيل: من تمام كلام موسى لكن عدل إلى التكلم على الحكاية لكلام الله تنبيهًا على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال قدرته، وإيذانًا بأنه مطاع تذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته، ويمكن أن يكون كلام موسى، فأخرج بصيغة الغيبة لكن لما حكى الله قوله حكاه لفظًا بلفظ حتى انتهى إلى قوله: " فأخرجنا " غير الأسلوب إلى التكلم تنبيهًا على عظم قدره، وأنه أمر لا يدخل تحت قدرة غيره (أَزْوَاجًا): أصنافًا (مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)؛ مفترقات جمع شتيت والنبات مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع فلهذا جاز وصفه بـ شَتَّى التي هي جمع وقيل شيء صفة أزواجًا (كُلُوا) أي: فأخرجنا قائلين كلوا (وَارْعَوْا أَنعَامَكُمْ) أي كلوا أنتم من النبات وأسرحوا أنعامكم فيها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) ذوي العقول الناهية عن القبائح. * * * (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ

يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا

قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) * * * (مِنْهَا): من الأرض (خَلَقْنَاكُمْ): فإن أب الكل منها وعن بعض الملك يأخذ من تراب الأرض الذي قدر أن يدفن فيها فيذره على النطفة فيخلق منها (وَفيهَا نُعِيدُكُمْ): بالموت (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ): يوم البعث (تَارَةً أُخْرَى). (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا) أي: الآيات التي ظهرت على يد موسى (فَكَذَّبَ): الآيات وقال إنَّهَا سحر، (وَأَبَى): قبولها (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى): فيبقى لك ديارنا (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ): مثل سحرك (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا) اسم مكان أو زمان (لا نُخْلِفُهُ) جعل المكان أو الزمان مخلفًا على الاتساع كيوم شهدناه (نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا) بدل من الموعد على الأول، وظرف لـ لا نخلفه على الثاني، وقيل مفعول أول لـ اجعل (سُوًى) منصفًا يستوى مسافته

إلينا وإليك أو عدلاً أو مستوىً يتبين الناس وما فيه فيه، (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ): يوم عيد لهم، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - يوم عاشوراء إذا كان الموعد اسم زمان فهو ظاهر، وأما إن كان اسم مكان فهو كما تقول يوم عرفة في جواب أين أراك؟ أي: في عرفة فإن له مكانًا معينًا معروفًا (وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ)، عطف على اليوم والزينة (ضُحًى): في وقت الضحوة جهارًا في محضر الخلائق ليتضح الحق على رءوس الأشهاد ويشتهر، (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) هو كما تقول ذهب يفعل كذا أي شرع فيه (فَجَمَعَ كَيْدَهُ): ما يكاد به من السحرة وآلاتها (ثُمَّ أَتَى): الموعد (قَالَ لَهُمْ): للسحرة (مُوسَى) وفي عددهم اختلاف كثير قيل سبعون رجلاً، وقيل ثمانون ألفًا أو ثلاثون أو تسعة عشر ألفًا، أو خمسة عشر ألفًا، أو اثنا عشر ألفًا (وَيْلَكُمْ لا تَفتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا)، بأن تخيلوا للناس ما لا حقيقة له، فتقولوا إنه مخلوق لله وأن تدعوا معجزاته سحرًا أو تدعوا له ندا (فَيُسْحِتَكُمْ): يستأصلكم (بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ): خسر (مَنِ افْتَرَى): على الله (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي: تشاجر السحرة سرًّا من فرعون في أمرهم فقائل منهم يقول ليس هذا بساحر إنما هو كلام نبي وقائل يقول بل هو ساحر (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي: تناجوا فيما بينهم (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، تفسير لـ أَسَرُّوا النَّجْوَى وهذا من اسم إن لغة من يجعل التثنية غير مختلف في الرفع والنصب والجر، أو تقديره أنه هذان لساحران (1) (يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِن أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتكُم الْمُثْلَى): بملككم وعيشكم الذي أنتم فيه أو بأشراف قومكم أو بدينكم الذي هو أمثل الأديان، (فأَجْمِعوا كَيْدَكُمْ) أي: أحكموا واعزموا كلكم على كيدهما مجتمعين لهما (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا): مصطفين فإنه أهيب في عين الرائين، وهذا قول بعض السحرة لبعضهم (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى): فإن

_ (1) قال العلَّامة السمين ما نصه: قوله: {إِنْ هذان}: اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ». وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف. فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك. وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك. وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلاَّ ساحران». وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيدًا. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: «لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ». وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها». قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء. وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب. يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ. وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا: 3297 - بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ ... بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ» للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه: 3298 - أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه. الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميرًا، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم. الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبرًا ل «إنَّ»، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن»، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه: 3299 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يومًا ... يَلْقَ فيها جَآذرًا وظِباءَ / والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ. وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك. الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو. وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفًا»، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفًا في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه: 3300 - فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما أي: لنابَيْه. وقولَه: 3301 - إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بَلَغا في المجدِ غايتاها أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد. وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضًا فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى»؟. اهـ (الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. 8/ 63 - 68)

من غلب، (قَالُوا يَا مُوسَى)، بعدما جمعوا كيدهم وأتوا، (إِمَّا أَن تُلْقِيَ): عصاك أولاً، (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى)، ما بعد أن منصوب بمحذوف أي: اختر إلقاءك أو إلقاءنا أو مرفوع أي: الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. (قَالَ بَلْ أَلْقُوا)، قيل: لما علم ميلهم إلى البدء أمرهم به وليشعر علية تغيير نظمهم عن إما أن تلقي إلى أو أن نكون أول من ألقى (فَإِذَا حِبَالُهُمْ)، إذا للمفاجأة أي: فألقوا فإذا حبالهم (وَعِصِيُّهُمْ)، جمع عصى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)، وتحريكها ما كان إلا بحيلة وحاصل الكلام فألقوا ففاجأ موسى تخيله وقت تخيل سعى حبالهم وعصيهم من سحرهم ومن قرأ تخيل بالتاء فقوله: أنها تسعى بدل اشتمال من ضميره الراجع إلى الحبال والعصي قيل لطخوا بالزئبق فلما ضربت عليهما الشمس اضطربت. (فَأَوْجَسَ): أضمر (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى): من أن يلتبس الأمر على القوم فلا يتبعونه وقيل من: طبع البشرية ظن أنها تقصده (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)، وهذا مشعر ومؤيد للوجه الأول، وإلا فالمناسب أن يقال لا تخف إنك آمن (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) لم يقل عصاك تحقيرًا لها أي العويدة التي في يدك ولا تبال بعصيهم (تَلْقَفْ) تبتلع جواب الأمر وقراءة تلقف بالرفع أي: تتلقف فبالحال أو الاستئناف. (ما صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا) أي: إن الذي زوروا (كَيْدُ سَاحِرٍ)، وحد الساحر لأن المراد به الجنس، وقراءة سِحْرٍ كعِلْمُ فِقْهٍ بأن الإضافة للبيان أو جعل الساحر سحر للمبالغة (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى): حيث كان (فأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا)

أي: ألقى موسى عصاه فتلقفت فألقى ذلك السحرة على وجوههم ساجدين لله (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسَى)، وعن بعض لما سجدوا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها (قَالَ) فرعون: (آمَنتمْ به) أي: لموسى واللام لتضمين معنى الاتباع (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكمْ): في اتباعه (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ): أستاذكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) أي: مختلفات من اليد اليمني ومن الرجل اليسرى، ومن للابتداء، فإن القطع ناشئ من مخالفة العضو العضو. أي: من وضع المخالفة فقد لابس المخالفة أيضًا وقيل من أجل خلاف ظهر منكم (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي: عليها شبه تمكن المصلوب بالجذوع [بتمكن] المظروف بالظرف، فقال: في جذوع (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا): أنا أو موسى وأراد به الهزء فإنه لم يكن من التعذيب في شيء وقيل أينا أي؛ أنا أو رب موسى الذي آمنتم به (أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُؤْثِرَكَ): نختارك، (عَلَى مَا جَاءَنَا) الضمير لما (مِنَ الْبَيِّنَاتِ): المعجزات (وَالَّذِي فَطَرَنَا)، عطف على ما جاءنا وقيل قسم (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: قاضيه يعني اصنع ما تصنع (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ) أي: إنما لك تسلط في دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل، وأمر بتعليم

السحر لهم كارهين، وهم الذين قالوا ذلك، وقيل لما رأى السحرة عصاهُ يحرس موسى وهو نائم قالوا لفرعون: إن هذا ليس بساحر فأبى إلا المعارضة (وَاللهُ خَيْرٌ): جزاءً أو لنا منك (وَأَبْقَى) عقابًا أو لنا فإنك فانٍ. (إِنَّهُ) الضمير للشأن (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا): بأن يموت كافرًا (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا): فيستريح (وَلَا يَحْيَى): حياة مرضية وهذه الجملة إما من تمام قول السحرة وإما ابتداء كلام من الله، وفي مسلم وغيره وإما أناس تصيبهم النار بذنوبهم، وليسوا من أهلها فيميتهم إماتة حتى يصيروا فحمًا يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم نهرًا يقال له الحياة فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل. (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) وفي مسند أحمد والترمذي: قال عليه السلام: " في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة " (جَنَّاتُ

(77)

عَدْنٍ)، بدل من الدرجات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى): تطهر من أدناس المعاصي. * * * (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) * * * (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ)، أن مفسرة أو مصدرية (بِعِبَادِي): من مصر (فَاضْرِبْ): اتخذ واجعل (لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ): بأن تضرب البحر بعصاك

(يَبَسًا) أي: طريقًا يابسًا (لا تَخَافُ دَرَكًا) أي: من أن يدركك فرعون حال من ضمير فاضرب، أو صفة ثانية لطريقًا، أي: طريقًا لا تخاف ديه (وَلَا تَخْشَى)، من قرأ لا تخفْ بالجزم فلا تخشى إما استئناف، أي: وأنت لا تخشى، أو عطف على لا تخف والألف زائدة للفاصلة كالظنونا (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) حين أسرى موسى ببني إسرائيل من مصر، وثاني مفعوليه محذوف، أي: أتبعهم فرعون نفسه متلبسًا بجنوده أو الياء صلة، أي: أتبعهم جنوده وقيل أتبع بمعنى اتبع (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ): في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يخفى (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى): رد عليه حيث قال: (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) [غافر: 29] (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)، خطاب لهم بعد إهلاك فرعون على إضمار قلنا (قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) لمناجاة نبيكم، وإنزال التوراة عليكم (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) شيء مثل الترنجبين من السماء ينزل عليهم (وَالسَّلْوَى): طائر يسقط عليهم فيأخذون بقدر الحاجة، وذلك في التيه (كُلُوا) أي: قائلين كلوا (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ): من لذائذه أو حلالاته (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ): بأن تكفروا نعمتي فتنفقوا في معصيتي ولم تشكروا (فَيَحِل عَلَيْكُمْ): يلزمكم، ومن قرأ يَحُلَّ فمعناه ينزل (غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى): هلك، وعن ابن

عباس في جهنم قصر يرمى الكافر من أعلاه فيهوى أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال، وذلك قوله: (فَقَدْ هَوَى)، (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ): عن الشرك، (وَآمَنَ): بما يجب الإيمان به، (وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمً اهْتَدَى): استقام على الطريق المستقيم (وَمَا أَعْجَلَكَ) سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها، وهو مبتدأ أو خبر (عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قَالَ)، وذلك حين اختار سبعين رجلاً من قومه فذهبوا إلى الطور للمناجاة وأخذ التوراة، فعجل من بينهم شوقًا إلى ربه، وتقدم وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل قال مجيبًا لربه: (هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي) أي: هم بالقرب مني " وعلى أثرى " إما حال أو خبر بعد خبر، (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى): لتزدد عني رضا فإن المسارعة إلى امتثال الأمر أمثل، (قَالَ) الله: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) الذين خلفتهم مع هارون، وهم ستمائة ألف إلا السبعين الذين اختارهم للمناجاة (مِنْ بَعْدِكَ): بعد خروجك (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ): بأن دعاهم إلى عبادة العجل بعد اتخاذهم (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ): بعد أخذ التوراة (غَضْبَانَ):

عليهم (أَسِفًا) الأسِفُ الشديد الغضب أو الحزين، (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) بأن يعطيكم التوراة، ووعدكم على لساني خير الدارين (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي: الزمان في انتظار ما وعدكم الله (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ) يجب (عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أي: وعدكم إياي بالثبوت على الدين واتباع هارون (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا): عن قدرتنا واختيارنا، ولو لم يسول لنا السامري لما أخلفناه (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا): حمالاً، (مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ): من حلي القبط (فَقَذَفْنَاهَا): في النار وذلك أنَّهم لما خرجوا من مصر كانت معهم ودائع من حلي آل فرعون، فقال هارون: " لا يحل لكم الوديعة، ولسنا برآدين إليهم "، فأمرهم أن يقذفوها في حفيرة ويوقد عليها النار، فلا تكون الودائع لنا ولا لهم أو أمرهم بذلك ليصير الحلي كحجر واحد حتى يرى فيها موسى حين رجوعه

(90)

ما يشاء، وقيل الآمر بذلك السامري لا هارون (فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) أي: أراهم أنه أيضًا ألقى حليًّا في يده وإنما ألقى التربة التي أخذها من تربة حافر فرس جبريل (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا): من تلك الحلي المذاب، (لَهُ خُوَارٌ): صوت العجل عن ابن عباس، لا والله ما كان له صوت، وليس له روح إنما كانت تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، والصوت من ذلك (فقالُوا) أي: السامري والضلَّال منهم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) أي: فنسيه موسى هاهنا، وذهب يطلبه، أو فنسي أن يذكركم أن هذا إلهكم أو فنسى السامري ما كان عليه من الإسلام وتركه (أَفَلا يَرَوْنَ)، من كلام الله ردًّا عليهم، وبيانًا لسخافة رأيهم (أَلَّا يَرْجِع) أي: أنه لا يرجع (إِلَيْهِمْ قَولاً): لا يجيبهم، ولا يكلمهم (وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا): لا يقدر على إضرارهم وإنفاعهم أو على دفع ضرهم، وإيصال نفعهم. * * * (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي

الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) * * * (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ): قبل رجوع موسى، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فتِنتمْ بهِ): ابتليتم بالعجل، (وَإِن ربَّكُمُ الرَّحْمَنُ): لا العجل، (فَاتَّبعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي): في الثبات على الدين (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ): لن نزال (عَلَيْهِ) على العجل بأن نعبده (عَاكفِينَ): مقيمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ): موسى بعدما

رجع: (يَا هَارُون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا): بعبادة غير الله (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي: عن أن تأتي عقبي فتخبرني عن ما أحدثوا، أو عن أن تتبعني في الغضب لله، والمقاتلة معهم، ولا مزيدة على الوجهين نحو (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف: 12]، (أَفعَصيْتَ أَمْرِي)، حيث وصيتك أخلفني ولا تتبع سبيل المفسدين، فرضيت، وسكنت وسكت (قَالَ) هارون: (يَبْنَؤُمَّ) ذكر الأم مع أنهما أخوان من أبوين، لأن ذكرها أرق وأبلغ في الحنو، (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) أي: بشعره فإنه كان عليه السلام شديد الغضب لله متصلبًا لم يتمالك حين رآهم مشركين (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: خشيت لو فارقتهم ليتفرقوا، وخشي بها لو قاتلتهم لصاروا أحزابًا مقاتلين بعضهم بعضًا، (وَلَمْ تَرْقبْ قَوْلِي) حين قلت اخلفني في قومي وأصلح أي: ارفق بهم (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)، ثم أقبل إليه، وقال له منكرًا ما طلبك له، وما شأنك، وما الذي حملك عليه (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ): علمت، وفطنت ما لم يعلموه، ولم يفطنوا له (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً) أي: مرة من القبض أطلق على المقبوض (مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي: من تربة موطئ فرس جبريل، (فَنَبَذْتُهَا): ألقيتها في الحلي المذاب نقل أن السامري كان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادته في نفسه، فلما رأى جبريل حين جاء لهلاك فرعون أخذ قبضة من أثر فرسه وألقى في روعه إنك إن ألقيتها في شيء فقلت له كن فكان، وعن بعض أخذ التراب حين جاء جبريل ليذهب بموسى إلى المناجاة (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ): زينت، (لِي نَفْسِي قَالَ): موسى له، (فَاذْهَبْ فَإِن لَكَ فِي الْحَيَاةِ): ما دمت حيًّا، (أَنْ تَقُولَ): مع كل من جاء إليك (لا مِسَاسَ)

لا ما دمت حيًّا، (أَنْ تَقُولَ): مع كل من جاء إليك (لا مِسَاسَ) لا مخالطة بوجه فتكون وحشيًّا نافرًا منفردًا فإنه إذا اتفق أن يماس أحدًا حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا): لعذابك (لَنْ تُخْلَفَهُ): لن يخلفك الله وينجزه لك ألبتَّة، ومن قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفًا (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ): ظللت بحذف اللام الأولى (عَلَيْهِ عَاكِفًا): مقيمًا على عبادته (لَنُحَرِّقَنَّهُ): بالنار فإنه صار لحمًا ودمًا أو بالمبرد فهو مبالغة في حرقه إذا برد بالمبرد (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ): لنذرينه رمادًا أو مبرودًا (فِي الْيَمِّ نَسْفًا): وقد ذكر أنه لم يشرب أحد ممن عبده من ذلك الماء إلا اصفر وجهه كالذهب، (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، نصبه بالتمييز أي: وسع علمه كل شيء لا العجل الذي هو مثل في الغباوة، ولو كان حيًّا (كَذَلكَ): مثل ذلك الاقتصاص (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ): أخبار، (مَا قَدْ سَبَقَ): من الأحوال تبصرة لك، وتنبيهًا (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا): ذِكْرًا كتابًا مشتملاً على ذكر أمور محتاج إليها، (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ): فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه (فَإِنَّهُ)، الضمير للشأن (يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا): عقوبة ثقيلة، (خَالِدِينَ فيْهِ): في الوزر، وإفراد أعرض وجمع خالدين نظرًا إلى اللفظ والمعنى (وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا): ساء بمعنى بئس، وفيه ضمير مبهم يفسره حملا، والمخصوص بالذم محذوف أي: ساء حملا

(105)

وزرهم واللام كهيت لك للبيان (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي: المشركين (يَوْمَئِد زُرْقًا): زرق العيون قبيح المنظر وقيل: عميًا فإن حدقة الأعمى تزرق (يَتَخَافَتُونَ): يتشاورون، (بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ): ما لبثتم في الدنيا (إِلَّا عَشْرًا): عشر ليال استقصروا مدة مكثهم فيها مع أنَّهم آثروها على الباقى الدائم فتأسفوا عليها، وقيل: المراد مدة مكثهم في القبر أو مرادهم ما بين النفختين وهو أربعون سنة يرفع عنهم العذاب في تلك المدة استقصروها لهول ما عاينوا من القيامة (نَحْنُ أَعْلَمُ): منهم، (بِمَا يَقُولُونَ): في حال تناجيهم، (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً): أعدلهم رأيًا وقولاً (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا). * * * (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)

فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) * * * (وَيَسْأَلُونَكَ): يا محمد (عَنِ الْجِبَالِ): هل تبقى يوم القيامة أو تزول، (فَقُلْ يَنسِفُهَا): يقلعها من أصلها (رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا): يدع أماكنها ومقارها من الأرض، (قَاعًا). منبسطًا من الأرض (صَفْصَفًا): ملساء منصوبان بالحال، (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا): اعوجاجًا قليلاً لا يدرك إلا بالقياس (وَلَا أَمْتًا): نتوءًا أي: لا واديًا ولا رابية (يَوْمَئِذٍ): يوم إذ نسفت (يَتَّبِعونَ الدَّاعِيَ): حيث ما أمرهم بادروا إليه أو الداعي إلى المحشر (لا عِوَجَ لَه): لا يعوج له مدعوٌّ ولا يعدل عنه (وَخَشَعَت): سكنت أو خفضت (الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ): لمهابته، (فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا): صوت وطء أقدامهم إلى المحشر أو صوتًا خفيًّا (يَوْمَئذٍ لا تَنْفَعُ الشفَاعَةُ إِلا): شفاعة (مَنْ أَذِنَ له الرَّحْمَن)، أو لا تنفع الشفاعة

أحدًا إلا من أذن في أن يشفع له (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا): رضي الله قوله عن ابن عباس يعني من قال لا إله إلا الله، أو رضى قوله لأجله أو رضي لمكانته عند الله قوله في الشفاعة،

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما تقدمهم من الأحوال، (وَمَا خَلْفَهُمْ): ما يستقبلون يعني أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا): لا يحيط علمهم بمعلومات الله أو الضمير للموصول (وَعَنَتِ) خضعت وذلَّت، (الْوُجُوهُ): وجوه العالمين (لِلْحَيِّ): الذي لا يموت (الْقيومِ): الذي هو قيم كل شيء، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا): من أشرك بالله فإن الشرك لظلم عظيم (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصالِحاتِ): بعض الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ): إذ الإيمان شرط صحة الطاعة (فَلا يَخَافُ ظُلْمًا): بأن يزاد على سيئاته، (وَلا هَضمًا): بأن ينقص من حسناته، (وَكَذَلِكَ) أي: مثل ذلك الإنزال عطف على كذلك نقص، (أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا): كررنا، (فِيه مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): من المعاصي أي ليكونوا بحيث يرجى منهم التقوى، (أَوْ يُحْدِثُ لَهُم): القرآن (ذِكْرًا): عظة واعتبارًا بذكر العقاب للأمم الماضية فيشغلهم عن المعاصي (فَتَعَالَى اللهُ): جل الله في ذاته

(116)

وصفاته، (الْمَلِكُ): الذي جميع الكائنات تحت سلطانه، (الْحَقُّ): وعده ووعيده، أو الثابت في ذاته وصفاته، (وَلا تَعْجَلْ بالْقُرْآنِ) أي: بقراءته (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيهُ) أي: لا تقرأه حين يقرأ جبريل، بل أنصت فإذا أتم قراءته عليك فاقرأه بعده، وعن بعض: لا تبلغ، ولا تمله على أصحابك حتى يتبين لك معانيه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا): بالقرآن ومعانيه، (وَلَقَدْ عَهدنَا إِلَى آدَمَ): أمرناه، يقال في وصايا الملوك وأوامرهم عهد إليه، وعزم عليه، (مِنْ قَبْلُ): قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدى فكذبوك (فَنَسِيَ) أي: وصيناه أن لا يقرب الشجرة فترك ما وصى به، وقيل: لم يعتني بالعهد حتى غفل عنه، (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمً): تصميم رأى حيث أطاع عدوه، والوجود إن كان بمعنى العلم فله عزمًا مفعولاه، وإن كان بمعنى الوجود المناقض للعدم فله إما ظرف لغو، أو حال من عزمًا. * * * (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) * * * (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) أي: اذكر حاله في ذلك الوقت حتى تعلم أنه ترك المأمور ولم يَكن ذَا عَزم، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)، مستأنفة أي: أظهر الإباء واستكبر (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا) يعني: كونا على وجه لا يؤثر فيكما غوايته (مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى): فتتعب في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد بلا كلفة، وأسند الشقاءَ إليه وحده لأن طلب الرزق على الرجل، (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا)، من قرأ أنك بالفتح فهو عطف على أن لا تجوع قال أبو البقاء: تقع أن المفتوحة معمولة للمكسورة لما فصل بينهما، نحو: إن عندنا أن زيدًا منطلق، وعلى أي حال جاز في المعطوف عليه ما لا يجوز في المعطوف (وَلَا تَضْحَى): لا تصيبك الشمس وأذاها (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي: شجرة من أكل منها صَار مخلدًا لا يموت (وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى): لا يزول، (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا) أي: أخذا يلزقان على سوآتهما للتسَتر (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) عن ابن عباس ذَاك ورق التين، (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ): بأن خالف أمره، (فَغَوَى): أخطأ طريق الحق، ولم ينل مراده، ويجوز أن يقال " وعصى آدم " ولا يجوز أن يقال آدم عاصٍ لأنه لا يقال عاص إلا لمن اعتاد العصيان كما لا يقال من خاط ثوبه مرة خيَّاط (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ): اصطفاه، (فَتَابَ عَلَيْهِ): قبل توبته (وَهَدَى): هداه إلى الثبات على التوبة (قَالَ) الله: (اهْبِطَا

مِنْهَا): من الجنة والهبوط النزول إلى الأرض (جَميعًا)، لما كانا أصلي البشر خاطبهما مخاطبتهم (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ): متعادين بالحسَد وأنواع العداوات (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى): كتاب ورسول (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ): في الدنيا، (وَلا يَشقَى): في الآخرة الشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأَول، وما مزيدة أكدت به " إن " التي للشك وعلم منه أن إرسال الرسل غيرٍ واجب عقلاً، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي): عن اتباع القرآن، (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)، المراد عذاب القبر، وقد وَرد أن المعيشة الضنك أنه يسلط عَليه تسعة وتسعون حية، ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة أو في الدنيا بأن لا طمأنينة له فلا يزال في نصب من خوف القلة وما برح في تعب من هم إلا زيد في الدنيا أخذت بمجامع همه أو في النار، والضنك الضيق مصدر وصف به يستوى فيه المذكر والمؤنث (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى): أعمى البصر أو لا حجة له (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ): مثل ذلك فعلت أنت ثم فسره فقال: (أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا): َ تركتها وأعرضت عنها، (وَكَذَلكَ): مثل تركك إياها (الْيَوْمَ تُنْسَى): تترك على عماك (وَكَذَلكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ): في مخالفة الله، (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّه وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ): من ضنك العيش، (وَأَبْقَى) قيل: معناه عذاب الآخرة بعد العمى، وهو النار أشد وأبقى (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ)، فاعل " يهْد " جملة " كم أهلكنا "

(129)

بواسطة مضمونها أي كثرة إهلاكنا لأن كم لا يعمل فيه ما قبله أو فاعله ضمير لله، والجملة في تأويل المفعول أي: أفلم يبين الله لهم مضمون هذه الجملة، وعند البصريين فاعله مضمر يفسره كم أهلكنا (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)، والحال إنهم [يترددون في] مساكنهم الخالية حين سفرهم إلى الشام فإن ديار ثمود ولوط بين الشام ومكة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى): لذوى العقول الناهية عن التغافل والتعامي. * * * (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) * * * (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ): حكم بتأخير عذابهم، (لَكَانَ لِزَامًا): لكان العذاب لازمًا لهم كما لزم الكفار الماضين، وهو مصدر لازم وصف به (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على كلمة أي لولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب، وقيل عطف على ضمير كان أي: لكان العذاب العاجل وأجل مسمى لازمين لهم، (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) المراد

من التسبيح الصلاة، وقيل على ظاهره، وبحمد ربك في موضع الحال (قَبْلَ طُلُوع الشَّمْس): الصبح، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا): العصر، وقيل الظهر والعصر (وَمِنْ آناء الليلِ): ساعاته (فسَبِّحْ) أي: التهجد أو المغرب والعشاء، وتقديم من آناء الليل لاختصاصه بمزيد مزية فإن أفضل الطاعات أحمزها والليل للاستراحة، والنفس فيه مولعة إلى النوم والعبادة فيه أبعد من الرياء (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) يعني: التطوع في أجزاء النهار كالتهجد في آناء الليل أو صلاة الظهر فإنها نهاية النصف الأول وبداية النصف الأخير (لَعَلَّكَ تَرْضَى) أي: سبح في تلك الأوقات طمعًا في أن تنال ما به رضاك من المقام المحمود (وَلا تَمُدَّنَّ): نظر، (عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ): نظر استحسان وغبطة، (أَزوَاجًا منهُمْ): أصنافًا من الكفرة، وقيل منهم مفعول متعنا، و " أزواجًا " حال من ضمير به (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): زينة وبهجة زائلة، نصب على الضم نحو، أتاني زيد الفاسق، أو ثاني مفعوليَ متعنا لتضمن معنى الإعطاء (لِنَفْتنَهُمْ): نختبرهم، (فيهِ) أو لنجعل ذلك فتنة وبلاء لهم لأن يمدوا في طغيانهم (وَرِزْقُ رَبِّكَ): في المعاد أو ما رزقك من العلم والنبوة (خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ): أهل بيتك أو أمتك (بالصَّلاةِ)، ولا تهتموا بأمر المعيشة (وَاصْطَبِرْ): وداوم، (عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا): أَن ترزق أحدًا (نَحْنُ نَرْزُقُكَ)، ففرغ بالك للصلاة وفي الحديث إذا أصابه عليه السلام خصاصة نادى أهله: " يا أهلاه صلوا وصلوا وفي الحديث القدسي: " يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ

صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك " (وَالْعَاقِبَةُ): المحمودة، (لِلتَّقْوَى): لذويه قد نقل أنها نزلت لما استسلف عليه السلام من يهودي فأبى إلا برهنٍ فضاق صدره الأشرف (وَقَالُوا) المشركون: (لوْلا): هلا، (يَأتينَا): محمد، (بِآيَةٍ): دالة على رسالته، (مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى)، وهي القرآن المعجز الذي هو أعظم المعجزَات المهيمن على سائر الكتب السماوية فإن القرآن معجز دون سائر الكتب ظهر على يد أُميِّ لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يدارس أهلهما صلى الله عليه وسلم - (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ): محمد، أو القرآن، (لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ): بعذاب الدنيا (وَنَخْزَى): بعذاب الآخرة (قُلْ كُلٌّ) أي: كل واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ): منتظر دوائر الزمان على صاحبه، (فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ): المستقيم، (وَمَنِ اهْتَدَى): إلى الحق " من " في الموضعين للاستفهام مبتدأ على أن الفعل معلق عن الجملة الاستفهامية، ولو جوزت حذف صدر الصلة وقررت من هو أصحاب الصراط لجاز أن يكون موصولة أي: من هو أصحاب الصراط؟ والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * * *

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء مكية مائة واثنتا عشرة آية وسبع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) * * * (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ): للكفار، (حِسَابُهُمْ)، فإنه قد ظهر خاتم الأنبياء، الذي هو من علامات آخر الزمان، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ): عن الحساب، (مُّعْرِضُونَ): عن التفكر فيه، والإيمان به، (مَا يَأتِيهِم مِّن ذِكْرٍ)، المراد من الذكر الطائفة النازلة من

صفحة فارغة

القرآن، (مِنْ رَبِّهِمْ)، صفة لذكر أو صلة يأتيهم، (مُحْدَثٍ): تنزيل، جديد إنزاله، (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال من فاعل استمعوه، أي: [ليستهزءوا] به، (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال كونهم مشغولين بدنياهم، لا يصغون إلى القرآن، ذو الحالين واحد، أو حال من فاعل يلعبون، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) بالغوا في إخفائها أو تناجوا وأخفوا نجواهم، فلا يفطن أحد لتناجيهم، (الذِينَ ظَلَمُوا) بدل من فاعل أسروا، أو منصوب على الذم، أو مبتدأ خبره أسروا النجوى، وضع الذين ظلموا موضع هؤلاء

تسجيلاً على فعهلم بأنه ظلم، (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) هذا الكلام كله في موضع النصب بدل من النجوى، أو مفعول لقول مقدر، استدلوا على كذبه في النبوة بأنه بشر، لأن زعمهم أن الرسول لا يكون إلا ملكًا، فلا بد أن تكون المعجزة بمقتضى عقيدتهم سحرًا، فلذلك قالوا إنكارًا: أفتحضرون السحر وأنتم تعاينون أنه سحر، (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ): جهرا كان أو سرًا، (فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) فكيف يخفى عليه نجواهم، ومن قرأ قال فهو حكاية قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (وَهُوَ السمِيعُ العَليمُ): فلا يخفى عليه شيء، (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) اقتسم المشركون القول في القرآن، فقيل: سحر وقيل: تخاليط أحلام وأباطيل خيلت إليه، وخلطت عليه، وهذا أبعد فسادًا من الأول، وقيل: هو مفترى اختلقها من تلقاء نفسه، وهذا أفسد من الثاني، وقيل: كلام شعري يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، وهو أفسد من الثالث، لأنه كذب مع علاوة فلذلك جاء ببل تنزيلاً من الله لأقوالهم في درج الفساد، (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي: كما أرسل به الأولون، كاليد البيضاء، والناقة وغيرهما، (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن): أهل، (قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) أي: ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها لما جاءتهم الآيات المقترحة، (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ): لو جئتهم بها مع أنَّهم أعتى من الذين اقترحوا الآيات وعهدوا الإيمان بها، وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بمقترحاتهم للإبقاء عليهم، إذ لو أتى به لم يومنوا، فنستأصلهم كمن قبلهم، (وَمَا أَرْسلْنَا قَبْلَكَ

إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) فما لهم ينكرون زاعمين أن الرسول لا يكون بشرًا، (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ): أهل الكتاب، والمشركون يشاورونهم في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويثقون بقولهم، (إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، أن الرسل بشر، (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) أثبت لهم ثلاثة أشياء هي لا تكون للملك، وهي لبشر تحقيقًا لنفى الملكية عنهم ولإثبات البشرية لهم: كونهم أجسادًا، والجسد جسم ذو لون، والملك لصفائه لا يوصف باللون، كما لا يطلق الجسد على الماء والهواء، ووحد الجسد لإرادة الجنس، وأنَّهم أكلوا الطعام، وأنَّهم يموتون في الدنيا، وموت الملك لا يكون إلا بعد انقراض الدنيا، أو لأن المشركين اعتقدوا خلود الملك، (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ) أي: في الوعد، (فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَشَاءُ): ومن في إبقائه حكمة، (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ): في الكفر، (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ):

(11)

يا قريش، (كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ): صيتكم وشرفكم أو موعظتكم وذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): فتؤمنون به. * * * (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ

وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) * * * (وَكَمْ قَصَمْنَا): أهلكنا والقصم: الكسر الشديد، (مِنْ قَرْيَةٍ): من أهلها، (كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا): مكانها، (قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا): أدركوا، وشاهدوا شدة عذابنا، (إِذَا هُم مّنْهَا يَرْكُضُون): يهربون بسرعة، والركض ضرب الدابة بالرجل، (لاَ تَرْكُضُوا) أي: قيل لهم لا تركضوا، (وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ): من التلذذ والتنعم والإتراف: إبطار النعمة، (وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) غدًا من أعمالهم، أو تسألون شيئًا من دنياكم فتعطون من شئتم، وتمنعون من شئتم، فإنهم أهل ثروة ينفقون رئاء الناس، تهكم بهم الملائكة بهذا القول، ووبَّخَهم وقيل: يسألكم خدمكم في أموركم، كيف نأتي ونذر كعادة المنعمين، أو يسألكم الناس في مهامهم ويستشفون بتدابيركم، (قَالُوا): حين رأوا العذاب، (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ): ندموا حين لا ينفعهم الندم، (فَمَا زَالَت تِّلْكَ): المقالة، أي: الاعتراف بالظلم، (دَعْوَاهُمْ): دعوتهم نحو: آخر دعواهم أن الحمد لله، (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا): مثل [زرع] محصود، (خَامِدِينَ) ميتين من

خمدت النار، وهما بمنزلة مفعول واحد، كرأيته حلوًا حامضًا، وخامدين حال أو صفة، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)، بل لنجزى الذين أساءُوا بما عملوا ونجزي الذين أحسنوا بالحسني، (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا): لو أردنا اتخاذ ما يلعب ويتلهى به، لاتخذناه من عندنا، وما خلقنا جنة ولا نارًا ولا موتًا ولا بعثًا ولا حسابًا، أو لو أردنا أن نتخذ زوجة أو ولدًا لاتخذنا من الحور العين أو الملائكة، أو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يظهر لكم ويستر عنكم، فإن زوجة الرجل وولده يكونان عنده لا عند غيره، واللهو: المرأة والولد بلسان اليمن، وهو رد على النصارى في أم المسيح، أو المسيح، أو في المسيح، قيل: لو أردنا اتخاذ لهو لقدرنا عليه ومن لدنا، أي: من جهة قدرتنا لكن الحكمة صارفة عنه، (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) أي: إن كنت فاعلاً لذلك، أو إن نافية، فالجملة كالنتيجة للشرطية، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ): نغلِّبُ الحق الذي منه الجد على الباطل الذي منه اللهو، (فيَدْمَغُهُ): يمحقه، جعل الحق كجرم متين صلب، قذف ورمى به على حيوان

ضعيف فشق دماغه، وبل إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب، (فَإِذَا هُوَ): الباطل، (زَاهِقٌ): هالك والزهوق ذهاب الروح، (وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ): مما تصفون الله به مما لا يليق بعظمته، (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ): خلقًا وملكًا، (وَمَنْ عِندَهُ)، أي: الملائكة المقربون، فإنهم منزلون لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك، أو لأنَّهُم في محل ظهور سلطانه، وهو السماوات، وهو مبتدأ خبره قوله: (لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ) لا يعيون ولا يتعبون قيل: " ومن عنده " عطف على " من في السَّمَاوَات "، أفرده بالذكر للتعظيم، أو المراد: من في العرش والكرسي، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفتُرُون): دائبون في التسبيح، عن كعب الأحبار: التسبيح لهم كالنفس لبني آدم، (أَمِ اتخَذُوا) منقطعة، والهمزة لإنكار اتخاذهم، (آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ)، ظرف لاتخذوا أو صفة لآلهة، (هُمْ يُنشِرُونَ) أي: اتخذوا آلهة هم قادرون وحدهم على إحياء الموتى، والمراد تجهيلهم والتهكم بهم، والكفرة وإن لم يكونوا يدعون ذلك

للأصنام، لكن لما أثبتوا الألوهية لهم يلزمهم إثبات ذلك فإنه ممكن، والإله لا بد أن يكون قادرًا على الممكنات، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) أي: غير الله، صفة لا بدل لفساد المعنى واللفظ، قال صاحب المغني: إذا اختلف الموصوف والصفة إفرادًا أو غيره، فالوصف للتأكيد لا للتخصيص، كما قالوا: عندي عشرة إلا درهمًا، لزم عليه تسعة، ولو قال: إلا درهم بالرفع فقد أقر له بعشرة، فمعنى الآية: لو كان الإله غير واحد ألبتَّة، والصفة تأكيد، لأن كل متعدد غير واحد ألبتَّة، (لفَسَدَتَا) لأن الملك يفسد بتدبير مالكين لما يحدث، بينهما من الاختلاف والتمانع عادة، (فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ): المحيط بجميع الأجسام، (عَمَّا يَصِفُون): من الشريك والولد، (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لانفراده في عظمته وسلطانه، (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وهو سائل خلقه عما يعملون، فإنهم عبيد، (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) كرره استقباحًا لشأنهم واستعظامًا لكفرهم، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) من جهة عقل أو نقل، أن له شريكًا،

(هَذا ذكر مَن مَّعِيَ) أي: عظة أمتي، (وَذِكر مَن قَبْلِي) من الأمم السالفة، فهذا إشارة إلى الكتب السماوية، أي: هذا كتاب الله، فاطلبوا، هل تجدون فيها أن له شريكًا، أو إشارة إلى القرآن وحده، أي: القرآن فيه ذكر أمتي وذكر أمم قبلي، إنهم مطالبون بالتوحيد، ممنوعون عن الشرك، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ): لا يميزون بينه وبين الباطل، (فهُم مُّعْرِضُونَ)، عن التوحيد واتباع الرسل، من أجل ذلك. (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ): وحدي، (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) من العرب من قال: الملائكة

(30)

بنات الله، (سُبْحَانَهُ) عن ذلك، (بَلْ) هم، (عِبَادٌ مكْرَمُونَ) وليسوا بأولاد، (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ): لا يقولون شيئًا حتى يقول الله، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم، كما هو طريق الأدب، (وَهُم بِأَمرِهِ يَعْمَلُونَ) لا يعملون بما لا يأمرهم، ولا يبعد أن يكون ذلك كالدليل على أنَّهم غير الأولاد فإن الأولاد لا يكون كذلك، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ): يحيط علمه بجميع أحوال عباد مكرمين مما قدموا وأخروا، (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى): أن يشفع له، (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) مرتعدون لا يأمنون مكر الله، والإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدي بعلى فبالعكس، والخشية خوف مع تعظيم، (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ): من الملائكة، وهذا على سبيل الفرض، (إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) قيل: أراد إبليس حيث دعا الخلق إلى عبادة نفسه دون عبادة ربه، (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ): المشركين. * * * (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً

وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) * * * (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) أي: جماعة السماوات، وجماعة الأرض كانتا مرتوقتين يعني جميعهما في أول الأمر متصل متلاصق بعضهما ببعض، (فَفَتَقْنَاهُمَا)، فصارت السماوات سبعًا، والأرض كذلك، أو كانتا رتقًا لا تمطر ولا تنبت ففتقنا بالمطر والنبات، فعلى هذا المراد من السماوات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الأفق، أو جميع السماوات على أن للكل مدخلاً في الإمطار، والرتق هو الضم والالتحام، فإن قلت متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت: الفتق مشاهدة عارض يفتقر إلى مؤثر واجب، والرتق ممكن أخبر به القرآن المعجز فهم لو نظروا لعلموا، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، أي: كل شيء موجود أصله من الماء، فإن الله خلق الماء قبل الأشياء، ثم خلقها منه، أو خلقنا كل حيوان من الماء، أى: من النطفة، أو صيرنا كل شيء له نوع حياة كحيوان ونبات من الماء، ولابد له

منه نحو خلق الإنسان من عجل فعلى هذا جعل متعدٍ إلى مفعولين، (أَفَلَا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (أَنْ تَميدَ): كراهة أن تميد، (بِهِمْ): وتضطرب، (وَجَعَلْنَا فيهَا): في الرواسى، (فِجَاجًا). مسالك وطرقًا واسعة، (سُبُلاً)، يعني: لما خلقنا الجبال حالت بين البلدان، فجعلنا فيها فجوة، وطرقًا ليسلك فيها من بلد إلى آخر، وسبلاً إما مفعول وفجاجًا حال، أو هو مفعول وسبلاً بدل، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ): إلى مصالحهم، (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا): على الأرض، (مَّحْفوظًا): من أن يقع على الأرض أو من الشياطين بالشهب، (وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ)، لا يتفكرون فيما خلق فيها من الآيات، كالشمس والقمر والكواكب وغيرها، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ) أي: كل واحد منهما، (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يسرعون على فلكه، كالسابح في

الماء، والفلك الجنس نحو كساهم الأمير حلة، والجمع باعتبار كثرة مطالعها وجمع العقلاء للوصف بفعلهم، وهو السباحة والجملة حال منهما. (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)، نزلت حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون، استدل به بعضهم على عدم بقاء الخضر، (أَفَإِنْ مِتَّ) الهمزة للإنكار، والفاء لتعلق الشرط بما قبله، (فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) أي: مرارته، (وَنَبْلُوكم): نعاملكم معاملة من يختبركم، (بِالشَّرِّ): بالمصائب تارة، (وَالْخَيْرِ): بالنعم أخرى، (فِتْنَةً): ابتلاء لننظر من يصبر ومن يجزع ومن يشكر ومن يكفر مصدر مؤكد من غير لفظه، (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) لنجازيكم، (وَإِذَا رَآكَ الذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ) إن نافية، (إِلا هُزُوًا) مهزوء به، (أَهَذَا) أي: قالوا أهذا، (الَّذِي يَذْكرُ آلِهَتَكُمْ) أي: بسوء، (وَهم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ): بصفاته الحسنى كالتوحيد، (همْ كافرونَ) لا يصدقون به، فهم أحق بأن يهزأ بهم، (خُلِقَ الإِنسَان مِنْ عَجَلٍ): لفرط استعجاله كأنه خلق منه، قيل: لما ذكر المستهزئين وقع في النفس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك ولهذا قال (سَأريكمْ آياتِي): نقماتي في

(41)

الدنيا والآخرة، (فلا تَسْتَعجلُونِ): بالإتيان بها وقيل: هذا جواب المشركين حين استعجلوا بالعذاب، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ): وقت وعد العذاب أو القيامة، (إِن كُنتمْ): أيها المؤمنون، (صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الذِينَ كَفَرُوا)، وضع موضع يعلمون دلالة على ما أوجب لهم ذلك، (حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ): مفعول به ليعلم أي: لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم النار فلا يقدرون على دفعها، ولا يجدون ناصرًا والجواب محذوف، أي: بما استعجلوا، (بَلْ تَأْتِيهِمْ) أي: لا يعلمون بل تأتيهم العدة أو القيامة أو النار، (بَغتَةً): فجأة مصدر، لأنها نوع من الإتيان أو حال، (فَتَبْهَتُهُمْ): تحيرهم، (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ): يمهلون، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ): يا محمد فليس بشيء بدع منهم فلا تغتم، (وحَاقَ): أحاط، (بِالذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم): من الأمم السالفة، (ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون) أي: جزاء ما فعلوا، أو هم استهزءوا بعذاب وعدهم الرسل إن لم يؤمنوا، فأحاط بهم ذلك العذاب فسيحيط بمن يتخذك هزوًا. * * * (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ

عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) * * * (قُلْ): للمستهزئين، (مَن يَكْلَؤُكُم): يحفظكم، (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ): من عذابه، أو من بمعنى البدل نحو لا ينفع ذا الجد منك الجد، وفي لفظ الرحمن إشارة إلى أن لا حافظ سوى رحمته، (بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ ربِّهِم مُّعْرِضُونَ): لا يخطر ببالهم ذكر ربهم فضلاً عن أن يخافوا منه، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ، وصلحوا للسؤال عنه، (أَمْ لَهُمْ): بل لهم، (آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم): من العذاب، (مِنْ دُونِنَا) حال من فاعل تمنع، أو صفة بعد صفة، كأنه قال: لا تسأل عنهم؛ لأنَّهُم لا يصلحون للسؤال لغفلتهم عنا، بل لإقبالهم على نقيضنا، (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) سيما نصر غيرهم مستأنفة تبين إبطال ما اعتقدوه، (وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ): يجارون، يقال: فلان لك جار وصاحب من فلان، أي: (مجير) منه، أو يصحبون بخير وتأييد، (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) إضراب عن بيان بطلان ما هم عليه، ببيان ما غرهم فحسبوا أنَّهم على شيء، وهو أنه -

تعالى - متعهم زمنًا طويلاً في الدنيا فقست قلوبهم وظنوا أنها لا تزال، (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ): أرض الكفرة، (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) بأن نخرب ديارهم ونسلط المسلمين عليها، (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)، أم المؤمنون، (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ): بما أوحى إليَّ أو بأمر الله، (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ): من قرأ لا تسمع من باب الإفعال، على خطاب النبي، فالصم الدعاء مفعولاه، (إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) ظرف ليسمع أو الدعاء، واللام في الصم للعهد والمشركون صم آذان قلوبهم عن آيات الله، (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ): رائحة وشيء قليل، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء، مع أن البناء للمرة، (مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) دعوا على أنفسهم بالويل وأقروا بظلمهم، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ)، جمعه لكثرة ما يوزن به ولاختلافه، (الْقِسْطَ): ذوات القسط أو نحو رجل عدل، (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ): لأجل جزائه أو لأجل أهله، أو اللام بمعنى في، (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا): من الظلم أو من العمل، (وَإِنْ كَانَ): العمل، (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا): أحضرنا لنجازي بها، ومن قرأ: مثقال بالرفع فكان تامة، (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) لكمال

(51)

علمنا وعدلنا مفعول كفى محذوف، أي: كفينا العالمين حال كوننا حاسبين لا يحتاجون إلى محاسب غيرنا، (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ). الكتاب الجامع لكونه، فارقا بين الحق والباطل وضياء في القلب، وذكرًا يتعظ به المتقون، أو الفرقان النصر على الأعداء والضياء التوراة، (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، صفة للمتقين، (بِالْغَيْبِ)، حال من الفاعل، أو من المفعول، (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ): القيامة، (مُشْفِقُونَ): خائفون، (وَهذَا): القرآن، (ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ

بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) * * * (وَلَقَدْ آتيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ): الاهتداء لوجوه الصلاح، والإضافة ترشد إلى أنه رشد له شأن، (مِنْ قَبْلُ): من قبل موسى أو من قبل البلوغ، (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ): علمنا أنه أهل لما آتيناه، (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ظرف لـ آتينا، أو لـ رشده، أو تقديره

اذكر من أوقات رشده وقت قوله لأبيه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ): الصور التي لا روح فيها، (التِي أَنتم لَهَا عَاكِفُونَ) عدى العكوف باللام لتضمن معنى العبادة، فإن العكوف يستعمل بعلى، (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ): فقلدناهم، (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: المقلِّدون والمقلَّدون منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي إما تقوله جد أم هزل، فإنهم استعجبوا واستبعدوا تضليله آباءهم، (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إضراب عن كونه لاعبًا بإقامة البرهان على ما ادعاه، (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) قيل الضمير للتماثيل، أو للسماوات والأرض، (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ): المذكور من التوحيد، أو على أنه خالقهن، (مِنَ الشَّاهِدِينَ): المتحققين له المبرهنين عليه، (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ): أمكرنَّ بها في كسرها، (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا): عنها، (مُدْبِرِينَ): إلى عيدكم حين كانت البلدة خالية، وإنما قاله سرًّا، ولم يسمع إلا رجل واحد فأفشاه عليه، (فَجَعَلَهُمْ) أي: الأصنام، (جُذَاذًا): مقطوعًا، فعالاً بمعنى مفعول أو جمع جذيذ، (إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ): للأصنام،

قطعهن بفأس، واستبقى الكبير، ووضع الفأس على عنقه، (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ): إلى كبيرهم، (يَرْجِعُونَ): فيعتقدون أنه هو الذي كسرهن حسدًا عليهن، أو إلى إبراهيم فيحاجهم بأنه فعله كبيرهم، أو إلى الله بتوحيده عند تحققهم عجز آلهتهم، (قَالُوا): حين انصرفوا من العيد، (مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا) القائل. من سمع قوله: (لأكيدن أصنامكم) وهذا كما يقال: أكرمني بنو فلان، وإنما المكرم من بينهم رجل: (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ): بعيبهم، (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) مرفوع بـ يقال لأن المراد به الاسم، (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ): بمرأى منهم بحيث يتمكن صورته في أعينهم، (لَعَلهُمْ يَشْهَدُون): عليه أنه الفاعل، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، أو يحضرون عقابه، وكان هذا هو المقصود الأكبر له لأن يبين لهم في محفل عظيم، وفور جهلهم وقلة عقلهم في عبادة الجماد، (قَالُوا): حين أتوا به، (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) أراد أن يتفكروا فيعترفوا بعدم نطقهم، وأن هذا

لا يصدر عن صنم جماد، فتقوم الحجة عليهم، وفي الصحيحين: " إن إبراهيم لم يكذب غير ثلاث "، قيل: أسند إلى الكبير لأن غاية تعظيمهم إياه لسبب لمباشرة إبراهيم، فأسند إلى السبب، (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ): بالملامة، أو راجعوا عقولهم وتفكروا، (فقَالُوا): قال بعضهم لبعض (إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالِمُون): بهذا السؤال، أو لما أنكم تركتم الأصنام بلا حافظ، أو بعبادتكم من لا يتكلم، (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ): أطرقوا رءوسهم من الحيرة والخجل، أو انقلبوا إلى المجادلة بعد ما أقروا على أنفسهم بالظلم، شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليًا على أعلاه، (لَقَدْ عَلِمتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ) أي: قالوا لقد علمت إلخ فكيف نسألهم، (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ): إن عبدتموه، أو تركتموه، (أُفٍّ لَكُمْ) هو صوت المتضجر، أي: قبحًا ونتنًا لكم، واللام لبيان المتأفف به، (وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا): أنتم مجانين لا تفهمون قبح مثل هذا الصنع، قالوا حين عجزوا عن الجواب (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا

آلِهَتَكُمْ): بإهلاك عدوهم، (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): ناصرين لآلهتكم، أو إن كنتم فاعلين شيئًا، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا) أي: باردًا فيه ما لا يخفى من المبالغة، (وَسَلامًا): يسلم من حَرَّك، (عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، جمعوا له حطبًا وأوقدوا نارًا وقد ذكر أنَّهم جمعوا حطبًا كثيرًا جدًّا حتى إن كانت امرأة تمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبًا لإبراهيم، ثم أوقدوا نارًا كادت الطير في الجو تحرق ورموه بالمنجنيق فيها، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله جبريل قائلاً: ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا، فقال: سل ربك، فقال: " حسبي من سؤالي علمه بحالى "، فما أحرقت منه سوى وثاقيه وكان في النار سبعة أيام وقيل خمسين، وقيل أربعين وهو ابن ست عشر، وكان يقول: ما أنعم أيامي في النار، وقيل: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت، وما من دابة إلا تطفئ النار سوى الوزغ ولهذا عد من الفواسق، (وَأَرَادُوا به كَيْدًا) مكرًا في إهلاكه، (فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرينَ): أخسر كل خاسر، (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا): ابن أخيه من أرض العراق، (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) أي: الشام، فإن أكثر الأنبياء بعثوا فيه، فانتشرت في العالم بركتهم قيل: كل ماء

(76)

ينبع في العالم فأصله من الشام، أو المراد مكة، (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) أي: عطية حال منهما، أو النافلة ولد الولد، أو هو طلب ولدًا فأعطي إسحاق وزاده يعقوب نافلة، فيكون حالاً من يعقوب للقرينة، (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهمْ أَئِمَّة): يقتدى بهم، (يَهْدُونَ): الناس بالحق، (بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ) لأن يحثوا عليه، (وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) من عطف الخاص على العام للتفضيل، (وَكَانُوا لنا عَابِدِينَ): موحدين مخلصين. (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا) الفصل بالحق بين الخصوم، (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) وهي قرية سدوم، كان عمل أهلها اللواط، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا): في أهل رحمتنا أو في جنتنا، (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). * * * (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا

فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) * * * (وَنُوحًا إِذْ نَادَى) أي: اذكر نوحًا إذ دعا على قومه بالهلاك وإذ نادى بدل من نوحًا، (مِن قَبْلُ): من قبل المذكورين، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ): دعاءه، (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ): الذين آمنوا به، (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ): تكذيبهم وأذاهم، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يؤذونه ويوصون بمخالفته قرنًا بعد قرن، (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): جعلناه منتصرًا منهم، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ)، فاسقين، (فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ): فلم يبق على وجه الأرض منهم أحد، (وَدَاوُودَ

وَسُلَيْمَانَ) أي: اذكرهما، (إِذْ يَحْكُمَانِ) بدل منهما، (فِي الْحَرْثِ) كان ذلك كرمًا انثنت عناقيده، وقيل زرعًا، (إِذ نفَشَتْ): رعت ليلاً، (فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ): فأفسدته، (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ):) عالمين، وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما، أو لأن الاثنين جمع، (فَفَهَّمْنَاهَا) أي: الحكومة، أو الفتوي، (سُلَيْمَانَ) دون داود، فإنه حكم بأن الغنم لصاحب الكرم بدل إفساده وحكم سليمان بدفع الكرم لصاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فينتفع بَدَّرها ونسلها وصوفها فإذا صار الحرث كما كان يأخذ كل منهما ماله، (وَكُلًّا): من داود وسليمان، (آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) قال بعض

السلف: لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله تعالى حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده، (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) يقدسن لله معه، ويجاوبنه قيل يصلين معه إذا صلى وقيل: إذا فتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط، ويشتاق ويسبحن حال أو استئناف، وأخر الطير، لما أن تسبيح الجبال لأنها جماد أعجب، (وَكُنَّا فَاعِلِينَ): لأمثاله ليس ببدع منا، (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ): عمل الدرع، (لِتُحْصِنَكم) الضمير لداود في قراءة الياء، ولـ لبوس الذي هو الدرع في قراءة التاء، وهو بدل اشتمال من لكم بإعادة الجار، (مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) أي: فاشكروا لي وكانت قريش أهل حرب وقتال، (وَلِسُلَيْمَانَ) عطف على مع داود، إن كان متعلقًا بسخرنا، وإن تعلق بيسبحن فتقديره وسخرنا لسليمان، (الرِّيحَ عَاصِفَةً): شديدة الهبوب، (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) حال ثانية، (إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكنا فِيهَا) الشام فإنه وطنه، كان له بسط من خشب يوضع عليه ما أراد من الجند، وغيره فتحملها الريح، وتظله الطير من الحر إلى حيث يشاء، والريح في قبضته إن أراد عاصفة فعاصفة، وإن أراد رخوة فرخوة، وعلى الوجهين لينة لا تشوشهم ولا تزلزلهم، (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) فتجري الأشياء

على ما يقتضيه علمنا، (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ): فيخرجون من البحر الجواهر واللآلئ، والجملة مبتدأ أو خبر أو من يغوصون عطف على الريح، (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ): سوى الغوص، (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ): من الزيغ والفساد، (وَأَيُّوبَ) أي: واذكره، (إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي) أي: بأني، (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) كان نبيًّا صاحب حرث وأنعام وأولاد فابتلاه الله بإهلاك كلها ثم ابتلاه بجسده فلم يبق منه سليم سوى لسانه وقلبه يذكر بهما ربه حتى تنافر عنه كل أنيس، وتحاشى عنه كل جليس، فلا يتردد عليه سوى زوجته، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله فدعا الله لكشف كربه بعد مدد من الأيام المتطاولة بهذا الأسلوب البليغ، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ): بالشفاء، (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ): بإحياء من مات من أولاده، وإعطائه مثلهم من الأولاد، أو أعطيناه أولاده الذين ماتوا في الجنة، ومثلهم معهم في الدنيا فقد نقل أنه قيل له: إن أهلك في الجنة إن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك

فيها وعوضناك مثلهم في الدنيا فاختار الثاني، (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) على أيوب مفعول له، (وَذِكْرَى): تذكرة، (لِلْعَابِدِينَ): ليصبروا كما صبروا لئلا ييأسوا في البلاء، (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) كثير من السلف على أنه صالح من بني إسرائيل تكفل لنبي أن يكفيه أمر قومه، ويقضي بينه وبينهم بالعدل وفعل فسمي ذا الكفل لكن الظاهر أنه نبي قرنه في سلكهم، (كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ): على مشاق التكاليف، (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا): النبوة والجنة، (إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ): الكاملين في الصلاح، (وَذَا النُّونِ): يونس، (إِذْ ذَهَبَ): من بين قومه، (مُغَاضِبًا) لهم من غير إذن ربه حين أصروا على الكفر، والمفاعلة للمبالغة، أو هو أغضبهم أيضًا بالمهاجرة عنهم خوف العذاب، (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ): لن نضيق عليه، أو لن نقضي عليه بالعقوبة (1) ولن نعمل فيه قدرتنا، ويؤيده قراءة نقدِّر بالتشديد قيل: هذا من باب التمثيل، أي: حاله ممثلة بحال من ظن عدم قدرتنا عليه في مراغمة

_ (1) هذا هو المختار عند المحققين وما قيل بعد ذلك أكثره لا يصح أبدًا لمكان العصمة ليونس - عليه السلام. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

قومه من غير انتظار لأمرنا، وقيل: خطرة شيطانية سماها للمبالغة ظنًّا، (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ): ظلمة بطن الحوت والبحر والليل، (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) أي: بأنه، أو أن مفسرة، (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لمبادرتي إلى الهجرة قبل الإذن، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ): لأن قذفه الحوت بالساحل سالمًا بعد ما مكث في بطنه أربعين يومًا، (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) إذا دعونا في الشدائد منيبين إلينا، سيما إذا دعوا بهذا الدعاء، ففي الحديث " ما من مكروب يدعوا بهذا الدعاء إلا استجيب له "، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا): بلا ولد، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) ثناء منه على الله بأنه خير من يبقى بعد ما سأل ولدًا يبقى بعده، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ): صيرناها ولودًا بعد ما كانت عاقرًا أو حسنة الخلق بعد ما كانت سيئة الخلق (1)، (إِنَّهُمْ): المذكورين من الأنبياء،

_ (1) في غاية البعد.

(94)

أو زكريا وأهل بيته، (كَانُوا يُسَارِعُونَ): يبادرون، (فِي الْخَيْرَاتِ): في عمل القربات، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا): راغبين في رحمتنا راهبين من عذبنا، (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) لا يخافون ولا يخضعون لغيرنا، (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي: مريم فإنها بكر ما ذاقت حلالاً ولا حرامًا، (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا): بأن أمرنا جبريل بالنفخ في جيب درعها، وإضافة الروح إليه للتشريف، وقيل من جهة روحنا جبريل، (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً) دالة على كمال قدرتنا، (لِلْعَالَمِينَ) فإنها أتت به من غير فحل، (إِنَّ هَذِهِ): ملة الإسلام، (أمتكُمْ): ملتكم، (أمًة وَاحِدَةً): غير مختلفة في ما بين الأنبياء، نصب على الحال، (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ): لا غيرى، (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ) إما بمعنى قطعوا، أو نصب أمرهم بنزع الخافض، يعني اختلفوا وصاروا فرقًا التفت من التكلم إلى الغيبة لينعي عليهم ما أفسدوه إلى المؤمنين، ويقبح عندهم كأنه يقول: ألا ترون إلى قبح ما ارتكبوا هؤلاء في ديننا؟ (كُلٌّ): من الفرق، (إِلَيْنَا رَاجِعُون): فنجازيهم. * * * (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ

أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) * * * (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كفْرَانَ لِسَعْيِهِ) الكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر في إعطائه، (وَإِنَّا لَهُ): لسعيه، (كَاتِبُونَ)، في صحيفة عمله، أو إنا كاتبون لمن يعمل ما عمل، (وَحَرَامٌ): ممتنع، (عَلَى): أهل، (قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) أي: رجوعهم إلى الدنيا، فـ (لا) صلة، وقيل معنى الحرام الواجب فـ (لا) غير صلة، وقيل: معناه حرام على أهل قرية قدرنا إهلاكهم

بالكفر أن يرجعون عن كفرهم وينيبوا، وقيل: حرام عليهم عدم كفران سعيهم، لأنَّهُم لا يرجعون عن الكفر، (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) أي: حرام عليهم الرجوع إلى الدنيا إلى أن فتحت سد يأجوج ومأجوج فإنهم يحيون ويرجعون إلى الدنيا حينئذ للقيامة، أو ممتنع عليهم الإنابة إلى القيامة، وإنابتهم في القيامة لا تنفع، (وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ): مرتفع من الأرض، (ينسِلُون)، يسرعون في الحديث " هم صغار العيون عراض الوجوه من كل حدب ينسلون "، (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) أي: القيامة عطف على فتحت، (فَإِذَا هِيَ)، جواب الشرط، وإذا للمفاجأة سد مسد الفاء فإذا دخل الفاء أيضًا تأكد الارتباط، (شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فتحت أعينهم لا يكاد تطرف من الهول، وضمير هي مبهم يفسره الأبصار، أو ضمير القصة، (يَا وَيْلَنَا) أي: قالوا يا ويلنا، (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ): في الدنيا، (مِنْ هَذَا)، اليوم ما كنا نعلم أنه حق، (بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ): لأنفسنا لأنه نبهنا الرسل فكذبناهم، (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي: الأصنام، (حَصَبُ جَهَنَّمَ) الحصب، ما يحصب ويرمى به في النار، (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) استئناف، واللام للاختصاص فإن استعمال الورود بعلى، وقيل لها خبر وواردون خبر ثان، (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ): الأصنام، (آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ): من العابد والمعبود، (فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ): للكافرين، (فِيهَا زَفِيرٌ): أنين، (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ)، عن ابن مسعود إذا بقي من يخلد فيها جُعل لكل منهم تابوت من نار مسمر من نار فلا يظن أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم قرأ وهم فيها لا يسمعون، (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ

لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى): الرحمة والسعادة، (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) قد ذكر أنه عليه السلام لما تلا " إنكم وما تعبدون " الآية، قيل قد عبدت الملائكة وعزير ومسيح فكل منهم مع آلهتنا في النار فأجاب عليه السلام أنَّهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته ثم نزل " إن الذين سبقت لهم منا الحسني " الآية، استثناء من المعبودين، فعلى هذا " وما تعبدون " عام مخصص، (لاَ يَسْمَعون حَسِيسَهَا) هو صوت يحسُّ به، خبر ثان لأولئك أو حال، (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ): دائمون في التنعم، (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ): النفخة في الصور، أو حين يؤمر بالكفار إلى النار، أو حين يطبق النار على أهلها، أو حين يذبح الموت، (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ): تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة مهنئين قائلين (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ): للثواب، (يَوْمَ) عامله لا يحزنهم أو تتلقاهم أو اذكر، (نَطْوِي السَّمَاءَ) الطي ضد النشر، (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل الصحيفة، صرح بذلك جماهير السلف، أي: كطي الطومار لأجل ما يكتب فيه، يعني: تطوى السماء كما يطوى الكتاب الطومار ويسوى ويضعه مطويًا حتي إذا احتاج إلى الكتابة لم يحتج إلى تسوية، أو السجل ملك يطوي كتب بني آدم وعلى هذا اللام زيدت للاختصاص، وفي سنن أبي داود والنسائي أنه كاتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الأكابر

صرحوا بوضعه، وقالوا: لا يعرف من الصحابة أحد اسمه السجل، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)، أي: نعيد أول الخلق كما بدأناه، وأول الخلق عبارة عن إيجادة عن العدم فنصب أول نعيد المقدر المفسر بـ نعيد وكم مفعول مطلق أو كما مفعول له لـ نعيد المقدر وما موصولة، وأول ظرف لـ بدأنا وحينئذ مفعول بدأنا ضمير لما، أى: نعيد مثل الذي بدأناه في أول الخلق حين الإيجاد عن العدم، (وَعْدًا عَلَيْنا)، أي: نعد وعدًا علينا إنجازه، أو مصدر مؤكد، (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ): ذلك ألبتَّة، (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزبورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ): الزبور ما أنزل من الكتاب، والذكر اللوح المحفوظ، أي: كتبنا في الكتب بعد ما كتبنا في اللوح أو هو كتاب داود، والذكر التوراة، (أَنَّ الأَرْضَ) أرض الجنة، أو أرض الكفار، أو بيت المقدس، (يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ): المؤمن مطلقًا أو أمة محمد - عليه السلام، (إِنَّ فِي هَذَا): القرآن، (لَبَلاغاً): لكفاية، أو لوصولاً إلى البغية، (لقَوْمٍ عَابِدِينَ): لله لا للشيطان، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَمالَمِينَ): للبر والفاجر، فإنه رُفع ببركته - صلى الله عليه وسلم -

الخسف والمسخ والاستئصال، أو أرسله للرحمة على الكل، لكن بعضهم أعرضوا عن الرحمة، وما تعرضوا لها فحرمانهم وشقاوتهم من سوء شكيمتهم، (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ): لا متعدد كما تقولون، أو المقصود الأصلي من جميع الوحي العلم بالوحدانية، فكأنه ما نزل عليه إلا هذا، أو ما كافة، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): مخلصون العبادة لله، (فَإِنْ تَوَلَّوْا): عن الإسلام، (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ)، أنذرتكم بالعذاب، (عَلَى سَوَاءٍ): مستوين في الإعلام، أو إيذانًا على سواء، أو حال من الفاعل والمفعول، أي: مستويان في العلم بما أعلمتكم لا أدري وقته، وقيل معناه: إن أعرضوا فقل أعلمتكم بما يوحى إلى مستوين في العلم ما كتمت شيئًا عن أحد، (وَإِنْ): نافية، (أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ)، من العذاب أو القيامة، (إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) لا تفاوت عنده في إسراركم الطعن في الإسلام وإجهاركم، (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ): لعل تأخير العذاب، (فِتْنَةٌ): اختبار، (لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) تمتيع إلى أجل قدَّره الله، (قَالَ رَبِّ احْكُمْ)، اقض بيننا وبينهم، (بِالْحَقِّ) بالعدل، أمرٌ باستعجال عذاب هو حقيق لهم، وقد وقع ببدر، وفي الدعاء أيضًا إظهار لعبوديته والرغبة، وإن كان المدعو أمرًا محققًا، (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ)، المسئول منه المعونة، (عَلَى مَا

تَصِفُونَ)، من الحال فإن زعمهم أن راية الإسلام ستنتكس عن قريب وتصير الشوكة لهم فخيب الله آمالهم وخرب مآلهم. والحمد لله على ذلك. * * *

سورة الحج

سورة الحج مكية، إلا ست آيات وهي: (هَذَانِ خَصْمَانِ (19) إلى (إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)) * * * (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) * * *

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) هي النفخة الأولى قبل قيام القيامة المسماة بنفخة الفزع، وهي من أشراط الساعة، أو المراد قيام القيامة، فإضافة المصدر إلى فاعله أي: شدة تحريكها للأشياء أو زلزال وأهوال هي فيها فمن إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع في إجرائه مجرى المفعول به، أي: الزموا التقوى، فإنه لا ينفعكم في هذا اليوم العظيم إلا التدرع بلباس التقوي، (يَوْمَ تَرَوْنَهَا) الزلزلة، ونصب يوم بقوله: (تَذهَلُ) الذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة، (كُلُّ مُرْضِعَةٍ): في حال إرضاعها، (عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا): لشدة ذلك اليوم والذهول، والوضع لبيان واقع إن كان المراد حين النفخة الأولى، وإلا فتصوير لهولها، (وَتَرَى النَّاسَ سُكارَى): كأنهم سكارى، (وَمَا هُم بِسُكَارَى): في الواقع، أو كأنَّهم سكارى من الخمر، وما هم بسكارى منه، (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ) فأدهش عقولهم أو فهم سكارى من الخوف، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتبِعُ): في جداله، (كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) عار عن الخير مطلقًا جادل قريش، وقالوا: محال إعادة الخلق بعدما صاروا ترابًا، وقد نقل أن واحدًا منهم قال: أخبرنا عن ربك من ذهب أو فضة أو نحاس فصعقته صاعقة فاختطفته، (كُتِبَ): قُضي وقُدّر، (عَلَيْهِ) على الشيطان، (أَنَّهُ) الشيطان، (مَنْ تَوَلَّاهُ): تبعه، (فَأَنَّهُ): الشيطان،

(يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) هذا من باب التهكم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ) أي: فانظروا في بدء خلقكم، لتعلموا أن من قدر على هذا قدر على ذلك (مِنْ تُرَابٍ): خلق آدم منه، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ): ذريته من منيٍّ (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) فإن النطفة تصير دمًا غليظًا، (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ): قطعة من لحم قدر ما يمضغ، (مُخَلَّقَةٍ): تامة، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ): ساقطة، أو مسواةٍ ومعيوبةٍ، (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ): كمال قدرتنا على البدائع [والحشر] فرد منها، (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) أن نقره فلا نسقطه، (إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى) هو وقت الوضع، (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) نصب على الحال والمراد منه الجنس، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) كمال قوتكم المعطوف محذوف كما تقول: جاء زيد ثم عمرو وثم وثم أي: ثم نربيكم لتبلغوا أو تقديره: لنبين لكم ثم لتبلغوا فكأن الأمر التدريجي من النطفة والعلقة والمضغة ليس إلا للتبيين، وأما تمكينه في الرحم، ثم إخراجه لمصلحتين التبيين والإيصال إلى كمال العقل، أو تقديره ثم فعلنا ما فعلنا لتبلغوا، (وَمِنْكُمْ مَنْ

يُتَوَفَّى): قبل الهرم، (وَمِنكُم مَّن يُرَد إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ): الهرم والخرف، (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْثاً)، كحال طفولية فسبحان من يعيد كما بدأ، (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً): ميتة يابسة شرع في دليل آخر للبعث، (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ): تحركت بالنبات، (وَرَبَتْ): انتفخت، (وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج): صنف، (بَهِيجٍ): حسن رائق، (ذَلِكَ): المذكور، (بِأَن الله هُوَ الحَقُّ)، بسبب أنه الثابت الموجود فإنه هو الموجد قيل تقديره: ذلك هادٍ بأنه هو الحق، (وَأَنَّهُ يُحْيي الْمَوْتَى): لولا قدرته على إحياء الموتى، كيف يحيي النطفة والأرض، (وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فيقدر على مثل ذلك، (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وإلا فيكون ذلك سيما إخراج الطفل، والتبلغ عبثا لعبًا لا طائل تحته - تعالى الله عن ذلك (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ) الأولى بيان حال المقلدين، ولهذا قال: (ويتبع كل شيطان مريد)، وهذه الآية حال المقلدين، ولذلك يقول ليضل الناس، (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ): ليس له علم فطري، ولا ما يستند إلى دليل عملي، ولا إلى وحي، (ثَانِيَ عِطْفِهِ) كناية عن الكبر أو عن الإعراض حال من فاعل يجادل، (لِيُضِل): الناس، (عَن سبيلِ اللهِ) اللام لام العاقبة، (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ): مذلة كقتل وسبي، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ): المحرق، (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) التفات أو تقديره يقال له ذلك، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) بل عادل ومن العدل تعذيب المسىِء وإثابة المحسن، والظالم قد يترك عقاب المسيء للعصبية كما يترك إثابة المحسن

(11)

قيل: لما أثبت له خزي الدنيا، وعذاب الحريق صار مظنة لأن يتوهم أنه ظلم عظيم، فعكس الأمر، وقال: لست بظلام كما زعمت وقد مر في سورتي آل عمران والأنفال. * * * (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) * * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ): طرف من الدين لا على وسط منه كمن هو على طرف من العسكر إن أحس بظفر قَرَّ وإلا فَرَّ، (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ): ما يحبه، (اطْمَأَنَّ بِهِ): فاستقر على دينه، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ): ما يكره، (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ): رَجع عن دينه، (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الُمبِينُ) نزلت في ناس من الأعراب يسلمون فإن وجدوا عام غيث ونتجت فرسهم وما لهم وولدت امرأتهم غلامًا رضوا به وإلا ارتدوا، (يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ): جمادٌ لا يقدر على شيء، (ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ): عن المقصد، (يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نفْعِهِ): النفع والضر المنفيان قدرته عليهما والمثبت كونه بسبب من الضر المحقق، وبمعزلة عن النفع المترتب (لَبِئْس الَمَوْلَى): الناصر، (وَلَبِئْسَ العَشِيرُ): الصاحب، اعلم أن يدعو الثاني إن كان تأكيدًا ليدعو الأول، فالموصول بصلته مبتدأ وفعل، لذم خبره، والجملة مستأنفة إخبار من الله، وإن كان بمعنى يقول، فالجملة مقول له، أي: يقول الكافر حين يرى ضر عبادته في الآخرة لمن ضره أقرب إلخ، وقيل: اللام في لمن زائدة وقرأ ابن مسعود بلا لامٍ.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، ولما ذكر إضلال قوم وإهداء آخرين قال (إِنَّ اللهَ يَفْعَل مَا يُرِيدُ): لا يُسأل عما يفعل، (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ)، أي: نبيه، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) كما قال المشركون: ننتظر عليه الدوائر، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ): يمد حبلاً إلى سماء بياته، أي: سقفه، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ): يختنق، (فَلْيَنْظُرْ): يتأمل، (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ)، سماه كيدًا لأنه منتهى ما يصل إليه يده، (مَا يَغِيظُ): من نصر الله أو غيظه، وحاصله أن الله ناصر رسوله فمن يتوقع من غيظه خلاف ذلك فليجتهد فِي إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل الممتلئ غيظًا، يعني ليس في يده إلا ما لا يذهب غيظه، وعن بعض معناه فليتوسل إلى بلوغ السماء، فإن النصر من السماء ثم ليقطع ذلك عنه، قيل: المراد بالنصر الرزق وحينئذ الضمير في ينصره لمن، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك الإنزال، (أَنْزَلْنَاهُ): القرآن، (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي: ولأن الله يهدي به من يريد هدايته أنزلناه كذلك، فالجملة من التعليل والمعلل المحذوف عطف على (كذلك أنزلناه) إلخ، (إِنَّ الذِين

آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ): يقضي بينهم ويجازي كلًّا ما يليق به، (يَوْمَ القِيَامَةِ) إن دخل على الخبر أيضًا لمزيد التأكيد، (إِن اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ شَهِيدٌ): فيعرف ما يليق بهم، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ): ينقاد، (لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)، وقد ورد: " الشمس والقمر حين يغيبان يقعان لله ساجدين ثم لا يطلعان حتى يؤذن لهما "، وفي الحديث " لا تتخذوا ظهور الدواب منابر فرب مركوب خيرٌ أو أكثر ذكرًا لله من راكبه "، وبالجملة لا يستحيل سُنيُّ مسلم أن يكون للجمادات خشوع وتسبيح، (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ): المسلمون، (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ): هم الكفار فإنهم غير منقادين لله فهو بحسب المعنى استثناء مِنْ " مَنْ في الأرض "، ومن يجُوَّز

استعمال لفظ واحدٍ في حالهِ واحدة على معنيين مختلفين فلا إشكال عنده فإنه يحمل السجود على معانٍ، قيل: وكثير من الناس مبتدأ حبره مقدر، أي: مثاب بقرينة مقابلة، وقيل: حق عليه العذاب خبر لهما أي: وكثير وكثير حق عليه العذاب، (وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ هَذَانِ خَصْمَانِ): فوجان مختصمان، (اختَصَمُوا) الجمع نظرًا إلى المعنى، (في ربهِمْ): في أمره ودينه، نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بارزوا مع عتبة وشيبة والوليد يوم بدر، قال علي: أنا أول من يجثوا بين يدي الرحمن للخصومة في القيامة أو في المسلمين واليهود، قالت اليهود: نحن أفضل، كتابنا ونبينًا أسبق، فقال المسلمون: نحن أحق بالله آمنا بجميع كتبه ورسله وأنتم تعرفون كتابنا ورسولنا وكفرتم حسدًا، أو المراد المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ من نارٍ): كما يقطع الثياب بقدر القامة فيخيط، وهذا بيان فصل خصومة الكافر، (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ): الماء الحار الذي لو سقطت نقطة على جبال الدنيا لأذابتها خبر ثان، أو حال من لهم (يُصْهَرُ): يذاب، (بهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ): الأمعاء، (وَالْجُلُودُ) الجملة حال، (وَلَهُم مَّقَامِعُ): سياط، (مِنْ حَدِيدٍ) لو ضرب جبل بمِقْمَعِ منها لتفتت، (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا): من النار، (مِنْ غَمٍّ) بدل من منها، (أُعِيدُوا فِيهَا): حين خرجوا منها من غير مهلة وتراخ، وعن الحسن

(23)

أن أيديهم وأرجلهم موثقة لكن يدفعهم لهبها فتردهم مقامعها، (وَذوقُوا) أي: قيل لهم ذوقوا، (عَذابَ الحَرِيقِ): فيجمع لهم بين التعذيب الجسماني والإهانة. * * * (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) * * * (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، هذا بيان فصل خصومة المؤمن، (يُحَلَّوْنَ)، من حليته إذا جعلت له حليَّا، (فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ)، جمع سوار، (مِن ذَهَبٍ)، بيان لأساور، (ولؤْلُؤًا) بالجر والنصب عطف على لفظ أساور ومحلها أو تقديره ويؤتون لؤلؤا، (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ): في مقابلة ثياب أهل النار، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ): هدوا إلى مكان لا يسمعون فيه إلا الكلام الطيب وهو سلام الملائكة وتهنئتهم في مقابلة وذوقوا عذاب الحريق، (وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ): المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة، وعن بعض الكلام الطيب القرآن، أو كَلمة التوحيد في الدنيا، أو قولهم في الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وصراط الحمِيد: الإسلام، (إِن الذِينَ كَفَرُوا): في ماضي

الزمان، (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): يومَا فيومًا، (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ): لمناسكهم كلهم، (سَوَاءً الْعَاكِفُ): المقيم، (فِيهِ وَالْبَادِ): الطارئ، من قرأ برفع سواء فهو خبر مقدم، والجملة ثاني مفعولي جعلناه إن جعلته للناس حالاً وإن جعلت ثاني مفعوليه فهي حال، ومن قرأ بنصبه فثاني مفعوليه أو حال بمعنى مستويا والعاكف مرتفع به، (وَمَن يُرِدْ فِيهِ يِإِلْحَادٍ): ميل عن القصد ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول، والباء للحال أو فيه تضمين معنى الهم، وقيل الباء زائدة، (بِظُلْم): بعمدٍ حال أو بدل فالمراد بالإلحاد كل كبيرة أو الشرك، وعند بعض أن من عزم سيئة بمكة أذاقه الله العذاب الأليم، وإن لم يفعلها وهذا من

(26)

خصوصيات مكة، (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، جواب لمن وخبر إن مقدر أي: نذيقه من عذاب أليم وحذف لدلالة جواب الشرط عليه. * * * (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) * * * (وَإِذْ بَوَّأنَا لإِبْرَاهِيمَ): واذكر زمان جعلنا له، (مَكَانَ البَيْتِ): مباءة مرجعًا يرجع إليه للعمارة والعبادة وذكر مكان البيت لأن البيت ما كان حينئذ، (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) أن مفسرة لـ بَوَّأنَا من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا، أي: ابْنِهِ على اسمي وحدي، (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ): من الشرك، (لِلطائِفِينَ): حوله، (وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، عبر عن الصلاة بأركانها أو المراد بالقائمين: المعتكفون لمشاهدة الكعبة، وبالركع السجود المصلون، (وَأَذِّن): نَادِ، (فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ): بدعوته والأمر به، نقل أنه قام على مقامه أو على الحجر، أو على الصفا أو على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم اتخذ بيتًا فحجوه، فأجابه كل شيء من شجر وحجر ومن كتب الله له الحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم: لبيك اللهم لبيك، (يَأتوكَ رِجَالاً): مشاة جمع راجل، (وَعَلَى كُلِّ ضَامِر)، أي: ركبانًا حال معطوف على حال، (يَأتِينَ)، صفة لـ ضامر، وجمعه باعتبار معناه، (مِن كُلِّ فَجٍ عَمِيقٍ): طريق بعيد، (لِيَشْهَدُوا): يحضروا، (مَنَافِعَ): دينية ودنيوية، (لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ): عشر ذي الحجة، أو يوم النحر وثلاثة بعده ويعضد الثاني قوله: (عَلَى مَا رَزَقَهم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنعَامِ)، فإن المراد التسمية عند ذبح الهدايا والضحايا، (فَكُلُوا مِنْهَا)، الأمر للاستحباب أو للإباحة، فالجاهلية يحرمون أكلها،

وعند الأكثرين لا يجوز الأكل من الدم الواجب، (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ): الشديد الفقر المتعفف أو الزمِنَ أو الضرِير، (ثُمَّ لْيَقْضُوا): يزيلوا (تَفَثَهُمْ)، وسخهم بقص الشوارب والأظفار ولبس الثياب وغيرها أو التفث المناسك، (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ): أعمال حجة من وفَّى بنذره إذا خرج مما وجب عليه مطلقًا أو ما نذر وأوجب على نفسه في الحج، (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ): طواف الإفاضة والعتيق القديم أو أعُتق من تسلط الجبابرة عليه، (ذَلِكَ)، أي: الأمر ذلك وهو وأمثاله يطلق للفصل بين كلامين، (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ): بترك ما نهى الله أو بتعظيم بيته، والشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام، (فهُوَ): التعظيم، (خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ): ثوابًا، (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى): آية تحريمه، (عَلَيْكُمْ)، هي " حرمت عليكم الميتة " الآية في المائدة لا البحائر والسوائب، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ): الذي هو الأوثان بيان للرجس، وتمييز له كعندي عشرون من الدراهم، (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ): الكذب والبهتان ومنه شهادة الزور، (حُنَفاءَ لله): مخلصين له (عيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)، حالان من فاعل

(34)

اجتنبوا (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ): سقط، (مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ): تسلبه، (الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي): تسقط، (بِهِ الرِّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍَ): بعيد يعني: من أشرك فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك فهو كجيفة اختطفته الطير فتفرق قطعًا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة، وأو للتخيير أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلاً، ومنهم من يمكن خلاصه بالإيمان لكن على بعد (ذَلِكَ): الأمر ذلك، (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ): البدن والهدي وتعظيمها استسمانها أو أعمال الحج، (فإِنَّهَا): تعظيمها، (مِن تَقْوَى القُلوب) أي: ناشئ من تقوى قلوبهم أو من أعمال ذوي تقوى القلوب، (لَكُمْ فيهَا). في الشعائر وهي البدن، (مَنَافع): دَرُّها وصوفها وظهرها، (إِلَى أَجَل مسَمًّى): وقت النحر وإن سماها وجعلها هديًا أو الأجل المسمى تسمينها وجعلها هديًا فما لم تسم بدنًا ينتفع به، (ثُمَّ مَحِلُّهَا): منحرها (إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ) أي: عنده يعني: الحرم مطلقًا. * * * (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ

اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) * * * (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ)، لكل أهل دين، (جَعَلْنَا مَنْسَكًا)، بفتح السين مصدر، أي: ذبح المناسك، وبكسرها موضع نسك يعني: إراقة الدماء مشروعة في جميع الملل، وعن بعض لم يجعل الله لأمه منسكاً غير مكة، (لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهيمَةِ الأَنْعَامِ) أي: المقصود من المناسك خلوص العبادة له، (فإلَهُكُمْ): أنتم ومن قبلكم، (إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا): انقادوا له لا لغيره (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ): الخاشعين الراضين بقضائه، (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ): في أوقاتها، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ):

يتجدد إنفاقهم في جهات الخير، (وَالْبُدْنَ): جمع بدنة وهي الإبل أو البقر، وانتصابه على شريطة التفسير، (جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ): أعلام دينه، (لَكُمْ فيهَا خَيرٌ): منافع الدارين، (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا): عند نحرها يقول: بسم الله والله أكبر لا إله إلا الله اللهم منك ولك، (صَوَافَّ): قائمات على ثلاثة قوائم معقولة يدها اليسرى أو رجلها اليسرى، (فإِذَا وَجَبَتْ): سقطت، (جُنُوبُهَا): على الأرض أي: ماتت، (فَكُلوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ): السائل من قنع قنوعًا إذا سأل، أو فقيرًا لا يسأل من القناعة، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يتعرض للمسألة ولا يسأل أو السائل، (كذَلكَ): مثل ما وصفنا من نحرها قيامًا، (سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ): مع عظمها، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): لكي تشكروا إنعامنا، (لَن يَنالَ اللهَ): لن يصل إليه، (لحُومُهَا ولاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) أي: النية والإخلاص فإنها هي المتقبل منكم، ويجزي عليها نزلت في أن الكفرة إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من اللحوم ونضحوا عليها من دمائها، وعن بعض كانوا ينضحون بلحومها ودمائها، فقال بعض المسلمين: نحن أحق أن ننضح البيت، (كذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ): كررها تذكيرًا لنعمة التسخير وتعليلاً له بقوله (لِتُكَبِّرُوا اللهَ): تعظموه ولا تثبتوا لغيره الكبرياء، (عَلَى مَا هَدَاكُمْ): إلى كيفية التقرب إلى الله بها، ولتضمين تكبروا معنى تشكروا عدَّاه بعلى، (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ): الذين أحسنوا أعمالهم، (إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ): يبالغ في مدافعة غائلة المشركين، (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ): في أمانة الله، (كَفُورٍ): لنعمته، ومن تقرب بذبيحة إلى غير الله فهو خوان كفور. * * *

(39)

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) * * * (أُذِنَ): رخص في القتال، (لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ): يريدون القتال والمسلمون كانوا يتظلمون إلى رسول الله من أذى المشركين ويطلبون القتال قبل الأمر به قيل سماهم مقاتلين باعتبار المآل، ومن قرأ بصيغة المجهول فمعناه: يقاتلهم المشركون، (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا): بسبب أنَّهم مظلومون، هي أول آية نزلت في الجهاد حين هاجروا من

مكة واستدل بهذه الآية على أن السورة مدنية، (وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) عدة بالنصر وقيل معناه: إنه لقادر على نصرهم من غير قتال لكن صلاحهم في القتال، (الذينَ أُخْرِجُوا)، بدل من للذين، أو صفة، (مِن ديَارِهم): مكة، (بِغَيْرِ حَق)، موجب استحقوا الإخراج به، (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ): سوى التوحيد الذي هو موجب للتمكين والتعظيم فالاستثناء بدل من حق، وهذا من باب. لا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وقيل منقطع، (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ): بالجهاد وإقامة الحدود، (لهُدِّمَتْ): خربت، (صَوَامع): الرهبانَ، (وَبِيَعٌ): كنائس النصارى، (وَصَلَوَاتٌ): كنائس اليهود سميت بها لأنَّهُم لا يصلون إلا فيها، (وَمَسَاجِدُ): للمسلمين، (يُذْكَرُ فيهَا)، صفة لمساجد خصت بها تفضيلاً، وقيل: صفة للأربع، (اسْمُ اللهِ كَثِيرًا)، يعني: لولاه لهدم في زمن موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام مواضع عباداتهم باستيلاء الكفرة، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ): من ينصر دينه ويعلي كلمته، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ): على خلقه، (عَزِيزٌ): لا يغلبه غالب، (الذِينَ)، بدل أو صفة لمن ينصره، (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ): نصرناهم فيتمكنوا من البلدان، (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ): موجع الأمور إلى حكمه وفيه تأكيد لما وعد من

النصرة، قيل معناه: تصير الأمور إليه بلا منازع فيبطل كل ملك سوى ملكه، وقيل: له عاقبة الأمور فيجزيهم، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ): رسلهم فأنت لست بأوحدي في التكذيب فلا تغتم، (وَكُذِّبَ مُوسى): مع ظهور معجزاته كذبه القبط لا قومه بنو إسرائيل، (فَأَمْلَيْتُ): أمهلت، (لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ): إنكاري عليهم بتبديل منحتهم محنة وعمارتهم خرابًا، (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) أي: أهلكنا كثيرًا من القرى بإهلاك أهلها كأين منصوب بشريطة التفسير أو مرفوع، وأهلكناها خبره، والجملة بدل من فكيف كان نكير ولذلك جاء بالفاء، (وَهِيَ ظَالِمَةٌ): أهلها جملة حالية، (فَهِيَ خَاوِيَةٌ): ساقطة، (عَلَى عُرُوشِهَا) على سقوفها أي: خرت سقوفها ثم سقطت حيطانها فوق السقوف، أو خالية مع سلامة عروشها، والجملة عطف على أهلكناها، (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي: وكم من بئر عامرة متروكة الاستقاء منها أهلكنا مُلَّاكَها، (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ): رفيع أو مجصَّص محكم أهلكنا أهلها وأخليناه عن ساكنيه، (أَفَلَمْ يَسيرُوا في الْأَرْضِ)، حثٌّ على السفر والتفكر في نقم ما حل بالأمم الماضية المكذبه، (قَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا): ما يجب أن يعقل كالإيمان بالرسل، (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا): ما يجب أن يسمع كالتذكير، (فَإِنَّهَا) ضمير القصة، (لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) أي: ليس الخلل بمشاعرهم، (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي: إنما العمى بقلوبهم أو لا يعتد بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى، ولكن العمى عمى القلوب، وذكر الصدور للتأكيد، ونفي التجوز كأنه قال: ما نفيت العمى عن البصر وأثبت للقلب سهوًا، وفلتةً، بل تعمدت به إياه بعينه تعمدًا، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ): سخريةً

(49)

وتكذيبًا لك، (وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ): ينجزُه ولو بعد حين كما نجوا يوم بدر، (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي: مقدار ألف سنة عند عباده كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه، لأنه قادر لا يفوته شيء بالتأخير أو كيف يستعجلون بالعذاب، وإن يومًا من أيام الآخرة التي هي أيام عذابهم كألف سنة من أيام الدنيا، أو إن يومًا من الأيام الستة التي خلق الله الخلق فيها كألف سنة فالمدد الطوال عندكم قصار عنده، أو كيف يستعجلون، وإن يومًا من العذاب بشدته كأنه سنة! (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا): أمهلتهم كما أمهلتكم وإعرابه مثل ما مر، (وَهِيَ ظَالِمَةٌ): مثلكم. (ثُمَّ أَخَذْتُهَا): بالعذاب، (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ): فأجازيهم. * * * (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) * * *

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ): ليس إليَّ من حسابكم شيء، أمركم إلى الله إن شاء عجل العذاب، وإن شاء أخر وإن شاء تاب عليكم وإن شاء أضل، (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ): عما فرط عنهم، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): هو الجنة، (وَالَّذِينَ سَعَوْا): بالرد والإبطال، (فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ): مسابقين بزعمهم ظانين أنَّهم يسبقوننا فلا نقدر عليهم، أو سابقين لمن يسعى في تحقيق آياتنا وإثباتها، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك مِن رسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يطلق أيضًا على من يأتيه بإلهام أو منام قيل هو من له شريعة مجددة، والنبي أعم أو هو من أنزل عليه كتابًا والنبُّى أعم، (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى): أحب شيئًا واشتهاه من غير أمر الله، أو معنى (تَمَنَّى) قرأ وتلا، (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ): وجد إليه سبيلاً أو ألقي في قراءته فأدخل

في مقروئه ما ليس منه قد ذكر أكثر المفسرين -بل كلهم- قصة الغرانيق بروايات كلها مرسلة أو منقطعة إلا رواية واحدة عن ابن عباس فإنها متصلة، وقد أنكر كثير

صفحة فارغة

من العلماء هذه الحكاية وبالغوا في الإنكار وطعنوا في الرواة، وقال بعض: إنها من وضع الزنادقة وهي أنه عليه السلام تمني أن يأتيه من ربه ما يقرب بينه وبين قومه رجاء أن يسلموا، فكان يومًا في محضر قريش إذ أنزل عليه سورة " والنجم " فأخذ يقرأها، فلما بلغ ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في قراءته فسبق لسانه: سهوًا أو تكلم الشيطان فحسب أن القارئ رسول الله أو نام نومة فجرى على لسانه تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما وصل قراءته إلى السجدة سجد فسجد من في النادي من المسلم والمشرك، وفرح المشركون فأتاه جبريل وقال: ماذا صنعت؟! لقد تلوت ما لم آتك به عن الله فحزن حزنًا وخاف خوفًا فعزاه الله بتلك الآية يعني: ما أنت بأوحدي بهذا، بل مكنا الشيطان ليلقي في أمانيهم كما ألقى في أمانيك ابتلاء منا ليزيد المنافقون شكًّا وظلمة، والمؤمنون يقينًا ونورًا (1)، (فَيَنسَخُ اللهُ): يزيل ويبطل، (مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ): يثبتها بحيث لا تشتبه بكلام غيره، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): فيما يفعل، (لِيَجْعَلَ)، أي: مكنا الشيطان منه ليجعل، (مَا يُلْقِي الشيْطَانُ فِتْنَةً): ضلالة، (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شك ونفاق، (وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ): المشركين فإنهم لما سمعوا نسخ قول الشيطان ازدادوا غيظًا وظنوا أنه ندم مما ألقى من عند نفسه، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ): المنافقين والمشركين، (لَفِي

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى إِعْرَاضَ قَوْمِهِ عَنْهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنَ الله مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ وَذَلِكَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ كَثِيرٍ أَهْلُهُ وَأَحَبَّ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مِنَ الله شَيْءٌ يَنْفِرُوا عَنْهُ وَتَمَنَّى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى سُورَةَ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْمِ: 19، 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى مِنْهَا الشَّفَاعَةُ تُرْتَجَى» فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا وَمَضَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا فَسَجَدَ وَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ لِسُجُودِهِ وَسَجَدَ جَمِيعُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ سِوَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي فَإِنَّهُمَا أَخَذَا حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَرَفَعَاهَا إِلَى/ جَبْهَتَيْهِمَا وَسَجَدَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُمَا كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا السُّجُودَ وَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا وَقَالُوا قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ الله وَقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟! فَحَزِنَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنًا شَدِيدًا وَخَافَ مِنَ الله خَوْفًا عَظِيمًا حَتَّى نَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الْآيَةَ. هَذَا رِوَايَةُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرِيِّينَ، أَمَّا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فَقَدْ قَالُوا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بَاطِلَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: 44 - 46]، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: 15] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فَلَوْ أَنَّهُ قَرَأَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الغرانيق العلى لَكَانَ قَدْ ظَهَرَ كَذِبُ الله تَعَالَى فِي الْحَالِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 73] وَكَلِمَةُ كَادَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْنَاهُ قَرُبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 74] وَكَلِمَةُ لَوْلَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرُّكُونَ الْقَلِيلَ لَمْ يَحْصُلْ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: 32]. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6]. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ هَذَا وُضْعٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَصَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بن الحسن الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي أَنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَطْعُونٌ فِيهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ وَسَجَدَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ فِيهَا الْبَتَّةَ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمَ الْأَوْثَانِ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَعْظَمَ سَعْيِهِ كَانَ فِي نَفْيِ الْأَوْثَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ آمِنًا أَذَى الْمُشْرِكِينَ لَهُ حَتَّى كَانُوا رُبَّمَا مَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي إِذَا لَمْ يَحْضُرُوهَا لَيْلًا أَوْ فِي أَوْقَاتِ خَلْوَةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُعَادَاتَهُمْ لِلرَّسُولِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ دُونَ أَنْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَظَّمَ آلِهَتَهُمْ حَتَّى خَرُّوا سُجَّدًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عِنْدَهُمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُمْ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِحْكَامَ الْآيَاتِ بِإِزَالَةِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ عَنِ الرَّسُولِ أَقْوَى مِنْ نَسْخِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَبْقَى الشُّبْهَةُ مَعَهَا، فَإِذَا أَرَادَ الله إِحْكَامَ الْآيَاتِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا، فَبِأَنْ يُمْنَعَ الشَّيْطَانُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا أَوْلَى وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَقْوَى الْوُجُوهِ/ أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ ارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنْ شَرْعِهِ وَجَوَّزْنَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَيَبْطُلُ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ النُّقْصَانِ عَنِ الْوَحْيِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَرَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا لَكِنَّهُمْ مَا بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ الدَّلَائِلَ النَّقْلِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ التَّمَنِّي جَاءَ فِي اللُّغَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَمَنِّي الْقَلْبِ وَالثَّانِي: الْقِرَاءَةُ قَالَ الله تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الْبَقَرَةِ: 78] أَيْ إِلَّا قِرَاءَةً لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَعْلَمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُصْحَفِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ قِرَاءَةً، وَقَالَ حَسَّانُ: تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ قِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِرَاءَةُ أُمْنِيَّةً لِأَنَّ الْقَارِئَ إِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ رَحْمَةٍ تَمَنَّى حُصُولَهَا وَإِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ عَذَابٍ تَمَنَّى أَنْ لَا يُبْتَلَى بِهَا، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ التَّمَنِّي هُوَ التَّقْدِيرُ وَتَمَنَّى هُوَ تَفَعَّلَ مِنْ مُنِيتُ وَالْمَنِيَّةُ وَفَاةُ الْإِنْسَانِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ الله تَعَالَى، وَمَنَى الله لَكَ أَيْ قَدَّرَ لَكَ. وَقَالَ رُوَاةُ اللُّغَةِ الْأَمْنِيَّةُ الْقِرَاءَةُ وَاحْتَجُّوا بِبَيْتِ حَسَّانَ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ التَّالِيَ مُقَدِّرٌ لِلْحُرُوفِ وَيَذْكُرُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْأَمْنِيَّةَ، إِمَّا الْقِرَاءَةُ، وَإِمَّا الْخَاطِرُ، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْقِرَاءَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوّ

(58)

شِقَاقٍ): خلاف وعناد، (بَعِيدٍ): عن الحق شديد (وَلِيَعْلَمَ)، عطف على ليجعل) (الذِينَ أُوتُوا العلمَ): القرآن وهم المسلمون، (أنَّه): ما أوحينا إليك، (الحَقُّ): الصدق، (مِن ربكَ) حال أو خبر بعد خبر، (فَيؤْمِنوا بِهِ): بالقرآن أو بالله، فإن العقلاء لما رأوا أنه أعرض عما تكلم به، ولم يعبأ ببيان خطأه ولم يبال بمزيد عداوتهم مع كثرة حرصه بألفتهم، علموا أن الشيطان دخل في أمنيته فنسخه الله، وعصم نبيه، فزادوا يقينهم وثبتوا دينهم، (فَتُخْبِتَ): تخشع، (لَه): لله، (قُلُوبُهُمْ): واطمأن، (وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاط مسْتَقِيمٍ): في الدارين، (وَلاَ يَزَالُ الذِينَ كَفَرُوا فِي مِريةٍ): شك، (مِّنه). من القرآن، أو مما ألقى الشيطان قائلين: ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنه، (حَتَّى تَأْتِيَهُم السَّاعَةُ): القيامة أو الموت، (بَغتةً): فجأة، (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ): كيوم بدر فإنه يوم لا خير للكفار فيه كما يقال: ريح عقيم، أو المراد يوم القيامة، فإنه يوم لا ليل له فكأنه قال: تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها فوضع الظاهر موضع المضمر للتهويل، (الملْكُ يَوْمَئِذٍ لله): لا منازع له بوجه، (يَحْكمُ بَيْنَهمْ): بين المؤمنين والكافرين، (فَالَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ): الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن عقابهم مسبب من أعمالهم بخلاف إثابة المسلمين فإنها فضل. * * * (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ

إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) * * * (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ): تركوا الأوطان في طريق طاعته ورضاه، (ثُمَّ قُتِلُوا): فيها، (أَوْ مَاتُوا): حتف أنفهم، (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا) هم أحياء عند ربّهم يرزقون، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خيْرُ الرازقِينَ): فإنه يرزق من يشاء بغير حساب، (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ): لما فيه ما تشتهي أنفسهم، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ): بأحوال الفريقين، (حَلِيمٌ): لا يعاجل بالعقوبة، (ذلِكَ): الأمر ذلك، (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) ولم يزد على مثله سمي ابتداء الإضرار عقابًا للازدواج فإن العقاب جزاء من عَقِبِ فِعْلٍ، (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ): بعقوبة أخرى، (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)، فإنه مظلوم، (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ): للمنتصر، (غَفُورٌ): إن زاد في الجزاء، نزلت في رهط من المسلمين لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم فناشدهم

(65)

المسلمون أن لا يقاتلوا فأبوا فقاتلوا وبغوا فنصر الله المسلمين، (ذلِكَ): النصر، (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، بسبب قدرته على تغليب الأمور بعضها على بعض يداول بين المتعاندين كما يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر، (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ): فيجازيهم بما يسمع ويبصر، (ذَلِكَ): القدرة التامة والعلم الكامل، (بأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ): الثابتة إلاهيته، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) وَكل ما يدعون إلهًا دونه باطل الألوهية فلا إله سواه، (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ): لا شيء أعلى منه وأكبر شأنًا فلا محالة يكون قديرًا عليمًا، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً): برفع تصبح لأنه بعد استفهام بمعنى الخبر أي: قد رأيت فلا يكون له جواب والعدول إلى المضارع للدلالة على بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ): واصل علمه أو لطفه إلى كل جليل ودقيق، (خَبِيرٌ): بالتدابير، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ). في ذاته، (الْحَمِيدُ): المستوجب للحمد. * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)

وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ): فتنتفعون به، (وَالْفُلْكَ) عطف على ما، (تَجْرِي فِي البَحرِ بِأَمْرِهِ)، حال، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ): من، (أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ): بمشيئته كما تقع يوم القيامة، (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) حيث أثبت لهم المنافع، ودفع عنهم المضار، (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ): بعد ما كنتم جمادًا ترابًا ونطفة، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ): في الآخرة، (إِذ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ): جحود لنعم ربه، (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا

مَنْسَكًا) أي: لكل أمة نبي جعلنا شريعة، (هُمْ نَاسِكُوهُ): عاملوه، (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ): سائر أرباب الملل، (فِي الْأَمْرِ): في أمر الدين أو المراد نهيه - عليه السلام - عن منازعتهم، أي: لا تلتفت إلى منازعتهم ولا تمكنهم من المنازعة، أو معناه: لكل قوم جعلنا وقدرنا طريقة هم فاعلوها ألبتَّة بحكم القدر فلا تتأثر منازعتهم فيك ولا يصرفنك عما أنت عليه من الحق نحو " ولكل وجهة هو موليها " [البقرة: 148]، قيل: نزلت فيمن جادل وقال: ما لكم تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما قتله الله؟! (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ): إلى عبادته، (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ): طريق موصل إلى المقصود، (وَإِن جَادلوكَ): مراء وعنادًا، (فَقُلِ الله أَعْلَمُ بمَا تَعْمَلون): هو أعلم بما تفيضون فيه، وكفي به شهيدًا بيني وبينكم، (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) هذا خطاب من الله لرسوله وللمجادلين، أو من تتمة ما يؤمر بأن يقول لهم أي قل: الله يفصل بينكم أيها الكافرون والمؤمنون فتعرفون حينئذ الحق من الباطل نحو: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) إلى قوله (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى: 15]، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ) ما في السماء والأرض، (فِي كِتَاب) هو اللوح المحفوظ، (إِن ذَلِكَ): إثباته في كتاب وحفظه، (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ): فلا يهمنك جدالهم لأنا قدرناه وهو بمرأى منا، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ): ما لا برهان سماوي ولا دليل عقلي في عبادته، بل اختلقوه وائتفكوه وتلقوا عن ضُلَّال أسلافهم، (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ): ليس

(73)

لهم ناصر ينصرهم من نكال الله لأنهم وضعوا عبادة جماد موضع عبادة الله، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ): على أمتك، أو على المشركين، (آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ): ظاهرات الدلالة على العقائد الحقة، (تَعْرِفُ فِي وَجُوهِ الَّذِينَ كفَرُوا الُمنكَرَ): الإنكار، أو العبوس والكراهة، (يَكَادُونَ يَسْطُونَ): يبطشون، (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ): بطشكم وقهركم عليهم، أو من القرآن الذي تكرهونه، (النَّارُ) كأنه قيل: ما هو؟ قال: النار أي: هو النار، (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) استئناف، أو النار مبتدأ وهذه الجملة خبره (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): النار. * * * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) * * * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) بين قصة مستغربة كالمثل السائر، (فاسْتَمِعُوا لَهُ): للمثل، (إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ من دُون اللهِ): تدعونهم أي: الأصنام، (لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا): لن يقدورا على خلقه مع صغرة، (وَلَوِ اجْتَمَعُوا): الأصنام، (لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذبابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)، أي: بل هم أعجز من أن يخلقوا، فإنهم لا يقدرون على استنقاذ ما اختطف هذا المخلوق الضعيف عنهم، (ضَعُفَ الطَّالِبُ): الصنم أو الذباب أو العابد، (وَالْمَطْلُوبُ): الذباب أو الصنم أو المعبود ووجه الإطلاق الطالب والمطلوب على كل ظاهر، (مَا قَدَرُوا اللهَ): ما عظموه وما عرفوه، (حَقَّ قَدْرِه): حق عظمته ومعرفته، حيثُ أشركوا به شيئًا لا يقاوم أضعف مخلوقاته، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ): قادر على كل شيء، (عَزِيزٌ): لا يغلبه غالب، (اللهُ يَصْطَفِي): يختار، (مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ): يبلغون

رسالاته إلى عباده لما قرر الوحدانية شرع يثبت أن في الملك والبشر رسلاً، لا الملَك بنات الله، ولا البشر غير مستحقين للرسالة، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصيِرٌ): مدرك للجزئيات، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ): عالم بواقع الأشياء ومترقبها، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، لأنه خالقها ومالكها فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يُسئل عما يفعل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي: صلوا، (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ): أنواع العبادات، (وَافْعَلُوا الخَيْرَ): ما هو أصلح كصلة الأرحام ومكارم الأخلاق، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: افعلوا كل ذلك راجين الفلاح من فضل الله لا متكلين على الأعمال واثقين عليها، (وَجَاهِدُوا في اللهِ): في سبيله، (حَقَّ جِهَادِه): أقيموا بمواجبه وشرائطه على وجه التمام بقدر الوسع، وإضافة الجهاد إلى الله للملابسة، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ): اختاركم يا أمة محمد لنصرة دينه، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج): ما كلفكم ما لا تطيقون فلا عذر لكم في تركه وقد ورد " بعثت بالحنيفية السمحة "، (مِّلةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)، أي: أعني بالدين ملة إبراهيم نحو: الحمد لله الحمد، أو مصدر لفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف مضاف، أي: وسع دينكم توسعة ملته وهو أبو نبينا ونبينا كالأب لأمته أو لأن أكثر العرب من ذريته فهو من باب التغليب، (هُوَ): أي: الله، (سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ) أي: بهذا الاسم الأكرم، (مِن قَبْلُ): في سائر الكتب، (وَفِي هَذَا):

القرآن، وفي الشواذ الله بدل هو، وفي النسائي: " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم، قال رجل: يا رسول الله: وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله "، وقيل الضمير لإبراهيم فإنه دعى بقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة: 128]، وفي هذا معناه وفي القرآن بيان تسميتة إياكم بهذا الاسم حيث حكى فيه مقالته، أو لما كان تسميتهم في القرآن بسبب تسميته من قبل كأنها منه، وفيه بعد (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ): يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته ولعصمته تقبل شهادته لنفسه قيل: يشهد عليكم بطاعة من أطاع وعصيان من عصى، (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ): بأن الرسل بلغتهم، (فَأَقِيمُوا الصلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ): أي: إذا خصكم بتلك الكرامات فتقربوا إليه بأنواع الطاعات، (وَاعْتَصِمُوا): وثقوا، (بِاللهِ) لا إلى سواه، (هُوَ مَوْلاكمْ فَنِعْمَ المَوْلَى) هو، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو فإنه لا مولى ولا نصير على الحقيقة سواه. * * *

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون مكية آياتها مائة وتسع عشرة وعند الكوفيين ثماني عشرة وهي ست ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ

تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) * * * (قَدْ أَفْلَحَ الُمؤْمِنُونَ)، ظفروا بالمراد وفازوا بأمانيهم، (الَّذِينَ هُمْ في صَلاِتهِمْ خَاشِعُونَ)، خائفون من الله ساكنون، وعلامته ألا يلتفت يمينًا وشمالاً ولا يرفع البصر عن موضع السجود، (وَالذِينَ هُمْ عَنِ اللغوِ): عن الشرك، أو عن كل ما لا يعنيهم من قولٍ وفعل، (مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فاعِلُونَ) أي: زكاة الأموال، فإن قيل السورة مكية، والزكاة قد فرضت بالمدينة قلت: قال بعض المحققين فرضت بالمدينة نصابها وقدرها، وأما أصلها فقد كان واجبًا بمكة، أو المراد زكاة النفس وتطهيرها من الرذائل، والزكاة اسم مشترك بين المعنى والعين فإن

أريد الثاني فهو على حذف مضاف، أي: لأداء الزكاة فاعلون، (وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهم حَافِظُونَ) أي: حافظون لفروجهم من أن يقعن على أحد، (إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) أو حافظون بمعنى لا يبذلون، (أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ): أجراهن مجرى غير العقلاء، (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الضمير لمن دل عليه الاستثناء، أي: غير الحافظين من أن يقعن على الأزواج والسراري، (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ): المستثنى، (فأوْلَئِكَ هُمُ العادُونَ): الكاملون في العدوان، (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، إذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا عاهدوا أوفوا، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ): يواظبون لا يتركونها بوجه وذكر المضارعة لما في الصلاة من التجدد الدائمي، (أوْلَئِكَ): الجامعون لتلك الصفات، (هُمُ الوَارِثُون): هم أحقاء بأن يسموا ورَّاثًا دون غيرهم، (الذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوْسَ): لما أنَّهم من أعمالهم نالوا الفردوس كأنهم ورثوها منها أو يرثون من الكفار منازلهم في الجنة، وقد ورد " ما منكم إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار

ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله: (أولئك هم الوارثون)، أو مبالغة في استحقاقهم، (همْ فِيهَا خَالِدونَ): الفردوس أعلى الجنة، ولهذا أنث ضميره، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) أي: جنسه، (مِنْ سُلَالَةٍ)، سمي المني سلالة، لأنه خلاصة سُلَّت من الظهر، (مِنْ طِينٍ) أي: من آدم فمن في الموضعين ابتدائية، (ثمَّ جَعَلْنَاه): السلالة، وتذكير الضمير باعتبار الماء والإنسان، (نُطْفَةً) بأن خلقنا منها أو معناه خلقنا آدم من خلاصة من طين، ثم جعلنا نسله من نطفة فمن طين على هذا للبيان، أو صفة لسلالة أو متعلق بها، لأنه بمعنى مسلولة، وضمير جعلناه للإنسان بحذف مضاف، (فِي قَرَارٍ): مستقر، (مكِين): حصين يعني الرحم، (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً): قطعة لحم، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا): بأن صلَّبناها، (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ): مباينًا للخلق الأول مباينة بعيدة فإنه كان جمادًا فصار حيوانًا سميعًا بصيرًا وثم هنا، وفي

الأولين لكثرة تفاوت الخلقين، (فَتَبَارَكَ اللهُ): تعالى شأنه، (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ): خلقًا وحذف المميز لدلالة الخالقين عليه، والخالقين هنا بمعنى المقدرين، (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ): صائرون إلى الموت ألبتَّة، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): للجزاء، (تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ): سماوات سماها طرائق، لأن كل شيء فوقه مثله فهو طريقة، وقيل: لأنها طرق الملائكة، (وَمَا كنَّا عَنِ الخَلْقِ غافِلينَ): بل نعلم جميع المخلوقات جلها ودقها فتدبر أمرها أو المراد من الخلق السماوات فإنه حفظها من الخلل والسقوط، وقيل: المراد منه الإنسان، أي ما غفلنا عنهم فإنا خلقنا السماوات لمنافعهم، (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ)، من جانبه أو من نفسه، (مَاءً بِقَدَر): بمقدار معين أو بمقدار ما يكفيهم، (فأَسْكَنَّاهُ) أي: فجعلنا الماء ثابتًا، (فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) أي: نحن قادرون على وجه من وجوه الذهاب إما التصعيد أو التنشيف أو الإفساد أو غيرها، (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ)، بالماء، (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا): في الجنات، (فَوَاكِهُ

(23)

كَثِيرَةٌ): تتفكهون بها، (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي: من زرع الجنات وثمارها تأكلون، أو منها تحصلون معايشكم كما تقول: أنا آكل من حرفتي، (وَشَجَرَةً)، عطف على جنات، (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)، الطور: الجبل وهو مضاف إلى البقعة أو المركب اسم لجبل موسى، والزيتون فيه أكثر وأحسن، وقيل: أول ما نبت نبت فيه، (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)، أي: متلبسًا به مستصحبًا له أو الباء للتعدية، ومن قرأ تنبت من باب الإفعال فهو بمعنى نبت أو تقديره تنبت زيتونها متلبسًا بالدهن، (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)، معطوف على الدهن، والصبغ الإدام الذي يغمس فيه الخبز أي: تنبت بشيء جامع بين كونه دهنًا وكونه إدامًا، وعن بعض الدهن: الزيت والإدام نفس الزيتون، (وَإِن لَكُمْ في الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً): تعتبرون بها، (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا): من الألبان أو من العلف فإن اللبن منه يحصل، (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ): من ظهورها وأصوافها، (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا): على الأنعام فإن منها ما يحمل عليه، (وَعَلَى الفُلْكَِ تُحْمَلُون): في البر والبحر. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا

بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)، لما عدد نعمه بين كفرانهم من قديم الزمان، (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا الله): وحده، (مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ عيْرُهُ)، استئناف لتعليل الأمر بالتوحيد، (أَفَلاَ تَتَّقُون): عن عبادة غيره، (فَقَالَ الْمَلَأُ): الأشراف، (الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ): لعوامهم، (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ): إن يطلب الفضل عليكم فيكون متبوعًا لكم، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ)، إرسال رسول، (لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً): للرسالة، (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا): الذي يدعونا إليه أو ببعث البشر رسولاً، (فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ): جنون، (فَتَرَبَّصُوا بِهِ): اصبروا عليه وانتظروا، (حَتَّى حِينٍ): لعله يفيق من جنونه أو

يموت، (قَالَ) نوح بعد اليأس من إيمانهم: (رَبِّ انصُرْنِي): عليهم، (بِمَا كَذبُون): بسبب تكذيبهم أو بدله، (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَع الفُلْكَ بِأَعينِنَا): متلبسًا بحظنا وكلاءتنا، (وَوَحْيِنَا): بأن نعلمك كيف تصنع، (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا): بعذابهم أو بالركوب، (وَفَارَ التَّنُّورُ): نبع الماء فيه، والتنور تنور الخبز، وقيل كان تنور آدم، وعن بعض التنور أعلى موضع في الأرض، وقيل هو مثل يضرب في شدة الأمر نحو حمي الوطيس، (فَاسْلُكْ فِيهَا): أدخل في الفلك، (مِن كُلٍّ): من كل نوع، (زَوْجينِ اثْنَيْنِ): ذكرًا وأنثى واثنين تأكيد، ومن قرأ بالإضافة فمعناه: احمل اثنين من كل زوجين أي: من كل صنف ذكر وصنف أنثى، (وَأَهْلَكَ): أهل بيتك، أو من آمن معك عطف على زوجين، أو اثنين، (إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنْهمْ): بهلاكه يريد ابنه وزوجته، (وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا): بدعاء إنجائهم، (إِنَّهُم مغرَقُونَ): لكثرة ظلمهم محكوم عليهم بالإغراق، (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ): علوت واستقررت، (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَبِّ أَنزِلْنِي): منها أو فيها، (مُنْزَلًا مُبَارَكًا): يبارك له فيه ويعطه الزيادة في خير الدارين ومن قرأ مُنزلاً بضم الميم وفتح الزاي فالمعنى: إنزالاً أو موضع إنزال،

(33)

(وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِن فِي ذَلِكَ): فيما فعل بنوح وقومه، (لَآيَاتٍ): يستدل بها، (وَإِنْ) أي: إنه، (كُنَّا لَمُبْتَلِينَ): مختبرين قوم نوح بالبلاء، أو عبادنا لننظر من يعتبر، أو مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، وقد مر في سورة هود تمام القصة، (ثُمَّ أَنْشَأْنَا): أحدثنا، (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)، هم عاد وثمود، (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ)، هو هود أو صالح جعل القرن موضع الإرسال ليعلم أنه أوحى إليه وهو فيهم، وما جاء إليهم من مكان آخر، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ)، أن مفسرة لأن في أرسلنا معنى القول، (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ): عذابه. * * * (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) * * * (وَقَالَ المَلأ): الأشراف، (مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذبُوا بلِقَاءِ الْآخِرَةِ): المعاد الجسماني، (وَأَتْرَفنَاهُمْ): أنعمناهم، (في الحَيَاة الدُّنْيَا مَا هَذا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْربون). تشربونه أو منه، (وَلَئنْ

أَطَعتم بَشَرًا مثلَكُمْ): في ترك دينكم، (إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ): إذًا واقع في جزاء الشرط جواب لما قال الملأ من قومهم، (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا): بلا لحم وعصب، (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ): من الأجداث ثنى أنَّكُمْ للتوكيد لما طال الفصل بينه وبين خبره بالظرف، (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ): البعد البعد، (لِمَا تُوعَدُون): نزل منزلة المصدر فهو مبتدأ وخبر أو بمعنى بعد، وفاعله ضمير مصدر مخرجون أو ضمير البعد، أي: بعد البعد ووقع ثم قيل: لماذا؟ فقيل: لما توعدون، (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) أي: لا حياة إلا هذه الحياة ووضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها حذرًا عن التكرير، (نَمُوتُ وَنَحْيَا): يموت بعض ويولد بعض، (وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ): بعد الموت، (إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا): فيما يعدنا من البعث، (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ): بمصدقين، (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي): عليهم، (بِمَا كَذبُون): بسبب تكذيبهم إياي، (قَالَ) الله: (عَمَّا قَلِيلٍ): عن زمان قليل، وما صلة لتوكيد القلة، (لَّيصْبِحُنَّ): ليصيرن، (نَادِمِينَ): على التكذيب حين عاينوا العذاب، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ): صيحة العذاب، أو صاح جبريل عليهم فدمرهم، (بِالْحَقِّ): بالعدل؛ لأنَّهُم مستحقون، (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) أي: كالغثاء وهو ما يحمله السيل من الأوراق والعيدان البالية المسودة، (فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من المصادر التي تجب حذف فعلها، أي: بعدوا وهلكوا، واللام لبيان من دعي عليه كهيت لك، (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا

آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من للاستغراق، (أَجَلَهَا): الوقت الذي حد لهلاكها، (وَمَا يَسْتَأخِرُونَ): ما يؤخرونه، (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا): متواترين واحدًا بعد واحد، والألف للتأنيث، فإن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو فإبها من الوتر كتيقور من الوقار، ومن قرأ بالتنوين فمصدر وقع حالاً بمعنى المواترة، (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ) أي: جمهورهم وأكثرهم، (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا): في الإهلاك، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)، جمع أحدوثة التي هي مثل الأضحوكة والأعجوبة، وهي ما يتحدث به تلهيًا وتعجبًا، (فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُون ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا): الدالة على صدقهما، (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة واضحة ملزمة للخصم، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا): عن المتابعة، (وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ): متكبرين، (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)، البشر يكون واحدًا أو جمعًا، ومثل وغير يوصف بهما المفرد وغيره، (وَقَوْمُهُمَا): بنو إسرائيل، (لَنَا عَابِدُونَ): خادمون كالعبيد، (فَكَذبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الُمهْلَكِينَ): بالغرق، (وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ): التوراة، (لَعَلَّهُمْ): بني إسرائيل، (يَهْتَدُونَ) وإنزال التوراة بعد إهلاك القبط، (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً): دالة

(51)

على كمال قدرتنا، (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ): مكان مرتفع من الأرض، (ذاتِ قَرَارٍ): مستقر من الأرض منبسطة، (وَمَعِينٍ): الماء الجاري هي بيت المقدس وهى أقرب أرض من السماء أو دمشق أو الرملة أو فلسطين أو مصر. * * * (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ

جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) * * * (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ): الحلالات، (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) الصلاح: الاستقامة على ما يوجبه الشرع، والمقصود من الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعلامه بأن كل رسول في زمانه وصى به ونودي لذلك فهو أمر من لدنه قديم لا يجوز التجاوز عنه بوجه، (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم به، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ): ملتكم، (أُمَّةً وَاحِدَةً): ملة واحدة هي الدعوة إلى عبادة الله وحده، نصب على الحال، (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، أي: خافوني، لأن ملتكم واحدة، وأنا ربكم فقوله: " وإن هذه أمتكم " علة لقوله: " فاتقون "، أو تقديره:

واعلموا أن هذه أمتكم إلخ .. ، (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ): أمر دينهم وتقطع بمعنى قطع، أو نصب أمرهم بنزع الخافض بالتمييز لأنه معرفة، (بَيْنَهُمْ زُبُرًا): قطعًا حال قيل: ثاني مفعولي تقطع فإنه متضمن معنى جعل أي: جعلوا أمر دينهم قطعًا أديانًا مختلفة، (كُل حِزْب): من المتحزبين، (بِمَا لَدَيْهِمْ): من أمر دينهم، (فرِحُونَ): يحسبون أنهم على شيء، (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ): جهالتهم التي غمروا فيها، الغمرة الماء لذي يغمر القامة، شبه جهالتهم لأنَّهُم مغمورون فيها، (حَتَّى حِينٍ): حين الهلاك، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ): نعطيهم، (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ)، بيان لما، (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: نسارع به لهم فيما فيه خيرهم فضمير اسم مقدر، (بَل لَا يَشْعُرُونَ): كالبهائم لا شعور ولا فطنة فإنه لو كان لهم فطنة لتأملوا فيعلموا أن المال والبنين استدراج لا معالجة خير ومسارعة لطف، (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي: حذرون عن معاصيه من أجل خشية ربّهم يعني: خشيتهم علة لاجتناب المعصية، أو معناه حذرون من خوف عذابه، (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ): الكونية والشرعية، (يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالذِينَ يُؤتُونَ): يعطون، (مَا آتَوْا): ما أعطوه من

الصدقات، (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ): خائفة من عدم القبول، (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ): مرجعهم إلى الله أو قلوبهم وجلة من أن مرجعهم إليه، وهو يعلم ما لا يعلمون، (أوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ) أي: أولئك يسارعون في نيل خيرات الدارين بمزاولة الأعمال الصالحة فيعطيهم خير الدنيا والآخرة، قيل: معناه أولئك يبادرون الطاعات، ويرغبون فيها أشد رغبة، (وَهُمْ لَهَا)، أي: إلى الخيرات (سَابِقُونَ)، أو لأجلها [فاعلون] السبق، (وَلاَ نكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا): قدر طاقتها لا يريد الله بكم العسر، (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ): اللوح المحفوظ أو صحيفة الأعمال، (يَنطِقُ بِالْحَقِّ): بالصدق وليس فيه إلا ما فعلوا، (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون): بنقص ثواب وعقاب على ما لم يفعلوا، (بَلْ قُلُوبُهُمْ): قلوب الكفرة، (فِي غَمْرَةٍ): غفلة، (مِّنْ هَذَا): الكتاب الذي هو عندنا، أو من هذا الذي عليه المؤمنون، أو من القرآن، (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ): خبيثة، (مِنْ دُونِ ذَلِكَ): الذي وصفنا في شأنهم، أو متجاوز لما وصف به المؤمنون، (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم): متنعميهم، (بِالْعَذَابِ): القحط الحادث فيهم حتى أكلوا الجياف، والقتل يوم بدر، (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ): فاجئوا الصراخ بالتضرع هو جواب الشرط، (لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) أي: يقال لهم ذلك، (إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ): لأنكم لا تمنعون منا فلا ينفعكم الجؤار، (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي): القرآن،

تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ): تعرضون عنها، والنكوص الرجوع قهقرى، (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ): بالبيت والحرم تفتخرون بأنكم ولاته، والقائمون به وشهرتهم بأن تعظمهم بهذا البيت أغنت عن سبق ذكره، أو معناه مكذبين بالآيات استكبارًا ففيه تضمين معنى التكذيب، وتذكير الضمير باعتبار أنها قرآن، (سَامِرًا) السامر الجماعة الذين يتحدثون ليلاً، نصب على الحال قيل: به متعلق به، أي: تستمرون القرآن فإنهم يجتمعون الليالي حول البيت يطعنون في القرآن، (تَهْجُرُونَ) من الهجر بمعنى: الهذيان أي: تهذون، أو من الهجرة أي: تعرضون عنه، (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)، أي: القرآن، ليعلموا حقيته، (أَمْ

جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ): من الرسول والكتاب، يعني إرسال هذا الرسول إليهم ليس ببدع، فإنه مثل ما أرسلنا إلى آبائهم الأقدمين، وأم منقطعة، أي: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم فلذلك أنكروا، (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ): بالحسب والنسب والصدق والأمانة، (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ): والمجنون لا يصلح للنبوة، (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ): من عند الله لا بالمهمل من الجنون، (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، فعدم الاتباع لأنه لا يوافق مشتهاهم، قيد الحكم بالأكثر لأن فيهم من لم يؤمن لتوبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم تدبره، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ) أي: الله أو القرآن، (أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ): فإن أهواءهم أن تكون له شريك وولد، منهم من يريد عظمة نفسه وحقارة غيره، ومنهم من يريد عكسه فيمضي إلى نساء العالم، فإنه يلزم النقيضين وهو محال، (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ): بكتاب هو وعظهم، أو هو صيتهم وشرفهم، (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ): على التبليِغ، (خَرْجًا): أجرًا أو جعلاً، (فَخَرَاجُ رَبِّكَ): عطاؤه وأجره، (خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أم هذه قسيم أم يقولون به جنة فهذا إلزام لهم به للسبب، والتقسيم في أنه كإبراهيم وغيره رسول معروف الحال عندكم تام العقل ليس له طمع في خسائس أموالكم، فما هو إلا أنه يريد هدايتكم، (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوَهُمْ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيمٍ) أي: الإسلام، (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ): ً الذي تدعوهم إليه، (لَنَاكبُونَ): عادلون، (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ): من القحط والشدائد، (لَلَجُّوا): أثبتوا، (فِي طُغْيَانِهِمْ): إفراطهم في المعاصي، (يَعْمَهُونَ): متحيرين، (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ): بالمصائب والشدائد من الموت ونقص الثمار

والأموال، (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ): ما انتقلوا من كون إلى كون واستمروا على ما هم عليه، (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي: وليس من عادتهم أن يتضرعوا وهم كذلك، (حَتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ): هو عذب الآخرة، (إِذا هُمْ فيهِ مُبْلِسُون)، آيسون من كل خير واعلم أن كثيرًا من المفسرين فسروا العذاب بيوم بدر، والعذاب الشديد بالجزع، ونقلوا أن أبا سفيان قال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، وأنت تزعم أنك رحمة للعالمين، فادع الله أن يكشف عنا القحط فدعا، وكشف فنزلت الآية، وليت شعري كيف يصح هذا واتفقوا على أن السورة كلها مكية من غير استثناء فأين القتال حينئذ وقضية [بدر] والله أعلم. * * *

(78)

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لله قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) * * * (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ): لتحسوا آياته وتدبروا فيها، (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، ما مزيدة للتأكيد، أي: تشكرون شكرا قليلاً كأنه قال: قليلاً ما تستعملون السمع والبصر والفؤاد فيما خلقناها له، (وَهُوَ الذِي ذرَأَكُمْ): بثكم بالتناسل، (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ): تجمعون بعد التفرق في القيامة، (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ): هو متولي الاختلاف لا يقدر على تعاقبهما غيره، أو لأمره الاختلاف، وانتقاص أحدهما وازدياد الآخر، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أليس لكم عقول تدلكم على شمول قدرتنا الممكنات التي منها

البعث، (بَلْ قَالُوا): أهل مكة، (مِثْلَ مَا قَالَ الأَولونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) استفهام الثاني تأكيد للأول واستبعاد بعد استبعاد، (لَقَدْ وَعِدْنَا نَحْنُ وَآباؤُنَا هَذَا) أي: البعث، (مِن قَبْلُ): بلسان من يدعي أنه رسولهم، (إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَولِينَ): أكاذيبهم التي كتبوها، (قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): من أهل العلم، (سَيَقُولُونَ لله) فإنهم معترفون بأنه خالق الكل، (قُلْ): بعد ما قالوه، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ): فتعلموا أن فاطر الأرض ومن فيها قادر على الإعادة حقيق على أنْ لا يشرك به شيء، (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ):

(93)

عقابه فتنتهوا عن نسبة العجز إليه وتسويته بجماد، (قُلْ مَن بِيَدِه مَلَكُوتُ): ملك وخزائن، (كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ): يغيث من يشاء ويحفظ، (وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ): لا يغيث أحد منه أحدًا، (إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): ذلك (سيَقولُونَ لله قُلْ فَأَّنَّى تُسْحَرُونَ): تخدعون فتصرفون عن الرشد مع تظاهر الأدلة، (بَلْ أَتَيْناهُم بِالْحَقِّ)، من بيان التوحيد والبعت، (وَإِنَّهُمْ لَكَاذبُون): حيث أنكروا ذلك، (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: لو كان معه آلهة لتفرد كل إله بمخلوقاته متميزًا ملكه عن ملك الباقين ولغلب بعضهم بعضًا كالعادة بين الملوك فلم يكن بيده ملكوت كل شيء واللازم باطل، (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ): من الولد والشريك، (عَالِمِ الغَيْبِ)، بالرفع خبر محذوف وبالجر صفة، (وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) من له علم كل شيء لا يحتاج إلى شريك مع أنهم معترفون بأنه المتفرد بإحاطة العلم. * * * (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) * * *

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي: إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب فلا تجعلني معهم ولا فيهم ومن دعائه عليه السلام " وإذا أردت بقوم فتنه فتوفني إليك غير مفتون " وما والنون للتأكيد، وتكرار رب حث على فضل تضرع وتواضع وإظهار عبودية وافتقار وعجز، (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ): من العذاب، (لَقَادِرُونَ): لَكِنَّا لحلمنا وحكمتنا لا نستعجل في عذابهم، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي: ادفع من أذاك وطعنهم في الله بالشرك بالخصلة التي هي أحسن الخصال الحلم والصفح والإلزام بطريق بيان الدليل نحو: (وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125] قيل: هي منسوخة بآية السيف، (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ): فَكِلْ إلينا أمرهم، (وَقُل ربِّ أَعُوذُ بِكَ

مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ): وساوسهم ونزغاتهم، (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ): فيحوموا حولي، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) متعلق بـ " يصفون " وما بينهما اعتراض لا يزالون على سوء الذكر حتى الآية، (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، خاطب الله بلفظ الجمع أو الملائكة، وقيل: لتكرير الفعل أي: ارجعني ارجعني، (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) أي: ردوني إلى الدنيا لعلي أعمل صالحًا في الإيمان الذي تركته، أو في المال أو في الدنيا، (كَلَّا)، ردع عن طلب الرجعة واستبعاد، (إِنَّهَا) أي: رب ارجعون الخ، (كَلِمَةٌ): طائفة من الكلام المنتظم بعضها ببعض، (هُوَ قَائِلُهَا) لا محالة عند استيلاء الحسرة والاضطرار، وعن بعض المفسرين أنها كلمة إلخ علة لردعهم، أي: سؤاله الرجوع للعمل الصالح مجرد عدة وقول لا وفاء ولا حقيقة تحتها نحو (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام: 28]، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ): أمامهم، (بَرْزَخٌ) حاجز بينهم وبين الدنيا، (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) هو إقناط كلي للعلم بأن لا رجعة إلى الدنيا يوم البعث فلا رجعة أصلاً، (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ): النفخة الأخيرة، (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ): لا تنفع الأنساب، (يَوْمَئِذٍ) ويفرح المؤمن أن قد وجب له حق على والده وولده فيأخذ منهما، (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) لا يسأل حميم ولا قريب حميمه وقريبه وهذا في أول

يوم القيامة ولما تزوج عمر ابنة علي من فاطمة قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " فأصدقها أربعين ألفًا إعظامًا لها، وروي الحافظ ابن عساكر عن عبد الله ابن عمرو مرفوعًا: " سألت ربي أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلى أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك "، (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ): بأن يكون له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ): بأن ليس له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه، (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ): حيث بطلوا استعدادها، (فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)، خبر ثان وبدل من الصلة، (تَلْفَحُ): تحرق، (وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ): عابسون هو تقلص الشفتين عن الأسنان، وفي الترمذي قال عليه السلام: " تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، ولتسترخى شفته السفلي حتى تضرب سرته "، (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) أي: يقال لهم ذلك، (فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا) الشقاوة: سوء العاقبة، (وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ): عن الهدى،

(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا): لما تكره، (فَإِنَّا ظَالِمُونَ): لأنفسنا، (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا) أي: ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب، (وَلاَ تُكَلِّمُونِ): في رفع العذاب أو مطلقًا، وعن بعض السلف: إنه لم يكن لهم بعد ذلك إلا شهيق وزفير وعواء كالكلب، (إِنَّهُ): إن الشأن، (كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا)، بكسر السين وضمها لغتان بمعنى الهزء زيدت ياء النسبة للمبالغة، وعند الكوفيين المضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية، (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي): لتشاغلكم باستهزائهم، (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا): بما صبروا: بصبرهم على أذاكم، (أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) استئناف، ومن قرأ بفتح إن فثاني مفعولي جزيت أي: جزيتهم الفوز مخصوصين به، (قَالَ): الله، ومن قرأ " قل " فهو خطاب لأهل النار في أن مجموعهم في حكم شخص أو الخطاب مع كل واحد أو ومع بعض رؤسائهم أو مع الملك الموكل بهم، أي: قل لهم، (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ): أحياء، (عَدَدَ سِنِينَ)، تمييز لكم، (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقصروا مدة لبثهم في الدنيا ونسوا لعظم ما هم فيه، (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ): القادرين على العد فنحن في شيء لا نقدر معه إعمال الفكر، أو العادين الملائكة الحفظة، (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: ما مكثتم فيها إلا زمانًا قليلاً على

فرض أنكم تعلمون مدة لبثها وقد ورد " أن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض، قالوا: يومًا أو بعض يوم قال لنعم ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يسأل أهل النار فيجيبون مثلهم فيقول: بئس ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا خالدين مخلدين "، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) أي: عابثين بلا فائدة حال أو مفعول له، أي: تلهيًا بكم وما زيدت للتأكيد، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، عطف على إنما، (فَتَعَالَى اللهُ) عن أن يخلق عبثًا، (المَلِكُ الحَقُّ) الذي يحق له الملك أو الثابت الذي لا يزال ملكه، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)، لأن الرحمة تنزل منه أو لأنه منسوب إلى أكرم الأكرمين، (وَمَن يَدْعُ): يعبد، (مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)، لا برهان صفة أخرى لـ إِلَهًا لازمة له جيء بها للتأكيد، أو جملة معترضة بين الشرط والجزاء،

(فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فيجازيه بما يستحقه، (إِنَّهُ): إن الشأن، (لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُلْ): يا محمد، (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ). والحمد لله حقَّ حمده * * *

سورة النور

سورة النور مدنية وهى اثنتان أو أربع وستون آية، وتسع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) * * * (سُورَةٌ)، أي: هذه السورة، (أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)، أي: فرضنا أحكامها، ومن قرأ بالتشديد فمعناه فصلناها، أو التشديد للمبالغة، (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ

بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ): تتعظون، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)، رفعهما على الابتداء، والخبر محذوف، أي: جلدهما فيما فرض عليكم أو خبره قوله: (فَاجْلِدُوا كُلَّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام فيها بمعنى الذي، والجلد ضرب الجلد، وهذا مطلق محمول على بعض هو حر بالغ عاقل ما جامع في نكاح شرعى، فإن حكم من جامع فيه الرجم للأحاديث الصحاح، والآية الرجم المنسوخ لفظها دون معناها، وعند بعض الإسلام شرط آخر، (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ): رحمة، (فِي دِينِ اللهِ)، فتعطلوا أحكامه، أو تسامحوا فيها، (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، فإن الإيمان يقتضي الصلابة في دينه، والاجتهاد في إقامة أحكامه، (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، أي: يجلد بحضرة

طائفة من المؤمنين أقلها أربعة أو ثلاثة أو اثنان أو واحد للشهرة، والتخجيل، فإن الفاسق يبن المؤمنين الصالحين أخجل، وعن بعض إنما ذلك لأن يدعوا الله له بالتوبة. (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)، هو خبر، أي: الغالب أنه لا يرغب الجنس إلا إلى مثله، (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، لما فيه من التشبه بالفساق، والتسبب لسوء المقالة فيه، والغيبة، والشبهة في الولد، وغير ذلك من المفاسد، فللمبالغة عبر عن التنزيه بالتحريم، وقد نقل أنها نزلت في فقراء المهاجرين حين أرادوا نكاح البغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهن من أكسابهن كعادة الجاهلية، وعن بعض السلف نكاح العفيف البغية، وتزويج الصالحة بالفاجر فاسد حتى يتوبان، وبعض الأحاديث يؤيد قوله فالنفي بمعنى النهي، وعن بعض هذا النكاح صحيح لكنه حرام وعن بعض الآية منسوخة، (وَالَّذِينَ يرْمُون): يقذفون بالزنا، (الْمُحْصَنَاتِ): المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنا، (ثمَّ لَم يَأتوا): على ما رموهن به، (بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، يشهدون عليهن، (فَاجْلِدُوهُمْ)، أي: كل واحد من الرامين، (ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، وتخصيص النساء لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع وإلا فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى، (وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا): في أي واقعة كانت، (وأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): عند الله، (إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)، أي: القذف،

(وَأَصْلَحُوا): أعمالهم، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، علة للاستثناء ومحل الاستثناء الجر على البدل من هم في لهم، فحاصله: اجلدوهم إذا لم يأتوا بأربعة شهداء، ولا تقبلوا أبدًا شهادتهم إلا التائبين فاقبلوهم بعد التوبة وعند من قال قوله: " وأولئك هم الفاسقون " مستأنف غير داخل في حيز جزاء الشرط، والاستثناء من (الفاسقون) يكون محله النصب، ويحكم برد شهادته بعد التوبة أيضًا، وهو مذهب بعض السلف، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ)، إلا بمعنى غير صفة شهداء، (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ): التي تمنع الحد، (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ): أربع مرات، (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ): فيما قذفها به، وأصله " على أنه " فحذف على وكسر إن، وعلق عنه العامل باللام تأكيدًا وقرئ بنصب أربع

(11)

فتقديره: فالواجب أو فعليهم شهادة أحدهم وأربع منصوب على المصدر من شهادة، (وَالْخَامِسَةُ)، أي: الشهادة الخامسة، (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ): في الرمي، وحكم لعان الرجل سقوط حد القذف وبانت منه بنفس اللعان وحرمت عليه أبدًا على الأصح ويتوجه عليها حد الزنا إلا أن تلاعن، وهو قوله، (وَيَدْرَأُ): يدفع، (عَنْهَا الْعَذَابَ): الحد، (أَنْ تَشْهَدَ)، فاعل يدرأ، (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ): الزوج، (لَمِنَ الْكَاذِبِينَ): فيما رماني به، (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ): الزوج (مِنَ الصَّادِقِينَ): في ذلك، ومن قرأ الخامسة بالنصب فهو عطف على أربع كأن رجل وجد على فراشه رجلاً فجاء إلى النبي صلي الله وسلم وأخبره فأراد عليه السلام أن يأمر بحده بحكم آية الرمي إذ نزلت آية اللعان فتلاعنا، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)، لعاجلكم بالعقوبة، وفضحكم، فجواب لولا متروك ليدل على أنه أمر عظيم لا يكتنه. * * * (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ

بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) * * * (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ): هو أبلغ ما يكون من الكذب، أي: إفك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وصفوان، (عُصْبَةٌ منكُمْ)، خبر إن، والعصبة جماعة من العشرة إلى الأربعين، ورأسهم ابن أبى بن سلول رئيس النفاق لعنه الله، (لَا تَحْسَبُوهُ)، أي: الإفك، (شَرًّا لَكُمْ)؛ الجملة مستأنفة، (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، لأنه ظهر منه البراءة لها ولجميع أزواجه، ورفعة القدر مع الثواب الجزيل، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ): جزاء ما اكتسب، (مِنَ الْإِثْمِ): بقدر ما خاض فيه مختصًّا به، (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ): معظمه، (مِنْهُمْ)، أي: من الخائضين، وهو

ابن أبي بدأ به وأشاعه، (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ): الفضيحة والشهرة بالنفاق، والطرد في الدارين، (لَوْلا): هلا، (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ): حاصله هلا ظننتم خيرًا أيها المؤمنون، والمؤمنات بالذين هم كأنفسكم حين سمعتم الإفك ممن اخترعه، وقلتم بناء على ظنكم خيرًا، هذا إفك مبين، كما يقول المستيقن المطلع على الحال، فالالتفات إلى الغيبة للمبالغة في التوبيخ، والإشعار بأن الإيمان يقتضى ظن الخير بمن هو كنفسه، فإن المؤمنين كنفس واحدة، (لَولا): هلا، (جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، أي: التفصلة بين الرمي الصادق، والكاذب شهادة الشهود الأربعة وانتفاؤها، والذين رموا حبيبة حبيب الله الطاهرة، ولم تكن لهم بينة، فكانوا كاذبين عند الله في حكمه وشرعه، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ

عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، جواب لولا الامتناعية قوله: (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ): خضتم، (فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ): يستحقر في جنبه الجلد واللوم، (إِذْ)، ظرف لمسكم، أو أفضتم، (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ): يأخذه بعض من بعض، يعني ما اكتفيتم بتهاونكم في تكذيب الرامين حتى أفشيتموه، (وَتَقُولون بِأَفْوَاهِكم): من غير روية وفكر، (مَّا لَيْسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ): وما هو إلا قول يدور في فيكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا): سهلاً لا تَبعَةَ له، (وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ): في الوزر، (وَلَوْلا): هلا، (إِذْ سَمِعتمُوه): من المخترعين، (قُلْتُم مَّا يَكون لنا): ما ينبغي، وما يصح لنا، (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) قدم الظرف، وجعله فاصلاً بين لولا وفعله، لأن ذكره أهم لبيان أن الواجب عليهم [التناهي] عن التكلم به أول ما سمعوه، (سبْحَانَكَ)، أنزهك عن أن يكون لحرمة نبيك عيب يفضي إلى نقصه أو ذكره للتعجب، فإنه لفظ يذكر عند رؤية عجيب، (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكمُ الله أَن تَعودوا)، أي: كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا، (لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتم مُّؤْمِنِينَ): فإن الإيمان يمنع عنه، (ويبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ): لكي تتعظوا، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ): تنتشر، (الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ): السرائر، (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ): فيعاقب على ما في قلوبكم من مثل محبة إفشاء الفاحشة، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، تكريم للمنة، وتعظيم للجريمة بحذف جواب لولا ولا يخفى ما فيه من المبالغات. * * *

(23)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): وساوسه وأوامره، (وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَات الشَّيْطَانِ)، فهو ضال، غاو، (فَإِنَّهُ)، الشيطان، (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)، ما أفرط قبحه، (وَالْمُنكَرِ): ما أنكره الشرع، (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى): ما طهر من دنس النفس بواسطة وساوسه، (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) فيوفقه على تهذيب الأخلاق، والتوبة الماحية دنسه، كما وفق بعض من أغواه بالإفك على التوبة وطهرهم، (وَاللهُ سَمِيعٌ

عَلِيمٌ): بالأقوال، والنيات، (وَلَا يَأْتَلِ): لا يحلف، (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ): في الدين، (وَالسَّعَةِ): في المال، (أَنْ يُؤْتُوا)، أي: في شأن إعطاء، (أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ)، يعني: لا يحلف على أن لا يعطيهم، ولا يتصدق عليهم، وقيل معناه لا يقصر في إعطائهم على أن يَأْتَلِ من الإلو نزلت حين حلف الصديق أن لا ينفق أبدًا على ابن خالته المسكين المهاجر مسطح، لأنه قد زلق زلقة في الافك، (وَلْيَعْفُوا): ما فرط منهم، (وَلْيَصْفَحُوا): بالإغماض عنه، (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ): بعفوكم عن الناس وصفحكم، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لما سمع الصديق الآية قال: بلى أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح نفقته، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ): العفائف، (الْغَافِلَاتِ): عما قذفن به، (الُمؤْمِنَاتِ لُعِنوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، عن بعض السلف: إن من رمى الأزواج أمهات المؤمنين، فهو ملعون، وليس له توبة، فالآية خاصة بهن والأصح أن الآية عامة مشروطة بعدم التوبة، وقد عدَّ عليه السلام قذف المحصنات من السبع الموبقات، وورد قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ [يَهْدِمُ] عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ، (يَوْمَ تَشْهَدُ)، ظرف لمتعلق لهم، (عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بأن أنطقهن الله من غير اختيارهم، عن ابن عباس: هذا خاص بالكفرة حين جحدوا كفرهم، وحلفوا على إيمانهم، (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ): جزاءهم، (الْحَقَّ): الواجب

(27)

المستحق، (وَيَعْلَمُونَ): علمًا عيانيًا، (أَن الله هُوَ الحَقُّ الُمبِينُ): ذو الحق البين أى: العادل الظاهر العدل، (الْخَبِيثَاتُ): من القول أو من النساء، (لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبيثُونَ): من الرجال، (لِلْخَبِيثَاتِ)، من القول أو من النساء، (وَالطَّيِّبَاتُ): من القول أو من النساء، (لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ)، من الرجال، (لِلطَّيِّبَاتِ)، من القول أو من النساء، فما نسبوه إلى الصديقة هم أولي به، وهي أولي بالبراءة والثناء الجميل، ولا يكون أهل بيت الرسالة إلا طيبات مبرآت من الخبائث، (أوْلَئِك): عائشة، وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع، أو أهل بيت الرسالة، (مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ)، لأنها حليلة خليل الله، طيبة لطيب، عليه وعلى آله وأزواجه شرائف الصلوات والتحيات، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ): لذنوبهم، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): في الجنة. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ

بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) * * * (يَاَ أيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ): التي تسكنونها، (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا)، تستأذنوا، (وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا): بأن تقولوا: السلام عليكم،

أأدخل؟ ويقول ذلك ثلاثًا، فإن أذن له دخل، وإلا رجع، وإن كان بيت أمه وبنته، (ذَلِكُمْ): الاستئذان والتسليم، (خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي: أنزل عليكم أو قيل لكم هذا إرادة أن تتعظوا، وتتأدبوا، (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا): في البيوت، (أَحَدًا): يأذن لكم، (فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)، يعني: حتى يأتي من يأذن لكم أو لا تدخولها إلا بإذن مالكها، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا): ولا تلحوا، (هُوَ): الرجوع، (أَزْكَى): أطهر وأصلح، (لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ): فيجازيكم به. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)، حرج، (أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غيْرَ مَسْكُونَةٍ)، هذا تخصيص بعد تعميم، (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ)، كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة، وعن بعض: المراد منها الخانات والرُّبط، وقوله: " فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ " أي: استمتاع لكم، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكتُمُون)، فلا تدخلوا الفساد، ولا تطلعوا على عورات، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، أي: عما يحرم، (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ): عن الحرام دخل من التبعيض في النظر دون الفرج دلالة على

أن أمر النظر أوسع وعن بعض: حفظ الفروج ههنا سترها، (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ): فكونوا على حذر منه في حركاتكم، وسكناتكم، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ): عما يحرم عليهن النظر إليه، (وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ): عما يحرم، (وَلاَ يُبْدِينَ)، لا يظهرن، (زِينَتَهُنَّ): كالخلخال والقرط، وغيرهما، (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): كالخاتم والكحل، (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ)، جمع خمار وهو المقنعة، (عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، ليسترن بذلك القرط، والأعناق والصدر، (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهنَّ)، أي: الزينة الخفية، (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ): المؤمنات أما الكافرات فعند أكثر

السلف أنهن كالأباعد، قال بعض السلف، الأولى أن يُسَتَّرن من العم، والخال حذرًا عن أن يصفاهن لأبنائهما، ولهذا لم يذكرهما، (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)، أكثر السلف على أن العبيد كالآباء، والأبناء، وعن بعض: أن المراد ما ملكت من إماء المشركات فإنهن محرمات، (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ)، الإربة الحاجة، والمراد منهم من لا حاجة لهم إلى النساء، ويتبعون ليصيبوا من أفضل الطعام، أو الأحمق الغبي، أو من لا يستطيع غشيان النساء، ومن قرأ غيرَ بالنصب فعنده أنه حال أو بتقدير أعني، (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)، وصف المفرد بالجمع، لأن المراد به الجنس، أي: أطفال لا يعرفون ما العورة، فمعنى الظهور الاطلاع أو المراد أطفال لم يبلغوا من الظهور بمعنى الغلبة، (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ): الأرض، (لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ): من صوت الخلخال، وهذا من عادات الجاهلية، (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا): من التقصير في أوامره، ونواهيه، أو المراد توبوا عن مثل ما كنتم عليه في الجاهلية من أمر النظر، وغيره، (أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): راجين الفلاح،

(وَأَنْكِحوا): أيها الأولياء والسادة، (الأَيَامَى): العزب ذكرًا كان أو أنثي بكرًا أو ثيبًا، (مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، خص الصالحين، لأن إحصان دينهم والاعتناء بحالهم أهم وأكثر، (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)، يعني: لا يمنعكم فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة، قال تعالي: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) قال الصديق رضى الله عنه: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغني قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ)، (وَاللهُ وَاسِعٌ): لا ينفد جوده، (عَلِيمٌ): بصلاح أحوال عباده في البسط والقبض، (وَلْيَسْتَعْففِ): ليجتهد في العفة عن الحرام، (الَّذِينَ لَا يَجِدونَ نكَاحًا)، أي: أسبابه، َ (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ): فيجدوا ما يتزوجون به، (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، َ أي: يطلبون من مواليهم أن يكاتبوهم، ويبيعوهم منهم، (فَكَاتِبُوهُمْ)، خبر للموصول أو مفسر لفعل ناصب للموصول، والفاء لتضمن معنى الشرط، والأمر للندب عند الأكثرين، (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)، في الحديث إن

علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلابًا على الناس، أو أمانة وكسبًا، أو صدقًا وصلاحًا في الدين، (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ)، أي: اطرحوا لهم من الكتابة بعضها والأكثرون على أن طرح شيء منها واجب، والمراد أمر المسلمين بإعطائهم سهمهم من الزكاة أو بإعانتهم في أداء الكتابة، (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ)، إماءكم، (عَلَى الْبِغَاءِ): علي الزنا، (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)، هذا الشرط للاتعاظ يعني: ينبغي أن يحترز من تلك الرذيلة، وإن لم يكن زاجر شرعي حتى لا تكون أمته خيرًا منه، وحاصله لو كانت للأمة هذه الخصلة فما أقبح على مولاها أن يكرهها على الرذيلة، والإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التعفف، (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، يعني: ما يؤخذ من أجورهن نزلت حين شكت فتيات ابن أبي بن سلول عند النبي عليه السلام عن إكراههن علي الزنا، (وَمَن يكْرِههُّنَّ): على الزنا، (فَإِنَّ الله مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ): لهن، (رحِيمٌ)، والوزر على المكرِه وفي مصحف ابن مسعود لفظ لهن مكتوب، (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ)، بينت وأوضحت آي القرآن، (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)، أمثال من أمثال من قبلكم، وما حل بهم من مخالفتهم أوامر الله قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ)، (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)، فإنهم المنتفعون بمواعظ القرآن. * * *

(35)

(اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) * * * (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): منورهما أو مدبرهما، يقال: فلان نور قومه يهتدون به في أمورهم، أو موجدهما عن ابن مسعود " إن ربكم ليس عنده ليل،

ولا نهار، نور العرش من نور وجهه "، قال حجة الإسلام: النور في الحقيقة اسم لكل ما هو ظاهر بذاته مظهر لغيره، والله سبحانه هو المتصف بهذه الصفة، فهو النور الحقيقي، (مَثَلُ نُورِهِ): صفة نور الله، وهداه في قلب المؤمن، وكان

ابن مسعود يقرأ: " مثل نور الله في قلب المؤمن "، وعن بعض: الضمير للمؤمن الدال عليه سياق الكلام، وكان أبيٌّ يقرأ " مثل نور من آمن به " أو المراد من النور القرآن، أو محمد - عليه السلام - أو طاعة الله، قيل: إضافة النور إلى ضمير الله دليل على أن إطلاق النور على الله ليس على ظاهره، (كَمِشْكَاةٍ): أي صفته صفة كوة غير نافذة، أو هي موضع الفتيلة من القنديل، وعليه أكثر السلف، (فِيهَا مِصْبَاحٌ)، سراج أو فتيلة مشتعلة، فالكوة صدر المؤمن، والمصباح نور من الله في قلبه أو القرآن، (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ): قنديل من الزجاج، (الزُّجَاجَةُ): لما فيها من النور، (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ): مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه منسوب إلى الدر، أو فعيل من الدر فإنه يدفع الظلام بضوئه، أو كوكب يُدْرَأ، أي: يدفع ويرمي به، والكواكب في ذلك الحين أشد استنارة من سائر الأحوال، وقلبت همزته ياء، (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ)، أي: ابتداء ثقوبه من شجرة الزيت المتكاثر نفعه، يعني رويت ذبالته بزيتها، وفي تنكير الشجرة ووصفها ثم الإبدال عنها تفخيم لشأن الزيت، (لَا شَرْقِيَّةٍ): وحدها فلا تصيبها الشمس في المساء، (وَلَا غَرْبِيَّةٍ): وحدها فلا تصيبها في الغداة، بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها كصحراء أو رأس جبل فزيتها أضوء، وهذا نحو فلان ليس بأسود ولا أبيض، أو لا في مضحي تشرق عليها الشمس فتحرقها، ولا في مقناة تغيب عنها دائمًا فيتركها نيًا، أو لا نابتة في شرق الأرض، ولا في غربها، بل في وسطها، وهو الشام فإن زيتونه أجود أو لا في شرقية من الشجر، ولا في غربية، بل في وسط الشجر أو ليست من أشجار الدنيا، إذ لو كانت منها لكانت أحدهما، لكنه مثل ضربه الله لنوره فإن نور قلب المؤمن من نور الله، (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ): بنفسه، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ): لفرط بريقه وضوء إشراقه،

(نُورٌ عَلَى نُورٍ)، نوره متضاعف نوّر النار ونور ذلك الزيت، ونور القنديل، وضبط المشكاة لأشعته، (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، يزين فؤاد عباده المؤمنين بنور من نوره، فينشرح صدورهم لمعارفه، عن ابن عباس يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدي قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدي ونورًا على هدي ونور وعن بعضهم: القرآن المصباح، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه، وفمه والشجرة الوحي، يكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ " نور على نور " نور القرآن والدلائل العقلية، ونور البصيرة، (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) تقريبًا للأفهام وتسهيلاً لسبيل الإدراك، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): من العقول، والمحسوس الظاهر، والخفي الكلي، والجزئي. (فِي بُيُوتٍ)، أي: كمشكاة في بعض بيوت، وهي المساجد كأنه قيل: مثل نوره في قلبه كما ترى في المساجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، وقيل

متعلق بما بعده أي: يسبح في بيوت، ولفظ فيها تكرير نحو زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف أي: سبحوا في بيوت، (أَذِنَ اللهُ): أمر الله، (أَنْ تُرْفَعَ)، أن يعظم قدرها فيطهرونها من الدنس، واللغو، وكل ما لا يليق فيها، (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)، المراد من التسبيح إما الصلاة، وبالغدو الصبح، وبالآصال باقى الصلوات، لأن اسم الأصيل يجمعها أو صلاة الصبح والعصر، وإما التسبيح والتنزيه، والذكر في طرفي النهار، (رِجَالٌ)، فاعل يسبح، وعند من قرأ يسبَح بصيغة المفعول ففاعل محذوف كأنه قيل من يسبح فأجاب يسبح رجال، (لا تُلْهِيهِمْ): لا تشغلهم، (تِجَارَةٌ): معاملة رائجة، (وَلاَ بَيْعٌ عَن ذكْرِ اللهِ)، أو المراد بالتجارة الشري، فإنه أصلها ومبدأها، أو التجارة الجلب فإن من يجلب الأمتعة من بلد إلى بلد للبيع هو التاجر، (وَإِقامِ الصَلاةِ)، عطف على ذكر الله، أي: لا يشغلهم شيء عن إقامة الصلاة، (وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافونَ يَوْمًا): مع تلك الطاعات، (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)، تضطرب، وتتغير من الهول وهو يوم القيامة، (لِيَجْزِيَهُمُ)، متعلق بـ يسبح، أو لا تلهيهم، (اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا)، أي: أحسن جزاء أعمالهم، (وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ): أشياء لم تخطر

ببالهم، (وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالَّذِينَ كفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ)، هو ما يرى في الفلاة وقت الظهيرة فيظن أنه ماء، (بِقِيعَةٍ)، هي. بمعنى القاع، وهو الأرض المستوية، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ): العطشان في القيامة، (مَاءً)، فتوجه إليه، (حَتَّى إِذَا جَاءهُ): جاء السراب، (لمْ يَجِدْهُ شَيْئًا): مما ظنه، (وَوَجَدَ الله عِندَهُ): محاسبًا إياه، (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ): جزاء عمله، (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، لا يشغله حساب عن حساب كذلك الكافر يحسب أن عمله مغن عن عقاب الله، فإذا جاء إليه ليغنيه عند الموت في أشد أوقات الحاجة لم يجد عمله ينفعه ووجد الله عنده، أو وجد عقابه عنده، فوفاه جزاء عمله، فيجر إلى جهنم وبئس المهاد. (أَوْ كَظُلُمَاتٍ)، عطف على كسراب وأو للتخيير أو للتنويع، فإن الأول حال رؤسائهم وعقلائهم، والثاني حال مقلديهم وجُهَّالهم، (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ): عميق كثير الماء، (يَغْشَاهُ): يعلو البحر، (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ): أمواج مترادفة، (مِّن فَوْقِهِ)، الضمير إلى الموج الثاني، (سَحَابٌ)، يظلمه، (ظُلُمَاتٌ)، أي: هذه ظلمات، (بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، وقراءة جر ظلمات على أنها بدل من

(41)

ظلمات، (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا): لم يقرب من أن يراها فضلاً عن أن يراها والضمائر لمن في البحر لدلالة الفحوى عليه شبه أعمالهم في سوادها وظلمتها، وما في قلوبهم من الجهل والحيرة بظلمات متراكمة في غاية ما يكون بحيث لا يمكن أن يهتدي إلى النور سبيلاً، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)، هذا في مقابلة يهدي الله لنوره من يشاء، وقوله: " نور على نور ". * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) * * *

(أَلَمْ تَرَ): ألم تعلم علمًا كالمشاهدة في اليقين، (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، من لتغليب ذوى العقول والمراد أعم، ولكل من الجمادات أيضًا لسان به يذكرون الله يسمعه من يسمع، وقيل المراد لسان الحال، (وَالطيْرُ)، عطف على من، (صَافَّاتٍ): باسطات أجنحتهن في الهواء يسبحن بتسبيحات هو يلهمها، قيل: خصها؛ لأنها ليست في أرض ولا في سماء، (كُلٌّ): منهم، (قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)، أي: قد علم هو صلاة نفسه كيف يصلي ويسبح أو قد علم الله صلاته، وتسبيحه لا يخفي عليه، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللهِ مُلْك السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ المَصيِرُ): مرجع الكل إليه، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ)، يسوقه ثم يجمع بين قطعه، وأجزاءه، ويضم بعضه إلى بعض، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامً): متراكمًا بعضه فوق بعض، (فتَرَى الوَدْقَ): المطر، (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ): فُرجِه وفُتوقه، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ)، أي: ينزل مبتدًأ من السماء من جبال فيها من برد بردًا، فيكون من برد بيان للجبال، والمفعول محذوف، أو من الثالثة للتبعيض وهو المفعول، وعن بعض

السلف إن في السماء جبال برد ينزل الله منه البرد، أو معناه ينزل الله من جانب السماء من قطع عظام من الغيم يشبه الجبال بعض برد، (فَيُصِيبُ بِهِ): بالبرد، (مَن يَشَاءُ): أن يصيبه، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ): أن يصرفه عنه، (يَكَادُ سَنَا): ضوء، (بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ): من فرط الإضاءة، فهو الله سبحانه مخرج الماء والنار، والظلمة، والنور من شيء واحد، (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): يصرفهما في اختلافهما، وتعاقبهما، (إِنَّ فِي ذَلِكَ)، المذكورات، (لَعِبْرَةً): دلالة، (لِأُولِي الْأَبْصَارِ): لذوي العقول، (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)، وهو النطفة، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ)، كالحية: قدَّمه، لأنه أدخل في القدرة وأغرب، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ)، كالإنسان والطير، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)، كالنعم جعل الدواب وهي ما يدب في الأرض كلها مميزين تغليبًا للعقلاء، فلذلك قال: (فمنهم من) إلخ ... ، وعن بعض: أن الماء أول مخلوق، والريح والنار والطين خلق منه، (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ): أن يخلقه، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ): لكمال قدرتنا، (وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ). هدايته، (إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، فيبصره آياته، ويعلمه الكتاب والحكمة، (وَيَقُولوُنَ): الذين مع محمد - صلي الله عليه وسلم -،

(آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا): لهما، (ثُمَّ يَتَوَلَّى): يعرض عن قبول حكم الله ورسوله، (فَرِيقٌ منْهُم): كالمنافقين، (مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ): القول، والاعتراف، (وَمَا أُوْلَئِكَ): الفريق، (بِالْمُؤْمِنِينَ)، أو ما أُوْلَئِكَ الذين يقولون آمنا وأطعنا مجموعهم بمؤمنين، بل فيهم كافرون، (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُم): الحاكم نبي الله عليه السلام يحكم بحكم الله، (إِذَا فَرِيقٌ منْهُم مُّعْرِضون): فاجئوا الإعراض لعلمهم أنه لا يحكم إلا بالحق، وهم يريدون الباطل إن كان الحق عليهم، (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ): لا عليهم، (يَأْتُوا إِلَيْهِ): إلى رسول الله، (مُذْعِنِينَ): منقادين قيل نزلت في منافق، ويهودي، وهو يجره إلى النبي - عليه السلام -، والمنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ليحكم بينهما، (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): كفر ونفاق، وقيل جنون، (أَمِ ارْتَابُوا): في نبوتك، (أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسولُهُ): في الحكومة، (بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ

(51)

الظَّالِمُونَ)، أي: لا يرتابون، ولا يخافون لعلمهم بنبوتك، وبأن الله لا يظلم وإنما هم يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم أو معناه لا يظلم، ولا يحيف الله لأحد؛ بل هم الظالون لأنفسهم. * * * (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) * * *

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)، سواء كان الحق لهم أو عليهم، (أَن يَقُولُوا)، اسم كان، (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ): فيما ساءه وسره، (وَيَخْشَ الله): على ما مضى من ذنوبه، (ويَتَّقْهِ): فيما بقي من عمره في بعض اللغات إذ أسقط الياء للجزم يسكنون ما قبلها فيقال: لم أشتر طعامًا، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ): بوفق، بل فوق بغيتهم، (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ): قسمًا غليظاً، (لَئِنْ

أَمَرْتَهُمْ): بالخروج إلى الغزو، (لَيَخْرُجُنَّ)، جواب لأقسموا، (قُل): لهم، (لا تُقْسِمُوا): على الكذب، (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)، أي: طاعتكم طاعة مشهورة معلومة بأنها قول لا فعل معه، أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة لا إيمان بمجرد الأفواه أو طاعة معروفة أولى وأمثل من هذا الإيمان، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون): فلا يخفي عليه سرائركم، (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا): تتولوا عن الطاعة، (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ): على محمد: (مَا حُمِّلَ): من تبليغ الرسالة، فإذا أدى خرج عن عهدته، (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ): من القبول فإن أعرضتم فقد تعرضتم لسخط الله، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا): إلى الحق، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ): التبيلغ الموضح فضرر عدم القبول ليس إلا لكم، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ): ليجعلهم خلفاء متصرفين في الأرض لما كان الوعد من الله في تحققه كالقسم تُلُقي بما يُتَلَقّى به القسم أو تقديره وعد الله الذين آمنوا وأقسم ليستخلفنهم، (كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، داود وسليمان، وغيرهما أو بني إسرائيل أهلك القبط، وأورثهم أرضهم، (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ): تمكينه تثبيته وإحكامه، (الَّذِي ارْتَضَى)،

اختار، (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ): من الأعداء، (أَمْنًا)، منهم نزلت حين قالوا: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون، ما يأتي علينا يوم نضع السلاح، (يَعْبُدُونَنِي)، استئناف كأنه قيل: لم يستخلفون، ويؤمنون، فقال: " يَعْبُدُونَنِي " أو حال أي: وعدهم ذلك في حال عبادتهم، (لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، حال من فاعل يعبد، (وَمَن كَفَرَ): هذه النعمة، (بَعْدَ ذَلِكَ): بعد حصول الخلافة والأمن أو كفر بمعنى ارتد، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): الكاملون في الفسق، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ): فيما أمر ونهي، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): راجين رحمة الله، (لاَ تَحْسَبَنَّ): يا محمد، (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ): الله عن إهلاكهم، (في الْأَرْضِ)، وفي قراءة بالغيبة، والذين فاعله، ومعجزين في الأرض مفعولاه، أي: لا يحسبن الكفار في الأرض أحدًا يعجز الله حتي يطمعوا في مثل ذلك، (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)، حال أي: لا ينبغي هذا الحسبان، وقد أعد لهم النار، (وَلَبِئْسَ المَصِيرُ)، النار. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ

(58)

جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ): من العبيد والإماء نزلت لما دخل غلام أسماء بنت أبى مرثد عليها في وقت كرهته، أو لما

دخل على عمر غلام وقت الظهيرة وهو نائم منكشف عنه ثوبه، قيل هذا رجوع إلى تتمة الأحكام السابقة بعد الفراغ عن الآيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيره، ووعدٍ عليها ووعيد على الإعراض عنها، (وَالذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ): من الأحرار، (ثَلاثَ مَرَّاتٍ): في اليوم والليلة، (مّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ)، بدل من ثلاث مرات، أو تقديره هي من قبل صلاة الفجر، (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم): لأجل القيلولة، (مِّنَ الظهِيرَة)، بيان للحين، (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ): الآخرة، (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُم)، أي: هذه الأوقات ثلاث أوقات عورات سمى هذه الأوقات عورات، لأن الناس يختل فيها تسترهم، والعورة الخلل، وقراءة نصب ثلاث بالبدلية من ثلاث مرات، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ): في ترك الاستئذان، (بَعْدَهُنَّ)، بعد هذه الأوقات والآية السابقة في الأحرار البالغين، وهذه في المماليك والصبيان، (طَوَّافون)، أي: هم طوافون، (عَلَيْكُم)، استئناف يبين العذر في ترك الاستئذان في غير تلك الأوقات، (بَعْضُكُمْ): طائف، (عَلَى بَعْضٍ)، أو تقديره يطوف بعضكم على بعض فيكثرون التردد لحوائجكم، فيغتفر فيهم ما لا يغتفر في غيرهم، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التبيين، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ): بأحوالكم، (حَكِيمٌ):

فيما أمركم، (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ)، أي: ذلك الأطفال الذين يستأذنون في ثلاث أوقات، (فَلْيَسْتَأْذِنُوا): في جميع أوقات الدخول، (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ): بلغوا الحلم، (مِن قَبْلِهِمْ)، وهم الرجال الأحرار، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، كرره تأكيدًا في الأمر بالاستئذان، وعن كثير من السلف إذا بلغ الغلام الحلم فليستأذن على أبويه في جميع الأحوال، (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ): العجائز اللاتي قعدن عن الحيض، (اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا): لا يطمعن فيه لكبرهن، (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ): الثياب الظاهرة كالجلباب يعني ليس على العجائز من التستر ما على غيرها من النساء، (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ): مظهرات، (بِزِينَةٍ)، أمر بإخفائها أو غير قاصدات بوضع الثياب تبرج الزينة، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ): فلا يضعن الجلباب أيضًا، (خَيْرٌ لهُنَّ): لأنه أبعد من التهمة، (وَالله سَمِيعٌ): لمقالهن للرجال، (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ): بمقاصدهن، (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ)، كان المؤمنون إذا دخل عليهم الأعمى وغيره وليس في بيوتهم شيء يضيفونه يذهبون به إلى بيت أحد من هؤلاء المذكورين في الآية،

فيأكل هو وضيفه من بيوتهم، فخافوا أن يكون أكلاً بغير حق، ويلحقهم إثم لقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "، فنزلت، أي: ليس على الضعفاء، ولا على أنفسكم حرج في ذلك أو كانوا يخرجون إلى الغزو ويدفعون مفاتيح أبوابهم إلى هؤلاء القاعدين، ويأذنون أن يأكلوا من بيوتهم، وهم يتحرجون، ولا يأكلون فنزلت رخصة لهم، ولغيرهم أن يأكلوا من بيوت هؤلاء أو كان هولاء المرضى من الأعمي، وغيره يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء، فنزلت، أو معناه ليس على الأعمى والأعرج، والمريض حرج في القعود عن الغزو، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت، وقوله: (أن تأكلوا من بيوتكم)، أي: التي فيها أزواجكم، وعيالكم، وعن بعض المفسرين: ذكره ليعطف عليه الباقى ليعلم أن بيوت الأقارب كبيت نفسه، فلا يحترز عنها بوجه، (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ)، عطف على ما بعد من أي: أن تأكلوا عما في يده وتصرفه وملك المفاتح كناية عن ذلك (كالناطور) جاز له أن يأكل من البستان، والراعي من لبن الغنم، والمأذون مما في بيت بيده مفاتحه، أو عطف على ما يضاف البيوت إليه أي: بيوت الذين ملكتم مفاتحهم وهم المماليك، (أَوْ صَدِيقِكُمْ)، أو بيوت

صديقكم، وهو يقع على الواحد، والجمع وهذا كله إذا علم رضي صاحب المال وإن كان بقرينة، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا): مجتمعين، (أَوْ أَشْتَاتًا): متفرقين، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فرخصهم في ذلك أو كان الغني يطلب فقيرًا من قرابته ليأكل معه، فيقول: والله لأتحرج أن آكل معك وإني فقير وأنت غني، أو كانوا إذا نزل بهم ضيف يتحرجون أن لا يأكلوا إلا معه، (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا): من هذه البيوت لتأكلوا، (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ): على أهل الذي هو منكم دينًا وقرابة، أو إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهل بيتكم، أو إذا دخلتم بيوتًا خالية فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ): ثابتة بأمره من عنده نصب على المصدر، لأنها بمعنى التسليم، ويجوز

(62)

أن يكون معناه قولوا سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، (مُبَارَكَةً): يرجى بها زيادة الخير، (طَيِّبَةً): تطيب بها نفس المستمع، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): الحق والخير. * * * (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) * * * (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ): من صميم القلب، (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ): مع الرسول عطف على آمنوا، (عَلَى أَمْرٍ جَامِع): كالحروب، والجمعة، والمشورة، (لَمْ يَذْهَبُوا): عن محضره، (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)، حذف قوله: " ويأذن لهم "، لأنه كالمستغنى عنه، وكانت الصحابة إذا أرادوا أن يخرجوا من المسجد لحاجة،

وهو عليه السلام في المنبر لم يخرجوا حتى يقوموا بحياله فيأذن فيخرج، (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ): إيمانًا صدقًا، (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ): مهامهم، (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ): فالأمر مفوض إليك، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ): فإن الذهاب عن مجلسك ربما يكون زللاً لهم، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ): لفرطات العباد، (رَحِيمٌ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا): لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا، فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله لا: يا محمد يا أبا القاسم، أو احذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء بعضكم على بعض، (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ)، أي: [ينسلون]، (مِنْكُمْ): قليلاً قليلاً، ويخرجون، (لِوَاذًا): ملاوذين مستترين بعضهم ببعض للخروج أو يلوذ بمن يؤذن، فينطلق معه كأنه تابعه من لاذ يلوذ، وكأن هذا ديدن المنافقين يهربون بأي وجه يمكن لهم من محضر حضرة النبوة صلوات الله وسلامه عليه (فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفونَ): معرضين، (عَنْ

أَمْرِهِ): منصرفين عنه بغير إذنه مخالفين أمره، (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ): في الدنيا، (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، (أَلاَ إِن لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): ملكاَّ وَخلقًا، (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ)، من النفاق والإخلاص أكد علمه بـ قد لتأكيد الوعيد يعني من خَلَقَ جميع الخلقِ وملكهم كيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن اجتهدوا في الإخفاء، (وَيَوْمَ يُرْجَعُون)، المنافقون: (إِليهِ): للجزاء، ويوم ظرف لقوله (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا): بالمجازات، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). * * *

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكية وهى سبع وسبعون آية وست ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) * * * (تَبَارَكَ) تكاثر خيره، أو تزايد عن كل شيء وتعاظم، أو ثبت ودام، (الَّذِي نَزَّلَ)، منجمًا لا جملة واحدة، (الْفُرْقَانَ)، سمي القرآن به لأنه فارق بين الحق

والباطل، (عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُون)، العبد أو الفرقان، (لِلْعَالَمِينَ)،: الإنس والجن، (نَذِيرًا)،: منذرًا مخوفًا، أو بمعنى الإنذار كالنكير، (الَّذِي لَهُ مُلْك السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، بدل من الذي أو رفع أو نصب على المدح، (وَلَم يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شرِيكٌ فِي الُملْكِ)،: في ملكه وسلطانه، (وَخَلَقَ كُل شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، أي: أحدث كل شيء له، الكون مراعى فيه التسوية، فهيأه لما أراد منه كما سوى الإنسان من مواد وصور مخصوصة، ثم هيأه للإدراك، ومزاولة الأعمال الغريبة، أو فقدره للبقاء إلى أمد معلوم، (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا): عاجزين، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ): فإن عبدتهم ينحتونهم، (وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا) أي: دفعه، (وَلاَ نَفْعًا) أي: جلبه، (وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً)، إماتة أحد (وَلاَ حَيَاةً): إحياءه (وَلَا نُشُورًا): بعثه ثانيًا فكيف يستحقون الألوهية، وهم متصفون بصفات تنافيها، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن هَذَا): ما القرآن، (إِلا إِفْكٌ) كذب (افتَرَاهُ)، يعنون رسول الله (وَأَعَانَه عَلَيْهِ قَومٌ آخَرُونَ)،: اليهود (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا): بجعل كلام الله إفكاً، (وَزُورًا)، بنسبة رسوله إلى ما هو بريء منه، وجاءوا بمعنى فعلوا أو نصب ظلمًا

(10)

بحذف الجار، (وَقَالُوا أَسَاطيرُ الأَولِينَ): ما سطره المتقدمون (اكْتَتَبَهَا) استكتبها (فَهِيَ)، الأساطير، (تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)، ليحفظها فإنه أُمي لا يقدر أن يقرأ من الكتاب، (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ولذلك ترى القرآن مملوءًا من المغيبات، (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، ولولا رحمته لاستأصلهم، وما أمهلهم، (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ)، أي: من يدعي الرسالة، (يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ): لا مَلَكٌ ولا مَلِكٌ، (لَوْلا) هلا، (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ): الملَك، (مَعَهُ نَذِيرًا): منذرًا هو خبر كان، ومعه حال أو بالعكس، أو مع متعلق بـ نَذِيرًا، أي: يشاركه في النبوة، (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا): حاصله إن لم يكن ملَكًا، ولا ملِكًا، فلا أقل من أن يكون معه ملك أو يكون صاحب كنز وثروة، وأقلها أن يكون رجلاً له بستان كما للدهاقين، (وَقَالَ الظَّالِمُونَ) أي: قالوا لظلمهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا): سحر فغلب على عقله، (انظُرْ) يا محمد، (كَيْف ضَربوا لَكَ الأَمثالَ): من مسحور، ومحتاج، وغير ذلك، (فَضَلُّوا): عن الحق، (فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً): إليه. * * * (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ

سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) * * * (تَبَارَكَ)،: تكاثر خير، (الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) أي: إن أراد وهب لك في الدنيا خيرًا مما قالوه، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك من الجنات، والقصور، ونصب جنات على البدلية من خير، أو الجزم والرفع في يجعل لأن الشرط إذا كان ماضيًا ففي جزائه الجزم والرفع، (بَلْ كَذَّبوا بِالسَّاعَةِ) وهو أعجب وأغرب من تكذيبهم إياك، أو لهذا كذبوك يعني: تكذيب القيامة حملهم على هذه الأقوال، (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا): نارًا شديدة الاشتعال، (إِذَا رَأَتْهُم) أي: السعير، (من مَّكَانٍ بَعِيدٍ): أقصى ما يمكن أن يرى منه، (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا): صوت تغيظ وتغضب، والزفير صوت يسمع من جوف المغتاظ في حين شدته وعدم

تجويز الرؤية على النار من قلة البصارة، وقد ورد " من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدًا، قيل: وهل لها عينان؟! قال: أما سمعتم الله يقول: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) الآية، (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا): منها بيان تقدم فصار حالاً، (ضَيِّقًا): لمزيد العذاب، وفي الحديث " والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط "، (مُقَرَّنِينَ): قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل، ْ (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا): هلاكًا يقولون: يا ثبوراه تعال فهذا حينك، (لاَ تَدْعُوا) أي: يقال لهم لا تدعوا، (الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا)، فإن الخطب أعظم مما حسبتموه، (قُلْ أَذَلِكَ): ما وصفنا من أنواع العذاب، (خَيرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَتِي وُعِدَ)، أي: وعدها، (الُمتَّقُونَ)، وفي ذلك تقريع مع تهكم، (كَانَتْ): الجنة في علم الله، (لَهُمْ)، أو لأن ما وعد الله كالواقع، (جَزَاءً)،: على أعمالهم بالوعد، (وَمَصِيرًا)،: مرجعًا ينقلبون إليه أما غير المتقين من المؤمنين كالتبع لهم أو المراد من المتقين من يتقي الكفر، والتكذيب، ولهم إما حال أو متعلق بجزاء، (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ): ما يشاءونه،

(عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا): موعودًا، (مَسْئُولًا): عن بعض السلف يقول المؤمنون: يا رب عملنا بما أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا، وذلك قوله وعدًا مسئولاً، وعن بعض الملائكة تسأل لهم ذلك قال تعالى (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر: 8]، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ): المراد ذوو العقول كالملائكة وعيسى واستعمال ما لأنه في الأصل أعم، أو لأنه أريد بالوصف، أي: معبوديهم أو لإجرائهم مجرى غير ذوى العقول، تحقيرًا لشأنهم لقصورهم عن معنى الربوبية أو المراد أعم، وينطق الله الأصنام، (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ): من غير دعوة منكم، وحذف الجار للمبالغة، أي: عن السبيل، وهذا السؤال لتقريع العبدة وتبكيتهم، (قَالوا سبحانَكَ): تعجب منهم مما قيل لهم، أو سبحانك من أن يكون لك ندّ، (مَا كَانَ يَنْبَغِي): ما يصح ويستقيم، (لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) أي: نحن لا نعبد إلا أنت، فكيف ندعو أحدًا أن يتولى غيرك؟ قيل: أرادوا من ضمير المتكلم جميع الخلائق، (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ): في الدنيا بالنعم، (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي: نسوا ما أنزلته إليهم أو غفلوا عن ذكرك، (وَكَانُوا): في علمك، (قَوْمًا بُورًا)،: هالكين أشقياء راعوا الأدب، وما قالوا: أنت أضللتهم صريحًا، لأن المقام غير مقام البسط كما قال موسى في مقام الانبساط: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) [الأعراف: 155].

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) التفات، أي: قال الله لهم فقد كذبكم المعبودون، (بِمَا تقولُون): في قولكم: إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا، فالباء بمعنى في أو بما تقولون بدل اشتمال من مفعول كذبوا كـ كذبوا بالحق، وفي قراءة " يقولون " بالياء فمعناه كذبوكم بقولهم: " سبحانك ما كان ينبغي " إلخ، (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا): للعذاب عنكم، (وَلَا نَصْرًا) وقراءة التاء فمعناه، فما تستطيعون أيها العابدون صرف العذاب عن أنفسكم ولا نصر أنفسكم، (وَمَنْ يَظْلِمْ)، يشرك، (مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا): رسلاً، (إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)، ما بعد إلا صفة أقيمت مقام موصوفها، وهذا جواب قولهم: (ما لهذا الرسول) الآية، (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ): أيها الناس، (لِبَعْضٍ فِتْنَةً): ابتلاء، وامتحانًا كابتلاء المرسلين بالمرسل إليهم، والفقراء بالأغنياء، (أَتَصْبِرُونَ)، علة للجعل أي: لنعلم أيكم يصبر كقوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [هود: 7، الملك: 2]، وقيل: حث على الصبر على ما افتتنوا به (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)، عالمًا بالصواب فيما يبتلي به وغيره، فلا يضيقن صدرك، أو بمن يصبر. * * *

(21)

(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) * * * (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، لا يخافون البعث، أو لا يأملون لقاءنا بالخير، (لَوْلا)،: هلا، (أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلاِئكَةُ)،: فتخبرنا بصدق محمد، (أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، فيخبرنا بذلك، (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ): حتي تمنوا ما لم يحصل للرسل، اللام توطئة القسم، (وَعَتَوْا)،: تجاوزوا الحد في الظلم، (عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ)، أي: اذكر يوم، (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ): عند الموت، أو في القيامة، (لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للْمُجْرِمِينَ)، أي: لهم، لأنَّهُم مجرمون يتحلى الملائكة للمؤمنين

فتبشرهم حين الموت وفي القيامة بالرحمة والرضوان، وللكافرين فتبشرهم بالخيبة والخسران، (وَيَقُولُونَ) أي: الملائكة لهم (حِجْرًا مَحْجُورًا): حرامًا محرَّمًا عليكم الجنة والرحمة، أو البشري، فالجملة حال من الملائكة، أي: وهم يقولون أو يقول المجرمون عند لقاء الملائكة هذه الكلمة، وهي من المصادر المتروك فعلها، ومن الكلمات التي تتكلم بها العرب عند لقاء العدو، وهجوم النازلة في موضع الاستعاذة يعني أنَّهم يطلبون نزول الملائكة، وهم إذا رأوهم كرهوا واستعاذوا، وقوله: محجورًا كموت مائت للتأكيد، (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل)، أي: قصدنا وعمدنا إلى أعمال عملها الكفار من المكارم كقرى ضيف، وإغاثة ملهوف، (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا): أحبطناه، لأنها لم تكن خالصًا موافقًا للشريعة، والهباء غبار يرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة شبه عملهم بالغبار في الحقارة وعدم النفع، ثم بالمنثور منه في انتشاره وتفرقه، ومنثورًا إما صفة هباء أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر، (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا): موضع قرار، (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً): مكان استراحة، وعن بعض السلف يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في مناظر حسان، وروح، وريحان منها،

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ)، أي: تتشقق، (السَّمَاءُ بالْغَمَامِ)، أي: بسبب طلوع الغمام، وقيل بالباء بمعنى عن، (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ)، في ذلك الغمام، (تَنْزِيلًا)، يعني: تتفتح السماء بغمام يخرج منها، وفي الغمام ملائكة ينزلون، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، (الُملْكُ يَوْمَئِد الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ)، الحَقُّ خبر ولِلرَّحْمَنِ متعلق به، أي: الملك ثابت له لا يبقى لغيره، أو صفة للملك، وللرحمن خبره، (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا)، شديدًا ومع طوله وشدته يخفف على بعض من المؤمنين، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)، عض اليدين والأنامل وأمثاله كنايات عن كمال الحسرة والغيظ، وهذا عام، وإن كان مورده في عقبة بن أبي معيط لما ارتد لأجل خاطر أبي بن خلف، (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا): إلى الهدى، والنجاة، (يَا وَيلَتَى)، تعالي فهذا أوانك، (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا)، أي: من أضله، والفلان كناية عن الأعلام، (خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ): عن القرآن أو عن ذكر الله، (بَعدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ)، كل من صدك عن الحق فهو شيطانك، (لِلإِنسَانِ خَذُولاً)، تاركه لا نافعه عند البلاء، وقوله: " كان الشيطان "، إما من تتمة كلام

الكافر، وإما من كلام الله سبحانه من غير حكاية، (وَقَالَ الرسولُ)، محمد عليه السلام يومئذ، أو في الدنيا، (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي): قريشًا، (اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)، متروكًا أعرضوا عنه ولم يؤمنوا به، أو بمنزلة الهجر والهذيان، فالمهجور بمعنى الهجر كالمجلود، وفيه تخويف لقومه، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا): يحتمل الواحد، والجمع، (مِنَ الْمُجْرِمِينَ): الذين يهجرون شرائعهم فاصبر كما صبروا، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا): إلى اتباعك وإن كان قومك يصدون الناس عنك، (وَنَصِيرًا) لك عليهم فلا تبال بمن يعاديك، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) كالتوراة والإنجيل، ونزل بمعنى أنزل كخبَّر وإلا يكون متدافعًا، وهذا من مماراتهم التي لا طائل تحتها، (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)،: هذا من الله تعالى جواب لهم، أي أنزلناه كذلك مفرقًا لنقوي بتفريقه فؤادك لتعيه، وتحفظه شيئًا بعد شيء، ولا يعسر عليك حفظه، لأنك أُمي بخلاف سائر الأنبياء، فإنَّهم ممكنون من القراءة والْكِتَابة، ولأنه كلما أنزل عليك وحي من ربك يزداد لك قوة إلى قوة، وللأعداء كسرًا على كسر، (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا): وبيناه تبيينًا على مهل بحسب الوقائع، عطف على فعل مقدر ناصب لكذلك، (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ): بشيء عجيب في القدح فِي القرآن، وفيك، (إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ): الذي يرد ما جاءوا به من المثل، (وَأَحْسَنَ

(35)

تَفْسِيرًا): بيانًا وكشفًا في جواب اعتراضهم، وهذا أيضًا من علل جهة إنزاله مفرقًا، (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ): مرفوع بالذم أو بدل من ضمير يأتونك، أو مبتدأ خبره أولئك وعلى أي وجه ففيه بيان أنَّهم يضربون لك الأمثال، ويحقرونك، ولا يدرون أنَّهم على تلك الفضيحة، وفي الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال: " إن من أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على جهه يوم القيامة "، (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا): منزلاً أو منزلة، (وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، نسب الضلال إلى السبيل، وهو لهم فيها للمبالغة مجازًا. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ

آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) * * * (وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)،: الألواح أو معنى آتينا أردنا إيتاءه، أو المراد من الكتاب ما يستلزمه وهو الرسالة، لأن التوراة ما كان إلا بعد هلاك فرعون كما مر في سورة الأعراف لما سلى رسوله بقوله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) شرع يبين أعداءهم مجملاً ومفصلاً، (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا)،: معينًا يعاونه في أمر النبوة، (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) فإن قوم فرعون لما أشركوا بالله كذبوا بما جاء به الأنبياء من قبلهم، (فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا)، أي: فذهبا فكذبوهما فاستأصلناهم، اختصر القصة فذكر مجملها، لأن المقصود إلزام الحجة ببعثة الرسل أو استحقاق الهلاكة بالتكذيب، (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ)،: نوحًا ومن قبله أو لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل، لأن بعضهم يصدق بعضًا (أَغرَقنَاهُمْ)،: بالطوفان، (وَجَعَلْنَاهُمْ)، إغراقهم أو قصتهم، (لِلنَّاسِ آيَةً)، عبرة، (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ): سوى عذاب الدنيا، (عَذَابًا أَلِيمًا وَعَادًا وَثَمُودًا): عطف على قوم نوح، وناصبه محذوف، أي: لما فعلوا مثل ما فعل المذكورون عذبناهم كما فعلنا بهم، أو عطف على هم في جعلناهم على أن يكون وجعلناهم عطفًا على مجموع الشرط والجزاء، (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ)، اختلف فيهم

فمن قائل عباد الأصنام كانوا حول بئر فخسف بهم، والرس البئر الغير المطوية، أو قوم دفنوا ودسوا نبيهم في بئر أو أصحاب [يس]، أو أصحاب الأخدود، أو قرى من اليمامة، (وَقُرُونًا)، أهل أعصار، (بَيْنَ ذَلِكَ): الذين ذكرناهم، (كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ)،: في إقامة الحجة عليهم وأنذرناهم من وقائع أسلافهم فلم يعتبروا، نصب (كُلًّا) بما دل عليه ضربنا إلخ مثل أنذرنا، (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا)، أي: كسرناهم وفتتناهم، (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ)، أي: مر قريش في طريق الشام بقرى قوم لوط التي أمطرت عليها الحجارة، (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا)، فيتعظوا بما يرون من آثار العذاب مع أنَّهم مروا عليها مراراَّ، (بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا): لا يخافونه أو لا يأملونه فلهذا لم يعتبروا (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا): مهزوءاَّ بَه أو موضع هزء، (أَهَذَا الَّذِي)، أي: يقولون أهذا الذي، والإشارة للاستحقار، (بَعَثَ اللهُ رَسُولًا)،: قالوه تهكمًا، (إِنْ كَادَ)، مخففة من المثقلة، (لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا): شارفنا أن نترك ديننا لفرط اجتهاده في تقوية دينه وإبطال دين غيره، ويصرفنا عن عبادتها، (لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا): استمسكنا بعبادتها وثبتنا عليها، وجوابه ما دل عليه قبله، (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا): جواب عن قولهم إن كاد ليضلنا،

(45)

لأنهم نسبوه إلى الضلال، وفيه وعيد بأنه لا يهملهم وإن أمهلهم، (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، الاستفهام للتعجيب، فإن دينهم ما تهوى أنفسهم، وهم كانوا يعبدون حجرًا وإذا رأوا حجرًا أحسن منه [تركوا] الأول، (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا): حفيظاً فلا تذهب نفسك عليهم حسرات أو ما أنت عليهم بوكيل فتمنعهم عن اتباع الهوى فالآية منسوخة، (أَمْ تَحْسَبُ)،: بل أتحسب، (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)، فيسمعوا أو يعقلوا الحق خص الأكثر، لأن فيهم من عقل وآمن، أو ما آمن استكبارًا، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، فإنها تنقاد لمن يتعهدها وتعرف المحسن إليه ممن يسيء، وتجتنب المضار وما لها إضلال، وإن كان لها ضلال. * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) * * * (أَلَمْ تَرَ)،: تنظر، (إِلَى ربِّكَ)،: إلى صنعه، (كيْفَ مَدَّ الظّل)، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودًا؛ لأنه ظل لا شمس معه، قال تعالى: " وظل ممدود " [الواقعة: 30]؛ (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا)،: ثابتاً دائمًا لا يزيله الشمس، (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا)، فإنه لو لم تكن لما عرف الظل، فإن الأشياء تعرف بأضدادها، أو جعلنا مستتبعة عليه تتلوه، وتتبعه كما يستتبع الدليل المدلول وثم لبيان أن هذا أعظم من الأول، (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا)، أزلنا الظل قبضًا على مهل أو سهلاً أو سريعًا بأن أوقعنا موقعه الشمس، وفيه من المنافع ما لا تحصى والقبض في مقابلة المد، وثم هنا أيضًا لبيان أن الثالث أعظم من الأولين،

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ لِبَاسًا)،: شبه الظلام في ستره باللباس، (وَالنَّوْمَ سُبَاتاً)، راحة، (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)، بعثنا من أخ الموت، أو ذا نشور ينتشر فيه الخلق لمعايشهم وأسبابهم، (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا): مبشرات وقرئ نشرًا، أي: ناشرات للسحاب، (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): قدام المطر، قد مر تفصيل معناه، وقراءته في سورة الأعراف، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)، هو اسم لما يتطهر به كالسحور، عن بعض أن المطر منه ما ينزل من السماء، وكل قطرة منه في البر بر وفي البحر در يعني: لا يمكن أن لا يكون له فوائد، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر، فَيَعْذِبُهُ الرعد والبرق، (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا)، وصفها بمذكر لمعنى الموضع والبلد، (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ)،: جمع إنسي أو إنسان، (كَثِيرًا): فإن بعضهم أهل مدن لا يحتاجون غاية الاحتياج إلى المطر، وخص الأنعام من الحيوانات لأنه في معرض تعداد النعم، والأنعام ذخيرة الإنسان متعلقة بهم، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ)، المطر، (بَيْنَهُمْ)، مرة ببلد، ومرة بأخرى، وعن ابن مسعود مرفوعًا أن ليس من سنة بأمطر من أخرى، ولكن الله قسم هذه الأرزاق، فإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله إلى غيرهم فإذا عصوا جميعًا فإلى البحار والفيافي،

(لِيَذَّكَّرُوا)، ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم، (فَأَبَى أَكثَرُ النَّاسِ إِلا كفورًا): كفران النعمة أو جحودًا فإنهم قالوا مطرنا بنوء كذا، (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا): نبيًا ينذرهم ليسهل عليك أعباء النبوة، ولكن ما فعلنا تعظيمًا لأجرك، (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ): فيما يريدونك عليه، وهذا [تيهيج] له ولأمته، (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) بالقران، (جِهَادًا كَبِيرًا): لا يخالطه فتور بأن تلزمهم بالحجج والآيات أو بما يأمرك القرآن وما علمت منه، (وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ البَحْرَيْنِ): أرسلهما في مجاريهما وخلاهما، (هَذَا عَذْب فُرَات): بليغ عذوبته، (وَهَذا مِلْحٌ أجَاج): هو نقيض الفرات، (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا): حاجزًا حتى لا يخلط أحدهما بالآخر، (وَحِجْرًا مَحْجُورًا): وهو كلمة يقولها المتعوذ كما مر في هذه السورة، كأن كلا منهما يقول لصاحبه ما يقوله المتعوذ عنه وهو كدجلة تدخل المالح فتشقه، فتجري في خلاله فراسخ ولا تختلط، وقد ذكر أن في سواحل بحر الهند مثل الدجلة، وأغرب فالحاجز محض القدرة فقط، أو المراد بالعذب الأنهار، والعيون والآبار، وبالملح البحار المعروفة، وبالبرزخ الأرض الحائل بينهما، (وَهُوَ الذِى خَلَقَ مِنَ الَمَاءِ): النطفة، (بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا): ذوي نسب، أي: ذكورًا ينسب إليهم، فيقال: فلان ابن فلان، وفلانة بنت فلان، (وَصِهْرًا) ذوات صهر أناثاً يصاهر بهن، أو النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل، وقيل في ابتداء أمره ولدًا نسيبًا ثم يتزوج، فيصير

صهرًا، (وَكاَنَ ربُّكَ قَدِيرًا): على ما يشاء، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ): ما له كل العجز، ويتركون القادر المختار، (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا): يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك، وقيل من ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك غير ملتفت إليه، أي: هينًا مهينًا لا وقع له عند الله، (وَمَا أَرْسَلناكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْألكُمْ عَلَيْهِ)، على ما أرسلت به من البشارة، والإنذار، (مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى ربِّهِ سَبيلاً) أي: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بإنفاق ماله في سبيله فليفعل، أو لا أَطلب أجرًا إلا فعل من شاء التقرب إليه كأن فعله الطاعات جعله من جنس أجره إظهارًا لغاية الشفقة، ودفعًا لشبهة الطمع كما تقول: ما أطلب فِي تعليمك منك أجرًا إلا عزتك، (وَتَوَكلْ عَلَى الحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ): في الاستغناء عن أجورهم واستكفاء شرورهم فإنه باق حقيق بالتوكل عليه، (وَسَبِّحْ): نزهه عن كل نقص، (بِحَمْدِهِ)، متلبسًا مثنيًا بنعوت كماله، (وَكَفَى بِهِ): كفى الله، (بِذُنوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا): مطلعًا فلا عليك إن آمنوا أو كفروا، (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، قد مر في سورة

الأعراف تفصيل معناه، (الرَّحْمَنُ)، خبر الذي أو خبر محذوف، ويكون الذي صفة

(61)

للحي، (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) أي: سل ما ذكر من الخلق والاستواء عالمًا يخبرك ومن أعلم من الله؟ أو المراد سل جبريل، وقيل: أهل الكتاب ليصدقك فيه، والسؤال يعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتناء، أو به متعلق بخبير، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ)، فإنهم ما يطلقون هذا الاسم على الله، (أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا): للذي تأمرنا بسجوده، أو لأمرك لنا، وما نعرفه وقرئ يأمرنا بالياء، فيكون هذا كلام بعضهم لبعض، (وَزَادَهُمْ)، الأمر بالسجود، (نُفُورًا): عن الإيمان. * * * (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)

وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) * * * (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا)،: قصورًا عالية هي الكواكب السبعة السيارة كالمنازل لسكانها أو البروج الكواكب العظام، (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا): الشمس ومن قرأ سُرُجًا فمراده الكواكب الكبار، (وَقَمَرًا مُنِيرًا): مضيئًا بالليل، (وَهُوَ الذي جَعَل اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) أي: ذوي خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا، ويخلف كل واحد منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر والفعلة بالكسر كالجلسة للحالة، وبالفتحة للمرة، (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ): لينظر في اختلافهما فيعلم أن له صانعًا قادرًا حكيمًا، (أَوْ

أَرَادَ شُكُورًا): أن يشكر الله أو ليكونا وقتين للمتذكرين، والشاكرين من فاته ورده في أحدهما قام به في الآخر، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُون عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا)، هينين أو مشيًا هينًا بسكينة ووقار من غير جبرية، واستكبار لا مشي المرضى، فإنه مكروه وهو مبتدأ خبره الذين يمشون، أو أولئك يجزون الغرفة، (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، أي: إذا خاطبوهم بما يكرهونه قَالُوا سَلَامًا من القول يسلمون فيه من الإثم أو تسليمًا منكم لا خير بيننا ولا شر قال تعالى: " وإذا سمعوا اللغو " الآية [القصص: 55]، وعن الحسن البصرى قالوا: السلام، وفي الحديث ما يؤيده، (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)، تخصيص البيتوتة، لأن الصلاة

بالليل أفضل، (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)، هلاكًا ملحًّا لازمًا، (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)، مُسْتَقَرًّا مفسر لضمير مبهم في ساءت، والمخصوص بالذم المقدر هو سبب الربط بين اسم إن وخبرها، أي: بئست مُسْتَقَرًّا هي، قيل: التعليلان من كلام الله أو حكاية لكلامهم، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا): ليسوا مبذرين، ولا بخلاء، بل يكون إنفاقهم عدلاً وسطًا، وقوامًا إما خبر ثان أو حال مؤكدة، وقد فسر بعض المفسرين الإسراف بالنفقة في معصية الله وإن قلَّت، والإقتار بمنع حق الله، وليت شعري كيف يصح مع قوله، وكان إنفاقهم بين الإسراف، والتقتير قوامًا فتأمل، (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ)، قتلها، (إِلَّا بِالْحَقِّ)،: متعلق بـ لا يقتلون، أو بالقتل المقدر، (وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)، جزاء إثمه، أو الآثام وادٍ، أو بئر في جهنم، (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، بدل من يَلْقَ أَثَامًا، (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، وتضعيف العذاب والخلود فيه لانضمام الكبيرة إلى الكفر، (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، أي: تنقلب بنفس التوبة النصوح فإنه كلما تذكر ما مضى تحسر وندم واستغفر، فيقلب الله ذنبه طاعة، فالعبد يتمني أن تكون سيئاته أكثر من ذلك، والأحاديث الصحاح تدل على هذا المعنى، أو أنه يمحوها ويثبت مكانها الإيمان، وما عمل من الطاعة في إسلامه،

(وَكَانَ اللهُ غفورًا رحِيمًا)، فلذلك يعفو عن السيئات، ويبدلها، (وَمَن تَابَ)،: عن المعاصي، (وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ)، يرجع إليه بذلك، (مَتَابًا): مرضيًا عنده، أو يرجع إلى ثوابه مرجعًا حسنًا، (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ): لا يحضرون محاضر الباطل، أو لا يقيمون الشهادة الباطلة، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ): المعاصي كلها لغو، (مَرُّوا كِرَامًا): مكرمين أنفسهم عما يشينهم مسرعين معرضين يعني لم يحضروا مجالسه، وإذا اتفق مرورهم به لم يتدنسوا بشيء، (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ): وعظوا بالقرآن، (لَمْ يَخِرُّوا): لم يسقطوا ولم يقيموا، (عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)، يعني لم يقيموا عليها غير واعين ولا غير متبصرين بما فيها، بل سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالنفي متوجه إلى القيد، (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ): يسألون أن تكون أزواجهم وأولادهم مطيعين لله أبرارا تقرُّ بهم عيونهم ويسرون برؤيتهم، ومن بيانية كرأيت منك أسدًا أو ابتدائية، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا): أئمة يقتدي بنا في الخير، ولنا نفع متعدٍ إلى غيرنا، وُحِّد إمامًا لأن المراد كل واحد، أو [لأنه] مجموع لاتحاد طريقتهم كنفس واحدة، أو لدلالته على الجنس، ولا لبس [وقيل جمع آم كصائم وصيام] (1) أي: اجعلنا قاصدين تابعين للمتقين، (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ): الدرجة

_ (1) ما بين المعقوفتين زيادة من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

الرفيعة في الجنة، وهي اسم جنس أريد به الجمع، (بمَا صَبَرُوا): على طاعة الله وبلائه وعن محارمه، (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا): تحييهم الملائكة، وتسلم عليهم، وبعضهم بعضًا لقاهم كذا أي: استقبالهم به، (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)، مقابل ساءت مُسْتَقَرًّا ومقامًا في المعنى والإعراب، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ): ما يصنع بكم، (ربي): لا وزن ولا مقدار لكم عنده، (لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) إيمانكم وعبادتكم، أو ما يعبأ بخلقكم لولا عبادتكم يعني أن خلقكم لعبادته، أو ما يبالي مغفرتكم لولا دعاءكم معه آلهة أخرى، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم، وما إن كانت استفهامية نصبت على المصدر، أي: أيُّ: عبأ يعبأ بكم، (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ): بما أخبرتكم به، حيث خالفتموه، (فَسَوْفَ يَكُونُ): التكذيب أي: جزاؤه، (لِزَامًا): لازمًا لا ينفك عنكم. اللهم اجعلنا ممن أحسنت مستقرهم ومقامهم. * * *

سورة الشعراء

سورة الشعراء مكية إلا قوله: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) إلى آخره وهي مائتان وست أو سبع وعشرون آية وأحد عشر ركوعًا * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) * * * (طسم) عن بعض السلف إنه من أسماء الله، وعن بعض إنه قسم (تلْكَ) إشارة إلى السورة (آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) القرآن (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ) قاتلَ (نَفْسَكَ) أشفق على نفسك أنَ تقتلَها، (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لئلا يؤمنوا، (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) ملجئة إلى الإيمان (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) منقادين فلا يقدرون بعدها على الإعراض، ولم يقل خاضعة؛ لأن المقصوَدَ أهل الأعناق، وزيدت الأعناق لبيان موضع الخضوع، أو كما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء أجريت مجراهم، أو المراد من الأعناق الرؤساء، أو الجماعات، وعطف بصيغة الماضي على المضارع الذي هو الجزاء إشعارًا بأن انقيادهم أمر مقطوع به كأنه

مضى فيخبر عنه (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) طائفة من القرآن تكون موعظة (مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ) مجرد إنزاله (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) استمروا على

إعراضهم، فلم يرفعوا إليه رءوسهم (فَقَدْ كَذَّبوا) بالذكر، وأدى تكذيبهم إلى الاستهزاء (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) أهو حقيق بالتعظيم حق أم بالاستهزاء باطل (أَوَلَمْ يَرَوْا) لم ينظروا (إِلَى الأَرْضِ) إلى عجائبها (كَمْ أَنبَتنَا

(10)

فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (كَرِيمٍ) كثير النفع، والكريم صفة لكل ما يرضى في بابه (إِنَّ في ذَلِكَ) الإنبات (لَآيَةً) على أن منبتها قادر حكيم (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في علم الله، وقضائه، فلهذا لا تنفعهم الآيات (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فيمهلهم مع أنه لا غالب عليه أحد. * * * (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)

قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) * * * (وًإِذْ نَادَى) مقدر باذكر (رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ) أي بأن، أو أن مفسرة (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ) تقديره ائتهم قائلاً قولي لهم " ألا يتقون " نحو: (وإذا سألك عبادى عني فإني قريب) [البقرة: 186] أو استئناف أتبعه إرساله إليهم تعجيبًا لموسى من أمنهم العواقب، وعدم خوفهم عقاب الله (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) بعد التكذيب فأعجز عن جوابهم (فَأَرْسِلْ) جبريل (إِلَى هَارُونَ) اجعله نبيًا يقوي قلبي، ويتكلم حيث تعروني حبسة (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) تبعة ذنب وهي قصاص قتل قبطي قتله موسى (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به فلم يتم أمر الرسالة (قَالَ كَلَّا) لن يقتلوك (فَاذْهَبَا) عطف على ما دل عليه كلا، أي: ارتدع عما تظن فاذهب أنت وهارون، وغلب الحاضر (بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) لما يجري بينكم، وبين

عدوكم، فأظهركم عليه، فلا تخف ذكر " معكم " بلفظ الجمع كـ " مستمعون " للتعظيم مثل نفسه بمن حضر محضرًا ليصغى إلى مقاولتهم فيمد أولياءه، ومعكم إما حال، أو ظرف مقدم، أو خبر أول، (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لوحدة المرسل به وحد الرسول أو لاتحادهما في الأخوة، أو لأنه أراد كل واحد منهما، أو لأنه مصدر وصف به أي: ذوو رسالة (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) خلهم يذهبوا معنا إلى الشام (قَالَ) فرعون بعدما أتيا وأديا

رسالتهما: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا) في منازلنا (وَلِيدًا) طفلاً (وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) ثلاثين سنة (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَتِي فَعَلْتَ) أي: قتل القبطي، وبخه بما جرى على يده، وعظمه حيث أتي به مجملاً كأنه لفظاعته لا ينطق به بعدما عدد عليه نعمه، (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) الجاحدين لنعمتي (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الجاهلين لم يأتني من الله شيء (فَفَرَرْتُ منِكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي ربَي حُكْمًا) نبوة أو فهمًا وعلمًا (وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: تلك التربية نعمة، لأنك اتخذتهم عبيدًا، وما اتخذتني عبدًا فهذا اعتراف بنعمته، أو تلك نعمة لأجل أنك عبدتهم، ولولا ذلك لكفلني أهلي، وما كنت إلى تربيتك محتاجًا يعني هذا منة، ونعمة لا حقيقة تحتها، بل نقمة في الحقيقة، أو تلك إشارة إلى ما في الذهن، وقوله أن عبدت إلخ عطف بيانها أي: تعبيدك إياهم منة تمنها عليَّ، وليست إلا غاية نقمة وبلية، أو همزة الإنكار مقدرة أي: أو تلك نعمة، وقوله: أن عبدت إلخ علة للإنكار، أي: هل يبقي إحسان مع تلك الإساءات، وكيف تقابله؟!، (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ) أي: أي شيء هو وهذا إنكار منه أن يكون إله غيره (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) ما بين الجنسين (إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ) من أهل الإيقان والنظر الصحيح (قَالَ) فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ) من أشراف قومه تعجبًا: (أَلاَ تَسْتَمِعُونَ) هذا كأنه سمع ما لم يسمع قط (قَالَ) موسى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) حين لم يكن فرعون، ولا قومه إشارة إلى أن الإله لابد أن يكون قديمًا فالحادث لا يليق (قَالَ) فرعون: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) حيث يتكلم بما

(34)

لم نعهد أن نسمعه، وينفي ما اتفق عليه الخلق من ألوهيتي (قَالَ) موسى (رَبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَينَهُمَا) فإن طلوع الشمس من جانب، والغروب من آخر علي هيئة مستقيمة مع اختلاف المطالع في فصول السنة من أظهر ما استدل به (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كنتم عقلاء عارض [إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ] " به قيل: سؤال فرعون بقوله، وما رب العالمين، عن حقيقة المرسل، وموسى عرفه بأظهر خواصه وآثاره، إشارة إلى أن بيان حقيقته ممتنع، ولهذا قال: إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها ثم استعجب فرعون لأنه سأل عن الحقيقة، وأجيب بالأفعال، ثم عدل إلى ما أقرب إلى الناظر، وأوضح عند التأمل، ثم صرح فرعون بجنونه لأنه يسأل عن شيء، ويجيب عن آخر، ثم استدل بشيء من غرائب آثاره الظاهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته، فعدل فرعون إلي التهديد (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ منَ المَسْجُونينَ) اللام للعهد فسجنه هوة بعيدة العمق مظلمة، أي: ممن عرفت حالهم في السجن (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) الواو للحال، أي أتفعل بي ذلك، ولو جئتك بشيء يبين لك صدقي؟ (قَالَ فَأتِ بِهِ إِن كنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك أو في أن لك بينة (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مبِينٌ) ظاهر ثعبانيته (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) تتلألأ كالشمس لها شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسد الأفق. * * * (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ

مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) * * * (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) ظرف في محال الحال: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) في سحره (يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مَنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ) بأن يذهب بقلوب الناس، فيكثر أعوانه، فيغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) من المؤامرة وهى المشاورة، أي: أشيروا عليَّ فيه ما أصنع أو من الأمر أي: أي أمر تأمرون؟ وعلى الوجهين كلامه من فرط الدهش (قَالُوا أَرْجِهْ) أخِّره (وَأَخَاهُ) أو احبسهما (وَابْعَثْ) شرطًا (فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ) يجمعون السحرة (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) لعلهم يغلبونه (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الميقات وقت الضحى، واليوم يوم عيدهم (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) حثهم على الانطلاق كما تقول لعبدك هل أنت منطلق إلى فلان؟ (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) ولا نتبع موسى (إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) يعني: إن غلبتم

لكم الأجر، والقربة " فإذًا " جواب وجزاء (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) هذا إذن منه في تقديم ما هم فاعلوه ألبتَّة (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) جمع عصا (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) أقسموا بعزته لفرط اعتقادهم الغلبة (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع (مَا يَأفِكُونَ) ما يزورونه أو ما مصدرية، وتسمية المأفوك إفكًا للمبالغة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) لعلمهم أن هذا وراء السحر يعني لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض كأنهم أخذوا فطرحوا طرحًا على وجوههم (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [فواعدكم] ذلك وتواطأتم عليه، أو فعلمكم شيئًا دون شيء يريد [التلبيس] على قومه من خوف اعتقادهم حقيته، (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) مختلفات اليد اليمني والرجل اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لَا ضَيْرَ) لا ضرر لنا في ذلك (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) نرجع إليه، وهو لا يضيع أجر الصابرين (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا) لأن كنا

(52)

(أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) لموسى من القبط، أو بالله من أهل زماننا، وقد مر في سورة الأعراف وطه بسطها فارجع إليهما. * * * (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) * * * (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) من مصر، وذلك بعد مدة متطاولة هو بين أظهر القبط يدعوهم إلى الله، وهم لا يزيدون سوى الكفر، والإصرار (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده، وهذا علة الأمر بالإسراء لأنه سبب هلاك الأعداء (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) حين علم خروجهم، (فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) يحشرون العساكر ليتبعوهم فيأخذوهم (إِنَّ هَؤُلَاءِ) أي: قال لهم إن بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ) طائفة قليلة (قَلِيلُونَ) صفة، أو خبر بعد خبر، قيل: إنهم ستمائة وسبعون ألفًا،

ومقدمة جيش فرعون سبعمائة ألف (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) لفاعلون ما يغيظنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) لَجَمْعٌ من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، وهذه معاذيره لئلا يظن به الخوف (فَأَخْرَجْنَاهُمْ) من كلام الله لا حكاية كلامهم، أي: بهذه الداعية (مِنْ جَنَّاتٍ) بساتين بنوا على شاطئ النيل (وَعُيُونٍ) أنهار جارية (وَكُنُوزٍ) أموال جمعوها ولم يعطوا حق الله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) منازل حسنة (كَذَلِكَ) الأمر وأخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا (وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) أعطيناهم ديارهم، وأموالهم (فَأَتْبَعُوهُمْ) فلحقوهم (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت الشروق، أي: طلوع الشمس (فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ) رأى كل منهما الآخر (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ملحقون (قَالَ) موسى ثقة بوعد الله (كَلَّا) لن يدركوكم (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)

بالنصرة (سَيَهْدِينِ) طريق النجاة (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب) أن مفسرة (بِّعَصَاكَ البَحْرَ) القلزم (فَانفَلَقَ) أي: ضرب فانشق، أوحى إلى البحر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، فبات البحر تلك الليلة يضطرب يضرب بعضه بعضًا فرقًا من الله، وانتظارًا لما أمره الله (فَكانَ كل فِرْقٍ) كل قطعة من البحر (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) كالجبل الضخم (وَأَزْلَفْنَا) قربنا (ثَمَّ الْآخَرِينَ) فرعون وقومه حتى

(69)

دخلوا مداخلهم من أثرهم (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) عبرة وعظة (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) ما آمن منهم إلا رجل وامرأتان (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب (الرَّحِيمُ) بأوليائه. * * * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا

يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) * * * (وَاتْلُ) يا محمد (عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيه وَقَوْمِهِ مَا تَعبدُونَ) سألهم ليريهم أن معبودهم لا يستحق العبادَة (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ) ندوم (لَهَا عَاكِفِينَ) عابدين، أطنبوا في الجواب كمن يفتخر بصنيعه (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) يسمعون دعاءكم (إِذْ تَدْعُونَ) ومجيئه مضارعًا مع إذ على حكاية الحال الماضية استحضارًا لها، (أَوْ يَنفَعُونَكُمْ) إذ تعبدونها (أَوْ يَضُرُّونَ) إذ تعرضون عنها (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) فقلدناهم أسندوا فعلهم إلى التقليد

المحض (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) فإن التقدم، والأولية لا يكون برهانًا على الصحة (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أراد أن يقول عدو لكم لكن بنى الكلام على التعريض، لأنه أدخل في القبول كقولك لمن يسيء الأدب: ليت والدي أدبني، يعني هل عرفتم أنكم عبدتم أعداءكم، قال تعالى: " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " [مريم: 82] قيل معناه: عدو لي لو عبدتهم، فلهذا لا أعبدهم، وقيل من باب القلب، أي: إني عدو لهم، ووحد العدو لأنه في الأصل مصدر (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) منقطع، أو متصل لأنَّهُم يعبدون الأصنام مع الله (الذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى طريق مصالح معاشي ومعادي، وعطف الجملة الاسمية بالفاء للدلالة على استمرار الهداية المتأخرة (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) تكرار الموصول للدلالة على استقلال كل باقتضاء الحكم (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) عطف على الصلة من غير إعادة الموصول، لأن الصحة والمرض في الأكثر يتبعان المأكول، والمشروب، وراعى الأدب كما حكى الله تعالى عن الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن: 15] وأيضًا غرضه تعداد النعم، والمرض من النقم بحسب الظاهر، وأما الإماتة مع أنها وسيلة للسعداء إلى نيل الفوز، وللأشقياء إلى تقليل أسباب عذابهم، وتطهير الدنيا من دنسهم، فبموت الظالم تفرح الطير في أوكارها، فأمر لا ضرر فيه، لأنها غير محسوس إنما الضرر في مقدماتها أعني المرض (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)

يعني إن صدر عني صغيرة (رَبِّ هَبْ لِي حكْمًا) علمًا وفهمًا أو نبوة (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح الذين ما أذنبوا (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ذكرًا جميلاً، وثناء حسنًا بعدي إلى القيامة أُذكَر به، ويقتدى بي في الخير، وقيل صادقًا من ذريتي يدعو الناس إلى الله (وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي: ممن لهم الجنة كأخص أموالهم (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) وهذا قبل أن يتبين أنه عدو لله كما مر في سورة التوبة (وَلاَ تحزِني) لا تفضحني ولا تذلني (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) يبعث الخلائق، أو هؤلاء المشركون، وجميع الأنبياء عليهم السلام مشفقون من سوء العاقبة، فإنه لا معقب لحكمه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، أو لا تخزني بإهانة والدي، وقد ورد أن إبراهيم يلقى أباه في القيامة، فيقول: وعدك أن لا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرَّمت الجنة على الكافرين (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) لكن من أتى بقلب عن الشرك، أو صحيح لا مريض كالمنافق يسلم وينتفع، أو حال من أتى بهذا القلب ينفعه، أو لا ينفع شيء إلا حال من أتى الله به، أو لا ينفعان أحد إلا سليم القلب، لأنه صرف المال في الخير، وأرشد الأولاد أو جعل سلامة قلبه من جنسهما كما تقول: هل لك مال وأولاد؟ فيقول: مالي، وأولادي غنى قلبي

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) قربت لهم عطف على لا ينفع (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أظهرت (لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) كما زعمتم أنَّهم شفعاء (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) بدفع العذاب عن أنفسهم، فإنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم (فَكُبْكِبُوا) ألقوا، والكبكبة: تكرير الكب جعل تكرير لفظه لتكرير معناه، كأنه ينكب فيها مرة بعد أخرى (فِيهَا) في جهنم (هُمْ) المعبودون (وَالْغَاوُونَ) العابدون أو التابعون والمتبعون (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) مبعوه (أَجْمَعُونَ) تأكيد للجنود (قَالُوا) السفلة للكبراء (وَهُمْ فِيهَا يَختصِمُون) جملة حالية معترضة بين القول ومقوله (تَاللهِ إِنْ كُنَّا) أي. إنه كنا (لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) حيثُ كنا لكم تبعًا، أو ضمير قالوا للأصنام، وعابديها وتسويتهم أنَّهم عبدوها، واتخذوها آلهة (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا

(105)

الْمُجْرِمُونَ) على الوجه الأول من باب الالتفات، وعلى الثاني المراد من المجرمون آباؤهم وسادتهم (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) كما للمؤمنن (وَلاَ) من (صَدِيقٍ حَمِيمٍ) من الاحتمام، أي: الاهتمام، أو من الحامة، أي: الخاصة، ولتعدد أنواع [الشفعاء] من الملك والنبي والولي جمع الشفيع بخلاف الصديق، ولأن الصديق الحقيقي قليل ولذلك قيل هو اسم لا معنى له (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ) نصب بجواب (لو) التي للتمني (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ) المذكور من قصة إبراهيم (لَآيَةً) حجة وعظة، فكم فيها من الإرشاد والتنبيه والاستدلال على ترتيب أنيق نصحهم ووعدهم وأوعدهم بأحسن طريق (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر (الرَّحِيمُ) بالإمهال. * * * (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)

إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) * * * (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) القوم بدليل تصغيرها على قويمة مؤنثة (الْمُرْسَلِينَ) فإن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) لأنه منهم (أَلَا تَتَّقُونَ) الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) عرفتموني قبل الرسالة بالأمانة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) على ما أدعوكم إليه (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرره تأكيدًا، وتنبيهًا على أن كلاًّ من الأمانة، وحسم الطمع موجب لقبول النصح، فكيف إذا اجتمعا (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ) الهمزة دلإنكار (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الواو للحال، وأتباعه الحاكة والسوقة حينئذ (قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ما أعلم صنائعهم، وليس لي من دناءتهم شيء إنما كلفت بالدعوة المطلقة (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي) أي: لا أطلب إلا التصديق فيما جئت به، والله مطلع على السرائر (لَوْ تَشْعُرُونَ) لعلمتم ذلك، قيل مرادهم أنَّهم سفلة اتبعوك لعزة ولقمة لا لاعتقاد ويقين كما قال تعالى حكاية: (الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) [هود: 27] فأجاب بأني لا أعلم أعمالهم،

(123)

وأنَّهم مخلصون فيها أو لا وأنا لا أطلب سوى التصديق، وحسابهم على الله (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) فقيرًا كان أو غنيًّا شريفًا أو دنيًّا، (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فليس لي طرد أحد واجتباء آخر (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ) عما تقول (لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ) المقتولين بالحجارة، أو المشتومين (قَالَ رَبِّ إِن قَوْمِي كَذبُونِ) وما دعا وما شكا عليهم، وعنهم إلا بعد أيام متطاولة يدعوهم، وهم في كفرهم يعمهون (فَافْتَحْ) فاحكم (بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الُمؤْمِنِينَ) من بلاء تنزل عليهم، أو من كيدهم وشؤمهم (فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفُلْكِ المَشْحُون) المملوء من أنواع الأشياء (ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ) أي: بعد إنجاء المؤمنين (الْبَاقِينَ) من قومه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) دالة على أن المكذبين في معرض العقوبة ولو بعد حين (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). * * * (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ

عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) * * * (كَذبَتْ عَادٌ) التأنيث باعتبار القبيلة، وهو في الأصل اسم أبيهم (الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ) هو وأيضًا منهم (أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) تصدير القصص بمضمون عبارة واحدة ليعلم أن كلمتهم متفقة، وإن اختلف في بعض الفروع (أَتَبنونَ بِكُلِّ رِيعٍ) مكان مرتفع (آيَةً) عمارة مشيدة عالية كآية في الشهرة (تَعْبَثُونَ) في بنائها لا تحتاجون إليها، بل للشهرة قيل: بنوا على الطرق عمارات كالقصور يجلسون فيها يسخرون بمن يمر، أو المراد منها بروج الحمام، فإنهم متولعون بها (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) قصورًا أو حصونًا، أو مآخذ الماء (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ترجون الخلود (وَإِذَا بَطَشْتُمْ) سطوتم (بَطَشْتُمْ

(141)

جَبَّارِينَ) متسلطين ظالمين بلا رحمة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فإن أعمالكم تورث الخزي والندامة (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ) أعطاكم (بِمَا تَعْلَمُونَ) من الخير نبههم على نعم الله مجملاً، ثم فصلها بقوله (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ثم أوعدهم فقال (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن بقيتم على الكفر والكفران (قَالوا سَوَاءٌ) مستو (عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) أي: مستو علينا وعظك وعدمه، فإنا على ما نحن فيه لا نرعوي عنه (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ) ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأوائل، ونحن سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا نشور، أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادتهم يكذبون ويزخرفون، ومن قرأ " خَلْقُ " بفتح الخاء وسكوت اللام، فالمراد اختلاقهم واختراعهم (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) فلا نخاف مما تخاف علينا وتخوفنا به (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ) يعني بريح صرصر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). * * * (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ

الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) * * * (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) إنكار لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم، أو تذكير بالنعمة في تخلية الله إياهم، وما يتنعمون فيه آمنين، فالهمزة للإنكار، أو للتقرير، و " ما " موصولة، أي: في الذي استقر في هذا المكان من النعم، ثم فسر المجمل بقوله: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) لطيف ضامر طلع إناث النخل بالنسبة إلى فحولها لطيف، وطلع البرني ألطف من غيره، أو مكسور مظلوم من كثرة الثمر، وإفراد النخل لفضله على الأشجار (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) حاذقين متقنين لنحتها، قيل من رأى منازلهم يرأى عجبًا، أو أشرين بطرين (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)

(160)

رؤسائهم، وقادتهم (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالكفر، وأنواع المعاصي (وَلَا يُصْلِحُونَ) قطعًا (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الذين سحروا كثيرًا حتى غلبوا على عقولهم، أو من الذين لهم سحر، أي: [رئة] يعني أنت لست بملك، فكيف تكون نبيًّا؟! (مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مثْلُنا) هذا على الوجه الثاني تأكيد (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ) دعا الله تعالى فأخرجها من الصخرة في محضرهم باقتراحهم (لها شِرْبٌ) نصيب من الماء (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ معْلُومٍ) هو يوم لا تشرب فيه الماء (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عظم اليوم لعظم ما يحل فيه (فعَقَرُوهَا) أسند العقر إليهم لأن كلهم راضون به (فَأَصْبَحُوا نَادِمينَ) عند معاينة العذاب (فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ) زلزال مع صيحة اقتلعت قلوبهم بهما (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). * * * (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ

إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) * * * (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)) أي: أتأتون من بين العالمين الذكران يعني إنكم مختصون بتلك الفاحشة لا يشارككم شيء، أو أتأتون الذكران من بين أولاد آدم مع غلبة الإناث الموضوع له (وَتَذَرونَ ما خَلَقَ لَكمْ ربكُم مِّن أَروَاجِكُم) (من) بيان (لما) (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) مفرطون في المعصية، حيث تختصون بفاحشة لا تشارككم بهيمة (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عما تنازعنا فيه (يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من أرضنا (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) من المبغضين غاية البغض (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) من وباله (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) أهل بيته ومن تبعه (أَجْمَعِينَ) بأن أخرجناهم من بينهم حين حلول العذاب (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) أي: موصوفة بكونها في الباقين في العذاب هي امرأة

(176)

لوط خرجت معهم، وهم مأمورون بأن لا يلتفتوا إلى القرية إذا سمعوا صيحة العذاب وهى التفتت لأنها كانت تحبهم راضية بعملهم، فأهلكها الله بحجارة من السماء، أو هي ما خرجت معهم (ثُمَّ دَمَّرْنَا) أهلكنا (الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) قلب الله ديارهم، وحين التقليب أمطر عليهم الحجارة، أو إمطار الحجارة على مسافريهم (فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) مطرهم، ولام المنذرين للجنس، لأنه يجب أن يكون فاعل المدح والذم جنسًا، أو مضافًا إليه ليكون فيه إبهام، ويكون المخصوص بالمدح أو الذم تفسيره (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). * * * (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) * * * (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) شجرة كانوا يعبدونها (الُمرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهم شُعَيْبٌ) لم يقل هنا أخوهم مع أنه أخوهم نسبًا، لأنه نسبهم إلى عبادة شجرة فقطع نسبة الأخوة بينهم، والأصح أنهم أهل مدين، ولهذا وعظهم، وأمرهم بوفاء الكيل كما في

قصة مدين سواء، وعن بعض: هم غيرهم، وشعيب من أهل مدين لا منهم، فلهذا لم يقل أخوهم (أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان السوي قيل القسطاس القبان (وَلاَ تَبْخسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) لا تنقصوا شيئًا من حقوقهم (وَلاَ تَعْثَوْا) لا تغلوا في الفساد (في الأَرْضِ) حال كونكم (مُفسِدِينَ) بالقتل، وقطع الطريق (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ) ذوى الجبلة (الْأَوَّلِينَ) يعني: وخلق الخلائق الأولين (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) أتوا بالواو هؤلاء دون قوم ثمود دلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه، وكذا أكدوا في نفيها عنه بقولهم: (وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبِينَ) والظن بمعنى العلم بدليل " إنْ " واللام، ولذا أيضًا ما طلبوا البرهان عنه، بل قطعوا بما يدل على اليأس، حيث قالوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا) قطعة، أو عذابًا (مِّنَ السَّمَاءِ إِن كنتَ مِنَ الصَّادقِينَ) في الدعوى (قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بما أنتم تستحقون (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) سلط عليهم حر شديد، فأظلتهم سحابة، واستظلوا جميعًا بظلها، فخرجت نار من السحابة، وأحرقتهم، وعن بعض: كشف عنهم الظلة، وحمى عليهم الشمس فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى

(192)

(إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) هذا هو العلة في نزول العذاب على الأمم، ولو آمن أكثرهم كما آمن قريش لأمهلهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ) الغالب المنتقم من الأعداء (الرَّحِيمُ) على أوليائه، وهذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار بعدما فصلها مكررة تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديدًا لمن خالفه. * * * (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا

كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) * * * (وَإِنَّهُ) القرآن (لَتَنْزِيلُ) منزل (رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ) الباء للتعدية (الرُّوحُ الأَمِينُ) جبريل (عَلَى قَلْبِكَ) لأنه بلسانك ولغتك، فتفهمه أولاً من غير أن تلاحظ الألفاظ كيف جرت، ولو لم يكن بلغتك لكان نازلاً على سمعك تسمع الألفاظ، أولاً ثم تخرج المعاني منها وإن كنت ماهرًا بتلك اللغة أيضًا (لِتَكُونَ مِنَ الُمنذِرِينَ) عن كل ما لا يرضى به الله (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) واضح المعنى متعلق

بـ نزل، وقيل بالمنذرين أي: لتكون ممن أنذروا بلغة العرب، وهم خمسة هود، وصالح، وإسماعيل، وشعيب، ومحمد عليهم أفضل الصلوات وأتمها ومن التحيات أزكاها (وَإِنَّهُ) أي: ذكر القرآن (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) كتبهم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) على صحته (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: أليس علم علمائهم بأنه من الله دليلاً دالاً على صحته، والمراد العدول منهم كعبد الله بن سلام وسلمان، وقرئ تكن بالتاء مع رفع آية فآية اسم كان، ولهم خبره " وأن يعلمه " إلخ بدل من الاسم، أو اسم كان ضمير القصة " وأن يعلمه " إلخ مبتدأ أو آية خبره، والجملة خبر كان (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ) القرآن الفصيح الذي عجز دونه أفصح فصحاء العرب (عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الذين لا يدرون من العربية (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) لفرط عنادهم، قال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) الآية [يونس: 96]، قيل: معناه، ولو نزلنا القرآن بلغة العجم على بعض الأعجمين فقرأه على أهل مكة ما كانوا به يؤمنون قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) [فصلت: 44] (كَذَلِكَ سَلَكنَاهُ) أدخلنا الكفر والتكذيب (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) فلا ينفعهم حينئذ (فَيَأْتِيَهم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) بإتيان العذاب (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) يتمنون النظرة (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) وهم يطلبون النظرة عند

نزول العذاب كما قالوا: " فأتنا بما تعدنا " [الأعراف: 70] نقل أنه لما نزل لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، قالوا: متى هذا العذاب؟ فنزل " أفبعذابنا يستعجلون "؟! (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) أينفعهم تمتعهم في أيام متطاولة، ولم يدفع شيئًا من العذاب عنهم (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) رسل ينذرونهم (ذِكْرَى) مصدر لـ منذرون لأن أنذر وذكر متقاربان، أو مفعول له أي: منذرون لأجل الموعظة، أو أهلكناهم بعد إلزام الحجة تذكره وعبرة لغيرهم (وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) فنهلك قبل الإنذار (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) نزل به الروح الأمين لا الشياطين (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) ما يصح للشياطين أن ينزلوا به فإنهم ينزلون للفساد، وما في القرآن إلا الرشاد (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) إنزاله وإن أرادوا (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْع) عن استراق السمع من السماء بحيث يكون المسموع كلامًا مفيدًا تامًّا (لَمَعْزُولُونَ) محجوبون كما قالوا: (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) الآية [الجن: 9] (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا

آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) عن ابن عباس يحذر به غيره يقول: يا محمد أنت أكرم خلقي، ولو اتخذت إلهًا غيري لعذبتك (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) فإن الاعتناء بشأنهم [أهم] (1) (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) لين جانبك، وتواضع (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لا من المنافقين، فإنهم أيضًا يتبعونك بحسب الظاهر (فَإِنْ عَصَوْكَ) لم يتبعوك (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) الذي يقدر على قهر الأعداء، ونصر الأولياء يكفيك شر من يعصيك (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ)

_ (1) في الأصل وفو والتصويب من البيضاوي.

إلى الصلاة وحدك (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) عطف على كافٍ يراك، أي: تصرفك بأركان الصلاة فيما بين المصلين يعني: يراك إذا صليت منفردًا، وإذا صليت في جماعة أو تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين، أو تقلبك في أصلاب آبائك الأنبياء من نبي إلى نبي، حتى أخرك يعني: توكل على من يراك في أحوال اجتهادك في مرضاته (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) بعدما قال: " وما تنزلت به الشياطين "، قال: هل أخبركم بأن الشياطين على من تتنزل (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ) كذاب (أَثِيمٍ) كثير الإثم هم الكهنة والمنجمون (يُلْقُون السَّمْعَ) أي: يسترق الشياطين السمع من السماء فيختطفون كلمة من الملائكة ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس مع مائة كذبة، وفي الحديث " ربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقى قبل أن يدركه "، وهذا يدل على أن الاستراق حينئذ أيضًا واقع، أو معناه يلقى الأفاكون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنون وأمارات أكثرها أكاذيب (وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) قل من يصدق منهم (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) أي: الضالون يعني: شعراء الكفار الذين يهجون النبي عليه السلام، ويقولون: نحن نقول مثل ما يقول محمد يجتمع إليهم غواة يستمعون ويروون عنهم (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ) من أودية الكلام (يَهِيمُونَ) يذهبون كالمجنون، فإن أكثر الأشعار وأحسنها خيالات لا حقيقة لها (وَأَنَّهُمْ

يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) فعلم أن القرآن ليس بشعر، وأنت لست بشاعر، فإن أتباعك هداة مهديون، والقرآن كله حق صدق وأنت بالصدق موصوف، وبالوفاء معروف (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات) استثناء للشعراء المؤمنين المادحين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهاجين لأعداء الله (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا) في شعرهم، وغير شعرهم (وَانتصَرُوا) من الكفار بهجوهم (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) أي: مكافأة هجاتهم هجوا للمسلمين لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " جاء حسان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إليه عليه السلام، وهم يبكون، فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فأنزل الله " إلا الذين آمنوا " الآية (وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا) بأن ذموا قومًا، ومدحوا قومًا بباطل، وتكلموا بالأكاذيب (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي: مرجع يرجعون بعد الموت، فيه تهديد شديد وسياق الآية، وإن كان في الكفار وشعرائهم لكن عام لكل ظالم، ولهذا كتب الصديق رضى الله عنه عند الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به، ورجائي فيه، وإن [يجر] ويبدل فلا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. * * *

سورة النمل

سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع وتسعونَ آية وسبع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) * * * (طس) عن ابن عباس: هو من أسماء الله (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ) إشارة إلى آيات تلك السورة (وَكِتَابٍ مُبِينٍ): وهو القرآن، وعطفه لعطف إحدى الصفتين على

الأخرى (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنينَ) حالان من الآيات، أو خبران لمحذوف، أو بدلاً من الآيات، أو خبران بعد خبر (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) تكرير الضمير للاختصاص، والواو للعطف أو للحال (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) أي: أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) عنها لا يدركون قباحتها (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ العَذَاب): في الدارين (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ): ما أحدٌ أشد منهم خسرانًا (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى) لتؤتى (الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي حكيم أيّ عليم، ولهذا المعنى نكرهما، وهذا تمهيد لذكر هذه القصص التي تأتي، فكم فيها من لطائف حكمه، ودقائق علمه (إِذ قَالَ) مقدر باذكر، كأنه قال خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، أو متعلق بـ عليم (مُوسَى لأَهْلِهِ) حين مسيره من مدين إلى مصر، وقد ضل الطريق (إِنِّي آنسْتُ): أبصرت (نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا): من أهل النار (بِخَبَرٍ) عن حال الطريق (أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ) الشهاب: الشعلة، والقبس: النار المقتبسة من جمر ونحوه، فهو إما بدل أو صفة، وقراءة الإضافة من إضافة الخاص إلى العام (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) رجاء أن تستدفئوا بها من البرد فإنهم في ليل شتوي (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي: بأن، أو (أن) مفسرة، فإن في النداء معنى القول (مَنْ في النَّارِ) عن ابن عباس وغيره أي: قدس من في النار، وهو الله سبحانه، والنار نوره تعالى على معنى أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها،

أو المراد من في طلب النار وهو موسى، أو المراد الملائكة، فإن فيها ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس (وَمَنْ حَوْلَهَا) الملائكة، أو موسى (وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) من تمام ما نودي به، لئلا يتوهم أنه مكاني يشبه شيئًا من مخلوقاته (يَا مُوسَى إِنه) الضمير للشأن (أَنا اللهُ) أو راجع إلى المتكلم، و " أنا " خبره، والله بيان له، أو خبر بعد خبر (العَزِيزُ): الغالب (الحَكيمُ) فيما يفعله (وَأَلْقِ عصاكَ) عطف على بورك، أي: قيل له بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك (فَلَمَّا رَآهَا) أي: فلما ألقى رآها (تَهْتَزُّ): تتحرك (كَأَنَّهَا جَانٌّ): حية خفيفة سريعة، (وَلَّى مُدْبِرًا) أي: هرب موسى، (وَلَمْ يُعَقِّبْ): لم يرجع، (يَا مُوسَى) أي: نودي يا موسى، (لاَ تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الُمرْسَلُونَ) حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق، قيل معناه: من أمنته، من عذابي لا يخاف من حية، (إِلَّا مَن ظَلَمَ)، لكن من ظلم من العباد نفسه، (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ): تاب وعمل صالحًا، (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أغفر له ظلمه أي: لستم أيها المرسلون من الظالمين التائبين، فلا خوف عليكم بوجه، أو لكن من ظلم قبل النبوة، ثم تاب فإني أغفر له، ومن غفر له لا يخاف، أو الاستثناء متصل أي: لا يخافون إلا الذين ظلموا بارتكاب الصغائر حينئذ تم الكلام، ويكون (ثُمَّ بَدَّلَ) عطفًا على محذوف تقديره: فمن ظلم ثم

(15)

بدل إلخ، فإني أغفر له، أو معناه لا يخافون إلا من فرط منه ما غفر له فإنه يخاف، وقد تحقق أن المغفور له المرحوم لا يخاف من الذنب المغفور ألبتَّة، فإذن لا يخاف منهم أحد ألبتَّة على القطع، (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي: في جيب درعك، وقد نقل أنه كان عليه مدرعة من صوف لا كم لها، (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) كأنها قطعة قمر تتلألأ، (مِنْ غَيْرِ سُوء) كبرص، (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) أي: اذهب في تسع آيات، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أو معناه أدخل يدك في جملة تسع آيات وعدادهن، وعلى هذا (إلى فرعون) متعلق بمحذوف، أي: مبعوثًا مرسلاً إليه، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا) بأن جاءهم موسى بها، (مُبْصِرَةً): ظاهرة للناظرين، (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا): كذبوا، (بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) أي: وقد استيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، الواو للحال (ظُلْمًا)، أي: جحدوا للظلم، (وَعُلُوًّا): وللترفع والتكبر عن اتباعه، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الُمفْسِدِينَ) في الدارين. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ

أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) * * * (وَلَقَدْ آليْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) أي علم، (وَقَالَا الْحَمْدُ لله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ): شكرا على ما أعطاهما من العلم، (وَوَرِثَ

سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) نبوته، وعلمه وملكه دون سائر أولاده، (وَقَالَ) سليمان يعدد نعم الله عليه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ): نفهم ما يقصد بصوته، (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي: أوتينا ما يحتاج إليه الملك، أو المراد الكثرة كما تقول: فلان يعلم كل شيء، (إِن هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ وَحُشِرَ): جمع، (لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ) وكانوا هم حول الإنس، (وَالإنسِ) وهم يلونه، (وَالطيْرِ) وهن فوق رأسه فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها، (فهُمْ يُوزَعُون)

يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا، (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ) هو بالشام، أو بالطائف، ولما كان إتيانهم من فوق عدَّي بعلى، أو المراد قطعه كما تقول: أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره، (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) لما نسب إليهم ما يختص به العقلاء بحسب الظاهر خاطبهم خطاب العقلاء، (لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ) أي: لا تكونوا حيث أنتم ليحطمنكم، استئناف، أو بدل من الأمر، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) أنَّهم يحطمونكم، فيه إشعار بأنَّهم لو علموا لم يحطموا؛ لأنَّهُم جنود نبي، (فتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) أي: تبسم مقدرًّا الضحك، فإن المتبسم يصير ضاحكًا إذا اتصل وداوم، وهو للتعجب أو للسرور، (مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ): ألهمني شكرها، أو أولعني وحرصني به، (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي): عداد، (عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ): الكاملين في الصلاح، (وَتَفَقَّدَ): تعرف، (الطيْرَ) فلم ير فيها الهدهد، (فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الهُدْهُدَ) كأنه ظن أنه حاضر، ولا يراه لساتر، ثم لاح أنه غائب فقال: (أَمْ كانَ) بل أكان، (مِنَ الغَائِبِينَ) كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، عن ابن عباس: إن الهدهد يدل سليمان على الماء ينظر الماء تحت الأرض، ويعرف كم مساحة بعده، ويخبره فيأمر الجن بالحفر، فنزل بفلاة يومًا ولم يجده فقال:

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، بحجة تبين عذره، حلف على أحد الثلاثة التعذيب أو الذبح أو العفو بشرط العذر، أو الحلف على الأولين إن لم يكن الثالث، والثالث للتقابل، أدخل في سلكهما لا أنه محلوف عليه بالحقيقة، (فَمَكَثَ) الهدهد، (غَيْرَ بَعِيدٍ): زمانًا غير مديد، (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ): علمت ما لم تعلمه، (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ): مدينة باليمن، أو اسم قبيلة هم ملوك اليمن، (بِنَبَأٍ): بخبر، (يَقِينٍ إِنِّي وَجَدت امْرَأَةً) أي: بلقيس، (تَمْلِكُهُمْ) الضمير [لسبإٍ] باعتبار أهلها، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، يحتاج إليه الملوك، (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) بالنسبة إلى عروش أمثالها من ذهب مكلل بأنواع

الجواهر، (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ): فلا يهتدون إلى قبائح أعمالهم، (فَصَدَّهُمْ): منعهم، (عَنِ السَّبِيلِ): طريق الحق، (فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) إليه، (أَلَّا يَسْجُدُوا) أي: صدهم أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ومن قرأ " ألَا " بالتخفيف، فمعناه: ألا يا قوم اسجدوا، وهو استئناف أمر من الله بالسجود، أو من الهدهد، أو من سليمان، (لله الذِي يُخْرِجُ الخبْءَ): يظهر ما خفى في غيره، وهو عام لإنزال المطر، وإنبات النبات، وإنشاء البنين، والبنات، وغيرها، (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) فله استحقاق السجود لا لكرة تدور علي الفلك بأمر مديرها، (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ): المحيط بجملة المكوَّنات، (قالَ) سليمان: (سَنَنْظُرُ)، نتعرف من النظر بمعنى التأمل، (أَصَدَقتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذبِينَ) أي: أم كذبت فالتغيير للمبالغة، ومحافظ الفواصل، (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ)، تنح عنهم إلى مكان قريب، (فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ): يردون بالجواب، أو ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول، (قَالَتْ) بعدما ألقي الكتاب إليها: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ) خاطبت عظماء قومها، (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) لوجازته وفصاحته، أو لأنه مختوم أو لشرف صاحبه، أو لغرابتة من جهات،

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ) استئناف، (وَإِنِّهُ) أي: المكتوب أو المضمون، (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وعن السلف لم يكتب أحد قبله البسملة، (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) أي: المقصود ألا تتكبروا عليَّ، أو عليكم أن لا تتكبروا علي، فـ (أن) مصدرية، (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ): مؤمنين أو منقادين لما أظهر عندهم المعجزة، وهي إلقاء الكتاب على تلك الحالة أمرهم بالإسلام والانقياد، ونقل بعض المفسرين أن عبارة الكتاب " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " الآية، فعلى هذا لما قالت: " أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ " كأن سائلاً قال: بين لي مضمونه ومكتوبه؟ فأجابت وقرأت، وعن بعضهم إن عبارته: من عبد الله سليمان ابن داود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين، فحينئذ كأنَّ سائلاً يقول: بعدما قالت: ألقي إلي، ما فيه؟ فقالت: إن مضمونه، وما فيه من سليمان، وإن فيه بسم الله الرحمن الرحيم إلخ، وترك الواو في " أَلَّا تَعْلُوا " ليدل على أنه المقصود من الكتاب. * * *

(32)

(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) * * *

(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي): أجيبوا لي في أمرى الحادث، (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً): فاصلة (أَمْرًا): ما أبته، (حَتَّى تَشْهَدُونِ): إلا بمحضركم، (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ): عدد كثير، (وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ): بلاء ونجدة في الحرب كان الملأ ثلاثمائة واثنا عشر أميرًا مع كل منهم عشرة آلاف، (وَالأَمْرُ) موكول، (إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ): من المقاتلة والصلح نطعك، (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة وقهرًا، (أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)، ذكرت لهم عاقبة الحرب، وسوء مغبتها، وأنها سجال لا يدرى عاقبتها، (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) هو من كلام الله تصديق لها، وقيل: من تتمة كلامها تقريرًا، وتأكيدًا لما وصفت، (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ): بأيادي رسل، (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ): بأي شيء يرجعون من حالة حتى أعمل بحسب ذلك، عن ابن عباس وغيره قالت: إن قبل الهدية فهو ملك نحاربه، وإن لم يقبل فهو نبي نتبعه، (فَلَمَّا جَاءَ) ما أهدي إليه أو الرسول، (سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ) خطاب للرسل، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب، (بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ): من النبوة والملك والمال، (خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) فلا وقع لهديتكم عندي (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ) التي يرسل بها بعضكم إلى بعض،

(تَفْرَحُونَ) أو بل أنتم بهذه الهدية التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها، وأما أنا فغني عنها، وقيل معناه: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم، وتفرحوا بها، فيكون عبارة عن الرد، والهدية الذهب والجواهر مع الجواري والغلمان (ارْجِعْ) أيها الرسول، (إِلَيْهِمْ فَلَنَأتيَنَّهُم بجُنُودٍ لَا قِبَلَ): لا طاقة، (لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنهَا) من بلدتهم، (أَذلةً)، ذليلين بذهاب أسباب عزهم، (وَهُمْ صَاغرُونَ): أسراء، (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) لما وصف الهدهد عرشها أعجبه فأراد أن يأخذه قبل إسلامها، لأنه يحرم عليه أموالهم بعد الإسلام (1)، أو طلب عرشها ليريها معجزة أخرى، أو أراد اختبار عقلها بأن تعرف عرشها، (قَالَ عِفرِيتٌ): خبيث قوي، (مِّنَ الجِنِّ) بيان له، (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ): من مجلسك للحكومة، وكان يجلس إلى نصف النهار، (وَإِنِّي عَلَيْهِ): على حمله، (لَقَوِيٌّ

_ (1) قول ساقط يكفي في رده ودفعه عدم قبول هديتهم، والراجح - والله أعلم - ما ذكره المصنف بعد ذلك. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

أَمِينٌ) على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان: أريد أسرع من هذا، (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) جنس الكتب السماوية، وهو آصف كاتبه صديق يعلم اسم الله الأعظم، وعن بعض هو [الخضر]، وكان عرشها في اليمن وسليمان في بيت المقدس، (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي: قبل أن ترد طرفك التي أرسلت نحو شيء، وهذا مثل في الإسراع، وآتيك في الموضعين يحتمل الفعل واسم الفاعل، (فَلَمَّا رَآهُ): العرش، (مُسْتَقِرًّا): حاصلاً، (عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) اعترف بأنه فضل، وهو غير مستحق به، (لِيَبْلُوَنِي): يعامل معي معاملة من يختبر عبده، (أَأَشْكُرُ) نعمه فأرى ذلك من فضله بلا حول ولا قوة مني، (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أرى نفسى مستحقًا له أقصر في أداء مواجبه، والفعلان بدلان من مفعول يبلو، (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) ترجع فوائده إليه، (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ) عن شكره، (كَرِيمٌ) بالإفضال على من يكفر، (قَالَ نَكِّرُوا): غيروا، (لَهَا عَرْشَهَا) بتقديم شيء، وتأخير شيء من أجزائه، وتبديل جواهره عن مكانها، (نَنْظُرْ) جواب الأمر، (أَتَهْتَدِي): إلى أنه عرشها، (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ): بلهاء لا تعرف شيئًا [إذ ذكرت عنده] بسخافة العقل، (فَلَمَّا

جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) رعت الحزم فما جزمت لقيام احتمال عقلي، وهذا من ذكائها، (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) بصحة نبوته، (مِنْ قَبْلِهَا): قبل تلك المعجزة التي رأيناها اليوم، (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ): منقادين له قبل مجيئنا، (وَصَدَّهَا): منعها، (مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ): عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام، (إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ)، َ مستأنفة بمنزلة العلة، وقوله: " وصدها " إلى هنا إما من كلام الله، أو من كلام سليمان، أو قوله: " وأوتينا العلم " إلخ من كلام سليمان وقومه عطفوه على جوابها؛ لأنه لاح من جوابها إيمانها بالله ورسوله، حيث جوزت خرق العادة الذي هو من معجزات الأنبياء أي: وأوتينا العلم بالله قبلها، وكنا منقادين لم نزل على دين الله، وغرضهم من هذا الحديث التحدث بنعم الله شكرًا له، وقيل معناه: وصد سليمان بلقيس عن عبادة الشمس، أو صدها عن التوحيد عبادتها للشمس وكونها نشأت بين أظهر المشركين لا سخافة عقلها كما قيل، (قِيلَ لَهَا ادْخلِي الصَّرْحَ) القصر أُمر قبل قدومها فبُني قصر صحنه من زجاج أبيض وتحته

(45)

الماء، وألقي فيه حيوانات البحر، ووضع سريره في صدره، (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماءًا راكدًا، (وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا) وإنما فعل ذلك ليريها عظمته ومعجزته، أو لأنه أراد أن يتزوجها، وقد قيل له: إن قدميها كحافر حمار، فأراد أن يبصرها فرأى أحسن الناس ساقًا (1)، (قَالَ) لها: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ)، مملس، (مِنْ قَوَارِيرَ): زجاج فلا تخافي ولا تكشفي عن ساقيك، (قَالَتْ) لما رأت معجزاته ودعاها إلى الإسلام: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالشرك، (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيما أمر به عباده. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ

__ (1) من الإسرائيليات المنكرة التي يتنزه عنها آحاد المتقين فكيف بنبي مدحه الله تعالى بقوله (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30). اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لله وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ) أي: بأن، (اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ): فريق مؤمن وفريق كافر، (يَخْتَصِمُونَ)، واختصامهم ما مر في سورة الأعراف " قال الذين استكبروا " [الأعراف: 75] الآية، (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ): بالعقوبة فتقولون: ائتنا بما تعدنا، (قَبْلَ الْحَسَنَةِ): التوبة،

فتؤخرونها إلى نزول العذاب، كانوا يقولون إن صدق إيعاده: تبنا حينئذ، زاعمين أنها مقبولة حينئذ، لخاطبهم عدى حسب اعتقادهم، (لَوْلَا): هلا، (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) قبل العذاب، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فإنما لا تقبل حينئذ، (قَالُوا اطَّيَّرْنَا): تشاءمنا، (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) فإنهم قحطوا وتفرقت كلمتهم منذ كذبوه، (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي: شؤمكم عنده أتاكم منه بكفركم، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ): تختبرون بالخير والشر، أضرب عن بيان الطائر إلى ذكر ما هو الداعي إلى الضراء، (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ): في مدينة ثمود، (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي: أنفس، وقع تميزًا للتسعة، لأنه بمعنى الجماعة، وهو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة، وهم الذين عقروا الناقة أبناء أشرافهم، (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) يعني: أعمالهم محض فساد، (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ) أي: قال بعضهم لبعض احلفوا، (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي: لنقتلنه ليلاً، (وَأَهْلَهُ)، والبيات: مباغتة العدو ليلاً، (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) لولي دمه، (مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ): ما حضرنا إهلاكهم، (وَإِنَّا لَصَادِقُون) أي: ونحلف إنا لصادقون، أو نقول له ذلك، والحال إنا عند الناس عظماء صادقون قيل: إنا لصادقون في ذلك القول لأنا ما حضرنا مهلكهم وحده، بل مهلكه ومهلكهم كأن الكذب عندهم أقبح من قتل نبي الله والمؤمنين، (وَمَكَرُوا مَكْرًا) بتلك المواضعة، (وَمَكَرْنَا مَكْرًا): جازيناهم على ذلك، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) بمكرنا، (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) فإنهم لما خرجوا لإهلاكهم بعد عقر الناقة دمغتهم الملائكة بالحجارة، أو جثم عليهم جبل فماتوا، (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ): وإهلاكهم

بالصيحة، وقراءة " إنا " بكسر الهمزة بالاستئناف، وخبر كان " كيف "، وإن جعلتها تامة فـ (كيف) حال، أو بدل، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً): خالية أو ساقطة، حال عاملها معنى الإشارة، (بِمَا ظَلَمُوا): بسبب ظلمهم، (إن فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإن الجهال لا يتأملون حتى يتعظوا، (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتًقُونَ): صالحًا ومن معه، (ولوطًا) أي: اذكره، (إِذْ قَالَ) بدل، (لِقَوْمِه أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) كأنها لقبحها ليست الفاحشة إلا إياها، (وَأَنتمْ تُبْصِرُونَ): يبصر بعضكم بعضًا لا تستترون، وتأتون في ناديكم المنكر، أو تعلمون أنها فاحشة، (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً): تتركون المانع الشرعي والزاجر العقلي بمجرد شهوة، (مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) التي لا مانع لها لا شرعيًا ولا طبعيًا، (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون): سفهاء، ولما كان القوم في معنى المخاطب ذكر الفعل بصيغة الخطاب، (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ): يتنزهون عن أفعالنا ويعدونها أقذارًا، وعن ابن عباس: هذا استهزاء، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ) أي: قدرنا كونها من الباقين في العذاب، (وَأَمْطَرنا عَلَيْهِم مَّطَرًا): هو الحجارة، (فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) قد مر إعرابه في آخر سورة الشعراء فتذكر، (قُلِ) يا محمد: (الْحَمْدُ لله وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) أمره أن يحمد على نصرة أوليائه وإهلاك أعدائه وأن السلام على عباد الله المصطفين الأخيار، وهم الأنبياء، وعن ابن عباس هم الصحابة

(60)

اصطفاهم لنبيه رضي الله عنهم، (آللهُ) الذي نجَّى من وحَّدَه من الهلاك، (خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) الأصنام التي لم تغن شيئًا عن عابديها، وهو إلزام لهم وتسفيه لرأيهم، فمن المعلوم ألَّا خير فيما أشركوه أصلاً. * * * (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) * * *

(أَمَّنْ) بل أمَّن، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) قيل: تقديره أما يشركون خير أمَّن خلق السماوات والأرض، (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنا بِهِ) عدل إلى التكلم، للتنبيه على أن الإنبات الذي هو عندكم من أنفع الأشياء مختص به لا يقدر عليه غيره، (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ): بساتين ذات حسن، (مَا كَانَ لَكُمْ) ليس في قدرتكم، (أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ): أغيره يقرن به، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحق، (أمَّن جَعَلَ) بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ)، (الأَرْضَ قَرَارًا): دحاها وسواها للاستقرار، (وَجَعَلَ خِلالَها): وسطها، (أَنْهَارًا) جارية، (وَجَعَلَ لَها رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (وَجَعَلَ بَينَ البَحْرَيْنِ): العذب والمالح، (حَاجِزًا): مانعًا من قدرته لا يختلطان كما مر في سورة الفرقان، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): جهلاء، (أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) الكفرة يعترفون بذلك لا يلجئون في حال الاضطرار إلا إليه، (وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ): سكانها يهلك قرنًا وينشئ آخر، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (ما) صلة، أي: تذكرون تذكرًا قليلاً لا يترتب عليه نفع، أو المراد من القلة العدم، (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بما خلق من الدلائل السماوية كالنجوم، والأرضية كالجبال، (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا): مبشرات، (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): قدام المطر، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) يقدر على مثله، (تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) الكفرة وإن أنكروا الإعادة، لكن كانت مبينة بالحجج الواضحة فهي ثابتة، (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ

مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) بأسباب سماوية وأرضية، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) على أن مع الله إلهًا آخر، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، في دعواكم، (قُل لَا يَعلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ)، لما بين اختصاصه بكمال القدرة أتبعه ما هو كاللازم له، وهو التفرد بعلم الغيب، وقد ذكر أنها نزلت حين سأل المشركون متى البعث والإعادة، والاستثناء منقطع، ورفعه على لغة بني تميم، واختيار تلك اللغة لنكتة، وهي المبالغة في نفي علم الغيب عن غيره كما قالوا في: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس والمراد بمن فيهما الموجودون، فإن العوام يحسبون أن كل موجود فيهما ألبتَّة، فعلى هذا الاستثناء متصل، (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ): متى ينشرون، (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ): انتهى واضمحل، في شأن الآخرة لا يقرون بوجوده سيما بوقته، وقراءة " ادَّارَكَ " بمعناه، أي: تتابع حتى انقطع قيل: بمعنى تلاحق، وتساوى أي: هم في الجهل في أمر الآخرة سواء، أو بمعنى أدرك انتهى وتكامل وادَّارَكَ: تتابع،

(67)

واستحكم علمهم في يوم القيامة حين عاينوها، ولا ينفعهم العلم كما قال تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم: 38]، الآية، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منْهَا) أي: لا يقرون بوجودها، بل لهم الشك فيها فإن عدم الإقرار بشْيء قد يكون لعدم التوجه إليه، وقد يكون بعده، والثاني أقبح، ويحسن الإضراب، (بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ): عيون قلوبهم عُمْي، ومنشؤ عماهم الآخرة، فلذلك عداه بمن دون عن، فإن الكفر بها صيرهم أضل من البهائم، وهذا وإن كان خاصًا بالمشركين ممن في السماوات والأرض، نسب إلى الجميع كما يسند فعل البعض إلى الكل. * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ) من القبور أحياء، والعامل في " إذا " فعل يدل عليه " أئنا لمخرجون "، وهو يخرج؛ لأن ما بعد كل من الهمزة وإن واللام لا يعمل فيها قبله، وتكرير الهمزة لتأكيد الإنكار، (لَقَدْ وَعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنَا مِن قَبْلُ): من قبل بعث محمد، (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ): سمرهم وأكاذيبهم، (قُلْ) لهم: (سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الُمجْرِمِينَ) حتى تعلموا أن هذا ليس بكذب وإسمار، (وَلَا تَحْزَنْ) يا محمد، (عَلَيْهِمْ): على تكذيبهم وإعراضهم عنك، (وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ): حرج صدر، (مِّمَّا يَمْكُرُونَ): من مكرهم فإن الله يعصمك، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ): القيامة، وقيل: وعد العذاب، (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم)، دنا لكم وتبعكم، (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) كيوم بدر، فإنه قامت فيه قيامتهم، وحكم لعل وعسى في مواعيد الملوك حكم الجزم، وإنما يطلقونه إظهارًا لوقارهم، وأن الرمزة منهم كافية في الأغراض، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى

النَّاسِ) بتأخير عذابهم مع استحقاقهم، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ وَإِنْ رَبَّكَ لَيعْلَمُ مَا تُكِنُّ): ما تخفي، (صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ): خافية، (فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ): اللوح المحفوظ، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: كأمر عيسى وعزير، وأحوال الجنة والنار، (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ) فإنهم أهل الانتفاع به، (إِنَّ ربَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم): بين المختلفين في الدين، َ (بِحُكْمِهِ): بما يحكم به، (وَهُوَ العَزِيزُ): فلا يرد حكمه، (العَلِيمُ) بأحوال من يحكم عليه وله، (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ الُمبِينِ): والحق يعلو ولا يعلى، (إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى): الكفار، فإنهم كالموتى في عدم الانتفاع بما يستمعون، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) والكفار كالصم في تلك الحال، التي هي أبعد من الاستماع، فإن الأصم إذا كان حاضرًا قد يسمع، (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِم): وهم عمي، (إِنْ تسْمِعُ) سماع انتفاع، (إِلَّا مَن يُؤْمِن بِآيَاتِنَا): من

هو في علم الله مصدق بآياتنا، (فَهُمْ مُسْلِمُونَ): مخلصون منقادون، فبلغ أنت رسالتك، ولا يضيق صدرك، (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ): وجب العذاب والسخط، (عَلَيْهِمْ) حين لا يقبل من كافر الإيمان، (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ): من نفس مكة، أو من بواديها، وفي الحديث (أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتها كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريب)، (تُكَلِّمُهُمْ) من الكلام، أو من الكَلْم، أي: الجرح، فقد ورد أن عصا موسى تكون بيدها فتنكت في وجه المؤمنين نكتة بيضاء فتبيض منها وجوههم، وبيدها خاتم سليمان، وتنكت الكافر بها في وجهه فتسود منها وجوههم، وفي الشواذ (تَكْلمهم) بفتح التاء وجزم الكاف، (أَنَّ النَّاسَ) قرئ بفتح الهمزة وكسرها، ومن قال: إن هذا كلامها، فيكون تقديره: بأن الناس، والكسر لتضمين الكلام معنى القول، وعند من يقول: إنه من الكلم، أو كلامها إبطال كل دين سوى الإسلام، أو لعنة الله على الكافرين، فتقديره: لأن الناس علة

(83)

لتكلمهم، أو لـ أخرجنا، وعلى كسرها مستأنفة، (كَانُوا بِآيَاتِنَا) يعني بخروجها، وسائر أحوالها، فإنَّهما من آيات الله، أو بالقرآن، فإن أكثر الناس حينئذ كفار، (لَا يُوقِنُونَ) وكلامها على بعض التوجيهات حكاية لقول الله. * * * (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لله سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) * * * (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ) " من " للتبعيض، (فَوْجًا): جماعة، (مِمَّنْ) " من " للبيان، (يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا، وهو

عبارة عن كثرتهم، (حَتَّى إِذَا جَاءُوا) إلى المحشر، (قَالَ) الله لهم: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) الواو للحال أي: أكذبتموها بادئ الرأي من غير إحاطة علم بكنهها أو للعطف، أي: أجمعتم بين التكذيب، وعدم التأمل لتحققها (أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أم أي شيء كنتم تعملون بما بعد ذلك؟! وهذا توبيخ وتبكيت كما تقول لعبدك الذي أكل مالك، وأنت تعلمه: أكلته أم بعته أم ضل عنك أم ماذا عملت به؟! (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) حل عليهم العذاب الموعود، (بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ) بحجة وعذر في جواب هذا السؤال عنهم، (أَلَمْ يَرَوْا) ألم ينظروا ويتفكروا؟ (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) بالقرار والنوم، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) في نصب مبصرًا بالحال مبالغة، فإن ما هو حال لأهله جعله من أحواله يعني: لو تأملوا لعلموا كمال قدرته ولطفه على خلقه، فما أنكروا الحشر وشكروا نعمه فما أشركوا به، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المتأملون في مثل تلك الآيات، (وَيَوْمَ) أي: اذكر يوم، (يُنفَخُ في الصُّورِ): قرن ينفخ فيه إسرافيل في آخر عمر الدنيا، والمراد الزمان الممتد الشامل لزمان النفختين، (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الهول، وعن بعضهم معناه يلقى عليهم الفزع

إلى أن يموتوا، (إِلا مَن شَاءَ اللهُ)، عن كثير من السلف: هم الشهداء لا يصل إليهم الفزع أحياء عند ربهم، أو جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، لا يصل إليهم الفزع ثم يقبض أرواحهم، أو موسى بدل صعقته في الدنيا، أو الحور [ورضوان] ومالك والزبانية، وقيل غير ذلك، (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) المراد حضورهم الموقف، (دَاخِرِينَ): صاغرين، (وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً): ثابتة في مكانها، (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) في السرعة والأجرام العظام إذا تحركت لا يكاد تتبين حركتها كالسحاب، (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه من مضمون (يوم ينفخ) الآية، (الَّذِي أَتْقَنَ): أحكمَ (كُلَّ شَيْءٍ) وأودع فيه من الحكم ما أودع، (إِنَّه خَبِير بِمَا تَفْعَلُونَ) فيجازيهم عليه، (مَن جَاءَ) في ذلك اليوم، (بِالْحَسَنَةِ): كلمة التوحيد، والإخلاص، (فَلَهُ خَيْرٌ منْهَا): رضوان الله، أو تضعيف حسنته، (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) نوع فزع، وهو فزع دخول النار، أو الفزع مطلقه، (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أجمع السلف على أن المراد من السيئة هنا الشرك، (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ)، المراد من الوجوه: الأنفس، أو ذكر الوجوه للإيذان

بأنهم يكبون فيها منكوسين، (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تعْمَلُونَ) أي: قيل لهم ذلك، (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم ذلك، والبلدة مكة حرم الله صيدها ونباتها وأشجارها ولقطها، (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ): ملكًا، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لله، (وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ) على الناس، (فَمَنِ اهْتَدَى): بالقبول والاتباع، (فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لا ينفع إلا نفسه، (وَمَن ضَلَّ): بعدم القبول والاتباع، (فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الُمنذِرِينَ) فلا عليَّ من ضلالكم شيء، (وَقُلِ الحَمْدُ لله) على ما أنعم عليَّ من النبوة والعلم، (سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) في الدنيا كوقعة بدر، (فَتَعْرِفُونَهَا) حين لا ينفعكم، (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فتأخير العذاب ليس لغفلة، بل لرحمة. والحمد لله رب العالمين * * *

سورة القصص

سورة القصص مكية قيل إلا قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ (52) .. إلى قوله: " الْجَاهِلِينَ (55) " وهي ثمان وثمانونَ آية وتسع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ

أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) * * * (طسم تِلْكَ) إشارة إلى السورة (آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) القرآن أو اللوح المحفوظ (نَتْلُو): نقرأ بلسان جبريل أو نزل (عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ) مفعول نتلوا ومن للتبعيض (مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) محقين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنَّهُم المنتفعون به (إِنَّ فِرْعَوْنَ) استئناف يبين بعض النبأ (عَلا في الأَرْضِ) استكبر في أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شيَعًا) أصنافًا يصرف كل صنف فيما يريد (يَسْتَضْعِف) حال من فاعل جعل (طَائِفَةً مِّنْهُمْ) يعني: بني إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ) بدل من يستضعف (وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) يخليهن أحياء للخدمة (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ) حكاية حال ماضية (أَنْ نَمُنَّ) نتفضل (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) بإنقاذهم من بأسه، والجملة عطف على " إنَّ فرعونَ " أو حال من مفعول يستضعف " وأن نمن " مستقبل وإرادة الله إذا تعلقت بشيء في زمان مترقب وجب أن لا يتوقف عن ذلك الزمان (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) قادة في الخير أو ملوكًا (وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ): لما كان في تحت يد فرعون وقومه، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ): نسلطهم في أرض مصر والشام (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا) من بني إسرائيل متعلق بـ نُرِيَ (مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) من ذهاب ملكهم في يد مولود من بني إسرائيل فإن القبط قد سمعوا ذلك من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام (وَأَوْحَيْنَا)

ألهمنا (إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما دمت غير خائفة عليه (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) من أن يحس فرعون به (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) بحر النيل (وَلَا تَخَافِي) عليه فعلينا حفظه (وَلَا تَحْزَنِي) في هجره (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) فإن أمه جعلته فِي تابوت، وسيرته فِي النيل فوقع التابوت في نهر كان يجري منه إلى بيت فرعون فأخذه أهل داره (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) اللام لام العاقبة (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) مذنبين فعاقبهم الله بأن ربَّى عدوهم على أيديهم، أو خاطئين في الأفكار فأخطئوا في تربية عدوهم (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) لفرعون حين فتحت التابوت ورأت فيه غلامًا بهيًّا (قُرَّتُ) أي: هو قرة (عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فأجابها أما لك فنعم، وأما لي فلا فكان كذلك (لَا تَقْتُلُوهُ) فإنه جاء من أرض أخرى، وهو أكبر من ابن سنة (عَسَى

أَن يَنفَعَنَا) فإن آثار اليمن تظهر منه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) نتبناه فليس لها ولد منه (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) من كلام الله أي: التقطوا، وقيل: كذا وكذا أو الحال أنَّهم لا يشعرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه وقيل: من كلام امرأة فرعون والضمير للناس، أي: نتخذه ولدًا والناس لا يشعرون أنه ولد غيرنا (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) خاليًا من كل شيء كالمجنون في غم ولدها (إِنْ كَادَتْ) إنَّهَا كادت (لَتُبْدِي بِهِ) أي: من شدة الحزن كادت تظهر أن لها ولدًا ذهب به الماء (لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) بالصبر جوابه ما يدل عليه ما قبله (لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) من المصدقين بوعد الله حين ألهمها بأنا رادوه إليك وهو علة الربط قيل: معناه أصبح فؤادها خاليًا من الغم لسماعها أن فرعون تبناه وكادت من الفرح تظهر حاله (وَقَالَتْ لأختِهِ) أخت موسى مريم (قُصِّيهِ) اتبعي أثره وتتبعي خبره (فبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنبٍ) عن بعد (وَهُمْ لَا يَشْعرُونَ) أنها أخته (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ) تحريمًا قدريًا، يعني منعناه من أن يرتضع من المرضعات (مِنْ قَبْلُ) من قبل تتبعها

(14)

(فقَالَتْ) أخته: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ) يضمنونه ويرضعونه، لكم: لأجلكم (لَكُمْ وَهُمْ له نَاصِحُونَ) لا يقصرون في خدمته قيل لما قالت ذلك القول أخذوها، وقالوا: عرفت هذا الولد فدلينا، فقالت: لا أعرفه وإنما أردت أنهم للملك ناصحون لا للولد حتى استدللتم على أني أعرفه فخلوها فأتت بأمها فالتقم ثديها فقالوا: من أنت منه، فقالت: إني امرأة طيبة النشر لا أوتى بصبي إلا قبلني فأعطوه إياها مع أجر وعطاء جزيل فذهبت به إلى بيتها شاكرة (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) برؤيته (وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ) علم مشاهدة (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) فِي رده إليها وجعله من المرسلين (حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) غرضنا في رده إليها، أو لا يعلمون أن وعدنا رده إليها أو أن وعده حق. * * * (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ

فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) * * * (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) منتهى قوته وهو ما فوق الثلاثين (وَاسْتَوَى) اعتدل عقله (آتَيْنَاهُ حُكْمًا) نبوة (وَعِلْمًا) بالدين أو حكمة وفهما قبل النبوة (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) مثل ذلك الجزاء نجزيهم (وَدَخَلَ المَدِينَة) مدينة بأرض مصر وهذه الجملة ذكر سبب وصوله إلى النبوة وقصته على الوجه الأول الذي فسرنا الحكم بالنبوة، فإنما كانت قبل بعثته (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ منْ أَهْلِهَا) كان وقت القيلولة وقيل بين العشائين (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ) من بني إسرائيل (وَهَذا مِنْ عَدُوِّهِ) من القبط والإشارة على الحكاية (فَاسْتَغَاثَهُ) طلب أن يغيثه

بالعون (الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدوِّهِ) لما كان فيه معنى طلب العون عدي بعلى (فوَكزَهُ) هو الضرب بجمع الكف أو الدفع بأطراف الأصابع (موسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) فقتله (قَالَ هَذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) لأنه لم يؤمر بقتل الكفار (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتله (فَاغْفِرْ لِي) ذنبي (فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ) بحق إنعامك (عَلَيَّ) اعصمني (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا) معينًا (للْمُجْرِمِينَ) لمن أدت مظاهرته إلى جرم أو معناه أقسم بإنعامك علي وجوابه محذوف، أي: لأتوبن، وعن ابن عباس لم يستثن، فابتلي به مرة أخرى، أي: لم يقل فلن أكون إن شاء الله (فأَصْبَحَ) موسى (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) ينتظر سوءً (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) ذاك الإسرائيلي (يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيثه (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فإنك تسببت لقتل، ثم تدعوني إلى آخر (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ) موسى (أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) بالقبطي (قَالَ) الإسرائيلي: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) لما سمي الإسرائيلي غَوِيًّا ظن أن البطش عليه (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) بين الناس فلما سمع القبطي هذا الكلام منه راح إلى باب فرعون، وأخبره فأمر بقتل موسى وأخذ جنوده الطرق لأخذه (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) من آخرها (يَسْعَى) يسرع صفة لرجل (قَالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) فرعون وأشراف (يَأْتَمِرُونَ) يتشاورون (بِكَ) بسببك

(22)

(لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) من البلد (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) لك بيان لا صله مقدم (فَخَرَجَ مِنْهَا) من المدينة (خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) لحوق شر (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من شرهم. * * * (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) * * *

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ) قبالة (مَدْيَنَ) قرية شعيب، ولم تكن تحت سلطان فرعون (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) قصد الطريق، وكان لا يعرف الطريق إلى مدين فتوكل وتوجه (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) وصل إلى بئر لهم (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) جماعة (مِّنَ النَّاسِ يَسْقُون) مواشيهم (وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ) تمنعان غنمهما عن الماء انتظارًا لخلو شفير البئر (قَالَ) موسى: (مَا خَطْبُكُمَا) ما شأنكما تذودان؟ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ) يصرف (الرِّعَاءُ) مواشيهم (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يستطيع الخروج للسقي، ونحن ضعفاء لا نقدر على مزاحمة الرجال (فَسَقَى) مواشيهما (لَهُمَا) رحمة عليهما عن عمر: " لما فرغ الناس جعلوا صخرة لا يستطيع رفعها إلا عشرة على رأس البئر فرفع موسى الحجر وحده ثم لم يستق إلا ذنوبًا واحدًا ودعا بالبركة وروي غنمهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ظل شجرة (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) طعام (فَقِيرٌ) محتاج سأل ربه أن يرزقه شيئًا ليأكل فإنه من الجوع في غاية " وما " موصوفة وتنكير خير للشيوع أي: قليل أو كثير، وتعدية فقير باللام لأنه ضمن معنى طالب وسائل (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) مستحيية متسترة بكم درعها (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) فإنهما لما رجعتا سأل أبوهما عن سرعتهما اليوم في السقي فقصتا،

فبعث إحداهما لتدعوه (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) جزاء سقيك (فَلَمَّا جَاءَهُ) موسى (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أخبره بأمره الذي أخرجه من أرضه (قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فرعون وقومه (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) لرعي الغنم (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وهو كذلك علمت قوته من قلع الحجر، وأمانته من أنه أمرها بأن تكون خلفه في الطريق كيلا يراها، واختلف في أنهما ابنتا شعيب أو ابن أخيه أو رجل مؤمن من قومه (قَالَ

(29)

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) من أجرته إذا كنت له أجيرًا، فقوله: (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرفه، أو من أجرته كذا إذا اثبته إياه، فثماني حجج ثاني مفعوليه، أي: رعية ثماني حجج (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا) عمل عشر حجج (فَمِنْ عِنْدِكَ) فإتمامه من عندك تفضلاً وتبرعًا، ويمكن أن يكون مثل هذا النكاح جائزًا في شرعهم، ويمكن أن يكون هذا استدعاء العقد لا نفسه (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بالإلزام إتمام العشر (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن الصحبة، والوفاء بالقول (قَالَ) موسى: (ذَلِكَ) الذي عاهدتني فيه (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) قائم لا نخرج عما شرطنا (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) الأقصر والأطول (قَضَيْتُ) ما زائدة (فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ) لا يعتدى عليَّ في طلب الزيادة عليه، ولي الخيار مطلقًا (وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ) من المشارطة، (وَكِيلٌ) شاهد. * * * (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ

فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) * * * (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) في الحديث قضى أطولهما (وَسَارَ بَأَهْلِهِ) بامرأته بنته الصغرى وقيل الكبرى (آنَسَ) أبصر (مِن جَانبِ الطورِ نَارًا) وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد (قَالَ لأَهلِهِ امْكُثوا) لعل معها غيرها أو عظمها لأنها ابنة

نبي (إِنِّي آنسْتُ نَارًا لعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخبَرٍ) من الطريق فإنه أخطأ الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ) عودٍ غليظٍ (مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكمْ تَصْطَلونَ) تستدفئون بها من البرد (فَلَما أَتَاهَا نوديَ مِن شَاطِئ) جانب (الوَادِى الأَيْمَنِ) عن يمين موسى (فِي البقْعَةِ الُمبَارَكَةِ) متصل بالشاطئ، أو صلة لـ نودي (مِنَ الشجَرَة) بدل اشتمال من شاطئ فإنها نابتة على الشاطئ (أَنْ يَا مُوسَى) أن مفسرة (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي: الذي يكلمك رب العالمين (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) عطف على أن يا موسى (فَلَمَّا رَآهَا) أي: فألقاها وصارت ثعبانًا تَهْتَزُّ فلما رآها (تَهْتَزُّ) تتحرك بسرعة (كَأَنَّهَا جَانٌّ)، حية صغيرة من سرعة حركتها (وَلَّى مُدْبِرًا) منهزمًا من الخوف (وَلَمْ يَعْقبْ) لم يرجع (يَا مُوسَى) أي: نودي يا موسى (أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ) فرجع ووقف في مكانه الأول (اسْلُكْ) أدخل (يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) كأنها قطعة قمر (مِنْ غَيْرِ سوءٍ) كبرص (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أمر أن يضم إليه يده إذا خاف من شيء، وعن ابن عباس وغيره إذا خاف أحد ووضع يده على فؤاده يَخِفّ ويزول خوفه فمن الرهب أي: من أجله أو معناه تجلد ولا ترتعد من الخوف، والطائر ينشر جناحيه حين خوفه ويضم حين اطمئنانه (فَذَانِكَ) العصا واليد (برْهَانَانِ مِن ربِّكَ) معجزتان (إِلَى فِرْعَوْنَ)

أي: مرسلاً بهما إليه (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بها (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) وقد مر أن له نوع لكنة (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا) معينًا (يُصَدِّقُنِي) بإتمام الحجة ورفع الشبهة ويصدقني بالجزم جواب، وبالرفع صفة رِدْءًا، وعن مقاتل أرسله يصدقني فرعون لأن خبر الاثنين أوقع (إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) نقويك (بِأَخِيكَ) فإن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن تقوى بشدة اليد (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) حجة وبرهانًا (فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكم) (بِآيَاتِنَا) بسبب إبلاغكما آيات الله، وقيل متعلق بـ نجعل (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) وقيل: بآياتنا متعلق بـ الغالبون على أن يكون اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) على الله (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا) الذي يدعونا إليه أو السحر (فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) في أيامهم (وَقَالَ مُوسَى) بعد أن كذبوه (ربي أَعْلَمُ بمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ) فيعلم حقيتي وبطلانكم (وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقَبةُ الدَّارِ) النصرة والعاقبة المحمودة في الدنيا (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) أظهر عند الرعية أن وجود إله غيره غير معلوم، وأنه يستطيع أن يحقق ذلك، فلذلك أمر ببناء صرح وقال: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) أطبخ لي الآجر (فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) بناءً مشرفًا عاليًا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) كأنه ظن

صفحة فارغة

(43)

بجهله أنه لو كان لكان جسمًا في السماء يمكن الصعود إليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي: موسى (مِنَ الْكَاذِبِينَ) في أن لكم إلهًا غيرى وهو رسوله (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) بغير استحقاق (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) اعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ) ألقيناهم (فِي الْيَمِّ) ككف رمادٍ (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فحذر قومك عن مثلها (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) قدوةً وسادةً للضلال (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) إلى موجباتها من الكفر والمعاصي (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً يلعنهم الرسل والمؤمنون (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ) سود الوجوه زرق العيون. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا

قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) * * * (وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الكِتَابَ) التوراة (مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرُونَ الأُولَى) قوم فرعون ونوح وعاد وثمود وغيرهم (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ) من عمى القلب والغي، نصب على الحال من الكتاب (وَهُدًى) إلى الطريق المستقيم (وَرَحْمَةً) لو عملوا به نالوا رحمة الله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ليكونوا على حالٍ يرجى منهم التذكر (وَمَا كُنتَ) يا محمد (بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ) حاضرًا في جانب الغربي من الجبل الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية (إِذ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ) فوضنا إليه أمر الرسالة (وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لذلك حتى تعرف هذه القصة وترى هذه الأحوال فما

هو إلا من إعلام الله ووحيه، فكيف يرتاب أحد في نبوتك (وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا) خلقنا أممًا بعد موسى (فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فخربوا الشرائع، وكذبوا الرسل وأفسدوا، ونسوا عهودهم فلذلك كذبوك وإن كانت دلائل نبوتك ظاهرة (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا) مقيمًا (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) هم شعيب والمؤمنون به (تَتْلُو عَلَيْهِمْ) تقرأها عليهم تعلمًا منهم (آيَاتِنَا) التي فيها قصتهم فتحكي ما رأيت، وتعلمت قال بعض المفسرين معناه: ما كنت فيهم رسولاً تتلوا عليهم آياتنا فتقص ما قد رأيت منهم (وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) إليك أخبارهم بوحينا (وَمَا كنتَ بِجَانِبِ الطورِ إِذْ نادَيْنَا) موسى وأعطيناه التوراة، وقلنا له خذ الكتاب بقوة، وعن بعض السلف

معناه إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم حين سأل موسى رؤيتك، وقلت لي إنك لن تصل إلى ذلك لكن إن شئت أسمعتك صوت أمته (وَلَكِنْ) علمناك وأوحينا إليك (رحْمَةً مِّن ربِّكَ) عليك وعلى أمتك (لِتُنذِرَ قَوْمًا) متعلق بما قدرناه عاملاً في رحمته (مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإنهم في فترة بينك وبين عيسى (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكرُونَ) لكي يتعظوا (وَلَوْلا) هي امتناعية (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا) الفاء للعطف على تصيبهم (رَبَّنَا لَوْلَا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ) الفاء جواب لولا الثانية (آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وجواب لولا الأولى محذوف، أي: لما أرسلناك وحاصل الآية لولا قولهم ربنا هلا أرسلت رسولاً نؤمن به ويعلمنا الدين، إذًا عاقبناهم بسبب ما كسبت أيديهم من المعاصي لما أرسلناك

(51)

فإرسالك لئلا يكون لهم حجة علينا إن عذبناهم يعني هم مستحقون للعقاب لكن تأخيره وإرسالك لقطع الحجة (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا) أي: محمد عليه السلام (قَالُوا) عنادا (لَوْلا) هلا (أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) من اليد والعصا وغيرهما (أَوَ لَمْ يَكْفُروا) أي: ألم يؤت موسى ما أُوتِيَ وألم يكفروا أي أبناء جنسهم، وهم كفرة زمان موسى (بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبلُ قَالُوا) في موسى وهارون (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) تعاونا واتفقا، وقراءة " سحران " في معنى ذوا سحر أو سموهما سحران للمبالغة (وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ) منهما (كَافِرُونَ) أو معناه يطلب قريش منك مثل معجزات موسى، أو لم يكفروا بمعجزاته وقالوا فيكما يا محمد وموسى ساحران كل يصدق الآخر، ويعاونه أو القرآن والتوراة سحران كل يصدق الآخر، وقالوا: نحن بكل منهما كافرون (قُلْ) يا محمد (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا) من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنا ساحران وهذا إلزامهم وتبكيتهم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) دعائك إلى الإتيان بكتاب أهدى (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) لأنَّهُم ما رجعوا بعد ما ألزمتهم بالحجة عن العناد (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ) استفهام إنكار (بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ) حال للتوكيد وقيل للتقييد فإن هوى النفس قد يكون من الله (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) المتبعين للهوى. * * * (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ

يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) * * * (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ) أي: القرآن أتاهم متتابعًا متواصلاً قصصًا للأمم الخالية ونصائح ووعدًا ووعيدًا أو نزل عليهم نزولاً متصلاً بعضه ببعض (لَعَلهُمْ يَتَذَكرونَ) لكي يتعظوا (الَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ) من قبل القرآن (هُم) لا قريش (بِهِ يُؤْمِنون) نزلت في مؤمني أهل الكتاب أو في وفد جاءوا من عند النجاشي من الحبشة، " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " الآية [المائدة: 83]، (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) لأنا نعلم قبل ذلك محمدًا والقرآن لأن وصفهما مذكور في كتابنا (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن، وإن كانوا مؤمنين به

من قبل (بِمَا صَبَرُوا) بسبب صبرهم وثباتهم على اتباع الحق أولاً وآخرًا (وَيَدْرَءُونَ) يدفعون (بِالْحَسَنَةِ) بالطاعة (السَّيِّئَةَ) المعصية، أو لا يقابلون الأذى بمثله بل يعفون، بل يجازون بالإحسان (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) في الخير (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ) القبيح من القول كشتمهم (أَعْرَضُوا عَنْهُ) تَكرمًا (وَقَالوا) للاغين (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) المراد سلام المتاركة والتوديع (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) لا نريد صحبتهم وطريقتهم وذلك حين كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب قائلين تبًّا لكم تركتم دين آبائكم (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) نزلت حين عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان على أبي طالب في حين موته فأبى ورد (وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بالمستعدين لذلك (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ) نؤمن بك (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) نخرج من بلادنا، نزلت في قوم قالوا: نحن نعلم صدقك لكنا إن اتبعناك خفنا أن يخرجنا العرب من أرضنا مكة لإجماعهم على خلافنا فرد الله قولهم

بقوله (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) أو لم نجعل مكانهم (حَرَمًا آمِنًا) مع كفرهم، فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا كانوا موحدين! يعني: هم كاذبون في عذرهم (يُجْبَى) يجمع ويحمل (إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي: ثمرات كثيرة (رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) مصدر من معنى يُجْبَى؛ لأنه في معنى يرزق أو مفعول له أو حال بمعنى مرزوقًا من ثمرات وجاز لتخصصها بالإضافة (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) جهلة، ولذلك قالوا ما قالوا ثم بين أنَّهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله لا العرب، فقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) أي: من أهلها (بَطِرَتْ) طغت وأشرت تلك القرية (مَعِيشَتَهَا) أي: في معيشتها منصوب بنزع الخافض أو مفعول بطرت بتضمين كفرت يقال: بطر فلان نعمة الله أي: استخفها وكفرها (فَتِلْكَ مَسَاكِنهمْ) خاوية (لَمْ تُسْكَنْ) من السكنى (مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي: إلا سكنى قليلاً إذ لا يسكنها إلا المسافر حين العبور (وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) إذ لم يبق أحد منهم يرثهم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) أي: ما جرت عادة الله على إهلاكها (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا) أصلها وأعظمها فإنما الأشراف فيها (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) فإن أنكروا نزل عليهم العذاب (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) بتكذيب الرسول وارتكاب المعاصي وعن بعض المفسرين معناه ما كان في حكمنا وقضائنا أن نهلك القرى ونخرب الدنيا حتى نبعث في أم القرى "

(61)

مكة " رسولاً إلخ (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) قليل أو كثير من أسباب الدنيا (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) ما هو إلا تمتع وزينة أيامًا قلائل (وَمَا عِنْدَ اللهِ) الجنة ونعيمها (خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. * * * (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) * * * (أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا) حسن الوعد بحسن الموعود كالجنة (فهُوَ لاقِيهِ) مدركه (كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الذي هو مشوب بأنواع الغصص (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب والعذاب وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها، ولذلك رتب عليها بالفاء نزلت في النبي عليه السلام وأبي جهل أو في علي وحمزة وأبى جهل (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) أي: اذكر يوم ينادى المشركين (فيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) أي: تزعمونهم شركائي بحذف المفعولين (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ) وجب عليهم العذاب، أي: شياطينهم وسادتهم في الضلال خوفًا من أن يقول السفلة لا ذنب لنا إنما الذنب لسادتنا (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا) أي: أغويناهم (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا) أي: أغويناهم فغووا غيًّا مثل ما غوينا هي خبر هؤلاء والذين مع صلته صفته أو الموصول خبره وهذه مستأنفة (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ) منهم

(مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) فإنهم يعبدون أهواءهم فنحن وهم سواء في الغواية شهدوا على أنفسهم بالغواية والإغواء ثم تبرءوا من عبادتهم، قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآية [البقرة: 166]، (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) لتخلصكم عن العذاب (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لعجزهم (وَرَأَوُا العَذَابَ) لهم ولأربابهم (لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) جواب لو محذوف، أي ما رأو العذاب أو لو للتمني فهو على الحكاية كأقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) سأل أولاً عن إشراكهم ثم عن تكذيبهم رسلهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ) صارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم وفيه مبالغة ليس في عموا عن الأنباء وهذا كما يقول الكافر في قبره هاه هاه لا أدري قال مجاهد: معناه فخفيت عليهم الحجج (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) لا يسأل بعضهم عن بعض لفرط حيرة كل منهم (فَأَما مَن تابَ) من الشرك (وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي من جمع بين الإيمان والعمل الصالح فليطمع في الفلاح وليكن بين الخوف والرجاء وعسى من الكرام تحقيق (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) لا معقب ولا منازع لحكمه (مَا كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ) أي: التخير يعني ليس

لأحد أن يختار عليه أو معناه ليس لهم اختيار أصلاً بل هم عاجزون تحت قدره قيل: ما موصولة مفعول يختار والعائد محذوف أي يختار الذي كان لهم فيه صلاحهم (سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم نقل أنها نزلت حين قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]، (وَربكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) تستر (وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى) الدنيا (وَالْآخِرَةِ) فإنه مولي النعم في الدارين (وَله الحُكْمُ) فصل القضاء بين الخلق (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون) بالنشور (قُلْ أَرَأَيتمْ) أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا) دائمًا (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) لا نهار معه (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ) سماع فهم (قُلْ أَرَأَيتمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا) هو من السرد، والميم مزيدة (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)، لا ليل معه، (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ)، استراحة عن المتاعب وصف الليل دون النهار، لأن النهار مستغن عن الوصف، (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ختم الأولى بقوله أفلا تسمعون، والثانية بـ أفلا تبصرون لمناسبة قوة السامعة بالليل، وقوة الباصرة بالنهار

(76)

(وَمِن رحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) بالنهار بأنواع المكاسب (وَلَعَلكُمْ تَشْكُرُون) ولكي تشكروا نعمه (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) التكرار للتقريع بعد التقريع (وَنَزَعْنَا) أخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه (فَقُلْنَا) للأمم (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) على صحة ما كنتم تدعونه (فَعَلِمُوا) حينئذ (أَنَّ الْحَقَّ لله) ولرسله لا لهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) غاب غيبة الضائع (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل. * * * (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ

عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) * * * (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى) ابن عمه آمن به ثم نافق (فَبَغَى) تكبر (عَلَيْهِمْ وَآتيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ) جمع مفتح وهو ما يفتح به (لَتَنُوءُ) تثقل (بِالْعُصْبَةِ) الجماعة الكثيرة (أوْلِي القُوَّةِ) ما الموصولة مع صلته التي

هي أن واسمها وخبرها ثاني مفعولي " آتينا " (إِذ قَالَ) ظرف لتنوء (لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفرَحْ) بدنياك، فإن الفرح بها مدة قصيرة وهو يورث غمًّا سرمدًا (إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ) الأشرين البطرين بالدنيا (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ) من المال (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تصرفه في مرضاة الله (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) فإن نصيب كل أحد ليس إلا ما يأكل ويلبس، أو النصيب ما ينفعك مالاً وما هو إلا أعمال الخير، قيل النصيب الكفن (وَأَحْسِن) إلى الناس (كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ) قيل: أحسن بالشكر كما أحسن الله بالإنعام إليك (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ) الظلم والكبر والمعاصي (فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) أي: أعطاني على علم وفضل عندي أستحقه لذلك، ولولا معرفته بفضلي ورضاه ما أعطاني وهو كان أقرأ بني إسرائيل وأحفظهم بالتوراة، قيل (عندى) خبر محذوف أي

هذا في اعتقادي وظني وقيل: متعلق بـ أوتيت كقولك جاز ذلك عندى (أَوَ لَمْ يَعْلَمْ) عطف على محذوف أي: ألم يقرأ ولم يعلم (أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) للمال، فلا تدل كثرة الدنيا على أن صاحبها يستحق رضى الله (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)، أي: لا يسأل الله أو الملائكة المجرمين عن ذنوبهم، بل يدخلهم النار بلا سؤال وحساب وهذا في موطن خاص أو هو سؤال علم، بل هو سؤال توبيخ (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) من مراكب وملابس وخدم وحشم (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) أي: المؤمنون الراغبون في الدنيا (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الدنيا (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ) أي: الأحبار لمن تمني ويلكم (وَيْلَكُمْ) دعاء بالهلاك مستعمل في الزجر (ثَوَابُ اللهِ) في الآخرة (خيْر لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) مما أوتي قارون (وَلاَ يُلَقَّاهَا) الثواب والتأنيث لأنه بمعنى المثوبة أو الجنة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على حكم الله، وهو من تتمة النصيحة أو المعنى ما يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء إلا الصابرون فعلى هذا من كلام الله منقطع عن الأول

(83)

(فخسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) نقل أنه كان يؤذي موسى كل وقت فأعطى يومًا مالاً لامرأة لتنسبه إلى الزنا فلما كان يوم العيد في محضر الخلق رمته بنفسها فناشدها موسى أن تصدق، فقالت: أعطاني قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فدعى عليه موسى فأوحى الله إليه أن جعلنا الأرض مطيعة لك فأمرها تأخذه فأخذته وإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أعوان (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) من الممتنعين من عذاب الله، أو من المنتصرين بنفسه (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ) منزلته (بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ) مركب من " وي " وهي كلمة تندم و " كَأَنَّ " أو ويل بمعنى ويلك وأن الله منصوب بمقدر وهو اعلم (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) بمقتضى إرادته لا لكرامة وفضل (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) لأنا وددنا أن نكون مثله (وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) لنعمه أو بالله ورسله. * * * (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ

وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) * * * (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) في تلك الإشارة تعظيم للآخرة أي: التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها (نَجْعَلُهَا) إما خبر تلك والدار صفته أو الدار خبره وهو استئناف (لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) تكبرًا أو استكبارًا عن الإيمان (وَلَا فَسَادًا) عملاً بالمعاصي أو دعوة الخلق إلى الشرك (وَالْعَاقِبَةُ) الحسني (لِلْمُتَّقِينَ) عن معاصيه (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) من وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: إلا مثله فحذف المثل للمبالغة

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي: تلاوته وتبليغه (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) وأي معاد، وهو معاد ليس لغيرك مختص بك وهو المقام المحمود أو إلى مكة، فقيل: نزلت حين المهاجرة في طريق المدينة، وعن بعض المفسرين: إن ابن عباس فسره مرة بالموت ومرة بالعود إلى مكة، ومراده بالثاني أيضًا الموت، لأن ابن عباس يرى فتح مكة من علامات قرب موته، وكأن التفسيرين واحد (قُل) يا محمد لمن ينسبك إلى الضلال (ربي أَعْلَمُ) يعلم (مَن جَاءَ بالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ) فمن جاء مفعول لفعل دال عليه أعلم (وَمَا كنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الكِتَابُ) ما كنت تظن وتأمل الوحي والنبوة قبل ذلك (إِلا رَحْمَةً مِّن ربِّكَ) لكن ألقي إليك لرحمة من ربك وقيل: الاستثناء متصل محمول على المعنى كأنه قال: ما ألقي إليك الكتاب لأمر إلا لرحمة (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) فخالفهم ونابذهم، نقل أنه نزل حين دعى إلى دين آبائه (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ) العمل بالقرآن (بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى ربكَ) إلى معرفته وطاعه (وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الُمشْرِكِينَ) حقيقة الخطاب لأهل دينه (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إلا ذاته المقدس عن الفناء أو معناه إلا ما أريد به وجهه، أي: كل عمل لم يرد به وجه الله فهو باطل فانٍ (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، للجزاء. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * * *

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية وهي تسع وستون آية وسبع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) * * *

(الم أَحَسِبَ) الهمزة للإنكار (النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) على عافية وفراغ، ولما كان صلة أن مشتملة على مسند، ومسند إليه يسد مسد مفعولي حسب، وهذا هو الأولى (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) أي: بأن أو لأن (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) بل يمتحنهم الله بالمصائب، ومشاق التكاليف ليميز المخلص من المنافق (وَلَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) ليتعلق علمه بالامتحان علمًا حاليّا يتميز به (الَّذِينَ صَدَقوا) في إيمانهم (وَلَيعْلَمَنَّ الكاذبينَ) فيه (أَمْ حَسِبَ) أم منقطعة (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا) يعجزونا فلا نقدر على انتقامهم (سَاءَ مَا يَحْكمونَ) بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا (مَن كان يَرْجو لِقَاءَ اللهِ) وصوله إلى ثوابه أو من يخشى حسابه وجزاءه (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) فليستعد وليعمل لذلك الوقت المضروب للجزاء فإنه آت لا محالة أو معناه من يأمل لقاء الله في الجنة فوقت اللقاء آت فليبادر إلى ما يحقق رجاءه ولذلك قال بعض المحققين: هذه تعزية من الله للمشتاقين إلى لقائه (وَهُوَ السَّمِيع العَلِيمُ) فيعلم الأقوال والعقائد (وَمَن جَاهَدَ) نفسه في منعها عن المناهى، وحملها على المعروف (فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)

أحسن جزاء أعمالهم (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) بإيتاء أو بإيلاء والديه (حُسْنًا) أى: فعلاً ذا حسن أو للمبالغة جعل الفعل حسنًا لفرط حسنه، قيل تقديره: وصيناه بتعهد الوالدين افعل بهما حسنًا، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه (وَإِن جَاهَدَاكَ) أي: وقلنا إن جاهداك (لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ) بإلاهيته (عِلْمٌ) فإن ما لا يعلم صحته لا يتبع سيما إن علم بطلانه (فَلَا تُطِعْهُمَا) في ذلك فلا طاعة في معصية (إِلَي مَرْجِعُكُمْ) مرجع الكل المؤمن والمشرك والبار والعاق (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالجزاء عليه، نزلت في سعد بن أبي وقاص حلفت أمه، إنها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت إن لم يرجع ابنها من الإسلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي) جملة (الصَّالِحِينَ) وكمال الصلاح منتهى الدرجات (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ) أصابه مضرة من المشركين للإيمان باللهِ (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) ما أصابه من جهتهم في الصرف عن الإيمان (كَعَذَابِ اللهِ) في الآخرة فجزع من عذابهم وأطاعهم كما يجزع ويطيع الله من يخافه وشتان ما بينهما، أو معناه إذا نزل عليهم مصيبة اعتقدوا أنها من نقمة الله للإسلام فارتدوا (وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ من ربِّكً) فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الدين فأعطونا من المغنم (أَوَلَيْسَ اللهُ) عطف على محذوف أي: أقَوْلُهُمْ ينجيهم وليس الله؟ (بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) من الإخلاص والنفاق (وَلَيَعْلَمَن اللهُ الذِينَ آمنوا) يعرف المؤمنين حقيقة (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) لا يشتبه عليه ولا

(14)

يمكن الإلباس عليه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا اتَّبِعوا سَبِيلَنَا) ديننا وطريقنا (وَلْنَحْمِلْ خَطايَاكُمْ) إن كان ذاك خطيئة عطفوا " ولنحملن " وهو أمر لأنفسهم على " اتبعوا " وهو أمر للمؤمنين إرادة للمبالغة وأن كليهما لا بد من الحصول، وهذا قول صناديد قريش (وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي: شيئًا من خطاياهم (إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) في إنجاز وعدهم هذا (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ) أثقال أنفسهم (وَأَثْقَالًا) أخر (مَعَ أَثْقَالِهِمْ) وهي أثقال أوزار من أضلوه من غير أن ينقص من أوزار متبعيهم شيئًا (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) سؤال تقريع وتوبيخ (عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من الأباطيل. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبثَ فِيهِمْ) بعد نبوته (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فَأَخَذَهُمُ الطوفَانُ) بعد هذه المدة لما لم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا (وَهُمْ ظالِمُونَ فَأَنجَيْنَاهُ) نوحًا (وَأَصْحَابَ السفِينَةِ) من كان معه فيها (وَجَعَلْنَاهَا) السفينة أو القصة (آيةً لّلْعَالَمِينَ) عن ابن عباس: بعث نوح وهو ابن أربعين سنة وعاش بعد الطوفان

ستين، فمجموع عمره ألف وخمسون سنة، وفي جامع الأصول أنه عاش بعد الطوفان خمسين، ومدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء (وَإِبْرَاهِيمَ) عطف على نوحًا (إِذْ قَالَ) ظرف لأرسلنا (لِقَوْمِهِ اعبدُوا الله وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم عليه (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشر (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ) تكذبون (إِفْكًا) كذبًا في أنها شركاء الله شفعاء أو تنحتونها للإفك، جعل نحتهم خلقًا وإيجادًا (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا) ولا يكون المعبود إلا الرازق، ورزقًا مفعول به من غير تأويل، والتنكير للتعميم (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) كله فإنه مالكه وحده (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فاستعدوا للقائه (وَإِن تكَذِّبُوا) أي: تكذبوني (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) رسلهم كقوم شيث وإدريس ونوح، ولم يضرهم تكذيبهم فلا يضرني تكذيبكم (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) اللام للجنس (إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وهذه الآية والتي بعدها إلا قوله: " فما كان جواب قومه " الأظهر أنها من جملة قول إبراهيم لقومه، ويحتمل أن يكون معترضة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفيسًا بين نصيحته وجواب قومه، أي: وإن تكذبوا محمدًا إلخ (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) من العدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) عطف على " أولَمْ يَرَوْا " لا على " يُبْدِئُ " فإنه في معرض الاستدلال من الأول على الثاني وما تعلق به رؤيتهم وإنما هو إخبار على حياله (إِنَّ ذَلِكَ) الإعادة بعد الإنشاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قلْ سيروا) حكاية كلام الله لإبراهيم على التقدير الأول (فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ) مع اختلاف أجناسهم (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) عطف على سيروا

(23)

(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعلق قدرته على جميع الممكنات على السواء (يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) تعذيبه (وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ) رحمته (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) تردون (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) ربكم إن هربتم (فِي الأَ رْضِ) بالتواري فيها (وَلاَ في السَّمَاءِ) بالتحصن فيه أو ولا في السماء لو كنتم فيها قيل تقديره ولا مَن في السماء (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِي وَلاَ نَصِير) لو أراد الله بكم ضرًّا. * * * (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) * * * (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ) بكتبه أو بدلائل وحدته (وَلِقَائِهِ) البعث (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) لإنكارهم البعث والجنة (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لكفرهم

(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) أي: إبراهيم له (إِلا أَن قَالُوا اقْتلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) أى: عذبوه أحد العذابين (فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) بعد ما قذفوه فيها بأن جعلها عليه بردًا وسلامًا (إِنَّ فِي ذَلِكَ) إنجائه منها (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإن الكفار غير موفقين على التدبر في مثل ذلك (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: لِتَوَادُّوا بينكم وتتواصلوا كما يتفق الناس على مذهب ليكون ذلك سبب تحابهم، وثاني مفعولي اتخذ محذوف وهو آلهة أو هو مودة بحذف مضاف، أي: سبب مودة، أو بأنَّهَا بمعنى مودودة وقراءة رفعها على تقدير هي مودة، أو سبب مودة على أنها صفة " أوثانًا " أو خبر لـ إنَّ، وما موصولة، أي: إن الذين اتخذتموهم (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) " كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا " (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ) لإبراهيم (لوطٌ) هو ابن أخي إبراهيم لا ابن أخته فإنه لوط بن هاران بن آزر وهو أول من آمن به، وفي الحديث " ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك خاطب به امرأته فالمراد والله أعلم أن ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام (وَقَالَ) إبراهيم (إِنِّي مُهَاجِرٌ) من قومي (إِلَى رَبِّي) هاجر من سواد الكوفة إلى حران ثم

منها إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيمنعني من الأعداء، ويوفقني بما هو صلاحي (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) وهو ولد إسحاق ولد في حياة إبراهيم (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) أي: جنسه وكل نبي بعده كان من ذريته (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) جمع له بين السعادتين سعادة الدنيا أي: الرزق الواسع، والمنزل الرحب، والزوجة الحسنة، والثناء الجميل إلى يوم القيامة، وسعادة الآخرة وهي لا يعرفها إلا الله (ولوطًا) عطف على نوحًا (إِذ قَالَ لِقَوْمِهِ) أرسل في حياة خليل الله إلى أهل سدوم (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) الفعلة القبيحة (مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ منَ العَالَمِينَ) استئناف مقرر لغاية قباحتها (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) فإنهم كانوا يقتلون المارين وينهبون أموالهم، وقيل: يقطعون سبيل النسل (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ) مجلسكم الغاصة (الْمُنْكَرَ) وفي الحديث " هو خذف أهل الطريق بالحصى والاستهزاء بهم "، أو الصفير وَلَعِبُ الْحَمامِ [وَحَلُّ أَزْرَارِ الْقِبَاءِ] ومضغ العلك وتطريف الأصابع بالحنا، أو الضراط والضحك والفحش في المزاح (فَمَا كَانَ

(31)

جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في النبوة، أو في الوعيد (قَالَ رَبِّ انصرْنِي عَلَى القَوْمِ المُفْسِدِينَ) بإنزال العذاب عليهم. * * * (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا

بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) * * * (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا) الملائكة (إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى) من الله بإسحاق وولده جاءوا على طريقة أضياف (قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ) سدوم (إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ) مستمرون على الكفر والفسق (قَالَ) إبراهيم (إِنَّ فِيهَا) في القرية (لوطًا) وهو في غير ظالم (قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) الباقين في العذاب (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ) أن صلة زيدت لاتصال الفعلين، وتأكيدهما (رُسُلُنَا لُوطًا) بعدما ساروا من عند إبراهيم في صورة أمارد حسانٍ (سِيءَ بِهِمْ) جاءته المساءة والغم بسببهم (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) أي: عجز وضاق بسببهم وتدبير أمرهم طاقته فإنه خاف عليهم من قومه (وَقَالُوا) لما رأوا غمه

(لَا تَخَفْ) علينا (وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) نصب أهلك لعطفه على محل الكاف أو بإضمار فعل (إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا) عذابًا (مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم (وَلَقَد تَّرَكنَا) من كلام الله تعالى (مِنْهَاَ) من قرية لوط (آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هي آثار منازلهم الخربة أو أنهارهم المسودة أو الأحجار الممطورة التي أهلكوا بها (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) عطف على نوحًا إلى قومه (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا اللهَ وَارْجُوا) اخشوا (اليَوْمَ الآخِرَ) وقيل: افعلوا ما ترجون به ثواب [اليوم] الآخر من إقامة المسبب مقام السبب (وَلاَ تَعْثَوْا) العثو أشد الفساد (في الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يعني لا تزيدوا في الفساد حال كونكم مفسدين (فَكَذبُوهُ فأَخَدتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة أو الصيحة أخرجت قلوبهم، أو عذاب يوم الظلة، وقد مر في سورة الأعراف وهود والشعراء (فأَصْبحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين (وَعَادًا وَثَمُودَ) منصوبان بفعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا وعدم انصراف ثمود بتأويل القبيلة (وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) بعض مساكنهم باليمن أو تبين لكم إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا رأيتموها (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) السيئة (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) عن الطريق المستقيم (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) عقلاء عند أنفسهم معجبين برأيهم أو كانوا في نفس الأمر متمكنين من النظر أو مستبصرين بضلالهم لكنهم لجوا (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ) عطف على عادًا وثمودا (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) فائتين بل

أدركهم أمر الله (فَكُلًّا) من المذكورين (أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا) ريحًا صرصرًا تحمل الحصباء فتلقيها عليهم، وتقتلعهم من الأرض ثم تنكسهم على أُمِّ رأسهم فتشدخهم، فكأنهم أعجاز نخل منقعر، وهم قوم عاد (وَمِنهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم ثمود (وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ) قارون (وَمِنْهُم مَّنْ أَغرَقْنَا) فرعون وهامان وروي عن ابن عباس أن الأول قوم لوط، والرابع قوم نوح، والأظهر ما ذكرنا قال بعض المحدثين: الرواية منقطعة عن ابن عباس (وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) فيما فعل بهم (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فاستقوا مقت الله (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ) يتكلون إليه (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) تعتمد عليه وتحسب أنه لها بيتًا (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لا بيت أضعف من بيتها مما يتخذه الهوام لا يدفع حرًّا ولا بردًا، ولا يحجب عن الأعين (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لعلموا أن هذا مثلهم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ) أي: الذي تدعونه من دون الله من شيء أي: شيء كان فيجازيكم قيل ما نافية ومن شيء مفعول تدعون يعني الله يعلم أنَّهم ما يعبدون شيئًا من دون الله، بل الذي يعبدون لا شيء، فعلى هذا توكيد للمثل وتجهيل لهم، ولا يخفى بعده (وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) فيقدر على الانتقام ولا يظلم، بل فِي أفعاله حِكَم (وَتِلْكَ الأَمْثالُ) هذا المثل ونظائره (نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ) نبينها تقريبًا لما بعد من أفهامهم (وَمَا يَعْقِلُهَا) لا يفهمها ولا يتدبر فيها (إِلا العَالِمونَ) في الحديث في تفسير تلك الآية العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه (خَلَقَ اللهُ

(45)

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) لا على وجه العبث (إِنَّ فِي ذَلِكَ) الخلق (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنهم يتدبرون في صنائع ملكه. * * * (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) * * * (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) أمره بقراءة القرآن (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي: إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك، وفي

الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعدًا) أو مراعاتها تجره إلى الانتهاء، وفي الحديث (قيل له عليه السلام إن فلانًا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال: سينهاه ما تقول) والصلاة تنهاه عن ذلك حين الصلاة (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وأفضل من كل شيء فالصلاة لما كانت كلها مشتملة بذكره تكون أكبر من غيرها من الطاعة، أو ذكر الله لعباده أكبر من ذكرهم إياه، وهذا هو المنقول عن كثير من السلف (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون) فيجازيكم (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلا بطريقة هي أحسن فإن من أراد الاستبصار منهم إذا رأوا منكم لينًا وسمعوا منكم حججًا لاهتدوا، قال تعالى: " ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " [النحل: 125] الآية، والظاهر أنها غير منسوخة بآية السيف (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالإفراط في المعاداة فانتقلوا معهم من الجدال إلى الجلاد (وَقُولُوا آمَنَّا بِالذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وأُنزِلَ إِلَيْكُمْ) هذا كأنه من المجادلة الحسنة (وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ)، خاصة (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فيه تعريض بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربانًا من دون الله (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) كتابًا مصدقًا لسائر الكتب قال ابن جرير: معناه أنزلنا إليك الكتاب يا محمد كما أنزلنا على من قبلك من الرسل (فَالَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونُ بِهِ) كمؤمني أهل الكتاب (وَمِنْ هَؤُلاءِ) الذين بين ظهرانيك (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) كمؤمني العرب (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا) مع ظهور معجزاتها (إِلَّا الْكَافِرُونَ) المتوغلون فيه (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ) قبل نزول القرآن (مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)

(52)

ذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبًا (إِذًا) لو كان شيء من التلاوة والخط (لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) فيقولون لعله قرأه والتقطه من الكتب المتقدمة (بَلْ هُوَ) القرآن (آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يتلونه من حفظهم لا من مصاحفهم وذلك من خاصة هذا الكتاب فإن سائر الكتب ما كان يقرأ إلا من المصاحف، ولهذا جاء في صفة أمة محمد في الكتب المتقدمة صدورهم أناجيلهم أو معناه، بل العلم بأنك أُمي لا تقرأ أو لا تخط آيات بينات في صدور العلماء الأخيار (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) المكابرون مع وضوح دلائل صدقه (وَقَالُوا لَوْلا) هلا (أنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ) كناقة صالح، وعصا موسى (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) هو القادر على إنزالها لا غير (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مبِينٌ) ليس من شأني إنزال الآيات (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) أي: ألم يردعهم عن طلب آية ولم يكفهم (أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) مع علمهم بأنك أُمي لا تخط ولا تقرأ (إِنَّ في ذَلِكَ) القرآن وإنزاله (لَرَحْمَةً) نعمة (وَذكْرَى) تذكرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون به. * * * (قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ

بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) * * * (قُلْ كَفَى بِاللهِ) الباء يزاد في فاعل كفى (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا) يرى تبليغي ونصحي، وتكذيبكم وتعنتكم (يَعْلَم مَا في السَّمَوَات وَالْأَرْضِ) فلا يخفي عليه حالي وحالكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالباطِلِ) كالطواغيت (وَكَفَرُوا بِاللهِ أُوْلَئِكَ هُم الخَاسِرُونَ) في صفقتهم (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) كما يقولون: أمطر علينا حجارة من السماء (وَلَوْلا أَجَلٌ مسَمًّى) لعذاب قومك (لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ) عاجلاً (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) بإتيانه (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) لا يبقى منهم أحد إلا دخلها (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ)

ظرف محيطة يعني لا يليق استعجالهم، ومثل هذا العذاب معد لهم وعن بعض السلف: إن جهنم هو البحر، وهو محيط بهم ينتثر فيه الكواكب ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي مسند الإمام أحمد أنه قال عليه السلام: " البحر هو جهنم " فعلى هذا يوم ظرف لمحذوف، أي: يوم يغشاهم العذاب كيت وكيت (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ) الله (ذُوقُوا) جزاء (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) نصب فإياي بفعل يفسره ما بعده،

وهو جواب شرط محذوف، أي: أرضي واسعة فإن لم تتمكنوا في إخلاص العبادة في أرض فاعبدوني في غيرها ولما حذف الشرط عوض عنه تقديم المفعول مع أن التقديم مفيد للاختصاص نزلت في ضعفة المسلمين الذين لم يستطيعوا الهجرة إلى المدينة، أو في قوم خافوا من ضيق العيش، وتخلفوا عن الهجرة (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) فاستعدوا له بأي طريق تيسر لكم أو خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ننزلنهم (مِّنَ الجَنَّةِ غرَفًا) نصب غرفًا على قراءة لنبوئنهم أي: لنقيمنهم مفعول ثان أيضًا لإجرائه مجرى لننزلهم أو بنزع الخافض أو تشبيه الظرف المعين بالمبهم لأنه منكر كـ أرضًا فِي " أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا " [يوسف: 9] (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) ذلك (الذِينَ صَبَرُوا) على مفارقة الأوطان والمشاق لله (وَعَلَى رَبِّهِمْ) لا على غيره (يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا ترفع رزقها معها ولا تدخره (اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) أيضًا إن كنتم تجمعون وتدخرون فلا تخافوا على معيشتكم بالهجرة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد (الْعَلِيمُ) بأحوالهم فلا يغفل عنهم أبدًا (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي: أهل مكة (مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: إذا كان هذا جوابهم فكيف يصرفون عن توحيده فإنهم مقرون بأنه خالقها (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) يضيق (لَهُ) هذا الضمير غير عائد إلى من، بل وضع موضع لمن يشاء بجامع كونهم مبهمين، وهذا من توسعهم فيتعدد المرزوق أو عائد إليه والتعدد بحسب أحواله يبسط له تارة ويقبض له أخرى (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم مصالحهم ومفاسدهم وهذه

(64)

الآية لبيان أنه كما هو خالق فهو رازق، وهم معترفون به أيضًا كما يبين بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ) فإن المطر هو السبب الكلي لوجود الرزق، وهم مع اعترافهم بخالقيته ورازقيته يعدلون عنه (قُلِ) يا محمد: (الْحَمْدُ لله) على ظهور حجتك عليهم، وعلى عصمتك عن مثل تلك الضلالة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) ما يقولون من الدلالة على بطلان الشرك. * * * (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) * * * (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) إشارة تحقير (إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) كما يجتمع الصبيان سويعة مبتهجين، ثم يتفرقون وليس في أيديهم سوى إتعاب البدن (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) الحياة الحقيقية التي لا موت فيها، فكأنها في نفسها حياة والحيوان مصدر حي وقياسه حية ففيه شذوذان قلب الياء واوًا وترك الإدغام (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) حقيقتها لعلموا صحة ما قلنا (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

الدِّينَ) يدعون أصنامهم ولا يدعونها، يبين أنَّهم مع الاعتراف بخالقيته ورازقيته في بعض الأحيان يعترفون بوحدانيته ومع ذلك يشركون (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) فاجئوا المعاودة إلى شركهم من غير تأمل وسبب، (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) من النعم (وَلِيَتَمَتَّعُوا) اللام لام الأمر على التهديد من باب " اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ما فعلوا (أَوَلَمْ يَرَوْا) أهل مكة (أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) جعلنا بلدتهم ذا أمن لا يغار على أهله (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) يختلسون تغزوا العرب بعضهم بعضًا حولهم، وهم آمنون مع قلتهم وكثرة العرب (أَفَبِالْبَاطِلِ) أي: أبعد [هذه] النعمة الظاهرة بالصنم (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) حيث أشركوا به غيره (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ) بالرسول أو القرآن (لَمَّا جَاءَهُ) بلا تأمل واستعمال فكر (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) تقرير لثوائهم فيها أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الافتراء وكذبوا هذا التكذيب (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) في حقنا ومن أجلنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) الطرق الموصلة إلى جنابنا وثوابنا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصرة والإعانة. والحمد لله حقَّ حمده. * * *

سورة الروم

سورة الروم مكية إلا قوله - " فسبحانَ اللهِ " وهى ستون أو تسع وخمسون آية وست ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10) * * * (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام أو أدنى أرضهم إلى عدوهم، وهي الجزيرة أو الأردن، (وَهُم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ)،

من إضافة المصدر إلى المفعول، (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ)، البضع ما بين الثلاث إلى العشر أو إلى التسع نزلت حين بلغ خبر غلبة فارس على الروم إلى مكة فشمت أهلها وقالوا: أنتم أيها المؤمنون والنصارى أهل كتاب، ونحن وأهل فارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن نحن عليكم، (لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ): من قبل كونهم غالبين، (وَمِنْ بَعْدُ): بعد كونهم مغلوبين يعني: ليس مغلوبيتهم

وغالبيتهم إلا بإرادته وقضائه، (وَيَوْمَئِذٍ): يوم يغلب الروم فارس، (يَفْرَحُ الُمؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ): بتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له أو لأجل ظهور صدقهم فيما أخبروا به من غلبة الروم، (يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ): ينتقم من عباده تارة بالمغلوبية، (الرَّحِيمُ) فيتفضل أخرى بالنصر، (وَعْدَ اللهِ)، مصدر مؤكد لنفسه، (لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): صحة وعده لكفرهم، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فإن لها ظاهرًا وهو التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها وباطنًا وهو أنها مجاز إلى الآخرة، ومزرعتها، جملة مستأنفة لبيان موجب جهلهم، (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ): لا يخطر ببالهم، فهم عقلاء في أمور الدنيا بُلهٌ في أمور الدين، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)، التفكر لا يكون إلا في القلوب لكن فيها زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك: أضمره في نفسك، (مَا خَلَقَ اللهُ)، ما نافية متعلق بمحذوف، أي: فيقولوا أو فيعلموا ما خلق الله، (السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا): متلبسة، (بِالْحَقِّ): لا عبثًا وباطلاً، (وَأَجَلٍ مسَمًّى) تنتهي عنده وهو قيام الساعة، عطف على الحق، أو معناه أولم يتفكروا في أمر أنفسهم فإنها عالم صغرى فيعلموا حقيقة خلق العالم الكبرى وفناءه، ومن عرف نفسه فقد عرف ربَّه، (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ): قيام الساعة، (لَكَافِرُونَ): جاحدون، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ): ألم يسافروا؟! (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): فينظروا مصارع الأمم السالفة المكذبة، فيعتبروا، (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)، كعاد وثمود، (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ)، قلبوها للزراعة، (وَعَمَرُوهَا): بالأبنية أو بالزراعة، (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا)، فإنهم في واد غير ذي زرع، (وَجَاءتْهُمْ

(11)

رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): فكذبوهم، (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ)، فإنه حرم الظلم على نفسه، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، حيث عملوا ما استحقوا به التدمير، (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) أي: هم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كانت عاقبتهم عقوبة هي أسوء العقوبات السوأى تأنيث الأسوء كالحسني، (أَنْ كَذَّبُوا) أي: لأن، (بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ)، قيل: السوأى مفعول أساءوا أي: اقترفوا الخطيئة، و " أن كذبوا " خبر كان، أي: كان عاقبتهم أن طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا واستهزءوا بالآيات. * * * (اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) * * * (اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، بعد الإعادة للجزاء، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ): يسكت أيسًا من كل خير، (المجرِمُونَ): الكاملون في الجرم،

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ): ممن أشركوا بالله، (شُفَعَاءُ وَكَانُوا): فى الآخرة، (بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ): يكفرون بهم بعد اليأس من شفاعتهم، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ)، تأكيد ليوم تقوم الساعة، (يَتَفَرَّقُونَ)، أي: المؤمنون والكافرون تفرقًا لا اجتماع بعده، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) هي أرض ذات نبات وماء، (يُحْبَرُونَ): يسرون سرورًا تهلل له وجوههم، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) لا يغيبون عنه أبدًا وهذا تفصيل لتفرقهم، (فَسُبْحَانَ اللهِ)، تنزيه منه تعالى لنفسه الأقدس وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده فى هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: هو المحمود فيهما وعلى أهلهما أن يحمدوه، (وَعَشِيًّا) عطف على حين تمسون، وله الحمد إلخ، اعتراض مناسب للتسبيح، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهيرة وسط النهار وفي الحديث

(20)

" من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون (الآية) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته "، وعن ابن عباس الآية جامعة للصلوات الخمس حين تمسون المغرب، والعشاء وعشيا العصر والباقي ظاهر، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): كالإنسان من النطفة، والنطفة منه، (وَيُحْيِ الْأَرْضَ): بإخراج النبات، (بَعْدَ مَوْتِهَا)؛ يبسها، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك الإخراج، (تُخْرَجُونَ): من قبوركم. * * * (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) * * *

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، فإنه أصل الكل، (ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي: ثم فاجأتم وقت كونكم بشرًا منتشرين في الأرض، فثم لتراخي الرتبة، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا): من جنسكم، أو المراد خلق حواء من ضلع آدم، قيل: المراد خلقن من نطف الرجال، (لِتَسْكُنُوا): لتميلوا وتألفوا، (إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) بين الرجال والنساء، (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً): بعد أن لم تكن سابقة معرفة ولا سبب يوجب التعاطف، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ): في غرائب صنعه، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ): لغاتكم وايم الله إنه من غرائب صنعه، فَلِكُلٍّ لغة والكل مركب من تسعة وعشرين حرفًا، ولو تكلم صاحب لغة بلغته من مبدأه إلى منتهاه بحكايات مختلفة متميزة لتمكن منه، ولا يتحد كلام بكلام مع اتحاد ما ركب منه، (وَأَلْوَانِكُمْ)، هيئاتكم وحُلاكم بحيث وقع التمايز حتى بين التوأمين، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) لا تكاد تخفى على أحد، (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) من باب اللف، أي: منامكم، وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار وهما ظرفان والواقع فيهما مظروفهما، والظرف والمظروف كشيء واحد فلا فصل بالأجنبي والنكتة في العدول هي الاهتمام بشأن الظرف، أو المراد منامكم في الزمانين وطلب المعاش فيهما فحذف من أحد المتقابلين ما يقابل الآخر للدلالة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ): سماع تَفَهمٍ، (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ) أي: إراءة البرق نزل الفعل منزلة المصدر، (خَوْفًا وَطَمَعًا): إراءة خوف وطمع أو إخافة

وإطماعًا من الصاعقة، وفي الغيث أو خائفين وطامعين أو مفعول له لفعل يلزم المذكور كأنه قيل يجعلكم رائين البرق خَوْفًا وَطَمَعًا، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أي: إنزاله منه، (فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) يعني قائمتان بأمره لهما، وتسخيره إياهما من غير مقيم مشاهد لما كان القيام غير متغير أخرج الفعل بما يدل على أنه اسم، وهو إن ليدل على الثبوت لكن إراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة لم يذكر معها ما يدل على المصدر، (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)، عطف على أن تقوم أي: ومن آياته قيام السماء ثم خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف وثم لعظم ما فيه، ومن الأرض ظرف دعاكم وإذا الثانية للمفاجأة تنوب مناب الفاء في جواب الشرط، (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): خلقًا وملكًا، (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ): منقادون لتصرفه فيهم، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ) أي: أن يعيده، (أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، بالقياس إلى أصولكم وإلا فهما عليه بالسوية، أو أهون بمعنى هين قيل: أهون على الخلق فإنهم يقومون بصيحة واحدة فهو أهون من أن يكونوا نطفًا، ثم كذا ثم كذا (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى): الوصف العجيب الشأن الذي ليس لغيره ما يدانيه كالوحدة والقدرة، (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ): الذي يغلب ولا يغلب، (الْحَكِيمُ): في أفعاله. * * *

(28)

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) * * *

(ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ): منتزعًا من أحوالها من للابتداء، (هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ): من مماليككم، من للتبعيض، (مِّن شُرَكَاءَ)، من زيدت للتأكيد، لأن الاستفهام بمعنى النفي، (فِى مَا رَزَقناكُمْ): من أموال وأولاد، (فَأَنتُمْ فيه سَوَاءٌ)، يعني: هل ترضون أن يشارككم بعض مماليككم في أموالكم فتكونون أنتم وهم على السواء من غير تفصلة في التصرف، (تَخَافُونَهُمْ): تهابون أن يستبدوا بتصرف، (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، كما يهاب بعضكم بعضًا من الأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فكيف لرب الأرباب مالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء، كان بها يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التفصيل، (نُفَصِّلُ): نبين، (الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلمُوا): أشَركوا، (أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْم): جاهلين ليس لهم رادع، (فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللهُ): من يقدر على هداية من أراد الله إضلاله، (وَمَا لَهُم مِن نَّاصِرِينَ): يخلصونهم من الغواية وبوائقها، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ): قومه، (لِلدِّينِ حَنِيفًا): لا تلتفت عنه وتوجه بكليتك إليه، وحنيفًا حال إما من فاعل أقم أو من الدين، (فِطْرَتَ اللهِ): الزموا فطرته، أي: خلقته أو دينه، (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، فإنه فطر الخلق على معرفته وتوحيده ثم طرأ على بعضهم العقائد الفاسدة، (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ): ما ينبغي أن يبدل تلك الفطرة، وقيل: لا تبديل لما

جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، (ذلِكَ)، إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة المفسرة بالدين، (الدِّينُ الْقَيِّمُ): المستوي الذي لا عوج فيه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): استقامته، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ): راجعين إليه بالتوبة حال من فاعل الزموا أو أقم وخطاب الرسول خطاب لأمته، (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ) بدل من المشركين، (فَرَّقوا دِينَهم): جعلوه أديانًا مختلفة، (وَكَانوا شِيَعًا): فرقًا، (كل حِزْب): منهم، (بِمَا لَدَيْهِمْ فرِحُون): مسرورون بمذهبهم يحسبون أنَّهم على شيء، (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ): شدة، (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ): بالدعاء، (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً): خلاصًا من تلك الشدة، (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فاجأ بعضهم بالإشراك بالله، (لِيَكْفرُوا)، اللام لام العاقبة، (بِمَا آتَيْنَاهُمْ) أو لام الأمر للتهديد فيناسب قوله (فَتَمَتَّعُوا)، لكن فيه التفات للمبالغة، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ): عاقبة تمتعكم، (أَمْ أَنزَلْنَا): بل أنزلنا، (عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا): حجة، (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ): ينطق، (بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي: الحجة، ناطقة بالأمر الذي بسببه يشركون أو بإشراكهم بالله، (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً): نعمة، (فَرِحُوا بِهَا): فرح البطر، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ): شدة، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)، من المعاصي، (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) فاجأوا القنوط من رحمة الله، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ

يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيق لمن يشاء فما لهم يقنطون من رحمته ولا يشكرون كالمؤمنين، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فإنهم مستدلون بها على حكمته وقدرته، (فآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ): من الصلة والبر، لما ذكر بسط الرزق أتبعه ذكر الصدقة فجيء بالفاء، (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السبِيلِ)، وحقهم نصيبهم من الصدقة، (ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي: جهته، وجانبه أو يريدون النظر إليه في الآخرة، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم، (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا)، أي: ما أعطيتم من أجل ربا، (لِيَرْبُوَ): ليزيد ويزكو، (فِي أَمْوَالِ النَّاسِ) أى: بين أموالهم، (فَلَا يَرْبُو): لا يزكو، (عِنْدَ اللهِ)، ولا يثاب عليه يعني من يعطى عطية يريد أن يرد المهدى له أكثر مما أهدى فلا ثواب له لكن هذا ليس بحرام أو الآية في الربا المحرم والأول هو قول السلف، (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ): صدقة، (تُرِيدُونَ): به، (وَجْهَ اللهِ) أي: مخلصين، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي: ذو الإضعاف من الثواب وضمير ما محذوف أي المضعفون به، (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)، " من " موصولة مبتدأ و " من شركائكم " خبره و " من " للتبعيض، و " من شيء " مفعول يفعل ومن زيدت لتعميم المنفي ومن في " من ذلكم " إما للبيان قدم أو للتبعيض، قيل من استفهامية ويفعل خبره ومن شركائكم بيان من قدم عليه وفي هذا الوجه من المبالغة ما ليس في الأول ولما أثبت صفات الألوهية لله ونفاها عن الشركاء استنتج من ذلك تقدسه عن الشركة فقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، عطف على ناصب سبحانه، (عَمَّا يُشرِكُون).

(41)

* * * (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) * * *

(ظَهَرَ الفَسَادُ) كالجدب وقلة الأمطار، وقلة الريح وكثرة الوباء، والمحن ومحق البركات، (فِي البَرِ): الفيافي، (وَالْبَحْرِ): الأمصار والعرب تسمى الأمصار البحار أو المراد منهما المعروفان، وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر وخلت أجواف الأصداف، (بِمَا كسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ): من المعاصي، (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ) أي: جزاء بعض، (الَّذِي عَمِلُوا): في الدنيا واللام للعلة متعلق بظهر، (لَعَلهمْ يَرْجِعُونَ): عما هم عليه، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ)، ليروا في منازلهم آثار البلاء وكيف خبر كان، (كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)، استئناف للدلالة على سوء عاقبتهم لفشو الشرك فيهم، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ): قوم وجهك له وعَدِّله، (القَيمِ): البليغ الاستقامة، (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ): لا يقدر أن يرده أحد، (مِنَ اللهِ)، ظرف يأتي أو مرد أي: لا رد من جهته لأن إتيانه في علمه القديم ومرد مصدر بمعنى الرد، (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ): يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ): لا على غيره، (كُفْرُهُ): وبال كفره، (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَّاَ): عملاً صالحًا، (فَلأَنفُسِهِمْ) لا لغيرها، (يَمْهَدُونَ): يسوون في آخرتهم منزلاً، (لِيَجْزِى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ مِن فَضْلِهِ)، علة لـ يصدعون أو لـ لا مرد أو لـ يأتي، والاقتصار على جزاء المؤمن للإشعار بأنه المقصود

بالذات أو الاكتفاء على فحوى قوله (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، ومن فضله دال على أن الإثابة تفضل محض، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ): بالمطر فالصبا والشمال والجنوب رياح رحمة، (وَلِيُذِيقَكُم مِن رحْمَتِهِ): التابعة لنزول المطر كالخصب، وزكاء الأرض وغيرهما عطف على مبشرات بحسب المعنى أو على محذوف أي مبشرات بالمطر لفوائد جمة وليذيقكم، (وَلِتَجْرِيَ الفُلْكُ): بهذه الرياح، (بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ)، يعني تجارة البحر، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): ولتشكروا نعمة الله، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ) كما أرسلناك، (فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات الظاهرات فبعضهم كذبوا بها، (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) وهم المكذبون، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا) من جهة الوعد واللطف، (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، فيه تبشير النبي - صلى الله عليه وسلم -

عليه السلام والمؤمنين، (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا): تخرجه من أماكنه، (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ): في سمتها، (كيْفَ يَشَاءُ): سائرًا وواقفًا مطبقًا وغيره إلى غير ذلك، (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) أي: تارة يبسطه وتارة يجعله قطعًا، (فَتَرَى الْوَدْقَ): المطر، (يَخْرُجُ): في التارتين، (مِنْ خِلالِهِ): وسطه، (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) فاجأوا بالاستبشار، (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم): المطر، (مِن قَبْلِهِ) تكرير للتأكيد ومعنى التأكيد الدلالة على بعد عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم، (لَمُبْلِسِينَ) آيسين، عن بعض الفضلاء إن الظرف الأول لـ مبلسين، والثاني لـ ينزل، أي: ينزل من قبل وقت نزوله كما إذا كنت معتادًا لعطاء من أحد في وقت معين فتأخر عن ذلك الوقت، ثم أتاك به فتقول: قد كنت آيسًا من قبل أن تجيئني بهذا من قبل هذا الوقت، (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ): الغيث، (كَيْفَ يُحْيي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ) أي: من هو محيي الأرض، (لَمُحْييِ الْمَوْتَى): بعد إماتتهم، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا): مضرة، (فَرَأَوْهُ) الضمير لأثرها أي: النبات والزرع، (مُصْفَرًّا): من الجائحة، (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد اصفرار الزرع، (يَكْفُرُونَ) وأما المؤمنون فيفرحون بنزول الرحمة لا فرح بطر ويشكرون ويرون الجائحة من شؤم أنفسهم ويستغفرون، واللام موطئة للقسم، وقوله " لَظَلُّوا " جواب له ساد جزاء الشرط، (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى): والكفار في عدم جدوى السماع مثلهم، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) الأصم

(54)

المقبل ربما يفطن من الكلام بمعونة مشاهدة القرائن شيئًا منه بخلاف المدبر، (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ) والكفار كمن لا عين له يضل الطريق وليس لوسع أحد أن ينزع عنه العمى، ويجعله بصيرًا، (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا): ما ينفعع الإسماع إلا لمن علم الله أنه يصدق بآياته وما طبع على قلبه، (فَهُم مُّسْلِمُونَ): منقادون لما تأمرهم. * * * (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) * * * (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)، يعني: ابتدأكم ضعافًا كقوله: " خلق الإنسان من عجل " [الأنبياء: 37] يعني أساس أمرهم

وما عليه جبلتهم الضعف، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً): رجح إلى حالة الطفولية، (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ) فإن هذا الترديد في هذه الأحوال أظهر دليل على صانع عليم قدير، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ): القيامة، (يُقْسِمُ): يحلف، (الْمُجْرِمُونَ): المشركون، (مَا لَبثُوا) في الدنيا، (غَيْرَ سَاعَةٍ) واحدة، ومقصودهم بذلك عدم الحجة عليهم وأنَّهم لم ينظروا، أو لم يمهلوا ليؤمنوا أو مرادهم ما لبثوا في قبورهم، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الصرف، (كَانُوا يُؤْفَكُونَ)، عن الصدق في الدنيا أراد الله تفضيحهم فحلفوا على ما تحقق كذبه على الكل، (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيمَانَ): ردًّا عليهم، (لَقَدْ لَبثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ): في علم الله أو اللوح المحفوظ، (إِلَى يَوْمِ البَعْثِ) يعني: مبين في كتاب الله أنكم لبثتم من ساعة، بل إلى يوم البعث، ومعلوم أنه مدة ممتدة، وعن بعض معناه: الذين أوتوا العلم في كتاب الله يعني: الذين قرءوا في القرآن، " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " [المؤمنون 100] قالوا للمنكرين: لقد لبثتم في البرزخ إلى يوم البعث، وقيل: معناه لبثتم في تصديق كتاب الله إلى يوم القيامة، (فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ) أي: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، (وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ): لا يطلب منهم إزالة غضب الله عليهم بالتوبة، (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ): بينا لهم من كل مثل يرشدهم إلى التوحيد والبعث، (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أي آية كانت، (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ

كَفَرُوا): من فرط عنادهم، (إِنْ أَنتُمْ) أي: ما الرسول والمؤمنون، (إِلَّا مُبْطِلُونَ): مزورون، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الطبع، (يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون): فلا يدخلها إيمان ولا إيقان والأصل على قلوبهم وضع المظهر موضع المضمر لبيان جهلهم، (فَاصْبِرْ): على أذاهم، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ): فينصركم ولو بعد حين، (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ): لا يحملنك على الخفة والجزع، (الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ): المشركون. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * * *

سورة لقمان

سورة لقمان مكية قيل إلا ثلاثًا من قوله: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) وهي أربع وثلاثون آية وأربع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) * * * (الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) المشتمل على الحكم، أو المحكم آياته قيل: وصف كتاب الله بصفة الله على الإسناد المجازي، (هُدًى) حال عن الآيات،

(وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ): أيقنوا بالدار الآخرة، والجزاء فيها فرغبوا إلى الله وأخلصوا العمل، (أوْلَئِكَ ًهُدًى مِّن ربِّهِمْ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ): في الدارين، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ)، من يحب الغناء ويختاره، والمزامير على حديث الحق أو يشتري المغنيات ويرغب الناس في سماعها أي: ذات لهو الحديث أو نزلت في من اشترى كتب أخبار سلاطين العجم، ويحدث بها قريشًا فيختارون استماعه على

استماع القرآن، (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): عن دينه، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من فاعل يضل قال قتادة رضى الله عنه: بحسب المرء من الجهل أن يختار حديث الباطل على الحق أو يشريه بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة، (وَيَتَّخِذَهَا) أي: سبيل الله، (هُزُوًا): سخرية، (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ): لإهانتهم الحق، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى): أعرض عنها، (مُسْتَكْبِرًا) متكبرًا، (كَأَنْ) أي: كأنه، (لَمْ يَسْمَعْهَا)، حال أي: مشابهًا حاله بحاله أو استئناف، (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)، ثقلاً مانعًا عن الاستماع بدل من كان أو حال من فاعل لم يسمع أو استئناف، (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فيه تهكم، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه، (حَقًّا) مؤكد لغيره، (وَهُوَ العَزِيزُ): الغالب المطلق، (الحَكِيمُ): في أفعاله، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا): صفة لعمد يعني لها عمد غير مرئية أو استئناف أي: ترونها لا عمد لها، (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ): جبالاً شوامخ، (أَن تَمِيدَ) كراهة أن تميد (بكُمْ) فإن الأرض كانت تضطرب قبل خلق الجبال، فلا يمكن السكون على وجهها، َ (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ): من كل صنف كثير النفع، (هَذَا خَلْقُ اللهِ): مخلوقه، (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ

(12)

دُونِهِ) أي: آلهتكم حتى استوجبوا عندكم عبادتها ونصب ماذا بـ خلق أو ماذا مبتدأ وخبر أي: ما الذي خلق وحينئذ أو أروني معلق عنه، (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بضلال ليس بعده ضلال. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) الأصح، بل الصحيح أنه ما كان نبيًّا، بل كان عبدًا صالحًا أدرك داود عليه السلام، وعن كثير من السلف: إنه عبد

أسود آتاه الله تعالى الحكمة، وعن بعض: إن الله خيره بين النبوة، والحكمة، فاختار الحكمة فإن فيها السلامة، (أَنِ اشْكُرْ)، أي: لأن أو مفسرة فإن إيتاء الحكمة في معنى القول، (لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ): نفعه لا يعود إلا إليه، (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِي): لا يحتاج إلى شيء، (حَمِيدٌ): حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد، (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ)، تصغير إشفاق، (لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، نقل أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال بهما حتى أسلما، (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ): برعايتهما، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ): تضعف ضعفًا فوق ضعف أو ذات وهن على وهن، (وَفِصَالُهُ): فطامه، (فِى عَامَيْنِ)، أي: في انقضائهما، وذلك أقصى مدة الرضاع عطف على الجملة الحالية التي هي تهن وهنًا على وهن لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم من المتاعب في حمله، وفصاله إيجابًا للتوصية بها خصوصًا، (أَنِ اشْكُرْ) تفسير لوصينا

أو علة له، (لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فأجازيك، (وَإِن جَاهَدَاكَ): بالغاك وحرضاك، (عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي: ما ليس بإله يعني: ما ليس لك علم باستحقاقه للإشراك تقليدًا للوالدين فـ " ما ليس " مفعول تشرك، (فَلَا تُطِعْهُمَا): في ذلك، (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) أي: صحابًا معروفًا مشروعًا حسنًا بخلق جميلٍ وحلمٍ وبرٍ ومروة، (وَاتبِعْ): في دينك، (سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ): رجع، (إِلَيَّ): بالتوحيد والطاعة، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي: المولود والوالدين، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بجزاء عملكم والآيتان أعني: ووصينا إلى هنا وقعتا في أثناء وصية لقمان على سبيل الاستطراد تأكيدًا لما في وصيته من النهي عن الشرك، وقد نقل أنهما نزلتا حين قالت أم سعد لسعد حين أسلم: لتدعن دينك أو لأدع الطعام والشراب حتى أموت، فأجاب: والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا بشيء إن شئت كلي وإن شئت لا تأكلي، (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا) أي: الخصلة السيئة قيل: إن لقمان قال ذلك في جواب ابنه حين قال له: إن عملت

خطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؛ (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ): في أخفى مكان وأحرزه، وعن بعض إن المراد منها: صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ)، أو في أعلى مكان أو أسفله، (يَأْتِ بِهَا اللهُ): يحضرها يوم القيامة للجزاء، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ): يصل علمه إلى كل خفي، (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ): من الشدائد، (إِنَّ ذَلِكَ): الصبر أو المذكور كله، (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي: مما عزمه الله أي قطعه وأوجبه من الأمور، وهو مصدر للمفعول أي من معزوماتها أو مفروضاتها، (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ): لا تمله، (لِلنَّاسِ)، كما يعمله المتكبرون، يعني: لا تعرض عن الناس بوجهك إذا كلموك تكبرًا، (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) أي: لا تمرح مرحًا أو للمرح والبطر كما قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس) [الأنفال: 47]، (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ): ذي تكبر، (فَخُورٍ): يفتخر على

(20)

الناس، ولا يتواضع، (وَاقْصِدْ في مَشْيِكَ): توسط بين الدبيب والإسراع، (وَاغْضُضْ): وانقص وأقصر، (مِن صَوْتِكَ إِن أَنكَرَ الأَصْوَاتِ): أوحشها، (لَصَوْتُ الحَمِيرِ) أي: لصوت ذلك الجنس من الحيوان، فإنه صوت رافع لا فائدة فيه. * * * (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِمَا

تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) * * * (أَلَمْ تَرَوْا أَن الله سَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ): بأن جعله أسباب منافعكم، (وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ): أوفى وأتم، (عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً): محسوسة وما تعرفونه، (وَبَاطِنَةً): معقولة وما لا تعرفونه، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ) أى: مع هذا بعض الناس يجادل في صفاته وإرساله للرسل، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) غير مستند بحجة عقلية، (وَلاَ هُدًى وَلاَ كتابٍ منِيرٍ) أي: ولا نقلية من اتباع رسول وكتاب واضح مضيء، بل قلدوا جهالهم كما قال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوَهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ): أيتبعونهم ويقلدونهم؟ ولو كان الشيطان يدعوهم إلى جهنم! (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ): انقاد لأوامر الله وتوكل عليه، (وَهُوَ مُحْسِنٌ): في عمله باتباع الشرع، (فقَدِ استمسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى): اعتصم بأوثق حبل، مثل حال المتوكل المطيع بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاستمسك بأوثق عروة من حبل مأمون انقطاعه، (وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأمورِ): مرجعها إليه، (وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ)، فإنه بإرادتنا ولا يضرك، (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) يعني:

لا يضرك كفرهم، ونحن ننتقم منهم فعليهم ضره، (إِن اللهَ عَلِيمٌ بذَات الصُّدُورِ): فيجازيهم عليه فضلاً عن أعمالهم الظاهرة، (نمَتِّعُهُمْ): زمانًا، (قليلاً) أو تمتيعًا قليلاً، (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ): نلجئهم في الآخرة، (إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ): شديد ثقيل على المعذب، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لله)، إذ قامت الحجة عليكم باعترافكم، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): أن ذلك إلزام لهم، (للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ) المطلق لا يحتاج إلى عبادة عابد، (الحَمِيدُ): المستحق للحمد وإن لم يحمد، (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ)، عطف على محل (أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) فإنه في المعنى فاعل لثبت المقدر بعد لو، (يَمُدُّهُ) أي: البحر وهو حال أو البحر مبتدأ ويمده خبره، والواو للحال من غير ضعف، (مِنْ بَعْدِهِ) أي: بعد ذلك البحر، (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)، فاعل يمده وهى للتكثير لا للحصر، وقد نقل أن في العالم سبعة أبحر محيطة بالعالم، (مَا نَفِدَتْ

صفحة فارغة

كَلِمَاتُ اللهِ) يعني لو ثبت أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات علم الله وحكمته لما نفدت ونفدت الأقلام والمداد وهو كقوله:

(نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) نزلت حين قال أحبار اليهود: يا محمد بلغنا أنك تقول، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً أفعنيتنا أم قومك؟ فقال: كُلًّا، فقالوا: إنك تتلوا إنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء، فقال عليه السلام: هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم، وهذا يقتضي أن الآية مدنية، والمشهور أنها مكية، قال بعض السلف: أمر اليهود وفد قريش أن يسألوه وهو بمكة، (إِذ اللهَ عَزِيزٌ): لا يعجزه شيء، (حَكِيمٌ): في جميع شئونه، (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، فإنه يكفى في الكل تعلق الإرادة، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ): يسمع ويبصر كل مسموع ومبصر لا يشغله شأن عن شأن، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ): فيطول النهار ويقصر الليل، (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ): منهما، (يَجْرِي): في فلكه، (إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى): إلى وقت معين الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر، أو الأجل المسمى يوم القيامة فحيئذ ينقطع جريهما، (وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ) أي: اختصاصه تعالى بسعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع، (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) لسبب أنه الثابت إلاهيته، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

(31)

الْبَاطِلُ): إلاهيته، (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) مترفع ومتسلط على كل شيء أو معناه ذلك الذي أوحى إليك بسبب بيان أنه هو الحق وأن إلهًا غيره باطل وأنه على كبيرٌ أن يشرك به. * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) * * * (أَلَمْ تَرَ أَن الفُلْكَ تَجْرِى فِي البَحْرِ بِنعْمةِ اللهِ): برحمته وإحسانه، (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي: لكل مؤمن فقد ورد " الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر " أو لأن كون الفلك وأحوالها آية لا يدرى كما هى إلا كثير الصبر والشكر ممن ركبها فلم يقلق فيها وتأمل في غرائبها ثم إذا خرج منها ما كفر، (وَإِذَا غَشِيَهُم): علاهم، (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ): كالجبال والسحاب، (دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): لا يدعون معه غيره تركوا التقليد واتبعوا الفطرة،

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): متوسط في العمل لا يعمل بكل ما عهد ولا يترك كله، (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ)، الختر: أشد الغدر، (كَفُورٍ) للنعم والحاصل أن الناجي من البحر قسمان قسم بين بين، وقسم ينكر نعم الله، وأما العامل بجميع ما عهد فقليل نادر، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي): لا يقضي، (وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ): فيه، (وَلَا مَوْلُودٌ) مبتدأ، (هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، خبره قيل: تغيير للأسلوب بطريق التأكيد لقطع أطماع المؤمنين أن ينفعوا آباءهم الكفرة في الآخرة فإن آباء أكثر الصحابة ماتوا على الجاهلية، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ): بالجزاء، (حَقٌّ): لا يمكن خُلفه، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ): الشيطان فينسيكم عقابه ويطمعكم في رحمته بلا طاعة، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): علم وقت قيامها عنده لا يعلمه غيره وعنده خبر علم الساعة والجملة خبر إنَّ، (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)، الظاهر أنه عطف على خبر إن ولا شبهة أن المقصود اختصاص هذا العلم لا محض القدرة على الإنزال واسم الله الجامع إذا وقع مسند إليه ثم

بني عليه الخبر على إرادة تقوى الحكم أفاد تخصيصًا لا سيما إذا كان عطفًا على المختص كما حققه الزمخشري في مواضع، (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ): أنه ذكر أو أنثى لا يعلم أحد وقت نزول الغيث إلا عند أمر الله به فإنه يعلم حينئذ الملك ومن شاءه من خلقه وكذلك لا يعلم أن ما في الرحم ذكر أو أنثى إلا حين ما أمر بكونه ذكر أو أنثى شقيًّا أو سعيدًا، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا): خيرًا أو شرًّا عطف على جملة إن الله، أثبت اختصاصه به تعالى على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وإن استوفى حيلها وإذا كان حال شيء أخص به فكيف هو من معرفة ما عداهما، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ): فلا يخفى عليه خافية، وفي الحديث (مفاتح الغيب خمس) وتلا هذه الآية. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة السجدة

سورة السجدة مكية قيل إلا ثلاث آيات من قوله " أفمن كان مؤمنًا " وهي ثلاثون أو تسعٍ وعشرون آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) * * * (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) هو خبر (الم) إن كان (الم) اسمًا للسورة، والتنزيل بمعنى: المنزل، وإلا فخبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره قوله: (لاَ رَيبَ فيهِ) لأن نافي الريب معه، وهو كونه معجزًا، وقوله: (مِن رَّبِّ العَالَمِينَ) خبر ثان أو هو الخبر و (لا ريب

فيه) اعتراض لا محل له وضمير فيه لمضمون الجملة يعني: لا ريب في كونه منزلاً من رب العالمين، (أَمْ يَقولونَ): بل أيقولون، (افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أثبت أولاً أن تنزيله من الله وأن ذلك لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك بقوله: (أم) إنكارًا لقولهم، وتعجيبًا منه لظهور بطلانه ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من الله، (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإنه ما أتاهم رسول منهم مبعوث إليهم ينذرهم، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بإنذارك، َ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) قد مر في سورة الأعراف، (مَا

مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ)، لا ولي ولا شفيع لكم من دون الله، حال مقدم، (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله، (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ): يدبر أمر الدنيا منزلاً من السماء إلى الأرض إلى يوم القيامة، فإن السماء محل حكم الله ومنه ينزل الأمور، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ذلك الأمر كله، أي: يصير إلى الله لأن يحكم فيه، (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وهو من يوم القيامة الذي كله خمسون ألف سنة، يوم يعرض فيه الأعمال أو معناه نزول الملك بتدبير الدنيا وعروجه في يوم واحد من أيام الدنيا ولو قطعه أحد من بني آدم لما قطعه في ألف سنة لأن المسافة بين السماء والأرض خمسمائة فالنزول والعروج لا يمكن إلا بألف سنة، والملائكة يقطعونها في يوم واحد فعلى هذا ضمير إليه للسماء أو ينزل قضاءه وقدره من السماء إلى الأرض ثم يرفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء بيوم واحد مع أن المسافة مسافة ألف، قيل: معناه يدبر من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض يبين ما تحت

تصرفه وسلطانه، ثم يرفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا، ومسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة وسمك السماء خمسمائة أخرى، (ذلِكَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ما غاب عنكم وما حضر، (العَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ) أتقنه وأحكمه وأوفر عليه ما يستعده على وفق الحكمة، وخَلْقَه بدل اشتمال، وفي قراءة فتح اللام جملة فعلية صفة لكل شيء، (وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ): آدم، (مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ): ذريه، (مِن سُلالَةٍ)، سلالة الشيء: ما استل منه، (مِّن مَّاءٍ مَّهِين): حقير مبتذل، (ثُمَّ سَوَّاهُ): قوَّمه، والضمير لآدم أو لنسله، (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضافه إلى نفسه تشريفًا، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا فتشكروا، (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) ما زائدة أي: تشكرون شكرًا قليلاً، (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) بأن تمزقت أجسامنا وصرنا ترابًا أو غبنا فيها، (أَإِنَّا) تكرار الهمزة لتأكيد التعجب والإنكار، (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) العامل في إذًا نُبْعَثُ الدال عليه أئنا لفي خلق جديد فإن ما بعد إن لا يعمل فيما قبله، (بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ): بالبعث، (كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ): يستوفي روحكم ويميتكم، (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ): بقبض روحكم، في الحديث

(12)

(إن ملك الموت قال: يا محمد ما في الأرض بيت مدر ولا شعر إلا أنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم)، (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ): للجزاء. * * * (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) * * *

(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ): مطأطئوها، (عِنْدَ رَبِّهِمْ)، حياءً وندمًا، (رَبَّنَا)، أي: قائلين: ربنا، (أَبْصَرْنَا) ما كذبناه، (وَسَمِعْنَا) منك تصديق رسلك، قيل معنى أبصرنا وسمعنا: أيقنا حقيقة الأمر، (فَارْجِعْنَا)، إلى الدنيا، (نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) جواب لو محذوف أي: لو ترى لرأيت العجب العجاب، ولو وإذ كلاهما للمضي فإن المترقب من الله بمنزلة الموجود، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا): ما تهتدي به من الإيمان والأعمال الصالحة، (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) سبق وعيدي وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) الذين هم في علم الله أشقياء، (أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا) أي: يقال لهم ذلك على سبيل التقريع، (بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ) أي: جازيناكم جزاء نسيانكم فهو على المقابلة أو النسيان بمعنى: الترك، (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذه الآية جواب عن قولهم: (فارجعنا نعمل صالحًا) يعني: لو أردنا لهديناكم في الدنيا لكن ما أردنا، فذوقوا العذاب المقدر بسبب كسبكم العقائد الفاسدة والأعمال القبيحة، وهذا إما مفعول ذوقوا، أو صفة يومكم، وايم الله إنَّهَا لكسرت أنياب المعتزلة لكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا): وعظوا، (بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا): سقطوا على وجوههم ساجدين خوفًا (وَسَبَّحُوا): سبحوه عما لا يليق بجلاله، (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ): حامدين له شكرًا، (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، عن طاعته فيتبعون رسله، (تَتَجَافَى): ترتفع وتتنحى،

(جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ): عن الفرش، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ): داعين إياه، (خَوْفًا) من عقابه، (وَطَمَعًا) في ثوابه، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ): في مصارف الخير، والمراد التهجد وقيام الليل وفي الأحاديث الصحاح ما يدل عليه، وعن بعض هو صلاة العشاء والصبح فِي جماعة، وعن بعض هو صلاة الأوابين بين العشائين، وعن بعض: هو انتظار صلاة العتمة، (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ) ما موصولة مفعول تعلم بمعنى: تعرف، وفي الحديث القدسي (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ونعم ما قيل: أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم، (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ): مما تقر به عيونهم، (جَزَاءً) أي: أخفى للجزاء أو جوزوا جزاء، (بمَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا): خارجًا عن طاعة ربه، (لا يَسْتَوُونَ) في المثوبة والمنزلة، جمعه للحمل على المعنى، نزلت في عليٍّ رضي الله عنه والوليد أخي عثمان من أمه بينهما تنازع فقال لعلي: إنك صبي وأنا والله أبسط لسانًا وأحد سنانًا وأشجع منك جنانًا، فقال له علي: اسكت فإنك فاسق، (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى) هي المأوى الحقيقي لا الدنيا، (نُزُلًا): هو ما يحضر للنازل قبل الضيافة، منصوب على الحال من

(23)

جنات، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقوا فَمَأوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا): تمنوا، (أَنْ يَخرُجُوا مِنْهَا): فصعدوا إلى أبواب جهنم، (أعِيدُوا فِيهَا): إلى أسفل دركاتها، (وَقِيلَ لَهُمْ)، إهانة: (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى): مصائب الدنيا، (دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ): عذاب الآخرة، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ): يتوبون عن الكفر، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) يعني: ومن أظلم ممن أذقناه المصائب الدنيوية مدة متطاولة وأريناه فيها الآيات، ثم بعد تلك الدة خاتمة أمره الإعراض، فثم وقع موقعه، لكن في سورة الكهف ذكر بالفاء لأنه ما بين أولاً إلا جدالهم مع الرسل واتخاذ الآيات هزوًا فما هو إلا أنَّهم حين رأوا رسلهم وآياتهم أنكروا بادئ الأمر من غير تأمل، (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ): المشركين (مُنْتَقِمُونَ). * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ

صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) * * * (وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الكتاب) كما آتيناك، (فَلاَ تَكُن فِي مِريةٍ): شك، (مِنْ لِقَائِهِ) أي: من لقاء موسى ربه فاطمع أنت أيضًا فيه، فالإضافة إلى المفعول، هكذا فسره النبي عليه السلام، رواه الطبراني أو من لقائك موسى ليلة المعراج أو من تلقى موسى الكتاب بالرضاء والقبول، قيل: معناه آتينا موسى مثل ما آتيناك فلا تك في شك من أنك أوتيت مثله، فالضمير للكتاب الذي أريد به الجنس، أي: لقائك الكتاب نحو " وإنك لتلقى القرآن " [النمل: 6]، (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَني إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس، (بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) على أوامر الله ومصائبه التي قدرها عليهم، (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) وكأن هذه الآية وعد وتسلية لنبيه عليه الصلاة والسلام وإرشاد لأصحابه وأمته، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ): يقضي فيميز المحق من المبطل، (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور دينهم، (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) عطف على مقدر مثل: ألم ينبههم، (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) فاعل " يهد " ما يدل عليه ذلك الكلام، كأنه قال: أولم يهد لهم كثرة إهلاكنا، وكم منصوب بـ أهلكنا، وله صدر الكلام لا يعمل فيه ما

قبله، (يَمْشُونَ) أهل مكة، (فِي مَسَاكِنِهِمْ) حين يسافرون للتجارة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ): سماع اتعاظ، (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي: ألم يسمعوا ولم يروا؟، (أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ): التي قطع نباتها، (فَنُخْرِجُ بِهِ): بالماء، (زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ): من الزرع، (أَنْعَامُهُمْ) من أوراقه، (وَأَنفُسُهُمْ) من حبوبه، (أَفَلاَ يُبْصِرُونَ) فيستدلون على كمال القدرة، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) أي: في أي وقت يكون النصر كما تزعم يا محمد؟ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أن لكم وقتًا علينا تنتقمون منا، (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ): وهو يوم حلول سخط الله وعقابه، كان في نياتهم أنه لو نزل عليهم من السماء بلاء لآمنوا حين يرونها، (وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ): يمهلون، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تبال بكلامهم، (وَانتَظِرْ) موعد النصر، (إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ) حوادث الزمان عليك، قيل: انتظروا عذابهم إنهم منتظرون ذلك أيضًا، ولذلك لم يؤمنوا، وعن بعض الآية منسوخة وكان عليه السلام لا ينام بالليل حتى يقرأ (تبارك) و (الم تنزيل). والحمد للهِ وحده. * * *

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنية وهى ثلاث وسبعونَ آية وتسع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِى اتَّقِ الله): اثبت عليه، (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) نقل أن بعض قريش نزلوا على منافقي المدينة بأمان النبي - عليه السلام - وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ارفض

ذكر آلهتنا بسوء، وقل إنَّهَا تشفع لمن عبدها ندعك وربك فأخرجهم النبي عن المدينة فنزلت، (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا): فهو أحق أن يطاع ويتبع، (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا): فلا تخالفوه، ومن قرأ يعملون بالياء فمعناه إنه خبير بمكائد الكفار والمنافقين فلا تبال فإنه يدفعها عنك، (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا): حافظًا موكولاً إليه كل أمر، (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) لم ير في حكمته أن يجعل لأحد قلبين لأن القلب سلطان ولا يليق بمملكة إلا سلطان واحد، (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ) والمظاهرة مثل أن تقول: أنت كظهر أُمي وفي الجاهلية بالمظاهرة تحصل الفرقة الأبدية وتصير كالأم، وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب والتباعد، (أُمَّهَاتِكُمْ): إن أمهاتكم إلا اللائي ولدنكم والأمهات مخدومات والزوجات خادمات، (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ). الذين تدعونهم ولدًا، (أَبْنَاءَكُمْ)، فإن البنوة أمر ذاتي والتبني عارضي فكيف يكون هو إياه، فحاصله أنه تعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل لأحد قلبين فيفعل بأحدهما غير ما يفعل بالآخر لئلا يكون أحطهما فضلة غير محتاج إليه فيؤدي إلى اتصاف شخص بالعلم، والظن والمحبة والكراهة وغيرهما في حالة واحدة ولم ير أيضًا أن تكون امرأة لرجل مخدومة وخادمة وأن يكون رجل دعيًّا غير أصيل وابنًا أصيلاً وعن بعض السلف إن الأولين للثالث أي: كما لا يكون لرجل قلبان، ولا يصير غير الأم أُمًّا كذلك لا يكون الدعي ابنًا فلا تسموا زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تبناه قبل النبوة زيد بن محمد (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [الأحزاب: 40]، وعن كثير من السلف إن الأول

نزل في شخص يقال له ذو القلبين يقول: لي قلبين أعقل بكلٍّ، أفضل من عقل محمد، وعن بعض: لما سها عليه السلام في صلاته قال المنافقون: له قلبان، قلب معهم، وقلب معكم، (ذلِكمْ): إشارة إلى المجموع أو إلى الأخير، (قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ) لا حقيقة له، (وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ): المطابق للواقع، (وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ): طريق الحق، (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) انسبوهم إليهم، وفي إفراده بالذكر إشعار إلى ما نقلنا من أن الأولين للثالث، (هوَ)، راجع إلى مصدر ادعوهم، (أَقْسَطُ) من القسط بمعنى العدل، (عِندَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ) حتى تنسبوهم إليهم، (فَإِخْوَانُكُمْ) أي: فهم إخوانكم، (فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ): أولياءكم فيه فقولوا أخي ومولاي، (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ): إثم، (فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ): فيما فعلتموه مخطئين على النسيان أو سبق اللسان، (وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكمْ): ما تعمدت عطف على ما أخطأتم أي: وعليكم جناح فيما أو مبتدأ مقدر خبره أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) في الحديث " ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم " وفي الحديث (إن في القرآن المنسوخ، ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، (النبِيُّ أَولى بِالْمُؤمِنِينَ مِنْ أَنفْسِهِمْ): في أمور الدارين قال عمر: لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال عليه السلام:

(لا يا عمر: حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال: (والله لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي)، فقال: (الآن يا عمر)، وعن بعض المفسرين معناه: النبي أولى من بعضهم ببعضهم في وجوب طاعته عليهم، (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ): في التوقير وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر والخلوة والأصح أن لا يقال هن أمهات المؤمنات، وفي الشواذ وهو أبٌ لهم، (وَأُولُو الْأَرْحَامِ): ذوو القرابات، (بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ): في الميراث، (فى كتابِ اللهِ): في حكمه، أو في اللوح المحفوظ، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) صلة لـ أَوْلَى أي: هم بحق القرابة أولى بالميراث منهم بحق الإيمان والهجرة قال الزبير: أنزل الله فينا معشر قريش والأنصار خاصة وذلك لما قدمنا المدينة قدمنا ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم حتى أنزل الله فينا هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا، (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) الاستثناء منقطع أى: لكن فعلكم إلى أحبائكم معروفًا جائز يعني: ذهب الميراث وبقي البر والإحسان والوصية، (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) أي: هذا الحكم في الكتاب القديم

(9)

الذي لا يبدل مَسْطُورًا وإن كان تعالى شرع خلافه في وقت لما له من الحكمة البالغة، (وَإِذْ أَخَذْنَا) أي: اذكره، (مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ): في إقامة دينه وإبلاغ رسالته والتعاون والإنفاق، (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)، صرح بأسماء أولي العزم الخمسة من بينهم وقدم ذكر خاتم الأنبياء لشرفهم وشرفه عليهم الصلاة والسلام، (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)، عهدًا شديدًا مؤكدًا، (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي: فعلنا ذلك ليسأل الله الذين صدقوا عهدهم من الأنبياء عن تبليغهم تبكيتًا للكفار وقيل عن تصديقهم إياهم، (وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)، عطف على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعني الأحزاب لما اجتمع المشركون وأَهل الكتاب كـ يدٍ واحدٍة لعداوة المؤمنين أمر عليه

السلام بحفر الخندق بشورى سلمان فنزلوا وحاصووا المدينة قريبًا من شهر، (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا) أي الصَّبَا، (وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا): من الملائكة أرسل تعالى بعد مدة من المحاصرة في ليلة مظلمة باردة ريحًا صرصرًا فنسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم، وقلعت خيامهم فماجت خيولهم بعضها ببعض فقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانبهم فارتحلوا خائفين خائبين، (وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ): من حفر الخندق، (بَصِيرًا إِذْ جَاءوكم) بدل من جاءتكم، (مِّن فوْقِكُمْ): من أعلى الوادي من قبل المشرق، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ): من قبل المغرب، (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) مالت أبصار المسلمين عن سنتها حيرة لشدة الأمر، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ): رعبًا وهذا مثل في الاضطراب، قيل: إذا انتفخت الرئة من فزع أو غضب ارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم، (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ

صفحة فارغة

الظُّنُونَا)، حتى قال بعض المنافقين: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر والآن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط، والألف زيدت تشبيهًا للفواصل بالقوافي، (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ): اختبروا فظهر المخلص من المنافق، (وَزُلْزِلُوا): أزعجوا، (زِلْزَالًا شَدِيدً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شبهة لم تطمئن قلوبهم على الإيمان، (مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا): وعدًا لا وفاء له، (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) وهم المنافقون: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ) كان اسمًا للمدينة أي: أهل المدينة، (لاَ مُقَامَ لَكُمْ): لا موضع قيام لكم هاهنا أي عند النبي المصطفى في مقام المرابط، (فارْجِعُوا): إلى بيوتكم، (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ) للرجوع فإنه كان عليه السلام خارجًا من المدينة بحيث أسند المسلمون ظهورهم إلى سلع ووجوههم نحو العدو والخندق بينهم، (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ): غير حصينة نخاف عليها السراق، (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ): فإنها حصينة، (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا): من القتال، (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا) يعني: لو دخلت هذه العساكر المدينة من جوانبها، (ثُمَّ سُئِلُوا): سألت هذه العساكر من قال إن بيوتنا عورة، (الفِتْنَةَ): الردة ومحاربة المسلمين، (لَآتَوْهَا) لأعطوها، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا): بالفتنة، (إِلَّا يَسِيرًا): تلبثًا يسيرًا قدر سؤال وجواب فأسرعوا الإجابة، (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ): من قبل

تلك المحاربة، (لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ): لا يفرون من الزحف، (وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا): عن الوفاء به، (قُل لن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ القَتْلِ) فإنه لابد لكل من الموت حتف أنفه أو قتل في وقتٍ معينٍ، (وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ): بعد الفرار، (إِلَّا قَلِيلاً): زمانًا قليلاً يعني: لو فرضتم أنه ينفعكم لا ينفعكم إلا قليلاً، (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا): مصيبة، (أَوْ أَرَأدَ بكُمْ) عطف على من ذا تقديره أو من ذا الذي يصيبكم بسوء إن أراد بكم، (رَحْمَةً) أو عطف على أرادوا العصمة بمعنى المنع مجازًا ولا حذف، (وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا): ينفعهم، (وَلَا نَصِيرًا): يدفع ضرهم، (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ): الذين يعوقون المسلمين عن معاونة النبي - عليه السلام -، (مِنكُمْ)، وهم المنافقون، (وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ) من ساكني المدينة: (هَلُمَّ إِلَيْنَا): قربوا أنفسكم إلينا فنحن في ظلال وثمار وراحة في بيوتنا، عن مقاتل: أرسلت اليهود إلى المنافقين فخوفوهم وقالوا: هلموا إلينا والمنافقون كانوا يخوفون المؤمنين يقولون انطلقوا معنا إلى إخواننا، أي: اليهود، (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ): الحرب مع المؤمنين، (إِلَّا قَلِيلًا): يخرجون ولا يبارزون إلا شيئًا قليلاً، أو معناه لا يحضرون إلا زمانًا قليلاً ثم يعتذرون ويرجعون قيل هذا من تتمة قولهم يعني؛ الذين قالوا لإخوانهم هلموا إلينا، والمؤمنون لا يحاربون الكفار إلا زمانًا قليلاً فيغلبون، (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بخلاء بالشفقة أو بالنفقة أو فى الغنائم نصب على الحال من فاعل لا يأتون وهو حال من ضمير القائلين أو هما حالان من ضمير القائلين، (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ): وقت الحرب، (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ)، في أحداقهم، (كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ) أي: كدوران عين

(21)

من يغشى عليه، (مِنَ الْمَوْتِ): من معالجة سكراته، (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ): ضربوكم، (بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ): لأجل الغنيمة وغيرها، (أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ) بخلاء على الغنيمة، أو ليس فيهم خير فهم جمعوا بين البخل والجبن وقلة الحياء وعدتم الوفاء، (أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ): أبطل جهادهم وصلاتهم وصيامهم ومثل ذلك، (وَكَانَ ذَلِكَ): الإحباط، (عَلَى اللهِ يَسِيرًا): هينًا، وهذا كما في الحديث " ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي واد أهلكه "، (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا): يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ): كرة ثانية مع ما رأوا من كيفية فرارهم وعدم ظهورهم وقرارهم، (يَوَدُّوا): تمنوا، (لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ): خارجون إلى البدو، (فِي الْأَعْرَابِ): حاصلون فيهم، (يَسْأَلُونَ): الناس، (عَنْ أَنْبَائِكُمْ) يعني: يتمنون أن لم يكونوا بينكم ويسألون الناس عما جرى عليكم، (وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ)، هذه الكرَّة ولم يفرُّوا ولم يرجعوا إلى المدينة، (مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا): رياء. * * * (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) * * * (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ): هو من باب التجريد جرد من نفسه الزكية شيئًا يسمى قدوة يقتدى به سيما في مقاساة الشدائد وثبات القلب في الحرب، (لمَن كَان) صلة لحسنة لا لأسوة لأنها قد وصفت أوصفة لها أو بدل بعض من لكم، (يَرْجُو اللهَ) أي: لقائه، (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي: نعيمه أو يخاف عذابهما، (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ

وَرَسُولُهُ) عن ابن عباس وغيره يعنون قوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " [البقرة: 214]، (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ): في الوعد، (وَمَا زَادَهُمْ) ذلك البلاء والضيق، (إِلَّا إِيمَانًا) باللهِ، (وَتَسْلِيمًا): انقيادًا لأوامره، (مِنَ الُمؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهدُوا اللهَ عَلَيْهِ) فثبتوا وقاتلوا، يقال: صدقه الحديث أي: قال له الصدق في الحديث والعاهد إذا وفي بالعهد فكأنه قال له الصدق، (فَمِنْهُم مَّن قَضىَ نَحْبَه)، النحب: المدة أي: استشهد كحمزة وأنس بن النضر، (وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ) أي: الشهادة، كعثمان - رضى الله عنهم - أو معناه، ومنهم من قضى نذره فإن أنس بن النضر لما غاب عن غزوة بدر نذر وقال: لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد ليرين الله ما أصنع، فقاتل يوم أحد حتى قتل، ووجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية، (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا): ما غيروا العهد شيئًا من البديل، والتغيير فيه تعريض على المنافقين بالتبديل، (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، اللام متعلق بمعنى قوله: " ولما رأى المؤمنون الأحزاب " كأنه قال: إنما ابتلاهم الله برؤية هذا الخطب ليجزي الصادقين، ويعذب المنافقين، أو متعلق بما بدلوا مع ما يفهم منه بالتعريض، كأنه قال: ما بدل المؤمنون وبدل المنافقون ليجزي، الآية، (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا): فيقبل توبة من تاب، (وَرَدَّ اللهُ الَّدينَ كَفَرُوا) أي: الأحزاب، (بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خيْرًا) هما حالان أي: المتغيظين غير ظافرين، (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) بالريح والملائكة، (وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا) على إيجاد ما شاء، (عَزِيزًا): غالبًا مطلقًا، (وَأَنزَلَ)

الله، (الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ): عاونوا الأحزاب، (مًنْ أَهْلِ الكِتَابِ) يعني: بني قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله كليه وسلم مع أن أباءهم نزلوا الحجاز قديمًا طمعًا في اتباع النبي الأمي المكتوب في التوراة، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، (مِن صيَاصِيهِمْ): حصونهم، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْب): الخوف، (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ): رجالهم، (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا): نساءهم وذراريهم، لما انهزمت الأحزاب رجع رسول الله إلى المدينة، وكان على ثناياه نقع الغبار جاء جبريل وقال: أو قد وضعت السلاح؟! لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة، وقاتلهم فخرجوا إلى حصونهم وحاصروهم خمسة وعشرين ليلةً ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم وتقسيم أموالهم، (وَأَوْرَثكُمْ أَرْضَهُمْ): مزارعهم، (وَدِيَارَهُمْ): حصونهم، (وَأَمْوَالَهُمْ)، من النقود والمواشي، (وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا): خيبر أو مكة أو فارس والروم، أو كل أرض تفتح إلى القيامة، (وَكانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَدِيرًا). * * *

(28)

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا): السعة والمال، (وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ): أعطيكن متعة الطلاق، (وَأُسَرِّحْكُنَّ): أطلقكن، (سَرَاحًا جَمِيلًا): طلاقًا من غير ضرار، (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ

الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ) من: للتبيين (أَجْرًا عَظِيمًا) يستحقر دونه الدنيا برمتها، نزلت حين سألن ثياب الزينة، وزيادة النفقة بغيرة بعضهن على بعض، فلما نزلت بدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله ثم خير سائرهن فاخترن كما اختارت، وأكثر أهل العلم على أنه لم يكن تفويض الطلاق فلم يقع بنفس الاختيار، بل لو اخترن الدنيا طلقهن، ثم الأكثرون على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لا يقع شيء ولو اختارت نفسها يقع واحدة رجعية عند الشافعي بائنة عند أبي حنيفة، (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ): كبيرة، (مُبَيِّنَةٍ): ظاهر قبحها، عن ابن عباس هي النشوز وسوء الخلق، (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ): ضعفي عذاب غيرهن، فإن الذنب أقبح من العارفين والشرط لا يقتضي الوقوع قال تعالى: " قل إن كان للرحمن ولد " [الزخرف: 81]، (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) هينًا، لا ينظر إلى كونهن نساء نبيه، بل هو السبب (وَمَن يَقْنُتْ): يطع، (مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ): مثلي ثواب غيرها، وتعمل بالتاء وبالياء محمول على معنى من وعلى لفظه، (وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)، في أعلى

عليين من الجنة، (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) أي: لستن كجماعةٍ واحدة من جماعات النساء، وأصل أحد وحد بمعنى: واحد، ثم وضع في النفي العام مستويًا فيه التذكير والتأنيث والواحد وما وراءه، (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ): راعيتنَّ التقوى، (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ): لا تكلمن كلامًا لينًا خنثًا، يعني لابد لكن من الغلظة في المقالة مع الأجانب، (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ): فجور أو نفاق، (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) يرتضيه الدين والإسلام من غير خضوع، (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) من وقر أو من قرَّ، والأمر منه اقْرُرْنَ أو اقْرَرْنَ حذفت الأولى من الرائين بعد نقل حركتها إلى ما قبلها كظلن وظللن، (وَلاَ تَبَرَّجْنَ) التبرج: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، (تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى): جاهلية الكفر، والجاهلية الأخرى: جاهلية الفسوق في الإسلام، أو الأولى لا أخرى لها كما قيل في أهلك عادًا الأولى، أو الأولى: زمن داود وسليمان أو زمن نمرود، فإن المرأة تلبس درعًا من لؤلؤ وتخرج عارضة نفسها على الرجال، (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ) في جميع ما أمركن ونهاكن، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ): خبائث القلب، أو ما ليس لله فيه رضا، (أَهْلَ البَيْتِ) نصب على النداء أو على المدح، (وَيُطَهِّرَكُمْ) عن الذنوب، (تَطْهِيرًا) في مسلم (إن عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا جاءوا فأدخلهم النبي - صلى الله عليه وسلم -

في كساء من شعر أسود كان عليه، ثم قال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم " الآية، وفي مسند الإمام أحمد وغيره بروايات عن أم سلمة: " أنه عليه السلام كان في بيتها، فجاء علي وفاطمة وابناهما وجلس عنده على كساءٍ خيبري فأنزل الله هذه الآية، فأخذ فضل الكساء وغطاهم به ثم أخرج يده وألوى إلى السماء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيني فأذهب الرجس عنهم، وطهرهم تطهيرًا، قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله، فقال: (إنك إلى خير، إنك إلى خير) "، والأحاديث التي هى أصرح في هذا المعنى كثيرة، والأصوب أن أزواجه المطهرات من أهل بيته، وإذا كان أزواجه من أهل بيته فهؤلاء أحق وأولى بهذه التسمية، وهذا مثل ما نقلنا في آية " لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى " [التوبة: 108]، (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) أمرهن أن لا ينسين النعمة الجليلة القدر، وهي ما يتلى في بيوتهن من الْكِتَاب الجامع بين أمرين، (إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) فلذلك خيركن ووعظكن. * * * (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ

(35)

فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) * * * (إِن المُسْلِمِينَ): المنقادين لأمر الله، (وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ): المصَدقين بما يجب التصديق به، (وَالْمُؤْمناتِ وَالْقَانِتِينَ): المداومين على الطاعة، (وَالْقَانِتَاتِ

وَالصَّادِقِينَ) في جميع الأحوال، (وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ): على المصائب، (وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ): المتواضعن لله، (وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ): المحسنين إلى الناس، (وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ) عن سعيد بن جبير من صام بعد الفرض ثلاثة أيام من كل شهر دخل في الصائمين، (وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) عن الحرام، (وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) في الحديث " من أيقظ امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات "، (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً)، لذنوبهم، (وَأَجْرًا عَظِيمًا) عن أم

سلمة أنها قالت: " قلت يا نبي الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال، فنزلت "، (وَمَا كانَ): ما صح، (لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي: أن يختاروا من أمر الله ورسوله ما شاءوا، بل يجب عليهم اتباع اختيار رسول الله وترك رأيهم، وجمع ضمير لهم علي المعنى فإن المؤمن والمؤمنة وقعا تحت النفي، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) لما خطب النبي عليه السلام زينب بنت جحش ابنة عمته لمولاه زيد بن حارثة فامتنعت نزلت ثم أجابت، (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ): بالإسلام، (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ): بالعتق وهو زيد اشتراه في الجاهلية وأعتقه وتبناه، (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) زينب حين قال: أريد أن أطلقها، (وَاتَّقِ اللهَ) فيها ولا تطلقها، (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي: شيئًا الله مظهره، وهو علمه بأن زيدًا سيطلقها وهو ينكحها، فإن الله قد أعلمه بذلك أو ميل قلبه إليها وإلى طلاقها، فإن نفسه الأقدس مالت إليها بعد أن تزوجها زيد (1)، (وَتَخْشَى النَّاسَ): تكره

_ (1) المختار الرأي الأول وهو ما أظهره القرآن في قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ولا يلتفت إلى غير ذلك مما ذكره بعض المفسرين -غفر الله لنا ولهم- من أمور لا تليق بمقام الحبيب الشفيع - صلى الله عليه وسلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

قالتهم وتعييرهم، (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) فلا تأمر بما تعلم يقينًا أنه لا يتم، أو فلا تظهر بلسانك ما تحب بقلبك غيره، فإن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتساوي الظاهر والباطن، (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ منْهَا وَطَرًا): حاجة، (زَوجْنَاكَهَا) بعد طلاقها وانقضاء عدتها بلا ولي من بشر ولا شاهد ولا مهر، ولهذا تقول افتخارًا: زوجني الله من فوق سبع سماوات والسفير جبريل، (لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاج أَدْعِيَائِهِمْ) بالبنوة، (إِذَا قَضَوْا مِنْهُن وَطَرًا) أي: دخلوا عليهن، قيل قضاء الوطر: كناية عن الطلاق يعني لئلا يظن أن حكم الأدعياء حكم الأبناء، فإنه جاز أن يتزوج موطوءة دعيه، (وَكَان أَمْرُ اللهِ): قضاءه، (مَفْعُولًا): مكونًا لا محالة، (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ): قدر وقسم له، (سُنَّةَ اللهِ): سن ذلك سنة، (فِى الذينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ) من الأنبياء أي: كثرة الأزواج سنة الأنبياء وطريقتهم من قبل، (وَكَان أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا): قضاءه قضاء مقضيًّا، (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ)، صفة مادحة للذين خلوا، (وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ) فلا يمنعهم شيء من الإبلاغ بوجه فيه تهييج، بأن يسلك هو عليه السلام طريقتهم، ولذلك قالت عائشة: لو كتم محمد عليه السلام شيئًا من

(41)

الوحي لكتم " وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ "، (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا): كافيًا للمخاوف، (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رِّجَالِكُمْ) حتى يثبت بينه وبينه ما بين الوالد والولد من حرمة المصاهرة وغيرها، والمراد ولده لا ولد ولده، وأما قاسم وإبراهيم وطاهر مع أنَّهم لم يبلغوا مبلغ مبلغ الرجال، فما كانوا من رجالهم، (وَلَكِن رسُولَ اللهِ) أي: ولكن كان رسول الله، (وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ): آخرهم، وعيسى عليه السلام ينزل بدينه مؤيدًا له، (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) فهو أعلم حيث يجعل رسالته. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ

يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)، في الحديث (أكثروا ذكر الله حتى يقال مجنون)، وعن ابن عباس رضى الله عنه: ما فرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً): أول النهار، (وَأَصِيلًا) وآخره خصوصًا، وعن بعض: المراد صلاة الصبح والعصر أو

العصر والعشائين، (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ): يتعطف الله وملائكته عليكم ويترحمون، فإن استغفارهم تعطف سيما وهم مستجابوا الدعوة، (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ): من ظلمات الكفر والمعاصي، (إِلَى النُّورِ): نور الإيمان والطاعة، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ) إضافة المصدر إلى المفعول، (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) في الجنة أو عند الموت، (سَلامٌ) أي: يسلم الله عليهم وعن قتادة تحية بعضهم بعضًا في الدار الآخرة (سلام)، (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا): الجنة ونعيمها، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا) لله بالوحدانية أو على الناس بأعمالهم في القيامة، وهو على الثاني حال مقدرة، (وَمُبَشِّرًا) للمؤمنين، (وَنَذيرًا)، للكافرين، (وَدَاعِيًا) للخلق، (إِلَى اللهِ): إلى توحيده وطاعته، (بِإِذْنِهِ): بتيسيره قيد الدعوة به، إيذانًا بأنه أمر صعب لا يتيسر إلا بإعانته، (وَسِرَاجًا مُنِيرًا): بينًا أمره يستضاء به عن الجهالة، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على محذوف، مثل: فراقب أحوال الناس، وصفه بخمسة أوصاف وحذف مقابل الأول لأن الباقي كالتفصيل له، فيكون وبَشِّرِ في مقابلة مبشرًا، (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا) كتضعيف الحسنات، (وَلاَ تُطِع الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) دم واثبت على ما أنت عليه، وهو مع قوله، (وَدَعْ أَذاهُمْ) مقابل لـ نذيرًا أي: دع إيذاءهم إياك اصبر عليها ولا تغتم به، أو إيذاءك إياهم ولا تجازيهم، (وَتَوَكلْ عَلَى اللهِ) مقابل لـ داعيًا، فإن من توكل على الله يسر عليه كل عسير، (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا): موكولاً إليه الأمور وهو مقابل لـ سراجًا فإن من جعله برهانًا جدير بأن يكتفى به، وجاز أن يكون دع في مقابلة داعيًا، فإن الداعي للخلائق لابد له من الصبر، والمواساة حتى يتم له الأمر، وتوكل في مقابلة سراجًا وكفى بالله تأييد وتأكيد

للتوكل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ): تجامعوهن، (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا): تستوفون عددها، وقوله: (المؤمنات) تحريض على نكاحهن، وظاهر الآية إن العدة بعد الجماع لا بمجرد خلوة، وأن الطلاق بعد النكاح، وعليه جمهور السلف، (فَمَتِّعُوهُنَّ) بنصف الصداق إن كان لهن صداق، وإلا فالمتعة على قدر حاله، وعن بعض المتعة غير النصف وهو أمر ندب، وعن بعض أمر وجوب، (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) من غير ضرار ومنع حق، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ): مهورهن وتعجيل إعطاء المهر سنة، (وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ): مما غنّمك الله من دار الحرب، (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ

وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ) لا كالنصارى فإنهم لا يتزوجون امرأة بينه وبينها سبعة أجداد، ولا كاليهود يتزوج أحدهم ابنة أخيه وأخته، (اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) إلى المدينة لا يحل له غير المهاجرات، وعن بعض معناه: اللاتي أسلمن، (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) دون غيرها، نصبها بـ أحللنا لأن معنى أحللنا قضينا أو أعلمنا حلها، فلا ينافي الماضي الشرط المستقبل، أو نقول أحللنا جواب الشرط بحسب المعنى والحقيقة، فهو أيضًا مستقبل، (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا) أي: طلب نكاحها يعني هبتها نفسها منه لا توجب حلها إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول، عدل إلى الغيبة ثم إلى الخطاب بقوله: (خَالِصَةً لكَ مِن دُون الُمؤْمِنِين) للإيذان بأنه مما خص به لشرف النبوة والخطاب أدخل في التخصيص، والاسم في التعظيم والأصح أنه ينعقد في حقه عليه السلام بلفظ الهبة من غير ولي وشهود ومهر، وعند بعض لا ينعقد في حقه أيضًا إلا بلفظ الإنكاح واختصاصه في ترك المهر فقط، ونصب خالصة على المصدر المؤكد لمضمون جملة " امرأة مؤمنة " إلخ، أو على الحال من ضمير " وهبت " أو تقديره: هبة خالصة لك (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ)، من حصرهم في أربع نسوة واشتراط عقد ومهر وشهود، (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، من توسيع الأمر فيها، (لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ)، متعلقه خالصة أي: اختصصتك بأشياء في التزوج لئلا يكون عليك ضيق فقوله: " قد علمنا " إلى " أَيْمَانُهُمْ " معترضة بين خالصة ومتعلقها، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا) للزلات، (رحِيمًا) بالتوسعة، (تُرْجِي) تؤخر، (مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ): من نسائك ومن الواهبات، (وَتُؤْوِي): تضم، (إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ): من نسائك والواهبات، يعني: أنت بالخيار في أمرهن قد

حطَّ عنك القسم فلا يجب عليك بعد، وفي أمر الواهبات إن شئت قبلت وإن شئت رددت، (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ): طلبت وأردت إصابتها، (مِمنْ عَزَلْتَ): من النساء اللاتي عزلتهن عن القسمة، (فَلاَ جُنَاحَ عَيكَ) في ذلك، (ذَلِكَ) التفويض إلى مشيئتك من غير وجوب القسم، (أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي: أقرب إلى قرة عيونهن، وقلة حزنهن ورضاهن جميعًا، فإنه إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارًا فرحن به، وحملن جميلتك في ذلك واعترفن بعدلك وكمال إنصافك في قسمك، وإن رجحت بعضهن علمن أنه بفسحة من الله لك ورضاه، فتطمئن نفوسهن، وعن بعض معناه تطلق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء، ومن ابتغيت ممن طلقت بالرجعة فلا إثم، والتفويض إلى رأيك أقر لرضاهن، لأنك لو لم تطلقهن حملن في ذلك جميلتك " وكلهن " تأكيد لفاعل " يرضين "، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل إلى بعضهن مما لا يمكن دفعه، (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) فلا يؤاحذكم بما في قلوبكم، (لاَ يَحِل لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، من بعد هؤلاء التسع فلا يجوز لك العشرة فما فوقها، (وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِن مِنْ أَزْوَاج): بأن تطلق واحدة من هؤلاء وتتزوج بدلها أخرى، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسنهُنَّ) أي: مفروضًا إعجابك بهن، حال من فاعل تبدل، وعن

كثير من السلف: لما خيرن بين الدنيا والآخرة فاخترن الآخرة كما تقدم جازاهن الله بتحريم التزويج لغيرهن، ثم نسخ حكم هذه الآية كما دل عليه الأحاديث الصحاح وأباح له التزوج أي عدد أراد لكن لم يقع منه بعد ذلك لتكون المنة له عليه السلام وعن بعض معناه: لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة التي مر ذكرها في قوله: " إنا أحللنا " الآية، فلا يحل له عربية غير بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، ولا غير مهاجرة وإن كانت قريبة، ولا غير مؤمنة فقوله " ولا أن تبدل بهن " على هذا تأكيد بخلافه في المعنى الأول، (إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء متصل من النساء المتناول للأزواج والإماء، أو منقطع، (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) فلا تتخطوا عما حدَّ لكم. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ

(53)

وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي: إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونًا، أو إلا بأن يؤذن لكم، (إِلَى طَعَامٍ) متعلق بـ يؤذن لتضمينه معنى يدعى، (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ): غير منتظرين إدراكه أو وقته، حال من ضمير لكم، نهى عن جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد، يعني: لا ترقبوا طبخ الطعام حتى إذا قارب الاستواء تعرضوا للدخول فإنه مذموم، (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا): اخرجوا من بيته ولا تمكثوا فيه، (وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ

لِحَدِيثٍ) أي: لحديث بعضكم بعضًا عطف على ناظرين، (إنْ ذلِكُمْ) المكث، (كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ): من إخراجكم، (وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي: الله لا يمتنع ولا يترك الحق ترك الحيي منكم، يعني: إن إخراجكم حق ينبغي أن لا يتسحيي منه، نزلت حين تزوج زينب، وأولم، فلما طعموا جلس ثلاثة منهم متحدثين، فخرج عليه السلام من منزله ثم رجع ليدخل وهم جلوس، وكان عليه السلام شديد الحياء فرجع، (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا): حاجة، (فَاسْأَلُوهُنَّ) المتاع، (مِن وَرَاءِ حِجَابٍ)، أي: ستر، هذه آية الحجاب نزلت في ذي القعدة من السنة الخامسة أو الثالثة من الهجرة، (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) من وساوس الشيطان والريبة، (وَمَا كَانَ): ما صح، (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) بوجه، (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) نزلت في رجل من الصحابة همَّ أن ينكح بعض نسائه إن قبض، واختلف في المطلقة بعد الدخول، هل تحل؟ على قولين، أما مطلقته قبل الدلخول فلا نزاع في حلها، (إِنَّ ذَلِكُمْ) إيذاءه ونكاح نسائه، (كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا إِن تُبْدُوا شَيْئًا) كنكاحهن على ألسنتكم، (أَوْ تُخْفُوهُ)، في صدوركم، (فَإِنَّ اللهَ كَانَ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، قيل: لما نزلت الحجاب قال رجل: ما لنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا، فنزل قوله: (إن تبدوا شيئًا) الآية، (لاَ جُنَاحَ) لا إثم، (عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ) أي: في ألا يحتجبن من هؤلاء سئل عكرمة والشعبي: عن سبب ترك ذكر العم والخال؟ فقالا: لأنهما يصفانها لبنيهما، وقيل: لأنهما بمنزلة الوالدين فلا حاجة، (وَلاَ نِسَائِهِنَّ) أي: المؤمنات، (وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ):

من العبيد والإماء، وقد مر بسطه في سورة النور، (وَاتَّقِينَ اللهَ) في السر والعلانية، (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) لا يخفى عليه شيء (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ): يترحمونه ويعظمونه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) قولوا: اللهم صل على محمد وسلم، (إِن الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) فينسبون إليه ما لا يليق بكبريائه كقولهم: (يد الله مغلولة) [المائدة: 64]، (وَرَسُولَهُ) بالطعن فيه وفيما يتعلق به، أو المراد من إيذائهما فعل ما يكرهانه، (لَعَنَهُمُ اللهُ): أبعدهم من رحمته، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)، يعني: عذابًا جسديَّا وروحانيًّا، (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الُمؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا): بغير جناية واستحقاق للأذى، (فقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانا وَإِثْمًا مُّبِينًا) عن مقاتل: نزلت فى الذين يؤذون علي بن أبي طالب، ويسبونه، وفي الترمذي " قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟، قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قال: أفرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته ".

(59)

* * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الجلباب: رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل، يعني يرخينها عليهن ويغطين وجههن وأبدانهن، (ذلِكَ أَدْنَى): أقرب، (أَنْ يُعْرَفْنَ) أنهن حرائر ويميزن من الإماء، (فَلَا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن، كان ناس من الفساق يتعرضون للإماء حين كانت تخرجن في الليالي، فأُمرت الحرائر بإرخاء الجلباب لتتميز الحرائر من الإماء، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا) لما سلف من ترك التستر، (رحِيمًا) بعباده حيث يأمرهم بجزئيات مصالحهم، (لَئِن لَمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ): عن نفاقهم، (وَالذِينَ فِي قُلُوبِهِم

مَّرَضٌ): ضعف إيمان، وهم الزناة عن فجورهم، (وَالْمُرْجِفون): المخبرون على غير حقيقة عن فعلتهم، (فِي الْمَدِينَةِ) وهم الذين يخبرون عن سرايا المسلمين بأخبار سوء، (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ): نسلطنك عليهم ونأمرنك بقتالهم، (ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا): في المدينة عطف على لنغرينك بـ ثم، كأنه قال: لئن لم ينتهوا ليحصل لهم خطبان عظيمان الثاني أعظم عليهم فإن الجلاء من الأوطان أعظم المصائب، (إِلَّا قَلِيلًا): زمانًا قليلاً وذلك بأن يضطروا إلى الجلاء، (مَلْعُونينَ) نصب على الذم، وقيل: حال من فاعل يجاورون بأن دخل إلا على الظرف والحال معًا يعني: لا يجاورن فى زمن من الأزمنة وفي حال من الأحوال إلا قليلاً ملعونين وفيه ضعف، (أَيْنمَا ثُقِفُوا): وجدوا، (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) وهذا الحكم فيهم على جهة الأمر، وكأن المنافقين والفجار والمرجفين كانوا قومًا واحدًا هم المنافقون، ذكرهم الله بثلاث خصائلهم، (سُنَّةَ اللهِ) أي: سن الله سنته، (فِى الَّذينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ) في الذين ينافقون الأنبياء، أن يقتلوا حيث وجدوا، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا): تغييرًا، فإنه لا يغير سنته، (يَسْألكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ): عن وقت قيامها؟ (قُل إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ) لم يطلع عليه أحدًا، (وَمَا يُدْرِيكَ)؟ أي شيء يعلمك وقتها، (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونَ قَرِيبًا)، تذكير قريبًا لأن الساعة بمعنى اليوم، أو لأنه صفة محذوف،

(69)

أى: شيئًا أو زمانًا قريبًا، أو لأنه بوزن فعيل الذي يستوى فيه الصيغ، (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا): نارًا شديدة الإيقاد، (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا): يحفظهم، (وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ): تصرف من جهة إلى جهة كلحمة تدور في القدر إذا غلت، أو المراد طرحها في النار مقلوبين منكوسين، (يَقُولُونَ) هو ناصب يوم: (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا): هم الذين لقنوهم الكفر، (فَأَضَلونَا السَّبِيلاْ رَّبنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَاب) أي: من عذابنا، أو من هذا العذاب الذي عذبتهم به، فإنهم أحقاء لزيادة لعذاب، (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا): هو أشد اللعن وأعظمه. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) * * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى) حين نسبوه إلى برص وأدرة لفرط تستره حياء، أو حين نسبوه إلى قتل أخيه هارون، (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا)، بأن أظهر براءته من مضمون مقولهم مؤداه بمعجزة، (وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا) ذا وجاهة ومنزلة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا): قاصدًا إلى الحق عدلاً صوابًا، (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) بالقبول يعني يتقبل حسناتكم أو يوفقكم للأعمال الصالحة، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فإن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أظفر بالخير كله، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ)، الطاعة والفرائض، (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَالْجِبَالِ)، بأن قلنا لهن: هل تحملن الأمانة وما فيها؟ قلن بعد أن أنطقهن الله: وأى شيء فيها؟، قلنا: إن أحسنتن أثبناكن، وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا طاقة لنا ولا نريد الثواب، (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ): خفن، (مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ): آدم لما عرضنا عليه، (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا) لنفسه بتحمله ما يشق عليها، (جَهُولًا) بوخامة عاقبته، عن كثير من السلف: ما كان بين قبول الأمانة، وبين خطيئته إلا قدر ما بين العصر إلى الليل (1)، ذكر الزجاج وبعض العلماء أن الأمانة في حق السماوات والأرض والجبال الخضوع والانقياد لمشيئة الله وإرادته، وفي حق بني آدم الطاعة والفرائض، ومعنى " أبين أن يحملنها " على هذا: أدَّين الأمانة ولم يخنَّ فيها، وخرجن عن عهدتها، وحملها الإنسان خان فيها وما خرج عن عهدتها، يقال: فلان حامل الأمانة ومحتملها، أي لا يؤديها إلى صاحبها، وقد نقل عن الحسن مثل ذلك، والظلومية والجهولية باعتبار الجنس، قال الإمام الرازى: أي من شأنه الجهل والظلم،

_ (1) كلام يفتقر إلى سند صحيح، ولا نسلم أن قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} يراد به آدم - عليه السلام - وكيف يصح وصفه بصيغة المبالغة في الظلم وهو نبي والجهل وقد قال الله في حقه {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} والذي تطمئن إليه النفس أن - آدم - عليه السلام - وإن تحمل الأمانة فإنه قد أداها كما أمر الله تعالى ثم انتقلت الأمانة منه إلى الذرية فكان أكثرهم ظلومًا جهولاً. والله أعلم.

كما تقول: الماء طهور والفرس جموح، (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) تعليل للعرض يعني عرضناها ليظهر نفاقهم فيعذبهم ويظهر إيمانهم فيتوب عليهم، ويعود بالرحمة والغفران عليهم إن حصل منهم تقصير وللإشارة إلى تقصير الأكثرين، قال: " ويتوب الله " أو تعليل للحمل واللام للعاقبة، (وَكَانَ اللهُ غَفورًا رحِيمًا)، حيث يقبل التوبة ويثيب. والحمد لله على لطفه وفضله. * * *

سورة سبأ

سورة سبأ مكية قيل إلا قوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية وهى أربع وخمسون آية وست ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) * * *

(الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ) كلها منه نعمة وفضلاً، فهو الحقيق بالحمد وحده في الدنيا، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لأن ما في الآخرة أيضًا خلقه، وهم المنعم عليه فيها بلا وساطة أحد، (وَهُوَ الْحَكِيَمُ الْخَبيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ) يدخل، (فِى الأرْضِ): كالدفائن والأموات والبذور، (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا): كالحيوان والنبات، (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّماء)، كالمطر والملك والأرزاق، (وَمَا يَعرُجُ فِيهَا) كالملك والأعمال الصالحة، (وَهُوَ الَرَّحِيمُ الْغَفُورُ): للمقصرين في شكر تلك النعم، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ): القيامة، إنكارًا للبعث، (قُلْ بَلَى وَرَبِّي) إثبات لما نفوه بآكد وجه، (لَتَأْتِيَنَّكُمْ): الساعة، (عَالِمِ الْغَيْبِ)، بالجر صفة ربي، وبالرفع على تقدير هو عالم وصفه بهذه من بين الصفات لأن السَاعة من أدخل المغيبات في الخفية، (لا يَعْزُبُ): لا يبعد، (عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرة فِي السَّمَاوَاتِ ولا فِي الأرْضِ): مقدار أصغر نملة، (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مبينٍ) هو كلام منقطع عما قبله بالرفع، أو الفتح كلا حول ولا قوة إلا بالله، (لِيَجْزِيَ): الله، (الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ) متعلق بقوله: " لتأتينكم " (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): في الجنة بلا تعب ومنَّة، (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا): بالإبطال، (مُعَاجِزينَ): مفوتين على زعمهم يحسيون أنَّهم يفوتوننا، (أُولَئِكَ

لَهُمْ عَذَابٌ منْ رِجْزٍ): سيئ العذاب، (أَلِيمٌ): مؤلم، (وَيَرَى): يعلم، (الذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، كمؤمني أهل الكتاب، أو كالصحابة ومن تبعهم، (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي: القرآن، (هُوَ الْحَقَّ)، ثاني مفعولي يرى والضمير فصل، وقراءة الرفع على أنهما مبتدأ وخبر والجملة ثاني مفعوليه، قيل ويرى عطف على ليجزي أي: ليرى أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانًا كما علموه الآن برهانًا، (وَيَهْدِي): القرآن، أو الذين أوتوا العلم، (إِلَى صِرَاطِ الْعَزيز الْحَمِيدِ) هو دين الإسلام، (وَقَالَ الذِينَ كَفرُوا) أي: بعضهم لبعض، (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ) يعنون أصدق الصادقين - عليه الصلاة والسلام (يُنَبِّئُكُمْ): يحدثكم بمحال عجيب، (إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ): فرقتم وقطعتم كل تفريق وتقطيع ولما كان ما بعد إن لا يعمل فيما قبله فعامل إذا محذوف يدل عليه قوله: (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: تنشأون خلقًا جديدًا بعد أن تكونوا ترابًا، (أَفْتَرَى) أي: أفترى، (عَلَى اللهِ كَذِبًا): اختلق عليه قاصدًا للكذب، (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ): فيتفوه بما لا يعقله وجاز أن تكون منقطعة كأنَّهم قالوا: دعوا حديث الافتراء فإن ها هنا ما هو أهم منه فإن العاقل لا يفتري المحال، بل جنونه يوهمه ذلك، (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ): عن الصواب ولذلك يترددون في أنه مفتر أو مجنون، ولولا ذلك لعلموا أنه أصدق وأعلم الصادقين والعالمين وصف الضلال بما هو صفة للضال حقيقة للإسناد

(10)

المجازي، (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) أي: أعموا فلم ينظروا إلى أن السماء والأرض محيطتان بهم لا يستطيعون الخروج من أقطارهما ولم يخافوا أن نخسف بهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء لكفرهم؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ): فيما يرون من السماء والأرض، (لَآيَةً): دلالة، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ): راجع إلى ربه مطيع لكثرة تأمله. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ

وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) جمع له بين النبوة والملك والجنود والمعجزات الظاهرة، (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي: قلنا يا جبال رجِّعي معه التسبيح، أو النوحة أي: سبِّحي معه إذا سبَّح بدل من " آتينا " (وَالطَّيْرَ)، عطف على محل جبال أو مفعول معه لـ أَوِّبِي كان إذا سبَّح تسبِّح معه الجبال والطير وتجاوبه بأنواع اللغات، (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ): كالطين والشمع يصرفه بيده من غير نارٍ ولا ضرب مطرفة، (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) أي: أمرناه أن اعمل دروعًا واسعات، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ): لا تجعل المسامير دقاقًا ولا غلاظًا قيل أي: قدر في نسجها تناسب حلقها فإن دروعه لم تكن مسمرة، (وَاعْمَلُوا) أي: داود وآله، (صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فلا يضيع عمدكم، (وَلِسُلَيْمَانَ) أي: وسخرنا له، (الرِّيحَ)، وقراءة رفع الريح على تقدير

ولسليمان الريح مسخرة، (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ): مسيرها بالغداة إلى انتصاف النهار مسيرة شهر وبالعشي كذلك ففى اليوم الواحد تجري مسيرة شهرين، (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ): أسال معدن النحاس فينبع كما ينبع الماء من العين، (وَمِنَ الْجِنِّ)، حال متقدمة أو خبر لقوله: (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ)، والجملة عطف على الريح، (بِإِذْنِ رَبِّهِ): بأمره، (وَمَنْ يَزِغْ): يعدل، (مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا): الذي هو طاعته، (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) يدركه الصاعقة فتحرقه أو المراد عذاب الآخرة، (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ)، البناء الرفيع والمساجد والقصور، (وَتَمَاثِيلَ): صور الملائكة والأنبياء واتخاذها مباح في شريعتهم، (وَجِفَانٍ)، جمع جفنة أي: قصعة، (كَالْجَوَابِ)، جمع جابية وهي الحوض الكبير، (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ): ثابتات كالجبال أثافيها منها قيل كان يأكل في جفنة ألف رجل (اعْمَلُوا) حكاية ما قيل لهم، (آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) أي: الجن يعملون لكم فاعملوا أنتم شكرًا، والشكر على ثلاثة أضرب بالقلب وباللسان وبالجوارح فقال:

" اعملوا " لينبه على التزام الأنواع الثلاثة أو مصدر لاعملوا لأن فيه معنى اشكروا، أو معناه اعملوا طاعة الله للشكر أو شاكرين، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ): المبالغ الباذل وسعه فيه، (فَلَمَّا قَضيْنَا عَلَيْهِ) أي: على سليمان، (الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ) أي: الجن، (عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ): الأرضة، (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ): عصاه، (فَلَمَّا خَرَّ): سليمان، (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)، كان من عادته أنه يعتكف في مسجد بيت المقدس سنة وسنتين وأقل وأكثر، فلما علم قرب أجله قال: اللهم غم موتي على الجن حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، ثم دخل المحراب واتكأ على عصاه وقبضه ملك الموت والجن يرونه قائمًا يحسبونه حيًّا وهم في أعمالهم الشاقة، فلما أكلت الأرضة عصاه خرَّ سليمان فعلمت الجن أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة نحوًا من سنة فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في أي موضع هي فيه، وتبين إما بمعنى ظهر لازم فيكون أن مع صلتها بدل اشتمال من الجن كما تقول تبين زيد جهله أي: ظهر جهل الجن للإنس، وإما متعدٍ أي: علموا أنَّهم كانوا كاذبين في ادعاء علم الغيب، ولو علموا

لعلموا موته حين وقع فلم يلبثوا في الأعمال الشاقة التي هي العذاب المهين بعد مدة، (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ): اسم قبيلة، (في مَسْكَنِهِمْ): موضع سكناهم، وهو باليمن أو مسكن كل واحدٍ منهم، (آيةٌ): دالة على وجود قادر مختار على ما يشاء، (جَنَّتَانِ)، بدل من آية أو خبر محذوف هو هي، (عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) أي: جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة منهما في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة والآية قصتهما، (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)، حكاية ما قال لهم الأنبياء أو لسان الحال، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ)، كانت أرخص البلدان أو أطيبها في الهواء، ولم يكن فيها ذباب ولا شيء من الهوام، (وَرَبٌّ غَفُورٌ): لمن شكره استئناف لبيان موجب الشكر أي: هذه بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رَبٌّ غَفُورٌ، (فَأَعْرَضُوا): عن الشكر إلى عبادة الشمس، وكذبوا الأنبياء (قَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) العرم: الوادي أو الماء الغزبر أو الصعب أو الجُرَذ، وهو نوع من الفأر الذي نقب عليهم السد (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ): أراك قيل: كل شجر ذي شوك أو كل نبت مر فهو خَمْطٍ، والأكل الثمر وأصله أُكُل أُكُلٍ خَمْطٍ فأقيم المضاف إليه مقام المضاف، (وَأَثْلٍ) هو الطرفاء أو

شجر يشبهه عطف على أكل، فإن الأثل لا أكل له، (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) هو أجود أشجارهما وتسمية البدل جنة للمشاكلة، وفيه من التهكم، كان قدام قريتهم سد عظيم يجتمع خلفه الماء فيستعملونه على قدر حاجتهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليه الجرذ فنقبه وغرقهم، (ذَلِكَ جَزَيْناهُمْ بِمَا كفَرُوا): بكفرهم أو بكفرانهم (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ): هل يعاقب إلا البليغ في الكفر، أو الكفران أو هل نجازي بمثل هذا الجزاء إلا الكفور، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)، هى قرى الشام، (قُرًى ظَاهِرَةً): متواصلة يرى بعضها من بعض بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل ماء وزاد، (وَقَدَّرنَا فيهَا السَّيرَ): بحيث يقيلون من اليمن إلى الشام فى قرى ويبيتون في أخرى، (سيرُوا) أي: قلنا لهم: سيروا، (فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ): لما مكنوا من السير في رغدٍ وأمن كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم إن شاءوا في الليل، وإن شاءوا في النهار فإن الأمن في كلا الوقتين حاصل، (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، لما بطروا النعمة وملوا العافية طلبوا مفاوز يحتاجون في قطعها إلى زاد ورواحل وسيرٍ في حرور ومخاوف ويمكن أن يكون ذلك لئلا يتمكن الفقراء من تلك السفرة، فيتطاولون عليهم وهذا كما طلب بنو إسرائيل الفوم والعدس بدل المن والسلوى، (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): بالبطر، (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ): لمن بعدهم فصاروا ضرب مثل يقال: تفرقوا أيدي سبأ، (وَمَزَّقْنَاهُمْ): فرقناهم في الأرض، (كُلَّ مُمَزَّقٍ): كل تفريق بعض إلى الشام، وبعض إلى عمان، وبعض إلى العراق، وهكذا، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ): عن المعاصي، (شَكُورٍ): على النعم وهو المؤمن

(22)

فإنه إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر، (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي: حقق ظنه فيهم، وأما على قراءة تخفيف الدال فبتقدير في ظنه أو يظن ظنه نحو فعلته جهدك أو لأن صدق نوع من القول عدى إليه بنفسه كصدق وعده، وكلام السلف دال على أن ضمير عليهم لبني آدم لا لأهل سبأ خاصة عن بعضٍ منهم أن إبليس لما قال: لأضلنهم ولأغوينهم، لم يكن مستيقنًا أن ما قاله يتم فيهم، وإنما قاله ظنًّا فلما أطاعوه صدق عليهم ما ظنه، (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من بيانية أي: فريقًا هم المؤمنون، وقيل للتبعيض والمراد غير العاصين منهم، (وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي: ما كان تسليطنا إياه عليهم بالوسوسة والإغواء، (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ): ليتميز المؤمن من الشاك، أو لنعلم علمًا وقوعيًّا فإنه كان معلومًا بالغيب أو ليتعلق علمنا تعلقًا يترتب عليه الجزاء، فالمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة، (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ): محافظ. * * * (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ

شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) * * * (قلِ): يا محمد لمشركي قومك، (ادعُوا الذِينَ زَعَمتمْ) أي: زعمتموهم آلهة، (مِنْ دون اللهِ): من الملائكة، والأصنام ليكشفوا عنكم ضركم ويعينوكم ويرزقوكم، (لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ): من خير وشر، (فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ)، جملة لا يملكون إما استئناف جواب عن المشركين لأنه أمر متعين لا يقبل المكابرة وإما حال عن الذين زعمتم، (وَمَا لَهُمْ فيهِما مِنْ شِرْكٍ): من شركة، (وَمَا لَه): لله، (منْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ): من عوين، فإنه هو المستقل في جميع الأمور لا شريك ولا معين له، (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ) أي: شفاعة شافع لمشفوع، (إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ): أن يشفع، أو أن يشفع له، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قلُوبِهِمْ): أزيل الفزع

وكشف عنها، (قَالُوا مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ)، توجيهه على رأى المتأخرين أن حتى غاية لما فهم من السابق من أن ثمة انتظارًا وتربصًا للإذن، كأنه قيل: يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم بكلمة تكلم بها رب العزة قال بعضهم لبعض - على وجه السؤال: ماذا قال ربكم؟ قالوا: قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وأما كلام السلف هو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي أرعد أهل السماوات من الهيبة، فيلحقهم كالغشى فإذا جلى عن قلوبهم سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟

قالوا: القول الحق، أي: المطابق للواقع يعني: أخبر بعضهم بعضًا بما قال الله من غير زيادة ونقصان، وفي البخاري والترمذي وابن ماجه أحاديث صريحة في هذا المعنى، وعلى هذا طباق الآية مشكل ويمكن أن يقال: إن المشركين يعبدون الملائكة زاعمين أنهم شفعاء لهم فبين سبحانه مقام عظمته وجبروته أن لا يجترئ أحد منهم أن يشفع لأحد إلا بإذنه فهم خلف سرادق الهيبة متحيرون متربصون حتى إذا أزيل عنهم الفزع قالوا: (ماذا قال ربكم) الآية، كأنه قال: لا تنفع الشفاعة إلا لمن لا يثبت عند سماع كلام الحيِّ ولا يقدر التكلم حتى إذا أزيل الفزع وعن بعض السلف معناه: حتى إذا نزع الغفلة عن قلوب المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في الدنيا بالوحي؟ قالوا " الحق " فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار، وعلى هذا أيضًا توجيهها مشكل اللهم إلا أن يقال معناها: قل يا محمد للمشركين ادعوا آلهتكم أي: اعبدوهم، فيكون الأمر للتهديد، حتى إذا نزع الغفلة عن قلوبهم، ويكون حتى غاية لعبادتهم، ويكون قوله عن قلوبهم التفات من الخطاب، والله أعلم، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ): له العلو والكبرياء، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قلِ الله): إذ لا يجحد ذلك إلا معاند، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ):

أي أحد الفريقين ممن يتوحد الرازق بالعبادة، وممن يشرك به الجماد لعلى أحد الأمرين إما مستعل على ذروة الهدى أو منغمس في حضيض الضلال، وليس هذا على سبيل الشك، بل على الإنصاف في الحجاج، وهو أبلغ من التصريح في هذا المقام، (قُلْ لا تُسْألونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا): من الصغائر والزلات، (وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ): من الكفر والمعاصي وهذا أيضًا من الإنصاف في غايته، حيث أسند الإجرام إلى نفسه، والعمل إليهم، (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا): في المحشر، (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ): يفصل ويَحْكُم، (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي: أروني بأي صفة ألحقتموهم بالله حال كونهم شركاء على زعمكم، وهذا استفسار شبهتهم بعد إلزام الحجة، (كَلَّا) ردع عن المشاركة، (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): فاين هؤلاء الأذلاء عن هذه الصفات، وضمير هو لله أو للشأن، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ): إلا إرسالة عامة، نحو: ما قمت إلا طويلاً، والأظهر ما

(31)

اختاره ابن مالك من أنه حال عن المجرور، ولا بأس بالتقديم لأن استعمال الفصحاء وارد عليه، (بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ): القيامة، أو المبشر به والمنذر عنه، (إِن كُنتمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ)، الإضافة بيانية، (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ)، إذا فاجأكم، وهذا جواب إنكارهم القيامة لوحظ في الجواب المقصود من سؤالهم لا ما يعطيه ظاهر اللفظ. * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) * * *

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ): كالتوراة والإنجيل، أو المراد منه يوم القيامة، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ): للحساب، (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ). في التلاوم، والجدال لرأيت العجب، فجواب لو مقدر، (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا): الأتباع، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا): المتبوعين، (لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ): فإنكم أضللتمونا، (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أنكروا أنهم أضلوهم، وأتبتوا أنهم آثروا الضلال باختيارهم، (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، إضراب عن إضرابهم أي: بل مكركم بنا بالليل، والنهار هو السبب في ضلالنا والإضافة على الاتساع، (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا) أي: أضمر الفريقان التابع والمتبوع، أو أظهروا فإن الهمزة تصلح للإثبات والسلب، (النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا): في أعناقهم لكفرهم، (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: إلا على أعمالهم، فهو بنزع الخافض، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا): أغنياؤها ورؤساؤها، وهذا تسلية لنبيه - عليه السلام - وإثبات لمبادرة الأغنياء بالإنكار، فهم المضلون، (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، زعموا أن

(37)

ذلك من محبة الله لهم، فلا يعذب المحب حبيبه، (قُلْ): ردًّا لحسبانهم، (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيق لمن يشاء، فلا البسط للرضى ولا التضييق للسخط، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): فيحسبون كثرة الأموال والأولاد شرفًا على البت. * * * (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) * * *

(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي) أي: بالخصلة التي، (تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى): فإنها خصلة واحدة هي التقوى أو ما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم قربة، (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)، كلام السلف يدل على أن الاستثناء منقطع أي: لكن من آمن وعمل صالحًا، (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ): أن يضاعف حسناتهم إلى عشر إلى سبعمائة ضعف، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول، والجزاء يتعدى إلى مفعولين، (بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ): غرفات الجنة، (آمِنُونَ): من المكاره قيل: الاستثناء متصل من مفعول تقربكم أي: ما جماعة الأموال والأولاد بالتي تقرب أحدًا إلا من آمن فإن أموال المؤمن الصالح تصرف بوجوه الخير، وأولاده بتربية أبيه يعلمون الدين، أو من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف، أي: إلا مال وولد من آمن، (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا): بردها، (مُعَاجِزِينَ): يحسبون أنهم يعجزوننا، (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ): يوسع عليه تارة، َ (وَيَقْدِرُ لَهُ): تارة أخرى، (وَمَا أَنْفَقْتمْ مِن شَيْءٍ): في رضى الله، (فهوَ يُخْلِفُهُ) يعوضه في الدارين، أو في أحدهما، (وَهو

خَيْرُ الرَّازقِينَ) فإنه هو رازق بلا غرض وعوض، بل هو الرزاق وحده والغير وسط في الإيصال، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ): الكفار، (جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاِئكَةِ): توبيخًا للكفرة، (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)، فإن كثيرًا من الكفار يدعون عبادة الملك، (قَالُوا سُبْحَانَكَ): من أن نثبت لك شريكًا، (أَنْتَ وَلِيُّنَا): أنت الذي نواليه، (مِنْ دُونِهِمْ): لا موالاة بيننا وبينهم، فلا نرضى بمحبتهم وعبادتهم، (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ): فإنَّهم مطيعون للشياطين في الشرك، فيعبدونهم، (أَكْثَرُهُمْ): أكثر الإنس، (بِهِمْ): بالشياطين، (مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْض نَفْعًا وَلا ضَرًّا) إذ الأمر كله في ذلك اليوم ظاهرًا وباطنًا بيد الله، (وَنَقُولُ)، عطف على " لا يملك " (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا): القرآنية، (بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا) أي: محمد، (إِلا رَجُلٌ يريدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ): يمنعكم، (عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا) أي: القرآن، (إِلَّا إِفْكٌ) غير مطابق للواقع، (مُفْتَرًى): على الله، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي: القرآن، (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، ينسبونه إلى الاختراع والكذب، ثم الى السحر لما فيه من الإعجاز الدال على الصدق، (وَمَا آتيْنَاهُمْ) أي: قريشًا، (مِنْ كتُبٍ يَدْرُسونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)، وكانوا يقولون: لو جاءنا نذير، وأنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، قيل معناه ليس لهم كتاب ولا رسول قبلك حتى يقولوا نحن نتبع كتابنا ونبينا ولا نتبعك، فليس لهم عذر باطل أيضًا في عدم اتباعك، (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): من الأمم الماضية، (وَمَا بَلَغُوا): هؤلاء، (مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ): من طول الأعمار وكثرة الأموال وقوة الإجرام، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي)، عطف على كذب عطف مقيد على مطلق أي: فعلوا التكذيب، فكذبوا رسلي كما يقول: أقدمت على الضرب فضربته، قيل: عطف على ما بلغوا والضمير لأهل مكة أي: ما بلغوا معاشرهم فكذبوا رسلي ونفي

(46)

رسول واحد نفي جميع الرسل كما تقول: ما بلغت معشار علم زيد، فتفضل عليه، (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) النكير: تغيير المنكر، أي: فحين كذب الذين من قبلهم رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء عن مثل ما وقع عليهم. * * * (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) * * * (قل إنما أعظكم): أرشدكم، (بواحدة): بخصلة واحدة، (أن تقوموا لله)، المراد بالقيام لله الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة، والفكر خالصًا له من غير هوى ولا عصبية عطف بيان أو بدل من واحدة أو خبر لمحذوف أي: هي أن تقوموا،

(مَثْنى وَفُرَادَى): اثنين اثنين أو واحدًا واحدًا فإن الازدحام يشوش الفكر، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا): في أمر محمد، (مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)، كلام مستأنف للتبيه من الله على جهة النظر قيل: معناه تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم جنون، وقيل: ما استفهامية، أى: تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون، (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ): قدام، (عَذَابٍ شَدِيدٍ)، عن مقاتل معناه: ثم تتفكروا في خلق السَّمَاوَات والأرض حتى تعلموا وحدانيته، ثم ابتدأ وقال " ما بصاحبكم من جنة " (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ)، أي: أي شيء سألتكم من أجر التبليغ وأدعى استحقاقه؟! (فَهُوَ لَكُمْ) أي: فذلك الشيء ملككم، وأنا معترف بذلك كما تقول: إن أعطيتني شيئًا فخذه، فالمراد نفي الطمع بالكلية أو ما موصولة، أي: الذي سألتكم فهو لنفعكم قال تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى " [الشورى: 23] " قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا " [الفرقان: 57] (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): فيعلم صدقي، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ): يرمي به ويلقيه على من يشاء من عباده قال تعالى " يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، صفة لـ رَبِّي تابع لمحله، أو خبر بعد خبر، أو خبر لمحذوف أو بدل من ضمير يقذف، َ (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) القرآن والإسلام، (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ) أي: الكفر، (وَمَا يُعِيدُ) أي: هلك الكفر بالكلية، فإن من خاصة صفات الحي إما أن يبدئ فعلا أو يعيده، فإذا لم تكن له تلك الصفة لم تكن له الحياة، وعن بعض السلف: إن الباطل إبليس أي: هو لا يبدئ أحدًا ولا يعيده، بل المبدئ والباعث هو الله، وقيل: لا يبدئ الباطل لأهله خيرًا ولا يعيده يعني: لا ينفعهم في الدارين، (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي): وبال ضلالي عليها، لأنها هي السبب للضلال، (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي): فإن الخير كله من الله، ولولا توفيق الله لما حصل الاهتداء، فإن النفس والشيطان لا يأمران إلا بالشر، (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ): فيسمع قول ضال ومهتد، (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا): في القيامة، أو عند البعث، أو عند عذابهم في الدنيا لرأيت أمرًا هائلاً، فجواب لو مقدر، (فَلَا فَوْتَ): لهم منا ولا نجاة، (وَأُخِذُوا)، عطف على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا، (مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ): من الموقف إلى النار، أو من القبور، أو من ظهر الأرض إلى

بطنها قيل: هو كناية عن سهولة الأمر، أي: أخذناهم أخذًا يسيرًا علينا، (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ): بالله أو بمحمد أو بيوم القيامة عند البعث، أو عند العذاب، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ): من أين لهم تناول الإيمان؟ (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، فإن التوبة والإيمان لا يكونان إلا في الدنيا، وهم في الآخرة، وهو تمثيل لطلبهم ما لا يكون فإن التناوش تناول سهل لشيء قريب، فإذا كان الشيء بعيدًا يستحيل الوصول إليه، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - طلبوا الرجعة إلى الدنيا، (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفونَ بِالْغَيْبِ): يرمون بالظن بما لم يظهر لهم، (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ): وهو بعدهم عن علم ما يقولون كأنهم رموا إلى شيء بعيد في ظلمة ثم يزعمون أنَّهم ضربوه يعني: وقد كفروا وظنوا ظنونًا واعتقدوها، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ): الإيمان أو من شهواتهم الدنيوية، (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ): بأشباههم، (مِنْ قَبْلُ): من كفرة الأمم السالفة، (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ): مشكل فيه مبالغة كما لا يخفى، والله أعلم. * * *

سورة فاطر

سورة فاطر مكية وهى خمس وأربعون آية وخمس ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) * * * (الْحَمْدُ لله فَاطِرِ): مبدع، (السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا): بينه وبين أنبيائه، قيل: بينه وبين خلقه بإيصال آثار صنعه إليهم، (أُولِي): ذوي، (أَجْنِحَةٍ): متعددة، (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ): يسرعون نحو ما أمرهم الله به، صفات

لـ (أَجْنِحَةٍ)، (يَزِيدُ في الْخَلْقِ) أي في خلق الأجنحة، وغيرها كحسن الصوت والعقل، (مَا يَشَاءُ)، في الحديث: " رأى ليلة المعراج جبريل عليهما السلام وله ستمائة جناح بين كل [جناحين] كما بين المشرق والمغرب "، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللهُ): ما يرسل ويطلق، (لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ): كهداية ورزق ومطر، (فَلا مُمْسِكَ لَهَا): يمنعها، (وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَه): يطلقه لما فسر الشرطية في الأول بالرحمة لبيان رحمته وأبهم في الثاني أنث الضمير في الأول دون الثاني، (مِنْ بَعْدِهِ): بعد إمساكه، (وَهُوَ الْعَزِيزُ): الغالب، (الْحَكِيمُ): فى أفعاله، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا): احفظوا واشكروا، (نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ) أنكر أن يكون لغيره في النعم مدخل يستحق أن يشرك في الشكر، وقراءة رفع غير بأن يكون صفة تابعًا للمحل، أو فاعل خالق، أو خبره، وخبر خالق محذوف على الأولين، (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ)، كلام مبتدأ أو صفة بعد صفة، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): فهو الخالق الرازق وحده، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد؟ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ): فليس ببدع، (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ): عظام محترمون، (مِنْ قَبْلِكَ): فاصبر كما

(8)

صبروا، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ): فيجازي كلًّا بما يستحقه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ): بالحشر وغيره، (حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا): فيذهلنكم التلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة، (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ): الشيطان، فيحثكم على المعاصي بإنكار الآخرة، وبوعد التوبة والمغفرة، (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ): من قديم الزمان، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا): ولا تغتروا بأمانيه، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ): أشياعه، (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ): لأن يشاركوه في المنزل والمنزلة، (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)، بيان لحال موافقيه ومخالفيه. * * * (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ

سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) * * * (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا): رأى الباطل حقًّا، (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ): لا تهلكها (عَلَيْهِمْ)، متعلق بـ لا تذهب، (حَسَرَاتٍ)، مفعول له وجواب " أفمن زين " محذوف تقديره كمن وفق فرأى الحق حقًّا والبَاطل باطلاً، ويدل عليه قوله: " فإن الله يضل " إلى آخره، أو تقديره ذهبت نفسك عليهم للحسرة، فيدل عليه قوله: فلا تذهب إلخ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ): ليس بغافل عن صنيعهم، وهو الذي أراده فاصبر على مراد الله تعالى، (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)، صيغة المضارع حكاية للحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة، ونعم ما قيل اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار

الفعل، (سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا)، التفت إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع، (به): بالمطر، وهو مفهوم من الكلام أو بالسحاب، فإنه السبب أيضًا، (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ)، في الحديث " ينزل من تحت العرش مطر فيعم الأرض جميعًا، وينبت الأجساد من قبورها كما ينبت الحب في الأرض "، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا): فيطلبها منه بطاعته، فإن كلها له قال تعالى " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا " [مريم: 81]، (إِلَيْهِ): إلى الله، (يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ): الذكر والدعاء والتلاوة، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ): أداء الفرائض، (يَرْفَعُهُ) أي: يرفع العمل الصالح الكلم الطيب، ويجعله في محل القبول ولولاه لم يقبل، أو يرفع الكلم الطيب العمل الصالح لا يقبل عمل بدون كلم التوحيد، أو العمل الصالح أي: الخالص الله

يرفعه، (وَالذِينَ يَمْكُرُون) هم المراءون والمنافقون يوهمون أنَّهم في طاعة الله، وعن بعض نزل فيمن تشاور ومكر في حبس رسول الله، وإخراجه، وقتله، (السَّيِّئَاتِ) أى: المكرات والسيئات، أو مفعول به لتضمين يمكرون معنى يعملون، (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ): يبطل، ويفسد ويظهر من يخسر عن قريب، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ): بخلق آدم منه، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ): بخلق ذريته منها، (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا): ذكرانًا وإناثًا، (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ): إلا معلومة لله حال من أنثى فاعل تحمل، (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ): ما يمد في عمره من مصيره إلى الكبر، (وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ): لغيره بأن يعطى لأحد عمر ناقص من عمر معمر، أو الضمير للمنقوص وإن لم يذكر لدلالة مقابله عليه أو الضمير للمعمر على التسامح المشهور اعتمادًا على فهم السامع نحو: لك عندي درهم، ونصفه قيل: معناه لا يطول ولا يقصر عمر إنسان إلا في كتاب، فإنه مكتوب في اللوح: إن فلانًا إذا حج -مثلاً- فعمره ستون -مثلاً- وإلا فأربعون، وإذا حج فقد عمر، وإلا فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو ستون، (إِلَّا فِي كِتَابٍ): صحيفة كتب في بطن أمه أو اللوح المحفوظ، (إِنَّ ذَلِكَ): الحفظ، أو الزيادة والنقصان (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ)، هذا بيان قدرة أخرى عظيمة، (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ): يكسر

(15)

العطش، (سَائِغٌ): مريء، (شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ): يحرق بملوحته، (وَمِن كُلٍّ): من البحرين، (تَأكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا): السمك، (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً): اللآلئ، (تَلْبَسُونهَا): الحلية من الأجاج لا من العذب، ولا يلزم من عطف تستخرجون على تأكلون أن يكون الاستخراج من كلٍّ قيل: البحران مثلان للمؤمن، والكافر، ثم إن قوله " ومِن كُلٍّ " إلخ إما استطراد أو تتميم لتفضيل المشبه به على المشبه، ونظيره قوله: " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " [البقرة: 74]، (وَتَرَى الْفُلْك فيهِ): في كلِّ، (مَوَاخرَ): شواق للماء بجريها، (لِتَبْتَغُوا)، متعلق بمواخر، (مِنْ فَضْلِهِ): من فضل الله بالتجارة، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): نعمه، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ): يزيد من هذا في ذاك ومن ذاك في هذا، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى): إلى يوم القيامة، (ذَلِكُمُ اللهُ ربُّكُمْ) أى: ذلك الموصوف بتلك الصفات المذكورة الله، (لَهُ الْمُلْكُ): وحده، (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ): من ملك أو صنم، (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ): القشرة الرقيقة الملتفة على النواة، (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ): فإنهم جماد، (وَلَوْ سَمِعُوا): على الفرض، (مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ): لعجزهم عن الإنفاع، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ): يتبرءون منكم قائلين: ما كنتم إيانا تعبدون، (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ): لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به، ولا عالم أعلم من الله وهو الذي أخبركم. * * * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ

كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) * * * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، زيادة قيد الحميد ليعلم أنه جواد منعم فإن الغنى بدون الجود غير محمود، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ): فإنه غير محتاج إليكم، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) غير عاصين مطيعين، (وَمَا ذلِكَ عَلَى الله بعَزِيزٍ): بعسير، (وَلا تَزِرُ): لا تحمل، (وَازِرَةٌ): نفس آثمة، (وِزْرَ): نفس، (أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا) أي: وإن تدع نفس أثقلتها أوزارها أحدًا من الآحاد إلى أن يحمل بعض ما عليها، (لَا يُحْمَلْ مِنْهُ): من وزره، (شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ): المدعو، (ذَا قُرْبَى): من أب وأم وابن وأخ وغيرهم، (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ

يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ): غائبين عن الناس في السر، أو غائبين عن عذابه، أو حال عن المفعول، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ): فهم المنتفعون بالإنذار، (وَمَنْ تَزَكَّى): عن دنس المعاصي، (فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى): يتطهر، (لِنَفْسِهِ): نفعها لها، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ): فيجزيه، (وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى): الكافر، (وَالْبَصيرُ): المؤمن، (وَلَا الظُّلُمَاتُ): الباطل، (وَلا النُّورُ): الحق، (وَلَا الظِّلُّ): الثواب والجنة، (وَلا وَلَا الْحَرُورُ): العقاب والنار، والحرور: السموم، وتكرير لا على الشقين لمزيد التأكيد، (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ): المؤمنون، (وَلَا الْأَمْوَاتُ): الكفار، تمثيل آخر لهما،

(27)

وقيل المراد العلماء، والجهال، (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ): سماع قبول، (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي: الكفار المصرين فإنهم كالأموات في عدم الانتفاع بالموعظة، (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ): فما عليك إلا الإنذار، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ) أي: محقًّا أو محقين، وقيل: إرسالاً مصحوبًا بالحق، (بَشِيرًا): للمؤمنين، (وَنَذِيرًا): للكافرين، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ): أهل كل عصر، (إِلَّا خَلَا): مضى، (فِيهَا نَذِيرٌ): نبي ينذرهم من عقاب الله، ومتى بقيت آثار النذارة صدق أن تلك الأمة لم تخل عن نذير، ولهذا لما اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله سيد الكونين - عليهما الصلاة والسلام (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ): فلا تحزن لأنه ليس ببدع، (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ)، من باب التنازع والعمل للثاني، (بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ): الكتب، (وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ): الواضح المبين، العطف لتغاير الوصفين، (ثُمَّ أَخَذْتُ): أهلكت، (اَلذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ): إنكاري، وتغييري لهم بالعقوبة. * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا): هيآتها كالصفرة والخضرة، أو أجناسها كالرمان والتفاح، (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ) أي: ذو جدد أي خطط، وطرائق جملة من مبتدأ وخبر، (بِيضٌ): كالعروق، (وَحُمْرٌ) يعني: بعضها أبيض، وبعضها أحمر، (مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا): أجناسها بالشدة والضعف، (وَغَرَابِيبُ سُودٌ) يقال: أسود غربيب أي: شديد السواد عطف على بيض أصله سود غرابيب حذف الموصوف ثم فسر به، وعن عكرمة: هي الجبال الطوال السود،

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) أي: الأمر كذلك كما بين ولخص، أو مختلف ألوانه اختلافًا كذلك أي: كاختلاف الثمار والجبال، (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، لما قال ألم تعلم إنزال المطر وآثاره، واختلاف هيئات الأجناس الذي هو من آثار صنع الله، أتبع ذلك كذلك " إنما يخشى الله " إلخ، كأنه قال الأمر كما ذكر لكن إنما ينجع الخطاب ويؤثر فيمن في يخشى الله بالغيب، فوضع موضعه إنما يحشى الله من عباده العلماء تعريضًا لجهل الكفرة، ومن يدعي العلم ولم يخش الله وتنويها برفع منزلة العلماء العاملين ويلزم من الجمع المحلى باللام المفيد للعموم أن من لم يخش لم يكن عالمًا قال مسروق: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلا، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ): فيتمكن من الانتقام، (غَفُورٌ): للعصاة فحقه أن يخشى ويرجى، (إِن الّذِينَ يَتْلُونَ كتَابَ اللهِ): يداومون قراءته أو متابعته، (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً): في جميع أحوالهم، (يَرْجُونَ تِجَارَةً): يطلبون ثواب طاعة وهو خبر إن، (لَنْ تَبُورَ): لن تهلك بالخسران، (لِيُوَفِّيَهُمْ):، علة للتلاوة والإقامة والإنفاق، أو متعلق بـ لَنْ تَبُورَ، (أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ): على الأجر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، (إِنَّهُ غَفُورٌ): لفرطاتهم،

شَكُورٌ): لطاعاتهم، (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ)، من للتبيين يعني القرآن، (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ): من الكتب السماوية، (إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ): عالم بالبواطن والظواهر، ولهذا اجتباك وأنزل عليك هذا الكتاب، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا): حكمنا بتوريثه منك أو عبر بالماضي عن المضارع لتحققه، (الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا): آلك وأصحابك ومن بعدهم من أمتك، (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): لتقصيرهم في العمل به، وهم يحبسون في طول المحشر حتى يصيبهم الهم الطويل، ثم يدخلون الجنة، وفي الحديث " هم الذين يقولون الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ " ويدل على ما فسرنا الأحاديث الكثيرة، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): لأنَّهُم يعملون به في أغلب أحوالهم، وهم يحاسبون حسابًا يسيرًا، (ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ): بالطاعات هم الأولياء والأبرار، (بِإِذْنِ اللهِ): بأمره، وإرادته وهم يدخلون الجنة من غير حساب، أخر السابقين لقلتهم، وللترقي من الأدنى، وعن عائشة حين سأل عقبة عن تلك الآيات " يا بني كلهم في الجنة أمَّا السابق فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه، وأما الظالم فمثلي ومثلكم "، وهذا منها - رضى الله عنها - من باب التواضع، وهضم النفس

وعن بعض الظالم لنفسه كافر أو منافق فحينئذ ضمير منهم للعباد لا للذين اصطفينا والأول أصح، (ذَلِكَ): التوريث، وقيل السبق، (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ): العظيم، (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، مبتدأ، (يَدْخُلُونَهَا)، والضمير للمصطفين، وفي الشواذ جنات بالنصب على شريطة التفسير، (يُحَلَّوْنَ فِيهَا)، خبر بعد خبر، أو حال مقدرة من حلية المرأة إذا جعلت لها حليًّا، (مِنْ أَسَاوِرَ) جمع سوار، ومن للتبعيض، (مِنْ ذَهَبٍ)، بيان لأساور، (وَلُؤْلُؤًا) بالنصب عطف على محل من أساور، (وَلبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ): هموم الدارين، (إِن رَبَّنَا لَغَفُور): للذنوب، (شَكُور): للطاعة، (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ): الإقامة، (مِنْ فَضْلِهِ): إذ لا يجب عليه شيء، (لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ): تعب، (وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ): كلال، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، مقابل للذين اصطفينا، (لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ): بموت فيها، (فَيَمُوتُوا)، جواب النفي منصوب بإضمار أن، (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ): مثل ذلك الجزاء، (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ): مبالغ

(38)

في الكفر أو الكفران، (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ) من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة، (فِيهَا): قائلين: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) أي: عملاً صالحًا، (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، بدل أو صفة وفائدته التحسر، والاعتراف بالذنب، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ)، جواب من الله لهم، (مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، ما موصولة، ومن فاعل يَتَذَكَّرُ والأصح الذي يدل عليه الأحاديث أنه ستون سنة وعن زين العابدين: إنه سبع عشر سنة، وعن كثير: إنه أربعون، (وَجَاءَكُمُ)، عطف على معنى أو لم نعمركم كأنه قال عمرناكم وجاءكم، (النَّذِيرُ): الرسول، أو الشيب، (فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ). * * * (إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا

خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) * * * (إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): فلا يخفى عليه أحوالهم، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، تعليل له أي: إذا علم مضموات الصدور فكيف يخفى عليه شيء آخر؟! (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) جمع خليفة أي: خلفاء قوم آخرين أورثكم أرضهم وملككم مقاليد التصرف، وسلطكم فيها، (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ): لا يضر غيره، (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًاا): أشد البغض، وهم يحسبون أن آلهتهم شفعاءهم، (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا): وهم

يحسبون أنَّهم على شيء إلا أنَّهم هم الخاسرون، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي) بدل من أرأيتم أو تأكيد أرأيتم لأنه بمعنى أخبروني عن شركائكم، (مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ): هل استبدوا بخلق شيء حتى استحقوا العبادة؟! (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَات): شركة مع الله في خلقها، (أَمْ آتيْنَاهُمْ) أى: الأصنام، أو المشركين، (كِتَابًا): بأَنهم شركائي، (فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ): حجة واضحة، (مِنْهُ): من ذاك الكتب، الظاهر أنه للترقي فإن الاستبداد بخلق جزء من الأرض أقل دلالة من أن يكونوا شركاء في خلق السماوات، ثم إيتاء كتاب من الله أدل وأدل، وأم منقطعة، (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ)، بدل من " الظالمون "، (بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا)، فإن الأخلاف والأتباع اعتمدوا على قول الرؤساء والأسلاف بأنهم شفعاء عند الله، (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) أي: كراهة الزوال، أو يمنعها من الزوال، أو يمنعها من الزوال فإن الإمساك منع، (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)، الجملة المنفية ساد مسد الجوابين، و " من " الأولى زائدة والثانية ابتدائية، (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا): لا يعاجل بالعقوبة مع تلك القدرة التامة،

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ): قبل مبعث محمد عليه السلام، (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، مفعول مطلق أى قسمًا غليظًا، (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ): نبي، (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ): أى من الأمة التي هي إحدى الأمم أي: أفضلهم وأهداهم تقول: فلان واحد القوم وأوحدي العصر، ولهذا قال الضحاك: معناه من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل أو من اليهود والنصارى وغيرهم، (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ): مجيئه، (إِلَّا نُفُورًا): عن الحق، (اسْتِكْبَارًا)، بدل من نفورًا أو مفعول له وقيل استكبروا استكبارًا، (فِى الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ)، من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله: (وَلَا يَحِيقُ): يحيط، (الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ): بالماكر، (فَهَلْ يَنْظُرُونَ): ينتظرون، (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ): سنة الله فيهم بتعذيب المكذبين جعل استقبالهم لذلك انتظارًا له منهم، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا): فيصل العذاب ألبتَّة، ويصل إليهم لا إلى غيرهم، (أَوَلَمْ يَسِيَرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ): فإنه يشاهد آثار العذاب من آثارهم، (وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ): ليسبقه، ويفوت عنه، (مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا): ظهر الأرض، (مِنْ دَابَّةٍ): بشؤم معاصيهم، وقيل:

المراد من الدابة الإنس وحده، (وَلَكِنْ يُّؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مسمًّى): يوم القيامة أو إلى أجلهم القدر المعين، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا): فيجازيهم على ما علم من عملهم. اللهم عاملنا معاملة فضلك لا عدلك، والحمد لله حقَّ حمده. * * *

سورة يس

سورة يس مكية وهِى ثلاث وثمانون آية وخمسُ ركوعَاتٍ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) * * * (يس) أي: يا إنسان، أو هو من أسماء الله (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ): ذي الحكمة، وهو قسم (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ): إلى جميع الثقلين (عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ): دين قويم

وشرع لا عوج له خبر بعد خبر، أو حال (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي: هو منزل، وقراءة النصب بتأويل نزل تنزيلاً، أو أعني ولتُنذِرَ " متعلق بـ تَنْزِيلَ (قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) أي: قومًا غير منذر آباؤهم الأولون، قيل: ما مصدرية، فيكون مفعولاً مطلقًا أو موصولة، فيكون مفعولاً ثانيًا أي: لتنذرهم الذي أُنذر آباؤهم الأقدمون (فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ): كلمة العذاب (عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا) يعني: في أعناقهم لا أيديهم، فإن الغل لا يكون إلا في العنق دون الأيدي (فَهِيَ) أي: الأغلال (إِلَى الأَذْقَانِ) أي: واصلة إليها (فَهُم مقْمَحُونَ) المقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ): غطينا على أبصارهم غشاوة (فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) مثل تصميمهم على كفرهم، وأنه لا سبيل إلى تجاوزهم عنه، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين السدين لا يبصرون قدامهم ولا خلفهم في أنَّهم متعامون عن النظر في آيات الله، غير متأملين في مبدئهم ومعادهم. عن ابن عباس - رضى الله عنهما - إن الأول مثل بخلهم عن الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [الإسراء: 29] وعن محيي السنة وغيره إنَّهَا في أبي جهل حين أخذ حجرًا؛ ليدمغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رفعه لصقت يده إلى عنقه، ولزق الحجر بيده حتى عاد إلى قومه، فقام آخر بأني أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو عليه السلام يصلي، فأعمى الله بصر الكافر، يسمع صوته ولا يراه (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) سبق في أول سورة البقرة (إِنَّمَا تُنذِرُ) أي: إنذارًا نافعًا يترتب عليه البغية (منِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ): القرآن

(13)

بالتأمل والعمل (وَخَشِي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ): غائبًا عنه الرحمن فلا يراه، أو غائبًا عن عذاب الرحمن (فَبَشِّرْهُ بِمَغفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ): حسنًا (إِنَّا نَحْنُ نُحْيي الْمَوْتَى): عند البعث (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا): من أعمالهم الصالحة والطالحة التي باشروها بأنفسهم (وَآثَارَهُمْ): ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة، فعمل بها أحد اقتداء بهم، فيجزون عليها أيضًا، وقريب منه ما قال بعض السلف المراد: ما أرّثوا من الهدى والضلال، أو المراد آثار خطاهم إلى الطاعة والمعصية، وفي الطبراني عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرية فنزلت " سنكتب ما قدموا وآثارهم " فثبتوا في منازلهم، وهذا المعنى رواه غير الطبراني، وفيه إشكال لأنَّهُم صرحوا بأن السورة بكمالها مكية (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ): اللوح المحفوظ. * * * (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ

أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) * * * (وَاضْرِبْ): [ومَثَّلَ] (لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَريةِ) أي: مثلها بيان أو بدل من مثلاً، أو هما مفعولا اضرب، لما فيه من معنى الجعل، وقدم المفعول الثاني (إِذْ جَاءهَا) بدل اشتمال من أصحاب (الْمُرْسَلُون): رسل الله أو رسل عيسى بأمر الله (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ): وادَّعيا الرسالة (فَكَذبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا): قويناهما (بِثَالِثٍ) برسول ثالث (فَقَالُوا) أي: الرسل الثلاثة (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ): من ربكم، أو من رسول ربكم

(قَالُوا مَا أَنتمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا) وإنما الرسول ملك، وهذا شبهة أكثر الكفرة أن الرسول لابد أن يكون ملكًا (وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْءٍ) أي: وحيًا ورسالة (إِن أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ): في ادعاء الرسالة (قَالُوا ربنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرسَلُونَ) استشهدوا بما هو يجرى مجرى القسم وهو علم الله (وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ): التبليغ الظاهر المبرهن بالمعجزات (قَالُوا إِذَا نَظَيرْنَا): تشاءمنا (بِكُمْ) فإنه لم يدخل مثلكم على قرية إلا وعذب أهلها (لَئِن لمْ تَنتَهُوا): عن مقالتكم (لَنَرْجُمَنَّكُمْ): بالحجارة أو بالشتم (وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ): شؤمكم (مَعَكُمْ) فإن قبائحكم التي لا تفارقكم سبب الشؤم (أَئِن ذكرتم) جوابه محذوف، أي: أئن وُعِظتم تطيرتم بالواعظ ووعدتموه بالتعذيب؟! (بلْ أَنتمْ قَوْمٌ مسْرِفُونَ): قوم عادتكم الإسراف في الضلال، ولذلك تتطيرون بواعظ من الله (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى): يسرع شفقة على الرسل اسمه حبيب يعمل الحبال أو كان

نجارًا أو قصارًا، ويتعبد في غارٍ بقرب بلدهم، وكان كثير الصدقة سقيمًا، لما سمع همهم بقتل رسلهم جاء لنصح قومه ونصرة رسل الله (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا): من لا غرض له (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فقيل له: أنت تصدق هؤلاء وتذم ديننا فقال: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): بعد الموت، فيحازيكم بأعمالكم، فاعبدوا أنتم أيضًا إياه، ووحدوه وصدقوا رسله (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ): من دون الله (آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا): لا تمنع شفاعتهم عني شيئًا من العذاب (وَلاَ يُنقِذُونِ): ولم يقدروا على إنقاذي (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): إن أعدل عن عبادة قادر نافع ضار إلى عاجز (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ): الذي كفرتم به (فَاسْمَعُونِ) أي: قولي أو الخطاب للرسل، ومعناه: اشهدوا لي بذلك عند ربكم، فوطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره، أو رجموه حتى قتلوه، فلما قتلوه (قِيلَ) أي: قال الله له: (ادْخُلِ الجَنَّةَ): بشره وأذن له فى الدخول، فلما رأى عناية الله (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي) ما مصدرية أو موصولة، والباء صلة يعلمون، وقيل الباء صلة غفر وما استفهامية أي: يعلمون أنه غفر لي بأي شيء أراد الإيمان بالله، والمصابرة بإعزاز دينه (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ): تمني علمهم بحاله؛ ليعلموا أنه على الحق فيردعوا عن الكفر، أراد نصح قومه في حياته ومماته (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ): قوم [حبيب] (مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ منَ

السَّماءِ): لإهلاكهم ونصرة رسلنا، ولم نحتج في إهلاكهم إلى جند، بل الأمر أيسر (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ) الجند من السماء في إهلاك الأمم المكذبة، فإنزال الجند من السماء لنصرة نبيه المصطفى عليه أكمل الصلوات وأفضل التسليمات من خاصته لشرفه، أو معناه، وما صح في حكمتنا إنزال جند عليهم، لأنا قدرنا على إهلاكهم بأهون وجهٍ، وعن بعض معناه: وما أنزلنا على قومه من بعده برسل أخرى برسالة من السماء إليهم (إِن كَانتْ) أي: العقوبة (إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً): من جبريل بعثه الله فأخذ بعضادتي باب بلدتهم، فصاح (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ): ميتون كالرماد لم يبق في البلدة روح يتردد في جسد، واعلم أن بعض السلف وأكثر المتأخرين على أنَّهم رسل عيسى، وأسماءهم يحيى، ويونس، وشمعون، والقرية أنطاكية، وذكروا أن ملك القرية وأكثر أهلها آمنوا بعد تقويتهما بثالث وظهور معجزاتهم، ومن بقى على الكفر أهلكوا، وكلام بعض السلف دال على أنَّهم رسل الله وأسماؤهم صادق، وصدوق، وشكوم، وهو ظاهر القرآن انظر إلى قوله " مَا أَنتمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا " وأيضًا ذكر المؤرخون أن أول مدينة آمنت برسل عيسى هو أنطاكية، وفي القرآن أن هذه القرية أهلكوا لكفرهم، وأيضًا صرح كثير من السلف في قول الله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا

(33)

أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى) [القصص: 43] أن الله ما أهلك من الأمم عن آخرهم بالعذاب بعد إنزال التوراة، بل أمر المؤمنين بقتال المشركين، فكيف يكون هلاك قرية رسل عيسى والله أعلم (يا حَسْرَةً عَلَى العبادِ) نداء للحسرة، كأنه قيل تَعَالي فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري، والظرف إما لغو أو صفة (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَلَمْ يَرَوْا): يعلموا (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) علق ألم يروا عن العمل لفظًا فيما بعده، لأن كم لا يكون معمولاً لما قبله (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) بدل الكل من جملة كم أهلكنا على المعني، فإن عدم الرجوع والإهلاك واحد (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) إن نافية ولما المثقلة بمعنى إلا، والظرف لجميع بمعنى مجموع أو لمحضرون أي: ما كلهم إلا مجموعون لدينا يوم الحشر محضرون. * * * (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ

وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) * * * (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ): اليابسة التي لا نبات فيها (أَحْيَيْنَاهَا) بالمطر استئناف لبيان كونها آية أو آية لهم مبتدأ وخبر وأحييناها خبر الأرض، والجملة تفسير الآية، ولا يبعد أن يكون أَحْيَيْنَاهَا، لا بتقدير قد (وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا) أي: جنسه (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ): من ثم المذكور، قيل الضمير لله، فإن ثمر الله بخلقه (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي: الثمر لم تعمله أيدي الناس، بل خلق الله، ولهذا قال (أَفَلَا يَشْكُرُونَ) وعن بعض أن ما ما موصولة عطف على ثمره، والمراد ما يتخذ منه كالدبس (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ): الأنواع (كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ): الذكر والأنثى (وَمِمَّا

لَا يَعْلَمُونَ): من مخلوقات شتى لا يعرفون، فكأنه قال: الأزواج قسمان معلوم وغير معلوم (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ): نزيل (مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ): داخلون في الظلام (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَر لَّهَا) اسم مكان وفسر النبي المنزل عليه القرآن أن مستقرها تحت العرش تذهب وتسجد هناك، وإذا كان العرش كرة محيطة فتحتيتها باعتبار مكان خاص من العرش الله ورسوله أعلم به، وظاهر بعض الأحاديث دال على أنه قبة ذات قوائم تحمله الملائكة فوق هذا الجانب من الأرض، فحينئذ يكون وقت الظهيرة أقرب ما يكون إلى العرش، وفي نصف الليل أبعد فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع، وعن بعض أنه اسم زمان أي الوقت الذي تستقر فيه، وتنقطع جريها وهو يوم القيامة (ذَلِكَ) الجري الخاص (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ) نصب بشريطة التفسير (قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) هي ثمانية وعشرون ينزل كل ليلة في واحد، فإذا كان في آخر منازله

دق واستقوس (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ): كالعذق وهو العود المعوج الذي عليه الثمر (الْقَدِيمِ): العتيق اليابس (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا) يصح لها، وَيَتَسَهَّلُ عليها (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ): فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه، فتطمس نوره (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) أي: ولا يطلع القمر بالنهار، وله ضوء يطمس نور الشمس فسلطانها بالنهار وسلطانه بالليل لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر قبل القيامة، فعلى هذا المراد من الليل والنهار آيتاهما وهما النيران، أو المراد لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار. أيضًا يتعاقبان بحساب معلوم إلى يوم القيامة، أو المراد أنها لا تجتمع معه في فلك واحد، ولا يتصل ليل بليلٍ لا يكون بينهما نهار (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي: وكلهم، والضمير لهما ولسائر النجوم، فإن ذكرهما مشعر بها أو لهما وهما لاختلاف مطالعهما كأنهما شموس وأقمار، ولإطلاق السباحة التي هي للعقلاء جُمعا بالواو والنون (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المراد سفينة نوح، فإنها مشحونة مملوءة من الأمتعة والحيوانات، والمراد ذرياتهم التي في أصلاب آبائهم، أي: حملنا فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم ذرياتهم، وتخصيص الذرية؛ لأنه أبلغ في الامتنان، وأدخل في التعجب مع الإيجاز، وقيل: حملنا صبيانهم أو

أولادهم الذين يبعثونهم إلى التجارة، فالمراد السفن مطلقًا (وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مّثلِهِ مَا يَرْكَبُون): من السفن التي بعد سفينة نوح، أو المراد الإبل فإنها سفينة بر (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ): مغيث (لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ): ينجون من الغرق (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) أي: لا ينجو لجهة إلا لرحمة منا، ولتمتيع بالحياة إلى أجل مقدر (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) أي من الوقائع التي مضت (وَمَا خَلْفَكُمْ) من أمر الساعة، أو المراد ما تقدم من الذنوب وما تأخر، أي: من مثلها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): لتكونوا على رجاء رحمة، وجواب إذا مقدر، وهو مثل أعرضوا عنه، ويدل عليه ما بعده (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي: أمروا بالإنفاق على فقراء الصحابة (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ): فمن لم يرزق الله

(51)

مع قدرته لا نعطيه؛ لنوافق مشيئة الله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) حيث اتبعتم محمدًا، وأمرتمونا بالإنفاق على من أراد الله فقره قيل: هذا قول الله للكفار (وَيَقُولونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)، يعنون البعث (إِن كنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرونَ): ما ينتظرون (إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً) هي النفخة الأولى (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ): مشتغلون في متاجرهم بخصوماتهم، لا يخطر ببالهم القيامة (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ): لمفاجأة القيامة فيموتون في مكان يكونون فيه، ولا يتمكنون من الرجوع إلى بيوتهم. * * * (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ

وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) * * * (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): نفخة البعث (فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ): القبور (إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ): يسرعونَ (قَالُوا يَا وَيْلَنَا) تَعال فهذا أوانك (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) يرفع الله عنهم العذاب بين النفختين، فيحسبون أنهم كانوا نيامًا (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) من كلام المؤمنين أو الملائكة في جوابهم كأنه قيل: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل، أو من كلامهم ردًا على أنفسهم وتحسرًا، وما إما مصدرية أي وعده وصدقهم، أو موصولة أي: الذي وعده الرحمن، وصدقه بمعنى صدق فيه المرسلون (إِنْ كَانَتْ) أي: الفعلة (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ): بمجرد تلك الصيحة، وليس الأمر فيها بعسير (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا): من الظلم (وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ): يوم القيامة بعد دخول الجنة (فِي شُغُلٍ): عظيم لا يحيط به الأفهام (فَاكِهُونَ): متلذذون خبر بعد خبر، أو الأول ظرف للثاني (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ) من أشجار الجنة وقصورها (عَلَى الْأَرَائِكِ) هي السرر فى الحجال (مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ): جمع أنواعها (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) يدعون به لأنفسهم، فهو من الدعاء، أو يتمنون من قولهم: ادع عليَّ ما شئت، بمعنى: تمنه عليَّ (سَلَامٌ) أي: لهم سلام الله، أو بدل مما يدعون (قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يقال لهم

قولاً من جهته، أي: يسلِّم الله عليهم بغير واسطة، تعظيمًا لهم، وهذا غاية مناهم (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ): انفردوا عن المؤمنين (أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ): الكافرون عن الضحاك لكل كافر بيت من النار، يُردم بابه بالنار، يكون فيه أبدًا، لا يرى ولا يُرى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) العهد: الوصية، أي: ألم أوصيكم بلسان أنبيائي، وهذا من جملة ما يقال لهم تقريعًا (يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) أن مفسرة أو مصدرية (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي) عطف على أن لا تعبدوا (هَذَا صِرَاطٌ مسْتَقِيمٌ): بليغ في استقامته، إشارة إلى عبادته (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا): خلقَا (كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ): فتدركوا إضلاله وعداوته، يعني أنه أمر واضح لمن له أدنى عقل في الحديث " إذا كان يوم القيامة أمر الله جهنم، فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول: " ألَمْ أعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى آدَمَ " إلى قوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا): ادخلوها وذوقوا عذابها (الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ): بكفركم في الدنيا (الْيَوْمَ نَخْتِمُ

(68)

عَلَى أَفوَاهِهِمْ): نمنعها عن التكلم عن السلف، إنه يدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه عمله فيجحد، ويقول: أي ربّ وعزتك لقد كتب عليَّ الملك ما لم أعلمه فيقول له الملك عملت كذا في يوم كذا؟ فيقول: لا وعزتك أي رب فحينئذ ختم على فيه، ويشهد عليه جوارحه (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ): بإنطاق الله إياها (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): من المعاصي (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا): تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة (عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا) أي: ابتدروا (الصِّرَاطَ) أي: الطريق الذي اعتادوا سلوكه نصبه بالمفعولية، لتضمنه معنى ابتدروا، أو بنزع الخافض يعني إلى (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي لا يبصرون الطريق (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ) قردة وخنازير أو حجارة أو أَزْمَنَّاهم (عَلَى مَكَانَتِهِمْ) أي: مكانهم (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ) أي لا ذهابًا ولا رجوعًا، ولفواصل الآي قال: ولا يرجعون أو معناه، ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه وحاصله أنَّهم أحقاء بالطمس والمسخ، ونحن قادرون لكنا نمهلهم لحكمة ورحمة منا. * * * (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ

فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) * * * (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) نطل عمره (نُنَكِّسْهُ) نقلبه (فِي الْخَلْقِ): فتنقص جوارحه بعد الزيادة، وتضعف بعد القوة (أَفَلا يَعْقِلُون): أن القادر على ذلك قادر على البعث، أو على الطمس والمسخ (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) ردٌّ لما قال قريش: إن محمدًا لشاعر (وَمَا يَنْبَغِي لَهُ): الشعر، عن ابن عباس وغيره: ما ولد عبد المطلب ولدًا ذكرًا، ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما نحو: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)

فهو اتفاقي بحسب سليقته من غير قصد إليه (إِنْ هُوَ) أي: ليس الذي أتى به (إِلا ذكْرٌ): عظة من الله (وَقُرْآنٌ مبِينٌ): واضح الدلالة على أنه من الله (ليُنذرَ): الرسول (مَن كَانَ حَيًّا): حيَّ القلب والبصيرة فإنه المنتفع به (وَيَحِق الْقَوْلُ): كلمة العذاب (عَلَى الْكَافِرِينَ): المصرين على الكفر (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا): مما عملناه نحن بلا شريك، وإسناد العمل إلى الأيدي استعارة تفيد المبالغة في التفرد بالإيجاد (أَنْعَامًا) مفعول خلقنا (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) أي: خلقناها لهم، وملكناها إياهم فهم لها مالكون متصرفون مختصون بالانتفاع (وَذَلَّلْنَاهَا): صيرناها منقادة (لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ): مركوبهم (وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ): من الجلود والأصواف وغيرهما (وَمَشَارِبُ) من اللبن جمع مشرب اسم مكان، أو مصدر (أَفَلاَ يَشْكُرُونَ): ربَّ هذه النعم (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ): طمعًا في أن يتقوا بهم، والأمر بالعكس لأنهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ): لأصنامهم (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ): في الدنيا يغضبون للآلهة ويحفظونها أو في الآخرة عند الحساب أي: الأصنام لعبادها جند محضرة عند الحساب؛ ليكون أبلغ في خزيهم؛ لأنَّهُم في هذا اليوم أعداء (فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ): تكذيبهم وكفرهم (إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ): فنجازيهم (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ) أخس

شيء وأمهنه (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ): بين الخصومة لا يتأمل في بدء أمره، ولا يستحي، نزلت إلى آخر السورة حين جاء أبي بن خلف أو العاص بن وائل معه عظم رميم، وهو يذره في الهواء، ويقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال عليه السلام: (نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار). (وَضَرَبَ لنا مَثَلاً)؛ أمرًا عجيبًا (وَنَسِيَ خَلْقَهُ): ابتداء خلقنا إياه (قَالَ) بيان للمثل: (مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ): بالية اسم لما بلى من العظام غير صفة، قيل: هو كـ بغيًّا في " وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا " [مريم: 20] في أنها معدولة عن فاعلة فإسقاط الهاء؛ لأنها معدولة عن باغية (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ): يعلم كيف يخلقه، لا يتعاظمه شيء (الَّذِي جَعَلَ لَكم مِّنَ الشًّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا) مع مضادة الماء النار، والمراد الزِّنار التي تورى بها الأعراب، وأكثرها من شجري المرخ والعفار الخضراوين (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) فمن كان قادرًا على هذا، كيف لا يقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضًّا فيبس؟! قيل معناه: الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار خضرًا نضرًا، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا يوقد به النار، قادر كذلك على كل شيء (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ): مع عظم شأنهما (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم): في الصغر فإن خلق الصغير أسهل عندكم أو مثلهم في أصول الذات، والصفات وهو المعاد (بَلَى) جواب من الله، وفيه إشعار بأنه لا جواب سواه (وَهوَ

الْخَلَّاقُ): كثير المخلوقات (الْعَلِيمُ): كثير المعلومات (إِنَّمَا أَمْرُهُ): شأنه (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ): تَكَوَّن (فَيَكُونُ) فيحدث أي: لا يعسر عليه شيء، ولا يمنع دون إرادته، وقراءة نصب فيكون للعطف على يقول (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) يعني هو المالك المتصرف فيه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): للجزاء. والحمد لله أولاً وآخرًا. * * *

سورة والصافات

سورة والصافات مكية وهي مائة وإحدى وثمانون وقيل: اثنتان وثمانونَ آية وخمس ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) * * * (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم سبحانه بطوائف الملائكة الصافات (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا): الملائكة الذين يزجرون السحاب سوقًا، أو الآيات القرآنية التي تنهي وتزجر عن القبيح

(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) أي: الملائكة الذين ينزلون بكلام، ويتلونه على أنبيائه، والعطف بالفاء؛ للدلالة على ترتب الصافات في التفاصيل قيل: أقسم بالذين يصفون في مقابلة العدو الذين يزجرون الخيل للجهاد، ويتلون القرآن مع ذلك، لا يشغلهم عنه تلك الشواغل (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ): جواب للقسم (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) خبر بعد خبر أو خبر لمحذوف (وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ): مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة، واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليها (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) قراءة تنوين زينة مع جر الكواكب يؤيدان الإضافة للبيان، والزينة اسم وقراءة نصب الكواكب يؤيدان الإضافة إلى المفعول، والزينة مصدر أي: بأن زان الله الكواكب، وحسنها والكواكب، وإن كان بعضها في غير سماء الدنيا لكن بأسرها زينة للسماء الدنيا زيناها للناظرين يرونها كجواهر مشرقة على سطحها الأزرق (وَحِفْظًا) أي: وحفظناها حفظًا، أو عطف على بزينة من حيث المعنى، كأنه قيل: إنا خلقناها زينة وحفظًا (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ): خارج عن الطاعة إذا أراد استراق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) التسمع: تطلب السماع، ولتضمنه معنى الإصغاء عُدِّي بإلى، والملأ الأعلى الملائكة، وهو كلام منقطع لبيان حالهم، أو صفة و " لا " محذور معنى؛ لأن معناها: لا يمكنون من التسمع، كما لا يخفى أو استئناف،

معناها: لا يمكنون من التسمع، كما لا يخفى أو استئناف، والسؤال عما يكون عند الحفظ وكيفيته، لا عن سببه (وَيُقْذَفُونَ): يرمون (مِنْ كُلِّ جَانِبٍ): من جوانب السماء حين صعدوا للاستراق (دُحُورًا): للدحور وهو الطرد أو مدحورين (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) مستمر فِي الآخرة (إلا مَنْ خَطِفَ): اختلس (الْخَطْفَةَ) استثناء من فاعل، لا يسمعون بدل منه (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ): أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي يختلس ويأخذ كلام الملائكة بسرعة، فيتبعه كوكب مضيء، فيحرقه وسيأتي تفصيل ذلك في سورة " قل أوحي " إن شاء الله (فاسْتَفتِهِمْ): استخبر مشركي مكة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) أي: سلهم أخلقهم أصعب أم خلق الملائكة والسماء والأرض، وما بينهما، والمشارق والكواكب والشهب الثواقب؟ فإذا اعترفوا أنها أصعب فَلِمَ ينكرون البعث؟! والبعث أسهل (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ): لاصق لازق بعضه ببعض، فمن أين لهم أن ينكروا إعادتهم وهم تراب (بَلْ عَجِبْتَ): يا محمد من إنكارهم للبعث، أو من قدرة الله على هذه

الخلائق العظيمة (وَيَسْخَرُونَ): منك ومن تعجبك، وقراءة (عَجِبْتُ) بضم التاء بمعنى

(22)

عجبت من إنكارهم البعث، أو بلغ كمال قدرتي أني تعجبت منه، والعجب من الله تعظم تلك الحالة (وَإِذَا ذُكِّرُوا) وعظوا بشيء (لاَ يَذْكُرُونَ) لا يتعظون به (وَإِذَا رَأَوْا آيةً) كانشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخرية (وَقَالُوا إِنْ هَذَا) أي: ليس ما نراه (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) تكرار الهمزة للتأكيد في نفي البعث (أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محل إن واسمها، أو على ضمير لمبعوثون، وجاز للفصل بالهمزة (قُلْ نَعَمْ) تبعثون اكتفى به في الجواب؛ لظهوره مع ما يدل عليه من المعجزات والدلائل (وَأَنْتُمْ دَاخرُون) صاغرون أذلاء (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) أي: إذا كان ذلك فإذا هي أي: البعثة صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية، فالفاء جواب الشرط مقدر (فإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ) أحياء يبصرون، وينتظرون أمر الله (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا) احضر فهذا أوانك (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) يوم الجزاء (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين الحق والباطل (الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ): وهذا من كلام الملائكة، والمؤمنين تقريعًا لهم وتوبيخًا. * * * (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)

مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)

فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (74) * * * (احْشُرُوا الذِينَ ظَلَمُوا) هذا من أمر الله للملائكة (وَأَزْوَاجَهُمْ): أشباههم يعني احشروا عابدي الصنم بعضهم مع بعض، وعابدي الكواكب كذلك، وعن عمر صاحب كل ذي ذنب مع صاحب ذلك الذنب أو قرناءهم من الشياطين أو نساءهم المشركات (وَمَا كَانُوا يَعبدُونَ مِن دُونِ اللهِ): من الأصنام (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ): عرفوهم طريقها ليسلكوها (وَقِفُوهُمْ): في الموقف (إِنَّهُم مسْئُولُونَ): عن عقائدهم وأعمالهم (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ): لا ينصر بعضكم بعضًا، وهذا للتوبيخ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ): منقادون لعجزهم (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ): يسأل بعضهم بعضًا على طريق اللوم (قَالُوا): الأتباع للرؤساء، أو الكفار للشياطين (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ): عن قبل الخير فزينتم الباطل فحسبناه حقًا، فإن من أتاه الشيطان من جانب اليمين، أتاه من قبل الدين، فلبس عليه الحق، أو عن القوة، والقهر فألجأتمونا على الضلال. قيل: اليمين الحلف، فإن رؤساءهم يحلفون أنهم على الحق (قالُوا) أي: الرؤساء، أو الشياطين في جوابهم (بَل لمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِين) أي: الكفر من قبل أنفسكم (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطانٍ): تسلط (بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ): ضالين (فَحَقَّ عَلَيْنَا): جميعنا (قَوْلُ رَبِّنَا): كلمة العذاب (إِنَّا لَذَائِقُونَ): العذاب (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ) أي: أحببنا أن تكونوا مثلنا، فلا تلومونا، فقوله: إنا مستأنفة للتعليل (فَإِنَّهُمْ): كلهم (يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ

مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ) مثل ذلك الفعل (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمين): بالمشركين (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهم): في الدنيا (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ): عن أن يقولوها وَيَقُولُونَ (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) أرادوا به أصدق الخلائق وأعقلهم عليه أكمل الصلاة، وأفضل السلام (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) يعني: أتى بما أتى به الأنبياء ذوو المعجزات (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: مثله (إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) عن كدر الكفر، والنفاق استثناء متصل إن كان الخطاب في أنكم، وفي ما تجزون لجميع المكلفين (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ): خصائصه من طيب الطعم والرائحة وحسن المنظر أو وقته، قال تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) [مريم: 62] (فوَاكه) بدل الكل أو خبر محذوف، ورزق أهل الجنة ليس إلا للتلذذ (وَهُم مُّكْرَمُون): بخلاف الكفرة (في جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ظرف أو حال، أو خبر بعد خبر (عَلَى سُرُرٍ متَقَابِلِينَ): ناظرين بعضهم بعضًا، وعلى سرر ظرف مقدم، أو حال أو خبر (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) تسمى الخمر نفسها كأسًا (مِنْ مَعِينٍ): من نهر جارٍ على وجه الأرض كما يجري الماء (بَيْضَاء): لا كدرة فيها (لَذةٍ للشارِبِينَ) كأن الخمر نفس اللذة وعينها أو تأنيث لذّ بمعنى لذيذ، وهما صفتان للكأس (لَا فِيهَا غَوْلٌ) غائلة، وفساد من فولتج ونحوه كخمر الدنيا (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ): يسكرون هو من عطف الخاص على العام،

يعني لا فيها فساد أصلاً سيما أعظم المفاسد، وهو زوال العقل (عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ): نساء عفيفات قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم (عِينٌ): حسان الأعين جمع عيناء (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شُبهن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه. قيل: أحسن ألوان البدن بياض مخلوط بأدنى صفرة، أو المراد القشعر الذي بين قشرة العليا ولباب البيضة. نقله ابن جرير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) عطف على يطاف عليهم أي: يشربون فيتحادثون على الشراب بأحوال مرت بهم في الدنيا (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ): في أثناء المكالمة (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ): جليس كافر (يقُولُ): الجليس تعجبًا أو توبيحًا (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ): بالبعث عن بعض المراد منهما الرجلان اللذان في سورة

الكهف " واضرب لهم مثلاً رجلين " [الكهف: 32]، (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ): مجزيون (قَالَ) الله لهم أو ذلك القائل (هَلْ أَنتم مطلِعُون): إلى النار لأريكم ذلك القرين (فَاطَّلَعَ): هذا القائل (فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) وسطها، ولاستواء الجوانب سمي وسط الشىء سواء، وعن كعب الأحبار: إن في الجنة كوى إذا أراد أحد ان ينظر إلى عدوه في النار، اطلع عليها، فازداد شكرًا (قَالَ): القائل لقرينه (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ): لتهلكني بالإغواء (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي): بالهداية (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ): معك في النار (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) أي: نحن مخلدون منعمون، فما نحن بالذين شأنهم الموت فالهمزة للتقرير، والفاء عطف على محذوف مقول آخر للمؤمن على سبيل الابتهاج (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى): التي كانت في الدنيا، منصوب بمفعول مطلق من اسم الفاعل (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ): كالكفار عن ابن عباس لما قال الله لأهل الجنة (كلوا واشربوا هنيئًا) أي: بلا موت فعندها قالوا: " أفما نحن بميتين " إلخ قال الله تعالى: لا. قالوا (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وأما قوله: (لِمِثْلِ هَذَا): النعيم المقيم (فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) فهو إما من كلام الله وعليه الأكثرون، أو من كلام أهل الجنة تحدّثًا بنعمة الله وتبجحًا، ثم قال لهم: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا) منصوب على التمييز أو الحال، وفيه دلالة على أن لهم غير ذلك من نعم الله

(أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) هي نزل أهل النار (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ): ابتلاء في الدنيا، فإنهم كذبوا الرسل، وقالوا: كيف يكون في النار شجرة؟! قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء: 60] (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ): منبتها قعرها، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيه منها غصن (طَلْعُهَا): ثمرها (كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) في تناهي قبح منظره، وهو تشبيه تخييلي، فإن المركوز في طباع الناس أن أحسن الصور صورة الملك، وأقبحها صورة الشيطان قيل: العرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانًا، وقيل هي شجرة قبيحة مرة منتنة، تسميها العرب رءوس الشياطين (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا): من طلعها (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ): لغلبة الجوع أو يكرهون على تناولها، فهم يتزقمون، وفي الحديث (لو أن قطرة من الزقوم قطرت على بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم) (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا): على الزقوم بعد ما شبعوا منها، وغلبهم العطش (لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ): لشرابًا من ماء مغلي أو مشوبًا ممزوجًا من حميم يمزج لهم الحميم بما يسيل من فروج الزناة، وعيون أهل النار (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) ذلك لأنَّهُم يوردون الحميم لشربه، وهو خارج من النار أو الحميم في طرف منها وجانب، والمرجع بعد الشرب إلى أصلها (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) أي: وجدوا (آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ) تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد (فَهُمْ

(75)

عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُون): يسرعون كأنهم في غاية مبادرتهم إلى طريق آبائهم مضطرون إلى الإسراع (وَلَقَدْ ضَل قَبْلَهُمْ): قبل أمتك (أَكْثَرُ الأَولِينَ) من الأمم الماضية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم منذِرِينَ): أنبياء أنذروهم بأس الله (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنذَرِينَ): تأمل عاقبتهم، فإن عاقبتهم هلاك وفظاعة " إلا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ) كأنه قال تأمل فإن عاقبة جميعهم الهلاك إلا من أخلص دينه لله وحَّده، والمقصود خطاب الأمة وأخبار الأمم كانت مسطورة في كتب أهل الكتاب مشهورة منهم في العرب. * * * (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا

تَنْحِتُونَ (95) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) * * * (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ): حين أيس من إيمان قومه. فقال: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن إجابة، ووالله لنعم المجيبون نحن (وَنَجيَّنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكرْبِ الْعَظِيمِ): أذى قومه (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) مات من كان معه في السفينة، سوى أولاده وأزواجهم، وأولاده ثلاثة: سام، وهو أبو

العرب، وفارس والروم، ويافث، وهو أبو الترك وسقالبة، ويأجوج ومأجوج، وحام وهو أبو القبط والسودان والبربر (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْاَخِرِينَ): من الأمم (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ) مفعول تركنا، وهو من كلام المحكي، كقرأت سورة أنزلناها، أي: يسلم جميع الأمم عليه تسليمًا (في الْعَالَمِينَ) متعلق بما تعلق على نوح به، والغرض ثبوت هذا الدعاء في كل خلق كما تقول: السلام عليك في كل زمان ومكان، وقيل: مفعول تركنا محذوف أي: الثناء الجميل، والجملة بعده استئناف يدل عليه (إِنَّا كَذَلِكَ): مثل هذه التكرمة (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): من أحسن في العبادة (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) علة للإحسان، ومنه علم أن الإيمان هو القصارى في المدح (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) كفار قومه (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ): أهل دينه، وهو من على منهاجه وسنته (لإبْرَاهيمَ) وبينهما هود، وصالح وفي جامع الأصول أن بينهما ألفًا ومائة واثنتين وأربعين سنة (إِذ جَاء ربَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشك، أو من العلائق، ظرف للشيعة لما فيها من معنى المشايعة أي: ممن شايعه على طريقه حين جاء أو تقديره اذكر إذ جاء (إِذْ قَالَ) بدل من الأول أو ظرف لـ سليم أو جاء (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ): أنكر عليهم عبادة الأصنام (أَئِفْكًا

آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي: تريدون آلهة دونه للإفك، أو آفكين أو تريدون الإفك، وآلِهَةً بدل منه ففيه مبالغة لا تخفى (فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ): إذا لقيتموه ماذا يفعل بكم، وقد عبدتم غيره، أو حتى تركتم عبادته (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ): خرج قومه إلى عيدهم، وأرادوا خروجه معهم، فقال: لا أخرج لأني سقيم، أراد التورية أي سأسقم أو سقيم النفس من كفرهم، ولما كان غالب أسقامهم الطاعون خافوا السراية، وخلوه، وكان قومه نجامين أوهمهم استدلاله على مرضه بعلم النجوم، أو المراد أنه تفكر فقال: إني سقيم، والعرب تقول لمن تفكر نظره إلى النجوم كذا قال كثير من السلف (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ): هاربين إلى عيدهم خوفًا عن سراية الطاعون (فَرَاغَ): ذهب بخفية (إِلَى آلِهَتِهِمْ) بعد ما ذهبوا (فَقَالَ):

للأصنام سخرية (أَلا تَأكُلُونَ): من الأطعمة التي حواليكم، فإن قومه يضعون الأطعمة بين أيديهم ويرجعون ويأكلون للتبرك (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ): تعديته بعلى للاستعلاء وأن الميل لمكروه (ضَربًا بِالْيَمِينِ) مصدر لراغ عليهم؛ لأنه بمعنى ضربهم أو لمحذوف أو حال بمعنى ضاربًا ضربهم باليد اليمني، لأنه أشد، وقيل بالقسم الذي سبق منه، وهو " تالله لأكيدن أصنامكم " (فأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) إلى إبراهيم بعد ما رجعوا ورأوا إهلاك آلهتهم، وبحثوا عن كاسرها، وظنوا أنه هو (يَزِفُّونَ): يسرعون (قَالَ): لهم إبراهيم (أَتَعبدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي: وما تعملونه بقرينة ما تنحتون يعني: هل المخلوقات لخالق واحد يعبد أحدهما الآخر، وكلمة ما عامة تتناول ما يعملونه من الأوضاع والحركات والمعاصي والطاعات وغيرها، والمراد بأفعال العباد المختلف فيها هو ما يقع بكسب العبد، ويستند إليه مثل الصوم والصلاة والأكل، والشرب ونحوهما مما يسمى الحاصل بالمصدر لا نفس الإيقاع الذي هو من الاعتبارات العقلية كما تقول: يفعلون الزكاة يقيمون الصلاة يعملون الصالحات والسيئات، ولما غفل عن هذه النكتة كثير من الفضلاء بالغوا في نفي كون ما موصولة والإنصاف أن الآية محتملة لما قررنا ولأن يكون المراد ما تعملونه من الأصنام فلم يبعد الاستدلال مع الاحتمال والله أعلم (قَالُوا ابنوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ): في النار الشديدة بنوا له حائطًا من الحجر طوله ثلاثون وعرضه عشرون، وأوقدوا فيه النار بملئه، وطرحوه فيه (فأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا): شرًّا (فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفَلِينَ): الأذلين بإبطال كيدهم وتفصيل القصة في سورة الأنبياء (وقالَ): بعد خروجه من النار (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى ربي): إلى مرضاة ربي (سيَهْدِينِ): إلى صلاح داري، فهاجر إلى الشام (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: بعض الصالحين يعني

الأولاد (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) فيه بشارة أنه ابن ينتهي في السن إلى أن يوصف بالحلم، وهو إسماعيل على الأصح نقلاً ودليلاً فإن إسماعيل هو الذي وهب له إثر الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على هذه البشارة، وكيف لا وإسماعيل هو الذي كان بمكة والمناسك، والذبح ما كانتا إلا فيها قال بعض العلماء: من

تحريفات اليهود أنه إسحاق؛ لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب، ومن زعم من السلف أنه إسحاق، وهو الذي سمع ذلك من كعب الأحبار حين يروي من الإسرائيليات، وليس فيه حديث غير ضعيف، والرواية عن علي، وابن عباس - رضى الله عنهما - مختلفة (فَلَمَّا بَلَغَ): الغلام (مَعَهُ السَّعْيَ) يعني سنًّا يسعى مع أبيه في أعماله، أو في الطاعات يعني شب وأطاق ما يفعله أبوه من العمل، ويتصرف معه، ويعينه، ومعه

ظرف للسعي المقدر عند من لم يجوز تقدم الظرف أيضًا على المصدر (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ورؤيا الأنبياء وحي، ولما تكرر رؤياه ثلاث ليال قال: أرى بلفظ المضارع (فانظُرْ مَاذَا تَرَى): من المصلحة هو من الرأي، لا يطلب إلا مفعولاً واحدًا هو ماذا، اختبر صبره من صغره على طاعة الله فشاوره (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) أي: ما تؤمر به، يعني: ليس هذا من مقام المشاورة، فإن الواجب إمضاء أمر ربك (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ): على حكم الله (فَلَمَّا أَسْلَمَا): انقاد لأمر الله، وعن بعض المفسرين: تشهد أو ذكرا اسم الله؛ إبراهيم على الذبح وإسماعيل شهادة الموت (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ): أكبَّهُ على وجهه؛ ليذبحه من قفاه، لئلا يرى وجهه عند الذبح فيكون أهون عليه (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) أن مفسرة (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا): بجزم عزمك وجواب لا محذوف أي: لما أسلما وكذا وكذا كان ما كان من وفور الشكر والسرور لهما والثناء الحسن (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): ليس من تتمة النداء، بل تم الكلام ثم قال: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره، ونجعل لهم من أمرهم فرجًا (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ): الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ) لذبح اسم بها يذبح (عَظِيمٍ) يعني: عظيم القدر، أو عظيم الجثة، والأصح أنه كبش أملح أقرن، وعن كثير من السلف

(114)

أنه كبش قربه ابن آدم فتقبل منه، وكان في الجنة فأتى به جبريل، والمنقول أن قريشًا توارثوا قرني الكبش الذي فدي به أبوهم خلفًا عن سلف، وجيلاً عن جيل، وكان في الكعبة إلى أن بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) قد مر تفسيره في هذه السورة (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ) أي: بوجوده (نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) حالان مقدرتان أي: بشرناه به مقدرًا نبوته، وكونه من الصالحين وعند من يقول: الذبيح إسحاق، فالبشارة الثانية بوجوده مقيدًا بنبوته، والمقصود الأصلي في هذه المرة البشارة بالنبوة، وأما الصلاح بعد النبوة، فلتعظيم شأن الصلاح، وأنه الغاية والمقصود الأصلي (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ): على إبراهيم في أولاده (وَعَلَى إِسْحَاقَ) فإن كثيرًا من الأنبياء من نسله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ): إلى نفسه بالإيمان والطاعة (وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): بالكفر (مُبِينٌ): ظاهر ظلمه. * * * (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ

لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) * * * (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ): أنعمنا بالنبوة وغيرها عليهما (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ): تغلُّب فرعون (وَنَصَرْنَاهُمْ) أي: هما والقوم (فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ): على القبط (وَآتيْنَاهُمَا الْكِتَابَ): التوراة (الْمُسْتَبِينَ): البليغ في بيانه (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) سبق في هذه السورة تفسيره (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) عن

بعض: هو إدريس، وعن بعض: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل من أسباط هارون بن عمران (إِذ قَاْلَ) ظرف لمن المرسلين (لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُون): عذاب الله (أَتَدْعُون): تعبدون (بعْلاً): ربًّا، والبعل الرب، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والسدي بلغة اليمن، أو هو اسم لصنم كان لأهل " بك " من الشام، وهو المسمى حينئذٍ ببعلبك، وقيل: امرأة اسمها بعل يعبدونها (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ): تتركون عبادته (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقراءة النصب بالبدل (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ): في العذاب (إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء من فاعل كذبوه، لا من ضمير محضرون (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) لغة في إلياس، كميكال، وميكائيل، وقيل: جمع منسوب إليه بحذف ياء النسبة كأعجمين، والأشعرين، وقراءة آل ياسين، قيل: ياسين هو أبو إلياس، فآل إلياس، وقيل ياس هو الاسم، والياء، والنون زائدة في لغة السريانية، فعلى هذا الآل مقحم، كآل موسى، وهارون، والمراد من ياسين إلياس، وقيل: آل محمد وهو بعيد جدًّا (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) أي: وقعت في الباقين في العذاب (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) قد مرَّ تفسيره (وَإِنَّكُمْ): يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ): على منازلهم في طريقكم إلى الشام (مُصْبِحِينَ): داخلين في الصباح (وَبِاللَّيْلِ) يعني نهارًا وليلاً (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أليس لكم عقل فتعتبرون بهم. * * *

(139)

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) * * *

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ): هرب (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ): المملوء (فَسَاهَمَ): فقارع أهل الفلك (فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ) صار من المغلوبين بالقرعة، وذلك لأن البحر اشتد عليهم، فقالوا: فينا من بشؤمه اشتد البحر فتساهموا على من يقع عليه القرعة يلقى في البحر، فوقعت عليه ثلاث مرات، فألقى عليه السلام نفسه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ): ابتلعه (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي: ما يجب أن يلام عليه، أو مليم نفسه (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ): لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء، أو من المصلين في بطن الحوت، قد نقل أنه لما استقر في بطنه، ظن أنه قد مات، فحرك رجليه فإذا هو حيٌّ، فقام وصلى، وهو في بطنه، أو من المسبحين بقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) بأن يطول عمر الحوت، ويكون بطنه سجنًا له (فنَبَذْنَاهُ): طرحناه (بِالْعَرَاء): الأرض الخالية التي لا نبات فيها على جانب دجلة، وقيل: بأرض اليمن (وَهُوَ سَقِيمٌ):

كفرخ ليس عليه ريش، ومدة لبثه في بطنه، ثلاثة، أو سبعة، أو أربعون، أو يوم واحد (وَأنبَتْنَا عَلَيْهِ) أي: فوقه (شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ): شجرة الدباء ليتظلل بها، وعن بعض كل شجرة لا ساق لها، فهو يقطين، وعن بعض هو كل شجرة تهلك من عامها (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ) هم قومه الذين هرب عنهم، والمراد إرساله السابق، أو إرسال ثانٍ إليهم أو إلى غيرهم (أَوْ يَزِيدُونَ): بل يزيدون، أو يزيدون على تقديركم، وظنكم كمن يرى قومًا فيقول: هؤلاء مائة أو أكثر (فَآمَنُوا): المرسل إليهم (فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ): إلى وقت آجالهم (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي: سل أهل مكة، وهو سؤال توبيخ عطف على قوله (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا)، الذي وقع فِي أول السورة ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض، ثم أمره ثانيًا باستفتائهم (أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ) حيث قالوا: إن الملائكة بنات الله (وَلَهُمُ الْبَنُونَ) لزم من كفرهم هذا التجسيم، فإن الولادة للأجسام، وتفضيل أنفسهم على ربهم، حيث جعلوا أرفع الجنسين لهم، واستهانتهم بالملائكة (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ): خلقنا إياهم بحضرتهم، فإن الأنوثة مما تعلم بالمشاهدة (أَلا إِنَّهُم منْ إِفْكِهِم): بهتانهم (لَيَقولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ): فإنه محال على الله سبحانه (أَصْطَفَى

الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) استفهام استبعاد، وأما قراءة كسر الهمزة فعلى حذف همزة الاستفهام لدلالة أم بعدها عليها، وقيل بدل من ولد الله، أو بتقدير القول أي: لكاذبون في قولهم أصطفى (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بمثل هذا (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) إنه سبحانه مقدس عن مثل ذلك (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ): حجة واضحة من السماء على ما تقولون (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ): الذي أنزل عليكم هذا (إِنْ كنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَينَهُ): بين الله (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) قالوا الملائكة بنات الله. فقال أبو بكر رضي الله عنه: من أمهاتهن؟! قالوا: سروات الجن أو زعموا عليهم لعائن الله أن الله سبحانه، وإبليس أخوان، أو المراد من الجنة الملائكة سُمُّوا جنة؛ لاجتنانهم عن الأبصار (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون) أي: الجن يعلمون أن القائلين بهذا، أو أن الجنة لمحضرون والعذاب يعني: الكفار يسوّون الجن باللهِ، والجن يعلمون كذبهم، وعلى قول من فسر الجنة بالملائكة معناه: ولقد علمت الملائكة أن الكافرين القائلين بذلك لمحضرون في العذاب (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفون): من الولد والنسب (إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) منقطع من المحضرين أي: لكن المخلصون ناجون، أو متصل من ضمير جعلوا أو يصفون إن فسر بما يعمهم (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ) أي أنتم وأصنامكم ما أنتم بفاتنين على الأصنام يعني: لا تُغوون، ولا تضلون أنتم أحدًا إلا من هو في علم الله أنه يدخل الجحيم،

قيل: ضمير عليه لله، والخطاب في أنتم لهم، ولآلهتهم على تغليب المخاطب، أي: ما أنتم على الله بمفسدين الناس بالإغواء إلا من سبق في علمه شقاوته، وقيل وما تعبدون سادّ مسد الخبر ككل رجل وضَيْعَتَهُ، أي: إنكم وآلهتكم قرناء، ثم ابتدأ فقال: " ما أنتم عليه " إلخ (وَمَا مِنَّا): أحد (إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ): في السماوات يعبد الله فيه لا يتجاوزه، أو في القربة، والمعرفة، وهذا حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية ردًّا على عبدتهم، وقيل من قوله: سبحان الله من كلام الملائكة كأنه قال: ولقد علمت الملائكة أن القائلين بذلك معذبون قائلين سبحان الله عما يصفون، لكن عباد الله المخلصين برآء مما يصفونه، ثم التفتوا إلى الكفرة، وجاءوا بالفاء الجزائية أي: إذا صح أنكم مفترون، والله منزه فاعلموا أنكم وآلهتكم لا تقدرون على أن تفتنوا على الله عباده إلا أشقياء مثلكم، ثم رجعوا من الاحتجاج وأظهروا العبودية واعترفوا بها (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ): في طاعة الله (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ): الله عما لا يليق به، أو المصلون (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ) أي: وإن الشأن كان المشركون ليقولون: (لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا): كتابًا (مِّنْ الأَوَّلِينَ): من كتبهم (لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)

لأخلصنا العبادة له، ولم نخالفه كما خالفوا (فَكَفَرُوا بِهِ) أي: بالذكر لما جاءهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا): وعدنا بالنصر (لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) وهذه الكلمة هي قوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ): في الدارين، أو في الآخرة، عن ابن عباس: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة (فَتَوَلَّ): أعرض (عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ): إلى وقت مؤجل ومدة يسيرة يأتيك نصرك (وَأَبْصِرْهُمْ): حينئذ كيف يذلون (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) عزك ونصرك، وسوف للوعد لا للتبعيد (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) روي أنه نزلت حين قالوا عند نزول قوله فسوف يبصرون: متى يكون هذا؟ (فَإِذَا نَزَلَ) أي: العذاب (بِسَاحَتِهِمْ) بفنائهم (فَسَاءَ): بئس (صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ): صباحهم، واللام للجنس، والمراد من الصباح اليوم أو الوقت الخاص فإن البلايا يطرقن أسحارًا شبهه بجيش أنذر بعض نصاح القوم بهجومه قومه، فلم يلتفتوا إليه، وما دبروا تدبيرًا حتى أناخ بغتة بفنائهم (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) وعد إلى وعد ووعيد إلى وعيد، قيل: الأول عذاب الدنيا، والثاني عذاب الآخرة، وفي إطلاق أبصر ويبصرون عن التقييد بالمفعول فائدة، وهي أنه يبصر وأنَّهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من أنواع المسرة وأجناس المساءة (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) فإن العزة له تعالى يعز من يشاء (عَمَّا

يَصِفُونَ) أي: المشركون (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) الذين سبقت الكلمة لهم لا عليهم (وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): على ما أنعم، وهذا تعليم للمؤمنين عن علي - رضي الله عنه -: من أحبَّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر، فليكن في آخر كلامه من مجلسه سبحان ربك رب العزة إلى آخر السورة، وقد رفع هذا المعنى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهين، وروي الطبراني عنه عليه السلام أنه

قال: (من قال دبر كل صلاة سبحان ربك رب العزة ... ) إلخ، ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر). والحمد لله على ما هدانا. * * *

سورة ص

سورة ص مكية وَهِى ثمانٍ وثمانونَ آيةً وَخَمْسُ ركوعَاتٍ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) * * * (ص وَالْقُرْآنِ) إن كانت اسمًا للسورة فتقديره: هذه صاد، ومضمون هذه الجملة، هو المقسم عليه بناء على ما يتضمنه من الأنباء عن الإعجاز والاشتهار به كما تقول: هذا حاتم والله أو معناه صدق الله، أو صدق محمد - عليه السلام -، وعلى كل وجه جواب القسم مقدم، وقيل: قسم حذف حرفه، والواو للعطف، والجواب محذوف أي: إنه لمعجز حق (ذِي الذِّكْرِ) أي: ذي الشرف، والشهرة، أو ذي التذكير والعظة (بَلِ

الذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ): استكبار عن الحق (وَشِقَاقٍ): خلاف لله ورسوله، والتنوين فيهما للتعظيم، والإضراب عما يتضمنه الكلام من وجوب الإذعان، كأنه قيل هو معجز والله والكفار لا يقرون، بل يصرون على العناد (كمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ) وعيد لهم على عدم الإذعان (فَنَادَوْا) استغاثة وتوبة عند حلول العذاب (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ): لا مشبهة بليس، أو للجنس زيدت عليها التاء للمبالغة، كما في ثم ورب، وخُصَّتْ بلزوم الأحيان، وحذف أحد المعمولين، أي: ليس الحين حين فرار ونجاة وتأخر أو لا من حين مناص لهم، قال البغوي: لات بمعنى ليس بلغة اليمن (وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذرٌ منْهُمْ): رسول بشر من أنفسهم (وَقَالَ الْكافِرُونَ) أي: فقالوا لكفرهم (هَذَا سَاحِرٌ) لمعجزاته (كَذابٌ) لما ينسب إلى الله تعالى (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) نسب الألوهية التي للآلهة لاله واحد فيقول: لا إله إلا الله (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) بليغ في التعجب، نزلت حين اجتمعت سراة قريش عند أبي

طالب قائلين: اقض بيننا وبين ابن أخيك بأن يرفض ذكر آلهتنا ونذره وإلهه، فأجاب - عليه من الله أشرف صلاة وألطف سلام - بعد ما جاء وأخبره عمه عنهم: (يا عم أفلا أدعوهم إلى كلمة واحدة يدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم) فقال -من بين القوم- أبو جهل: ما هي لنعطينكها وعشر أمثالها، فقال: (قولوا لا إله إلا الله) فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وذلك قوله تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ): الأشراف (مِنْهُمْ) من القوم عن محضر أبى طالب قائلين بعضهم لبعض: (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا): اثبتوا (عَلَى آلِهَتِكُمْ): على عبادتها وأن مفسرة؛ لأن إطلاقهم يدل على القول فإن المنطلقين عن مجالس التقاول يتكلمون حال الانطلاق في ذلك الأمر الذي كان فيه تقاولهم بحسب جري العادة (إِنَّ هَذا لَشَيْء يُرَادُ) أي: هذا الذي يدعوننا إليه لشيء يريده محمد ويتمناه لكن لا يصل إليه، أو لشيء من ريب الزمان بنا فلا مرد له (ما سَمِعْنَا بِهَذا): الذي يقوله (في الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ): في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا أو ملة عيسى، فإن ملة عيسى عند قريش آخر الملل وهم مثلثة، وقيل: في الملة حال من اسم الإشارة، كأنه قال: ما سمعنا أحدًا من أهل الملل، ولا الكهان يقول بالتوحيد كائنًا في الملة المترقبة (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ): كذب اختلقه (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) وليس له علينا مزيد شرف، فكيف يختص بهذا الشرف؟! (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي): من القرآن في أنه حق أو باطل، وأما قولهم إن هذا إلا اختلاق، وهذا ساحر كذاب، وأمثاله، فلا يتفوهون به إلا عنادًا من غير اعتقاد في صميم قلوبهم (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ): لم يذوقوا عذابي، فإذا ذاقوه زال عنهم الشك من العناد والحسد وحين

العذاب لم يبق عناد (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ): بل أعندهم خزائن رحمته حتى يعطوها من أرادوه، ويصرفوا عمن لم يريدوا، فيتخيروا للنبوة التي هى أعلى رحمة من أرادوا من صناديدهم؟! وإنما رحمته بيده يعطيها من يشاء (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا): إن كان لهم ذلك (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ): فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء من أبوابها وطرقها من سماء إلى سماء، وليأتوا منها بالوحي إلى من يستصوبون، وهذا تهكم بهم، وأي تهكم (جندٌ ما) أي: هم جند ما من الكفار، وما مزيدة للتقليل (هنالِكَ مَهْزُومٌ): مكسور (مِّنَ الأَحْزَابِ): هنالك ظرف لمهزوم الذي هو صفة جند، وهنالك إشارة إلى بدر، فإنه مصارعهم أو صفة أخرى لجند، وفيه تحقيرهم (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ): ذو الملك الثابت، وعن الكلبي له أوتاد يعذب الناس عليها إذا غضب، وعن قتادة وعطاء له أوتاد وأرسان يلعب بها بين يديه (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب (أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ) مبتدأ وخبر أي: الأحزاب الذين جعل الجند الهزوم بعضًا منهم هم هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنه وجد منهم التكذيب (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ): ما كل واحد منهم مخبرًا عنه بخبر إلا

(15)

مخبرًا عنه بأنه كذب جميع الرسل، لأن الرسل يصدق كل منهم الكل، فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل (فَحَقَّ عِقَابِ): فوجب عقابي عليهم. * * * (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) * * *

(وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء) أي: أهل مكة (إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً) هي نفخة الفزع (مَّا لَهَا مِن فوَاقٍ): من رجوع أي: نفخة واحدة لا تُثنَّى ولا تردَّد أو ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين الحلبتين (وَقَالُوا رَبنا عَجِّل لنا قِطَّنَا): نصيبنا من العذاب الذي يعد من يدعي النبوة، أو كتابنا الذي فيه أعمالنا ننظر فيه، أو نصيبنا من الجنة التي بعدها (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) قالوا ذلك استهزاء، فإنهم غير مؤمنين بالجنة ولا بالنار ولا بيوم الحساب (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ): من السخرية (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ) أي: اصبر واذكر قصته كيف لقي من توبيخ الله تعالى بسبب زلة يسيرة (1)، فصُنْ نفسك عن أن تزل فيما أمرتك من تحمل أذاهم، وقيل معناه: اصبر وعظم أمر معصية الله تعالى في أعينهم بذكر قصة داود (ذَا الأَيْدِ): ذا القوة في الطاعة (إِنَّهُ أَوَّابٌ): رجاع إلى الله تعالى في أموره وشئونه (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) أي مسبحات معه (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) وقت الإشراق حين تشرق الشمس وهو وقت الضحى (وَالطيْرَ) عطف على الجبال (محْشُورَةً): مجتمعة محبوسة إليه من كل جانب (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ): مطيع أو رجاع إلى التسبيح كلما رجع داود إلى التسبيح، فهذه الأشياء كانت ترجع إلى تسبيحها (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ): قويناه بالهيبة وكثرة الجنود (وَآتيْنَاهُ

_ (1) عبارة فيها سوء أدب مع نبي الله داود - عليه السلام - وأين هذه الزلة والآيات تفتتح بالثناء عليه - عليه وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم.

الْحِكْمَةَ): الفهم والعقل والإصابة في الأمور أو النبوة (وَفَصْلَ الْخِطَابِ): الفاصل من الخطاب بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) الخصم في الأصل مصدر، فلذلك أطلق على غير واحد، والمراد من هذا الاستفهام التشويق إلى استماعه (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ): تصعدوا سور الغرفة ونزلوا إليه، وإذ ظرف للنبأ على حذف مضاف أي: قصة نبأ الخصم، أو متعلق بمحذوف أي: نبأ تحاكم الخصم، أو بالخصم لما فيه من معنى الفعل (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ) بدل من إذ تسوروا، أو ظرف لتسوروا (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) إذ دخلوا بغير إذنٍ في غير وقت دخول الخصوم، فإن له يومًا معينًا للقضاء (قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ) أي: نحن خصمان، والتحاكم بين ملكين تصورا في صورة خصمين من بني آدم، والظاهر أن معهما غيرهما فمعناه: نحن فوجان متخاصمان (بَغَى): ظلم (بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) وهذا

تمثيل منهم، وتعريض بحال داود، وما صدر عنه، وتصوير للمسألة، وفرض لها (فاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ): لا تجر في الحكومة (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ): إلى وسطه وهو العدل (إِنَّ هَذَا أخي): في الصداقة (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) هي الأنثى من الضأن كناية عن المرأة (1) (وَلِى نعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا): ملكنيها واجعلني أكفلها (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ): غلبني: في مخاطبته إياي، لأنه أقدر على النطق فقهرني (قَالَ): داود لما اعترف الخصم الآخر: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) في السؤال تضمين كأنه قال: بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب، وقصته أن عين داود وقعت على امرأة رجل فأعجبها، فسأله النزول عنها، فذنبه مجرد أنه التمس النزول عن امرأته، وعن بعضهم ذنبه أن زوجها قتل في بعض الغزوات، فلم يغتم داود اغتمامه بالشهداء، فتزوج امرأته، وما يذكره القصاص ليس له أصل يعتمد عليه، بل منقول عن علي - رضى الله عنه - أنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين (وَإِن كَثِيرًا مِّنْ

_ (1) وإن وردت به اللغة لكنه ليس مرادا في هذا المقام، وقد أصاب وأجاد المؤلف - رحمه الله - عندما حكم على كلام القصاص بالبطلان وعدم الصحة.

الْخُلَطَاءِ): الشركاء (لَيَبْغِي) يظلم (بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) ما مزيدة للإبهام، وفيه تعجب من قلتهم (وَظَنَّ) أي: علم (دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) ابتليناه ذكر أنه لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه، فضحك فصعدا إلى السماء، فعلم أنه تمثيل بحاله (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ): من ذنبه (وَخَرَّ رَاكِعًا) سمي السجود ركوعًا، لأنه مبدأه، أو معناه خر للسجود حال كونه راكعًا أى: مصليًا (وَأَنَابَ) رجع إلى الله تعالى بالتوبة، وذُكِرَ أنه استمر ساجدًا أربعين يومًا (فَغَفَرنا لَهُ ذَلِكَ وَإِن لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى): لقربة (وَحُسْنَ مَآبٍ): مرجع ومنقلب (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً): استخلفناك على الملك (فِى الأَرْضِ) أو خليفة ممن قبلك من الأنبياء (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بالْحَقِّ): الذي هو حكم الله تعالى (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) هوى النفس في قضائك (فَيُضِلَّكَ): اتباع الهوى (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) طريقه المستقيم (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ): بسبب نسيانهم يوم القيامة فلم يعملوا له، وقيل ظرف متعلق بلهم، ومفعول نسوا متروك. * * *

(27)

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) * * * (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا): خلقًا باطلاً، بل لأمر صحيح، وحكمة بالغة أو للباطل والعبث الذي هو متابعة الهوى (ذلِكَ) أي: خلقنا إياهن باطلاً (ظَنُّ) أي: مظنون (الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ للَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أم في الموضعين منقطعة، والهمزة لإنكار التسوية فإنها من

لوازم خلقهما باطلاً، والإنكار الثاني غير الأول باعتبار الوصف، أو باعتبار الذات، أى: بين المتقين من المؤمنين، والفجار منهم وفي الآية إرشاد إلى المعاد، فإنه ربما يكون المفسد والفاجر أحسن حالاً في الدنيا فلابد من دارٍ أخرى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ) يعني: القرآن (مُبَارَكٌ): كثير النفع (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ): يتفكروا فيها (وَلِيَتَذَكَّرَ): يتعظ به (أُولُو الْأَلْبَابِ) ذوو العقول السليمة الظاهر أن ضمير يدبروا لأولي الألباب على التنازع وإعمال الثاني (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ): سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ): رجاع إليه بالتوبة، وهو تعليل للمدح (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) ظرف لأواب، أو لنعم (بِالْعَشِيِّ): بعد الظهر (الصَّافِنَاتُ) الصافن من الخيل: القائم على ثلاثة قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، وهذه صفة محمودة في الخيل (الْجِيَادُ) جمع جواد وهو المسرع في سيره (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي: آثرت حب الخيل بدلاً عن ذكر ربي، أو يكون عن متعلقًا بأحببت لتضمين معنى أنَبْتُ، والخير: المال، وأراد به ها هنا الخيل (حَتَّى تَوَارَتْ) أي الشمس، ومرور ذكر العشي دال على الشمس (بِالْحِجَابِ) أي حتى غربت (رُدُّوهَا) أي: الصافنات (عَلَيَّ فَطَفِقَ): جعل يمسح السيف (مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) أي: بسوقها وأعناقها، والسوق جمع ساق أي: يقطعهما؛ لأنها شغلته عن ذكر الله تعالى يقال: مسح علاوته، إذا ضرب

عنقه ذكر أن له عشرين فرسًا، أو عشرين ألف فرس ذات أجنحة تعرض عليه للجهاد، فنسي صلاة العصر حتى غربت الشمس، كما وقع على نبينا عليهما الصلاة والسلام يوم الخندق؛ فاغتم لذلك فطلبها فعقرها غضبًا لله تعالى، وكان ذلك مباحًا له، وقيل: ذبحها وتصدق بها، والذبح على ذلك الوجه مباح في شريعته، فعوضه الله تعالى بما هو خير منه، وهو الريح التي تجرى بأمره، وعن بعضهم كوى سوقها، وأعناقها بكي الصدقة، وحبسها في سبيل الله تعالى، وعن بعضهم يمسحها بيده لكشف الغبار حبًّا لها، وهو قول ضعيف بعيد عن مقتضى المقام (1) (وَلَقَدْ فَتَنَّا): ابتلينا (سُلَيْمَانَ) بأن سلبنا الملك منه أربعين يومًا، وقيل أكثر (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ): وسلطنا على ملكه (جَسَدًا): شيطانًا (جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) رجع إلى ملكه أو تاب، ثم اعلم أنه لم يصح حديث في تفصيل تلك القصة، وما نقل عن السلف، فالظاهر أنه من الإسرائيليات التي

__ (1) بل هو الحق والصواب إن شاء الله تعالى وقد روي عن ابن عباس - رضى الله عنهما -، والزهري، واختاره ابن جرير قال: إنه لم يكن ليعذب حيوانًا ويهلك مالاً من ماله بلا ذنب منها، ولا شك في بعد هذا القول، والله أعلم.

لا نصدقها، ولا نكذبها (1)، والمنقول عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يتسلط على نسائه، بل عصمهن منه تشريفًا له - عليه الصلاة والسلام -، وأما سبب ابتلائه، فقيل: لأنه أحب امرأة مات أبوها، وهي تجزع أشد جزع، فأمر سليمان عليه السلام الشياطين، فصوروا لها تمثال أبيها تسكينًا لها، فهي مع ذلك التمثال كعابدة صنم، فعوتب سليمان على ذلك، وسلط الله تعالى شيطانًا سرق منه خاتمه الذي فيه ملكه وسلطانه، وجلس مقامه يخيل أنه سليمان حتى مضى أيام ابتلائه، وقيل فيه غير ذلك، والله تعالى أعلم (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي): ذنبي (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) كان معجزة زمانه الملك، فسأل من الله تعالى معجزة خاصة، لا يكون له فيها شريك إلى يوم القيامة، والظاهر أنه سأل أعلى المراتب، ولذلك قال: (لا ينبغي لأحد من بعدي) أي: هب لي ملكًا أنا حقيق به وحدي، وما قال (2)

__ (1) بل نكذبها، لكونها لم تأت من وجه يعتبر، وقد قال أبو شهبة في هذه القصة وأضرابها: نحن لا نشك في أن هذه الخرافات من أكاذيب بني إسرائيل وأباطيلهم. وقد سبق إلى التنبيه إلى ذلك الإمام القاضى عياض في " الشفا ": لا يصلح ما نقله الإخباريون من تشبه الشيطان به، وتسلطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه؛ لأن الشيطان لا يسلط على مثل هذا، وقد عصم الأنبياء من مثله " وكذلك الإمام الحافظ الناقد ابن كثير فى تفسيره. (الإسرائيليات والموضوعات ص 272). (2) هذه أيضًا من جملة القصص التي نبهنا على كذبها. قال النسفى في المدارك: وأما ما يروي من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان فمن أباطيل اليهود انتهى. وقال الخازن: قال القاضى عياض وغيره من المحققين لا يصح ما نقله الإخباريون من تشبيه الشيطان به وتسليطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه، وإن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا انتهى.

لم تعط أحدًا غيري، وعن بعض السلف معناه: ملكًا لا تسلبنيه بعد ذلك وتعطيه غيرى كما سلبته مني، وأعطته شيطانًا، والتفسير الأول هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، فهو الصحيح (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ): وهو من جملة ما وهبنا له خاصة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً): لينة لا تُزعزِعُ (حَيْثُ أَصَابَ): أراد وقصد سليمان (وَالشَّيَاطِينَ) عطف على الريح (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) بدل منه أشغل بعضهم في المحاريب، والتماثيل وجفانٍ كالجواب، وبعضهم في استخراج اللآلئ من البحر (وَآخَرِينَ) عطف على كل، كأنه جعل الشياطين قسمين عَمَلة ومَردة (مُقَرَّنِينَ): قرن بعضهم مع بعض (فِي الْأَصْفَادِ): في السلاسل (هَذَا): التسليط (عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ): فأعْطِ ما شئتَ لمن شئتَ (أَوْ أَمْسِكْ): أو احرم من شئتَ (بِغَيْرِ حِسَابٍ) من غير حرج عليك في الإعطاء والإمساك فهو حال من فاعل الأمر، وقيل

(41)

صلة للعطاء أى إنه عطاء غير متناهٍ، وعن عطاء معناه: امنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق وأمسك في وثاقك من شئت منهم، لا تَبِعَةَ عليك (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى): لقربة ورتبة في الآخرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) هو الجنة. * * * (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) * * *

(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) عطف بيان لعبدنا (إِذ نَادَى رَبَّهُ) بدل من عبدنا (أنِّي) أي: بأنِّي (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ): بتعب (وَعَذَابٍ): ألم، ابتلاه الله تعالى بجسده وماله وولده حتى لم يبق فيه مغرز إبرة سليمًا سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به غير أن زوجته تخدم الناس بالأجر، وتطعمه نحوًا من ثماني عشرة سنة، ورفضه القريب والبعيد حتى آل به الحال أن ألقي على مزبلة من البلدة هذه المدة، فلما طال واشتد الحال، تضرع إلى ربه تعالى، فقال: " مسني الشيطان " إلخ، فهذه حكاية لكلامه (1)، وأسند إلى الشيطان؛ لأنه سببه (ارْكُضْ): اضرب (بِرِجْلِكَ): الأرض وهذا حكاية لما أجيب بِهِ (هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ): أي فضربها فنبعت عين قيل له هذا مغتسل، أي: اغتسل، واشرب منه تزول منك داءك (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ

_ (1) لم يصح في ذلك شيء.

مَّعَهُمْ رَحْمَةً) أي: الرحمة (مِّنَّا): عليه (وَذِكْرَى): تذكرة (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) ليصبروا، وينتظروا الفرج، وقد مرَّ في سورة الأنبياء شرحه (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) حزمة صغيرة من الحشيش (فَاضْرِبْ بِهِ) أي: امرأتك (وَلَا تَحْنَثْ) روي أنها قطعت ذُوَيبتَها، وباعت بخبز، فأطعمته فلامها على ذلك، وحلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة ضربة، وقيل بغير ذلك من الأسباب (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ): أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ): مقبل بكليته على الله تعالى (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ

وَيَعْقوبَ) من قرأ عبدنا يكون وإسحاق، ويعقوب عطفًا على عبدنا (أُوْلِي الأَيْدِي): ذوي القوة في العبادة (وَالْأَبْصَارِ): في معرفة الله تعالى (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ): جعلنهم خالصين لنا (بِخَالِصَةٍ) بسبب خصلة خالصة (ذِكْرَى الدَّارِ) أى: ليس في قلوبهم همٌّ سوى الآخرة، لا يشوب بهمِّ الدنيا، وهو بدل من خالصة على قصد التفسير والبيان، أو تقديره هي ذكرى الدار، وقراءة إضافة خالصة تكون بيانية، وأما إضافة ذكرى فإضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: باء خالصة صلة لأخلصناهم بمعنى: وفقناهم لاكتسابها (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) جمع خَيْرٍ أو خيِّرٍ (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ) أي: كلهم (مِنَ الْأَخْيَارِ) وقد مر قصصهم في سورة الأنبياء (هَذا ذكْرٌ) أي: هذا الذي مر شرف لهم، أو هذا نوع من الذكر أي: من القرآن، ثم شرع في نوع آخر من الكلام، وهو بيان ما أُعدَّ لأمثالهم (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ): مرجع (جَنَّاتِ عَدْنٍ) عطف بيان (مفَتَّحَةً) حال من فاعل الظرف (لَهُمُ الأَبْوَابُ) مرفوع بأنه معمول مفتحة، وحرف التعريف عوض عن الضمير، أو تقديره الأبواب منها (مُتَّكِئِينَ فِيهَا) حال من ضمير لهم (يَدْعُونَ) إما حال أو استثناء (فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) من غير أزواجهن (أَتْرَابٌ): مساويات في السن (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ) أي:

لأجله، فإن الحساب سبب الوصول إلى الجزاء (إِنْ هَذَا لَرِزْقُنَا): الذي رزقناهم (مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ): انقطاع (هَذَا) أي: هذا كما ذكر أو الأمر هذا (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ) عطف بيان لشر مآب (يصْلَوْنَهَا): أي حال كونهم يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهَادُ): جهنم، شبه ما تحتهم من النار بمهاد يفترشه النائم (هَذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ): انتهى حره (وَغَسَّاقٌ) انتهى برده، أو هو عين تسيل من صديد أهل النار، وحميم خبر هذا وما بينهما اعتراض نحو: زيد -فافهم- رجل صالح، أو تقديره العذاب هذا، وفليذوقوه مترتب على تلك الجملة بمنزلة الجزاء لشرط محذوف، وحميم خبر محذوف أى: هو جهنم أو هذا منصوب بمضمر تفسيره ما بعده على طريقة ربك فكبر (وَآخَرُ) أى: عذاب آخر (مِن شَكْلِهِ) أي: من شكل ما ذكر من العذاب في الشدة (أَزوَاجٌ): أصناف يحتمل أن تكون صفة لآخر بتأويل كونه ضروبًا، وآخر إما عطف على حميم، أو تقديره: ولهم آخر (هَذَا فَوْجٌ) كلام خزنة النار للقادة حين يدخل بعدهم الأتباع (مُّقْتَحِمٌ): داخل في النار (مَعَكُمْ) ظرف لمقتحم، أو حال، والمعية تفيد المقارنة في الحكم لا في الزمان، فقالت القادة: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ): بالأتباع، والرحب السعة أي: ضاقت عليهم الأرض (إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ) لأنَّهُم داخلوها، وقيل: هذا حكاية لكلام بعض الطاغين مع بعض (قالُوا): الأتباع للقادة (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ) أي: العذاب (لَنَا): بإغوائكم إيانا (فَبِئْسَ الْقَرَارُ) أي: المقر جهنم (قَالُوا): الأتباع (رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا): مضاعفًا أي: ذا ضعف

(65)

(فِي النَّارِ وَقَالُوا) أي: الطاغون (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ) في الدنيا (مِنَ الْأَشْرَارِ) وهم فقراء المسلمين (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا) إما بكسر همزة اتخذنا، فصفة أخرى لـ (رجالاً) أو تقديره: أتخذناهم بحذف همزة الاستفهام، وإما بفتح همزته فيكون استفهامًا (أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ) وحاصله أن (أم) معادلة الهمزة أي: أي الأمرين واقع أئنا اتخذناهم سخريًّا، وهم في نفس الأمر معظمون أحقاء بالتعظيم، فلم يدخلوا النار أم هم أحقاء بما فعلنا بهم، ودخلوا النار، لكن زاغت أبصارنا عنهم فلا نراهم، أو قوله: (أم زاغت عنهم الأبصار) كناية عن تحقيرهم، أي: فعلنا بهم الاستسخار منهم، أم تحقيرهم في الدنيا على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم، ولذلك قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا، أو الهمزة لإنكار سخريتهم، وأم بمعنى بل، ففيه تسلية لأنفسهم بما لم يكن يعني هم في النار، لكن نحن لا نراهم أو معناه: بل زاغت أبصارنا، وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم، وإنهم على الحق المبين، أو معادلة لما لنا أن جعلنا اتخذناهم صفة أى: ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها (إِنَّ ذَلِكَ): ما ذكرنا عنهم (لَحَقٌّ): واقع بلا مرية (تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي: هو تخاصم، أو خبر بعد خبر. * * * (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ

الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) * * * (قُلْ): للمشركين (إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ): أنذركم عقاب الله تعالى (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ): الذي لا يقبل الشركة عطف على إنما أنا منذر (الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ): الغالب (الْغَفَّارُ): لمن أراد (قُلْ هُوَ) أي: القرآن، أو ما أنبأتكم به من رسالتي وتوحيد الله تعالى (نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) وعن بعض المراد من النبأ آدم (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ): مبيّنٌ لنبأ [عظيم]، أو حجة لنبوته، وإذ متعلق بعلم (إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أى: لم يوح إليَّ إلا لأني منذر مبين، كما تقول: فوضت الأمر إليك، لأنك عالم مبين، فما بعد إلا منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل أو معناه لم يوح إليَّ إلا أن أُنذر وأٌُبين ولم أؤمر إلا بالإنذار والتبليغ فعلى هذا ما بعد إلا قائم مقام الفاعل (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ) بدل من إذ يختصمون مبيِّنٌ له، والمقاولة بين

الملائكة وآدم وإبليس وهم الملأ الأعلى، ومقاولة الله بلسان ملك في شأن الاستخلاف مع الكل ومع إبليس في شأن السجود (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ): عدلت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي): فأحييته (فَقَعُوا لَهُ): خرّوا له (سَاجِدِينَ): تعظيمًا له وتكرمة (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ) أي: في علم الله أو صار (مِنَ الْكَافِرِينَ): بالاستكبار والاستنكار (قَالَ) الله تعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أوجدته بنفسي من غير واسطة (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) أي المانع مجرد التكبر أو إنك أعلى وأعظم، فلا يستحق سجودك، وقيل: أستكبرت بنفسك، فأبيت السجود أم كنت من القوم المتكبرين فتكبرت؟ (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أجاب باختيار الشق الثاني على التوجيه الأول (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ): لطيف (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ): كثيف (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا): من الجنة أو السماء (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ): مطرود (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي): أمهلني (إِلَى يَوْمِ يُبعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ): سلطانك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وقد مر مرارًا الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة، والأعراف وغيرهما (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي: ولا أقول إلا الحق (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ): من بني آدم (أَجْمَعِينَ) الحق الأول قرئ بالنصب بحذف حرف القسم أي: فبالحق، وبالرفع أي: فالحق قسمي فهو مقسم به على الوجهين، وجوابه لأملأن وما بينهما اعتراض، أو تقديره على النصب، فأحق الحق، أو أُلزم الحق، وعلى الرفع فالحق مني، أو أنا الحق (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ): على التبليغ (مِنْ أَجْرٍ): جُعْلٍ (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) في نظم القرآن، فإنه من عند الله تعالى لا من تلقاء نفسي حتى أتكلف في نظمه (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ): عظة من الله تعالى لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ): من حقية القرآن وصدقه (بَعْدَ حِينٍ) عند الموت أو بعده، أو عند ظهور الإسلام. * * *

سورة الزمر

سورة الزمر مكية إلا قوله: (قل يا عبادى) الآية وهي خمس أو اثنتان وسبعون آية وثماني ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ

إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لله أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ)، أي: هذا تنزيل الكتاب، (مِنَ اللهِ)، ظرف للتنزيل، أو خبر ثان، أو حال، أو تنزيل الكتاب مبتدأ، ومن الله خبره، (العَزِيزِ الحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ

الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، أي: متلبسًا به، (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، من الشرك الجلي، والخفي، (أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ): هو الذي يختص بالطاعة الخالصة ويستحقها، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ): وهم الكفرة، (مَا

نَعْبُدُهُمْ)، أي: قائلون ما نعبد أولياء، وهم غير الله تعالى، كالملائكة، والأصنام، (إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى)، اسم أقيم مقام المصدر، أي: تقريبًا، (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، أي: بين الذين اتخذوا، وبين مقابليهم، وهم الموحدون، وهو استئناف، (فِى مَا هُمْ فيهِ يَخْتَلِفُونَ): من أمر الدين، وجاز أن يكون خبر (والذين) (إن الله يحكم بينهم)، وقوله: " ما نعبدهم " بتقدير: قائلين، حال من فاعل اتخذوا، (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ): لا يرشد إلى الهداية من قصد الافتراء على الله

تعالى، وقلبه كافر بآياته، (لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)، كما زعم المشركون، (لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، أي: لو أراد لاختار الأفضل لا الأنقص، وهو الإناث، لكن لم يرد، فلا ولد له من الذكر والأنثى، أو معناه: لو أراد أن يتخذ ولدًا لاتخذ من المخلوقات الأفضل منها، كالبنين لا البنات كما زعمتم، لكن اللازم محال لاستحالة كون المخلوق من جنس الخالق لتنافي الوجوب، والإمكان بالذات، فكذا الملزوم وهو إرادة الاتخاذ فضلاً عن الاتخاذ، (سُبْحَانهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ): فإنه هو الواحد الفرد، الذي دانت له الأشياء فلا يماثله ولا يناسبه أحد، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) التكوير: اللف، وإذا غشى كل منهما مكان الآخر، فكأنما لف عليه كلف اللباس على اللابس، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى): مدة معينة عند الله تعالى، (أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ): الغالب، (الْغَفَّارُ)، فلا يعاجل بالعقوبة على من نسب إليه ما لا يليق به، (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ): آدم، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا): حواء عن الضلع الأسفل، وثم للتراخي الرتبي، فإن خلق حواء مقدم في الوجود على تشعيب الذرية من نفس آدم، (وَأَنزَلَ لَكُم): وقضى لكم فإن قضاياه توصف بالنزول من السماء، (مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، كما هو مسطور في سورة الأنعام، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ): حيوانًا من بعد عظام من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف، (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ): ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة، (ذَلِكُمُ)، مبتدأ، (اللهُ)، خبره، (رَبُّكُم)، بدل، (لَهُ الُملْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

فَأَنَّى تُصْرَفُونَ): يُعدَل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره، (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)، مع أنه كان بإرادته فلا يجري في ملكه إلا ما يشاء، ويقابل الرضاء بالسخط، والإرادة بالكراهة، أو المراد من العباد المخلصون كما في قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الإسراء: 65] وحينئذ معنى الرضاء الإرادة، (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ): يرضى الشكر، (لَكُمْ)، فإنه سبب فوزكم، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ): لا تحمل نفس وازرة، (وِزْرَ أُخْرَى)، أي: وزر نفس أخرى، (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بالمجازاة، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): فلا يخفى عليه شيء، (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا): راجعًا، (إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ): أعطاه وأملكه، (نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ): نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ما بمعنى من، وفي يدعو

(10)

تضمين معنى التطوع، أي: نسي الكاشف بضر المضطرين الذي كان يتضرع إليه، (مِن قَبْلُ): من قبل النعمة، (وَجَعَلَ لله أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ)، اللام لام العاقبة، أي: ليفيد وينتج الإضلال والضلال، (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا)، أمر تهديد، (إِنَّكَ مِنْ أَصْحَاب النَّارِ)، استئناف على سبيل التعليل، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ): قائم بالطاعات، (آناءَ) ساعات (اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)، حالان من ضمير قانت، (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ)، جملة حالية، (وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)، أم متصلة تقديره أهذا الذي نسي خير أم من هو قانت؟! أو منقطعة، أي: بل أمن هو قانت كغيره، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُون)، وهم القانتون، وفي هذه أدلة واضحة على أن غير العامل كأنه ليس بعالم، (وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون)، وقيل هذا على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون، (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ): يتعظ بوعظ الله تعالى، (أُولُو الْأَلْبَابِ). * * * (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ

دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) * * * (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، عن معاصيه، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا): بالطاعة، (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا)، ظرف لأحسنوا، (حَسَنَةٌ)، في الآخرة، وهي الجنة، (وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ)، فهاجروا إلى أرض ما دعيتم فيها إلى المعصية، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُون): على بلاء الله تعالى، ومفارقة المستلذات الداعية إلى المعاصي، (أَجْرَهُمْ

بِغَيْرِ حِسَابٍ)، لا يوزن لهم، ولا يكال إنما يغرف لهم غرفًا، قيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب، وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم، وصبروا حين اشتد بهم البلاء، (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ)، أي: بأن أعبد، (مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)، من هذه الأمة، واللام زائدة، كما تقول: أمرت لأن أفعل، وقيل: معناه أمرت بذلك لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدارين (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي)، مع أني نبي مقرب، (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ): لعظمة ما فيه، نزلت حين دعى إلى دين آبائه، (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)، أمر توبيخ، (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، مع أنها رأس مالهم، (وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): الذين هم في الجنة لهم من حور وغلمان، وغيرهما فإن لكل منزلاً وأهلاً في الجنة، فمن عمل بالمعاصي دخل النار، وصار المنزل والأهل لغيره أو خسروا أهليهم الذين لهم في الدنيا، لأنَّهُم إن كانوا من أهل النار، فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابًا أبديًا، (أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ): أطباق من النار هي ظلل الآخرين، (ذلِكَ): العذاب، (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)، ولا تتعرضوا لمعصيتي، (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ): الأوثان، نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضى الله تعالى عنهم، (أَن يَعبدُوهَا)، بدل اشتمال، (وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ): إلى عبادته، (لَهُمُ البُشْرَى)، في الدنيا والآخرة، (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ)، أي: القرآن وغيره، (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)، أي: القرآن، أو المراد من يسمع حديثًا فيه محاسن

ومساوئ، فيحدث بأحسن ما سمع، ويكف عما سواه، أو يستمعون القول من العزائم، والرخص فيتبعون العزائم، وضع الظاهر موضع المضمر، فإن الظاهر أن يقال: فبشرهم لأن يصفهم بهذه الصفة أيضًا، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ): العقول السليمة، (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)، الفاء عطف على محذوف تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، والهمزة في الجزاء كررت لتوكيد معنى الإنكار، أي: لست بقادر على إنقاذ من أراد الله تعالى شقاوته، (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ): محكمة عالية، كالأسافل بخلاف الدنيا فإن أسافلها أحكم من أعاليها، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا)، أي: الغرف، (الأَنْهَارُ وَعْدَ اللهِ)، مصدر مؤكد لنفسه، (لاَ يُخْلِفُ اللهُ المِيعَادَ)، أي: الوعد، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ): نظمه، (يَنَابِيعَ): عيونًا، ومجاري، نصب على الظرف، (فِي الأَرْضِ)، صفة ينابيع، (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ): بالماء، (زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ): أصفر،

(22)

وأحمر وأخضر، أو أنواعه من بر وشعير وحمص، (ثُمَّ يَهِيجُ): يتم جفافه، (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا): خشبة مسودة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى): لعظة، (لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فيعرف أنه مثل الحياة الدنيا، ويستدل به على كمال حكمته وقدرته. * * * (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) * * * (أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ): وسَّعه لقبول الحق، (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ): يهتدي به إلى الحق، وخبره محذوف، أي: كمن أقسى الله قلبه، ويدل عليه قوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ)، أي: غلظ وجفا عن قبول ذكره،

كما تقول: أتخمت من طعام، وعن طعام أكلت، (أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، أي: القرآن، (كتَابًا)، بدل أو حال، (متَشَابِهًا): يشبه بعضه بعضًا في الفصاحة، أو صحة المعنى من غير مخالفة، (مَثَانِيَ) جمع مثني مفعل، من التثنية بمعنى الإعادة، والتكرير، فإن قصصه وأحكامه ومواعظه ووعده ووعيده مكرر معاد صفة لـ كتابًا، وهو في الحقيقة صفة ما يتضمنه الكتاب من السور، والآيات، وعن بعضهم: إن سياق الكلام إذا كان في معنى واحد يناسب بعضه بعضًا فهو

المتشابه، وإن كان يذكر الشيء وضده كذكر المؤمنين، ثم الكافرين، والجنة، ثم النار، كقوله تعالى: " إن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم " [الانفطار 13، 14] فهو من المثاني، (تَقْشَعِرُّ): تضطرب وتشمئز، (منه): من القرآن، لأجل خشية الله، (جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، وفي الحديث: " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالي، تحاتت منه ذنوبه كما يتحات عن الشجر اليابسة ورقها " (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ)، لما يرجون من رحمته، ولطفه، فهم بين الخوف والرجاء، ولتضمين معنى السكون عداه بإلى، (ذلِكَ)، أي: الكتاب، أو الخوف والرجاء، (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ): شدته، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، ظرف ليتقي، وخبره محذوف، أي: كمن يأتى آمنًا يوم القيامة، والإنسان إذا لقى مخوفًا استقبله بيده، ويقي بها وجهه الذي هو أعز أعضائه، والكافر الغلول لا يتهيَّأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، (وَقِيلَ)، حال بتقدير قد، (لِلظَّالِمِينَ)، أي: لهم، (ذُوقُوا): وبال، (مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ): القرون الماضية، (فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيثُ لاَ يَشْعُرُونَ): من الجهة التي هم آمنون منها، أي: على حين غفلة، (فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ): الذل، (فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ): المعد لهم، (أَكبَرُ)، من عذاب الدنيا، (لَو كَانُوا يَعلَمُون)، لو كانوا من أهل العلم لعلموا ذلك، (وَلَقَدْ

ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)، محتاج إليه في الدين، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا)، حال موطئة من هذا، ثم وصفه بما هو المقصود بالحالية، (عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ): اختلال بوجه من الوجوه، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، علة أخرى مترتبة على الأولى، (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا)، للمشرك والمخلص، (رَجُلًا)، بدل من

(32)

مثلاً، (فِيهِ شُرَكَاءُ)، مبتدأ وخبر، (مُتَشَاكِسُونَ): متنازعون، صفة لشركاء، والجملة صفة رجلاً، أي: مثل المشرك كعبد يتشارك فيه جمع، يختلف كل منهم في أنه عبد له، فيتداولونه في مهامهم، فهو متحير لا يدري أيهم يرضي، وعلى أيهم يعتمد إذا سنح سانح، (وَرَجُلاً سَلَمًا): ذا خلوص، (لرَجُلٍ): واحد، يعرف أن له سيدًا واحدًا يخدمه خالصة، ويتكل عليه في حاله وماله، (هَلْ يَسْتَوِيَان)، هذان الرجلان، (مَثَلاً)، تمييز، أي: صفة وحالاً، (الحَمْدُ لله): لا حمد لغيره، فإنه هو المنعم وحده، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فيشركون به غيره، (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، أي: أنتم في عداد الموتى، فإن ما هو كائن، فكأنه قد كان، (ثُمَّ إِنَّكُمْ)، فيه تغليب المخاطب، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، أي: إنك وإياهم تختصمون، فتحتج أنت عليهم بما لا شبهة فيه، ويعتذرون بما لا طائل تحته، وأكثر السلف حمل ذلك على اختصام الجميع حتى الروح والجسد. * * * (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ

وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) * * * (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ): بإضافة الولد، والشريك إليه، (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ): بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، (إِذْ جَاءَهُ)، من غير تفكر، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى): منزلاً، (لِلْكَافِرِينَ)، واللام يحتمل العهد والجنس، (وَالذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)، أي: الفريق الذي جاء به إلخ، فيدخل فيه الرسول وأتباعه، ويكون المعطوف والمعطوف عليه صلة واحدة على التوزيع، فينصرف المعطوف عليه إلى الرسول، والمعطوف إلى الصحابة، أو إلى المؤمنين أجمعين، أو المراد من الذي جاء بالصدق، وصدق به الرسل عليهم السلام، (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا): يسترها عليهم بالمغفرة، يُعْلم من تخصيص الأسوأ أن غير الأسوأ أولى

بالتكفير، وقيل: بمعنى السيئ، (وَيَجْزِيَهُمْ): يعطيهم، (أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فيعد لهم محاسن أعمالهم، بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه، (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، لما خوفت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت، وفي بعض القراءات " عباده "، فالأولى أن يراد من عبده الجنس، (وَيُخَوِّفُونَكَ)، أي: قريش، (بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ): بأصنامهم أي: من دون الله، يقولون: إنك لتعيبها وستصيبك بسوء، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ)، فيخوف حبيب الله بحجر لا يضر ولا ينفع، (فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ): غالب منيع، (ذِي انْتِقَامٍ)، من أعدائه، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)، لا سبيل لإنكارهم تفرد خالقيته، (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) عني، وهذا بيان أنها لا تنفع ولا تضر فلا خوف منها، (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ): كافي في إصابة النفع ودفع البلاء، إذ قامت الحجة على تفرده فيهما، (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ): على طريقتكم، اسم للمكان استعير للحال، (إِنِّي عَامِلٌ)، أي: على منهجي، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأتِيهِ عَذَابٌ)، معمول تعلمون، (يُخْزِيهِ)، صفة عذاب، أي في الدنيا كما أخزاهم يوم بدر، (وَيَحِلُّ)، عطف على يأتيه، (عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ): دائم في الآخرة، (إِنَّا

(42)

أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ): لأجل نفعهم، (بِالْحَقِّ): متلبسًا به، (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ): يعود نفعه إلى نفسه، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا): وبال الضلال راجع إليها، (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ): فنجبرهم على الهداية، إنما أنت نذير. * * * (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) * * *

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ): يستوفيها ويقبضها، (حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي)، أي: ويستوفي الأنفس التي، (لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)، فتجتمع النفوس كلهن في الملأ الأعلى كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن مندة، وغيره وفي الصحيحين ما يدل على ذلك، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ): فلا يردها إلى الجسد، (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى)، أي: النائمة إلى جسدها، (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): وهو وقت

الموت، (إنَّ في ذَلكَ)، أي: التوفي والإمساك والإرسال، (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فى عجائب قدرته، (أَمِ اتَّخَذُوا): بل اتخذ قريش، (مِنْ دُونِ اللهِ): من دون إذنه، (شُفَعَاءَ): عند الله تعالى بزعمهم الفاسد، (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا)، أي: قل أيشفعون؟! ولو كانوا إلخ فالواو للحال، والعامل يشفعون المقدر بعد الهمزة، (وَلاَ يَعْقِلُونَ): فإنهن جمادات لا تقدر، ولا تعلم، (قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا): هو مالكها، لا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه، ولا تنفع إلا لمن أذن له، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فيحكم بالعدل، (وَإِذَا ذُكرَ اللهُ وَحْدَهُ)، أى: قيل: لا إله إلا الله، (اشْمَأَزَّتْ): انقبضت ونفرت، (قُلُوبُ الذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَة وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)، أي: الأوثان، (إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، سواء ذكر اللهَ تعالى معهم أو لم يذكر، وعن مجاهد ومقاتل، وذلك حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم فألقى الشيطان في أمنيته: تلك الغرانيق العلى، ففرح الكفار كما مر ذكره في سورة الحج (1)، واعلم أن من قال العامل في إذا الشرطية مضمون الجواب فلابد أن يقول: العامل في إذا الثانية الشرطية، وإذا المفاجأة معنى المفاجأة المتضمنة هي إياه، إذ لا يعمل الفعل الذي بعده فيما قبله، أي: فاجأوا في وقت الذكر، وقت الاستبشار، (قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ

_ (1) رواية الغرانيق باطلة من جميع الوجوه.

وَالشَّهَادَةِ)، أي: التجئ إلى الله تعالى لما تحيرت في كفرهم، (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا): وهم المشركون، (مَا فِي الأَرْضِ)، اسم أنَّ، (جَمِيعًا وَمثْلَة مَعَهُ لافتَدَوا بِهِ)، أي: بمجموع ما في الأرض، والمثل، (مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا): ظهر، (لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ): ما لم يخطر ببالهم من الوبال والنكال، (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا)، أراد بالسيئات أنواع العذاب، كأنه قيل: سيئات سيئاتهم، نحو: جزاء سيئة سيئة، أو معناه ظهر لهم سيئات أعمالهم التي كانت خافية عليهم، حين تعرض صحائفهم، كما قال الله تعالى: (أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6]، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: جزاؤه، (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ)، أي: جنسه باعتبار الغالب، (ضُرٌّ دَعَانَا)، عطف على قوله: (وإذا ذكر الله وحده) بالفاء ليدل على التسبب، والدلالة على تعكيس الكافر الأمر، وجعله ما هو أبعد الأشياء عن الالتجاء وسيلة إليه، كأنه قال: هم مشمئزون عند ذكر الله تعالى وحده، ومستبشرون بذكر آلهتهم، فإذا مسَّ أحدهم مصيبة دعا من اشمئزَّ من ذكره، وترك من استبشر به، وما بين المعطوفين أعني، قوله: " قل اللهم " إلى قوله تعالى: " يستهزءون " اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم، (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ): أعطناه، (نِعْمَةً مِنَّا): تفضلاً، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ)، أى: شيئًا من النعمة، (عَلَى عِلْمٍ)، أي: على علم مني بأني سأعطاه لاستحقاقي، أو على علم من الله تعالى باستحقاقي، ولولا أني عند الله حقيق ما خولني هذا، فهو حال من أحد معمولي أوتيته، أو خبر، إن جعلت ما موصولة لا كافة، أو معناه أوتيته على خير وفضل عندي، كقولك: أنعمت عليك على كمالك، أي: هو السبب، (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ): اختبار، أيشكر، أم يكفر؟ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، أنها امتحان، (قَدْ قَالَهَا)، أى: هذه المقالة، وهي " إنما أوتيته على علم "، (الَّذِينَ مِن قَبْلهِمْ): الأمم السالفة، كقارون، قال: (إنما أوتيته على علم عندي) [القصص: 78]، (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ):

(53)

عن عذاب الله تعالى، (مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، أي: من أموال الدنيا، أو من أعمالهم وعقائدهم، (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ)، أي: وبال، (مَا كَسَبُوا)، أو جزاء سيئات ما كسبوا، (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ)، مشركي قريش، ومن للبيان، (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ): بفائتين، (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): ويقتر على من يشاء، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، بأن الكل من الله تعالى. * * * (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) * * * ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ): بارتكاب المعاصي، أي معصية كانت، (لَا تَقْنَطُوا): لا تيأسوا، (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)،

يعني: ليس ذنب لا يمكن أن تتعلق به مغفرة الله تعالى، لكن جرت عادة الله تعالى أنه لا يغفر الشرك من غير توبة، أما سائر المعاصي فيغفر مع التوبة بتًا وبدونها إن أراد، وما نقل من أسباب نزول تلك الآية لا يدل على خلاف ما فسرناها به مع أن العبرة

بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كيف وقد وردت بيانًا لسعة رحمته تعالى، مع تعليل النهي عن القنوط بأنه يغفر الذنوب بصيغة الجمع مع التأكيد، نزلت في أناس من المشركين حين قالوا: إن ما تدعونا إليه يا محمد لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، أو نزلت في وحشي قاتل حمزة رضى الله عنه، أو في جماعة من المرتدين، وعن بعض السلف: إن الله تعالى لما سلط إبليس على آدم عليه السلام، شكى آدم إلى ربه فقال الله تعالى: " لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء، فقال: يا رب زدني، فقال: الحسنة بعشر، والسيئة بمثلها، أو أمحوها، قال: زدني، قال: باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد، قال: يا رب زدني، فقال: " يا عبادى الذين أسرفوا " الآية، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنيبُوا): ارجعوا، (إِلَى رَبِّكُمْ)، تحريض بالتوبة فإنها جاعلة للمعاصي كالعدم، موثوق معها بالنجاة، (وَأَسْلِمُوا لَهُ): أطيعوا، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)، الآية نزلت في شأن الكفار، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)، أي: القرآن فإنه أحسن من جميع الكتب السماوية، قيل: الأحسن العزائم دون الرخص، أي: اتبعوا ما هو أنجى، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً)، حال أو مصدر، (وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، بمجيئه فتداركون، أو فيكون أشد، (أَنْ تَقُولَ)، أي: أنذركم، وآمركم، وأرشدكم باتباع الأحسن، كراهة أن تقول، (نَفْسٌ)، أي: بعض النفوس، وهي النفس الكافرة، أو تقول هي عام لأنها في سياق النفي معنى لأن، معناه لئلا تقول نفس، (يَا حَسْرَتَى)، أي: أقبلي

فهذا أوانك، (عَلَى مَا فَرَّطْتُ): قصرت، (فِي جَنْبِ اللهِ): جانبه، أي: حقه، أي: طاعته، وقيل في قربه، (وَإِنْ كُنْتُ)، إن هي المخففة، والواو للحال، (لَمِنَ السَّاخِرِينَ): المستهزئين بدينه، (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي): علمني الخير، وأرشدني، (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً): رجعة إلى الدنيا، ولو للتمني، َ (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، في العقائد، والأعمال، وأو للدلالة على أنه لا يخلو من هذه الأقوال، ولا يبعد أن يقال: أن تقول بدل اشتمال من أن يأتيكم العذاب، أي: من قبل أن تقول نفس إلخ، وقد رأيته منقولاً عن بعض أئمة النحاة، (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، رد لما تضمنه قوله: " لو أن الله هداني "، من معنى النفي، وفصل بين الجواب وهو يلي، وبين ما هو جواب له وهو لو أن الله هداني، لئلا ينتثر النظم الحاصل بالجمع بين القرائن الثلاث بتخلل شيء بينها، ولئلا يقدم في الكلام ما هو مؤخر في الوجود، فإن تمني الرجعة آخر الأمر، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ)، كإضافة الولد والشريك إليه تعالى، (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)، جملة تفسيرية إيضاحًا للمقصود مما وقعت الرؤية عليه، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى): مقام، (لِلْمُتَكَبِّرِينَ)، عن طاعة الله تعالى، (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ)، أي: بسبب فلاحهم وسعادتهم، أو متلبسين بفلاحهم، (لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، يوم القيامة عند الفزع الأكبر، جملة مستأنفة على الوجه الأول، ومبينة للفلاح على الثاني، (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ): أي: كل ما هو موجود في زمان، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، فهو

(64)

المتصرف فيه، (لَهُ مَقَالِيدُ): مفاتيح، وأصل الكلمة فارسية، أي: أو خزائن، (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، يعني: أزِمَّة جميع الأمور بيده، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ): وجحدوا وحدته وتفرد تصرفه، (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). * * * (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) * * * (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)، نصب غير بـ أعبد، وتعلق أعبد بـ تَأْمُرُونِّي على وجه المفعولية، أي أن أعبد، فحذف أن ورفع المضارع، لكن هذا عند من يجوز تقديم معمول ما بعد أن، عند حذف سيما، إذا زال أثره الذي هو النصب، وأما عند من لم يجوز التقديم أو لم يجوز حذف، أن، بحيث لا يبقى أثره، فنصبه إما بما يتضمنه مجموع تَأْمُرُونِّي أن أعبد من معنى الفعل، أي: أفغير الله تعبدونني، وتجعلونني عابدًا بمعنى تقولون لي: اعبد، وإما بأعبد، لكن " تأمروني " اعتراض بين المعمول، والعامل غير متعلق بـ أعبد ليحتاج إلى تقدير إن نزلت حين قالوا: استلم بعض آلهتنا فنعبد إلهك، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ): من الرسل، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ)، إفراد الخطاب باعتبار كل واحد، أَي: أوحى إليك وإلى كل واحد منهم،

لئن أشركت، (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المراد: خسران الآخرة بشرط الموت على الردة، أي: لئن أشركت، وبقيت على الشرك، أو المراد: خسران حبوط العمل، وهو حاصل بكل حال، أو الحكم مختص بالأنيياء، فإن شركهم لا شك أقبح، وهذا خطاب مع الأنبياء، والمراد منه غيرهم، أو كلام على سبيل الفرض، وفائدته تهييج الرسل وإقناط الكفرة، وأدب للأنبياء، وتهديد للأمة، (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ)، يعني: لا تعبد ما أمروك، بل اعبده وحده، فهو ردٌّ لما أمروه به، ونصبه بفعل يفسره ما بعده عند من لم يجوز تقديم ما في حيز الفاء، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، لإنعامه عليك، (وَمَا قَدَرُوا اللهَ)، أي: عظمته في أنفسهم، (حَقَّ قَدْرِهِ): حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكًا، (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، هذا إخبار عن عظمته، وسهولة

الأفعال العظام في جنب قدرته، والقبضة المرة من القبض، مصدر بمعنى المقبوضة، أو تقديره: ذات قبضته، وجميعًا حال من المستتر في قبضته إذا قلنا: إنَّهَا بمعنى مقبوضته، أو من العامل المحذوف على طريق الحال المؤكدة، أي: والأرض أعنيها، أو أثبتها مجموعة ذات قبضته، وهو تأكيد لشمول الإفراد، أي الأرضون السبع، أو لشمول الأجزاء، ونحن على طريقة السلف لا نأول اليد، والقبضة، والأصبع، ونؤمن بها، ونكل علمها إلى الله سبحانه وتعالى وهي أقرب من السلامة، وأبعد من الملامة، (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ)، من الكل، الذي هو ضد النشر، (بِيَمِينِهِ)، متعلق بمطويات، وفي الحديث (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ما أبعد وأعلا من هذه قدرته، عما ينسب إليه من الشركاء، أو عن إشراكهم، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): هي النفخة الثانية، إذ النفخة الأولى ريح باردة من قبل الشام، فيموت كل من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويبقى شرار الناس يعبدون الأوثان في رغد من العيش، ثم ينفخ فى الصور، (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ)

المراد: بعض الملائكة المقربين فإنهم لا يصعقون عند هذه النفخة، بل يقبض الله تعالى أرواحهم بعدها، حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، فلا ييقى إلا الله تعالى، فيقول: لمن الملك اليوم؟، ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه بنفسه، فيقول: لله الواحد القهار، وقد ورد في حديث أن المراد منهم الشهداء، فإنهم متقلدون أسيافهم حول عرشه، وقد مر فى سورة النمل، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ): في الصور، (أُخْرَى)، مرفوع بأنه فاعل نفخ، كما يقال: جاءتني أخرى، أو منصوب بمصدر أي: نفخة أخرى، ونفخ مسند إلى الجار والمجرور، (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ): قائمون من مهلكهم، (يَنْظُرُونَ)، إلى الجوانب كما كانوا قبل ذلك، أو ينتظرون أمر الله تعالى فيهم، (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ): أضاءت أرض القيامة، (بِنُورِ رَبِّهَا)، الذي خلقها من غير وساطة جرم، وذلك حين تجليه سبحانه للخلق لفصل القضاء، أو معناه أضاءت بما يقام فيها من العدل، كقولك: أضاءت الدنيا بقسطك، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ): كتاب الأعمال للجزاء، واكتفى باسم الجنس، (وَجِيءَ بالنبيِّينَ)، يشهدون على الأمم، أنَّهم بلغوهم رسالة الله تعالى، (وَالشُّهَدَاءِ)، من الملائكَة، الحفظة على أعمال العباد، أو الذين يشهدون للرسل بالتبليغ، وهم أمة محمد عليه الصلاة والسلام، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ): بالعدل، ولكل من الطرفين صلاحية أن يقوم مقام الفاعل، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ): فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ)، أي: جزآءه، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)، فلا يفوته شيء مما عملوا. * * *

(71)

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) * * * (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ)، كما يفعل بالأسارى يساقون إلى حبس وقتل، (زُمَرًا): أفواجًا، بعضها على إثر بعض، (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا): السبعة التي كانت مغلقة قبل ذلك، (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا)، توبيخًا وتنكيلاً، (أَلَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ منكُمْ): من جنسكم، (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)، أي: وقتكم هذا، أو هو وقت دخولهم النار، َ (قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ): وجبت، (كَلِمَةُ الْعَذَابِ)، في قوله: " لأملأن جهنم من الجنة والناس " [هود: 119]، أو المراد حَكَمَ اللهُ تعالى بشقاوتهم، (عَلَى الْكَافِرِينَ)، من وضع المظهر بدل المضمر، أي: علينا، (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ)، حال مقدرة، (فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ): جهنم، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)، أي: عن الكفر به، يشعر به مقابلته بالذين كفروا، وذلك الإسراع بهم إلى النعيم، والمراد سوق مراكبهم، (إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا): فوجًا بعد فوج على تفاوت رتبتهم في

الشرف، (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا): الثمانية، قيل: الواو للحال، أي: وقد فتحت، فهو يدل على أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، بخلاف أبواب جهنم، (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ): طاب لكم المقام، أو طهرتم من خبث الخطايا، أو كنتم طيبين في الدنيا، (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)، أي: مقدرين الخلود، وحذف جواب إذا، إشارة إلى أنه شيء لا يحيط به الوصف، كأنه قال: إذا جاءوها، وكذا وكذا سعدوا وفازوا وفرحوا، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ): بالثواب، (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ)، أي أرض الجنة، نتصرف فيها تصرف الوارث لميراثه، فإن ملكية الميراث أتم، (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ): ننزل حيث نريد، وقد أغنى الله تعالى كلا منهم عن منازل غيرهم، (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ): الجنة، (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ): محيطين، وهو حال؛ لأن ترى من رؤية البصر، (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)، قيل: مزيدة، وقيل متعلق بـ ترى، وقيل لابتداء الغاية، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، أي: متلبسين بحمده تسبيح تلذذ لا تعبد، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ): بين الخلائق، (بِالْحَقِّ): بالعدل، (وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ): على عدله، القائل الملائكة، أو المؤمنون وأما إذا كان القائل بالحمد حينئذ المؤمنين، والكافرين، ولهذا لم يسند إلى قائل، فحمد الكافر لمعاينة عدله، كما ترى ظالِمًا استوفى عادلٌ منه حق جنايته، يأخذ في مدح العادل، التكرار من المؤمنين، فالحمد الأول: على صدق الوعد، وإيراث الجنة، والثاني: على القضاء بالحق. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة المؤمن

سورة المؤمن مكية وآياتها خمس وثمانونَ آية وتسع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) * * * (حم) الكلام على الحروف المقطعة قد تقدم، وقيل: حم اسمٌ من أسماء الله تعالى

وقيل معناه: قُضي ما هو كائن فيكون من حُم بالضّم وتشديد الميم (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ) مبتدأ وخبر، (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)، عطف هذه الصفة من بين الصفات يدل على زيادة ارتباط وجمعية أو الواو دال على نوع مغايرة وليست في الموصوف، فيعتبر في المتعلق أي: غافر الذنب لمن شاء وقابل التوب لمن تاب (شَدِيدِ الْعِقَابِ) هذه الإضافة لفظية ألبتَّة؛ لأنها من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها؛ فالأولى أن نقول إن الصفات كلها أبدال ليندفع خلل تخلل بدل بين النعوت فيلزم أن البعض من الأوصاف مقصود والبعض غير مقصود والمتبوع مقصود غير مقصود أو هو أيضًا نعت والأصل الشديد العقاب فحذف اللام للازدواج (ذِي الطَّوْلِ): ذي السعة والغناء، أو ذي النعم والفواضل (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، فيجازى كلًّا بعمله، (مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ اللهَ): بالباطل من الطعن فيها والقصد إلى إطفاء نورها (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ): تصرفهم في البلاد للتجارات وسلامتهم وربحهم، فإنها لا تدل على حسن عاقبتهم، بل عاقبتهم كعواقب كفار الأمم السوالف، ثم بين حالهم فقال: (كَذبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ): الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب، (مِن بَعْدِهِمْ): كعاد وثمود، (وَهَمَّتْ كُل أُمَّةٍ): من هؤلاء (بِرَسولِهِمْ لِيَأخُدوهُ):

ليأسروه فيقتلوه أو يعذبوه، (وَجَادلوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا): ليزيلوا (بِهِ الْحَقَّ فأَخَدتُهُمْ): أخذ إهلاك جزاء لهمِّهم وفعلهم (فَكَيْفَ كَان عقَابِ)، هذا الاستفهام بكيف حمل على الإقرار وفيه تعجيب للسامعين (وَكَذَلِكَ) أي: كما وجب إهلاك الأمم (حَقَّتْ) وجبت (كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي: كلمته بالعذاب، (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا): من قومك (أَنَّهُمْ) أي: لأنَّهُم، (أَصْحَابُ النَّارِ): أو أنَّهم أصحاب النار بدل من كلمة ربك وحينئذ معناه كما وجب عذابهم في الدنيا بالاستئصال وجب عذابهم في الآخرة بالنار، فالمراد من الذين كفروا الأمم السالفة (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وَمَنْ حَوْلَهُ): من الملائكة المقربين الذين هم الكروبيرن (يُسَبِّحُونَ) متلبسين

(10)

(بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)، فائدة إثبات الإيمان لهم إظهار فضل الإيمان والترغيب فيه، كإثبات الصلاح والصدق للأنبياء (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، لما بينهم من المناسبة بالإيمان، (رَبَّنَا) أي: يقولون ربنا، (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) أصله وسعت رحمتك كل شيء، فنصب الفاعل بالتمييز وأسند الفعل إلى صاحب الرحمة للمبالغة، كأن ذاته رحمةٌ واسعة كلَّ شيء (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) أي: لمن علمت منه التوبة (وَاتَّبَعُوا سَبيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ): إياها، (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائهِمْ)، عطف على مفعول أدخل (وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي: أدخلهم وهؤلاء، وساو بينهم في المنزلة، لتُتم سرورهم وتُقر أعينهم. عن سعيد بن جبير إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أقاربه أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول: إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا هذه الآية وهذا معنى قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان) الآية [الطور: 21] (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ): الغالب القادر على كل شيء، (الْحَكِيمُ): فى جميع أفعالك (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ) أي: العقوبات أو وبال السيئات، وهو تعميم بعد تخصيص (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ) أي: تقه (يَوْمَئِذٍ): يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ)، وجاز أن يراد من السيئات في الموضعين المعاصي، فيكون معناه ومن تقه في الدنيا عن المعاصي، فقد رحمته يوم القيامة (وَذَلِكَ): الرحمة والوقاية، (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). * * * (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا

اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) * * * (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوَا يُنَادَوْنَ): في القيامة ويقال لهم (لَمَقْتُ اللهِ): إياكم، (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) أي: لمقت الله تعالى أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فأعرضوا أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب في القيامة، فإنهم أبغضوا أنفسهم ومقتوها غاية المقت عند غمرات النيران لسبب ما اكتسبوا من الآثام، الموجبة للعذاب المخلد، ثم من يجوز الفصل في الظرف لسعته بأجنبي وهو الخبر بين المصدر ومعموله يجوز أن يكون إذ تدعون ظرفًا للمقت

الأول، ومن لم يجوز فعنده أنه منصوب بمقدر، هو اذكروا، أو مصدر آخر أي: مقته إياكم إذ تدعون، وقيل متعلق بمقتكم، أو أكبر على سبيل العلية والسببية، ومعناه بغض الله تعالى إياكم أكبر من بغض بعضكم بعضًا، لأنكم كنتم تدعون إلى الإيمان في الدنيا فكنتم تكفرون (قَالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي: إماتتين وإحياءتين وذلك لأنَّهُم في أرحام أمهاتهم نطف، لا حياة فيهم، فأحيوا في الدنيا ثم أميتوا عند آجالهم ثم أحيوا للبعث وهذا هو الصحيح الذي عليه ابن عباس وابن مسعود وكثير من السلف رضي الله عنهم وهذا إقرار منهم بالبعث، والقدرة التامة التي أنكروها في الدنيا، (فَاعْتَرَفْنَا بذُنوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ): من النار، (مِنْ سَبِيلٍ) فنسلكه فأجيبوا بقوله: (ذَلِكُمْ) أي: ما أنتم فيه من العذاب، (بِأنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) أى: منفردًا بالذكر (كَفَرتمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا): بالإشراك (فَالْحُكْمُ لله): حيث حكم بالعذاب السرمد عليكم (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ): من أن يشرك به (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) الدالة على توحيده وكمال قدرته، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ

رِزْقًا): أسباب رزق أي: المطر، (وَمَا يَتَذَكَّرُ): بالآيات، (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ): يرجع إلى الله تعالى، فإن المنكر المعاند لا ينظر فيما ينافي مقصوده (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): أخلصوا له العبادة (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ): إخلاصكم (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) كناية عن علو شأنه، أو درجات الجنة للمؤمنين، خبر ثانٍ لهو أو خبر لمحذوف (ذُو الْعَرْشِ): مالك أصل العالم الجسماني ومدبره (يُلْقِي الرُّوحَ)، خبر رابع، والروح الوحي فإنه محيي القلوب من موت الكفر أو المراد جبريل (مِنْ أَمْرِهِ): من قضائه ومن ابتدائية متعلقة بـ يلقى أو حال من الروح " قل الروح من أمر ربي " [الإسراء: 85] (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فيجعله نبيًا (لِيُنْذِرَ): الضمير لمن (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ): يوم القيامة يلتقي فيه الخالق والمخلوق، وأهل السماء والأرض، والظالم والمظلوم، والعباد وما عملوا من خير وشر، (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ): ظاهرون لا يسترهم شيء بدل من يوم التلاق الذي هو مفعول به، ويوم مضاف إلى جملة " هم بارزون " (لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعمالهم وأحوالهم وذواتهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم حين إفناء الخلق (لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، حكاية لما يجاب به، لا أحد يجيبه فيجيب نفسه، وقيل: الجواب للعباد كلهم، والسؤال عنهم (الْيَوْمَ تُجْزَى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ): يجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ)، فإنه سبحانه عادل متفضل حَرَّم الظلم من فضله على نفسه (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)،

لأنه لا يشغله حساب أحد عن حساب آخر، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ): القيامة الآزفة القريبة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ): من الخوف زالت عن مقارها فلا هي تعود ولا تخرج فيموتوا أو يستريحوا (كَاظِمِينَ): ممتلئين كربا، أو ساكتين والكظوم السكوت وتعريف القلوب والحناجر عوض أي: قلوبهم لدى حناجرهم، فـ " كاظمين " حال من المضاف إليه في حناجرهم، والعامل ما في الظرف من معنى الفعل أو من الضمير في " لدى " الراجع إلى القلوب (مَا لِلظَّالِمِينَ): الكافرين (مِنْ حَمِيمٍ): محب مشفق (وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ): فيشفع ويكون للشفاعة فائدة، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أى: خيانتها كلحظة المرأة الحسناء إذا غفل الناس وغمزها، أو الخائنة صفة للنظرة (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) أي ما تخفيه، وجملة يعلم خائنة الأعين مستأنفة كالتعليل لقوله تعالى: " وأنذرهم " (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) لا يظلم مثقال ذرة (وَالَّذِينَ

(21)

يَدْعُونَ) أي: المشركون إياهم (مِنْ دُونِهِ) كالأصنام (لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) لأنهن جمادات ففيه تهكم لأنه لا يقال في الجماد يقضي أو لا يقضي (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وعيد للمشركين وتقرير لإحاطة علمه. * * * (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) * * * (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنه يظهر من مساكنهم علامات سوء عاقبتهم (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة وتمكنًا، وهم ضمير الفصل والأصوب أن يُجعل هم مبتدأ لا فصلاً (وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) مثل الحصون والقصور (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) ولم تنفعهم قوتهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ) يقيهم من عذابه فمن زائدة وواقٍ اسم كان (ذلِكَ) الأخذ (بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): الدالة على صدقهم، (فَكَفَرُوا

فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ): لا عجز له أصلاً، (شَدِيدُ الْعِقَابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة ظاهرة، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ): وزير فرعون (وَقَارُونَ) أغنى الناس في ذلك الزمان (فقَالُوا): هو (سَاحِرٌ كَذابٌ)، وفي هذه الحكاية تسلية وبشارة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ): الدليل على نبوته، (مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ): للخدمة وهذا أمر من فرعون بإعادة ما كانوا يفعلون بهم، فإنه كان قد أمسك عن قتل أبناءهم ولما بعث موسى أعاد القتل عليهم، (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ): ضياع وزوال (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) كان فيهم من يمنعه نصحًا عن قتله خوفًا من العذاب، (وَلْيَدْعُ): موسى، (رَبَّهُ): الذي يزعم أنه أرسله فيقيه منا، وفيه دليل على أن قوله ذروني تمويه وتورية، فإن ظاهره الاستهانة به وباطنه الخوف من دعائه ربه (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ): الذي أنتم عليه إن لم أقتله (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ): من الفتن والتهارج والخلاف أراد يبدل دينكم أو دنياكم (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حقيقة وهو الله تعالى (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) أظهر التوكل على الله وعلَّمهم. * * *

(28)

(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) * * * (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ): من أقاربه وهو ابن عمه، وعن بعض السلف أنه إسرائيلي، وعنده إن قوله: " من آل فرعون " متعلق بقوله: (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ):

من فرعون، (أَتَقتلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ) أي: لأن يقول: (رَبِّيَ اللهُ): وحده، (وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات على صدقه، (مِنْ ربِّكُمْ)، هذا إظهار لإيمانه وإرشاد ثم أخذ في الاحتجاج فقال: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ): وبال كذبه على نفسه لا يتخطاه، (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ) أي: لا أقلَّ من أن يصبكم (بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، ففيه إظهار الإنصاف وكمال الشفقة فإنه بنى الكلام في النصح على التنزل (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)، كلام ذو وجهين يعني لو كان مسرفًا لما هداه الله إلى البينات، ولو كان كاذبًا فهو غير مهتد، فخلوا سبيله ولا تعظموا شأنه وكان فيه تعريضًا لفرعون بالإسراف والكذب (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)، وهذا من تتمة نصحه (ظَاهِرِينَ في الْأَرْضِ): غالبين في مصر، (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ): عذابه، (إِنْ جَاءنَا)، فلا تتعرضوا لبأس الله بقتله، (قَالَ فِرْعَوْنُ): حين منع من قتله: (مَا أُرِيكُمْ): من الرأي، أي: لا أشير عليكم، (إِلَّا مَا أَرَى): من المصلحة يعني قتله، (وَمَا أَهْدِيكُمْ)، بهذا الرأى: (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ): طريق صلاحكم، (وَقَالَ الَّذِى آمَنَ) من قوم فرعون: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ)؛ يوم وقائع الأمم الماضية، (مِثْلَ دَأْبِ)

عطف بيان لمثل الأول (قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: مثل جزاء عادتهم من الكفر وتكذيب الرسل، ترك جمع اليوم والدأب لعدم الإلباس فإن لكل منهم يومًا ودأبًا (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ)، فلا يعاقبهم من غير استحقاق، (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ): يوم القيامة سمي بذلك لكثرة النداء فيه بالسعادة والشقاوة، ونداء بعضهم بعضًا خوفهم عن عذاب الدنيا أولاً ثم عن عذاب الآخرة، (يَوْمَ تُوَلُّونَ): عن الموقف، (مُدْبِرِينَ): فارِّين عن النار ذاهبين، (مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ): يعصمكم من عذابه، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَلَقَد جَاءَكم يُوسُفُ مِنْ قبْلُ): يوسف بن يعقوب بعثه الله تعالى من قبل موسى رسولاً يدعو القبط إلى طاعة الله وحده فما أطاعوه تلك الطاعة، نعم أطاعوه لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي وهذا أيضًا من كلام مؤمن آل فرعون، (بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات، (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ): من الدين، (حَتَّى إِذَا هَلَكَ) مات، (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا): جزمتم بأن لا رسول بعده مع الشك في رسالته (كَذَلِكَ): مثل ذلك الإضلال (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ): في معصيته، (مُرْتَابٌ): شاك في دينه المبين بالحجج (الذِينَ يُجَادِلُون)، بدل من " من هو مسرف "، وهو في معنى الجمع أو تقديره هم الذين (في آيَاتِ اللهِ): ليبطلوه، (بِغَيْرِ سُلْطَانٍ): حجة، (أَتَاهُمْ)، بل بمجرد تشهيهم (كَبُرَ)، فاعله ضمير راجع إلى من والحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانيًا، جائز من غير ضعف أو إلى الجدال المدلول

عليه بقوله يجادلون، (مَقْتًا): بغضًا تمييز، (عِنْدَ الله وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ): مثل ذلك الطبع، (يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ): يختم عليه فلا يعي خيرًا، ولا يفقه الرشاد، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا): قصرًا عاليًا ظاهرًا، (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) أي: الطرق أو الأبواب (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) أبهمه ثم أوضحه تعظيمًا وتشويقًا إلى معرفته، (فأَطَّلِعَ) من قرأ بالنصب فبجواب الترجي، تشبيهًا بالتمني من جهة إنشاء التوقع (إِلَى إِلَهِ مُوسَى)، فهو جاهل، أو متجاهل، يلبس على قومه، فإن الوصول إلى السماء بالبناء محال، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا): في أن

(38)

له إلهًا في السماء (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك التزين، (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ): عن طريق رشاده ومن قرأ صَدَّ فمعناه صَدَّ فرعونُ الناسَ عن الحق بأن أوهم رعاياه بأنه يعمل شيئًا يتوصل به إلى العلم بكذبه (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) خسار لا ينفعه كيده. * * * (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) * * * (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ) مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ): أدلكم عليه، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنيَا) أي: ما هذه الحياة، إلا (مَتَاعٌ): تمتع قليل تذهب عن قريب، (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ): فإنها لا تزول، (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ): بغير تقدير لا كالسيئة فإنها بموازنة العمل وما هذا إلا من سعة فضله ورحمته (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ): إلى ما هو سبب لها (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ)، وهذا المنادى عطف على قوله يا قوم اتبعوني لا على يا قوم إنما هذه؛ لأن الثاني كالبيان للأول ولهذا تراه بغير عطف بخلاف الثالث (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ)، بيان للثاني، والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام (وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ): شيئًا ليس لي بربوبيته حجة وبرهان أي ما ليس بإله (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ): الغالب القادر المطلق (الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا

تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ): لا ردّ لما دعوه إليه وجَرَمَ فعل بمعنى حق وما بعده فاعله أي: حق، وثبت أن الذي تدعونني إليه باطل ليس له ثبوت أصلاً في زمان، أو بمعنى كسب، وفاعله ضمير إلى ما قبله وما بعده مفعول أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوة ما تدعونني إليه، أي: ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، أو اسم بمعنى القطع ولا لنفي الجنس وما بعده خبره أي لا قطع ولا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام، ومعنى ليس له دعوة أنا ليس له دعوة إلى نفسه ومن شأن المعبود الحق أن يدعو العباد إلى طاعته أو معناه ليس له استجابة دعوة فيكون من تسمية أثر الشيء وثمرته باسم ذلك الشيء (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى الله): مرجعنا إليه، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ): المشركين، (هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ): من النصح وتتحسرون على عدم القبول (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ): فيعصمني عن كل سوء، (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، وذلك حين أوعدوه بمخالفة دينهم (فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، فما وصل إليه آثار مكرهم، ونَجَا مع موسى (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ): بفرعون وقومه واستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك (سُوءُ الْعَذَابِ) الغرق في الدنيا ثم النقلة منه إلى النار (النَّارُ يُعْرَضُونَ

عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) مبتدأ وخبر أو النار بدل من سوء العذاب، ويعرضون حال، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)، قيل لهم، (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، في الصحيحين " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أَهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتي يبعثك الله إليه يوم القيامة "، وهذه الآية أصل في استدلال عذاب القبر وعليه سؤال وهو أن الآية لا شك في أنها مكية، وفي مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين أن يهودية في المدينة كانت تعيذ عائشة عن عذاب القبر، فسألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " كذب يهود لا عذاب دون يوم القيامة "، فلما مضى بعض أيام نادى عليه السلام محمرًا عيناه بأعلى صوته: " أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإنه حق " فقيل في جوابه: إن الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ وما نفاه أولاً ثم أثبته عليه السلام عذاب الجسد فيه، والأولى أن يقال الآية دلت على عذاب الكفار فيه وما نفاه ثم أثبته عذاب القبر للمؤمنين ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية قالت: أشعرت أنكم تفتنون في القبور فلما سمع عليه الصلاة والسلام قولها ارتاع وقال: " إنما يفتن اليهود " ثم قال بعد ليال: " أشعرت أنه أوحي إليَّ أنكم تفتنون في القبور "، ثم كان بعده يستعيذ من عذاب القبر (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ)، واذكر وقت تخاصمهم (فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا): في الدنيا جمع تابع كخدم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ): نصيبًا مفعول اسم الفاعل بتضمين مغنون معنى دافعون (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا): نحن وأنتم وكفانا

(51)

ما علينا (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) فأعطى كلًّا ما يستحقه (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ)، وعذاب جهنم غير منحصر في النار، (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) أي: قدر يوم، ومن العذاب بيانه، أو بعضًا من العذاب في يوم من الأيام (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: أكنتم غفلتم عن هذا ولم تك تأتيكم؟ إلخ، (قَالُوا بَلَى): جاءوا بها، (قَالُوا) الخزنة: (فَادْعُوا): أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعوا لكم وفيه إقناط لهم، (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ): ضياع لا نفع له. * * * (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) * * *

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا): بظهور حجتهم والانتقام من أعدائهم والنصرة بهذا المعنى عام لكل رسول والمؤمنين وقيل: الخبر عام وأريد به الأكثرون فإن بعضًا منهم قد قتل، كيحيى وزكريا وغيرهما، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ): فإن الملائكة يشهدون للرسل وعلى الكفار، والجمهور على أن فاعلاً لا يجمع على أفعال، وفي الصحاح أنه جمع شَهْدٍ بالسكون وفي المرزوقي جمع شهود (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ)، بدل (الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)، وإن رخصوا في الاعتذار (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ): يعني جهنم، (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى): ما يهتدى به في أمر الدين، (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ): تركنا عليهم من بعده التوراة (هُدًى وَذكرَى)، مفعول أو حال، هاديًا ومذكرًا (لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَاصْبِرْ): على أذاهم، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ): في نصرتك، (حَقٌّ)، واستشْهِدْ بحال موسى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، لفرطاتك ليُعْلى درجتك، وليصير سنة لأمتك (وَسَبِّحْ): متلبسًا، (بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ): أواخر النهار وأوائله أو صلِّ العصر والصبح (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ): برهان (أَتَاهُمْ): يردون الحجج بالشبه، (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ). إلا تكبر عن اتباع الحق يريدون إبطاله، (مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ):

بواصلي مقتضيه (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) في إطفاء نارهم، وعن كعب وأبي العالية - رضي الله عنهما - نزلت حين قالت اليهود: إن صاحبنا الدجال يخرج، فنملك به الأرض فأمر الله تعالى أن يستعيذ من شره، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ): أعظم وأشق في نظر العقل، (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ): إعادتهم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، فلهذا ينكرون الإعادة مع الاعتراف بخلق الأعظم من غير أصل وهذا رد لجدالهم في رد البعث، ومن قال: الأمر بالاستعاذة من الدجال، فهذا رد لمقال الدجال من دعوى الألوهية، وإنكار البعث (وَمَا يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبصِيرُ

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) مزيد لا للمبالغة في نفي مساواته للمحسن، والأولان مثلان للغافل والمستبصر، والآخران للمحسن والمسيء لتغاير وصفيهما أو كأنه قال لا يستوي الأعمى والبصير فكذلك المحسن والمسيء فشبه حالهما فى عدم الاستواء بحالهما، (قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ) أي: تذكرون تذكرًا قليلاً، (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا): لأن من تأمل في أطوار الخلق يعلم أنه لابد من معاد يجازى المحسن والمسيء، ولاتفاق كلمة الأنبياء عليهم السلام مع ظهور معجزتهم عليها، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ): لا يصدقون بها لغفلتهم وجهلهم (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي): سلوني، (أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي): عن دعائي، والدعاء مخ العبادة، وفي الحديث " من لم يدع الله " وفي رواية " لم يسأل الله يغضب عليه "، أو معناه اعبدوني أثبكم، (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) صاغرين ذليلين. * * *

(61)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (63) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) * * * (اللهُ الذِى جَعَلَ): أنشأ، (لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ): وتستريحوا من تعب النهار، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا): الإبصار في الحقيقة لأهل النهار، فأثبته له مجازًا أو مبالغة

وجعله حالاً، ولم يقل لتبصروا فيه لتلك الفائدة، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُو) وفي التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، حيث أوقع على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع المضمر الدال على أن ذلك كأنه شأن الإنسان وخاصيته (ذَلِكُمُ): المختص بتلك الأفعال، (اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة أي: هو الجامع لتلك الأوصاف (فَأَنَّى) فكيف ومن أي وجه؟! (تُؤْفَكُونَ): تصرفون عن عبادته (كَذَلِكَ) أي كما أفكوا (يُؤْفَكُ) فعل المضارع للاستحضار، والمعنى على المضي، (الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أى: من غير دليل ولا تأمل، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا): مستقرًّا، (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً): قبة على الأرض، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ): خلقكم في أحسن صورة، فإحسان الصورة بعد التصوير بحسب الاعتبار، وإن لم يكن تعدد بحسب الوجود، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ): من اللذائذ، (ذَلِكُمُ): المخصوص بتلك الأفعال، (اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، هذا دليل آخر على وحدته (هُوَ الْحَيُّ): المتفرد بالحياة الذاتية الدائمة، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): موحدين له، (الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: قائلين له عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: من قال لا إله إلا الله فليقل على إثرها الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (قُلْ): يا محمد حين يدعونك إلى دين قومك، (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ): الأدلة على وحدانيته (مِنْ رَبِّي) جواب " لما " يدل عليه ما قبله، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ): أنقاد (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ): من بطون أمهاتكم، (طِفْلًا) وحده لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي: ثم يبقيكم لتبلغوا سن

(69)

الشباب، (ثُمَّ لِتَكُونُوا) أي ثم يبقيكم لتكونوا، (شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل هذه الأحوال (وَلِتَبْلُغُوا) أي: ويفعل ذلك لتبلغوا، (أَجَلًا مُسَمًّى) هو أجل الموت المقدر، وقيل: يوم القيامة، (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): وحدته، عطف على لتبلغوا أجلاً (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى): أراد (أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ): لا يحتاج إلى مادة ومدة وآلة وعدة. * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ): كيف يصرفون عن الحق إلى الجهل؟!، (الَّذِينَ كذَّبُوا بِالْكِتَابِ): بالقرآن، (وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا):

من سائر الكتب، أو المراد من الكتاب جنس الكتب ومن ما أرسلنا رسلنا الشرائع (فَسَوْفَ يَعلَمُونَ): وباله، (إذِ الْأَغلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ)، جعل المتوقع في حكم الموجود لتيقنه، ولهذا جمع بين سوف وإذ فإنه ظرف ليعلمون (وَالسَّلَاسِلُ)، عطف على الأغلال (يُسْحَبُونَ)، حال من ضمير أعناقهم أي: يجرون (فِي الْحَمِيمِ)، وقيل: تقديره يسحبون بها، فيكون السلاسل مبتدأ، والجملة خبره، (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ): يحرقون، ويصيرون وقود النار (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي: الذي تشركون به، (مِنْ دُونِ اللهِ) أي: الأصنام (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا)، فقدناهم وذلك قبل أن يقرن آلهتهم بهم أو معناه ضاعوا عنا أي: ما كنا نتوقع منهم، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا): جحدوا شركهم كما قالوا: (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23]، أو ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله ما كنت أعمل شيئًا أي العمل كلا عمل، (كَذلِكَ): مثل ذلك الإضلال (يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِينَ) حتى لا يهتدوا إلى ما ينفعهم في الآخرة بوجه (ذَلِكُمْ): الإضلال، أو العذاب، (بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الشرك والضلال (وَبِمَا كُنتمْ تَمْرَحونَ): تتوسعون في الفرح أو تفسدون (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ): السبعة المقسومة لكم (خَالِدِينَ): [مقدرين] الخلود (فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ): منزل

(79)

المتكبرين عن الحق جهنم، (فَاصْبِرْ): يا محمد، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ): بنصرك وإعلاء كلمتك (حَقٌّ): كائن (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ): كالقتل، والأسر، وإن شرطية وما زائدة، وجزاؤه محذوف مثل فذاك، أو فهو المقصود (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ): قبل أن يحل ذلك بهم (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ): فنجازيهم في القيامة، وهذا جواب للثاني أو هو جواب لهما أي: إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة عذابًا شديدًا، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جملتهم مائة ألف وأربع وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر، (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ): ليس لهم اختيار في إتيان مقترح أممهم، (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ) قضاؤه بين الأنبياء والأمم، (قُضِيَ بِالْحَقِّ): فنجَّى المؤمنين، (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ): الكافرون، وقيل: أمر الله تعالى القيامة، والمبطلون المعاندون باقتراح الآيات. * * * (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي

الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) * * * (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ): إنشاء الإبل والبقر والغنم (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ): من الصوف والدَّرِّ والوبر (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ): من حمل أثقالكم إلى بلد والغنم للأكل وله المنافع والباقي من الأنعام يصلح للكل (وَعَلَيْهَا): في البر، (وَعَلَى الْفلْكِ): في البحر، (تُحْمَلُونَ) دخول اللام في بعض دون بعض للفرق بين العين والمنفعة، والأظهر أن الأنعام هاهنا الإبل ولما كان العمدة في منافعها الركوب والحمل، أدخل اللام عليهما وأما الأكل والانتفاع بالألبان والأوبار وإن كان يصلحان للتعليل أيضًا، لكنهما قاصران عنهما فجعلا مكتنفين لما بينهما من غير دخول لام عليهما وتقديم المعمول في منها تأكلون، وعليها وعلى الفلك لرعاية الفاصلة وزيادة الاهتمام، ومنها تأكلون عطف على جعل لكم الأنعام عطف جملة على جملة بتقدير وجعل لكم الأنعام منها تأكلون، حتى لا يلزم عطف الحال على العلة وكذلك وعليها وعلى الفلك (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) الدالة على كمال القدرة والرحمة، (فَأَى آيَاتِ اللهِ): أي آية منها (تُنْكِرُونَ)، هو العامل في

أي (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددًا (وَأَشَدَّ قُوَّةً): فإنهم أجسم، (وَآثَارًا فِي الأَرْضِ): كقصورهم، ومصانعهم (فَمَا أَغْنَى)، ما نافية، أو استفهامية منصوبة بـ أغني ودخل الفاء، لأنه كالنتيجة بمعنى أنه ترتب عليه وإن كان عكس المطلوب (عَنْهُمْ): العذاب وسوء العاقبة، (مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): كسبهم أو مكسوبهم (فَلَمًا جَاءتْهُمْ)، الفاء تفسير وتفصيل لما أبهم، وأجمل من عدم الإغناء (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا): رضوا، (بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ): بزعمهم أو سماه علمًا سخرية، وهو قولهم: نحن

صفحة فارغة

أعلم لا بعث ولا عذاب وهذا في الحقيقة جهل، وقيل: معناه استهزءوا بما عند الأنبياء من العلم، وقيل: رضوا بما عندهم من علم الدنيا ومعرفة تدبيرها واكتفوا بها (وَحَاقَ بِهِمْ): وبال (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، قيل: فيه إشعار إلى المعنى الثاني (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا): عاينوا وقوع العذاب، والفاء لمجرد التعقيب (قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ): منفردًا بالإيمان، (وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ): من الأصنام، (مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ) أي: لم يصح أن ينفعهم (إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) أي: سنَّ الله تعالى ذلك سنة ماضية فهي من المصادر المؤكدة (وَخَسِرَ هُنَالِكَ)، استعير اسم مكان للزمان أي: وقت البأس، (الْكَافِرُونَ) أي: ظهر لهم خسرانهم. والحمد لله على نعمائه. * * *

سورة حم السجدة

سورة حم السجدة مكية وهي ثلاث أو أربع وخمسون آية وست ركوعات * * * سورة فصلت بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) * * * (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تنزيل خبر حم إن كان اسمًا للسورة؛ وإلا فهو خبر محذوف، أو مبتدأ مخصص خبره قوله (كِتابٌ)، وعلى الأولين إما خبر بعد خبر، أو بدل أو خبر محذوف (فُصِّلَتْ): ميزت وبينت (آيَاتُهُ قُرْآنًا) نصب على المدح أو حال، (عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ): لقوم صفة أخرى لـ قرآنًا، أو متعلق بـ فصلت أى: هذا التفصيل للعلماء، فإنهم هم العالمون به (بَشِيرًا): للمؤمنين (وَنَذِيرًا): للكافرين (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ): عن تأمله، (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ): سماع قبول،

(9)

(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ): أغطية (مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ): فلا نفقه ما تقول (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ): صمم، (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب) يعني نحن في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم، ولا يسمع، وبينه -مع ما هو عليه- وبين داعيه -مع ما هو عليه- حجاب غليظ، فلا تلافى ولا ترآى، وفائدة من أن الحجاب ابتدأ منا ومنك، فيدل على استيعاب ما بين الطرفين بالحجاب (فاعْمَلْ): على دينك، (إِنَّنَا عَامِلُونَ): على ديننا، (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أي: لست بجنيٍّ ولا بملك أتكلم بما لا تفهمون، (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ): وجهوا إليه وجوهكم، وأخلصوا له العبادة (وَاسْتَغْفِرُوهُ): من سالف الذنوب (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ): لا يطهرون أنفسهم، (قد أفلح من زكاها) [الشمس: 9]، (قد أفلح من تزكى) [الأعلى: 14]، أو المراد زكاة أموالهم، وأصلها مأمور به في ابتداء البعثة وأما مقدارها وكيفيتها فبين أمرها بالمدينة. ولفظ الإيتاء يساعد المعنى الثاني، بل كالصريح، لكن الأول منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع وأما المنة فلله على أهل الجنة، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) [الحجرات: 17]. * * * (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قَالُوا

لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) * * * (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي في حقيقة يومين معلومين عند الله، لا نعرف كيفيتهما أو في قدر يومين لأن الظاهر من قوله: " رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها " [النازعات: 28 - 29]، أن حدوث اليوم والليلة بعد خلق السماء وعن كثير من السلف أن اليومين: الأحد والاثنان وفيه إشكال، اللهم إلا أن يقال: إن الله تعالى لما خلق الأزمان عى أول يومه السبت ثم الأحد ثم الاثنان ثم وثم، وخلق السماء والأرض وما بينهما في مقدار ستة أيام قبل حدوث الزمان متصل بحدوثه بمعنى أنه لو كان الزمان حين الخلق موجودًا لكانت مدة الخلق ستة أيام يكون أوله يوم الأحد ألبتَّة، وآخره يوم الجمعة (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ): القادر العظيم، (رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا): في الأرض، (رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت وهو عطف على محذوف، أي خلقها وجعل، وقيل: عطف على خلق والفصل بالجملتين كلا فصل؛ لأن الأولى بمنزلة الإعادة لتكفرون، والثانية اعتراضية كالتأكيد لمضمون الكلام، (مِنْ فَوْقِهَا): مرتفعة ليظهر على الناظرين (وَبَارَكَ فِيهَا): بخلق المنافع فيها، (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا): أقوات أهلها، أو قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي: تتمتها لقوله: " خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام "

[السجدة: 4]، واليومان الثلاثاء والأربعاء (سَوَاءً) أي: استوت استواءً بلا زيادة ولا نقصان، والجملة صفة أيام (لِلسَّائِلِينَ) أي: هذا الحصر للسائلين عن مدة خلقها، أو متعلق بـ قدَّر أي: قدر فيها للمحتاجين أقواتها (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ): قصد نحوها، (وَهِيَ دُخَانٌ): ارتفع من الماء الذي عليه عرشه، (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا): ما أمركما أي: افعلاه واستجيبا لأمرى، كما يقال: ائت ما هو الأحسن قيل: إتيان السماء حدوثها، وإتيان الأرض أن تصير مدحوة. عن ابن عباس - رضي الله عنه - أطلعي شمسك وقمرك ونجومَك يا سماء وشققي أنهارك فأخرجي ثمارك ونباتك يا أرض (طَوْعًا أَوْ كَرْهًا): طائعتين أو مكرهتين أي: شئتما أو أبيتما ذلك (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ): استجبنا لك منقادين لما خاطبهما وأقدرهما على الجواب أجراهما مجرى العقلاء عن بعض السلف أن المتكلم موضع الكعبة، ومن السماء ما يسامنه (فَقَضَاهُنَّ): خلقهن، وأحكمهن الضمير إلى السماء على المعنى (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، حال (فِي يَوْمَيْنِ): يوم الخميس والجمعة، وهذه الآيات مشعرة بأن خلق الأرض ودَحْوَها مقدم على خلق السماوات، وهو مخالف لما في سورة النازعات (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات: 30]، فلابد أن نقول أن ثم في (ثم استوى إلى السماء) للتراخي

الرتبي لا الزماني، وسنذكره في سورة النازعات (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) قرر ورتب شأنها أي: خلق ما يحتاج إليه من الملك، وما لا يعلمه إلا الله تعالى (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ): الكواكب كلها ظاهرة عليها، (وَحِفْظًا) مصدر لمحذوف أي: وحفظناها من استراق السمع حفظًا (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ فَإِنْ أَعْرَضُوا): مع هذا البيان عن الإيمان (فَقلْ أَنْذَرتُكَمْ صَاعِقَةً): مهلكة، (مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ)، حال من صاعقة عاد أو ظروفها لما فيها من معنى الفعل أي: صعقوا إذ جاءتهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي: من القرى القريبة من

بلادهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) القرى البعيدة كما قال: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) [الأحقاف: 21]، وقيل: من كل جانب وعملوا فيهم كل حيلة كما قال الشيطان: (لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) [الأعراف: 17]، وقيل: أنذروهم من مثل الوقائع المتقدمة ومن العذاب المتأخر أي: عذاب الآخرة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أن بمعنى أي (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا): إرسال الرسل، (لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً): برسالته فإنما أنتم لستم بملائكة (فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ): على زعمكم، (كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ): بغوا وعتوا، (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، اغتروا بقوتهم ومزيد قدرتهم وحسبوا أنها تغنيهم عن العذاب، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً): أزيد قدرة منهم، (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) أي: يعلمون وينكرون عطف على فاستكبروا (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا): شديدة الصوت من الصرير وشديدة البرد من الصِّرِّ (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ): مشئومات عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ): الذل وصف به العذاب مع أنه فى الأصل صفة المعذب على الإسناد المجازي للمبالغة (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ): دللناهم على طريق الحق، بلسان نبيهم صالح - عليه السلام (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى): اختاروا الضلالة (عَلَى الْهُدَى)، وهذا لا ينافي كون الضلال بمشيئة الله تعالى، وإنما ينافيه لو كان معنى هديناهم أردنا منهم

(19)

الهدى (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ): صيحة ورجفة؛ وهي الذل والهوان والإضافة إلى العذاب ووصفه بالهوان للمبالغة (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): من القبائح (وَوَنَجَّيْنَا): من تلك الصاعقة، (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ). * * * (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) * * * (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) أي اذكره (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم (حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا) ما مزيدة لتأكيد ظرفية للشهادة أي: إنما تقع فيه

ألبتَّة (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُونَُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): من المعاصي، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ)، خص الجلود بالسؤال لأن الشهادة منها أعجب إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا): لأي علة؟! وبأي موجب؟! (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي: كل شيء ينطق فما شهدنا اختيارًا، بل اضطرارًا، والأعضاء في القيامة هي الناطقة بالحقيقة وفيها القدرة والإرادة، لا كنطق ينسب إلى الجملة، واللسان مجرد آلة حتى إن إسناد النطق إليه ربما يعد مجازًا (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، الظاهر أنه من تتمة كلام الجلود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الكافر يجحد شركه ويحلف كما يحلفون لكم فتشهد من أنفسهم جوارحهم ويختم على أفواههم ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح فتقول أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو الذي خلقكم أول مرة وإليه ترجعون، فتقر الألسنة بعد الجحود (وَما كُنتمْ تَسْتَتِرُونَ): عند المعاصي، (أَنْ يَشْهَدَ): لأن يشهد (عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ) أي: ليس استتاركم عند المعاصي خيفة شهادة الجوارح، فإنكم ما تصدقون بشهادتها لإنكاركم الحشر والبعث (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي: لكنكم

إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم الخفيات، فهو بالحقيقة استدراك من المفعول له أي: ليس استتاركم لخوف الشهادة، بل لظن أن الله تعالى لا يعلم (وَذلِكُمْ)، مبتدأ (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) خبر أو بدل (أَرْدَاكُمْ)، خبر ثان أو هو الخبر أي: أهلككم، (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، قد صرح بعض المفسرين أن كلام الجلود إلى قوله: (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (فَإِنْ يَصْبِرُوا): ولا يسألوا شيئًا، (فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ): لم ينفعهم الصبر، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا): يسترضوا، (فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)، فلم يرضوا تقول استعتبته فأعتبني أي: استرضيته فأرضاني أو إن سألوا الرجوع عن الآخرة إلى الدنيا لم يجابوا، (وَقَيَّضْنَا): قدرنا، (لَهُمْ): للمشركين، (قُرَنَاءَ): من الشياطين، (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) أي: أحْسَنوا لهم أعمالهم الماضية والآتية فلم يروا أنفسهم إلا محسنين أو أمر الدنيا واتباع شهواتها، وأمر الآخرة وإنكارها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ): كلمة العذاب، (فِي أُمَمٍ) أي: كائنين في جملتهم حال من عليهم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ) استئناف تعليل (كَانُوا خَاسِرِينَ). * * *

(26)

ْ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) * * * ْ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ): كان بعضهم يوصي بعضًا إذا رأيتم محمدًا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو وكلموا فيه وعيِّبوه أو بالمكاء والصفير، أو أكثروا الكلام والصياح ليختلط عليه (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ): محمدًا على قراءته فيترك (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كفَرُوا) أي: نذيقنهم (عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: نجزينهم جزاء أسوء أعمالهم من الاستهزاء، وتحقير القرآن (ذَلكَ): الأسوأ (جَزَاءُ أَعدَاء اللهِ) مبتدأ وخبر (النَّارُ) عطف بيان للخبر (لَهُمْ فِيهَا): في النار، (دَارُ الْخُلْدِ): في النار مواضع واسعة، ولهم فيها مكان يخلدون فيه (جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كفَرُوا

(33)

رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي: شيطاني النوعين وعن علي - رضي الله عنه - إن مرادهم إبليس، فإنه سن الكفر، وقابيل فإنه سن القتل (نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا): أسفل منا في العذاب، ليكون عذابهما أشد (لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي: فى الدرك الأسفل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ): أقروا بوحدانيته، (ثُمَّ اسْتَقَامُوا): على التوحيد، ولم يشركوا به شيئًا، أو على أمر الله تعالى فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) عند الموت أو عنده وفي القبر عند البعث (أَلَّا تَخَافُوا) بمعنى أي: أو بأن لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (وَلَا تَحْزَنُوا) على ما خلفتموه من أمر الدنيا (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ): على لسان أنبيائكم (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): وفقناكم على الخير وحفظناكم من الشر بإذن الله تعالى (وَفِي الْآخِرَةِ) نؤنس منكم وحشة القبر، ونوصلكم إلى الجنة (وَلَكُمْ فِيهَا): في الآخرة، (مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ): ما تطلبون، والثاني أعم من الأول (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)، النزل طعام النزيل، وهو حال من الضمير المستكن في خبر ما تدعون لا من مفعول تدعون. * * * (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) * * * (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ): إلى طاعته (وَعَمِلَ صَالِحًا)، لا من الذين لا يوافق قولهم عملهم (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، جعل الإسلام دينه ومذهبه، أو تكلم بذلك تفاخرًا، والآية عامة في كل مهديٍّ هادٍ ولعل مراد من قال: إن المراد به

المؤذنون أنَّهم أولى وأدخل لا أنها نزلت فيهم، فإن الآية مكية والأذان شرع بالمدينة (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)، لا الثانية لتأكيد النفي، (ادفَعْ): السيئة، (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): وهي الحسنة استئناف كأنه قيل: كيف أصنع؟ قال: ادفع والمراد من الأحسن الزائد مطلقًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أمر بالصبر عند الغضب، وبالعفو عند الإساءة. معناه لا تستوي الحسنات، بل يتفاوت إلى الحسن والأحسن، وكذلك السيئات فادفع السيئة التي ترد عليك بحسنة هي أحسن من أختها، مثلاً تحسن إلى من أساءك ولا تكتفي بمجرد العفو عنه (فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ) أي: إذا فعلت ذلك يصير العدو (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ): صديق شفيق، (وَمَا يُلَقَّاهَا) أي: تلك الخصلة يعني مقابلة الإساءة بالإحسان (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا): على مخالفة النفس، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ): من كمال النفس (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) أى: يفسدك فساد. حال كون الفساد من الشيطان يعني يصرفك عن الدفع بالتي هي أحسن، فيكون من قبيل جَدَّ جِدُّه، ومن الشيطان حال مقدم (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ): حتى يوفقك على دفعه، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ): باستعاذتك (الْعَلِيمُ): بما في ضميرك، (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ)، الضمير للأربعة نحو: الأيام مضين (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ): فإن عبادته مع عبادة غيره غير مقبولة، (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا): عن الامتثال (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي: الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي: دائمًا، (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ): لا يملون وهذا مثل قوله: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام: 89] (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً): متذللة

استعارة عن يبسها، (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ): تحركت بالنبات، (وَرَبَتْ): زادت وعلت، (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْييِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فيقدر على الإعادة، (إِن الذِينَ يُلْحِدُونَ): يميلون عن الاستقامة (فِي آيَاتِنَا): يضعون في غير مواضعها (لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا)، فيه وعيد شديد (أَفَمَنْ

يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ): يعني جزاء الإلحاد فيها النار (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، تهديد على تهديد (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فيجازيكم، (إِن الذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ): بالقرآن، (لَمَّا جَاءَهُمْ)، جملة مستأنفة، وحذف خبر إن للتهويل أي: يكون من أمرهم ما يكون، أو يهلكون أو الجملة بدل من إن الذين يلحدون إلخ (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ): أعزه الله (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ): ليس للبطلان إليه سبيل، أو لا يبطله الكتب المتقدمة ولا يأتيه كتاب بعده يبطله، (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ): في ذاته وإن لم يحمده الحامدون، (مَا يُقَالُ لَكَ) أي: لا يقول لك قومك (إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي: إلا مثله أي:

فاصبر كما صبروا ولا تجزع (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ): لمن تاب، (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ): لمن أصر على التكذيب وقيل: معناه لا يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم، وهو إن ربك لذو مغفرة، فقوله: " إن ربَّك " بدل مما قد قيل (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا): بغير لغة العرب، (لَقَالُوا لَوْلَا) أي: هلا، (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ): بينت بوجه نفهمه، (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) أي: أكلام أعجمي ومخاطب عربي؟! فالهمزة للإنكار، ومن قرأ بلا همزة فهو إخبار وعن بعضهم أن معناه حينئذٍ هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميًا وبعضها عربيًا، لينتفع بها القبيلتان، يعني هم على أي حال تجدهم في عنادٍ واعتراض متعنتين. نقل البغوي عن مقاتل أنها نزلت حين قال المشركون: يعلم يسارٌ محمدًا القرآن وهو غلام يهودي، أعجمي يكني أبا فكيهة، (قُلْ): يا محمد (هُوَ): القرآن، (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى): إلي الحق، (وَشِفَاءٌ): من الجهل، (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)، عطف على المجرور باللام (فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ)، عطف على هدى، والمحققون يجوزون مثل ذلك العطف " وفي آذانهم " حال من الضمير في الذين لا يؤمنون، ووقر أي: ذو وقر أو كوقر أو الذين كفروا مبتدأ، وخبره في آذانهم وقر بتقدير مبتدأ أى: هو يعني القرآن في آذانهم وقرٌ فيكون من عطف الجملة على الجملة (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي: ذو عمى أو كعمى فلا ينتفعون به أصلاً (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) لهذا تمثيل أي: مثلهم مثل من يصيح به من مسافة بعيدة، لا يسمع من مثلها إلا مجرد نداء، مثل الذين كفروا، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء وعن الضحاك ينادون يوم القيامة من مكان بعيد بأشنع أسمائهم. * * *

(45)

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ): بالتصديق والتكذيب، كما اختلف قومك في كتابك (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ): في تأخير العذاب وأجل مسمى، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ): عجل لهم العذاب، (وَإِنَّهُمْ) أي: المشركين (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ): من القرآن (مُرِيبٍ): موقع لهم في الريبة أو أن اليهود لفى شك من التوراة (مَنْ عَمِلَ

صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ): فلا يعذب أحدًا إلا بعد الاستحقاق. (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ): ما يعلمها إلا الله، (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ)، ما نافية ومن زائدة للاستغراق (مِنْ أَكْمَامِهَا)، جمع كِم بالكسرة، وهو وعاء الثمرة، (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ): مقرونًا بعلمه (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) أي: اذكر يوم ينادي الله تعالى المشركين (أَيْنَ شُرَكَائِي) بزعمكم؟ (قَالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك (مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ): من أحد يشهد أن لك شريكًا إذ تبرءوا عنهم لما عاينوا الحال والسؤال توبيخ (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ): من الأصنام، (مِنْ قَبْلُ): قبل القيامة فلا ينفعهم، (وَظَنُّوا): أيقنوا (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ): مهرب، (لَا يَسْأَمُ): لا يمل، (الْإِنسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ): كالمال والصحة، (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ): كالفقر والمرض، (فَيَئُوسٌ): من فضله، (قَنُوطٌ): من رحمته، وما هذا إلا حال الكافر فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، (وَلَئِنْ أَذقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ): بتفريجها عنه، (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي): حقي وصل إليَّ، أو لا يزول عني، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي): على فرض أن تقوم القيامة كما يزعمون (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى):

معدٌ لي عند الله الحالة الحسنى من النعمة يتمنى على الله تعالى مع إساءة عمله، وهو جواب القسم ساد مسد جواب الشرط (فَلَنُنَبِّئَنً الذِينَ كَفَرُوا): نخبرنهم، (بِمَا عَمِلُوا): بحقيقة أعمالهم فيعلموا أنها تستوجب ندامة لا كرامة (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ): نسي المنعم، ولم يأتمر بأوامره (وَنَأَى بِجَانِبِهِ): أذهب نفسه وتباعد عنه تكبرًا، والجانب مجاز عن النفس (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ): كثير دائم لأنه إذا كان عرضه واسعًا فما بالك بطوله فإنه أطول الامتدادين استعير ما هو من صفة الأجرام للدعاء (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ): القرآن، (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ): خلاف وعداوة (بَعِيدٍ): عن الطريق المستقيم، أي: من أضل منكم؟ فوضع موضعه، ليكون تعليلاً لكمال الضلال، وهو في موقع مفعولي أخبروني على طريق التعليق،

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا): الدالة على حقية القرآن، (فِي الْآفَاقِ): كوقائع لا تتعلق بخاصتهم، مثل ظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان (وَفِي أَنْفُسِهِمْ): كالوقائع التي حلت بهم، كوقعة بدر وفتح مكة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ): القرآن، (الْحَقُّ): المنزل من عند الله تعالى أو معناه سنريهم آياتنا في الآفاق، كالشمس والقمر وغيرهما، وفى أنفسهم من عجائب الصنع المركب منها الإنسان حتى يتبين أن الله هو الحق وكل شيء سواه باطل، زائل لا يستحق الألوهية (أَوَلَمْ يَكْفِ) أي: أليس الأمر كذلك؟ ولم يكف (بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي: ألم يكف شهادته على كل شيء؟ وهو يشهد على صدق محمد فيما أخبر به عنه أو ألم يكف في حقية الله تعالى اطلاعه على جميع الأشياء؟ فـ بربك فاعل كفى، وما بعده بدل منه قيل: أو لم يكفك ربك؟ فإنه عالم بكل شىء فيعلم حالك (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ): شك (مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ): بالبعث، (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ): الكل تحت علمه وقدرته فإقامة الساعة يسير عليه. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الشورى

سورة حم عسق وتسمى سورة الشورى مكية وهى ثلاث وخمسون آية وخمس ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) * * * (حم عسق) قيل: فصل بينهما ليطابق سائر الحواميم (كَذَلِكَ يوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ الله الْعَزِيز الْحَكِيمُ) أي: مثل ما في هذه من المعاني أوحى

الله تعالى إليك، وإلى من قبلك من الرسل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من رسول إلا وقد أوحي إليه حم عسق (1)، فعلى هذا " كذلك " إشارة إليه، وذكر المضارع للاستمرار وبيان العادة، وكذلك في موقع المصدر أو المفعول به، ومن قرأ " يُوحَى " بصيغة المجهول، فالله مرفوع بمحذوف كأن قائلاً قال: من يوحي فقال: الله (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ): يتشققن من عظمته، أو من قولهم: (اتخذ الرحمن ولدًا) [يونس: 68، مريم: 88، الأنبياء: 26] (مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي: يبتدي الانفطار من جهتهن الفوقانية، فإن أعظم آياته الدالة على جلاله، وهي العرش والكرسي وغيرهما من تلك الجهة (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ) متلبسين (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ): من المؤمنين،

_ (1) فيه نظر.

كما قال تعالى: (يستغفرون للذين آمنوا) [غافر: 7]، وقيل: الاستغفار طلب هدايتهم التي هي موجب الغفران، فيعم الكافر (أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) شركاء (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ): رقيب على أعمالهم، يحصيها ويجزيهم (وَمَا أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ): بموكل بهم، (إنما أنت نذير) [هود: 12] (وَكَذَلِكَ) أي: مثل ذلك الإيحاء البين (أَوْحَيْنَا إِلَيكَ قُرْآنًا) مفعول أوحينا (عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى): مكة، أي: أهلها (وَمَنْ حَوْلَهَا) قرئ الأرض كلها، أو المراد العرب، وترك المفعول الثاني لقصد العموم أي: بأنواع الإنذار (وَتُنْدرَ يَوْمَ الجمع) يقال: أنذرته النار وبالنار. وترك المفعول الأول للعموم أيضًا، أى: لتنذر كل أحد عن هول يوم القيامة، الذي يجمع فيه الأولون والآخرون (لَا رَيْبَ فيهِ) اعتراض لا محل له (فرِيقٌ) أي: منهم فريق يعني مشارفين للتفريق، والضمير للمجموعين الدال عليه يوم الجمع (فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) والجملة حال من مفعول الجمع، ولذلك قدرنا الجار والمجرور مقدمًا؛ لأنه إذا كانت الجملة الاسمية حالاً بغير واو، ولم يكن فيما صدرته الجملة ضمير إلى ذي الحال، لكان ضعيفًا (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): على دين واحد (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بالهداية (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ): يدفع عنهم العذاب وينصرهم، وتغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد، وتكثير الفائدة (أَمِ اتَّخَدوا) بل اتخذوا

(10)

الهمزة للإنكار (مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) أي: إن أرادوا وليًّا، فالله هو الولي بالحق عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فالله هو وليك، وولي من تبعك (وَهُوَ يُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). * * * (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ

أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) * * * (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) لإرادة العموم أتى بهذا البيان (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) هذا كقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59]. وهذا حكاية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريقة التعليم لقوله: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ): أرجع (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) خبر آخر لذلكم، أو مبتدأ خبره قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ) أي: من جنسكم (أزْوَاجًا): نساء (وَمِنَ الْأَنْعَامٍ أَزْوَاجًا): وخلق للأنعام من جنسها أزواجًا، أو خلق لكم من الأنعام أصنافًا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ): يكثركم في ذلك الطريق والتدبير، وهو جعلكم أزواجًا يكون سببًا للتوالد (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): قولنا: ليس كذاته، وليس كمثله،

عبارتان عن معنى واحد إلا أن الأولى صريحة والثانية: كناية مشتملة على مبالغة، وهي أن المماثلة منفية ممن يكون مثله وعلى صفته، فكيف عن نفسه. وهذا لا يستلزم وجود المثل، وقيل: الكاف أو المثل: صلة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ): مفاتيح، أو خزائن (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): ويضيق (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) أي: أظهر وسنَّ لكم من الدين، دين نوح وهو أول أنبياء الشريعة، ومحمد وهو آخرهم، ومَنْ بينهما مِنْ أولي العزم (أَنْ أَقِيمُوا

الدِّينَ) بدل من مفعول شرع، أو " أن " مفسرة بمعنى: أي (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) المراد إقامة دين الإسلام وعدم الاختلاف فيه، أي: في التوحيد والطاعة ونحو ذلك من الأصول، لا الشرائع العملية المختلفة باختلاف مصالح الأمم (كَبُرَ): عظم وشق (عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من ترك الشرك (اللهُ يَجْتَبِي): يصطفي (إِلَيْهِ): إلى اللهَ (مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ): من يُقْبِلُ إليه، وقيل: يجتبي من جبي الخراج أي: جمعه؛ لأن الكلام في عدم التفرق يناسب الجمع والانتهاء إليه، وضمير إليه للدين (وَمَا تَفَرَّقُوا) أهل الأديان، أو أهل الكتاب (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) بأن الفرقة ضلالة، أو المراد من العلم الكتب السماوية (بَغْيًا): لعداوة وعناد (بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ): بالإمهال (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): يوم القيامة، أو آخر أعمارهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بأن جزيناهم بما يستحقون في أسرع وقت (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) إنجيل المتأخر بعد القرون الأولى (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ): من دينهم أو من القرآن (مُرِيبٍ): مدخل في الريبة (فَلِذَلِكَ) أي: إلى ما أوحينا إليك وإلى غيرك (فَادْعُ) الناس. يقال: دعوت له وإليه، وقيل: لأجل ذلك التفرق ادع الناس إلى الاتفاق على دين الإسلام (وَاسْتَقِمْ) على عبادة الله تعالى (كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ) لا كمن آمن ببعض، وكفر ببعض (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ): لأن أعدل في الحكم (بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا

(20)

وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) وكل يجازى بعمله (لَا حُجَّةَ): لا خصومة (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) وهذا قبل نزول آية السيف فإن السورة مكية. وقيل: لا إيراد حجةٍ بيننا، فإنه قد ظهر الحق (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا): يوم المعاد (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيفصل بيننا (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ): يجادلون (فِى اللهِ): في دينه (مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) أي: بعد ما استجاب الناس لله تعالى ودخلوا الإسلام، وقيل: بعد ما استجاب الله تعالى لرسوله بإظهار دينه، وقيل: بعد ما استجاب أهل الكتاب له وأقروا بنبوته (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ): باطلة زائلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ) جنسه (بِالْحَقِّ) متلبسًا بعيدًا من الباطل (وَالْمِيزَانَ): العدل وهو شرعه، أو إنزال العدل عبارة عن الأمر به، أو المراد إنزال الميزان على الحقيقة، كما سنذكره في سورة الحديد من أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ): التي هي يوم الجزاء، ووضع الميزان والعدل (قَرِيبٌ) فواظب على العدل، وتذكير قريب، لأن الساعة بمعنى البعث، أو لأن تقديره: لعل مجيء الساعة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا): استهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ): خائفون (مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ): الكائن ألبتَّة فيستعدون لها (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ): يجادلون (فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) عن طريق الصواب (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ): بار بالبر والفاجر (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) أي: يرزق من يشاء ما يشاء على مقتضى حكمته (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ): القادر المطلق الذي لا يغلب. * * * (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) * * * (مَنْ كَانَ يُرِيدُ) بعمله (حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي: زرعها. سمي عمله زرع الْآخِرَةِ؛ لأن الفائدة تحصل فيها، كما يقال: زرع الصيف (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) بتضعيف ثوابه (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ) بعمله (حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا): شيئًا منها بقدر ما قسمنا له (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) نصيب من عمله، إذ لكل امرئٍ ما نوى (أَمْ

لَهُمْ شُرَكَاءُ): بل ألهم آلهة وهم الشياطين، والهمزة للتحقيق والتثبيت (شَرَعُوا): أظهروا (لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) غير دين الإسلام (مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللهُ) وهذا إضراب عن قوله: " شرع لكم من الدين " [الشورى: 13] إلخ (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ): القضاء السابق بتأجيل العذاب إلى القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُم) بين المؤمنين والكافرين في الدنيا (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ) في القيامة (مُشْفِقِينَ): خائفين (مِمَّا كَسَبُوا): من وباله (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) لا محالة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ): أحسن بقاعها (لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ ربِّهِمْ) ظرف لـ " لَهُم " أي: حصل لهم عنده وفي كرمه، أو حال (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ) الثواب (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عبادَهُ) أي: به، حذف الجار ثم العائد (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ): على التبليغ (أَجْرًا):

نفعًا منكم (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى): إلا أن تحبوني في حق قرابني منكم ومن أجلها، أو إلا أن تحبوا أهل قرابتي وتجعلوهم مكان المودة، فالظرف حال، وعن الإمام أحمد قال عليه الصلاة والسلام للعباس: " لا يدخل قلب امرئٍ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي "، أو إلا أن تحبوا الله في تقربكم إليه بطاعته (وَمَنْ يَقْتَرِفْ): يكتسب (حَسَنَةً) طاعة (نَزِدْ له فِيهَا): في الحسنة (حُسْنًا) بأن نضاعف أجرها (إِنَّ اللهَ عفُورٌ شَكُورٌ) يقبل الطاعة وإن قَلَّت (أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون: إضراب آخر أشد من قوله: " أم لهم شركاء " إلخ (افْتَرَى) محمد (على اللهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللهُ) أي: خذلانك اللازم للافتراء (يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) فلا تعي القرآن ولا تفهم الوحي، ويسلبك ما أتاك من الله تعالى، أو فتجترئ على الافتراء عليه، وهذا رد واستبعاد لافترائه على الله تعالى. وعن مجاهد: يربط على قلبك بالصبر فلا يشق عليك أذاهم (وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) كلام ابتدائي عطف جملة على جملة لا على الجزاء، ولهذا أعاد اسم الله تعالى، ورفع يحق وحذف الواو من يمحو في اللفظ لالتقاء الساكنين، وفى الخط في بعض المصاحف على خلاف القياس كما في " ويدع الإنسان " [الإسراء: 11] وهذا عدة بمحو الباطل الذي هم عليه، وإثبات الحق الذي عليه المؤمنون بحججه أو بالقرآن أو بقضائه، وقيل: حاصله أن من عادته محو الباطل وإثبات الحق، فلو كان مفتريًا لمحقه وأثبت الحق (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ضميرك

وضميرهم، فيجري الأمر على حسب ذلك (وَهُوَ الذِى يَقْبَلُ التَّوبةَ عَنْ عِبَادِهِ): بالعفو عما تاب عنه، وعدم المؤاخذة به (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) من شأنه قبول التوبة والعفو عن الذنوب، والظاهر من لفظ العفو وعطفه على يقبل التوبة، أن هذا في غير التائب، (وَيعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فيثبت ويعاقب (وَيَسْتَجِيبُ الذِينَ آمَنُوا) أي: يجيب الله تعالى دعاءهم ويثيبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) عما استحقوا، وفى الحديث في تفسير " ويزيدهم " قال - عليه الصلاة والسلام: " الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا ". وعن بعض السلف في قوله: " ويستجيب الذين آمنوا "، قال: يشفعون في إخوانهم وفي قوله: (ويزيدهم من فضله) قال: يشفعون فى إخوان إخوانهم (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) بأن أغناهم جميعًا ووفر الدنيا للكل (لَبَغَوْا): أفسدوا (فِي الْأَرْضِ) بطرا أى: ولم يبسط لئلا يعم البغي ولا يغلب الفساد على الصلاح (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) أي: ينزل ما يشاء من أرزاقهم بتقدير وتعيين، وفي الحديث " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن منهم من لا يصلحه إلا الفقر

(30)

ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه " (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) فيقدر لهم ما يناسبهم (وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ): المطر، قيل: هو المطر النافع (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا): أيسوا منه (وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ): يبسط منافع الغيث، أو ينشر سائر رحمته (وَهُوَ الْوَلِيُّ): المتصرف للأمور (الْحَمِيدُ): المستحق للحمد (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ) أي: نشر، وما موصولة عطف على السماوات (فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ): من حي، ذكر اللزوم وأراد اللازم، أو في السماء دواب من مراكب أهل الجنة وغيرها، وقيل: فيهما، أي: في بينهما يدب على الأرض (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ) للحشر (إِذَا يَشَاءُ) أي وقتٍ شاء (قَدِيرٌ). * * * (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ

شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) * * * (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) من الجرائم فأنتم السبب، والفاء لتضمين " ما " معنى الشرط، ومن قرأ بغير الفاء فمن غير تضمين (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فلا يعاقبكم لا في الدنيا ولا في الآخرة بها " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا " [فاطر: 45] وعن علي - رضي الله عنه - قال: ألا أخبركم بأفضل آية حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ " ما أصابكم من مصيبة " الآية قال: وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم والله أحلم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفى الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه " (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فيصل إليكم لا محالة ما قدر الله تعالى لكم (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) فإنه هو المتولي والناصر وحده (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) أي: السفن كالجبال في

العِظَم، والظرف متعلق بما يتعلق به " من آياته " وكالأعلام حال من ضميره (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ): يصرن (رَوَاكِدَ): ثوابت (عَلَى ظَهْرِهِ) أي: ظهر البحر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ): لكل مؤمن سافر في البحر ورأى عجائبه، فإنه صبر على شدائد البحر وشكر عند الخلاص، والكافر يجزع فلا يشكر (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بمَا كَسَبُوا): يهلك أهلهن بالغرق بسبب ذنوبهم، عطف على يسكن الريح (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) تقديره: أو إن يشأ يعصف الريح، فيوبق بعضًا من أهلهن، وينج بعضًا على العفو عنهم (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا) لإبطالها (مَا لَهمْ مِنْ مَحِيصٍ): مهرب من عذابه المقدر، ومن قرأ بنصب " يعلم " فعنده عطف على تعليل محذوف، أي: يوبقهن لينتقم منهم ويعلم (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ

الدُّنْيَا) لا يبقى بعد الموت (وَمَا عِندَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ وَأَبْقَى) لما كانت سببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمرًا مقررًا في العقول، غنيًّا عن الدلالة عليه بحرف موضوع له، بخلاف سببية كون الشيء عندكم لقلته وحقارته أتى بالفاء في الأول دون الثاني (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) قيل: نزلت في أبي يكر - رضى الله عنه - حين تصدق بجميع ماله ولامه الناس (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ) عطف على (لِلَّذِينَ)، والأصح أن الكبائر: كل ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب والسنة (وَالْفَوَاحِشَ): تزايد قبحه، أو ما يتعلق بالفروج، تخصيص يعد تعميم (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) سجيتهم الصفح لا الانتقام (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ): أجابوه حين دعاهم إلى الطاعة بلسان رسوله - عليه الصلاة والسلام (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ): ذو شورى، لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغيُ): الظلم (همْ يَنْتَصِرونَ) يعني: يعفون فى محل العفو، وينتقمون في محل الانتقام، ليسوا أذلة عاجزين (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) عقب وصف الانتقام بهذا إشارة إلى منع التعدي، وسمى الثانية سيئة للازدواج (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) بينه ويبن عدوه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أبهم الجزاء للتعظيم (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): الذين يبدءون بالظلم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: بعد ظلم الظالم إياه (فأُولَئِكَ) إشارة إلى معنى " من " (مَا

(41)

عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بعقوبة ومؤاخذة (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي: ما السبيل بالمعاقبة إلا (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) لا على من ينتصر (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ) على الأذى (وَغَفَرَ) ولم ينتصر (إِنَّ ذَلِكَ) إشارة إلى صبره، لا إلى مطلق الصبر، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير (لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ): لمن الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة. * * * (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ

عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) * * * (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ): من ناصر يتولاه (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد إضلال الله إياه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) في القيامة (يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبيلٍ): هل طريق إلى رجعة إلى الدنيا؟! (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا): على النار (خَاشِعِينَ): خاضعين (مِنَ الذُّلِّ): مما يلحقهم من الذل (يَنْظُرُونَ): إلى النار (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ): مسارقة فإن الكاره لشيء، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليه (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بالضلال (وَأَهْلِيهِمْ) بالإضلال، وقيل: خسروا أهليهم بأن فرقوا بين أنفسهم وبينهم، لأنَّهُم في النار وأهليهم فى الجنة (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لخسروا، وقال: على التنازع. وهذا القول من المؤمنين حين رأوا أن العذاب أحاط بهم، والماضي من باب ونادى أصحاب الأعراف) [الأعراف: 48]، أو هذا القول منهم في الدنيا (أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) تصديق من الله تعالى أو تتمة كلامهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) إلي الهداية والجنة (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي: أجيبوا أمره وداعيه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) من متعلق بمتعلق له لا بـ مَرَدَّ أي: لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به، وقيل: متعلق بـ يأتي

(مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ): إنكار لأعمالكم، وجاز أن يراد إنكار لوعد الله تعالى ووعيده (فإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإجابة (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَليهِمْ حَفِيظًا): رقيبًا تحفظ أعمالهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ) أي: جنسه (مِنَّا رَحْمَةً) كصحة وغني (فَرِحَ بِهَا) فأشر وبطر (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب قبائحهم (فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ): بليغ الكفران ينسى النعمة رأسًا ويقنط، علق الحكم بصريح اسم الجنس دون الضمير العائد إلى مثله، تسجيلاً على أن هذا الجنس موسوم بالكفران (لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فيقسم

الرحمة والسيئة كيف يشاء (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) وإن لم يشأها (1) (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذكورَ) تأخير الذكور؛ لأن سياق الكلام في إطلاق مشيئة الله تعالى من غير اختيار لغيره، والإناث مما لم يشأه الوالدان، وأيضًا للمحافظة على الفواصل، ولذا عرَّفَه، أو لجبر التأخير أني قدمهن توصية برعايتهن لضعفهن، لا سيما وكُنَّ قريبات العهد بالوأد (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي: المولودين (ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) في موضع الحال من المفعول، وذكر هذا القسم بلفظه أو من غير ذكر المشيئة؛ لأنه ليس قسيمًا على حدة، بل تركيب من السابقين؛ كأنه قيل: يهب لمن يشاء إناثًا منفردات وذكورًا كذلك أو مجتمعين (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِي) فيفعل ما يعلم صلاحه (وَمَا كانَ): ما صح (لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلى وَحْيًا): وهو الإلهام أو المنام (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ): يسمع كلامه ولا يراه، كما لموسى عليه الصلاة والسلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا): ملكًا (فيُوحِيَ) ذلك الرسول إلي المرسل إليه

_ (1) أي الأب أو الخلق.

(بِإِذْنِهِ) أي: الله (مَا يَشَاءُ) أي: الله، ووحيًا وأن يرسل بمعنى: موحيًا ومرسلاً، ويقدر مُسْمِعًا قبل من وراء الحجاب، وكل منها حال، أو الكل مصدر، فإن الوحي والإرسال نوعان من التكلم، ويقدر قبل من وراء حجاب إسماعًا، أو تقديره: بأن يوحي أو يُسمِع من وراء حجاب، أو يُرْسل فنصبه بنزع الخافض (إِنَّهُ عَلِيٌّ) عن مماثلة خلقه (حَكِيمٌ) فيفعل ما يقتضيه حكمته (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد (رُوحًا) أي: وحيًا، فإن حياة القلوب بما أوحى إليه (مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) على التفصيل الذي عرفت بعد الوحي، وعن بعضهم المراد من الإيمان ها هنا الصلاة، كقوله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " [البقرة: 143] (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ) الكتاب أو الإيمان (نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ) بدل (الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) فيحكم فيها بمقتضى عدله وفضله. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الزخرف

سورة الزخرف مكية قيل إلا قوله (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا) وهى تسع وثمانونَ آية وسبع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) * * * (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) أقسم بالكتاب المُظْهِرِ طرق الهدى، أو الظاهر الجلي

معناه، والواو إما للقسم وحم أيضًا قسم، فهو من نمط التعديد، أو للعطف على القسم، أو معناه بحق الكتاب المبين أنه حُمَّ الأمر وقُضي، ثم ابتدأ بقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا): صيرناه عربيًا بلغتكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ) عطف على " إنا " (فِي أُمِّ الْكِتَابِ): اللوح المحفوظ (لَدَيْنَا): عندنا (لَعَلِيٌّ): ذو مكانة وشرف (حَكِيمٌ): ذو حكمة بالغة، والظرف الأول في موقع الحال، والثاني بدل، أي حال كون ذلك متحققا في اللوح ثابتاً عندي، كقولك: زيد عندي كامل الشجاعة، أو هما بيان محل الحكم، أي هذا في أم الكتاب لدينا، وقيل: الأول متعلق بـ (لَعَلِيٌّ)، واللام غير مانع (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكرَ)، نبعد وننحيه عنكم ونترك إنزاله ونعرض عنه (صَفْحًا): إعراضًا، مصدر من غير لفظه؛ لأن تنحية الذكر إعراض أو حال بمعنى معرضين (أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) أي: لئن كنتم، والفاء عطف على محذوف، أي: أنهملكم ونترك

إنزال القرآن لأنكم مسرفون؟! وعن كثير من السلف معناه ألا نذكركم قط ونخليكم ونعرض عنكم ولا نعذبكم ولا نجازيكم لأنكم تركتم أمرنا وأسرفتم؟ كما تقول أحبك أن كنت شتمتني، ومن قرأ " إن كنتم " بالكسر، فمن باب جعل المحقق منزلة المشكوك، ابتناءًا على أن المخاطب كأنه متردد شاك في ثبوت الشرط، قصدًا إلى نسبته إلى الجهل (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي: من القوم المسرفين، وهم قومك (بَطْشًا): قوة، وقيل معناه: فأهلكنا أشد المستهزئين من الأولين بطشًا (ومَضَى) سلف في القرآن (مَثَلُ الْأَوَّلِينَ): قصتهم وحالهم العجيبة، وعن بعضهم معناه مضى عبرتهم، أى: جعلناهم عبرة لمن بعدهم فيه تسلية ووعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعيد للمكذبين (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أنكروا قدرته بالبعث وعبدوا غيره، بعد ما أقروا بكمال قدرته وعزته وعلمه (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) تستقرون فيها، وهذا قول الله - تعالى - من غير حكاية وصفًا منه لذاته في سياق واحد (وَجَعَلَ): خلق (لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد، أو إلى كمال حكمته فتؤمنون (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ): بمقدار معلوم (فَأَنْشَرْنَا): أحيينا، فيه التفات (بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) البلدة بمعنى: المكان، فذكر صفته (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) من قبوركم

(16)

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ): الأصناف (كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) أي: تركبونه، جعل السفينة كالدابة فعدى الفعل إليها بنفسه، فإنه يقال: ركبت في الفلك (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) أي: ظهور ما تركبون (ثُمَّ تَذْكُرُوا) بقلبكم (نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا) بلسانكم (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ): مطيقين (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ): منصرفون راجعون، يذكر ركوب النفس بالبدن وسير العمر، وعن طاوس: حق على كل مسلم إذا ركب دابة أو سفينة، أن يقول ذلك، ويتذكر انقلابه في آخر عمره على مركب الجنازة إلى الله تعالى (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا)، يعني بعد اعترافهم بأن الخالق هو الله تعالى، جعلوا له ولدًا، فإن الولد بضعة وجزء لوالده، فقالوا: الملائكة بنات الله، وقيل معناه: جعلوا جزءًا من عباده، فإنَّهم جعلوا بعض أنعامهم لله تعالى وبعضها لطواغيتهم (إِنَّ الْإِنْسَانَ) جنسه (لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ظاهر الكفران. * * * (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي

الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) * * * (أَمِ اتَّخَد مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ) أي: اتخذ ربكم لنفسه البنات (وَأَصْفاكُمْ): أخلصكم (بِالْبَنِينَ) فالهمزة للإنكار والتعجب من عدم اكتفائهم بنسبة الولد، حتى نسبوا له الجزء الأخس (وَإِذَا بُشِّرَ) الجملة حالية (أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ) بالجنس الذي جعله (لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا): شبهًا فإن الولد شبه الوالد (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) من الحزن (وَهُوَ كَظِيمٌ): مملوء قلبه من الغيظ (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ): يتربى (فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ): في المجادلة (غَيْرُ مُبِينٍ) ليس له بيان أي: تنسبون له من هو ناقص الظاهر -يستكمل نقصه بالحلي- والباطن -لا يقدر على إيراد الحجة على من يخاصمه- وتقديره: أو اتخذ من يُنَشَّأُ، عطف على أم اتخذوا، والهمزة بين المعطوفين لمزيد الإنكار، وفي الخصام متعلق بـ مبين؛ لأن غير في معنى النفي، فجاز تقديمه عليه، وقيل: من مبتدأ حذف خبره، أي: أمن هذا حاله وَكَّده، أو عطف على ما يخلق (وَجَعَلُوا): سموا (الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) فهذا كفر آخر منهم، ومن قرأ " عند الرحمن " فمعناه: قربتهم ورتبتهم (أَشَهِدُوا): حضروا (خَلْقَهُمْ): خلق

الله تعالى إياهم فشاهدوا (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ) على الملائكة (وَيُسْأَلُونَ) عنها يوم القيامة (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ) أن لا نعبد الملائكة (مَا عَبَدْناهُمْ) كفر آخر، فإنهم أرادوا أن كفرهم بمشيئة الله تعالى، فلا يكون منكرًا منهيًّا عنه، بل مأمورًا به، فرأيهم رأي القدرية من أن كل مأمور به مراد، وكل منهي عنه غير مراد (مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يعني: أنَّهم جاهلون كاذبون، مصيبين في استصوابه، معذورين في ارتكابه (أَمْ آتيْنَاهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ): قبل القرآن، بأن يعبدوا غير الله تعالى، وينسبوا إليه الولد، ويقولوا هو راضٍ عنا (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) نسبهم إلى الكذب أولاً، ثم أضرب عنه إلى إنكار سندهم من جهة النقل (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى أُمَّةٍ): دين (وإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) جعلوا من جهلهم تقليد جهلتهم اهتداءًا (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَريةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلى قَالَ

مُتْرَفُوهَا) متنعموها (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فهذه شِنشِنتهم القديمة ليست مخصوصة بقومك (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا

(26)

وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) الظاهر أن قل حكاية أمر ماض أوحي إلى نبينا عليه السلام، ويؤيده قراءة " قال " أي: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى؟! (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانْتَقَمْنَا منْهُمْ) بأنواع من العذاب (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). * * * (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) * * *

(وإِذْ قَالَ) أي: واذكره (إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ) مصدر مستوٍ فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي بريء من معبودكم (إِلا الذِي فَطَرَني) منقطع أو متصل، فإنهم كانوا معترفين بأن الله تعالى هو الإله الأصلي المعبود، و (ما) تعم أولي العلم أو غلَّب غيره؛ لأن أكثر معبودهم الأصنام غير العقلاء (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) الأظهر أن السين لمجرد التأكيد والتسويف، والمضارع للاستمرار (وَجَعَلَهَا) أي: جعل الله تعالى، أو إبراهيمُ كلمة التوحيد (كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) في ذريته لا يزال فيهم من يوحد الله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الضمير للبعض من العقب، أو لهم بحذف المضاف، أي: لعل مشركهم (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ) أي: قومك، فإنهم من عقب إبراهيم (وَآبَاءَهُمْ) في الدنيا فاغتروا بها (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ) القرآن (وَرَسُول مُبِينٌ): ظاهر رسالته (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ) إحدى (الْقَرْيَتَيْنِ) مكة والطائف (عَظِيمٍ) بالجاه والمال أرادوا [الوليد] بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، أو غيرهما فإنهما من الأعاظم، ولا يليق تلك الرتبة العظيمة إلا بمثلهما (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي ليس الأمر مردودًا إليهم، بل إنه يعلم حيث يجعل رسالته، [فإنه] لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبًا ونفسًا، وأشرفهم وأطهرهم وأظهرهم بيتًا وأصلاً، لا على أكثرهم مالاً وجاهًا (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا) فجعلنا البعض غنيًّا والبعض فقيرًا (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) بالمال، ودرجات إما تمييز أو بدل (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) لِيُسَخَّر الأغنياء الفقراء بأموالهم، ويستخدموهم فينتظم العالم، وليس هذا من شرف في الغني ونقص في الفقير (وَرَحْمَتُ

(36)

رَبِّكَ) بخلقه (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ): من الأموال ومن حطام الدنيا (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: لولا كراهة اجتماع الخلق على الكفر لرغبة النفس في الدنيا (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا) لبيوتهم بدل اشتمال من " لمن يكفر "، وجاز تعلقه بـ سقفًا، كما تقول: جعلت لك لوحًا لكتابك (مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ): سلالم ومصاعد منها (عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ): يعلون السطوح، لحقارة الدنيا فيغتروا بها أكثر مما اغتروا (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا): من فضة (عَلَيْهَا) أي: على السرر (يتَكِئونَ وَزًخْرُفًا): ذهبًا، عطف على محل من فضة، والزخرف: الزينة، فعطف على سقفًا، وروي الترمذي وقال: حسن صحيح " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرًا شربة ماء أبدًا " (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إن نافية، و (لَمَّا) بمعنى إلا، ومن قرأ (لَمَا) بالتخفيف فإن مخففة، واللام هي الفارقة، وما صلة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي: خاصة لمن هو متقي عند الله وفى عمله، أو حاصل عند الله تُعَدُّ لهم. * * * (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ

ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) * * * (وَمَنْ يَعْشُ): يعرض (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ) نسبب له ونسلط عليه (شَيْطَانًا) يزين له الغواية، ويصده عن الهداية (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ): لا يفارقه (وَإِنَّهُمْ) أى: الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) جمع الضميرين للمعنى (عَنِ السَّبِيلِ): عن طريق الحق (وَيَحْسَبُونَ) أي: الكفار (أَنَّهُمْ) أي: أنفسهم (مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) الكافر (قَالَ) للشيطان (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) بعد المشرق من المغرب، فغلب وأضاف البعد إليهما بعد التثنية (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أنت (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) هذا قول الله تعالى أو الملك لهم (ذْ ظَلَمْتُمْ) أي: إذ يتبين ظلمكم أنفسكم في الدنيا فإذ لتحقق الوقوع، والمعنى على الاستقبال كما في (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا)

[الأنعام: 27، 30] وجاز أن يكون بدلاً من اليوم (أنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) أي: لا ينفعكم اشتراككم واجتماعكم في العذاب؛ لأن لكل نصيبه الأوفر، فإنكم فاعلُ لن ينفعكم، وفاعله ضمير يرجع إلى التمني المستفاد من قوله: " يا ليت " وإنكم علة أى لأنكم في العذاب مشتركون (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) همزة الإنكار، فإنه عليه السلام يتعب روحه في إهدائهم (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي ليس هذا في وسعك، والقادر على ذلك هو الله تعالى وحده (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) فإن قبضناك قبل أن نعذبهم، وما زائدة للتأكيد بمنزلة لام القسم في استجلاب نون التأكيد (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) بعد موتك (أَوْ نُرِيَنَّكَ) أي: إن أردنا أن نريك (الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ) من العذاب (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) من الشرائع (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ) أي: الذي أوحي إليك (لَذِكرٌ): لشرف (لَكَ وَقِوْمِكَ) حيث إنه أنزل بلغتهم، فينبغي أن يكون أقوم الناس، أو لتذكير لك ولقومك وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) عن حقه (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) السؤال عن الرسل سؤال عن أممهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود " واسئل الذين أرسلنا إليهم قبلك رُسلَنا " (أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي: هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، ومعنى الأمر به التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى، وعن بعض السلف: جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم، فلم يشك ولم يسأل. * * *

(46)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) فاجئوا بالاستهزاء بالآيات (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) أي: صاحبتها التي كانت قبلها، أو هو تمثيل باتصاف الكل بالكمال، بحيث لا يظهر التفاوت ويظن عند النظر بكل واحد أنه أفضل

من البواقي (وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَاب) كالطوفان والجراد وغيرهما (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يرجعوا عن الكفر (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ) أي: العالم الكامل وهذا تعظيمه منهم، فإن السحر عندهم فضيلة لا نقيصة، أو لفرط حيرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) بكشف العذاب عنا (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ): بسبب عهده عندك أن يجيب دعوتك، أو بحق ما عندك من عهد الله تعالى وهو النبوة، أو بحق الإيمان، أو بسبب ما عهده الله تعالى من كشف العذاب لمن آمن (إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ): مؤمنون (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) فاجئوا نكث العهد (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) أمر بالنداء، أو هو نادى بنفسه في مجمع عظمائه (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ) أنهار النيل عطف على ملك مصر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) تحت قصري أو أمري، جملة حالية، أو خبر لهذه الأنهار، والواو للحال (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ذلك (أَمْ أَنَا خَيْرٌ): بل أنا خير، والهمزة للتقرير والتحقيق، وقيل: أم متصلة حاصله، أفلا تبصرون أم تبصرون، من إقامة المسبب موقع السبب، فإن إبصارهم سبب لقولهم: أنت خير (مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ): حقير (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ): يفصح ويعرب عما في ضميره، لما في لسانه من اللكنة (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي: هلا ألقى رب موسى عليه أسورة إن كان سيدًا مطاعًا، فإنهم إذا كانوا سودوا رجلاً، سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب، يكون ذلك دلالة

(57)

لسيادته (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ): مقرونين يصدقونه، أو متتابعين يشهدون له مرة بعد أخرى (فَاسْتَخَفَّ) أي فرعون (قَوْمَهُ) حملهم على الخفة والجهل (فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) فأطاعوا فساقا (فَلَمَّا آسَفُونَا): أغضبونا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ) في اليم (أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا): متقدمين، ليتفكروا المتأخرون فيهم ويتعظوا (وَمَثَلًا): قصة عجيبة (لِلْآخِرِينَ). * * * (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) * * *

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) لما نزل " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " [الأنبياء: 89] جادل ابن الزبعري وقال: رضينا، إن آلهتنا مع عيسى فجعلوه مثلاً حجة سائدة، أو مقياسًا ومثالاً في بيان إبطال ما ذكر من أنكم وما تعبدون (إِذَا قَوْمُكَ): قريش (مِنْهُ يَصِدُّونَ): يضجون فرحًا بأنه أسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن قرأ بضم الصاد فمعناه: من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، وعن الكسائي: هما لغتان كـ يعرُش ويعرِش، قال الواحدي: إذا قومك المؤمنون يضجون من هذا يعني غمًّا وشكًّا (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ) عندك (أَمْ هُوَ) أي: عيسى فإن كان هو حصب جهنم فليكن آلهتنا كذلك (مَا ضَربوهُ) أي: المثل (لَكَ إِلَّا جَدَلًا) لأجل الجدل فإنه معلوم لكل من له نظر، أن المراد مما تعبدون: الأصنام، سيما إذا جعل

(مَا) لغير العقلاء على ما هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) فهذا رد الله تعالى عليه إجمالاً، وتفصيله في موضع آخر، حيث قال: " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى " كالملائكة وعيسى وعزير (أولئك عنها مبعدون) (إِنْ هوَ): عيسى (إِلَّا عَبْدٌ أَنعَمْنَا عَلَيْهِ) بالنبوة (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا): أمرا عجيبًا (لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ) بدلكم (مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي: يخلفونكم في الأرض يعبدونني، فالملائكة وعيسى لا يستحقون الألوهية، وقيل: معنى لجعلنا منكم لولدنا منكم يا رجال ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير فحل، لتعرفوا أن الملائكة مثلكم أجسام، وأن الله تعالى قادر على كل شيء (وَإِنَّهُ): عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي: علامتها، فإن نزوله من أشراطها وقيل ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وغيرها، كفى به دليلاً على علم الساعة وقيل: الضمير للقرآن فإن فيه الدلالة عليها، (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا): لا تشكن فيها، (وَاتَّبِعُون) أي: شرعي وما أخبركم به، (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ): أي ما أدعوكم إليه صراط لا يضل سالكه، (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ): عن اتباعه، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ): النبوة، (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) هو من عطف الجملة أي: جئتكم بالحكمة وجئتكم لأبين لكم، وجاز عطفه على محذوف عام، أي: جئتكم بالحكمة لمصالحكم ولأبين، (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي: بعضًا توضيحه صلاح دينكم، أو بعض ما أنتم تختلفون فيه من أحكام التوراة فإن الذي لم يختلفوا فيه لما احتاج إلى تبيين، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفرق المتحزبة، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله، ومنهم من يدعي أنه ولد الله أو هو الله ومنهم من يدعي أنه كذاب، (فَوَيْلٌ

(68)

لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ): ينتظرون، (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ): إلا إتيان الساعة، وأن تأتيهم بدل من الساعة، (بَغْتَةً): فجأة، مفعول مطلق، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) لإنكارهم، أو لانهماكهم في دنياهم، يعني: أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم ينتظرونها، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يومئذ ظرف، عدو والفصل بالمبتدأ غير مانع، (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن محبتهم تبقى. * * * (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)

سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) * * * (يَا عِبَادِ): حكاية لما يُنَادَى به المتحابون المتقون، (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ): منصوب على المدح، (آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ): المؤمنات، (تُحْبَرُونَ)، تسرون، (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ): جمع صحفة (مِنْ ذَهَبٍ وَأَكوَابٍ): جمع كوب وهو كوز لا عروة له، (وَفِيهَا): في الجنة، (مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ): بمشاهدته، وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين فلم يذكرها، (وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهو من أتم النعم، (وَتِلْكَ): الجنة المذكورة، (الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، والجنة إما خبر، والَّتِي أُورِثْتُمُوهَا صفة لها، أو صفة

والتي خبر، أو هما صفتان والظرف خبر، (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ): يبقى بعضها، أبدًا لا تجد شجرة عريانة من الثمرة، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ): لا يخفف ولا ينقص، (وَهُمْ فِيهِ)، في العذاب، (مُبْلِسُونَ): ساكتون سكوت يأس، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ): على أنفسهم، (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ): من قضى عليه، إذا أماته وهو تمني الموت من فرط شدتهم وحيرتهم، وهذا الكلام والنداء قبل الإبلاس وقبل أن يقال لهم: (اخسئوا فيها ولا تكلمون) [المؤمنون: 108]، (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ): المكث يشعر بالانقطاع ولا انقطاع ففيه استهزاء، (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ): جواب من الله تعالى بعد جواب الملك، أو في قال ضمير يرجع إلى الله تعالى، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا): أحكموا، (أَمْرًا)، في رد الحق بحيل ومكر، (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ): كيدَنا في مجازاتهم، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ): ما يخفون من الغير، (وَنَجْوَاهُمْ): ما تكلموا به فيما بينهم، (بَلَى): نسمعهما، (وَرُسُلُنَا): أي الحفظة، (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ): ذلك، (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ

الْعَابِدِينَ)، لذلك الولد جعل ثبوت الولد ملزومًا لأمر منتف محال في اعتقاده، وهو عبادته للولد، لكن اللازم منتف فكذا الملزوم، والغرض نفي الولد على أبلغ وجه قال تعالى: " لو أراد الله أن يتخذ ولدًا " [الزمر: 4] وعن بعضهم معناه: إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله تعالى فإن من عبد الله تعالى فقد دفع أن يكون له ولد، أو معناه: فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد، المنكرين لما قلتم، يقال: عَبِد يَعْبَد: إذا اشتد أنفه أو إن نافية، أي: ما كان له ولد، فأنا أول من قال بذلك (1)، (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ): من كونه ذا ولد، (فَذَرْهُم يَخُوضُوا): في الباطل، (وَيَلْعَبُوا): في الدنيا، (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي: القيامة، (وَهُوَ الذِى فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلَهٌ) أي: هو إله فيهما، فالظرف متعلق بأل لما فيه من معنى الوصفية، أو لأنه بمعنى المعبود بالحق، (وَهُوَ الْحَكِيمُ): في التدابير، (الْعًلِيمُ)، بكل شيء فلا يحتاج إلى ولد، (وَتَبَارَكَ

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لَوْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الشَّكِّ فِي إِثْبَاتِ وَلَدٍ لله تَعَالَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَلَا جَرَمَ افْتَقَرُوا إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنِ الظَّاهِرِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ خَبَرِيَّتَيْنِ أَدْخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا حَرْفَ الشَّرْطِ وَعَلَى الْأُخْرَى حَرْفَ الْجَزَاءِ فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِهِمَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَمِثَالُهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ثُمَّ أَدْخَلَ حَرْفَ الشَّرْطِ وَهُوَ لَفْظَةُ إِنَّ عَلَى الْقَضِيَّةِ الْأُولَى وَحَرْفَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْفَاءُ عَلَى الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَحَصَلَ من مجموعهما قضية الأولى واحدة، وهو الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا للجزاء، وليس فيه إِشْعَارٌ بِكَوْنِ الشَّرْطِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ بِكَوْنِ الْجَزَاءِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، بَلْ نَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ قَدْ تَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْ قضيتين حقيتين أَوْ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ أَوْ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَجَزَاءٍ حَقٍّ أَوْ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ فَهَذَا مُحَالٌ. وَلْنُبَيِّنْ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانًا فَالْإِنْسَانُ جِسْمٌ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ وهي مركبة من قضيتين حقيتين، إِحْدَاهُمَا قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ زَوْجٌ، وَمِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَكَوْنُهُمَا بَاطِلَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا للآخر حقا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا مُجَرَّدَ الِاسْتِلْزَامِ وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ، فَهَذَا جِسْمٌ، فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَجَرٌ، وَمِنْ جُزْءٍ حَقٍّ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا لِأَنَّ الْبَاطِلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ فرض وقوعه وقوع حق، فإنا فَرَضْنَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ حَجَرًا وَجَبَ كَوْنُهُ جِسْمًا فهذا شرط باطل يستلزم جزءا حَقًّا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ تَرْكِيبُ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ حَقَّةٍ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَهَذَا/ مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْحَقِّ مُسْتَلْزِمًا لِلْبَاطِلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْبَاطِلِ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَقِّ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَمِنْ جَزَاءٍ بَاطِلٍ لِأَنَّ قَوْلَنَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ بَاطِلٌ، وَقَوْلَنَا أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ بَاطِلٌ أَيْضًا إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاطِلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ حَقًّا كَمَا ضَرَبْنَا مِنَ الْمِثَالِ فِي قَوْلُنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا امْتِنَاعَ فِي إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَكَمَا يَجِبُ عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يَخْدِمَهُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ وَلَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِثْبَاتِ وَلَدٍ أَمْ لَا. وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَهَذَا الْكَلَامُ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُنَا فِيهِما آلِهَةٌ وَالْجَزَاءُ هُوَ قولنا لَفَسَدَتا فَالشَّرْطُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَالْجَزَاءُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ، وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ بِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا مَا فَسَدَتَا ثُمَّ مَعَ كَوْنِ الشَّرْطِ بَاطِلًا وَكَوْنِ الْجَزَاءِ بَاطِلًا كَانَ اسْتِلْزَامُ ذَلِكَ الشَّرْطِ لهذا الجزاء حقا فكذا هاهنا، فإن قالوا الفرق أن هاهنا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ بِصِيغَةِ لَوْ فَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا إِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةَ إِنْ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، بَلْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الشَّكَّ فِي أَنَّهُ هَلْ حَصَلَ الشَّرْطُ أَمْ لَا، وَحُصُولُ هَذَا الشَّكِّ لِلرَّسُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، قُلْنَا الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ مَقْصُودَنَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كون الشرطية صادقة كون جزءيها صَادِقَتَيْنِ أَوْ كَاذِبَتَيْنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لَفْظَةَ إِنْ تُفِيدُ حُصُولَ الشَّرْطِ هَلْ حَصَلَ أَمْ لَا، قُلْنَا هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ حَرْفَ إِنْ حَرْفُ الشَّرْطِ وَحَرْفُ الشَّرْطِ لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا لِلْجَزَاءِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ أَوْ مَشْكُوكُ الْوُقُوعِ، فَاللَّفْظُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، فَظَهَرَ مِنَ الْمَبَاحِثِ الَّتِي لَخَّصْنَاهَا أن الكلام هاهنا مُمْكِنُ الْإِجْرَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ وَأَنَا أَوَّلُ الْخَادِمِينَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ أَنِّي لَا أُنْكِرُ وَلَدَهُ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَالْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَدِ كُنْتُ مُقِرًّا بِهِ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَلَدُ وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ؟ بَلِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ قَائِمٌ عَلَى عَدَمِهِ فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ وَكَيْفَ أَعْتَرِفُ بِوُجُودِهِ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ كَامِلٌ لَا حَاجَةَ بِهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَالْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مُمْكِنٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالتَّقْرِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي/ قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من التأويل فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ كَثُرَتِ الْوُجُوهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَيِ الْمُوَحِّدِينَ لله الْمُكَذِّبِينَ لِقَوْلِكُمْ بِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ يَثْبُتْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ لَهُ أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنْ يثبت لكم ادعاء أن لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا فَأَ

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، لا عند غيره، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): للجزاء، (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ) أي: آلهتهم، (الشَّفَاعَةَ): كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ): بالتوحيد، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، حقيقة ما شهدوا به ولا يكونون منافقين، والاستثناء متصل، أي: لا يملكها أحد من المعبودين إلا الموحدين كالملائكة، وعيسى، فإن لهم الشفاعة بإذنه لمن ارتضى أو منقطع أي: متعلق الذين بالأصنام، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ): يصرفون من عبادته إلى عبادة غيره، (وَقِيلِه): بالنصب مفعول مطلق أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيله أي: شكى إلى ربه شكواه من قومه فقال: (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ)، أو عطف على سرهم ونجواهم أو على معنى وعنده علم الساعة أي: يعلم الساعة، و " قيله " وبالجر عطف على الساعة أي: عنده علم قيله، (فَاصْفَحْ): أعرض، (عَنْهُمْ)، ولا تجادلهم بمثل ما يخاطبونك من الكلام السيء، (وَقُلْ سَلَامٌ) أي: أمري وشأني تَسلُّم ومسالمة منكم، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ): غِبَّ ما فعلوا، فهذا وعيد أكيد لهم، ومن قرأ بالتاء فهو أيضًا من مقول قل. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الدخان

سورة الدخان مكية إلا قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ) وهى سبع أو تسع وثلاثون آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) * * * (حم وَالْكِتَابِ المبينِ)، الواو للعطف، إن كان حم مقسمًا بها بإضمار حرف القسم، والجواب قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ)، أي: الكتاب المبين، (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر: 1] أنزل فيها جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم أنزل مفصلاً بحسب الوقائع، وعن بعض: هي ليلة النصف من شعبان، (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ): محذرين بإنزال الكتاب، مستأنفة تبين

فائدة الإنزال، (فيهَا): في تلك الليلة، (يفْرَقُ): يفصل ويثبت (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ): محكم لا يبدل من الأرزاق والآجال وجميع أمرهم إلى [السنة]، الآية، قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر: 4]، (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)، نصب على الاختصاص، أي: أعني به أمرًا حاصلاً من عندنا، أو حال من كل، أو من ضمير حكيم، (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)، إلى الناس يتلو عليهم آياتنا، بدل من إنا كنا منذرين، أي: أنزلنا القرآن، لأن من عادتنا إرسال الرسل، (رَحْمَةً مِّن ربِّكَ)، مفعول له، وقيل " إنا كنا " علة ليفرق، ورحمة مفعول به، أي: يفصل الأمور فيها، لأن من شأننا إرسال الرحمة، وفصل الأمور من باب الرحمة، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، للأقوال والأحوال، والرب لا بد أن يكون كذلك، (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنينَ): في إقراركم بأن الله خالق السماوات والأرض، تعرفون مضمون ما ألقى إليكم من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتعترفوا به، فإن الكفرة معترفون بأن خالق الأشياء هو الله، أو معناه إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)، في الدنيا، رد لكونهم موقنين، (فَارتقِبْ): انتظر لهم، (يَوْمَ)، مفعول به لارتقب، (تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ): هو الدخان الموعود، الذي هو من علامة قرب القيامة البين الواضح، الذي يراه كل أحد، وإليه ذهب حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم مع الأحاديث من

الصحاح والحسان، (يغشَى النَّاسَ): يحيط بهم، أما المؤمن فيصيبه كالزكام، وأما الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، (هَذَا عَذَابٌ أَلِيم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ)، أي: قائلين هذا عذاب إلى مؤمنون، (إِنَّا مُؤْمِنُونَ)، وعد بالإيمان إن كشف عنهم، كأنه قيل: إن تكشف فإنا مؤمنون، (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى): من أين لهم التذكر؟ (وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ)، قال بعضهم: يعلمه غلام أعجمي، (مَّجنونٌ)، وقال بعضهم: مجنون، يعني: لا يتأتى منهم التذكر بهذا السبب، فإنه قد جاءهم أسباب أعلى من هذا، وما التفتوا إليها، (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا): زمانًا قليلاً يكشف الله تعالى الدخان، قيل: بعد أربعين يومًا فيرتدون، ولا يفون بوعدهم، (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ): في الكفر، ولا يلزم أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم بالكلية، ثم عادوا إليه، قال تعالى حكاية عن شعيب: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا) [الأعراف: 89] ولم يكن شعيب قط على ملتهم، قال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله تعالى، (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى)، هو يوم القيامة، (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)، منهم، والعامل في " يوم "

فعل دل عليه " إنا منتقمون "، لأن إن مانع من عمله فيما قبله، أو بدل من " يوم تأتي "، وعن ابن مسعود رضي الله عنه وبعض آخر من السلف أن المراد من الدخان الظلمة التي في عام القحط من قلة الأمطار، وكثرة الغبار، أو ما يرى الجائع كهيئة الدخان من المجاعة من ضعف بصره، حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتجئوا وقالوا: ادع الله تعالى لئن يكشف عنا لنؤمن لك، فدعا وكشف ولم يؤمنوا، فانتقم الله تعالى منهم يوم بدر، وهو البطشة الكبرى، (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ): قبل قريش، (قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)، على الله، (أَنْ أَدُّوا)، أن مفسرة، (إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ): بني إسرائيل، وأرسلوهم معي ولا تعذبوهم، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، على الوحي، (وَأَن لَا تَعْلُوا): لا تتكبروا، (عَلَى اللهِ)، بترك طاعه، (إِنى آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مبِين): حجة ظاهرة على صدق قولي، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ): التجأت إلى الله تعالى، (أَن تَرْجُمُونِ): تقتلوني، أو تشتموني فإنه الرجم باللسان، (وَإِن لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُون): كونوا بمعزل مني، لا تتعرضوا إلى بسوء، (فَدَعَا رَبَّهُ)، شاكيًا بعد ما كذبوه، (أَنَّ هَؤُلاءِ)، أي: بأنَّهم، (قَوْمٌ مجْرِمُونَ فَأَسْرِ

بِعِبَادِي)، أي: قال الله تعالى، إذا كان الأمر كذلك فأسر ببني إسرائيل، (لَيْلاً): قبل الصبح، (إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ): يتبعكم القبط، (وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا)، أي: اتركه حين قطعته، وعبرت ساكنًا كهيئته، ولا تأمره بأن يرجع إلى ما كان، وذلك لما جاوز أراد أن يضرب بعصاه، حتى يعود كما كان ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون، فأمر الله تعالى أن يتركه على حاله، (إِنَّهُمْ جُندٌ مغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا)، كثيرًا تركوا، (مِن جَنَّات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)، في مصر وقراه، (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ): متنعمين، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، (وَأَوْرَثناهَا)، عطف على الفعل المحذوف، (قَوْمًا آخَرِينَ)، بني إسرائيل، (فمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ)، لكل مؤمن باب في السماء ينزل منه رزقه، ويصعد فيه عمله، فإذا مات أغلق بابه فقد بكا عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض بكت عليه وليس لقبط عمل صالح فما بكت، وكلام بعض السلف: على أن بكاء الباب المذكور لكل مسلم، وأما بكاء السماء مطلقًا فما بكت منذ كانت الدنيا إلا على اثنين يحيى بن زكريا، وحسين بن عليٍّ عليهما السلام (1) لما قتلا احمرت السماء وبكت، وقيل: مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم، قالت العرب في موت عظيم: بكته الريح وأظلمت له الشمس، (وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ): ممهلين لتوبة وغيرها. * * *

_ (1) هذا من كلام زيد بن زياد، وهو يفتقر إلى ما يؤيده.

(30)

(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) * * * (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ): قتل الأبناء واستخدام النساء، (مِن فِرْعَوْنَ)، حال من ضمير المهين، أو بدل من العذاب، (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ): في الشرارة، (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ)، بني إسرائيل، (عَلَى عِلْمٍ): عالمين بأنَّهم أحقاء، (عَلَى الْعَالَمِينَ): على عالمي زمانهم، (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ)، على يدي موسى، (مَا فِيهِ بَلاءٌ): اختبار أو نعمة، (مُبِينٌ إِنْ هَؤُلاءِ) قريشًا والكلام فيهم، وحكاية القبط لتذكيرهم، (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى)، التي هي بعد الحياة الدنيا، وليست بعدها موتة القبر، فلا حياة فيه، (وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ): من القبور، نفوا أولاً بقوله: إلا موتتنا الأولى الإحياء في القبر بنفي الإماتة فيه، ثم نفوا البعث والإحياء بعد القبر، وهي ضمير مبهم يفسره الخبر، أو ما نهاية الأمر إلا الموت الذي بعد حياة الدنيا، يعني: ليس بعده إلا الفناء المحض، ولهذا

صرحوا بقولهم: وما نحن بمنشرين، (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: إن صدقتم أنه يمكن النشور بعد الموت، فاسألوا ربكم إحياء من مات من آبائنا، حتى نعلم صدق ما تقولون، (أَهُمْ): قريش، (خَيْرٌ)، في القوة، والمنعة، (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ): وهم سبأ، أهلكهم الله تعالى، وخرب ديارهم وفرقهم شذر ومذر، وتبع اسم لمن [ملك] فيهم، كما أن كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر للروم، وفرعون لمصر، والنجاشي للحبشة، وهو الذي بنى سمرقند، وفي الحديث (لا أدري أتبع كان نبيًا أم لا) وقد ورد أيضًا (لا تسبوا تبعًا، فإنه كان قد

أسلم) وهو كان في زمن موسى - عليه السلام، (وَالذِينَ مِن قَبْلِهِمْ): من الأمم الكافرة، (أَهْلَكنَاهُمْ)، هدد بهم قريشًا، (إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)، كقريش، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا): بين الجنسين، (لاعِبِينَ): لاهين، (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ): بسبب الحق وهو البعث والجزاء وغيرهما، (وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ): فصل الحق والمحق عن الباطل والمبطل، (ميقَاتُهُمْ): وقت وعدهم، (أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي)، بدل عن يوم الفصل، (مَوْلًى)، أي مولىً كان من قرابة أو غيرها، (عَنْ مَوْلًى)، أي مولىً كان، (شَيْئًا)، من الإغناء مصدر، (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، الضمير إما للمولى " الأول، أي: هم ليسوا بناصر، ولا بمنصور، وجاز عوده إلى الثاني، أو إليهما، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ)، بدل من واو " ينصرون "، أو نصب على الاستثناء منه، فإنه جاز النصب، والمختار البدل، والمراد

(43)

المؤمنون، (إِإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ)، الغالب الذي لا يُغْلَب، (الرَّحِيمُ)، لمن كان أهل الرحمة. * * * (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) * * * (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ)، سبق في الصافات بيانه، (طَعَامُ الأَثِيمِ): كثير الإثم أي: الكافر لأن الكلام فيه، (كَالْمُهْلِ): دُرْدِي الزيت، وقيل: هو ذائب الفضة والنحاس، (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ)، ومن قرأ " يَغْلِي " بالياء فباعتبار أن الشجرة طعام الأثيم، (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)، غليانًا مثل غليان الماء الشديد الحرارة، (خُذُوهُ)، أي: قلنا للزبانية: خذوا الأثيم، (فَاعْتِلُوهُ): سوقوه بعنف، (إِلَى سَوَاءِ الجَحِيمِ): وسطها، (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ)، الملك يضربه بحديد فيفتح دماغه، ثم

يصب الحميم على رأسه فيسلت ما في بطنه من الأمعاء، فيتمزق على كعبيه، أعاذنا الله تعالى من ذلك، (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)، أي: قولوا له ذلك سخرية وتقريعًا، وعن عكرمة: أنه عليه السلام قال لأبي جهل: (أمرني الله تعالى أن أقول لك أولى لك فأولى)، فقال: ما تستطيع لي ولا صاحبك من شيء إنى أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم، فقتله الله قعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته، وأنزل: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)، وذكر غير واحد من السلف: أن المراد من الأثيم أبو جهل، (إِنَّ هَذَا): العذاب، (مَا كنتُم بهِ تَمْتَرُونَ): ما تشكون فيه، (إِنَّ الُمتقِينَ فِي مَقَامٍ): موضع إقامة، (أَمِين): يَأمن صاحبه عن كل مكروه، (فِي جَنَّاتٍ)، بدل من مقام، (وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ)، خبر ثان، أو حال، أو استئناف، (مِن سنُدُسٍ): ما رَقَّ من الحرير، (وَإِسْتبْرَقٍ): ما غلظ منه، (مُّتَقَابِلِينَ)، لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره لأنس بينهم، (كَذَلِكَ)، أي: الأمر كذلك، أو أثبناهم مثل ذلك، (وَزَوجْنَاهُم بحُورٍ): قرناهم بهن، والحور: النساء النقيات البياض، (عِينٍ): عظيمة العينين، (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ): يأمرون بإحضار أنواع الفواكه، (آمِنينَ)، من كل مكروه، (لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ)، بل حياتهم أبدية، (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى)، لكن ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا، قيل الاستثناء للمبالغة، فإن الغرض من إعلام أنَّهم لا يذوقون الموت أصلاً، كأنه قال: لو فرضنا ذوق الموت في

الجنة لما ذاق إلا الموتة الأولى وذوق تلك الموتة محال، لأنها ماضية، فالذوق محال، (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، أي: أعطي كل ذلك تفضلاً، (من ربكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ): سهلنا القرآن، (بِلِسَانِكَ)، فإنه بلغتك، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): لكي يفهمونه فيتعظون به، (فَارْتَقِبْ): انتظر الفتح أو ما يحل بهم، (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ): ما يحل بك من الدوائر. فالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

(1)

سورة الجاثية مكية وهى سبع أو ست وثلاثون آية وأربع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) * * * (حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ)، إن كان حم اسمًا للسورة مبتدأ، فلابد من تقديرٍ أي: تنزيل حم تنزيل الكتاب، إذ السورة نفسها ليست بتنزيل، فإن كان المراد من الكتاب

السورة، ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر، كما تقول: شعرُ نابغة شعره، وإن كان المراد القرآن فالمعنى على التشبيه، أي: تنزيل حم كتنزيل سائر القرآن في البيان، والهداية والإعجاز والحكمة، (مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)، وقيل: حم قسم وتنزيل صفته، وجوابه قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ للْمُؤْمِنِينَ)، كالكواكب والحيوان والمعادن، (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ)، عطف على خلقكم، (مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، من قرأ برفع (آياتٌ) فمحمول على محل اسم إن، ومن قرأ بنصبها فعلى لفظه، (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ)، أي: المطر، فإنه سبب الرزق، (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ

الرِّيَاحِ): جنوبًا وشمالاً وغيرهما، (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، في (آيات) قراءتان، وعلى الوجهين عطف على معمولي عاملين مختلفين، إلا أن تقول اختلاف عطف على في السماوات، بتقدير: في لا أنه عطف على السماوات، (تِلْكَ): الآيات، (آيَاتُ اللهِ): دلائله (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ)، حال عاملها معنى الإشارة، (بِالْحَقِّ)، متلبسين، أو متلبسة به، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ): أي بعد حديثه، (وَآيَاتِهِ): دلائله أو كتابه، فيكون العطف لمغايرة الوصفين، أو هو كقولهم: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرمه، فمعنى بعد الله وآياته بعد آياته، وتقدم اسم الله تعالى للتعظيم، (يُؤْمِنُونَ وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ): كذاب كثير الإثم، (يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ)، على كفره، وثم لاستبعاد الإصرار بعد السماع، (مُسْتَكْبِرًا)، عن الانقياد، (كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا)، أي: كأنه، والجملة حال، أي: يصر مثل غير السامع، (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا)، أي: علم شيئًا أنه من الآيات،

(12)

(اتَّخَذَهَا هُزُوًا)، مقتضى الظاهر ضمير المذكر الراجع إلى شيئًا فأنثه لأن الشيء للآية أو لأنه راجع إلى الآيات، بمعنى إذا علم شيئًا أنه من جملة الآيات، تجاوز في الاستهزاء إلى جميع الآيات إجمالاً، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مهِينٌ مِن وَرَائِهِمْ): من خلفهم، (جَهَنَّمُ)، فإنه بعد آجالهم، أو من أمامهم، (وَلاَ يُغْنِي): لا يدفع، (عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا)، من العذاب، (وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ)، أي: الأصنام، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا): القرآن، (هُدًى): كامل في الهداية، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ ربهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ من رِّجْزٍ): هو أشد العذاب، (أَلِيمٌ). * * * (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)

إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) * * * (اللهُ الَّذِي سَخرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِه): بتسخيره، (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ)، بالتجارة وغيرها، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، هذه النعم، (وَسَخرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ)، مسخران لنا من حيث أنا ننتفع بهما، (جَمِيعًا مِنْهُ)، منه حال من ما، أي: كائنًا من الله تعالى، وجميعًا حال من فاعل منه، أو تقديره هى من الله جميعًا، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل للَّذِينَ آمَنُوا يَغفِرُوا)، حذف المقول لدلالة الجواب عليه، أي: قل لهم: اغفروا، إن تقل لهم: اغفروا يغفروا أى: يعفوا، (لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ)، لا يخافون وقائعه ونقمته، كانوا في الابتداء مأمورين بالصبر على أذى المشركين، ثم نزلت آية القتال، وعن بعضهم: أنها نزلت في عمر رضي الله عنه، حين هم أن يبطش من شتمه بمكة وأمر بالعفو، فعلى هذا لم تكن الآية منسوخة، (لِيَجْزِيَ قَوْمًا بمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، أي: اعفوا أنتم عنهم ليجزيهم الله تعالى سوء أعمالهم، ويكون تنكير قومًا للتحقير، وقيل المراد من القوم المؤمنون الذين صبروا حينئذ، المراد بما كانوا يكسبون: المغفرة والعفو، فالتنكير للتعظيم، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)، فيجازيكم، (وَلَقَدْ آتيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ)، الحكمة،

أو فصل الخصومات، (وَالنُّبوَّةَ)، إذ فيهم كثير من الأنبياء، (وَرَزَقْناهُم مِّن الطيِّبَاتِ): كالمنِّ والسلوى، (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، عالمي زمانهم، (وَآتيْنَاهُم بَينَاتٍ منَ الأَمْرِ)، أدلة من أمر الدين، (فَمَا اخْتَلَفُوا): في الأمر، (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ)، الموجب لزوال الخلاف، (بَغْيًا): حسدًا أو عداوة، (بَينَهمْ)، وعن بعض: معناه آتيناهم أدلة على مبعث محمد عليه السلام، فما اختلفوا إلا بعد القرآن حسدًا، (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ): يا محمد، (عَلَى شَرِيعَةٍ): سنة وطريقة، (مِّنَ الأَمْرِ): من الدِّين، (فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ): آراء، (الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغنوا): يدفعوا، (عَنكَ مِنَ اللهِ): من عذابه، (شَيئًا)، إن اتبعتهم، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)، لا توالهم، فإنما يوالي الظالين من هو مثلهم، وأما المتقون فوليهم الله تعالى وهم موالوه، (هَذَا): القرآن، (بَصَائِرُ

(22)

لِلنَّاسِ): يبصرهم رشدهم، (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ): يطلبون اليقين، (أَمْ حَسِبَ): بل أحسب، فالهمزة لإنكار الحسبان، (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا): اكتسبوا، (السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ): نصيرهم، (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي: مثلهم، (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)، بدل من ثاني مفعولي نجعل، والضمير للمسيئين، ومحياهم ومماتهم مرفوع على الفاعلية، أي: مستويًا محيا المسيئين ومماتهم، ومحياهم رغد ومماتهم نكد، أو الضمير لهم وللمحسنين، أي: مستويًا محيا الفريقين، وهم في طاعة وهؤلاء في معصية، ومماتهم وهم في البشرى بالرحمة، وهؤلاء في اليأس منها، فهم أكرم فى الدنيا والآخرة، أو منصوب بتقدير أعني، وقيل حال من المفعول الأول، أي: مستويًا فى البعد عن الرحمة، أو من المفعول الثاني، أي: مستويًا في القرب عن الرحمة، ومن قرأ برفع (سَواءٌ) فالجملة بدل أيضًا كما تقول: حسبت زيدًا أبوه منطلق، (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، أي: بئس حكمهم هذا. * * * (وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) * * *

(وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ)، أي: كيف يستوي، وقد خلقهما بالحق المقتضي للعدل، (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، عطف على معنى بالحق، فإنه بمعنى خلقهما للعدل والصواب لا للعبث، أو عطف على علة محذوفة، (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون)، فإذا استوى المسيء والمحسن فلا يكون للعدل والجزاء، ويكون المحسن مظلومًا، (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، من لا يطاوع ربه، بل يطاوع هواه فهواه ربه، (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ)، حال من الفاعل، أي: عالمًا بضلاله في الأزل، أو من المفعول، أي: بعد بلوغ العلم وقيام الحجة عليه، (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)، فلا يتعظ، ولا ينظر بعين الاعتبار، (فَمَن يَهْديهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ)، من بعد إضلاله، أو من غير الله تعالى، (أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ)، الحياة، (إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا)، أي: يموت بعضنا ويحيا بعض، أو المراد نفى المحيي والمميت، وعلى هذا يكون قوله: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)، مبين له أي: لا نموت إلا بطول العمر ومر الزمان، وقيل: هذا إثبات التناسخ، فإنه عقيدة أكثرهم، (وَمَا لَهُم بِذَلِكَ): الذي يقولون، (مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، إذ لا دليل لهم

(27)

بوجه، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا)، التي تدل على خلاف معتقدهم، (بَيِّنَاتٍ): واضحات الدلالة، (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ)، متشبثهم في المعارضة، (إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا)، الأموات، حتى نستدل بالبعث، أو حتى يشهدوا، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ)، من العدم، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ)، في القبر، (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ): في يوم القيامة، فإن من قدر على الإيجاد من العدم -الذي هم مقرون به، أو هو جلي ظاهر لا ينكره إلا غبي- قدر على الإعادة بطريق الأولى، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، لقصور نظرهم. * * * (وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلله الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) * * *

(وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ): القيامة، (يَوْمَئِذٍ)، تأكيد للأول، (يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً): باركة على الركب، حتى إبراهيم عليه السلام لشدة اليوم، أو مجتمعة للحساب، (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا): الذي فيه أعمالها، ومن قرأ بنصب كل فهو بدل من الأول، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي: يقال لهم ذلك، (هَذَا كِتَابُنَا)، أي: ديوان الحفظة الذي كتبوا بأمرنا، (يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ): يشهد عليكم بلا زيادة، ولا نقصان، (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ): نأمر الملائكة بنسخ، (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، عن ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره - رضي الله عنهم - إذا صعد الملائكة بالأعمال إلى السماء يؤمرون بالمقابلة على ما في اللوح فلا يزيد ولا ينقص، ثم قرأ " إنا كنا نستنسخ " الآية، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ)، عطف على محذوف، أي: فيقال لهم ألم تأتكم رسلي فلم تكن (آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ)، أي: لكمِ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ)، أي: موعوده كائن، أو متعلق الوعد كائن، (وَالسَّاعَةُ لاَ ريْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ)، أي شيء هي، (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، أي: ما نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا حقيرًا، أو ما نعتقد إِلَّا ظَنًّا لا علمًا، ونحوه، (وَمَا نَحْن بِمسْتَيْقِنِينَ)، أنها كائنة، وأما جزمهم في إنكارها فلعله حين عتوهم في العناد، أو هذا كلام بعضهم، (وَبَدَا): ظهر، (لَهُمْ سَيِّئَاتُ)، أي: قبائح، (مَا عَمِلُوا): أو جزاء سيئات أعمالهم، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: جزاؤه، (وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكمْ): نعاملكم معاملة الناسى، فنترككم في العذاب، (كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَومِكُمْ هَذا)، أي: لقاء ما فيه من الجزاء وتركتم العمل له، جعل الظرف مجرى المفعول به وأضاف اللقاء إليه، (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، فنسيتم حياة الآخرة،

(فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا): من النار، (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ): لا يطلب منهم أن يرضوا ربَّهم ويزيلوا العتب، (فَلله الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ): العظمة، (فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيز): الغالب، (الحَكِيمُ)، فيما أراد وقضى، وهذا الإخبار كأنه كناية أو مجاز عن الأمر بالحمد. فله الحمد والثناء والعظمة والكبرياء. * * *

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف مكية وهي أربع أو خمس وثلاثون آية وأربع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) * * *

(حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، قد مر تفسيرها في التي قبلها، (مَا خَلَقْنا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مسَمًّى)، أي: إلا خلقًا متلبسًا بما يقتضيه الحكمة، وبتقدير مدة معينة تنتهي إليها السماوات والأرض، وهو إشارة إلى فنائها وقيل: خلقها بمدة معينة وهي قوله: " فى ستة أيام " [الأعراف: 54]، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا)، من هول ذلك اليوم، (مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي)، بدل من أرأيتم، (مَاذَا خَلَقُوا مِن الأَرْضِ أَمْ لَهم شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ)، أي: أخبروني عما تدعون من دون الله وتجعلون له شريكًا، أخبروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله تعالى؟! أم لهم مع الله تعالى شركة في خلق السماوات؟! (ائْتُونِي بِكِتَابٍ من قَبْلِ هَذَا)، الإشارة إلى القرآن، (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ): بقية من علم بقيت من علوم الأولين تدل على صحة ما أنتم عليه من الشرك، (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، في دعواكم، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، أي: لا أضل

ممن يعبد من لا يستجيب له لو سمع دعاءه أبدًا، ويتجاوز عن عبادة سميع مجيب خبير، (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، لأنهم جمادات صم لا تبصر ولا تعقل، (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانوا لَهُمْ أَعْدَاءً)، أي: كان الناس للمعبودين أعداء، لأنهم بسببها وقعوا في الهلكة، (وَكانوا)، أي: العابدون، (بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ): جاحدين، يقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) [الأنعام: 23]، أو كان المعبودون للناس أعداء، وكانوا جاحدين لعبادتهم يقولون: " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون "، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ)، أي: قالوا لأجل الآيات الواضحات وفي شأنها، (لَمَّا جَاءَهُمْ)، من غير تأمل، (هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ): بل يقولون، (افتَرَاهُ)، إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحرًا إلى ما هو أشنع، فالهمزة للإنكار والتعجب، (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ)، على الفرض، (فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا): لا تقدرون على دفع عقاب الافتراء، فكيف اجترئ عليه من أجلكم؟! (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ): تخوضون، (فِيهِ)، من القدح، (كَفَى بِهِ): كفى باللهِ، (شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ): يشهد بصدقي وبلاغي، وبكذبكم وإنكاركم، (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)،

(11)

لمن تاب وآمن فلا إقناط من رحمته، (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ): بديعًا غريبًا آمركم بما لا يأمرون به، (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ): لا أدري إلى ما يصير أمري وأمركم في الدنيا وعن بعض: معناه لا أدري حالي وحالكم في الآخرة، ثم نزل بعده " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [الفتح: 2] فقال الصحابة: هنيئًا لك، وعلمنا ما يفعل الله تعالى بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالي: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات) الآية [الفتح: 5]، وعن بعضهم معناه: لا أدرى بماذا نؤمر وبماذا ننهي بعد ذلك؟ أو لا أدري حالى وحالكم في الدارين على التفصيل إذ لا أدعي علم الغيب، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)، لا أبتدع من عندي شيئًا، (وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، قيل: هو جواب عن اقتراحهم الإخبار عن الغيب، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين، (قُلْ أَرَأَيتمْ إِن كَانَ): القرآن، (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، هو عبد الله بن سلام، صرح به جماعة لا يحصى من السلف، وعليه حديث البخاري ومسلم، فهذه الآية مستثناة من كون السورة مكية، كما صرح به في تفسير الكواشي وقد يأول بأن المراد، ويشهد شاهد فيكون على طريقة (ونادى أصحاب الأعراف) [الأعراف: 48] فالآية في حقه الحكم بأنه يشهد بعد ذلك، (عَلَى مِثْلِهِ)، أي: على مثل ما أخبر القرآن به، وقيل: المثل صلة، (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ)، فعطف كفرتم على كان، وعطف واستكبرتم على شهد، وعطف جملة شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم على جملة كان من عند الله وكفرتم وجواب الشرط محذوف، أي: ألستم ظالمين؟ ويدل عليه قوله: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) * * *

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، أي: لأجلهم، (لَوْ كَانَ)، أي: الإيمان، (خَيْرًا ما سَبَقُونَا إِلَيهِ)، فإنهم فقراء، وعبيد، وإماء، ونحن أشرف والأشرف للأشرف، (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)، أي: بالإيمان، (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)، كما

قالوا: أساطير الأولين والعامل في إذ محذوف، والفاء مسبب عنه، أي: ظهر عنادهم فسيقولون، وقيل: السين لمجرد التأكيد، والمضارع للاستقرار أو بحيث يتناول الماضي فلا حاجة إلى تقدير، (وَمِن قَبْلِهِ)، أي: قبل القرآن، (كِتابُ مُوسَى)، مبتدأ، وخبر، (إِمَامًا وَرَحْمَةً)، نصب على الحال، (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ)، للكتب السماوية، (لِسَانًا عَرَبِيًّا)، نصب على الحال، (لِيُنْذِرَ)، النبي، أو الكتاب علة مصدق، (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)، عطف على محل لينذر، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا): أقروا بواحدانيته ثم استقاموا على التوحيد، وثم لتراخي مرتبة الاستقامة، فإن لها الشأن كله، (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، مما يستقبلون، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، على ما خَلَّفوا، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً)، أي: جُوزوا جزاء، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ)، لما ذكر التوحيد عطف عليه بالوصية بالوالدين كقوله تعالي: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا [إِلَّا إِيَّاهُ]) الآية [الإسراء: 23]، وقوله: (أن اشكر لي ولوالديك) [لقمان: 14]، (إِحْسَانًا)، منصوب بـ وصينا بأنه بمعنى ألزمناه الحسن في أبويه، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا

وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)، نصب على الحال، أي: ذات كره، أو صفة لمصدر، أي: حملاً ذا كره ومشقة، (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ)، أي: مدتهما، والفصال: الفطام، (ثَلاُثونَ شَهْرًا)، فأقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه إذا حط عنه حولان كاملان لمن أراد أن يتم الرضاعة بقي ذلك، وفي سورة لقمان " وفصاله في عامين " [لقمان: 14] وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا وضعت بعد تسعة أرضعت إحدى وعشرين، وإذا وضعت بعد ستة أرضعت أربعة وعشرين، (حَتَّى إِذَا بَلغَ أَشُدَّهُ): استحكم قواه واكتهل، قيل: هو ما بين ثماني عشر إلى أربعين، وقيل: ثلاث وثلاثون إلى أربعين، وهو غايته، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي): ألهمني، (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ)، والنعمة: الهداية والإسلام، (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)، اجعل لي الصلاح ساريًا فيهم، (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، قيل: نزلت في أبى بكر رضي الله عنه، اجتمع له إسلام أبويه وأولاده

جميعًا، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة، وهذا إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد الإنابة إلى الله تعالى: فقد ورد " من بلغ الأربعين، ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار " (1)، (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) أي: طاعاتهم فإنها أحسن من المباح، (وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ): كائنين معدودين فيهم، (وَعْدَ الصِّدْقِ)، مصدر مؤكد لأن يتقبل ويتجاوز وعد، (الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)، بلسان الأنبياء، وعن علي رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى فيهم: " أولئك الذين نتقبل عنهم " الآية قال: والله عثمان وأصحاب عثمان قالها ثلاثًا، (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا)، هو صوت يعلم منه أن قائله متضجر، واللام للبيان أي: هذا التأفيف لكما خاصة، لما ذكر تعالى حال البارّين بهما عقب بحال العاقين لهما، (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ)، من قبري حيًا، (وَقَدْ خَلَتِ): مضت (الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي)، ولم يبعث منهم أحد، (وَهُمَا): الوالدان، (يَسْتَغِيثَانِ الله): يسألانه أن يغيثه بالهداية، وقيل: الغياث بالله منك، (وَيْلَكَ آمِنْ): يقولان له ذلك دعاء عليه بالهلاك، والمقصود التحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك نصب على المصدر، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ)، الولد: (مَا هَذَا)، الذي تدعونني إليه، (إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ): أباطيلهم التي كتبوها، (أُولَئِكَ)، خبر لقوله: " والذي قال "، فالمراد " بالذي " الجنس القائل ذلك القول حتى جاز أن يكون خبره مجموعًا، (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ): كلمة العذاب وأنهم أهل النار، (فِي أُمَمٍ)، كائنين معدودين فيهم، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)، في الدنيا، والآية في كل كافر عاق، وفي الآية أدلة على ضعف قول من قال: إنَّهَا في شأن عبد الرحمن بن أبى بكرٍ قبل

_ (1) " موضوع " ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات "، (1/ 178)، والسيوطي في " اللآلئ المصنوعة "، (1/ 71).

إسلامه، وفي النسائي لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: " والذي قال لوالديه " الآية، فبلغ عائشة رضي الله عنها فقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزل الله فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان فى صلبه فمروان فضض من لعنة الله تعالى، (وَلِكُلٍّ)، من الفريقين، (دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا): مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، وتسمية الدركات درجات للتغليب، (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ)، أي: جزاءها، ومعلله محذوف، أي: وقدر لهم درجات ليوفيهم، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ): بزيادة عقاب ونقص ثواب، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)، من باب القلب للمبالغة، أي: يعرض النار عليهم، أو معناه يعذبون عليها، (أَذْهَبْتُمْ)، أي: يقال لهم يوم القيامة ذلك، (طَيِّبَاتِكُمْ): لذائذكم، (فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)، فلم يبق لكم منها

(21)

شيء، (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ): الذل، (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، فإن التكبر يمكن أن يكون بحق، (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)، رأى عمر رضى الله عنه في يد جابر لحمًا فقال: ما هذا؟ فقال: لحمًا اشتريته، فقال: أو كل ما اشتهيت اشتريت، أما تخاف هذه الآية " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ". * * * (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26) * * * (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ)، أي: هودًا، (إِذْ أَنْذَرَ)، بدل من أخا عاد، (قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ): منازلهم فهم ساكنون بين رمال، جمع حقفٍ، وهو الرمل الكثير، (وَقَدْ

خَلَتِ النُّذُرُ)، حال من مفعول اذكر، أو معترضة بين أنذر وبين أن لا تعبدوا، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ): قبله، (وَمِنْ خَلْفِهِ): بعده فأنذروا كما أنذر، (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)، أن مفسرة، أو بألا تعبدوا، فإن النهي عن شيء إنذار عن مضرته، (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا): تصرفنا، (عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، من العذاب، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللهِ)، هو يعلم متى يأتيكم العذاب، ولا مدخل لي في الاستعجال، (وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ): فما على الرسول إلا البلاغ، (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)، لأنكم تستعجلون بعذاب يحتمل الوقوع، (فَلَمَّا رَأَوْهُ)، الضمير مبهم يفسره قوله: (عَارِضًا)، وهو إما تمييز، أو حال، أو الضمير لما طلبوا إتيانه يعني سحابًا عرض في أفق السماء، (مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ): متوجه أوديتهم، والإضافة لفظية، ولذا وقع صفة لنكرة، (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)، وكذا هذه الإضافة لفظية، استبشروا لأنه قد حبس عنهم المطر، (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)، من العذاب، أي: قال هود بل هو، أو الإضراب من الله تعالي، ولا قول ثمة، بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم كقوله تعالي: " فقال لهم الله موتوا " بعد قوله: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم " [البقرة: 243] فإن معناه فأماته الله، (رِيحٌ)، أي: هي ريح، (فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تدَمِّرُ): تهلك، (كُلَّ

(27)

شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى)، أي: جاءتهم الريح ودمرتهم، فأصبحوا بحيث لو حضرتهم لا ترى، (إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، قيل: كانوا تحت الرمال ثمانية أيام ولهم أنين، ثم قذفتهم الريح في البحر، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)، أي: في الذي ما مكناكم فيه من المال والقوة والعمر، فإن نافية، وقيل: شرطية محذوفة الجواب، أي: في شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر، وقيل: صلة، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ): شيئًا من الإغناء، أو ما دفع عنهم شيئًا من العذاب، (إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ)، ظرف جرى مجرى التعليل، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: العذاب، فإنهم استهزءوا به. * * * (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ

إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) * * * (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ)، يا أهل مكة، (مِنَ الْقُرَى)، كحجر ثمود، وقرى قوم لوط، (وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ): بيناها مكررًا، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، عن ضلالتهم، (فَلَوْلاَ): فهلا، (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً)، أي: الذين اتخذوهم متجاوزين الله تعالى آلهة متقربًا بهم، كما قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا) [يونس: 18] فـ قربانا حال من المفعول الثاني، أي: آلهة، أو مفعول له، (بَل ضَلوا عَنْهُمْ)، لم ينفعهم عند نزول العذاب، (وَذلِكَ)، أي: ضلالهم عنهم، (إِفْكُهُم)،

أي: أثر صرفهم عن الحق، (وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وافترائهم، وهذا كمن أدب أحدًا فلم يتأدب، وظهر منه سوء أدب، فيقال له تقريعًا: هذا تأديبك، (وَإِذ صَرَفنا): أملنا، (إِلَيْكَ نَفَرًا)، هو ما دون العشرة، (مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)، وهو عطف على قوله: (أخا عادٍ)، أي: واذكر إذ صرفنا، (فَلَمَّا حَضَرُوهُ): القرآن أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، (قَالُوا)، بعضهم لبعض: (أَنْصِتُوا): نستمع القرآن، (فَلَمَّا قُضِيَ): فرغ عن قراءته، (وَلَّوْا): رجعوا، (إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)، إياهم بما سمعوا، والأحاديث الصحاح والحسان بطرق مختلفة، تدل على أنه عليه السلام ذهب إلى الجن قصدًا فتلا عليهم، والأظهر كما قاله كثير من العلماء: أن استماعهم القرآن ليس مرة واحدة ولا يمكن توفيق الأحاديث المتضادة إلا بذلك، فمرة في طريق الطائف،

ومرة في شعاب مكة، ومرة في بوادي المدينة، (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)، لم يذكروا عيسى لأن الإنجيل فيه مواعظ، وقليل نادر من الأحكام، فهو كالمتمم للتوراة، وقيل: لأنَّهُم كانوا يهودًا، (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)، من كتب الله، (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، أي: بعضها، فإن المظالم لا تغفر في حق الذمي بالإيمان بخلاف الحربي، فإنه لا تبقى عليه تبعة، (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ)، لا يعجز الله تعالى فيفوته، (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ)، ينصرونهم، (أوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ): لم يتعب، (بِخَلْقِهِنَّ)، ولم يضعف عن إبداعهن، (بِقَادرٍ)، خبر أن، والباء لاشتمال النفي على أن وما في حيزها كأنه قال: " أليس الله بقادر "، (عَلَى أَن يُحْيي المَوْتَى بَلَى)، مقررة للقدرة الواقعة بعد ليس تقديرًا، (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ): يعذبون عليها، (أَلَيْسَ هَذا بِالْحَقِّ)، أي: قال لهم في ذلك اليوم أليس هذا، تقريعًا،

(قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ): بسببه، (فَاصْبِرْ)، يا محمد، (كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ)، أي: أولو الثبات والجد منهم، والأشهر أنَّهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام، (مِنَ الرُّسُلِ)، حال، ومن للتبعيض وعن بعضهم: إن جميع الأنبياء أولو العزم، فمن للتبيين، (وَلاَ تَسْتَعْجِل)، بالعذاب، (لَهُمْ): لقريش، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، أي: يحسبون يوم القيامة أن مدة لبثهم في الدنيا ساعة فإنه نازل بهم لا محالة، (بَلَاغٌ)، أي: هذا يعني القرآن، أو ما وعظتم به بلاغ كفاية، أو تبليغ من الرسول، (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ): الخارجون عن الاتعاظ: والطاعة. * * *

سورة محمد

سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - مدنية وقيل مكية وهى ثماني أو تسع وثلاثون آية وأربع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) * * * (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا): أعرضوا، أو منعوا الناس، (عَنْ سَبِيلِ اللهِ): عن الدخول فى الإسلام، (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ): أبطلها، وما جعل لها ثوابًا كتصدقهم وصلة

أرحامهم، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) تخصيص بعد التعميم تعظيمًا لشأنه، وأكده بالجملة الاعتراضية يعني قوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مِن ربِّهِمْ)، الظرف حال من ضمير الحق، (كَفرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ): حالهم وأمرهم، (ذَلِكَ) أي: الإضلال والتكفير، (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ): الشيطان، (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ): القرآن، (مِنْ ربهِمْ)، حال من الحق، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الضرب، (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) أي: لأجل الناس أمثال الفريقين، أو أمثال الناس للناس بأن جعل اتِّباع الباطل والإضلال مثلا للكفار، واتباع الحق والتكفير مثلاً للمؤمنين، (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا): حاربتموهم، (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) أي: فاضربوا رقابهم ضربًا قدم المصدر مضافًا إلى المفعول بعد حذف فعله، والمراد منه القتل بأي وجه كان، (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ): أغلظتم قتلهم، وجعلتموه كثيرًا كثيفًا قال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال: 67] (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) أي: فأسروهم، والوثاق ما يوثق به، (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) أي: تمنون منًّا بعد الأسر، أو يفدون فداء أراد التخيير بين الإطلاق بلا عوض وبين العوض، وعند بعض السلف أنها منسوخة بقوله " فاقتلوا

المشركين حيث وجدتموهم " الآية [التوبة: 5]، والأكثرون على أنها محكمة، ثم قال بعضهم التخيير بين القسمين فلا يجوز قتله، والأكثرون منهم وهو قول أكثر السلف على التخيير بين المنِّ والمفاداة والقتل والاسترقاق، (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْب أَوْزَارَهَا): أثقالها وآلاتها أي: لا يبقى حرب، وهو بأن لا يبقى كافر، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله) [الأنفال: 39] قيل: حتى تضع الحرب آثام أهلها بأن يتوبوا، أو شرك أهلها وقبائحهم، (ذَلِكَ) أي: الأمر ذلك، (وَلَوْ يَشَاءُ الله لانتَصَرَ): لانتقم، (مِنْهُمْ): بأن أهلكهم من غير قتال، (وَلَكِنْ) شرع لكم الجهاد، (لِيَبْلوَ): الله تعالى، (بَعْضَكمْ بِبَعْضٍ): فيمحص ويخلص المؤمنين بالجهاد، ويمحق الكافرين فهو من البلية، أو من الابتلاء أي: الاختبار قال تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللهُ " الآية [آل عمران: 142]، (وَالَّذِينَ قُتِلُوا): جاهدوا، (فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ): يضيع، (أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ): إلى سبل السلام، (وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ): حالهم فيما بقي من عمرهم، وفي الآخرة، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ): بينها لهم لكل منهم يعرف منزله، وفي البخاري " والذي نفس محمد بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله كان في الدنيا " وعن بعض: طيبها لهم من العَرْف وهو طيب الرائحة قيل: عرفها لهم في الدنيا حتى اشتاقوا إليها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ)

(12)

أي: في دينه، (يَنصُرْكُمْ): على عدوكم، (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ): في الجهاد والطاعات، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ)، مفعول مطلق وجب حذف فعله أي: تعس أو أتعسه الله تعالى تعسًا أي: أهلكه إهلاكًا، والجملة خبر الذين كفروا كأنه قال والذين كفروا أهلكهم الله (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)، عطف على ناصب تعسًا، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ): القرآن، (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ): استأصل، (اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي: ولمطلق الكافرين أمثال تلك العاقبة، فيه وعيد لقريش، (ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى): ناصر، (الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ): لا ناصر لهم، ولكن هو مولاهم بمعنى مالكهم. * * * (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ

فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) * * * (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ): في الدنيا بها، (وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ): لا يهتمون بالحل، والحرمة، ولا بالقلة والكثرة لا شكر ولا حمد، (وَالنَّارُ مَثْوًى): منزل، (لَهُمْ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي: وكم من أهل قرية، (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ): مكة، أي: من أهلها، (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ): كانوا سبب خروجك، (أَهْلَكْنَاهُمْ): بأنواع العذاب، (فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ)، معناه على المضي أي: لم يكن لهم ناصر فهو كالحال المحكية نزلت حين قال - عليه السلام - في الغار ملتفتًا إلى مكة: " أنت أحَبُّ بلاد الله إلى الله وأَحَبُّ بلاد الله إليَّ ولولا أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك "،

فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ): حجة، (مِنْ رَبِّهِ): كالقرآن والدلائل، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا)، جمع الضمير باعتبار المعنى، (أَهْوَاءَهُمْ): لا حجة لهم أصلاً، (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي: وعدها، (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ): غير متغير طعمه ولا ريحه، (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ): لم يصر حامضًا ولا قارصًا، (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ): طيبة الطعم والرائحة لا فيها غول، وهي تأنيث لَذ، وهو اللذيذ أو مصدر وصف به للمبالغة، (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى): من الشمع والوسخ، (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) أي: بعضه، (وَمَغْفِرَةٌ)، عطف على معنى من كل الثمرات، (مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ): من شدة الحرارة، واعلم أن " مثل الجنة " مبتدأ خبره " كمن هو خالد " بتقدير في الخبر والمبتدأ على حاله أي: كمثل جزاء من هو خالد أو في المبتدأ، أو الخبر على حاله أي: مثل أهل الجنة كمن هو خالد وقوله " فيها أنهار " إما صلة لا بعد صلة، أو استئناف، أو مثل مبتدأ، وفيها أنهار خبره من غير احتياج بتقدير أي: صفتها هذه،

أو مبتدأ خبره محذوف أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة ثم أخذ يبين، وعلى هذين الوجهين كمن هو خالد خبر محذوف أي: المنفي الذي له تلك الجنة كمن هو خالد، والقرينة وعد المتقون، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ): المنافقون يحضرون ويسمعون كلامه الأشرف، (حَتى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ): علماء الصحابة، (مَاذَا قَالَ): محمد، (آنِفًا): الساعة استهزاءً وإعلامًا بأنا ما كنا ملتفتين إليه مستمعين له، وآنفًا ظرف بمعنى أول وقت يقرب منا، (أُولَئِكَ الذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ): ختم عليها فلا يدخل فيها الهدى، (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ): الله، أو قول الرسول، (هُدًى): وفقهم على تكثير الحسنات وتقليل السيئات، (وَآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ): أعانهم على التقوى أو أعطاهم ثواب التقوى أو بين لهم ما يتقون، (فَهَلْ يَنظُرُون): ينتظرون، (إِلا السَّاعَةَ) أي: لا يؤخرون الإيمان إلا لانتظار القيامة، (أَنْ تَأتِيَهُمْ بَغتَة)، بدل اشتمال من الساعة، (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) كالعلة كأنه قال لا ينتظرون إلا إتيانها بغتة؛ لأنه قد جاء أشراطها، وبعد مجيء الأشراط لابد من وقوع الساعة، ومن أشراطها مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ): فمن أين لهم التذكر والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ يعني حينئذ لا تنفعهم، (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) أي: إذا علمت حال الفريقين فاثبت على التوحيد، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، ذكره

للتوطئة والتمهيد لقوله: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، فالمقصود الاستغفار لهم، وأمره به لتستن به أمته، (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ). متصرفكم بالنهار، (وَمَثْوَاكُمْ):

(20)

مستقركم في الليل، أو متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، أو متقلبكم من ظهر إلى بطن، ومثواكم مقامكم في الأرض أو في القبور. * * * (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) * * * (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا): هلا، (نزِّلَتْ سُورَةٌ): تأمرنا بالجهاد، (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ): غير منسوخة، (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ): الأمر به، (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): من كان له ضعف دين، (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ): عند الموت، (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي: كنظر من أصابته الغشية عند الموت من رعبهم وجبنهم، (فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي: كان الأولى بهم طاعة الله، وقول معروف بالإجابة، أو معناه فالويل لهم من الولي، وأصله أولاه الله ما يكرهه، واللام مزيدة أي: هذا الويل لهم، ثم قال (طاعة) أي: أمرهم طاعة أو طاعة

خير لهم، (فَإِذَا عَزَمَ): جد، (الأمْرُ): وفرض القتال، (فَلَوْ صَدَقُوا الله): في الإيمان والطاعة، (لَكَانَ): الصدق، (خَيْرًا لَهُمْ)، وعن بعضهم إذا عزم الأمر حضر القتال فلو صدقوا الله: أخلصوا له النية لكان خيرًا لهم، (فهَلْ عَسَيتُمْ): يتوقع منكم، (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ): بمعنى الإعراض أي: أعرضتم عن الدين أو رجعتم عن الجهاد، (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ): أن تعودوا إلى أمر الجاهلية، أو بمعنى الولاية أي: تأمرتم أن تظلموا ولم تعدلوا فدخلت هل على ما يتضمنه عسى من معنى التوقع يعني: هم لضعف دينهم بحيث يتوقع من عرفهم ذلك منهم، ويقول لهم هل عسيم، (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ): فلا يستمعون الحق ولا يهتدون، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ): فيتعظون بمواعظه، (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) أي: أم يتدبرون لكن عليها القفل، فلا يدخل فيها الحق، وتنكير قلوب للتهويل كأنه قيل لا يقادر قدرها في القسوة والإقفال، أو لأن المراد قلوب بعض، وإضافة الأقفال للدلالة على أقفال مناسبة لها لا تجانس الأقفال المعهودة، وقيل: أم منقطعة والهمزة للتقرير، (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ): رجعوا إلى كفرهم وهم المنافقون، (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى): بالمعجزات، أو هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد ما عرفوه من كتابهم، (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ): زين وسهل، (لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ): مد لهم في الآمال، أو أمهلهم الله تعالى، وقراءة أُملِي على فعل المتكلم يدل على الثاني أي: وأنا أمهلهم ولا أعجلهم بالعقوبة، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ): المنافقين، (قَالُوا): سرًّا، (لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ)، هم المشركون، أو كفار أهل الكتاب، أو قال كفار أهل الكتاب للمشركين: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ): بعض أموركم في عداوة الإسلام، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ): أفشا الله تعالى أسرارهم وأفضحهم، (فَكَيْفَ): يعملون، (إِذَا تَوَفتْهُمُ الْمَلائكَةُ يَضْرِبُونَ

(29)

وُجُوهَهمْ وَأَدْبَارَهُمْ): ليستخرجوا أرواحهم بالقهر، (ذلِكَ): التوفي الموصوف (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ): من الكفر وعداوة الإسلام، (وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ): ما يرضاه، (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ): حسناتهم التي عملوا. * * * (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) * * *

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): نفاق، (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ): يبرز ويظهر، (أَضْغَانَهُمْ): أحقادهم، وأم منقطعة، والهمزة للإنكار، (وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ): عرَّفناهم بأشخاصهم، (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ): بأن جعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها، لكن لم يفعل سترًا منه على خلقه، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية أحد من المنافقين يعرفهم بسيماهم، فكأنه - رضي الله عنه - حمله على أنه وعد بالوقوع دال على الامتناع فيما سلف " ولام الجواب كررت في المعطوف، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) هو إزالة الكلام عن جهته إلى تورية فكان بعد ذلك ما تكلم منافق عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا استدل بفحوى كلامه على فساد باطنه، وهو جواب قسم محذوف، والواو لعطف القسمية على الشرطية، (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ): نعاملكم معاملة المختبر بالتكاليف، (حَتَّى نَعْلَمَ): نرى ونميز، (الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ): على مشاقها، (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ): نعلم أو [نُظْهِر] أحوالكم وأعمالكم أو نختبر أخباركم عن الإيمان أنه عن صدق القلب أو عن اللسان وحده، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا): الناس، (عَنْ سَبيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ): خاصموه، (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا الله شَيْئًا): من المضرة إنما يضرون أنفسهم، (وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ): ثواب حسناتهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكمْ): بالردة، والنفاق أو بالرياء والمنِّ والأذى أو بالكبائر،

وعن أبي العالية: كنا معاشر الصحابة نرى أنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت " ولا تبطلوا أعمالكم "، فخفنا أن يبطل الذنب العمل، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قريب منه، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)، دل بمفهومه على أنه قد يغفر الذنوب لمن لم يمت على الكفر، (فَلا تَهِنُوا): تضعفوا، (وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ): ولا تدعوهم إلى الصلح حال كونكم الأغلبين، (وَاللهُ مَعَكُمْ): بالنصر، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، منصوب بنزغ الخافض أي: لن يفردكم الله منها بأن يضيع، أو بالمفعول لتضمين معنى السلب، (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ): لا أصل لها ولا ثبات، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ): ثواب أعمالكم، (وَلا يَسْأَلْكُمْ): ربكم، (أَمْوَالَكُمْ) أي: شيئًا منها، فإنه غني عنها، والأمر بالصدقات لنفعكم ما أريد منهم من رزق، أو جميع أموالكم، بل يسأل شيئًا يسيرًا منها، (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ): يطلب منكم جميعه، (تَبْخَلُوا): فلا تُعطوا، (وَيُخْرِجْ): الله، (أَضْغَانَكُمْ): عداوتكم على من يطلب منكم، (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ)، مبتدأ وخبر أي: أنتم هؤلاء الموصوفون وحنيئذ قوله: (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا)، استئناف مقرر لذلك، أو هؤلاء موصول، وتدعون صلته، (فِي سَبِيلِ اللهِ): طرق الخير، (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ): ضرر البخل راجع إليها، (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ): فلا يأمركم إلا بما يسد احتياجكم، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا)، عطف على وإن تؤمنوا، (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ): يقم مقامكم قومًا آخرين، (ثُمَّ لَا يَكُونُوا

أَمْثَالَكُمْ): في التولي؛ بل سامعين طائعين، وفي الحديث " من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب عليه السلام يده على كتف سلمان، ثم قال: هذا وقومه، ولو كان الدِّين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " وعن الحسن: هم العجم، وعن عكرمة: فارس والروم. ولله الحمد والمنَّة. * * *

سورة الفتح

سورة الفتح مدنية وهي تسع وعشرون آية وأربع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) * * * (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) الفتح: صلح الحديبية، وما فتح الله تعالى على باطنه

الأشرف، وروي محيي السنة أنه لما نزل قال عمر - رضي الله عنه - أو فتح هو يا رسول الله؛ قال: " نعم، والذي نفسى بيده " وهو صلح بسببه خير الدنيا والآخرة فيه بيعة الرضوان، وظهور الإسلام، وانتشار العلم، وهو سبب لفتح مكة نزلت في طريق الرجوع إلى المدينة، (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ): لما كان ذلك الفتح متضمنًا لأمور عظيمة القدر عند الله تعالى كان سببًا للغفران، فجمع له عز الدارين، (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ): من يجوز الصغائر على الأنبياء فمعناه ظاهر، وإلا فجميع ما فرط منك، ويفرط وسماه ذنبًا تغليظًا، وعن بعض ما تقدم في الجاهلية، وما تأخر مما لم يعمله كما تقول مبالغة: ضرب من لقيه ولم يلقه، وعن بعض ما تقدم أي: ذنوب أبويك آدم وحواء وما تأخر ذنوب أمتك بدعوتك، (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًاا): يثبتك عليه، أو في تبليغ الرسالة، (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا): فيه عز، (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ): الطمأنينة والوقار، (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ): كما أنزل على الصحابة يوم الحديبية، واطمأنت قلوبهم بالصلح فانقادوا لله تعالى (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ): يقينًا مع يقينهم، وإيمانًا بما أمر النبي عليه السلام - ورآه من المصلحة مقرونًا مع إيمانهم باللهِ ورسوله، (وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): هو المدبر والمتصرف فيهم، (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا): فما أمر رسوله من الصلح لمصلحة وحكمة، (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا)، في الصحيحين " لما نزل " ليغفر لك الله " إلخ قالوا: هنيئًا مريئًا يبن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت إلى قوله تعالى: " فوزًا عظيمًا " فعلى هذا الظاهر أنه أيضًا علة " لـ إنَّا فتحنا "، أو لجميع ما ذكر، وقيل: لما دل عليه " ولله جنود السَّمَاوَات والأرض " من معنى التدبير أي: دبر ما دبر وسكن قلوبهم ليعرفوا نعمه ويشكروها، فيدخلوا الجنة، ويعذب المنافقين والكافرين لما غاظهم من ذلك وكرهوا، (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا)، و " عند " حال من الفوز مقدم، (وَيُعَذِّبَ)، عطف على يدخل، (الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ): يظنون أن لن ينصر الموحدين أي: ظن

الشيء السوء، (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) أي: عليهم خاصة ما يظنونه بالمؤمنين يحيط بهم إحاطة الدائرة بما فيها، والإضافة بمعنى من، (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا): جهنم، (وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا): فلا أحد يمنعه من الانتقام الذي فيه الحِكَم، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا): على أمتك في القيامة، (وَمُبَشِّرًا): للمؤمنين، (وَنَذِيرًا): للكافرين، (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)، الضمير للأمة على أن جعل خطابه في " إنا أرسلناك " منزلاً منزلة خطابهم، (وَتُعَزِّرُوهُ): تعظموه، (وَتُوَقِّرُوهُ): تجلوه، (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا): تنزهوه غدوة وعشيًّا، (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ): في الحديبية، وهي بيعة

(11)

الرضوان، (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ)، نحو (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: 80] (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) استئناف مؤكد له على سبيل التخييل يعني: يد رسوله يده، وعن بعض: نعمة الله تعالى عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة، أو كناية عن أن كمال القدرة والقوة لله تعالى فيكون مقدمة لقوله: (فَمَنْ نَكَثَ): نقض العهد، (فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ): عليه وباله، (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). * * * (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُلْ لَنْ

تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) * * * (سَيَقولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ): الذين وعدوا أن يرافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة عام الحديبية فتثاقلوا وأخلفوا الوعد، (شَغَلَتْنَا): عن الوفاء بالوعد، (أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا): إذ ليس لنا من يقوم بأمرهم إذا خرجنا، (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا): على التخلف (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ): تكذيب لهم من الله تعالى، (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) أي: لا أحد يدفع ضره ولا نفعه فليس الشغل بالأهل والمال عذرًا، فلا ذاك يدفع الضر إن أرادوه، ولا ملاقاة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعًا، واللام في لكم للبيان أو للصلة، (بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا): فيعلم قصدكم في التخلف، (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا): قالوا: هم أكلة رأس لقريش، فهم يستأصلونهم، (وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) أي: إنهم أكلة رأس، (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا): هالكين عند الله تعالى أو فاسدين لسوء العقيدة، (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) أي: لهم، (سَعِيرًا)،

التنكير للتهويل، (وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): له الاختيار المطلق في الأشياء، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ). لا يجب عليه شيء، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا): لمن تاب وآمن فالغفران من دأبه، (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُون): المذكورون، (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا) أي: غنائم خيبر، (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ): إلى خيبر، (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ): فإن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن ييسر لهم [خيبر]، ويعوضهم من مكة مغانم خيبر لا شريك لهم فيها، (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا): في خيبر، نفي بمعنى النهي، (كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل أن تسألوا الخروج معهم، فإنه حكم بأن تكون غنيمته لأهل الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب، (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا): في أن نصيب الغنائم، وليس أمرًا من الله تعالى، (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا): إلا فهمًا قليلاً، وهو فهمهم لبعض أمر دنياهم، ردٌ من الله تعالى لهم، (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ)، كرر تسميتهم بهذا الاسم للشناعة، (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ): هوازن وثقيف، وذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بني حنيفة وأصحاب مسيلمة، وذلك في خلافة أبى بكر - رضي الله عنه - أو أهل فارس، وذلك في خلافة عمر - رضي الله عنه - (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي: أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام جملة مستأنفة للتعليل والأصح أن لا تقبل الجزية من

(18)

المشركين، وقيل الإسلام الانقياد، فيشمل الجزية، (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ): عام الحديبية، (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، لما أوعد على التخلف نفى الحرج عن هؤلاء، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا). * * * (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ

يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) * * * (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)، وهم ألف وأربعمائة على الأصح، (إِذْ يُبايِعُونَكَ): بالحديبية على أن يكونوا متفقين على قتال قريش، فإنهم هَمُّوا [بقتل] عثمان - رضي الله عنه - وهو رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم (تَحْتَ الشَّجَرَةِ)، أي: سمرة (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ): من الإخلاص، (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ): الطمأنينة، (عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ): جازاهم، (فَتْحًا قَرِيبًا)، هو الصلح، وما هو سبب له من فتح خيبر ومكة ثم فتح سائر البلاد، (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا): عقار خيبر وأموالها، (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا): غالبًا، (حَكِيمًا): مراعيًا للحكمة، (وَعَدَكمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأخُذُونَهَا)، هي الفتوح إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ

هَذِهِ): غنيمة خيبر، أو صلح الحديبية، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)، هم لما خرجوا إلى خيبر همت اليهود أن يغيروا على عيال المسلمين بالمدينة، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، أو المراد أيدى قريش، لأجل صلح حديبية، (وَلِتَكُونَ): هذه الكفة وسلامة عيالكم والغنيمة المعجلة، (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ): على صدقك، عطف على محذوف أي: لتكون سببًا للشكر، ولتكون آية، (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا): التوكل وتفويض الأمور إليه، (وَأُخْرَى)، عطف على هذه، وهي مكة أو فارس والروم، أو خيبر، وهذا على قول من فسر " عجل لكم هذه " بصلح [الحديبية]، (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا): لشوكتهم، (قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا): استولى، ففتحها لكم، وجاز أن يكون أخرى مبتدأ، ولم تقدروا صفتها، وقد أحاط خبرها، (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا): من أهل مكة عام الحديبية، (لَوَلَّوُا الأدْبَارَ): لانهزموا، (ثمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا): يحرسهم وينصرهم، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي: سن الله تعالى سنة الأنبياء المتقدمين أن عاقبة أعدائهم الخزي والهزيمة، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ): كفار مكة، (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ): مَنَّ الله تعالى بصلح الحديبية، وحفظ المسلمين عن أيدي الكافرين، وعن القتال بمكة، وهتك حرمة [المسجد] الحرام، وأما ظفرهم على المشركين فهو أن سبعين أو ثمانين أو ثلاثين رجلاً متسلحين هبطوا من جبل التنعيم يريدون غرة النبي - عليه الصلاة والسلام - فدعا عليهم فأخذوا، وعفا

عنهم فأطلقوا، وأما ما ذكر أن ابن أبي جهل خرج في عسكر يوم الحديبية، فبعث خالد بن الوليد، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة، ففيه شيء، وكيف لا وخالد بن الوليد لم يكن أسلم!؛ بل كان طليعة للمشركين يومئذ كما ثبت في صحيح البخاري وغيره، (وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا): فيجازيكم، (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ): منعوكم عن الزيارة ومنعوا الهدى، وهى سبعون بدنة (مَعْكُوفًا): محبوسًا، (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ): مكانه الذي يحل فيه نحره، (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) أي: المستضعفون بمكة، (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ): لم تعرفوهم لاختلاطهم بالمشركين، (أَنْ تَطَئُوهُمْ): أن توقعوا بهم وتقتلوهم في أثناء القتال بدل اشتمال من رجال ونساء، أو من مفعول لم تعلموهم، (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ): مكروه كوجوب الدية، والتأسف عليهم، وتعيير الكفار بأنَّهم قتلوا أهل دينهم، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: تطئوهم غير عالمين بهم، وجواب لولا محذوف، والمعنى: لولا مؤمنون لم تعلموا وطأتهم وإهلاكهم وأنتم غير عالمين بإيمانهم، لما كفَّ أيديكم عنهم، والفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يقاس، أو معناه معرة حاصلة من غير سبق علم وتوجه ذهن، (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: (تأخر العقوبة، وكف) أيديكم عنهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام، ثم قال: (لَوْ تَزَيَّلُوا): لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم، (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) قيل: هذا جواب لولا، و " لو

تزيلوا " كالتكرير لـ (لولا رجال)؛ لأن مرجعهما واحد، (إِذْ جَعَلَ الذِينَ كَفَرُوا) ظرف لعذبنا، أو صدوكم، (في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ): الأنفة، (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ): التي تمنع قبول الحق، (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ): وقاره، (عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ): حتى صالحوهم، فلم يدخلهم ما دخلهم من الحمية، فيعصوا الله تعالى في قتالهم، فإنه قد هم المؤمنون أن يأبوا كلام رسول الله في الصلح، ودخلوا من ذلك في أمر عظيم كادوا أن يُهلَكوا، ويدخل الشك في قلوب بعضهم حتى إنه قال - عليه السلام - ثلاث مرات: قوموا وانحروا، ثم احلقوا، وما قام منهم رجل ثم أنزل الله تعالى السكينة عليهم فاطمأنوا، (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى): اختار كلمة الشهادة لهم، أو بسم الله الرحمن الرحيم، فإنه لما أمر - عليه الصلاة والسلام - عليًّا - رضي الله عنه - أن يكتب في كتاب الصلح " بسم الله الرحمن الرحيم " قالوا: لا نعرف هذا اكتب باسمك

(27)

اللهم، (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا): من غيرهم، (وَأَهْلَهَا): وكانوا أهلها في علم الله تعالى، (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). * * * (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) * * * (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا) أي: في رؤياه، فهو من نزع الخافض، وذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - رأى في المنام قبل الحديبية أنه وأصحابه يدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين غير خائفين، فأخبر أصحابه ففرحوا فلما صدوا عن البيت شق ذلك عليهم فنزلت، (بِالْحَقِّ)، حال من الرؤيا أي: متلبسة بالحق، فإنها كائنة لا محالة، وتحقيقها في العام المقبل، (لتَدْخُلُنَّ)، جواب قسم محذوف، (الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ)، الاستثناء، لأجل تعليم العباد لا للشك، (آمِنِينَ)، حال، والشرط معترض، (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) أي: محلقًا بعضكم،

ومقصرًا آخرون حال مقدرة لأن الدخول ما كان في حال الحلق، (لَا تَخَافُونَ)، حال مؤكدة، (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا): من الحكم والمصالح، (فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ) أى: من دون دخولكم المسجد، (فَتْحًا قَرِيبًا) هو [صلح] الحديبية على الأصح كما ذكرنا في أول السورة، أو هو فتح خيبر، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى): متلبسًا بالعلم النافع، (وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ): ليعليه، (عَلَى الدِّينِ): على جنسه، (كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا): إنك مرسل بالحق، أو إن ما وعده كائن، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)، جملة تامة مبينة للمشهود به، أو تقديره هو محمد، ويكون قوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ): الصحابة، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، جملة معطوفة على جملة، أو محمد مبتدأ، أو رسول الله عطف بيان، والذين معه عطف على محمد، و " أشداء " إلخ خبرهما، أي: يغلظون على المخالفين يتراحمون فيما بينهم، (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أى: علامتهم في وجوههم، و " من أثر " إما حال من ضمير في الخير، أو بيان

لسيما أي: يوم القيامِة يكونون منوري الوجوه، أو المراد خشوعهم وتواضعهم، أو صفاؤهم أو صفرة اللون من السهر أو أثر التراب على الجباه فإنَّهم كانوا يسجدون على الأرض من غير حائل، (ذَلِكَ): المذكور، (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي: صفتهم العجيبة في الْكِتَابين، (كَزَرْعٍ) أي: هم كزرع أو " مثلهم في الإنجيل " مبتدأ وهو خبره أو ذلك إشارة مبهمة، وهو تفسيرها، (أَخْرَجَ شَطْأَهُ): فِراخه، (فَآزَرَهُ): قَوَّاه، (فَاسْتَغْلَظَ): صار من الدقة إلى الغلظ، أو المراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم، ونظائره، (فَاسْتَوَى): فاستقام، (عَلَى سُوقِهِ): على قصبه، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ): لحسن منظره، وعن قتادة: مثل أصحابه في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً، ثم يزدادون، وعن بعض: إن أصل الزرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشطء الصحابة - رضي الله عنهم - (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)، علة للتشبيه، أو تقديره قواهم ليغيظ، وقيل: علة لقوله: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ) أي: مِن الصحابة، ومن للبيان، (مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية وهى ثماني عشرة آية وفيها ركوعان * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) * * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تتقدموا بين يدي أمرهما وفيهما، ولا تقطعوا أمرًا قبل حكمهما به؛ بل كونوا تابعين لأمر الله تعالى، ورسوله، يقال: تقدم بين يدي أمه وأبيه أي: عجل بالأمر والنهي دونهما، فهو لازم، وقراءة " لا تَقدموا " بفتح التاء يؤيده، أو المفعول محذوف أي: أمرًا عن ابن عباس - رضى الله عنهما - لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، (وَاتَّقُوا اللهَ): في التقدم، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ): لأقوالكم، (عَلِيمٌ): بأحوالكم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ): لا تجاوزوا أصواتكم عن صوته، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ): جهرًا، (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)، بل اجعلوا أصواتكم معه أخفض من أصوات بعضكم من بعض، أو لا تخاطبوه باسمه وكنيته، بل خاطبوه بالنبي والرسول، كقوله (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) [النور: 63] نزلت في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حين تماريا في محضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتفعت أصواتهما، فكان أبو بكر وعمر بعد ذلك يُسرَّانه، (أَنْ تَحْبَطَ)

أي: كراهة أو خشية أن تحبط، (أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ): بحبطها، وفي الصحيح " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يكتب له بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " (1) وقد مر، (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ): يخفضون، (أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى): أخلصها، فلم يبق لغير التقوى فيها حق يقال: امتحن الذهب إذا أذابه وأخرج خبثه، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل حصول التقوى، أو كناية عن صبرهم، وثباتهم على التقوى التي جَرَّبها ومرنها عليها، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ): عظيمة، (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)، الجملة خبر ثان لـ إنَّ أو استئناف، (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) أي: من جهة وراء حجرات نسائه (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقلُونَ) إذ العقل يقتضي الأدب سيما مع مثله، (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا): لو ثبت صبرهم، (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ): الصبر، (خَيْرًا لَهُمْ): من الاستعجال، (وَاللهُ عفُورٌ رَحِيمٌ)، حيث يقتصر على النصح لمسيء الأدب، ولو تاب ليغفره نزلت في وفد بني تميم أتوا وقت الظهيرة، ونادوا على الباب حتى استيقظوه، وقالوا: يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحنا زين، وذمنا شين، أو

_ (1) نصه في البخاري [إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ]. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

في وفد بني العنبر حين سبيت ذراريهم، وأتى بهم فجاء رجالهم يفدون الذراري، وقدموا وقت الظهيرة، فجعلوا يصيحون، وينادون: يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا): تفحصوا صدقه، وقراءة " فتثبتوا " معناه توقفوا إلى أن يتبين الأمر (أَنْ تُصِيبُوا) أي: كراهة إصابتكم، (قوْمًا): بُرآء، (بِجَهَالَةٍ): جاهلين بحالهم، (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، نزلت في الوليد بن عقبة بُعث إلى بني المصطلق لأخذ زكاتهم، فرجع من الطريق لخوف منهم للعداوة التي بينه وبينهم في الجاهلية، وقال: إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتلي، فقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغزوهم فجاء وفد منهم وكذبوه، (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي: واعلموا أن فيكم لا في غيركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حال لو أطاعكم في كثير من آرائكم لوقعتم في جهد ومصيبة، نزَّلهم منزلة من لا يعلم أنه بين أظهرهم، وجملة " لو يطيعكم " حال إما من الضمير المستتر، أو البارز في " فيكم " (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)،

ولذلك تطيعونه أنتم لا هو يطيعكم، فلا تُوقعون في عنت، (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)، وعن بعض المفسرين: إن قوله " ولكنَّ اللهَ " استثناء لقوم آخرين صفتهم غير صفتهم، كأنه قال فيكم الرسول على حال يجب تغييرها، وهي إرادتكم أن يتبعكم، ولو فعل لعنتم، ولكن بعضهم الموصوفين بأن الله تعالى زين الإيمان في قلوبهم لا يريدون أن يتبعهم أولئك هم الذين أصابوا [الطريق] السوي، وعن بعضهم: إن معناه إن فيكم الرسول فعظموه، ولا تقولوا له باطلاً، ثم لما قال ما دل على أنَّهم جاهلون بمكانه مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلنا حتى نسبنا إلى التفريط، وماذا ينتج من المضرة فأجاب إنكم تريدون أن يتبعكم، ولو اتبعكم لعنتم، فعلى هذا جملة " لو يطيعكم " استئنافية، (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَة) نصب على أنه مفعول له لـ حَبَّبَ، أو لـ كَرَّه أو مفعول مطلق لهما فإن التحبيب فضل، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا): تقاتلوا، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا): بالنصح نزلت حين قال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك، في جواب عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب الحمار: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فاستبا، فتقاتل الصحابة قوم ابن أبي، بالجريد، والنعال، أو في الأوس، والخزرج لما بينهما من القتال بالسعف أو في رجلين من الأنصار تقاتلا بالنعال، (فَإِنْ بَغَتْ): تعدت، (إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي): الطائفة التي

(11)

صدرت منها البغي، (حَتَّى تَفِيءَ): ترجع، (إِلَى أَمْرِ اللهِ): حكمه، (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ)، قيد بالعدل هاهنا لأنه مظنة الحيف لما أنه بعد المقابلة، (وَأَقْسطُوا): اعدلوا في الأمور، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة): من حيث الدين، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، عدل من بينهم إلى بين أخويكم للدلالة على أن المصالحة بين الجماعة أوكد وأوجب إذا لزمت بين الأقل، فبين الأكثر ألزم، (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون). * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ

لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)، القوم للرجال خاصة، (عَسَى أَنْ يَكُونوا): المسخور بهم، (خَيْرًا مِنْهُمْ): من الساخرين استئناف علة للنهي، واكتفى " عسى " بالاسم عن الخبر، (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ): عند الله، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ): لا يعب بعضكم بعضًا، وإن عيب أخيه عيب نفسه، أو لأن المؤمنين كنفس واحدة، واللمز الطعن باللسان، (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ): لا يدعوا بعضكم بعضًا باللقب السوء والنبز مختص باللقب السوء عرفًا، (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) يعني: إن السرية واللمز والتنابز فسوق، وبئس الذكر الذي هو الفسوق بعد الإيمان يعني: لا ينبغي أن يجتمعا، فإن الإيمان يأبى الفسوق، أو كان في شتائمهم: يا يهودي، يا فاسق، لمن أسلم فنهوا عنه، وقال: بئس تشهير الناس بفسق كانوا فيه بعدما اتصفوا بضده، (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ): عما نهى عنه، (فَأُولَئِكَ هُمُ

الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ): وهو ظن السوء بأخيك المسلم، (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ): فكونوا على حذر حتى لا توقعوا فيه، (وَلَا تَجَسَّسُوا): لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره، مع أنه فيه، فإن لم يكن فيه، فبهتان، (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ)، تمثيل لما ينال من عرضه على أفحش وجه، (مَيْتًا)، حال من اللحم، أو الأخ، (فَكَرِهْتُمُوهُ)، الفاء فصيحة أي: إن عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، فهو تقرير وتحقيق للأول، (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ): بليغ في قبول التوبة، (رَحِيمٌ)، روى الإمام أحمد، والبيهقي أنه قيل: يا رسول الله فلانة وفلانة صائمتان وقد بلغتا الجهدَ، فقال: " ادعها "، فقال لإحداهما: " قيئي "، فقاءت لحمًا ودمًا عبيطًا وقيحًا، وللأخرى مثل ذلك، ثم قال عليه الصلاة والسلام إن هؤلاء صامتًا عما أحل الله، وأفطرتا عما حرم الله عليهما أتت إحدهما للأخرى، فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى): آدم وحواء فأنتم متساون في النسب، فلا تفاخروا به، (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا)، الشعب بالفتح رءوس القبائل، والطبقة الأولى، والقبائل تشعبت منه، (وَقَبَائِلَ)، هي دون الشعب

كتميم من مضر، (لِتَعَارَفُوا): ليعرف بعضكم بعضًا لا للتفاخر، وفي الحديث " لتعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحاكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل "، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)، بين الخصلة التي بها فضل الإنسان غيره، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ): ببواطنكم. في الحديث " لينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " ومن ذلك ذهب من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا يشترط سوى الدين، (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا)، قيل: نزلت في قوم منافقين أظهروا الإيمان لأن يعطوا الصدقة، (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا): يعني كذبتم، (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، فإن الإسلام انقياد وإظهار للتوحيد، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي

قُلُوبِكُمْ)، حال من فاعل قولوا كأنه قال، لا تقولوا آمنا؛ بل قولوا حال كون قلوبكم لم يواطئ ألسنتكم أسلمنا، وزيادة ما في المعنى التوقع، فإن هؤلاء قد آمنوا بعد، (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ): سرًّا وعلانية، (لَا يَلِتْكُمْ): لا ينقصكم، (مِنْ أَعْمَالِكُمْ): من جزائها، (شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وعن ابن عباس، والنخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير: إن هؤلاء الأعراب ليسوا منافقين، لكن مسلمون ادعوا لأنفسهم أول ما دخلوا في الإسلام مقام الإيمان الذي هو أعلى من الإسلام، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم، فأدبهم الله، وأعلمهم أن ذلك مرتبة تتوقع منهم، ولم يصلوا إليها بعد، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا): لم يشكوا في الرسالة، وثم للتراخي الزماني أي: آمنوا، ثم لم تحدث ريبة كما تحدث للضعفاء بعد زمان، أو للتراخي الرتبي، (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ): في ادعاء الإيمان، (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ): أتخبرون الله به بقولكم: " آمنا "، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي: بأن أسلموا نزلت في بني أسد حين قالوا: يا رسول الله أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، (قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ) أي: بإسلامكم، فنزع الخافض، أو منصوب بتضمين الاعتداد أي: لا [تعدُّوا] عليَّ إسلامكم، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): في ادعاء الإيمان أولاً نفى الإيمان عنهم وأثبت الإسلام، وأنكر منَّتهم عليه بالإسلام، ثم قال: بل لو صح

ادعاؤهم الإيمان الذين هو أعلى من الإسلام فلله المنة عليهم بالهداية له، (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): ما غاب فيهما، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): فكيف يخفى عليه دينكم؟!. والحمد لله والمنة. * * *

سورة ق

سورة ق مكية وهى خمس وأربعون آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) * * * (ق)، مثل ص، وقد مر وقيل: من أسماء الله تعالى، أو معناه: قضي الأمر، أو مفتاح أسماء الله تعالى التي في أوائلها " ق " كـ القدير، وغيره، (وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ): ذي

المجد والشرف، وجواب القسم مثل ما مر في ص، (بَلْ عَجِبُوا): الكافرون، (أَن جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، فإنهم قالوا: الرسول إما ملك، أو من معه ملك، أو بشر لا يحتاج إلى كسب المعاش، (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)، وضع الظاهر موضع المضمر للشهادة على أنَّهم في هذا القول مقدمون على الكفر، وهذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده، وهو قوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) أي: أنرجع حين نموت [ونبلى]؟! (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ): عن العادة والإمكان، (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ): ما تأكل الأرض من أجساد موتاهم، ومن كان كذلك فهو قادر على رجعهم، (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ): حافظ لتفاصيل كل شيء، أو محفوظ من التغيير، وهو اللوح المحفوظ، (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ): القرآن، (لَمَّا جَاءَهُمْ) كأنه قال، بل جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو إنكار القرآن من غير تأمل وتوقف، (فَهمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ): مضطرب، فمرة قالوا: شعر ومرة: سحر، (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا): حين أنكروا البعث، (إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ) أي: كائنة فوقهم، (كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا): بالكواكب، (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ): من فتوق، بل ملساء لا فتق فيها ولا خلل، (وَالأرْضَ)، عطف على محل السماء، أو نصب بما أضمر عامله وتقديره، ومددنا الأرض فلينظروا إليها، (مَدَدْنَاهَا): بسطناها، ووسعناها قيل: فيه إشعار بأنها غير كُرّية، (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج): صنف، (بَهِيجٍ): حسن، (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى)، مفعول له للأفعال المذكورة كأنه قال جمعت بين ذلك تبصرة، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ): راجع إلى ربه متفكر في بدائعه،

(16)

(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ): أشجارًا، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ): حب الزرع الذي يحصد كالحنطة والشعير، (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ): طوالاً شاهقات، حال مقدرة، (لَهَا طَلْعٌ) هو أول ما يظهر قبل أن ينشق، (نَضِيدٌ): منضود بعضه على بعض في أكمامه، والمراد كثرة ما فيه من الثمر، (رِزْقًا لِلْعِبَادِ)، مفعول له لـ أنبتنا، (وَأَحْيَيْنَا بِهِ): بالماء، (بَلْدَةً مَيْتًا): أرضًا لا نماء فيها، (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ): من القبور، (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ)، أراد قومهم، (وَإِخْوَانُ لُوطٍ) أي: قومهم، وسماهم إخوانه لقرابته القريبة، (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ)، سبق في الدخان، (كُلٌّ) أي: كل واحد من هؤلاء، (كَذَّبَ الرُّسُلَ): من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل، (فَحَقَّ وَعِيدِ): وجب عليهم عذابي، (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي: إنا أنعجز كما علموا عن بدء الخلق حتى نعجز عن الإعادة، (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: هم لا ينكرون قدرتنا، بل هم في شبهة من البعث. * * * (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ

مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) * * * (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ): ما يخطر بضميره، " ما " موصولة والباء صلة لـ توسوس أي: الذي تحدث نفسه به أو مصدرية، والباء للتعدية والضمير للإنسان، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) المراد قرب علمه منه فتجوز بقرب الذات،

لأنه سبب أو المراد قرب الملائكة منه، (مِنْ حَبْلِ): عرق، (الْوَرِيدِ): عرق العنق،

والإضافة بيانية، (إِذ يَتَلَقَّى): يتلقن بالحفظ، (الْمُتَلَقِّيَانِ): الملكان الحفيظان، إذ ظرف لأقرب، وفيه إشعار بأنه تعالى غني عن استحفاظ المَلكين لكن إقامتهما لحكمة، أو إذ تعليل لقرب الملائكة، (عَنِ الْيَمِينِ): قعيد، (وَعَنِ الشِّمَالِ قعيدٌ)، حذف المبتدأ من الأول لدلالة الثاني عليه، وقيل: الفعيل للواحد والجمع، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ): لدى القول، أو الإنسان، (رَقِيبٌ): ملك يرقبه، (عَتِيدٌ): حاضر، وهو يكتب كل شيء؟ فيثبت في القيامة ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره، أو لا يكتب إلا الخير والشر؟ فيه خلاف بين السلف، والقرآن يشعر بالأول، ولو قيل: المراد من قوله إلا لديه رقيب ملك يسمعه لا يحفظه، ويكتبه فقلنا: فالمناسب رقيبان، لأن السماعَ لا يختص بواحد، (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ): شدته، (بِالْحَقِّ)، الباء للتعدية أي: أتت بحقيقة الأمر الذي كنت تمتري فيه، (ذلِكَ): الحق، (مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ): تميل فلم تقربه، لما ذكر إنكارهم البعث، واحتج عليهم بشمول علمه وقدرته أعلمهم أن ما أنكروه يلاقون عن قريب فنبه على الاقتراب بلفظ الماضي، أو معناه جاءت سكرته متلبسة بالحكمة ذلك الموت مما كنت تفر منه، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي: نفخة البعث، (ذلِكَ): النفخ أي: وقته، (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ): من الملك يسوقه إلى الله تعالى، (وَشَهِيدٌ): منه يشهد عليه بأعماله فمعه ملكان، وعن بعض المراد من الشهيد جوارحه، وكل نفس وإن كان نكرة صورة، لكن معرفة معنى، لأنه بمعنى النفوس فجاز أن يكون ذا الحال، (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) أي: يقال لكل نفس، فإن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا يقظة، (فَكَشَفْنَا

عَنْكَ غِطَاءَكَ): حتى عاينته، (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ): نافذ لزوال الحاجب، وعن بعض الخطاب للكفار، والمراد من الغفلة الإنكار، (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي: قال الملك -الموكل عليه: هذا ما لدي من كتاب أعماله حاضرًا، وقال ملك- يسوقه: هذا شخص لدى حاضر قيل: القرين الشيطان، ومعناه هذا شيء عندي، وفي ملكتي عتيد لجهتم هيأته بإغوائي لها، وعتيد خبر بعد خبر إن جعلت ما موصولة وصفة لما إن جعلتها موصوفة، قيل: هذا إشارة إلى مبهم يفسره جملة " ما لدي عتيد " (أَلْقِيَا): يا أيها السائق، والشهيد، وقيل: الخطاب للملكين من خزنة النار، ومن قال: الشهيد جوارحه يقول: هو خطاب الواحد بلفظ التثنية على عادة العرب خليلي صاحبي، (فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ): معاند، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ): لما يجب عليه من الزكاة، أو لجنس الخير أن يصل إلى أهله، (مُعْتَدٍ): ظالم، (مُرِيبٍ): شاك في التوحيد، (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) " الذي " مبتدأ، أو " فألقياه " خبره أو بدل من " كل كَفَّار " والعذاب الشديد نوع من عذاب جهنم، فكان من باب عطف الخاص على العام، (قَالَ قَرِينُهُ): الشيطان الذي قيض له، (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ): ما أضللته، هذا جواب لقول الكافر، هو أطغاني، (وَلَكِنْ

(30)

كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): عن الحق يتبرأ منه شيطانه كما قال تعالى حكاية عنه: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم: 22] (قَالَ) الله تعالى: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)، الواو للحال أي: لا تختصموا عالمين بأني أوعدتكم على الطغيان بلسان رسلي، والباء مزيدة، أو للتعدية على أن قدم بمعنى تقدم، (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ): لا تبديل ولا خلف لقولي، وقيل: لا يغير القول على وجهه، ولا يمكن الكذب عندي وإني أعلم الغيب، (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)؛ فأعذبهم بغير جرم، قيل: جملة " ما يبدل " مفعول قدمت، و " بالوعيد " حال أي: قدمت إليكم هذا موعدًا لكم. * * * (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ

وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) * * * (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ)، نصبه بتقدير نحو: اذكر، أو بظلام، (هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ) جهنم: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)، تطلب المزيد، وفي الصحيح لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول هل من مزيد حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط "، أو تستبعد الزيادة لفرط كثرتهم فالاستفهام حينئذ للإنكار، أي: قد امتلأت، وعلى هذا إنما هو بعد ما يضع الرب فيها قدمه فينزوي، والسؤال والجواب على حقيقته، (وَأُزْلِفَتِ): قربت، (الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)، نصب على الظرف أي: مكانًا غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم أو حال، ومعناه التوكيد كعزيز غير ذليل، والتذكير لأن البعيد على زنة المصدر، أو لأن الجنة بمعنى البستان، (هَذَا) أي: يقال لهم هذا، (مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ): رجاع إلى الله تعالى، (حَفيظٍ): حافظ لأمر الله تعالى ولكل بدل من للمتقين (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ)، بدل بعد بدل أو بتقدير أعني أو

هم، (بِالْغَيْبِ): غائبًا عن الأعين أي: خاف الله تعالى في سره أو غائبًا عن عقابه لم يراء أو حال من المفعول أي: خشى عقابه حال كون العقاب غائبًا، (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ): راجع إلى الله تعالى خاشع، (ادخُلُوهَا) أي: يقال لهم ذلك، (بِسَلام): سالمين من المكاره، أو مسلمين من الله تعالى وملائكته، (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود): يوم تقدير الخلود، (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا): مما لم يخطر ببالهم، (مَزِيدٌ وَكَمْ أَهْلَكنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ): جماعة من الناس، (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشَّاَ): قوة، (فَنَقَّبُوا): تصرفوا، (فِى الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ): مفر لهم من قضاء الله تعالى، وهل نفعتهم القوة فأنتم أيضًا لا مفر لكم، أو معناه: فبحثوا وطلبوا، وفتشوا في البلاد هل من محيص من الموت، فلم يجدوا قيل: معناه فنقبوا وساروا أي: أهل مكة في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصًا حتى يتوقعوا لأنفسهم، وقراءة الشاذة " فنقبوا " بصيغة الأمر تدل على هذا الوجه (إِنَّ فِي ذَلِكَ): المذكور في هذه السورة، (لَذِكْرَى): تذكرة، (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ): واع متفكر فإن من لا يعي فكأنه

لا قلب له، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ): أصغى [للقرآن]، (وَهُوَ شَهِيدٌ): حاضر بذهنه، فإن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، مر تفسيره، (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ): تعب وإعياء، وهذا رد قول اليهود: إن الله تعالى فرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت، ويسمونه يوم الراحة، (فَاصْبرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ): المكذبون، (وَسَبِّحْ): نزهه، (بِحَمْدِ ربِّكَ): متلبسًا بحمده، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) يعني: الفجر والعصر فإنهما وقتان فاضلان، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ): أعقاب الصلاة، والمراد التسبيح دبر الصلوات، أو المراد صلاة الفجر وصلاة العصر، وصلاة التهجد، وفي بدء الإسلام قبل الإسراء الفرائض هذه الثلاثة، ثم نسخت بخمس صلوات في ليلة الإسراء، والمراد من أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وعليه عمر، وعلي، والحسن، وابن عباس، وغيرهم - رضي الله عنهم (وَاسْتَمِعْ): يا محمد لما أخبرك به من أحوال يوم القيامة، (يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ): إسرافيل، (مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ): من السماء، وهي صخرة بيت المقدس أقرب أجزاء الأرض من السماء ينادي: أيتها العظام البالية، واللحوم المتمزقة إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، ونصب يوم بمقدار، أي: يخرجون من القبور، والدال عليه ذلك يوم الخروج، ويمكن أن يكون " واستمع " عطفًا على اصبر، أي: اصبر اليوم على مقالاتهم، واستمع يوم القيامة عجزهم وندامتهم، (يَوْمَ يَسْمَعون)، بدل من " يناد "، (الصَّيْحَةَ): نفخة البعث، (بِالْحَقِّ)، متعلق بالصيحة، (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ): من القبور بدل بعد بدل (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ): للجزاء، (يَوْمَ تَشَقَّقُ) أي: تتشقق بدل بعد بدل، أو ظرف للمصير، (الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا): مسرعين، (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا): لا على غيرنا، (يَسِيرٌ):

فإنه لا يتيسر لغير من هو كامل القدرة، (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ)، تهديد للكفار، وتسلية له - عليه الصلاة والسلام (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ): فتجبرهم على الهداية إنما أنت منذر، (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ): فإن من أصرَّ على الكفر لا ينتفع به. اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك. * * *

سورة الذاريات

سورة الذَّارِيَاتِ مكية وهي ستون آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) * * * (وَالذَّارِيَاتِ) أي: الرياح، فإنها تذرو التراب، وغيره، (ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ): السحاب، فإنها تحمل المطر، (وِقْرًا): حملا، (فَالْجَارِيَاتِ): السفن التي تجري في

البحر، (يُسرًا) أي: جريًا ذا يسرٍ، أي: ذا سهولة، وعن بعض هي النجوم تجري بسهولة في أفلاكها، (فَالْمُقَسِّمَاتِ): الملائكة، (أَمْرًا): يقسمون الأمور بين الخلائق، (إِنَّمَا تُوعَدُونَ) أي: البعث جواب للقسم، وما مصدرية، أو موصولة، (لَصَادِقٌ)، هو كعيشة راضية، (وَإِنَّ الدِّينَ): الجزاء، (لَوَاقِعٌ): حاصل، (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ): الحسن والبهاء، أو لها حبك كحبك الرمل إذا ضربته الريح، وحُبكِ شعر الجعد، ولكنها لا يرى لبعدها، أو ذات الشدة، أو الصفاقة، أو النجوم، (إِنَّكُمْ): أيها المشركون، (فَي قَوْلٍ مختَلِفٍ): مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع في أمر الدين جواب للقسم، (يُؤْفَكُ): يصرف، (عَنْهُ): عن الدين، أو عن ما توعدون، (مَنْ أُفِكَ): من صرف أي: يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا أشد منه، والمبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به، وهو قريب من قوله: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) [طه: 78] أو يصرف عن الهداية بسبب قول مختلف من صرف، فعن بمعنى السبب، والأجل، والضمير للقول، فإنهم كانوا يتلقون من يريد الإيمان يقولون: إنه ساحر مجنون كذا وكذا، فيصرفونه عن الإيمان، (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ): الكذابون ممن يختلف قولهم، والمراد من هذا الدعاء اللعن، (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ): جهل يغمرهم، (سَاهُونَ): غافلون، (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي: متى وقوع يوم

الجزاء، (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفتَنونَ): يحرقون، ونصب يوم على الظرف أي: يقع يوم، (ذُوقُوا) أي: يقال لهم ذلك، (فِتْنَتَكمْ): عذابكم، (هَذَا الَّذِي كُنتمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُون) أي: تستعجلون به في الدنيا سخرية. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّات وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ): من النعيم راضين به، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ) أي: في الدنيا، (مُحْسِنِينَ): قد أحسنوا أعمالهم، (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ): ينامون، فما زائدة، ويهجعون خبر كان، وقليلاً إما ظرف أي: زمانًا قليلاً، ومن الليل إما صفة، أو متعلق بـ يهجعون، وإما مفعول مطلق أي: هجوعًا قليلاً، ولو جعلت ما مصدرية فما يهجعون فاعل قليلاً ومن الليل بيان، أو حال من الصدر، ومن للابتداء، وأما جعلها نافية أي: الهجوع في قليل من الليل منتف بمعنى إن عادتهم إحياء جميع أجزاء الليل، فلا نوم لهم أصلاً، أو إن عادتهم التهجد في جميع الليالي، فلا يمكن أن يناموا جميع ليل واحد فجائز عند من يجوز تقديم معمول ما النافية إذا كان ظرفًا، (وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفرُونَ وَفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ): نصيب، (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ): هو من ليس له في بيت المال سهم، ولا كسب له

ولا حرفة، أو من لا يسأل الناس فيحسب غنيًّا، أو المصاب ماله، (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ): دلائل على قدرته وصنعه لا يدركها إلا من يطلب اليقين، لما ذكر المبين أحوال المصدقين بالبعث وأوصافهم عاد إلى ما كان فيه من إثبات القيامة والبعث، (وَفِي أَنْفُسِكُم): آيات هي عجائب ما في الآدمي، (أَفَلَا تُبْصِرُونَ): بنظر الاعتبار، (وَفي السَّمَاءِ رِرقُكُمْ): المطر الذي هو سبب الرزق من جانب السماء، (وَمَا تُوعَدُون): الجنة، وقيل: الرزق في الدنيا والثواب في العقبى كله مقدر في السماء، (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ) أي: ما توعدون، أو المذكور من الآيات والرزق وغيرهما، (لَحَقٌّ): واقع، (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي: مثل نطقكم، صفة لحق، ومن نصب مثل أراد حقًّا مثل نطقكم فكما أن نطقكم متحقق فهذا أيضًا كذلك. * * *

(24)

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) * * * (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)، فيه تعظيم لشأن الحديث، وتنبيه على أنه إنما عرفه بالوحي، (الْمُكْرَمِينَ): عند الله تعالى، وعند إبراهيم - عليه السلام - والضيف للواحد، والجمع؛ لأنه في الأصل مصدر والحكاية قد تقدمت في سورة " هود "، و " الحجر " (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)، ظرف للحديث، أو بتقدير اذكر، (فَقَالُوا سَلَامًا):

نسلم عليكم سلامًا، (قَالَ سَلامٌ) أي: عليكم سلام عدل إلى الرفع، ليدل على الثبات، فعمل بقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها) [النساء: 86]، (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي: أنتم قوم لا نعرفكم، (فرَاغَ): ذهب، (إِلَى أَهْله): بخفية، فمن أدب المضيف أن يخفي إتيانه بالضيافة عن الضيف، (فَجَاءَ بِعِجْلٍ) مَشوي، (سَمينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ): منه، ذكره بصيغة العرض تلطفًا في العبارة، (فأَوْجَسَ): أضمر، (مِنْهُمْ خِيفَةً): خوفًا، لما رأى أنَّهم لا يأكلون (قَالُوا لا تَخَفْ): إنا رسل الله تعالى، (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)، هو إسحاق، (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي: جاءت صارة صائحة، أو أخذت في الصيحة كقولك: أقبل يشتمني، ولا إقبال ولا إدبار، ْ (فَصَكَّتْ): لطمت، (وَجْهَهَا): تعجبًا كما هو عادة النساء من الأمر الغريب، (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي: أنا (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ ربُّكِ) أي: قال الله مثل ما بشرناه فواقع ألبتَّة، فكذلك مفعول قال، (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ) إبراهيم: (فَمَا خَطْبُكُمْ): ما شأنكم؟ (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ): قوم لوطِ، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طينٍ) أي: السجيل، (مُسَوَّمَةً): معلمة مكتوبًا على كل حجر اسم من يهلك به، (عنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا): في قرى قوم لوط، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): بلوطٍ، (فَمَا وَجَدْنا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ): أهل بيت، (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هم لوط، وأهل بيته إلا امرأته، ولو قلنا إن كل مؤمن مسلم من غير عكس لصح معنى الآية، فلا يستدل عليها باتحاد مفهوميهما، (وَتَرَكْنَا فِيهَا): في القرى، (آيَةً): علامة، (لِلَّذِينَ يَخَافُونَ

الْعَذَابَ الْأَلِيمَ): وقد بقي فيها آثار العذاب، (وَفِي مُوسَى)، عطف على فيها أي: وجعلنا في موسى آية، فهو من قبيل علفتها تبنًا وماءً باردًا وقيل: عطف على وفي الأرض، (إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): معجزة ظاهرة، (فَتَوَلَّى): أعرض، (بِرُكْنِهِ)، الباء للتعدية، أي: أعرض به نحو: نأى بجانبه، أو للسببية أي: بسبب جنوده وملكه، (وَقَالَ سَاحِرٌ): هو ساحر لما يظهر منه خارق العادة، (أَوْ مَجنونٌ): لما يدعي خلاف العقل، (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ): طرحناهم، (فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ): حال كونه آت بما يلام عليه من الكفر والفجور، (وَفِي عَادٍ): آية، (إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ): المفسدة التي لا تنتج نفعًا، (مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ): مرت، (عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ): كالشيء البالي المتفتت، (وَفِي ثَمُودً): آية، (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)، وذلك حين عقروا الناقة قيل لهم: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) [هود: 65] وعلى هذا فالفاء في قوله: (فَعَتَوْا عَنْ أَمْر ربِّهِمْ) مرتب على تمام القصة، كأنه قيل: وجعلنا فِي ذلك الزمان آية، ثم أخذ في بيانه، فقال: (فعتوا). فلا يرد أن ما قيل لهم: تمتعوا، مؤخر عن استكبارهم، أو المراد من قوله: " إذ قيل لهم " إلخ فيهم آية، إذ متعناهم في الدنيا مدة وهديناهم، فعصوا واستحبوا العمى على الهدى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) بعد ثلاثة أيام (وَهُمْ يَنْظُرُونَ): إليها عيانًا، (فَمَا

(47)

اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ) فيهربوا من عذاب الله تعالى، (وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ): ممتنعين منه، (وَقَوْمَ نُوحٍ)، عطف على محل في عاد، وقراءة الجر يؤيده، أو نصب بمقدر أي: أهكلنا، أو اذكر، (مِنْ قَبْلُ): من قبل هؤلاء، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ). * * * (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) * * * (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ): بقوة، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ): لقادرون، أو وسعنا السماء، (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا): بسطناها ومهدناها لعبادي، (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ): نحن، (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ): من الأجناس، (خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ): نوعين كالسماء والأرض، والليل

والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)، مرتب على مجموع بناء السماء وغيره، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي: فقل لهم فروا إليه من عقابه بطاعته، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ): ما يجب أن يحذر، أو بين كونه منذرًا من الله بالمعجزات، (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، كرر للتأكيد، (كَذَلِكَ) أي: الأمر مثل ما أخبرتك من تكذيب الأمم رسلهم، (مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا) في شأنه: (سَاحِرٌ أَوْ مَجنون أَتَوَاصَوْا بِهِ) أي: أوصى بعضهم بعضًا بهذا القول حتى اتفقوا على كلمة واحدة؟ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ): تشابهت قلوبهم، ولهذا اتفقوا على تلك الكلمة لا لتواصيهم، (فَتَوَل): أعرض، (عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ): على الإعراض بعد ما بلغت رسالتك، (وَذَكِّرْ): لا تدع الوعظة، (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي: من هو مؤمن فِي علم الله تعالى أو من آمن بزيادة بصيرته، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: إلا لأجل العبادة فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة، وهدوا إليها، فهذه غاية كمالية

لخلقهم وتعوق البعض عن الوصال إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وأما قوله: (ذرأنا لجهنم) [الأعراف: 179] فلام العاقبة نحو: لدوا للموت، أو إلا لنأمرهم بالعبادة، أو ليقروا بي طوعًا أو كرهًا أو المراد منهم المؤمنون، (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي: يُطْعِمُونِي أي: ليس شأني مع عبادي كشأن السادة مع العبيد، وقيل إن يرزقوا أنفسهم، أو أحدًا من خلقي وإسناد الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيال الله تعالى وإطعام العيال إطعامه، وفي الحديث القدسي " استطعمته فلم يطعمني " (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ): لجميع خلقه، (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ): المتين المبالغ فِي القوة، (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا): نصيبًا من العذاب، (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ): من الأمم السوالف، (فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ)، كما قالوا: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ): يوم القيامة. والحمد لله على الهداية. * * *

سورة والطور

سورة والطور مكية وهى تسع وأربعون آية وفيها ركوعان * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) * * *

(وَالطورِ) أقسم بجبل كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه بالأرض المقدسة، وأرسل منه موسى، (وَكَتابٍ مَسْطُورٍ): مكتوب، (فِي رَقٍّ): صحيفة، (مَنْشُورٍ): مبسوط، والمراد اللوح المحفوظ، أو ما كتبه الله تعالى لموسى من الألواح، أو دواوين كرام الكاتبين، والتنكير للتعظيم، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ): بيت في السماء السابعة بحيال الكعبة يطوف به ملائكتها، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها، والذي في السماء الدنيا اسمه بيت العزة، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفوعِ) أي: السماء، أو العرش، (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)، هو بحر تحت العرش منه ينزل مطر يحيا به الأجساد فى قبورها يوم المعاد، أو البحر الذي في الدنيا، وهو مسجور أي: موقد يصير نارًا يوم القيامة محيطة بأهل الموقف أو مملوء، أو ممنوع مكفوف أي: عن الأرض أن يغرق، وفى مسند الإمام أحمد قال - عليه السلام: " ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يتأذن الله تعالى أن ينفضح عليهم فيكفه الله تعالى "، (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ): نازل على الكافرين، (مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ): من أحد يدفعه، (يَوْمَ تَمُورُ): تضطرب، (السَّمَاءُ مَوْرًا) يعني لأجل التشقق ظرف لواقع، (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا): فتصير

هباءً منبثا، (فَوَيْلٌ) أي: إذا وقع العذاب فويل، (يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي: يلعبون في الخوض في الباطل، أو هم في خوض في الباطل يلعبون بدينهم، (يَوْمَ يُدَعُّونَ): يدفعون ويساقون، (إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا): دفعًا بعنف، (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ): يقال لهم ذلك تقريعًا، (أَفَسِحْرٌ هذَا) أي: يقال لهم ذلك كنتم تقولون للوحي المنذر عن هذه النار هذا سحر، فهذا الذي هو مصداقه سحر أيضًا دخلت الهمزة بين المعطوفين، والمشار إليه النار، وذكر لأنه فى تأويل المصداق، (أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ): لهذا كما كنتم لا تبصرون ما يدل عليه، وهذا تهكم وتقريع، (اصْلَوْهَا): ادخلوها، (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا): فإنه لا محيص ولا مناص، (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ)، خبر محذوف أي: الأمر أن الصبر وعدمه مستو عليكم في عدم النفع، (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: لأن الجزاء واقع لا محالة، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ): متلذذين، (بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ): أعطاهم (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، عطف على ما أتاهم بشرط أن تجعل ما مصدرية، وإلا فحال بإضمار قد، (كُلُوا وَاشْربوا هَنيئًا) أي: يقال لهم كلوا أكلاً أو طعامًا واشربوا شربًا أو شرابًا هنيئًا لا تنغيص فيه، (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بدله، أو بسببه، (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ): موضوعة بعضها إلى جنب بعض، (وَزَوَّجْنَاهُمْ

بحُورٍ عِينٍ)، الباء لمعنى الوصل في التزويج، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)، يخبر تعالى عن كمال إحسانه إلى المؤمنين بأن الأولاد إذا اتبعوا آباءهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعينهم بهم، فيجمع بينهم بأن يرفع ناقص العمل بالكامل لا ينقص ذلك من عمله، ومنزلته ليساوي بينه وبين ذلك، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ): نقصناهم، (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ): شيئًا من النقص، وفي الطبراني قال - صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه، وزوجته، وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به "، وعن بعض معناه: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان أي: البالغون ألحقنا بهم ذريتهم الذين لم يبلغوا الإيمان، وماتوا بالصغر بإيمان آبائهم، وفي الحديث: " سألت خديجة عن ولديه ما بالهما في الجاهلية؟ فقال - عليه السلام: " في النار "، قالت: فولدي منك، قال: " فى الجنة "، ثم قال: " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) " الآية، فعلى هذا الذين آمنوا مبتدأ وقوله: " ألحقنا بهم ذريتهم " خبره، (كل امْرِئٍ بمَا كَسَبَ رَهِينٌ): مرهون بعمله عند الله تعالى إن عمل صالحًا فكَّها، وإلا أهلكها، (وَأَمْدَدْنَاهُمْ): زدناهم وقتًا بعد وقت، (بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ): يتعاطون ويأخذ بعضهم من بعض، (فِيهَا كَأْسًا): خمرًا، (لَا لَغْوٌ): لا يتكلمون بلغو الحديث، (فِيهَا): في أثناء شربها، (وَلَا تَأْثِيمٌ): ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله،

(29)

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ): بالخدمة، (غِلْمَانٌ لَهُمْ): مماليك لهم، (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ): مصون في الصدف من صفائهم وبياضهم، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ): عن أحوالهم التي كانت لهم في الدنيا يتذاكرون ويتحدثون بما مضى عليهم، (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا): في الدنيا، (مُشْفِقِينَ): خائفين من عذاب الله تعالى، (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا): بالرحمة، (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ): حرارة نار جهنم، (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ): في الدنيا، (نَدْعُوهُ): نتضرع إليه ونعبده، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ): المحسن، (الرَّحِيمُ). * * * (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ

مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) * * * (فَذَكِّرْ): يا محمد، (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ) أي بإنعام الله عليك حال من ضمير (بِكَاهِنٍ): كما يقولون، (وَلَا مَجْنُونٍ): فلا تبال بكلامهم، ولا تذر عن التذكير (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ)، بل أيقولون، والهمزة لإنكار أنه لشاعر، (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ): حوادث الدهر، فيهلك كما هلك الشعراء قبله فنستريح، والمنون الدهر أو الموت، (قُلْ تَرَبَّصُوا): انتظروا هلاكي، (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ): هلاككم، (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم): عقولهم، (بِهَذَا): الذي يقولون فيك من الأقوال الباطلة المتناقصة، (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغون): مجاوزون الحد فهو الذي حملهم على فيك الأقوال، فالهمزة هاهنا للتقرير، وفي البواقي كلها للإنكار، (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ): اختلق القرآن من عند نفسه متعمدًا، (بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ): فينسبونه إلى تلك الأشياء، (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ): القرآن (إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ): إن محمدًا تقوله،

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ): من غير ربٍّ، ومحدثٍ أي: لا خالق لهم، أو من أجل لا شيء أي: عبثًا، (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ): لأنفسهم، فلذلك لا يسمعون كلام خالقهم ولا رسالته، (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ): يشكون حين يقولون الله خلقهن، فإنهم لو أيقنوا لما أعرضوا عنه، (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ ربِّكَ): خزائن قدرته، (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ): الغالبون على الأشياء المحاسبون للخلائق، (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ): منصوب إلى السماء، (يَسْتَمِعُونَ) أي: ما يجري في السماء، (فِيهِ) أي: صاعدين فيه فيعرفون حقية ما هم عليه، (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة

ظاهرة على صحة الاستماع، (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)، فيه تسفيه لأحلامهم على آكد وجه، (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا): على الرسالة، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ): محملون الثقل من التزام غرم، فلذلك لم يتبعوك، والمغرم أن يلتزم ما ليس عليه، (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ): اللوح المحفوظ، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ): ما فيه، ويخبرون به الناس أو علم الغيب، فهم يحفظونه، (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا): مكرًا بك، الهمزة هاهنا أيضًا للتقرير، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا): من وضع الظاهر موضع المضمر، أو أراد كل الكافرين، (هُمُ الْمَكِيدُونَ): الذين يحيق بهم الكيد ويعود وباله عليهم، (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ): ينصرهم، (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكونَ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا): قطعة، (مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا): لعذابهم، (يَقُولُوا): عنادًا، (سَحَابٌ مَرْكُومٌ)، هذا سحاب تراكم بعضها على بعض، وهذا جواب قولهم (فأسقط علينا كسفًا من السماء) [الشعراء: 187]، (فَذَرْهُمْ): في غمرتهم، (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيه يُصْعَقُونَ): يوم القيامة عند النفخة الأولى، (يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا): من الإغناء، (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا): من وضع الظاهر موضع المضمر، أو أراد العموم، (عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ): دون عذاب الآخرة في الدنيا، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون): (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21]، لكن لا يعلمون أن المصائب للتنبيه، فلا ينيبون، (وَاصْبِرْ

لِحُكْمِ رَبِّكَ): ما قدر لك من وصول المكروه، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا): بحيث نراك، ونحفظك ونرعاك، وجمع العين لجمع الضمير، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ): إلى الصلاة، " سبحانك اللهم، وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك " أو من نومك أو من كل مجلس (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ): اذكره بالعبادة والصلاة، (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ): إذا أدبرت النجوم، والمراد ركعتي الفجر. * * *

سورة النجم

سورة النَّجْمِ مكية وهي إحدى أو اثنتان وستونَ آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلله الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) * * * (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) أقسم بالثريا إذا غاب، أو بجنس النجم إذا انقض، ورمي به الشياطين، أو بالقرآن وقد نزل منجمًا إذا نزل من السماء، أو بالنجوم إذا انتثرت يوم القيامة، وعن السلف: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق، (مَا ضَلَّ): ما عدل عن الطريق المستقيم، (صَاحِبُكُمْ): صلى الله عليه

وسلم، (وَمَا غَوَى): وما اعتقد باطلاً كما تزعمون، (وَمَا يَنْطِقُ): بالقرآن، (عَنِ الْهَوَى) أو ما يقول قولاً عن هوى وغرض، (إِنْ هُوَ): ليس ما ينطق به، (إِلا وَحْيٌ): من الله تعالى، (يُوحَى): إليه، وفي الحديث أنه قال - عليه السلام: " لا أقول إلا حقًّا "، (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى): جبريل فإنه شديد قواه، (ذُو مِرَّةٍ): ذو قوة شديدة، ومنظر حسن أو إحكام في العقل، (فَاسْتَوَى): جبريل واستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، وما رآه غيره من الأنبياء على صورته، (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى): أفق السماء قد سد الأفق، وهذا قبل الإسراء، (ثُمَّ دَنَا): جبريل إلى محمد، وهبط إلى الأرض بعدما رده الله تعالى إلى صورة آدمي، (فَتَدَلَّى): تعلق به وليس المراد منه الإسراء، وكأن هذه الرؤية في أوائل البعثة بعد أن جاء إليه في حراء قيل: فى " فتدلى " إشارة منه إلى أنه ما تجاوز عن مكانه فإنه استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة، (فَكَانَ): جبريل، (قَابَ): مقدار، (قَوْسَيْنِ)، يعني مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، (أَوْ أَدْنَى): على تقديركم، والغرض نفي ما زاد عليه، (فَأَوْحَى): جبريل، (إِلَى عَبْدهِ): إلى عبد الله تعالى، (مَا أَوْحَى): جبريل فيه تفخيم للموحى به، أو المعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وحاصل المعنى متحد، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) أي: فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رآه ببصره من صورة جبريل، أو ما كذب الفؤاد ما رآه بفؤاده أي: الله تعالى، وفي الحديث " رأيته بفؤادي

مرتين ثم قرأ (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (أَفَتُمَارُونَهُ): تجادلونه من المراء، (عَلَى مَا يَرَى): من صورة جبريل، ولتضمينه معنى الغلبة عدى بعلى، (وَلَقَدْ رَآهُ): جبريل في صورته، (نَزْلَةً أُخْرَى): مرة أخرى، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - وجم غفير من السلف أنه رأى جبريل في صورته مرتين والمرة الأخيرة ليلة الإسراء نصب بالمفعول فيه، (عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى): هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش إليها ينتهي علم الخلائق لا يعلم أحد ما وراءها، (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)، فيه تعظيم لما يغشاها، وفي الحديث " أنه غشاها نور الربِّ، وألوانًا لا يدري ما هي، والملائكة مثل الغربان يعبدون " ما يغشى فاعل يغشى، وإذ ظرف لـ رآه أو لما زاغ عند من يجوز تقديم ما بعد ما إذا كان ظرفًا، (مَا زَاغَ): ما مال، (الْبَصَرُ) أي: بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - عما رآه (وَمَا طَغَى): ما تجاوزه، وهذا وصف أدبه - صلى الله عليه وسلم - (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ ربِّهِ): بعض عجائبه، (الْكُبْرَى)، صفة الآيات، أو هو المفعول ومن آيات ربه حال مقدم، ثم اعلم أنه قد ورد في الصحيحين أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أنا أول من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله " ولقد رآه بالأفق المبين "، " ولقد رآه نزلة أخرى " فقال: " إنما ذاك جبريل لم يره في صورته إلا مرتين "، وفي مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربَّك؟ قال: [نُورٌ] أَنَّى أَرَاهُ "، وفي

رواية لغير مسلم " رأيت نورًا "، وكان سؤال عائشة بعد الإسراء، فلا يمكن أن يقال كأن نفي الرؤية قبل الإسراء، وما قيل إنه - عليه الصلاة والسلام - خاطبها على قدر عقلها فخطأ مردود قال الشيخ عماد الدين ابن كثير: لا يصح في أنه رأى ربه ببصره شيء عن الصحابة، وأما ما قال البغوي: ذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسن وعكرمة، ففيه نظر، والحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال عليه الصلاة والسلام: " رأيت ربي عز وجل " فهو مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد أيضًا، وقد ثبت عن كثير من السلف نفي رؤية البصر، والله أعلم، (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ): صخرة بيضاء عليها بيت بالطائف له

سدنة يعظمونه اشتقوا اسمها من لفظ الله يعنون مؤنثه - تعالى الله عن ذلك، (وَالْعُزَّى)، من العزيز شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، كانت بين مكة والمدينة يهلون منها للحج أفرد هذه الثلاثة بالذكر وإن كان في جزيرة العرب طواغيت كثيرة عليها بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة، لأنها أشهر من غيرها، وأعظم عندهم، والأخرى ذم وهي المتأخرة في الرتبة، و " أفرأيتم " عطف على أفتمارونه، وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار يعني: أبعد هذا البيان تستمرون على المراء فترون اللات والعزى ومناة أولاد الله أخس أولاد أي الإناث وقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى)، دال على ثاني مفعولي أفرأيتم، ومعناه أتختارون لأنفسكم الذكر من الأولاد، وتجعلون لله، وتختارون له البنات فإنهم يقولون: الملائكة وهذه الأصنام بنات الله - تعالى عن ذلك، (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى): جائرة، ومن قرأ بالهمزة، فهو من ضأزه إذا ظلمه، (إِنْ هِيَ): ما الأصنام، (إِلا أَسْمَاءٌ): ليس لها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الألوهية لها، (سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ): بهواكم، (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ): برهان تتعلقون به، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ): أنفسهم، (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى): الرسول

(26)

والقرآن فتركوه، (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى)، الهمزة للإنكار أي: بل ليس له كل ما يتمناه كما يتمنون شفاعة الآلهة، (فَلله الْآخِرَةُ وَالْأُولَى): يعطي ما يشاء لمن يشاء. * * * (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) * * * (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ) أي: كثيرًا منهم مع علو رتبتهم، (لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا): من الإغناء، (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ): في الشفاعة، (لِمَنْ يَشَاءُ): من الناس، أو من الملائكة، (وَيَرْضَى) ترجون شفاعة الأنداد الجماد

عند الله، (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى): قائلين هم بنات الله، (وَمَا لَهُمْ بهِ): ما يقولون، (مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ): من العلم، (شَيْئًا): فإن العقائد والمعارف اليقينية، لا تدرك بالظن أصلاً، (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى): أعرض، (عَنْ ذِكْرِنَا): فلم يتدبر، ولم يتأمل، (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا): ولا تجادله ولا تدعه إلى الهدى، (ذَلِكَ): أمر الدنيا، (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ): لا يتجاوزونه، وفي الدعاء المأثور " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا " (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ): فلا يجيب، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى): فيجيب تعليل للأمر بالإعراض، (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ): خلقًا، (لِيَجْزِيَ)، علة لقوله: (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: خلق العالم لهذا أو علة لقوله: " وهو أعلم بمن ضل " إلخ، فإن نتيجة العلم بهما جزاءهما، وقوله: (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ) إلح معترضة بيان لكمال قدرته، (الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا) أي: بعقابه، أو بسببه، (وَيَجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى): بالمثوبة الحسنى، أو لسبب الأعمال الحسنى، (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ)، هي ما عليه وعيد شديد، (وَالْفَوَاحِشَ): من الكبائر خصوصًا،

(إِلَّا اللَّمَمَ) (1) أي: الصغائر، فالاستثناء منقطع أو إلا بمعنى غير صفة وحرف التعريف في الموصوف للجنس، فهو في حكم النكرة، وقد ورد أنه قال - عليه الصلاة والسلام: " إن تغفر اللهم اغفر جما فأيُّ عبد لك ما ألَمَّا " أو اللمم من الكبائر، والمعنى يجتنبون من الكبائر كلها مطلقًا إلا القليل منها بمعنى أنه يلم بها مرة أو مرتين، فيتوب عن قريب فلا يجعلها عادة، وهو قول كثير من السلف، (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ): فلا تيأسوا بكثرة المعاصي، (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ): في ابتداء خلق أبيكم من تراب، (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ)، جمع جنين، (فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ): لا تمدحوها، ولا تنسبوها إلى الطهارة، ولا تعجبوا بطاعاتكم، وفي صحيح مسلم عن ابن

__ (1) في النسخة المطبوعة سطر مكرر تمَّ حذفه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(33)

عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت زينب بنت أبى سلمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم، فقال: " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى): فربما تنسبون أحدًا إلى التقوى، والله يعلم أنه ليس كذلك، وكذلك ورد في الحديث الصحيح " إذا كان أحدكم مادحًا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك ". * * * (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا

مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا (62) * * * (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى): أعرض عن الحق، (وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى): أنفق قليلاً وبخل بالباقي، (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) بأن إنفاقه ينفد ما في يده، (فهُوَ يَرَى): عيانًا ويعلم ذلك، (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى): أقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام، والكمال قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) [البقرة: 124] وتقديم صحف موسى لأنها أشهر، (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) أي: لا تؤاخذ نفس آثمة بمأثم نفس أخرى، ولا يحمله عنها أحد وإن مخففة من المثقلة بدل ما في صحف، أو تقديره أعني أن لا تزر، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ

إِلَّا مَا سَعَى): لا يثاب أحد بفعل غيره أيضًا، ومن هذه استنبط الإمام الشافعي أن ثواب القراءة لا تصل إلى الموتى، وأما من سنَّ سنة حسنة، أو سيئة فله أجرها وأجر من

عمل بها ووزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فلأنه سببها ودل عليها، وفي الصحيح " من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا "، أو معناه لا يملك شيئًا غير ذلك، وإن كان قد يحصل له بفضل الله، وبدعاء الغير، وصدقته له نفع لكن هو لا يملك ذلك، (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى): في ميزانه، (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) أي: يجزى الإنسان سعيه الجزاء الأوفر، فليس له أن يبخل، وينقص العمل، والضمير المرفوع للإنسان والمنصوب للسعي، ونصب الجزاء بأنه مفعول مطلق، أو بنزع الخافض أي: بالجزاء الأوفى كما يكون صفة للمجزي يكون صفة للحدث أي: المصدر لملابسته له قيل نزلت في [الوليد بن المغيرة] آمن فعيره المشركون، فقال: أخشى عذاب الله، فضمن أحد من المشركين أن يتحمل عنه العذاب إن أعطاه كذا مالاً فارتدَّ وأعطى بعض ما شرط، وبخل بالباقي، ومعنى (أعنده علم الغيب فهو يرى) أنه يعلم تمكين الله تعالى إياه عن أن يحمل عنه العذاب وباقي الآية ظاهر الملائمة حينئذ، (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى): المرجع، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ): في الدنيا أو الآباء، (وَأَحْيَا): في الآخرة أو الأبناء في الدنيا أيضًا، (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى): تدفق في الرحم، (وَأَنَّ عَلَيْهِ): وفاء بوعده، (النَّشْأَةَ الْأُخْرَى): الإحياء بعد الموت، (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى): بإعطاء المال، (وَأَقْنَى): أعطى القنية هي أصول مال اتخذه لنفسه لا للبيع أي: ملكهم المال، وجعله عندهم مقيمًا لا يحتاجون إلى بيعه، وقيل: أفقر، وكان من أخذ مالاً لا للبيع فهو فقير لا يبيع ولا يشترى، (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى): كوكب وقاد خلف الجوزاء [كانت] (1) تعبد في الجاهلية، (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى): قوم هود وعاد الأخرى إرم، (وَثَمُودَ)، عطف على عادًا، (فَمَا أَبْقَى): أي: الفريقين، (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ): من قبل عاد وثمود، (إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ): من الفريقين، (وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) أي: إنه أسقط إلى الأرض القرى المنقلبة، وهي قرى

_ (1) زيادة يتطلبها السياق. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

قوم لوط، (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى): من العذاب كأنه لا يمكن أن يوصف، (فَبِأَى آلاءِ رَبِّكَ): أيها الإنسان، (تَتَمَارَى): تتشكك، (هذَا): الرسول، (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى): من جنس الأنبياء المتقدمين، أو القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة، (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ): قربت الموصوفة بالقرب، وهي القيامة، (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ): أي: نفس كاشفة أهوالها إذا غشيت الخلائق أو مبينة متى تقوم لا يجليها لوقتها إلا هو، (أَفَمِنْ هَذَا الْحَديث): القرآن، (تَعْجَبُونَ): إنكارًا، (وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ): لاهون أو مستكبرون أو مغنون لتشغلوا الناس) عنه، (فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا) أي: ما عبدوه دون الآلهة. والحمد لله على التوحيد. * * *

سورة القمر

سورة القمر مكية وهى خمس وخمسون آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) * * *

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) انشقاقه من علامات قرب القيامة، وقد انشق فى عهده - عليه الصلاة والسلام - حين التمسوا آية، وعن بعض أن ذلك وقع مرتين، (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا): عن الإيمان بما، (وَيَقُولُوا): ما شاهدنا، (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ): مار ذاهب مضمحل باطل، أو محكم، أو مطرد دائم، وذلك لما رأوا تتابع المعجزات، (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)؛ الباطلة، (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ): منتهٍ إلى غاية، فهو [تدليل] جارٍ مجرى المثل، أو كل أمر من خير وشر يستقر بأهله، (وَلَقَدْ جَاءهُمْ): في القرآن، (مِنَ الأنْبَاءِ): أخبار الأمم السالفة، (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ): ازدجار يقال: ازدجرته نهيته عن السوء قلبت تاء الافتعال دالاً، (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ): تامة بلغت الغاية خبر محذوف، أو بدل من ما (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)، ما نافية والنذر جمع نذير،

أو استفهامية للإنكار أي: فأي غناء يغني المنذرون (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)، قيل: منسوخ بآية القتال، (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) أي: الداعى، وهو إسرافيل، ونصب يوم إما يخرجون، أو بمقدار نحو: انتظر او اذكر، (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ): منكر فظيع لم ير مثله هو هول القيامة، (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ) أي: يخرجون من القبور حال كون أبصارهم ذليلين من الهول، أو حال مقدرة من مفعول يدع المحذوف، ومن قرأ خاشعًا فلأن فاعله ظاهر مؤنث غير حقيقي، (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ): في الكثرة، والحيرة يقعون كما يقع الجراد، (مُهْطِعِينَ): مسرعين مادِّي أعناقهم، (إِلَى الدَّاع يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذبَتْ قَبْلَهُمْ): قبل قريش، (قَوْمُ نُوحٍ): نوحًا، (فَكَذبوا عَبْدَنَا): نوحًا تفصيل بعد إجمال قيل: معناه كذبوا فكذبوا أي: ما تركوا التكذيب قرنًا بعد قرن، (وَقَالُوا): هو، (مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ): وازدجروه، ومنعوه عن الدعوة، وقالوا: " لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " [الشعراء: 116] قيل: ازدجرته الجن، فيكون من جملة المقول، (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي): بأني، (مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ): فانتقم لي منهم، (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ

مُنْهَمِرٍ): منصب، وعن علي - رضي الله عنه - حين سئل عن المجرة هي باب السماء، ومنها فتحت السماء بماء منهمر، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ماء ذلك من السماء لا من السحاب، (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا): جعلناها كلها كأنها عيون تتفجر، (فالْتَقَى الْمَاءُ): ماء السماء والأرض، (عَلَى أَمْرٍ)، حال، (قَدْ قُدِرَ): قضي في الأول، أو على أمر قدره الله تعالى وهو إهلاكهم، (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذاتِ أَلْوَاحٍ): أخشاب عريضة، (وَدُسُرٍ): مسامير جمع دسار، والمراد السفينة، وعن بعض الدسر صدر السفينة، فإنها يدسر، ويرفع الماء، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا): بمرأى منا، والمراد الحفظ يقال للمودع " عين الله عليك " (جَزَاءً)، أي: فعلنا كل ذلك جزاء، (لِمَن كَانَ كفِرَ): لنوح، فإنه نعمة، ورحمة كفروها، (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا): السفينة، أو الفعلة، (آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): معتبر، (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ): إنذاري، والاستفهام لتعظيم الوعيد، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ): سهلنا لفظه ومعناه، (لِلذِّكْرِ): للاتعاظ أو للحفظ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): متعظ، وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله، (كَذبَتْ عَادٌ) قوم هود، (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا): شديدة البرد، (فِي يَوْمِ نَحْسٍ): شؤم عليهم، (مُسْتَمِرٍّ): عليهم نحسه فإنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي، أو على جميعهم صغيرهم وكبيرهم، (تَنْزِعُ النَّاسَ): تقلعهم، فترمي بهم على رءوسهم، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ): أصول، (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ): منقلع ساقط نقل أن الريح تقلع رءوسهم من أجسادهم فالمطروح

(23)

أجساد بلا رءوس كأصول نخل، (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)، التكرار للتهويل، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). * * * (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) * * * (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ): بالإنذار الذي جاءهم به صالح، (فَقَالُوا أَبَشَرًا)، نصب بفعل يفسره نتبعه، (مِنَّا) من جنسنا، (وَاحِدًا): منفردًا لا تبع له، أو واحدًا من الآحاد لا من الأشراف، (نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ): جنون، أو عذاب، (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ): أنزل، (عَلَيْهِ): الوحي، (مِنْ بَيْنِنَا): وفينا من هو أفضل وأحق،

(بَلْ هُوَ كَذابٌ أَشِرٌ): متكبر يريد الترفع، (سَيَعْلَمُونَ غَدًا) أي: سريعًا، (مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ): أصالح أم من كذبه؟ (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ) أي: قلنا لصالح إنا مخرجوها من الصخرة، (فِتْنَةً): امتحانًا، (لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ): انتظرهم، (وَاصْطَبِرْ): على أذاهم، (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ): يوم للناقة ويوم لهم، ففيه تغليب، (كُلُّ شِرْبٍ): نصيب، (مُحْتَضَرٌ): يحضره من كانت نوبته فيتصرف، أو كل شرب من الماء، واللبن تحضرونه أنتم، (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ): الذي عقر الناقة اسمه قدار، (فَتَعَاطَى): الناقة، أو السيف، أو فاجترأ على تعاطي قتلها، (فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً): صيحة جبريل، (فَكَانُوا كَهَشِيمِ): كشجر اليابس المتكسر، (الْمُحْتَظِرِ): الذي يعمل الحظيرة، (وَلَقَدْ يَسَّرنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ

(41)

مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ): بالمواعظ، (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا): ريحًا تحصبهم، (إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ): في سحر، (نِعْمَةً): إنعامًا، (مِنْ عِنْدِنَا)، علة لـ نجينا، (كَذَلِكَ): مثل ما أنعمنا على آل لوط، (نَجْزِي مَنْ شَكرَ): فآمن، (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ): لوط، (بَطْشَتَنَا): أخذتنا بالعذاب، (فَتَمَارَوْا): كذبوا، (بِالنُّذُرِ): متشاكين، (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ): طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه للفجور، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورة مرد حسان، (فَطَمَسْنَا): مسخنا، (أَعْيُنَهُمْ): صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق، (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) أي: قلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة، (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً): أول النهار، (عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ): ثابت لا يزول عنهم أبدًا، (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): كرره في كل قصة للتنبيه على أن كل واقعة لابد أن يتأمل فيها، ويعتبر منها، ولا يغفل عنها. * * * (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) * * *

(وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ): المنذرون أو الإنذار، (كَذبُوا بِآيَاتِنَا كلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ): لا يغالب، ولا يعجزه شيء، (أَكُفارَكُمْ): يا معشر العرب، (خَيْرٌ): أكثر قوة وعدة، (مِنْ أُولَئِكُمْ): الكفار المذكورين، (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ): من عذاب الله تعالى، (فِي الزُّبُرِ): في الكتب المنزلة من السماء، (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ): جماعة ينصر بعضنا بعضًا، فلا نغالب، (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ): الأدبار أي: ينهزمون، فالإفراد لإرادة الجنس، وهذا يوم بدر، (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ): للعذاب، (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى): أشد داهية، وهي نازلة لا يهتدى لدوائها، (وَأَمَرُّ): مما نزل عليهم في الدنيا، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ): في الدنيا، أو في الآخرة لا يهتدون إلى الجنة، (وَسُعُرٍ): نيران في الآخرة، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ): يجرون، (فِى النَّارِ عَلَى وُجوهِهِمْ)، يقال لهم: (ذُوقُوا مَسَّ): حر، (سَقَرَ): جهنم، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍرٍ): أي خلقنا كل شيء

بتقديرنا، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ): إلا كلمة واحدة وهي قول " كن " أو إلا مرة واحدة لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد، (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ): في اليسر والسرعة وعدم المراجعة قيل: وما أمرنا في مجيء الساعة إلا كلمح البصر نزلت حين خاصم مشركوا قريش في القدر، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ): أشباهكم من الكفرة السالفة، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): متعظ، (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ): مكتوب في كتب الحفظة، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ): من الأعمال، (مُسْتَطَرٌ): مكتوب، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ): أنهار الجنة من خمر ولبن

وماء وعسل اكتفى باسم الجنس لرءوس الآي، وقيل: في سعة وضياء، (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ): مجلس حق مرضي لا لغو ولا تأتيم، (عِنْدَ مَلِيكٍ): مقربين عند ملك عظيم، (مُقْتَدِرٍ): لا شيء إلا وهو تحت قدرته عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - مدح الله تعالى المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. اللهم اجعلنا بفضلك منهم. * * *

سورة الرحمن

سورة الرَّحْمَن مكية أو مدنية أو متبعضة وهى ثمان وسبعون آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) * * * (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ): نبيه لا أنه يعلمه بشر، أو علمه عباده بأن يسر حفظه، وفهمه، ولما كانت السورة في تعداد النعم صدرها بالرحمن، (خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ): النطق، والتعبير عما في الضمير، (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ): يجريان،

(بِحُسْبانٍ): بحساب مقدر في بروجهما، ومنازلهما يعلم منهما السنون والحساب، (وَالنَّجْمُ): الكواكب أو النبات الذي لا ساق له، (وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان): (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) الآية جرد هاتين الجملتين عن ما يدل على اتصال وربط بالرحمن، ولم يقل بحسبانه ويسجدان له، لأن وضوح اتصاله يغني عن البيان، وذكر الجمل الأولى على نهج التعديد، ثم أدخل العاطف، ورد إلى المنهاج الأصلي، (وَالسَّماءَ رَفَعَهَا): فوق الأرض، (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ): كل ما يوزن به الأشياء من الميزان والمكيال وغيرهما خلقه موضوعًا على الأرض، أو المراد من الميزان العدل كما قال تعالى (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) الآية، (أَلَّا) أي: لئلا، (تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ): لا تعتدوا فيه، (وَأَقِيمُوا الْوَزنَ بِالْقِسْطِ)، عطف بحسب المعنى على أَلَّا تَطْغَوْا أي: ولأن تقيموه بالعدل، (وَلا تخْسِرُوا): لا تنقصوا، (الْمِيزَانَ): وتكرير الميزان للمبالغة في التوصية، (وَالأرْضَ وَضَعَهَا): خفضها مدحوة، (لِلأنَامِ): للخلق، (فيهَا فَاكِهَةٌ): أنواع ما يتفكه به، (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ): أوعية الثمر التي يطلع فيها القنو، ثم تنشق، أو المراد الليف (وَالْحَبُّ):

كالحنطة وغيرها، (ذُو الْعَصْفِ): هو ورق النبات، (وَالرَّيْحَانُ): الرزق يقال: خرجت أطلب ريحان الله تعالى، أي: رزقه يعني: الحب ذو علف أنعام، وطعام إنسان، ومن قرأ بالرفع، فعلى تقدير، وذو الريحان بإقامة المضاف إليه مقام المضاف ليوافق القراءتان، وقيل (الريحان) هو المشموم، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا): أيها الثقلان، (تُكَذِّبَانِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ): آدم، (مِنْ صَلْصَالٍ): طين يابس له صلصلة، (كَالْفَخَّارِ): الخزف، (وَخَلَقَ الْجَانَّ): أبا الجن، قيل هو إبليس، (مِنْ مَارِجٍ): من صاف، (مِنْ نَارٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ): مشرقي الشتاء والصيف، (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ): فإن اختلاف المشارق، والمغارب سبب لمصالح العباد، (مَرَجَ) أرسل، (الْبَحْرَيْنِ): العذب والملح،

(26)

(يَلْتَقِيَانِ): يتجاوران ويتلاصقان، (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ): حاجز، (لا يَبْغِيَانِ): لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، أو لا يتجاوزان حديهما قد مر بيانه في سورة الفرقان مفصلاً، قيل المراد بحر الروم، وفارس يلتقان في المحيط لأنهما ينشعبان منه، وقيل بحر السماء، والأرض، فإن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء، وأصداف بحر الأرض، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ): كبار الدر، وصغاره، أو المرجان الخرز الأحمر يخرجان من المالح، لكن لما كان يلتقيان فيصيران واحدًا يصدق أنهما يخرجان منهما، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ): السفن، (الْمُنْشَئَاتُ): المرفوعات الشرع، (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ): كالجبال في العظم، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ). * * * (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) * * * (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا): من على الأرض، (فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ ربِّكَ): ذاته، (ذُو الْجَلالِ): الاستغناء المطلق، (وَالإكْرَامِ). الفضل الشامل، أو المراد يفنى كل ما في الأرض من الأعمال إلا ما هو لوجه الله تعالى، وهو كما قال (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ): فإن فناء الكل، وبقاءه سبحانه مع أنه غني ذو فضل عام سبب لإيجاد المعاد، والجزاء بأتم وجه، (يَسْأَلُهُ): الرزق، والمغفرة، والعافية، وكل ما يحتاج إليه، (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال - صلى الله عليه وسلم - من شأنه أن يغفر ذنبًا ويفرج كربًا، ويرفع قومًا ويضع آخرين والمراد من اليوم الوقت، وهو ظرف لشأن قيل هو رد لليهود قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ)، تهديد وليس المراد الفراغ عن شغل فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، فهو مجاز كأنه فرغ عن كل شيء، فلم يبق له شغل غيره فيدل على التوفر في النكاية، والانتقام أو لما وعد أهل التقوى، وأوعد غيرهم قال، سنقصد لحسابكم، وجزاءكم، وذلك يوم القيامة (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ): الإنس، والجن

لثقلهما على الأرض أو لرزانتهما وقدرهما، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا): أن تخرجوا، (مِنْ أَقْطَارِ) جوانب، (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): فارِّين من قضاء الله تعالى، (فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ): لا تقدرون على الخروج، (إِلَّا بِسُلْطَانٍ): بقوة وقهر، ومن أين لكم هذا، أو إلا بأمر من الله تعالى، وإذن منه، وتقديم الجن، لأنهم أقوى، وهذا في المحشر حين أحاطت الملائكة بالخلانق سبع صفوف من كل جانب (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)، وعن بعض معناه إن استطعتم أن تعلموا ما فيهما فاعلموا لكن لا تعملونه إلا ببينة نصبها الله تعالى، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا): في ذلك اليوم، (شُوَاظٌ): لهب لا دخان فيه، (مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ): دخان لا لهب له، ومن قرأ بجر نحاسٍ فمعناه، وشيء من نحاس فحذف الموصوف لدلالة ما قيل عليه، أو هو صفر مذاب يصب على رؤسهم (فَلَا تَنْتَصِرَانِ): لا تمتنعان من الله تعالى، وحاصل الكلام لو هربتم يوم القيامة لردتكم

الملائكة، والزبانية بإرسال اللهب من النار، والنحاس لترجعوا، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ): فإنه مع عجزكم، وجهلكم دلكم على ما يخلصكم من هذه النوائب، وتجارة تنجيكم من عذاب أليم مع أن التهديد، والانتقام من الكفار، والتمييز بين المطيع، والعاصي من الآلاء، (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً) أي: حمراء كوردة، (كَالدِّهَانِ): يذوب، ويتلون كالأدهان، وذلك من هول القيامة، وعن بعض الوردة: الخيول الوردة، فإن الفرس الورد في الربيع أصفر، وفي أول الشتاء أحمر، وفي اشتداد الشتاء أغبر، وعن بعض الدهان الأديم الأحمر، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ): يوم الإنشقاق، (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) أي: لا يسأل إنسٌ عن ذنبه، ولا جانٌّ، وذلك في موطن خاص، هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ثم يسألون، " فوربك لنسألنهم أجمعين " [الحجر: 92]، أو سؤال علم؛ بل سؤال توبيخ، أو لأنَّهُم يعرفون بسيماهم، وهذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بسيمَاهُمْ): كاسوداد وجوههم، وزرقة عيونهم، (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره، ويطرح في النار، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَذِهِ) أي: يقال لهم هذه (جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا). بين النار، (وَبَيْنَ حَمِيمٍ): ماء شديد الحرارة، (آنٍ): بالغ النهاية في الحر يؤخذ، فيحرك بناصيته في الحميم فيذوب اللحم يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ). * * *

(46)

(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) * * * (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ): موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، أو المقام مقحم للتعظيم كأخاف جانبه والسلام على مجلسه، (جَنَّتَانِ): لكل من الإنسان جنتان

للمقربين من ذهب، قيل: جنة للإنسي، وجنة للجني، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ): أنواع النعم جمع فن، أو أغصان جمع فنن، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَان): تحت تلك الأشجار، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ): صنفان صنف رأيتم، وصنف ما رأيتم، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ)، حال من " من خاف "، فإنه في معنى الجمع، (عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا): الذي يلي الأرض، (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ): ديباج ثخين إذا كان هذه البطائن، فما ظنكم بالظاهر، وعن بعض ظواهرها من نور جامد، (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ): ثمرهما، (دَانٍ): قريب يجني منه القاعد والراقد، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ): في

أماكن الجنتين، أو في الفرش، (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ): نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى الغير تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة أحسن منك لا أحب إليَّ منك الحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك، (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ): لم يجامعهن، (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ): في حمرة الوجنة، أو في الصفاء، (وَالْمَرْجَانُ): اللؤلؤ في البياض، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ): أحسنوا في الدنيا، فأحسن إليهم في الآخرة، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا): سوى تينك الجنتين للمقربين، (جَنَّتَانِ): لمن دونهم لأصحاب اليمين من الوَرِق، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ): سوداوان من شدة خضرتهما لريهما، وصف الأوليين بكثرة أشجارهما، وهاتين بالخضرة لما بينهما من التفاوت، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ): فوارتان بالماء، والجري أقوى من النضخ، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ): أفردهما بالذكر لفضلهما، فإن الرطب فاكهة، وغذاء،

والرمان فاكهة ودواء، وصف الأولين بأن فيهما من كل فاكهة صنفين، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ): خيِّرات الأخلاق خُفِّفَ كَهيْنٍ في هيِّنٍ وليِّنٍ، (حِسَانٌ): حسان الخلق، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ): مخدرات مستورات، أو مقصورات الطرف على أزواجهن وصفهن في الأولى بقاصرات الطرف التي تدل على أنهن بالطبع قد قصرت أعينهن عليهم، وهي أتم من المقصورات التي فيها إشعار بقسر القصر، (فِي الْخِيَامِ): كل خيمة من زبرجد وياقوت، ولؤلؤة واحدة فيها سبعون بابًا من الدر، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، زاد في وصف الأوائل كأنهن الياقوت والمرجان، (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ): مجالس فوق الفرش، أو وسائد، أو رياض الجنة، (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ): كل شيء نفيس من الرجال وغيره يسمى عند العرب عبقريًا قيل تزعم العرب أن عبقر اسم بلد من بلاد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب، نعت بطائن فرش الأولين، وسكت عن ظهائرها إشعارًا بأن وصفها متعذر، فأين هذا من ذاك، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ): تعالى اسمه؛ لأنه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته؟ (ذِي الْجَلَالِ): أهل أن يجلَّ فلا يعصى،

(وَالْإِكْرَامِ): وأهل أن يكرم فيعبد، ويشكر، ولا يكفر، وفي الحديث " من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي منه " (1). والحمد لله حقَّ حمده. * * *

_ (1) رواه أحمد.

سورة الواقعة

سورة الْوَاقِعَة مكية وهى ست وتسعون آية وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) * * * (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) أي: اذكر إذا قامت القيامة، (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا): لمجيئها، (كَاذِبَةٌ) أي: كذب، بل هي واقعة صادقة نحو جملة صادقة، أو ليس لأجل وقعتها نفس كاذبة، فإن من أخبر عنها صدق، قيل: لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله تعالى، فإن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة، (خَافِضَةٌ): تخفض قومًا، (رَافِعَةٌ): ترفع آخرين، (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ): حركت تحريكًا شديدًا ظرف لخافضة، أو بدل من إذا وقعت، (رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ): فتت حتى تعود كالسويق، أو سيرت، (بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً): غبارًا، (مُنْبَثًّا): منتشرًا، (وَكُنتمْ أَزْوَاجًا): أصنافًا، (ثَلَاثةً) أي: ينقسم الناس يومئذ إلى ثلاثة أصناف، (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ): الذين هم عن يمين العرش، أو كانوا عن يمين آدم عند إخراج الذرية من ظهره أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، أو أصحاب المنزلة السنية، أو أصحاب اليُمن، (مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)، جملة استفهامية تعجبية خبر للمبتدأ، (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ)، مقابل الميمنة بالمعاني، (مَا

أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ): إلى الهجرة، أو إلى إجابة الرسول أو إلى الخيرات، (السَّابقُونَ)، خبر للمبتدأ نحو شعري شعري، (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ): قربت درجاتهم في الجنة، وقيل: حال من ضمير المقربون، أو خبر بعد خبر، (ثُلَّةٌ) أي: هم جماعة كثيرة، أو خبر آخر لأولئك، (مِنَ الْأَوَّلِينَ): الأمم الماضية، من آدم إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من هذه الأمة، فإن السابقين منهم أقل من مجموع السابقين من سائر الأمم أو هم كثير من متقدمي هذه الأمة، وقليل من متأخريها، وكثير من السلف على ذلك، وعليه بعض الأحاديث، (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ): منسوجة بالذهب مشبكة بالجواهر خبر آخر للضمير المحذوف، (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ): وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد حالان من ضمير على سرر، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ): للخدمة، (وِلْدَانٌ): غلمان، (مُخَلدُونَ): لا يشيبون ولا يتغيرون، (بِأَكوَابٍ): إناء لا عروة ولا خرطوم

له، والباء للتعدية، (وَأَبَارِيقَ): الجامع للوصفين، (وَكَأسٍ مِنْ مَعِينٍ): من خمر جار، (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ): لا ينشأ عنها صداعهم، ولا ذهاب عقلهم، (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ): يختارون، (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) أي: وفيها حور عين، أو عطف على ولدان، ومن قرأ بالجر فعطف على جنات أي: أولئك في صحبة حور عين، أو على بأكواب بحسب المعنى، فإن حاصل معناه ينعمون بأكواب، وكذا وكذا أو بحسب اللفظ أيضًا أي: يطوف الغلمان بالحور العين عليهم في خيامهم وخلواتهم، (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ): المصون عما يَضُرُّ به، (جَزَاءً) أي: يفعل ذلك كله بهم للجزاء، (يِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا): عبثًا باطلاً، (وَلَا تَأْثِيمًا): ولا ما يوقع في الإثم أو لا نسبة إلى الإثم أي: لا يقال لهم أثمتم، (إِلَّا قِيلًا): قولاً، (سَلَامًا سَلَامًا) أي: إلا التسليم منهم

بعضهم على بعض بدل من قيل أو مفعول به، والمستثنى إما متصل أي: لا لغوا إلا السلام، ومعلوم أن السلام ليس بلغو، فلا لغو، (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ): هم الأبرار دون المقربين، (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ): لا شوك له، أو مَثنْيُّ الغصن من كثرة الحمل، (وَطَلْحٍ): أم غيلان له أنوار طيب الرائحة، وظل بارد، أو موز ويؤيد الأول ما روي عن بعض السلف أن المسلمين نظروا إلى " وج " وهو واد بالطائف فأعجبهم ظلال أشجارها، وأشجارها سدر، وطلح فنزلت، (مَنْضُودٍ): متراكم قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ): منبسط، أو دائم، وفي الحديث " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها واقرءوا إن شئتم " وظل ممدود "، (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ): مصبوب يجري على الأرض من غير أخدود، (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ): في زمان، (وَلَا مَمْنُوعَةٍ): من أحد، (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) في الحديث " ارتفاعها كما بين السماء والأرض " أو رفيعة القدر، أو مرفوعة بعضها فوق بعض، وقيل: نساء رفعن بالجمال والفضل على نساء الدنيا، والعرب تسمي المرأة فراشًا ولباسًا، (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ)، الضمير لما دل عليه السياق، وهو ذكر الفرش على النساء أي: أعدنا إنشاءهن، (إِنْشَاءً): جديدًا، (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا): عواشق

(39)

لأزواجهن، أو مغنوجة، أو كلامهن عربي، (أَتْرَابًا): مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين، أو مستويات في الأخلاق لا تباغض ولا تحاسد كما في ضرائر الدنيا يأتلفن ويلعبن جميعًا، وفي الحديث " هن اللواتي قُبِضْنَ عجائز، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى متعشقات على ميلاد واحد أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، ومن يكون لها أزواج في الدنيا تخير فتختار أحسنهم خلقًا "، (لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ)، متعلق بـ أنشأنا، أو صفة لأبكارًا أو خبر لمحذوف. * * * (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) * * * (ثُلَّةٌ): هم جماعة كثيرة، (مِنَ الْأَوَّلِينَ): الأمم الماضية غير هذه الأمة، (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ): من هذه الأمة، أو ثلة من المتقدمين من هذه الأمة، وثلة من المتأخرين منهم، وعلى التفسير الأول يلزم أن المقربين من هذه الأمة قليلون بالنسبة إلى جميع الأمم الماضية، ولا يلتزم قلتهم، ولكن الأبرار كثيرون بالنسبة إليهم أيضًا، (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ): حر نار، (وَحَمِيمٍ): ماء في غاية الحرارة، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ): دخان أسود، (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ): حسن المنظر، أو نافع، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ): في الدنيا، (مُتْرَفِينَ): منهمكين في الشهوات، (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ): الذنب، (الْعَظِيمِ)، وهو الشرك، أو اليمين الغموس، (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، همزة الإنكار كررت لمزيد الإنكار، والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون، (أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محل إن واسمها، أو على ضمير مبعوثون، وجاز للفصل بالهمزة أي: أيبعث آباؤنا أيضًا، فإنهم أقدم؟! فبعثهم أبعد، (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ): إلى ما وُقِّتَتْ به الدنيا، وحُدَّت من يوم معين

عند الله تعالى، (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ)، من للابتداء، (مِنْ زَقُّومٍ)، من للبيان، (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ): يسجرون حتى يأكلوا ملأ بطونهم، (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ)، تأنيث الضمير في منها، وتذكيره في عليه على المعنى ولفظه (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ): مثل شرب الإبل التي بها الهيام داء تشبه الاستسقاء، وعن بعض الهيم الإبل المراض تمص الماء مصًّا، ولا تُرَوى، وكل من المعطوف والمعطوف عليه أخص من الآخر فحسن العطف، (هَذَا نُزُلُهُمْ): رزقهم الذي يعد لهم تكرمة لهم، (يَوْمَ الدِّينِ): يوم الجزاء، وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يعد لهم من بعد، (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ): بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، (فَلَوْلا تُصَدِّقُون) أي: فهلا تصدقون بابتداء الخلق كأن أعمالهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فحضهم عليه، (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ): تصبون في الأرحام من النطف؟! (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)، فعلم أن الابتداء منا، (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ): مغلوبين عاجزين، (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ): نغير صفاتكم جمع مثل، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ): في صفات لا تعلمونها أي: فما نحن بعاجزين عن الإعادة، وهي تبديل الصفات إلى صفات أخرى، أو ما نحن بعاجزين على أن نأتي بخلق مثلكم بدلاً عنكم، وعلى أن نخلقكم فيما لا تعلمونه من الصور كالقردة، والخنازير، فعلى هذا الأمثال جمع مثل بسكون الثاء، وفي الآية الثانية والثالثة ما يشعر، ويلائم هذا المعنى، وهو قوله: " لو نشاء لجعلناه حطامًا "،

" ولو نشاء جعلناه أجاجًا "، أو يكون معنى الآية، نحن خلقناكم ابتداء، فهلا تصدقون بالبعث، ثم استدل، وقال أما ترون المني فكيف تجمع أولاً في الرجل، وهو منبث في أطراف العالم، ثم نجمع في الرحم بعدما كان منبثا في أعضاء الرجل، ثم نكون الحيوان منه، فإذا افترق بالموت مرة أخرى ألم نقدر على جمعه وتكوينه مرة أخرى؟! (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ): فهلا تذكرون أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى، (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) تبذرون حبة، (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ): تنبتونه؟! ولذلك قال عليه السلام: " لا يقولن أحدكم زرعت، وليقل غرثت " (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا): هشيمًا لا ينتفع به، (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ): بالمقالة تنتقلون بالحديث، (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ): استئناف مبين لمقالتهم، أي: يقولون إنا لمعذبون مهلكون، أو لملزمون غرامة ما أنفقنا، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ): محدودون ممنوعون، وعن الكسائي: التفكه من الأضداد يستعمل في التنعم والتحزن، (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ): السحاب جمع مزنة، (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا): شديد الملوحة، (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ): تقدحون، (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ)، للعرب شجرتان المرخ والعفار تحك أحد غصنيهما

(75)

بالآخر فيتناثر منهما شرر النار، (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذكِرَةً): لنار جهنم، (وَمَتَاعًا): منفعة، (لِلْمُقْوِينَ): الذين ينزلون القواء، أي: المفازة، فإن انتفاعهم بالزند أكثر من انتفاع الحضريين، أو الجائعين، فإن أصل القواء الخلو، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ): فجدد التسبيح، ونزهه عن النقائص باستعانة ذكر اسمه العظيم، أو اسم ذاته العظيم تنزيهًا عما يقولون، أو تعجبًّا أو شكرًا. * * * (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) * * *

(فَلَا أُقْسِمُ)، لا مزيدة لتأكيد القسم، أو رد لقول الكفار أنه سحر وشعر، ثم استأنف القسم، (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أي: نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها، أو بمغارب نجوم السماء، أو منازلها، أو انتشارها يوم القيامة، (وَإِنَّهُ): هذا القسم الذي أقسمت به، (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ): لو تعلمون اعتراض بين الموصوف والصفة، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ)، جواب القسم، (كَرِيمٌ): كثير النفع، (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ): مصون من الشياطين وهو اللوح، (لَا يَمَسُّهُ) أي: الكناب المكنون الذي في السماء، (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي:

الملائكة، وعن بعض زعمت قريش أن القرآن تنزلت به الشياطين فردهم الله تعالى بقوله: " لا يمسه إلا المطهرون " كما قال: " وما تنزلت به الشياطين " [الشعراء: 210] أو لا يمس القرآن إلا المطهرون من الجنابة والحدث، والمراد من القرآن حينئذ المصحف كما نُقِلَ " نهى - عليه الصلاة والسلام - أن يسافر بالقرآن أي: المصحف إلى [أرض] العدو "، ويكون نفيًا بمعنى النهي أو لا يجد طعمه ونفعه إلا المطهرون من الشرك، (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، صفة أخرى للقرآن، وفيها مبالغة، (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ) أى: القرآن، (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ): متهاونون مكذبون، (وَتَجْعَلونَ رِزْقَكمْ): الرزق بمعنى الشكر في لغة أو تشكر رزقكم الذي هو المطر، (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ): بمعطيه، وتقولون: مطرنا بنوء كذا، أو تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن تكذيبكم، (فَلَوْلا): هلا، (إِذَا بَلَغَتِ): النفس، (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ): يا أهل الميت، (حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ): حاله أو أمري وسلطاني ولا تقدرون على دفعه، والواو للحال، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ)، المراد الملائكة كما قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ

حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ .. ) الآية [الأنعام: 61]، أو نحن أعلم، (إِلَيْهِ): إلى المحتضر، (مِنْكُمْ): أيها الحاضرون، (وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ): قربنا، ولا تعرفون قدرتنا، (فَلَوْلا): فهلا، (إِنْ كُنتمْ غَيرَ مَدينينَ): محاسبين مجزيين في القيامة (تَرْجِعُونَهَا): النفس إلى مقرها بعدما بلغت الحلقومَ، (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ): إنه لا بعث ولا حساب لولا الثاني تأكيد للأول، والعامل في الظرف ترجعونها، وهو المحضض عليه أي: هلا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين صادقين في ذلك، وجواب الشرط يدل عليه السياق، وحاصله أنكم تنسبون إلى الافتراء كتابي، وإلى الساحر رسولي، وإلى غيري رحمتي ومطري، وتزعمون أن لا بعث ولا حساب، ولا إله يجازي فنفيتم قدرتي واختياري، فما لكم لا تردون روح من يعز عليكم إذا بلغ الحلقوم، وأنتم ناظرون إليه، وما يقاسيه من شدة النزع، فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن فوقكم قادر مختار بيده الأمر لا عجز ولا تعطيل، (فَأَمَّا إِنْ كَانَ): المتوفَّى، (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ): فله راحة، (وَرَيْحَانٌ): رزق حسن، وعن بعض من السلف: إنه لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه، وفي الحديث " ينطلق إلى وليِّ الله ملك الموت مع خمس مائة من الملك معهم ضبائر الريحان أصل الريحان واحد وفي رأسها عشرون لونًا لكل لون ريح سوى ريح صاحبه، (وَجَنَّتُ نَعِيمٍ): ذات تنعم، أي: يبشر بهذه الثلاثة، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ): المحتضر، (مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ) أي: فيقال له سلام لك يا صاحب اليمين، (مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ): من إخوانك، أو

حصل لك سلامة من العذاب حال كونك من أهل اليمين يبشر بالبشارتين، وعن بعض المفسرين: فسلامة لك يا محمد منهم لا تهتم لهم فإنهم في سدر مخضود، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ): المحتضر، (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ): أصحاب الشمال، (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي: فله ذلك، (وَتَصْلِيَةُ): إدخال، (جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا): الذي ذكرت، (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ): حق هو اليقين لا مرية فيه، أو اليقين اسم للعلم الذي لا لبس له، والإضافة بمعنى اللام، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، قيل: الباء زائدة، وقد ورد لما نزلت قال - عليه السلام - " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربِّك الأعلى " قال: " اجعلوها في سجودكم ". والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الحديد

سورة الحديد مدنية وقيل: مكية وهي تسع وعشرون آية وأربع ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) * * *

(سَبَّحَ)، جاء في مفتتح السور بلفظ الماضي، والمضارع، والمصدر، والأمر إشعارًا بأن الموجودات من الابتداء إلى الانتهاء مقدسة لذاته طوعًا أو كرهًا (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، (لله): هذا الفعل عدى بنفسه، وباللام أيضًا، (ما في السَّمَاوَات والأرضِ): من الموجودات، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، (وهو العزيز الحكيم): فيستحق التسبيح، (له ملك السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): هو الخالق المتصرف، (يُحْيِي وَيُمِيتُ)، استئناف، أو حال، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ): فليس قبله شيء، (وَالْآخِرُ): فليس بعده شيء يبقى بعد فناء الممكنات، (وَالظَّاهِرُ): الغالب من ظهر عليه إذا غلبه، أو ظاهر لأن جميع الكائنات دليل ذاته، (وَالْبَاطِنُ) الذي بطن كل شيء أي: علم باطنه أو باطن لأنه غير مدرك بالحس، وفي الحديث " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك

شيء، وأنت الباطن فليس دونك شىء " وفي الترمذي (1) عدَّ عليه الصلاة والسلام سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة سنة ثم قال: " والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر " الآية، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ): قد مر تفسيره في سورة الأعراف، وغيرها، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ): كالحب والقطر، (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا): كالشجر والنبات، (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ): كالملك، والمطر، (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا): كالأرواح، والأعمال، والملك والأبخرة، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ): لا ينفك علمه عنكم، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ):

_ (1) " ضعيف " ضعفه الشيخ الألباني في " ضعيف الترمذي ".

فيجازيكم عليه، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، هو كالمقدمة للإعادة والإبداء فلذا كرره، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ): َ فيحكم في خلقه ما يشاء، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ): فيطول النهار، (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ): فيطول الليل، (وَهُوَ عَلِيمٌ بذَاتِ الصُّدُورِ آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ): الله تعالى، (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي: مستخلفين ممن كان قبلكم بتوريثه إياكم، أو جعلكم الله خلفاء في التصرف، وهو في الحقيقة لله تعالى، فلا تبخلوا، (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ): فالإيمان، والإنفاق لا ينفعان إلا أنفسكم، (وَمَا لَكُمْ)، متبدًا أو خبر، (لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ)، حال، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ)، الواو للحال فهما، حالان متداخلان يعني: أي عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم، (لِتُؤْمِنُوا

(11)

بِرَبِّكُمْ) أي: إلى هذا الأمر الجليل اليسير، (وَقَدْ أَخَذَ): الله، (مِيثَاقَكُمْ): حين أخرجكم من ظهر آدم أو بإقامة الحجج، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): بحجة ودليل، وعن بعض المفسرين الميثاق بيعة الرسول - عليه الصلاة والسلام، فإن الخطاب مع المؤمنين على سبيل التوبيخ، (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ): القرآن، (لِيُخْرِجَكُمْ): الله، أو العبد، (مِنَ الظلُمَاتِ): الجهالات، (إِلَى النُّورِ): العلم، (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا): في أن لا تنفقوا الظاهر أن هذا خطاب للمؤمين، والأول للكافرين، (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): هو يتصرف في كل شيء وحده فإنكم ميتون تاركون لأموالكم، (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ): فتح مكة، (وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ): بعد فتح مكة، (وَقَاتَلُوا): فإنه كان الأمر قبل الفتح شديد، أو الناس في ريب في أمر الرسالة لكن بعد الفتح ظهر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وققت الحاجة إلى الإنفاق، (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) أي: وعد كلاً من النفقين من قبل ومن بعد الجنة، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ): فلا يضيع عنده عمل عامل. * * * (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى

وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) * * * (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا): من أنفق المال رجاء ثواب الله كمن يقرضه، وهو عام لكل إنفاق هو لله تعالى، (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ): يعطي أجره أضعافًا، وقراءة النصب على جواب الاستفهام، والرفع على العطف على يقرض، (وَله أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي: وذلك الأجر المضموم إليه الإضعاف كريم محمود في نفسه يعني: كما أنه زائده في الكم بالغ في الكيف، وهو جملة حالية، (يَوْمَ تَرَى) ظرف لله، أو ليضاعف، أو اذكر، (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ): وذلك دليلهم إلى الجنة على قدر أعمالهم، وأدناهم نورًا من كان في إبهامه فيطفو مرة، ويَقِدُ أخرى عبر عن جميع الجهات بالجهتين، وجملة يسعى حالية، (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ): يقول

الملائكة لهم ذلك، (جَنَّاتٌ) أي: دخول جنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ)، بدل، (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا): انتظرونا، (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ): نستضيء منه، (قِيلَ ارْجعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)، القائل المؤمنون، أو الملائكة أي: ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور، واطلبوا فيه نورًا، فلا يستضيئون من نورهم كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ): المؤمنين والمنافقين، (بِسُورٍ): حجاب، (لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ): باطن السور أو الباب، (فيهِ الرحْمَةُ): لأنه يلي الجنة، (وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ): من جهته، (الْعَذَابُ): فإنه يلي النار، (يُنَادُونَهُمْ): المنافقون المؤمنين، (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ): في الدنيا نوافقكم في أعمالكم؟ (قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ): بالنفاق والمعاصي، (وَتَرَبَّصْتُمْ): انتظرتم في شأن المؤمنين الدوائر، وعن بعض أخرتم التوبة، (وَارْتَبْتُمْ): في الدين، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ): أمنيتكم الباطلة غرتكم، (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ): الموت، (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ): الشيطان، فيقول: اعملوا فالله تعالى عفو، (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ): لا يقبل، (مِنْكُمْ فِدْيَةٌ): فداء، (وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ): النار، (مَوْلاكُمْ): أولى بكم، أو النار ناصركم، فلا ناصر لكم، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): النار، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ

تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) أي: ألم يأت وقت الخشوع؟ (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ): القرآن أي: عند ذكر الله، والموعظة وسماع القرآن، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، وعن بعض: مل الصحابة ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3] ثم ملوا، فقالوا: حدثنا، فنزل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر: 23]، ثم ملوا فقالوا حدثنا، فأنزل الله تعالى الآية، (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ): كاليهود: والنصارى عطف على تخشع، أو نهى عن مماثلة أهل الكتاب، وفيه التفات، (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ): الزمان بينهم وبين أنبيائهم، (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ): مالو إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعظ الله تعالى، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ): خارجون من الدين، (اعْلَمُوا أَنْ الله يُحْي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا): فلا تيأسوا من أن يلين القلوب بعد قسوتها قيل: تمثيل لإحياء الأموات، فيكون معناه الزجر والتحذير عن القساوة، (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ): المتصدقين، وقراءة تخفيف الصاد معناه الذين صدقوا الله تعالى، (وَأَقْرَضُوا اللهَ)، عطف على صلة الألف واللام، لأنه بمعنى إن الذين اصدقوا أو يكون نصب، والمتصدقات على التخصيص، فإن المصدقين عام للذكر والأنثى على التغليب كما إن أقرضوا عام كأنه قيل إن المصدقين، وأخص المتصدقات

منهم، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام: " معشر النساء تصدقن " الحديث فيكون والمتصدقات اعتراضًا على سبيل الاستطراد فلا يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبي، ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل: وأقرضوا أي: بذلك التصدق، ولم يقل والقرضين، (قَرْضًا حَسَنًا): لوجه الله تعالى، (يُضَاعَفُ) أي: ثواب القرض خبر إن، (لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ): حسن، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) عن مجاهد كل مؤمن صديق، وعن الضحاك هم ثمانية نفر سبقوا إلى [الإسلام] أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة - رضي الله تعالى عنهم (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: في جنات النعيم أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة، ثم تأوى إلى القناديل مبتدأ أو خبر، أو المراد، المؤمنون كلهم كالصديقين والشهداء عند الله تعالى، فيكون والشهداء عطفًا على الصديقون، وفي الحديث " مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا هذه الآية " ويدل عليه قوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء: 69] (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي: أجر كل منهم مقصور عليهم وكذا نورهم، أو للمؤمنين مثل أجر الشهداء ونورهم ولا يلزم منه المماثلة من جميع الجهات، (وَنورُهُمْ): الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ): ملازموها لا ينفكون عنها. * * * (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ

(20)

يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) * * * (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ): ما هي إلا أمور خالية كملاعب الصبيان لا فائدة، ولا غاية تترتب عليها سوى إتعاب البدن، (وَلَهْوٌ): تلهون به عما ينفعكم، (وَزِينَةٌ): تتزينون بها، (وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ): يفتخر به بعضكم على بعض، (وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)، مباهاة بكثرة الأموال والأولاد، ثم قرر ذلك بقوله: (كَمَثَلِ غَيْثٍ)، مستأنفة أي: مثله كمثله أو خبر بعد خبر أي: ما هي إلا كمثله، (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ): الزراع، أو الكافرون فإنهم أشد عجابًا بخضرة الدنيا، (نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ): ييبس بعاهة، (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا): هشيمًا متفتتًا، (وَفِى الْاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ): فلا تنهمكوا في شهواتها، (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ

وَرِضوَانٌ): فاطلبوا ما هو خير وأبقى، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ): كمتاع يدلس به على المشترى ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده، (سَابقُوا): سارعوا مسارعة السابقين في المضمار، (إِلَى مَغفِرَةٍ): موجباتها، (مِنْ رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ)، قد مر في سورة آل عمران، (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ): فلا يجب عليه شيء، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ): فارتقبوا فضل الله تعالى وإن جل، (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ): كالقحط، (فِي الأرْضِ): صفة لمصيبة، (وَلا فِي أَنفُسِكُمْ): كالأمراض، (إِلا فِي كِتَابٍ): في اللوح حال يعني مسطورًا فيه، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا): نخلق المصيبة أو الأرض والأنفس، (إِنَّ ذَلِكَ): ثبته في كتاب، (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا) أي: أعلمكم أنها مثبتة لئلا تحزنوا (عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ): الله من متاع الدنيا، فإن من علم أن كل ما قدر له لم يكن ليخطئه، وكل ما

لم يقدر لم يكن ليصيبه ليس من شأنه الفزع والفرح، بل النظر إلى تقليبه الله تعالى ظهرًا وبطنًا إن رضي فله الرضاء، وإن سخط فله السخط، والمراد من الحزن الجزع، ومن الفرح ما يلهي عن الشكر ويفضي إلى البطر والأشر، ولذلك قال: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ) أي: متكبر، (فَخُورٍ): على الناس بمتاع الدنيا عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - يا ابن آدم ما لك تتأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت، (الذِينَ يَبْخَلُون)، بدل من كل مختال فإن أكثرهم بخلاء، (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ): يعرض عن الإنفاق والطاعة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ): فإنه غني عنه، وعن إنفاقه وطاعته محمود في ذاته لا يضره كفر ولا ينفعه شكر، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات، (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكتَابَ)، جنس الكتاب، (وَالْمِيزَانَ) أي: العدل أو الميزان المعروف قيل:

(26)

نزل جبريل - عليه السلام - بالميزان إلى نوح - عليه السلام -، وقال: مُرْ قومك يزنوا به، (لِيَقُومَ النَّاسُ بالْقِسْطِ) أي: ليتعاملوا بالعدل، (وَأَنْزَلْنَا): أنشأنا، وأحدثنا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ثلاثة أشياء نزلت مع آدم السندان والكلبتان والمطرقة، (الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْس شَدِيدٌ): هو القتال به مع من عاند الحق، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إذ هو آلة لأكثر الصنائع، (وَلِيَعْلَمَ اللهُ)، عطف على معنى فيه بأس شديد ومنافع فإنه حال يتضمن تعليلاً أي: أنزلناه للبأس وللنفع وليعلم وقيل: عطف على ليقوم الناس، (مَنْ يَنْصُرُهُ) أي: دينه، (وَرُسُلَهُ): باستعمال آلات الحرب مع أعداء الله تعالى، (بِالْغَيْب): غائبًا عن الله تعالى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يبصرونه ولا ينصرونه، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ): في أمره، (عَزِيزٌ): في ذاته لا يحتاج إلى نصرة ناصر. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) * * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ): لم يرسل بعدهما نبي إلا من ذريتهما، (فَمِنْهُمْ): من الذرية، (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ): خارجون عن الطاعة، (ثُمَّ قَفْيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ): آثار نوح وإبراهيم عليهما السلام، ومن عاصرهما، (بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا): هم، (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أي: عيسى، (رَأْفَةً): رقة شديدة، (وَرَحْمَةً): كانوا متوادين رحماء، (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)، منصوبة على شريطة التفسير أي: وابتدعوا رهبانية يعني جاءوا بالرياضة الشاقة، والانقطاع عن الناس من عند أنفسهم، (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ): ما أمرناهم بها، (إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ): لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تعالى (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا): ذم بوجهين الابتداع في دين الله تعالى، وعدم القيام بما التزموا مما زعموا أنه قربة، (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ): وهم الثابتون على دين عيسى - عليه السلام - والرهبانية، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ): الذين غيروا دين عيسى عن ابن مسعود قال - عليه الصلاة والسلام: " هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ قلت: الله ورسوله أعلم،

قال " ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان، فقاتلوهم فهزم المؤمنون ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون: محمدًا صلى الله عليه وسلم -، فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية "، وفي رواية " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم الذين آمنوا بي، وكثير منهم فاسقون الذين كذبوني "، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ)، الخطاب لمؤمني أهل الكتاب، (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ): محمد - عليه الصلاة والسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ): نصيبين، (مِنْ رَحْمَتِهِ): للإيمان بنبيكم، وللإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لمن بقى على دين عيسى - عليه السلام - ولم يغير، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ): على الصراط، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): وكثير من السلف على أن هذه الآية لما افتخر أهل الكتاب بأنَّهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى في شأن هذه الأمة المرحومة، ففضلهم على أهل الكتاب بالنور والمغفرة، (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ): الذين لم يؤمنوا، (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي: يعطيكم الله تعالى نصيبين من رحمته، لأن يعلم الكافرون منهم أنه لا يتمكنون من نيل شيء من فضل الله تعالى، فلا مزيدة، (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، وعلى التفسير الثاني معناه أعطيناكم يا أمة محمد كفلين من رحمته

كما أعطى المؤمنون من أهل الكتاب أجرين ليعلم المؤمنون من أهل الكتاب أن فضل الله تعالى ليس بيد أحد، فلو أعطاهم أجرين لأجل إيمانين أعطى المؤمنين كفلين لأجل الإيمان الواحد بفضله قيل: (لا) غير مزيدة، والمعنى لئلا يعلم أهل الكتاب عجز المؤمنين ونقصانهم. والحمد لله على كل حال. * * *

سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنية سوى العشر الأول وَهِى اثنتانِ وَعشرونَ آية وثلاثُ ركوعَات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) * * * (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا): تراجعكما الكلام (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) نزلت في خولة، ظاهر منها

زوجها أوس بن الصامت، وكان الظهار طلاقًا، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " حرمت عليه " فحلفت إنه ما ذكر طلاقًا، فقال: " حرمت عليه " فقالت: أشكو إلى الله فاقَتي، وجعلت تراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترفع رأسها إلى السماء وتشكو إلى الله تعالى (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) كانت عبارتهم في الظهار: أنت كظهر أمي، أي ما هن أمهاتهم على الحقيقة (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ): المظاهرين (لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ): لا يعرف في شرع (وَزُورًا) باطلاً محرَّفا عن الحق (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فغفر عما سلف. (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) أي: يتداركون ما قالوا، والمتدارك عائد إليه، ومنه المثل: عاد غيث ما أفسد، أي: تداركه بالإصلاح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: العود الندم، قال الفراء: عاد فلان لما قال أو فيما قال، أي رجع عما قال، وهو إمساكها عقيب الظهار زمانًا يمكنه الطلاق، ولم يطلق أو المراد العزم على [الوطء] (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: فعليهم أو فالواجب إعتاق رقبة، والشافعي حمل ما أطلق على ما قيد في كفارة القتل بالإيمان؛ لاتحاد الموجب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) من قبل أن يجامع المظاهِرُ المظاهَرَ منها، فلا يجوز

الوطء قبل الكفارة، والأكثرون على أنه لا يحرم سائر الاستمتاع قبل الكفارة، وعن بعضهم التماس الاستمتاع مطلقًا (ذَلِكُمْ): الحكم بالكفارة (توعَظُونَ بِهِ) كي تنزجروا به عن الظهار (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَمْ يَجدْ) الرقبة (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) ولا يجوز الجماع في ليالي الشهرين، فلو فعل ففي الاستئناف خلاف (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) وعن مالك: من يكفر بالإطعام يجوز له الوطء قبله؛ لأنه غير مقيد بقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وبيان كمية الإطعام لكل مسكين قد مر في أواخر سورة المائدة (ذلِكَ) أي فرض لك الذي بَيَّنَّا (لتُؤْمِئُوا) لتصدقوا (بِالله وَرَسولِهِ) في قبول شرائعه وترك بدع الجاهلية، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) لا يجوز تعديها، (وَلِلْكَافرِينَ) عن ابن عباس رضي الله عنهما: لمن جحده وكذبه (عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) يعادون ويعاندون شرعه (وَرَسُولَهُ كُبِتُوا) أخزوا ولعنوا (كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ككفار الأمم الماضية (وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) تدل على صدق ما جاء به الرسول (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) ظرف لـ مهين، أو مفعول لـ اذكر (جَمِيعًا) مجتمعين (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) من خير وشر (أَحْصَاهُ اللهُ) ضبطه عليهم (وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). * * *

(7)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) * * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ) ما يقع سر ثلاثة نفر وتناجيهم (إِلَّا هُوَ) أي الله (رَابِعُهُمْ) بالعلم والاستثناء من أعم الأحوال (وَلَا خَمْسَةٍ) أي ولا نجوى خمسة (إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) وتخصيص العددين قيل لخصوص الواقعة، فإنها نزلت لتناجي المنافقين، أو لأن أهل النجوى لا يكونون إلا قليلين غالبًا من الاثنين إلى ما دون العشرة، فآثر الثلاثة ليكون قوله (وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ) دالاًّ على الاثنين وهو عدد لا يمكن التناجي بأقل منه، والخمسة أيضًا ليكون " ولا أكثر " دالاً على السبعة (وَلَا أَدْنَى) أقل (مِنْ ذَلِكَ) كالاثنين (وَلَا أَكْثَرَ) كالسبعة، ولا لنفي الجنس (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) بالعلم وفي قراءة " وَلَا أَكْثَرُ " بالرفع هو عطف على محل من نجوى، أي ما يكون أدنى ولا أكثر (أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) كانت اليهود والمنافقون يتناجون، ويتغامزون بأعينهم لإغضاب المؤمنين فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا لمثله (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) بما هو إثم لهم، وعدوان للمؤمنين (وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) تواصٍ بمخالفته

(وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) يقولون: سام عليك، والسَّام: الموت (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ) فيما بينهم سرًّا (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ) أي لو كان هو نبيًّا فهلا يعذبنا الله بشتمنا إياه (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابًا (يَصْلَوْنَهَا) يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) كاليهود والمنافقين (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) بما يتضمن نفعكم ونفع غيركم (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى) أي ذلك النجوى الذي هو بالإثم (مِنَ الشَّيْطَانِ) فإنه الآمر به (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ليوهمهم أن عليهم شرًّا (وَلَيْسَ) الشيطان أو التناجي (بِضَارِّهِمْ شَيْئًا) من الضرر (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه هو حسبهم وكافيهم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) توسعوا (فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) فى المكان (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) يوسع عليكم في الدارين، نزلت حين جاء بعض من أهل [بدر] إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوسع الصحابة لهم فَكَرِهَ عليه الصلاة والسلام ذلك كرامة لأهل بدر فأقام عليه الصلاة والسلام بعضًا، وأمر أهل بدر أن يجلسوا مكانهم، فشق على البعض ذلك، وفي الصحيحين: " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا ". (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا)

انهضوا وقوموا لأكرمكم (فَانْشُزُوا) فقوموا، وإذا قيل انهضوا للصلاة أو للجهاد أو إلى خير فلا تثاقلوا، أو إذا قيل لكم قوموا واخرجوا فإنَّهم إذا كانوا في بيته عليه الصلاة والسلام كل منهم يحب أن يكون آخرهم خروجًا فربما يشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم لما له من حاجة، فأمروا أنَّهم إذا أمروا بالانصراف يأتمروا سريعًا (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بطاعتهم لرسوله (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) أي ويرفع الله تعالى العلماء منهم خاصة، ونصب درجات بالبدل من الذين آمنوا والذين أوتوا العلم، أو بالتمييز، والمعنى: لا يحسب أحدكم أنه إذا تفسح، أو أمر بالخروج فخرج يكون نقصًا في حقه، بل هو رفعة ومرتبة عند الله تعالى (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) نزلت حين كثرت مجالسة الأغنياء ومناجاتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ذلك، فأمر الله تعالى الخلائق بالصدقة أمام مناجاته فانتهوا عن كثرة المناجاة. عن علي رضي الله عنه: هذه آية لم يعمل بها أحد قبلي، ولا أحد يعمل بها بعدي، كان عندي

(14)

دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت فلم يعمل بها غيري (ذلِكَ): التصدق (خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا رخصة مناجاتهم للفقراء بلا تصدق (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ): أي: أخفتم تقديم الصدقة لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر، وجمع الصدقات لجمع المخاطبين (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به (وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) عذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فلا تفرطوا فيهما (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في أوامره ونواهيه، ليكون كالجابر (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ

الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ): المنافقين (تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) اليهود، كان المنافقون ينقلون إليهم أسرار المؤمنين (مَا هُمْ مِنْكُمْ) لأنَّهُم منافقون (وَلَا مِنْهُمْ) من اليهود أيضًا؛ لأنَّهُم مذبذبون (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ادعاء الإسلام (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن [المحلوف] عليه كذب (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يعني هذا العذاب؛ لإصرارهم على سوء العمل (اتَّخَدوا أَيْمَانَهُمْ) التي حلفوا بها (جُنَّةً) وقاية من القتل والنهب (فصَدُّوا) الناس (عَن سَبِيلِ اللهِ) يعني بالحلف الكذب، يقون أنفسهم ويأمنون وفي خلال أمنهم يصدون الناس عن الدين الحق (فَلَهُمْ عَذَاب مهِينٌ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أي من عذابه، أو شيئًا من الإغناء (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) نزلت

ْحين قال عليه الصلاة والسلام: سيأتيكم إنسان (1) ينظر بعيني شيطان، فإذا ناداكم فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق فقال له عليه الصلاة والسلام: علامَ تشتمني أنت وفلان، فانطلق الرجل، فدعاهم وحلفوا له، واعتذروا إليه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا)، ظرف لن تغني (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) لله تعالى على أنَّهم ما كانوا مشركين (كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ) كذبا في الدنيا أنَّهم منكم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) حسبوا أن الأيمان الكاذبة تروج الكذب في الآخرة، كما روجت في الدنيا (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ) استولى (عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ) فلا يذكرون الله تعالى أصلاً ولا يصلون (أُولَئِكَ حِزْبُ) جنود (الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) يعادونه (وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة من لهم ذل فى الدارين. (كَتَبَ اللهُ) حكم وقرر (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) إما بالحجة وإما بها وبالسيف (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون) [الصافات: 171 - 172] الآية (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني لا يجتمع الإيمان ومحبة أعداء الله تعالى (وَلَوْ كَانُوا) أي من حاد الله (آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أقاربهم (أُولَئِكَ) الذين لم يوادوهم (كَتَبَ) الله (فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ): أثبته فيها (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ): من عند

__ (1) رواه أحمد وغيره، ولا شبهة أن هذا الرجل من المنافقين. [وقال الشيخ أحمد شاكر في " تعليقه على المسند " (2407): وإسناده صحيح]. بدأ بالآباء لأن الواجب على الأولاد طاعتهم فنهاهم عن توادهم ثم ثني بالأبناء لأنه أعلق بالقلوب ثم ثالثًا بالإخوان لأن لهم التعاضد ثم رابعًا بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة / 12 وجيز.

الله تعالى وهو النصر على العدو أو نور القلب (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ) حال مقدرة (فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) لما سخطوا على القرائب لله تعالى عوضهم بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أنعم عليهم من الفضل العظيم (أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ) أنصار دينه (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدارين. اللهم اجعلنا منهم. * * *

سورة الحشر

سورة الحشر مدنية وهي أربع وعشرون آية، وثلاث ركوعات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ

هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) * * * (سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) [الإسراء: 44] (الَّذِى أَخْرَجَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) بني النضير (مِن دِيَارِهِمْ) لما نقضوا العهد أحل الله بهم بأسه فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم الحصينة التي ما طمع بتسخيرها أحد إلى أذرعات من أعمال الشام وهي أرض المحشر ولذلك قال: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي: لابتداء: الحشر صرح به ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من

السلف، وعن الحسن رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام لبني النضير: " هذا أول الحشر وأنا على الأثر " قيل: هم أول من أُجلي من جزيرة العرب فهم أول المحشورين فإن الحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر (مَا ظَنَنتُمْ) أيها المؤمنون (أَنْ يَخْرُجُوا) لشدتهم وشدة حصونهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي: زعموا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله تعالى فـ حصونهم مبتدأ ومانعتهم خبره، أو حصونهم فاعل مانعتهم، لاعتماده فإنه في الحقيقة خبر المبتدأ وفي هذا النظر دلالة على فرط وثوقهم بحصونهم واعتقادهم أنهم في عزة بسببها (فأَتَاهُمُ اللهُ) عذابه (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من حيث لم يخطر ببالهم (وَقَذَفَ) ألقى (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) الجملة حال (بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) فإنَّهم يقلعون الأبواب وما استحسنوه من السقوف ويحملون معهم والباقي يخربه المؤمنون واليهود عرَّضت المؤمنين لذلك وكانت السبب فيه فهم خربوا ديارهم بأيدي المؤمنين (فَاعْتَبِرُوا) فاتعظوا (يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ولا تتبعوا أعمالهم وعقائدهم (وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء) الخروج من الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) أي: لأنزل عليهم بلاء آخر كالقتل والسبي فإنه قد كتب أنه سيعذبهم في الدنيا (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) أي هذا لهم حتم لازم على أي حال (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا) عاندوا وخالفوا (اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ) ما منصوب بـ قطعتم أي: أي شيء (مِنْ لِينَةٍ) هي نوع خاص من النخل أجودها في ألوان التمر أو سوى العجوة والبرني أو

جميع أنواع النخل (أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا) فائدة هذا القيد أنه يعلم منه أنهم كانوا يستأصلون ما يقطعون من أصوله وبنيانه ولا يخلون ساقها (فَبِإِذْنِ اللهِ) بأمره ورضائه. نزلت لما حاصرهم وأمر عليه الصلاة والسلام بقطع نخيلهم إرغامًا لقلوبهم، قالوا إنك تنهى عن الفساد ثم تفسد في الأرض فحاك ذاك في صدور المؤمنين (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) علة لمحذوف أي: أذن لهم في قطع بعض وإبقاء بعض ليخزيهم على فسقهم بمزيد حسرتهم وغيظهم (وَمَا أَفَاءَ) ما منصوب بـ أفاء أي: الذي رده (اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) من تلك اليهود من الأموال (فَمَا أَوْجَفْتُمْ) ما نافية أي ما أجريتم (عَلَيْهِ) على تحصيله (مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) والركاب ما يركب من الإبل، يعني إنما مشيتم على أرجلكم لقربهم منكم ولا تعبتم بالسفر والقتال (وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا تطمعوا أن يكون مال الفيء كمال الغنيمة أربعة أخماسها لكم بل ما هو لكم من الغنيمة هو من الفيء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك ما أعطى الأنصار منه إلا ثلاثة نفر منهم (مَا أَفَاءَ اللهُ

عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) جميع البلدان الذي يفتح (فَلله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) جملة ما أفاء الله بيان للجملة السابقة، ولذلك لم يعطف، كأنه لما قيل: ما خول الله برسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه بالقتال، فلا يقسم قسمة الغنائم. قيل: كيف يقسم؟ قيل: " ما أفاء الله " الآية. فعلم أن مال الفيء، وهو مال أخذ من الكفار من غير قتال، ولا إيجاف خيل وركاب ليس للجنود فيه نصيب، بل هو مختص للرسول، ولذي القربى، والثلاثة الباقية. وعلم من الحديث أنه ينقسم بخمسة؛ أربعة أخماس لخاصة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخمس الباقي ينقسم على هؤلاء الخمسة، وبيان المصارف قد مر في سورة الأنفال فلا نعيده (كَيْ لَا يَكُونَ) الفيء (دُولَةً) ما يتداول (بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) فلا يصيب الفقراء كأيام الجاهلية (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) أي: ما أمر به (فَخُذُوهُ) تمسكوا به (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ) عن إتيانه (فَانْتَهُوا) عنه أو ما أعطاكم من المال فاقبلوا وما نهاكم عن أخذه فانتهوا (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لمن خالف (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) بدل من المساكين، أو من لذي القربى، وما عطف عليه (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) فإن كفار مكة أخذوا أموالهم (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) جملة حالية (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في دعوى

الإيمان (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) جعلوا الإيمان مستقرًا لهم كما جعلوا المدينة كذلك أي: لزموا المدينة والإيمان، وتمكنوا فيهما والتعريف في الدار؛ للتنويه، كأنها الدار التي تستحق أن يسمى دارًا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرتهم، وهم الأنصار (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) في أنفسهم (حَاجَةً) كحسدٍ وغيظ (مِمَّا أُوتُوا) أي لا يجدون من مال أعطى المهاجرون في أنفسهم حقدًا وغرضًا، فإنه قد قسم مال بني النضير بين المهاجرين دون الأنصار (وَيُؤْثِرُونَ) يقدمون المهاجرين (عَلَى أَنْفُسِهِمْ) فيما عندهم من الأموال (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) حاجة إلى ما عندهم نزلت حين انطلق رجل من الأنصار برجل، قال عليه الصلاة والسلام في شأنه: " رحم الله من يضيفه الليلة إلى بيته "، ولم يكن في بيته سوى قوت صبيانه، فنومهم وأطعمه قوتهم، فبات هو وعياله جائعين. فقال عليه الصلاة والسلام: " ضحك الله من فلان " (ومَن يُوقَ لشُحَّ نَمسِهِ) من سلم من الحرص الشديد الذي

يحمله على ارتكاب المحارم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ) المراد التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا) في الدين (الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا) حقدًا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) واعلم أن للفقراء لا يمكن أن يكون بدلاً من الله وللرسول؛ لأن الرسول أيضًا لا يسمى فقيرًا، فهو بدل من لذوي القربى وما بعده، ومن لم يشترط في ذوي القربى الفقر، يقول: إن للفقراء ليس للقيد، بل بيانًا للواقع من حال المهاجرين، وإثباتًا لمزيد اختصاصهم، وأن قوله: وَ (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ) عطف على الفقراء، لا على المهاجرين، سيما وقد ثبت فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الخلفاء رضي الله عنهم

(11)

من بعده أنهم يعطون الأغنياء من ذوي القربى وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية إلى قوله: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) قال: استوعبت هذه المسلمين وليس أحد إلا له حق، وقد خطر بخاطري أن الله تعالى سمى جميع المهاجرين والأنصار والتابعين فقراء، وإن كانوا أغنياء؛ لأنه لو كان المراد فقراءهم؛ لناسب أن يقول لفقراء المهاجرين بطريق الإضافة. وعن بعض المفسرين أن قوله: " للفقراء " ليس بدلاً بل تقديره اعجبوا لهم فإن السياق في مدحهم، فإنه لما أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجّب الناس اتباع هؤلاء، والذي يؤيده قوله: " ألَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا " مُصَدَّرًا بقوله: " ألَمْ تَر " وهي كلمة للتعجب، فإن ذكرهم جاء مقابلاً لذكر أضدادهم. * * * (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) * * *

(أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) هم بنو قريظة والنضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) نوافقكم ونرافقكم (وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ) في إخلاف ما وعدناكم وفي قتالكم (أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ) وقد وقع كذلك فإن ابن أبي وأصحابه عاهدوهم على ذلك ثم أخلفوهم (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على الفرض (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) لَينهزمون (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) بعد ولا ينفعهم نفاقهم. قيل: معناه لينهزمن اليهود، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) مرهوبية مصدر فعل المجهول؛ لأنَّهُم مرهوب منهم لا راهبون (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) لأن نفاقهم من خوفكم، ولو خافوا من الله لتركوا النفاق (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) فإنه لو كان لهم دراية، لعلموا أن الله هو الحقيق بأن يخشى (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ) اليهود (جَمِيعًا) مجتمعين (إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) لا يبرزون لقتالكم لفرط خشيتهم منكم وإن كانوا مجتمعين (بَأْسُهُمْ) شدتهم في الحرب (بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)، يعني إذا حارب بعضهم بعضًا فيشتد بأسهم لكن إن قاتلوكم لم يبق لهم تلك الشدة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا) متفقين (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة وأصل الحرب الاتفاق (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) فإن العقل هو الداعي إلى الاتحاد والاتفاق، وعن بعض تحسبهم أي: اليهود والمنافقين (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا أي: مثل اليهود كمثل الذين استقروا من قبلهم في زمان قريب، وهم أهل بدر

أو يهود بني قينقاع، فقد أجلاهم رسول ألله صلى الله عليه وسلم قبلهم (ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَل الشَّيْطَانِ) أي: مثل المنافقين في إغراء اليهود كمثل الشيطان (إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) تبرأ عنه في العاقبة، كما فعل براهب حمله على الفجور، ثم على سجوده، ثم تبرأ منه. وكما قال يوم بدر: (وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) [الأنفال: 48] (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ). * * *

(18)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) * * * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) انظروا ما ادخرتم ليوم القيامة (واتقوا الله) تكرير للتأكيد (إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله) نسوا حقه (فأنساهم) الله (أنفسهم) حق أنفسهم فلم يفعلوا ما ينفعهم (أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الكاملون في الفسق (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ) الذين نسوا الله فلم يتق بها (وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) الذين عرفوا حق الله فاتقوا (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) وخاطبناه بالأمر والنهي

وفهمناه الحكم والمثل (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا) متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ) التي في القرآن (نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشعه وقلة تدبره وعدم الاتعاظ بالقرآن (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عنا (وَالشَّهَادَةِ) وما حضر (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) الطاهر البليغ في النزاهة عن كل نقصان (السَّلَامُ) ذو السلامة من كل نقص (الْمُؤْمِنُ) واهب الأمن أو المصدق للمؤمنين والكافرين في وعدهم ووعيدهم (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب المطلع على السرائر (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) العظيم أو الذي جبر خلقه على مراده أو جبر حالهم

وأصلحها (الْمُتَكَبِّرُ) الذي تكبر عن كل نقص وأصل الكبرياء الامتناع (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ) المقدر (الْبَارِئُ) المبرز الموجب لما قدر (الْمُصَوِّرُ) الممثل للمخلوقات الموجد لصورها (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بلسان قاله أو حاله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي مسند الإمام أحمد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر، وكَّلَ الله به سبعين ألف ملك، يصلون عليه حتى يمسى، فإن مات ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسى كان بتلك المنزلة ". * * *

سورة الممتحنة

سورة الممْتَحَنَة مدنية وآياتها ثلاَثَ عَشْرة، وفيهَا ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) * * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) نزلت في حاطب بن أبى بلتعة، لما كتب إلى كفار مكة، حين أراد عليه الصلاة والسلام الخروج إلى مكة - إن المؤمنين قد جاءوكم فاحذروا، وأرسل بيد امرأة، فبعث عليه السلام عليًّا وعمارًا وغيرهما، وأخذوا منها الكتاب، فخاطب عليه السلام حاطبًا فقال: يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، لكن كنت امرءًا ملصقًا في قريش، عندهم أهلي ومالي، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله، فكتبت إليهم بذلك. فقال عليه السلام: " صدق حاطب، لا تقولوا له إلا خيرًا " (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ) أخبار المؤمنين (بِالْمَوَدَّةِ) بسببها أو تفضون إليهم بالمودة، فيكون من باب التضمين، لا أن الباء زائدة والجملة حال أو صفة لأولياء (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) حال من الفاعل (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) أي: من مكة استئناف أو حال من كفروا (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي: بأن تؤمنوا (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) من الأوطان (جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي) جواب الشرط ما يدل عليه لا تتخذوا (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) مثل تلقون إليهم بالمودة، والجملة استئناف، كأنه قيل: لم لا نتخذ؟ فقيل تسرون إلى آخره، يعني توادونهم سرًّا، وأنا مطلع على سركم ومطلع عليه رسولي، فلا طائل (وَأَنَا أَعْلَمُ) منكم (بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ) أي: الاتخاذ (مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) طريق الصواب (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يظفروا بكم ويغلبوكم (يَكُونُوا لَكمْ أَعدَاء) ولا ينفعكم إلقاء المودة (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ) كالقتل والضرب والشتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) تمنوا ارتدادكم ولو للتمني، يعني

لا توادوهم فإنهم معكم في غاية العداوة (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ) قراباتكم (وَلَا أَوْلَادُكُمْ) الكفار (يوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار، أو لا ينفعكم إلا طاعة الله لا الأقارب والأولاد، فإنه يوم يفرق بينكم؛ بأن يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي فيهم خصلة من حقها أن يؤتسى بها، ويتبع (إِذْ قَالُوا) ظرف لخبر كان (لِقَوْمِهِمْ) الكفار (إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ) بدينكم ومعبودكم (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فإنه حينئذ ينقلب العداوة والبغضاء موالاة ومحبة (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم فيه خصلة من حقها الاتباع إلا هذا قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)، إلى قوله (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 113 - 114]، (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) من تمام قوله لأبيه (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا) من تمام الأسوة الحسنة (وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

(7)

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب آخر فيقولوا لو كانوا على الحق ما أصابهم ذلك فيفتنوا أو لا تسلطهم علينا فيفتنونا (وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كرر لمزيد الحث والتأكيد ولهذا صدره بالقسم وجعل قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) بدل بعض من لكم وعقبه بقوله: (وَمَن يَتَوَلَّ) عن الاقتداء ويتولَّ الكفار (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا يضر الله بل لا يضر إلا نفسه. * * * (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ

وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) * * * (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي مشركي مكة (مَوَدَّةً) بأن يهديهم فألف بين قلوبكم (وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما فرط منكم من الموالاة ومنهم حين الكفر (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ) أي عن الإحسان إلى الكفرة الذين (لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَروهُمْ) بدل اشتمال من الذين (وتُقسِطُوا إِلَيْهِمْ) تفضوا إليهم بالعدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) نزلت حين جاءت أم أسماء بنت أبي بكر بهدايا فأبت أسماء أن تقبل وأن تدخل بيتها؛ لأن أمها مشركة (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا) اتفقوا وأعانوا (عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل من الذين (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) كان النبي عليه السلام يحلفهن أنهن ما خرجن إلا لحب الإسلام لا لفرار من أزواجهن ولا لعشق أحد (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) بظهور الأمارات وسماه علما ليعلم أن الظن الغالب في مثل هذا المقام كالعلم (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) لأن المسلمة لا تحل للكافر وفي العبارة تأكيد ومبالغة لا يخفى ومنه علم أنه حصلت الفرقة ولا يجوز استئناف النكاح (وَآتُوهُم) أي: أزواجهن الكفار (مَّا أَنفَقُوا) عليهن من المهر (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ) فإن الإسلام أبطل الزوجية (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن هذا القيد ليعلم أن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام مهرهن بل لابد من إصداق، وقد تقدم أن صلح الحديبية على أن من جاءنا منكم رددناه إليكم فهذه الآية مخصصة لعهدهم نقض الله العهد بينهم في النساء خاصة، وقد كان في ابتداء الإسلام جائز أن يتزوج المشرك مؤمنة، وهذه الآية ناسخة، والأكثرون على أنها متى انقضت العدة ولم يسلم الزوج انفسخ نكاحها

منه، ويحكم بالانفساخ من حين إسلامها (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) جمع عصمة أى: ما اعتصم به من عقد ونسب، والكوافر جمع كافرة، هذا التحريم من الله على المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن أيضًا ولذلك لما نزل طلق عمر رضي الله عنه امرأتين مشركتين له بمكة (وَاسْأَلُوا) أيها المؤمنون من الكفار (مَا أَنْفَقْتُمْ) من صداق نسائكم اللاحقات بالكفار (وَلْيَسْأَلُوا) أي: المشركون (مَا أَنْفَقُوا) من صداق المهاجرات، أمر المؤمنين بأن يكون العهد بينكم كذا فتطالبوهم بصداق المرتدات ويطالبوكم بصداق المهاجرات المؤمنات (ذلكُمْ حُكْمُ اللهِ) إشارة إلى جميع ما ذكر فى الآية (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) استئناف (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكيمٌ) والأمر برد الصداق إلى الكفار لأجل العهد وإلا لم يجب (وَإن فَاتَكُمْ) انفلت منكم (شيْء مَنْ أَزْوَاجِكُمْ) أحد منها أي: من كانت (إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ) جاءت نوبتكم من العقبة وهي النوبة أو أصبتم من الكفار العقبى أي: الغنيمة وعليه كلام الأكثرين والحديث يؤيده (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ) إلى الكفار (مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) مما في ذمتكم من مهر المهاجرات، أو من مال الغنيمة تزلت حين نزلت الآية المتقدمة وأبى المشركون أن يؤدوا مهر الكوافر، وحاصله: إن لم يؤدوا مهر المرتدة المنفلتة منكم فلا تؤدوا أنتم أيضًا إلى الكفار مهر المهاجرة المنفلتة منهم، حين جاءت نوبتكم، بل أعطوا زوج المرتدة منكم مثل مهرها، مما في ذمتكم من مهر المهاجرات، أو أعطوا زوجها مثل مهرها من مال الغميمة (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ

الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا) عن بعض السلف أنها نزلت في يوم الفتح، وكلام الأكثرين على أنها قبل الفتح (وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ) فإن وأد البنات من شكيمتهن (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) بأن تلتقط مولودًا وتقول لزوجها: هذا منك، فإن الولد إذا وضعت سقط بين يديها ورجليها (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وهو لا يأمر إلا بالمعروف، لكن قيد به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق، ولو فرض أنه رسول - الله صلى الله عليه وسلم - في معصية الخالق (فَبَايِعْهُنَّ) هو العامل في إذا جاءك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نهي عن موالاة الكافرين مطلقًا أو اليهود منهم في آخر السورة، كما نهى في أولها (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) لإنكارهم الحشر ولعلمهم بأنَّهم على الضلال فإن اليهود من المعاندين (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ) الأحياء (مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) أي: من الاجتماع مع الأموات فإنهم منكرو الحشر، أو كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من كل خير؛ لأنهم علموا شقاوتهم. اللهم لا تجعلنا في زمرتهم. * * *

سورة الصف

سورة الصف مكية وَهِي أربع عَشْرة آيةَ، وفيهَا ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) * * * (سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قد مَرَّ مِرَارًا تفسيره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ) حذف ألف ما الاستفهامية إذا كانت مع حرف الجر أكثر من إثباتها (تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا) المقت أشد البغض منصوب

بالتمييز (عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا) فاعل كبر (مَا لَا تَفْعَلُونَ) في هذا الأسلوب من الكلام ما لا يخفى من المبالغة نزلت في جماعة قالوا: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به. فأخبر الله نبيه أنه الجهاد، فلما فرض نكل عنه بعضهم، وكرهوا، أو نزلت لما التمسوا الجهاد فابتلوا به، فولوا يوم أحد مدبرين، أو في قوم قالوا: قاتَلْنا طعنّا ضرَبّنا صَبرنا، وهم كاذبون، أو في المنافقين يعدون نصر المؤمنين ولا يفون، وعلى أي ففيه وعيد شديد لمخلف الوعد والعهد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) مصطفين (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) قد رص بعضه ببعض فليس فيه فرجة حال من ضمير صفا (وَإِذْ قَالَ مُوسَى) أي اذكر للتسلية (لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) لظهور المعجزات (فَلَمَّا زَاغُوا) صرفوا عن الحق مع علمهم (أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: من سبق في علمه أنه فاسق (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا) منصوب بما في الرسول من معنى الإرسال أي: أرسلت في حال تصديقي وتبشيري (بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ

(10)

أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَات قَالُوا هَذَا) إشارة إلى ما جاء به (سِحْرٌ مبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ) أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله حال كونه مدعوًّا بلسان نبيه إلى سعادة الدارين وهي الإسلام (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا) أصله أن يطفئوا فزيدت اللام تأكيدًا لمعنى الإرادة كما في لا أبا لك تأكيدًا لمعنى الإضافة (نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) إتمامه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى) بالقرآن والمعجزة (وَدِينِ الْحَقِّ لِيظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلهِ) ليعلي دين الحق على سائر الأديان أو رسوله على أهل الأديان (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشركُونَ) قد فسرنا الآيتين في سورة براءة. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى

تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) عذاب الله مطلقًا (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) استئناف مبين للتجارة فإنَّهم قالوا: دلنا يا رب (ذَلِكُمْ) أي الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لستم جاهلين (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) جواب للأمر المذكور بلفظ الخبر للمبالغة قيل: جواب للشرط أي: إن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم والجنة العدن قد مرَّ (وأخْرَى) أي: ولكم نعمة أخرى (تُحِبُّونَهَا) فإن أمور العاجل محبوبة إلى النفوس (نَصْرٌ مَنَ اللهِ) بدل أو بيان (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) عاجل (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يا محمد بثواب الدارين عطف على تؤمنون؛ لأنه بمعني آمنوا فإن قوله: " يا أيها الذين آمنوا " متناول للنبي عليه السلام وأمته فقد دل على تجارته وتجارتهم، أو يكون جوابًا للسؤال وزيادة، كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا، فقيل: آمنوا؛ يكن لكم كذا، وبشرهم يا محمد [بثوابه]، وقيل: عطف على محذوف، أي: قل يا أيها الذين آمنوا، وبشر أو أبشر وبشر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلَى اللهِ) أي: من جندي متوجهًا إلى نصرة الله (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ) يعني كونوا أنصاره، مثل كون الحواريين أنصار الله وقت قول عيسى: من أنصاري إلى الله، فما مصدرية، وهي مع صلتها ظرف، وهو كقولهم: ما رأيت رجلاً كاليوم. أي: كرجل رأيته اليوم. حذف الموصوف مع صفته، واكتفى بالظرف عنهما، وهذا من توسعاتهم في الظروف، وقيل تقديره: قل لهم كما قال عيسى (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) بعيسى (وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) (لدنا الَّذِي) بالغلبة والاستيلاء (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) غالبين وذلك بعد رفع عيسى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال السلف: لم يزل دين عيسى طامسًا، حتى بعث الله محمدًا، فآمن المؤمنون بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، فصاروا ظاهرين إلى آخر الأمر، فيقاتل المسيح الدجال. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الجمعة

سورة الجمعة مكية وَهِى إِحْدىَ عَشرة آية، وَفيهَا ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) * * * (يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) العرب فإن أكثرهم لا يقرءون ولا يكتبون (رَسُولًا مِنْهُمْ (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) مع أنه أمي أيضًا (وَيُزَكِّيهِمْ) من العقائد الرديَّة والأعمال

القبيحة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) السنة (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مبِينٍ) لأنهم مشركون وإن هي المخففة بدلالة اللام (وَآخَرِينَ مِنْهمْ) عطف على الأميين وهم من جاءوا بعد قرنه إلى يوم الدين وكل من أسلم صار منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة، أو المراد أهل فارس ومنهم صفة الآخرين لأن أول وآخر لا يستعمل بمن مع أن الجمع من أفعل التفضيل مطلقًا لا يستعمل بمن (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لم يدركوهم فإنهم بعدهم قيل: لم يلحقوا بهم في الفضل (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذلِكَ) الذي أعطاه من النبوة العظيمة وما خص به أمته (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) علموها وكلفوا العمل بها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) لم يعملوا ولم ينتفعوا بها (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) كتبًا كبارًا أو يحمل إما حال والعامل معنى المثل، أو صفة؛ لأن التعريف في الحمار للجنس (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ) حذف المضاف من المخصوص، أي: مثل الذين، أو المخصوص محذوف أي مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله هو

(9)

والضمير إلى مثل الذين حملوا (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) قد ذكرنا في سورة البقرة وجهين في معناه (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ذنوبهم وعلمهم بها (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فيجازيهم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) وتخافون المباهلة لأجله أو تخافون أن تتمنوه باللسان (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) لا محالة والفاء لتضمن الذي معنى الشرط والجملة خبر إن (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) السر والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن يجازيكم عليه. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أذن لها عند قعود الإمام على المنبر (مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ) من بيان وتفسير لإذا وقيل: بمعنى في (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ

اللهِ) أي: اهتموا في سيركم إليها كي لا يفوت منكم وليس المراد هاهنا المشي السريع ففى الصحيحين " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " (وَذَرُوا الْبَيْعَ) المعاملة فإنها حرام (ذَلِكمْ) السعي إليه (خَيْرٌ لكمْ) من المعاملة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ) فرغتم منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لقضاء حوائجكم (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) رزقه وهذا أمر إباحة بعد الحظر عن بعض السلف من

باع واشترى بعد الجمعة بارك الله له سبعين مرة (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا) في حال انتشاركم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) نزلت حين قدمت عير المدينة أيام الغلاء والنبي عليه السلام يخطب فلما سمع الناس الطبل لقدومها انصرفوا إليها إلا اثني عشر رجلاً، قيل: تقديره إليها وإليه فحذف إليه للقرينة وقيل: أفرد التجارة لأنها المقصودة إذ المراد من اللهو طبل قدوم العير (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) في الخطة وكان ذلك في أوائل وجوب الجمعة حين كانت الصلاة قبل الخطبة مثل العيد كما روى أبو داود في كتاب المراسيل (قُلْ مَا عِندَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لمن توكل عليه، فلا تتركوا ذكر الله في وقته. والحمد لله حقَّ حمده. * * *

سورة المنافقون

سورة الْمُنَافِقُونَ مدنية وَهِيَ إِحْدى عشرة آية وَفيهَا ركوعانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) * * * (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) أي: عند أنفسهم، وهذا هو الكذب الشرعي اللاحق به الذم، ولذلك لا ينسبون المجتهدين إلى الكذب، وإن نسبوا إلى الخطأ، أو لأنَّ

الشهادة هو ما وافق فيه اللسان والقلب وشهادة الزور كإطلاق البيع على الفاسد تجوزًا، أو لأن الشهادة يفهم منها عرفًا المواطأة، كيف لا وقد أكده بـ إن واللام (اتخذُوا أَيْمَانَهُمْ) حلفهم الكاذب (جُنَّةً) وقاية عن المضرة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) جاز أن يكون الصد متعديًا ولازمًا (إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ) النفاق والكذب (بِأَنَّهُمْ آمنوا) بلسانهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم أو ظاهرا ثم كفروا سرًّا أو حين رأوا آية (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ثم كفروا فاستحكموا في الكفر (فهُمْ لَا يَفْقَهُون) صحة الإيمان وحقيقته أو لا يفقهون أنَّهم طبع على قلوبهم ويحسبون أنَّهم على الحق (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) فإنهم أشكال حسنة (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي: تسمع لما يقولون مشبهين بأخشاب منصوبة إلى حائط في الخلو عن الفهم والنفع، فإن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو غيره من مظان الانتفاع، وما دام متروكًا أسند إلى الحائط فلا ينتفع به (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيهمْ) أي: واقعة عليهم لجبنهم فهم أجسام لا قلوب لهم، أو لأنهم على وجل من أن ينزل الله أمرًا يهتك أستارهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) لا تأمنهم (قَاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم وطلب من ذاته أن يلعنهم، أو تعليم للمؤمنين (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الهدى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) أمالوها إعراضًا ورغبة عن الاستغفار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي: استغفارك وعدمه سواء عليهم، بأن لا يلتفتوا إليه (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لأن الله لا يغفر لهم لشقاوتهم (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) في الأزل وفي علم الله (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) للأنصار (لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرقوا

(9)

(وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بيده الأرزاق فهو الرزاق لهم لا الأنصار (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا) من المدينة (الْأَذَلَّ) جرى بين بعض المهاجرين وابن سلول جدال في غزوة بني المصطلق، فقال لعنه الله ما قال، وأراد من الأعز نفسه، ومن الأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، ثم قال: لا تنفقوا على المهاجرين يا جماعة الأنصار حتى ينفضوا. فلما سمع عليه السلام مقالته، جاء وحلف بأنه كذبٌ وَصَلَ إليك، فنزلت " إذا جاءك المنافقون " الآية. فقيل لابن سلول: قد نزل فيك آي شداد، فاذهب إليه لعله يستغفر لك، فلوى رأسه. فقال: أمرتموني بالإيمان فآمنت، ثم بالزكاة فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد له (وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ

وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم (أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) الصلوات الخمس وسائر العبادات والمراد نهيهم عن اللهو بها (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) أي الشغل بالدنيا عن الدين (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ولا تسمعوا قول المنافقين لا تنفقوا على من عند رسول الله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا) هلا (أَخَّرْتَنِي) أمهلتني (إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) مدة أخرى يسيرة (فَأَصَّدَّقَ) أتصدق (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بالتدارك وكل مفرط يندم عند الاحتضار ويسأل الإمهال، للتدارك وقراءة أكن عطف على محل (فَأَصَّدَّقَ)؛ فإن موضع الفاء مع الفعل جزم بخلاف أكون فإنه عطف على ما بعد الفاء (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فَمُجَازٍ عليه. * * *

سورة التغابن

سورة التَّغَابُنِ مُختلَف فيهَا وآياتها ثماني عشرة، وفيها ركوعان * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) * * * (يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ) مقدر كفره (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقدر

إيمانه ومثله في الإجمال والتفصيل قوله: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) الآية. (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيعاملكمِ بما يناسبه (خَلَق السَّمَاواتِ وَالْأَرْص بِالْحَقِّ) بالحكمة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَركُمْ) من بين ما خلق فيهما وفيه إشارة إلى أن الغرض من خلقهما الإنسان (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فأحسنوا السرائر (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه شيء من الأشياء السماوية ولا الأرضية ولا النفسية (أَلَمْ يَأتِكُمْ) أيها الكفار (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) الأمم السالفة (فذَاقُوا وَبَال أَمْرِهِمْ) ضرر كفرهم وهو أنواع العقوبات التي حلَّت عليهم في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ) العذابان (بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا) على سبيل الإنكار: (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) والبشر يطلق على الجمع أيضًا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا) أعرضوا عن آيات الله (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن طاعتهم (وَاللهُ غَنِيٌّ) عن كل شيء (حَمِيدٌ) يَدُل على حمده كل مخلوق (زَعَمَ الذِينَ كَفَرُوا أَن لن يُبْعَثُوا قُلْ) يا محمد: (بَلَى) تبعثون (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) بالمجازاة (وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لقدرته الشاملة (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا) القرآن (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا يضيع عنده عمل عامل (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) ظرف لـ لَتُنَبَّؤُنَّ أو مقدر بـ اذكر (ليَوْمِ الْجَمْعِ) لأجل ما في يوم الجمع جمع الملائكة والثقلين (ذلِك يَوْمُ التَّغَابنِ) تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، يظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وكل مؤمن بتقصيره في الإحسان (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ

(11)

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) ملازموها (خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار. * * * (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) * * * (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ) اللهُ (قَلْبَهُ) لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيسلم لقضائه ويسترجع (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) فلا عليه (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) لأن عليه التبليغ وقد بلغ (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأن الله هو النافع الضار وحده والمؤمنون يؤمنون بأن لا إله إلا هو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) أي: بعضهم (وَأَوْلَادِكُمْ

عَدُوًّا لَكُمْ) يشغلكم عما ينفعكم (فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم (وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) بإخفاء معايبهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لكم ويتفضل أو فيغفر لهم ما فرط عنهم من شغلكم عن الله. نزلت حين أراد الهجرة بعض من آمن بمكة فمنعهم أهلهم وقالوا: صبرنا على إسلامكم ولا نصبر على هجركم فتركوا الهجرة حينئذ فلما أتوا المسلمين رأوهم قد فقهوا في الدين فهمُّوا عقاب أهلهم (إِنَّمَا أمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) اختبار لكم يعني بعضهم أعداء لكن كلها اختبار يبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدود الله (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن صبر على حدود الله فيهم، أو معناه ليس الأموال، ولا الأولاد إلا بلاء ومحنة، والأجر العظيم هو ما عند الله، فأغمضوا عن محبتهم، واطمعوا فيما عند الله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعتُمْ) أي: جهدكم وطاقتكم، وعن كثير من السلف أنه لما نزلت (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102] اشتد عليهم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم،

فأنزل الله قوله: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تخفيفًا فيكون ناسخة لما في آل عمران (واسْمَعُوا) مواعظه (وَأَطِيعُوا) أوامره (وَأَنفِقُوا) في مصارف الخير (خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) تقديره ائتوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ فهو كالفذلكة للأوامر السابقة، أو تقديره يكن خيرًا فيكن جوابًا للأوامر ومعناه أنفقوا لأنفسكم خيرًا من أموالكم (وَمَن يُوقَ) وقاه الله (شُحَّ) حرص (نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُوا اللهَ) بصرف المال فيما أمر (قَرْضًا حَسَنًا) من مال حلال بإخلاص (يُضَاعِفْهُ لَكُمْ) أي أجره أضعافًا كثيرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ) يعطي الجزيل بالقليل (حلِيمٌ) فيقبل ولا يرد ويصفح ويتجاوز عن الذنوب (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية وَهِى إِحْدى عَشرة أَوِ اثنتا عَشرة آية، وفيهَا ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لله ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو

سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) أي أردتم تطليقهن خصه عليه السلام بالنداء، وعم الخطاب، لأنه إمام أمته، فنداؤه نداؤهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي: وقتها، وهو الطهر، أي: لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، وعن أكثر السلف أنه الطهر الذي لم يجامعها فيه، فطلاق السنة أن يطلقها طاهرًا من غير جماع في ذلك الطهر، والبدعي أن يطلقها في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه. نزلت حين طلق عليه السلام حفصة فقيل له: " راجعها فإما صوامة قوامة، وهي من أزواجك في الجنة "، وطلق ابن عمر امرأته حائضًا فقال عليه السلام: " ليراجعها "، وقال: " إذا طهرت فليطلق أو يمسك " وقرأ الآية (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) اضبطوها ابتداءها وانتهاءها للعلم ببقاء زمن الرجعة ولغير ذلك (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) في ذلك (لَا تُخْرِجُوهُن مِن بُيُوتِهِنَّ) البيوت التي سكن فيها حتى تنقضي عدتهن (وَلَا يَخرُجْنَ) من بيوت كُنَ فيها عند الفراق في مدة العدة فإن خرجت أثمت (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) استثناء من الأول والفاحشة الزنا فإنها تخرج لإقامة الحد أو إلا أن تَبْذُوَ على

أهل الزوج وآذتهم في الكلام والفعال لأنها كالنشوز في إسقاط الحق (وَتِلْكَ) الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فإنه عرضها للعقاب (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ) أي الطلاق (أَمْرًا) وهو أن يقلب قلبه من الرغبة عنها فيندم يعني أمرنا بعدم إخراجها مدة العدة لأنه ربما يندم، ومن ذلك ذهب كثير من السلف ومن تابعهم كالإمام أحمد إلى أنه لا يجب السكنى للبائنة وكذا المتوفاة عنها، وبعض الأحاديث يدل على مذهبه صريحًا (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) قاربن انقضاء العدة (فَأَمْسِكُوهُنَّ) بالرجعة (بِمَعْرُوفٍ) بالإحسان إليها (أَوْ فَارِقُوهُنَّ) اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتقع المفارقة الكلية والبينونة (بِمَعْرُوفٍ) من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة والفراق وهو أمر ندب عند بعض كأشهدوا إذا تبايعتم (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ) أيها الشهود عند الحاجة (لله) خالصًا لوجهه (ذَلِكُمْ) جميع ما في الآية (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ) مفعول يوعظ (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) من كل مكروه

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسبُ) وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: مَنْ طَلَّق وراجع كما أمره الله، جعل اللهُ له من الكرب -سيما عند الموت- مخرجًا، ورزقه من حيث لا يرجو، وأكثر العلماء على أنها نزلت حين جاء صحابي أُسِرَ ابنه، وشكا إليه عليه السلام هذا والفاقة. فقال عليه السلام: " اتق واصبر، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله "، ففعل الرجل إذ جاء ابنه بإبل وغنم، وعن بعض إن فيها تسلية ووصية للنساء عند الفراق، فإنهن مضطرات غالبًا للغيرة والاحتياج والعجز (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه (إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) يبلغ ما يريد لا يعجزه مطلوب فهو منفذ أمره (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) تقديرًا [وتوقيتًا] فتوكلوا عليه (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) للكبر (مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن أشكل عليكم حكمهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) أي: فهذا حكمهن (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) بعد كذلك وهن الصغائر

_ (1) في الأصل [وتوفيقا] اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ) مطلقة أو متوفى عنها زوجها للحديث الصحيح الصريح (أَجَلُهُنَّ) منتهى عدتهن (أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وقد روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما: إن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين، عملاً بهذه الآية والتي في سورة البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الآية [البقرة: 240] (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أحكامه (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) آتاه اليسر في أموره (ذَلِكَ) الإحكام (أَمْرُ اللهِ أَنزَلَه إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللًّهَ) فيه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) بالمضاعفة (أَسْكِنُوهُنَّ) المطلقات (مِنْ حَيثُ سَكَنتُم) أي بعض مكان سكنتم (مِّن وُجْدِكُمْ) وسعكم وطاقتكم عطف بيان لقوله من حيث سكنتم كأنه قال أسكنوهن مكانًا من مسكنكم ما تطيقونه (وَلَا تُضَاروهُنَّ) في السكنى (لتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) حتى تضطروهن إلى الخروج، وعن بعض هو أن يطلقها فإذا بقي يومان يراجعها ليضيق عليها أمرها (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عن كثير من السلف هذه من البوائن، أَنفق عليها إن كانت حاملاً حتى تضع، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها حاملاً أو حائلاً. وقال آخرون: نص على الإنفاق على الحامل الرجعية؛ لأن السياق كله في الرجعيات؛ لأن الحمل ربما يطول مدته، فيتوهم أنه تجب النفقة بمقدار مدة عدة الحامل (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) وهن طوالق (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على الإرضاع (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ) ليأمر بعضكم بعضًا (بِمَعْرُوفٍ) بجميل في الإرضاع والأجر (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ) تضايقتم (فَسَتُرْضِعُ لَهُ) للصبي مرضعة (أُخْرَى) سوى أمه ولا تكرهوا أمه على الإرضاع (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) على مرضعة ولده (وَمَنْ قُدِرَ) ضيق (عَلَيْهِ

(8)

رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) على قدر ذلك (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا) في النفقة (إِلَّا مَا آتَاهَا) قدر ما أعطاها من المال (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) تطيب لقلب المعسر، ووعد له باليسر، لما ذكر الأحكام وأخبر عما حل بالأمم السالفة بسبب مخالفة أوامره ونواهيه فقال: * * * (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) * * * (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم من أهل قرية (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا) تمردت واستكبرت عن اتباع أمر الله (وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) حاسبها بعملها فى الدنيا، وأثبتها في صحائف الحفظة (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) منكرًا، وهو ما أصيبوا به من أنواع المصائب، أو المراد بالحساب والعذاب في الآخرة، والتعبير بلفظ الماضي لتحققه (فَذَاقَتْ) القرية (وَبَالَ أَمْرِهَا) عقوبة معاصيها (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) لا ربح فيها أصلاً (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) على التوجيه الثاني تكرير

للوعيد (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره لكي لا يصيبكم مثل ما أصابهم (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من أُولِي الْأَلْبَابِ أو صفة أو منادى بحذف يا أيها للقرينة (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) القرآن (رَسُولًا) بدل اشتمال؛ لأنه مبلغه، وموصوف بتلاوة الآيات أو الذكر الشريف، فالبدل بدل الكل، كأنه في نفسه شرف، فالمراد من الإنزال الإرسال، إلا أن يقال: المراد من الرسول جبريل، أو تقديره أرسل رسولاً، فيكون استئنافًا (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ ليُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ) أي: من هو في علم الله مؤمن (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من الضلالة إلى الهدى أو ليحصل لهم ما عليهم الآن من الإيمان والعمل الصالح (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا) وهو ما أعد للمتقين في الآخرة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) أخبر عن عظيم سلطانه؛ ليكون باعثًا على تعظيم ما شرع (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) في العدد (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي أمر الله وحكمه، ففي كل أرض من

أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وقضاء من قضائه (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) علة الخلق (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تكذيبكم بها. اللهم علمنا حقائق القرآن آمين. * * *

سورة التحريم

سورة التحريم مدنية وَهِي اثنتا عَشْرة آية، وفيهَا ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) * * * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من العسل، ففى الصحيحين وغيرهما، عن عائشة أنه عليه السلام كان يمكث عند زينب، ويشرب عسلاً، فتواطئتُ أنا

وحفصة، أنا نقول له: نجد منك ريح مغافير، فدخل على أحدهما. فقالت له ذلك، فقال: " لا بل شربت عسلاً عند زينب، ولن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا "، وكان يبتغي بذلك مرضاة أزواجه، فنزلت. ومغافير: شبيه بالصمغ، لها رائحة كريهة (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) مستأنفة أو حال (وَاللهُ غَفُورٌ رحِيمٌ) فلم يؤاخذك بما صدر منك (1) وقد روي أنه عليه السلام أصاب أم إبراهيم في بيت حفصة فعلمت فقالت: أي رسول الله في بيني وعلى فراشي، فحرَّمها على نفسه، وقال: " واللهِ لا أطؤها، ولا تذكري ذلك لأحد "، فذكرته لعائشة، فعوتب في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين، ذكره كثير من السلف (قَدْ فرَضَ) شرع (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) تحليلها بالكفَّارة وهي ما ذكر في سورة المائدة (وَاللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فلا يأمركم إلا بما هو صلاحكم (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) منصوب بـ اذكر (إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) حفصة (حَدِيثًا) تحريم العسل أو مارية (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أخبرت حفصةُ بالحديث عائشةَ (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أطلع الله نبيه على إنبائها (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي عرف عليه السلام حفصة بعض ما فعلت (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)

_ (1) عبارة فيها سوء أدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكأنه - صلى الله عليه وسلم - ارتكب أمرًا عظيمًا. فالأولى الوقوف عند حدِّ الأدب - خصوصًا إذا تعلق الأمر برسول الله - صلى الله عليه وسلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

ولم يعرفها بعضها على وجه التكرم. عن الحسن ما استقصى كريم قط، أو جازيها على بعضه بتطليقها، أو إرادة تطليقها، وتجاوز عن بعض، وعن بعض أسر إليها شيئين تحريم الأمة، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وعمر، فأخبرها ببعض ما أفشت، وهو تحريم الأمة، وأعرض عن ذكر الخلافة؛ كراهة الانتشار (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ) حفصة (مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا) أي: إني قلت لأحد (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِنْ تَتُوبَا) يا حفصة وعائشة (إِلَى اللهِ) خطاب لهما من الله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) أي: إن تتوبا فقد حق لكما ذلك، فإنه قد عدلت عن الحق قلوبكما، وصدر منكما ما يوجب التوبة (وَإِنْ تَظَاهَرَا) تعاونا (عَلَيْهِ) فيما يسوءه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) فلم يعدم هو من يظاهره من الله، وجبريل رأس الكروبيين، وصلحاء المؤمنين، فيكون جبريل عطف على محل اسم إن (وَالْمَلَائِكَةُ) أجمعون (بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) متظاهرون، جملة مستقلة معطوفة على جملة " فإن الله هو مولاه " الآية (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) عن عمر - رضى الله عنه - اجتمع - في الغيرة عليه السلام - نساؤه، فقلت: عسى ربه إن طلقكن، أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت هذه الآية (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) منقادات (قَانِتَاتٍ) مواظبات على الطاعات (تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ) قيل معناه: متذللات لأمر الرسول عليه السلام (سَائِحَاتٍ) صائمات، وفي الحديث: " سياحة هذه الأمة

(8)

الصيام ". أو مهاجرات (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) وسط العاطف بينهما لتنافيهما (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ) بترك المعاصي (وَأَهْلِيكُمْ) بالنصح والتأديب (نارًا وَقودُهَا) ما يوقد بها (النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) حجارة من كبريت؛ فإنها أشد وأنتن، أو حجارة الأصنام (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ) هي خزنة النار (غِلَاظٌ شِدَادٌ) ليس في قلوبهم مثقال ذرة من الرحمة والشفقة، ومنظرهم مزعج (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ) فيما مضى، وما أمرهم بدل من لفظ الله (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فيما يستقبل، أو لا يمتنعون ويفعلون، فإن عدم الامتناع لا يدل على الفعل، فإنه ربما لا يقدر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يقال لهم ذلك (لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ

الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) وصفت التوبة بالنصح بالمجاز وهو فى الحقيقة صفة التائب، فإنه ينصح نفسه بالتوبة، أو معناه خالصة، يقال: ناصح، أي خالص من الشمع، أو توبة تنصح، وتخيط ما خرق الذنب، وهي ترك الذنب، والعزم على عدم العود والندم، ثم إن كان الحق لآدمي رده. وعن الحسن هو أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته، وعن بعض المحققين أن عدم المؤاخذة بالذنب الذي تاب منه إذا لم يعد إليه فإذا عاد إليه فقد يؤاخذ به وفي الحديث الصحيح: " من أحسن في الإسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء فيه أخذ بالأول والآخر " (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فيه إشعار بأن العبد ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء، وأنه تفضل لا يجب عليه شيء (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ) ظرف ليدخلكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا

مَعَهُ) عطف على النبي، أو مبتدأ خبره قوله: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) على الصراط، يقولون حين يرون أن نور المنافقين قد طفئ (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنَافِقِينَ) بالحجة وإقامة الحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) أي جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لهم، أو مثل لهم مثلاً مثل امرأة نوح في أن قرابة أحد وإن كان نبيًّا لا ينفع مع الكفر، قيل: هذا تخويف لعائشة وحفصة (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) بإظهار الإيمان مع إسرار الكفر لا بالفاحشة (فَلَمْ يُغْنِيَا) النبيَّان (عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا) من الإغناء (وَقِيلَ) لهما يوم القيامة (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) مع سائر الكفرة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) في أن وصلة الكافر أي كافر كان لا تضر مع

الإيمان (إِذْ قَالَتْ) بدل من امرأة فرعون (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) من نفسه (وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) نقل أنه لما تبين لفرعون إسلامها أوتد لها فشد يديها ورجليها. فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا، فأبصرت بيتها في الجنة فضحكت فقال: ألا تعجبون من جنونها، فقبض الله روحها رضي الله عنها (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ) عطف على امرأة فرعون (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) صانته (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) أي بواسطة جبريل كما مر في سورة الأنبياء (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) بما أوحى الله إلى الأنبياء (وَكُتُبِهِ) جنس الكتب المنزلة (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) من الرهط المطيعين لله؛ لأن عشيرتها أهل صلاح، أو من عداد المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب، وفيه إشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين. والحمد لله والمنة. * * *

سورة الملك

سورة الملك مكية وهى ثلاثون آية وفيها ركوعان * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) * * *

(تَبَارَكَ): تعظم، (الَّذِى بِيَدِه المُلْكُ): التصرف في الأمور كلها، (وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، اختلف العلماء هل الموت صفة وجودية مضادة للحياة كما دل عليه الآية أو هو عدم الحياة فمن قال بالثاني ذكر في تفسيرها قدَّرهما أو أوجد الحياة وأزالها، وعن بعض المراد أوجد الخلق من العدم، فسمى العدم موتًا كما قال تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [البقرة: 28] (لِيَبْلوَكُمْ): ليعاملكم معاملة المختبر، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا): أخلصه وأصوبه، والجملة واقعة موقع ثاني مفعولي البلوى المتضمن معنى العلم، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا): مطابقة بعضها فوق بعض، فهو إما مفعول ثان، أو صفة السماوات، (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت): اختلاف وعدم تناسب، والجملة إما صفة، أو حال أي: ما ترى فيها، فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيمًا لخلقهن، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ): في معنى التسبيب أي: قد نظرت إليها مرة فانظر إليها أخرى نظر تأمل هل ترى فيها من خلل؟ والفطور الشقوق، (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ): رجعتين أخريين، وهو كَـ لبَّيْكَ في أن المراد منه التكثير والتكرير، وفعل مثل هذا المفعول المطلق واجب الحذف إذا كان المصدر

مضافًا نحو: سعديك ولبيك، (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا): بعيدًا عن إصابة ما يهوى، (وَهُوَ حَسِيرٌ): كليل لطول التردد، وكثرة المراجعة، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) أي: زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم، (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ): ولها فائدة أخرى، وهي رجم الشياطين المسترقة للسمع، وكونها مراجم أن الشهب منقضة من نار الكواكب، (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ): في الآخرة، (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): حهنم، (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا): طرحوا في جهنم، (سَمِعُوا لَهَا): لجهنم ولأهلها لقوله: (لهم فيها زفير) [الأنبيا: 100] (شَهِيقًا)، هو أول نهيق الحمار، وهو أقبح الأصوات، (وَهِى تَفُورُ): تغلي، (تَكَادُ

تَمَيَّزُ): تنقطع، (مِنَ الغَيْظِ): على الكفار، (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ): جماعة، (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا): سؤال توبيخ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ): ينذركم من عذاب الله؟ (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي: كذبنا وأفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإنزال رأسا، (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ): من تتمة كلامهم للرسل على أن المعنى قال الأفواج: قد جاء إلى كل فوج منا رسول فكذبناهم، وقلنا: ما أنتم إلا في ضلال عظيم، أو الخطاب له، ولأمثاله على التغليب، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ): كلام الرسل، (أَوْ نَعْقِلُ): الدلائل، (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ): في عدادهم، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ): حين لا ينفعهم، (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) أي: فبعدًا لهم مفعول مطلق وجب حذف فعله، (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ): غائبين عن أعين الناس أو عن الله أو يخشون عذابه غائبًا عنهم، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): يستوي عنده السر والجهر لأنه عليم بضمائر الصدور قبل التكلم، فيكف لا يعلم ما تكلم به؟! (أَلاَ يعْلَمُ): قول السر، والجهر، (مَنْ خَلَقَ): الأشياء، (وَهُوَ

(15)

اللَّطِيفُ الخَبِيرُ): المتوصل علمه إلى ما ظهر وما بطن أو ألا يعلم الله مخلوقه؟ فإن كل شيء من خلق الله. * * * (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) * * *

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا): لينة لكي تسيروا فيها، وتزرعوا، (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا): جوانبها، أو جبالها، (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ): من رزق الله الذي فيها من الحبوب، والثمار، أو وطرقها معناه: فسافروا فيها حيث شئتم، واطلبوا من نعم الله بالتجارة وغيرها، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ): المرجع فكونوا على حذر في العمل، (أَأَمِنْتُمْ مَنْ

فِي السَّمَاءِ): ملكوته وسلطانه، (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ): فيغيبكم فيها كما

فعل بقارون، بدل اشتمال مِنْ مَنْ، والباء للتعدية؛ لأن الخسوف لازم، (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ): تضطرب، أي: يحركها عند الخسف حتى يلقيهم إلى أسفل، والأرض تعلو عليهم، (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا): ريحًا ذات حجارة (فَسَتَعْلَمُونَ): عند معاينة العذاب، (كَيْفَ نَذِيرِ): كيف إنذاري، ولا ينفعكم العلم، (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ): إنكاري عليهم بالعذاب، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ): باسطات أجنحتهن، وفوقهم ظرف لـ صافات، أو حال، وصافات حال من ضميره، (وَيَقْبِضْنَ): أجنحتها بعد

البسط وقتًا بعد وقت وعدل إلى صيغة الفعل ليعلم أن القبض طارئ غير أصيل، (مَا يُمْسِكُهُنَّ): في الجو أن يسقطن، (إِلا الرَّحْمَنُ): برحمته الواسعة، (إِنَّهُ بِكُلِّ شيْءٍ بَصِيرٌ): فمن أراد حفظه يحفظه، (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)، أم متصلة لئلا يلزم استفهامين معادلة للقرائن التي قبلها أي: أمنتم من عذاب الله؟ ألم تعلموا أن الحافظ هو الله؟ أم لكم جند ينصركم من دون الله؟ إن أراد بكم خسفًا وإرسال حاصب، أم لكم رازق يرزقكم إن أمسك الله رزقه عنكم؟ وجاء بصورة الاستفهام إشعارًا بأنَّهم اعتقدوا أن لهم ناصرًا، ورازقًا غير الله فيسأل عن تعيينه، فهذا خبر من، والذي مع صلته صفته أو بدله، وينصركم صفة جند، وإتيان اسم الإشارة للحقارة، (بَلْ لَجُّوا): تمادوا، (فِي عُتُوٍّ): عناد، (وَنُفُورٍ): تباعد عن الحق، (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ): يقال: كببته، فأكب أي: صار ذا كب نحو: قشع الله السحاب، فأقشع أي: صار ذا قشع أي: يعثر كل ساعة، ويخر لعدم علمه بالطريق الوعر، (أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا): قائمًا لا عثور له، (عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ): مستو غير منحرف، وهذا تمثيل الكافر والمؤمن بالسالكين، مع أنَّهم في الآخرة كذلك، فالمؤمن يمشي على الصراط قائمًا إلى الجنة، والكافر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، وقد صح أنه قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟! قال: " الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم "، (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ): تشكرون شكرًا قليلاً لهذه

النعم، (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ): بثكم، ونشركم، (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ): للجزاء، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) أي: الحشر، (إِن كُنتُمْ): أيها النبي، والمؤمنون، (صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ): علم وقت الحشر، (عِنْدَ اللهِِ): لا يعلمه إلا هو، (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ): منذر، (مُبِينٌ): ولا يحتاج الإنذار إلى تعيين وقت البلاء، (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي: الوعد، فإنه بمعنى الموعود، (زُلْفَةً): أي: ذا زلفة، يعني لما قامت القيامة ورأو أنها كانت قريبة، (سِيئَتْ): قبحت، (وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا): بأن علتها الكآبة، (وَقِيلَ): لهم تقريعًا، (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ): من الدُّعاء أي: تطلبون وتستعجلون به، (قُلْ): يا محمد، (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ): من المؤمنين، (أَوْ رَحِمَنَا): فأخر آجالنا، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ): فإنه واقع بهم لا محالة مِتْنا أو بقينا، وهذا كأنه جواب لقولهم نتربص به ريب المنون أو معناه أخبروني: إنا مع إيماننا نخاف عذابه ونرجو رحمته، فأنتم ما تصنعون مع كفركم؟! (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا): لعلمنا بأن غيره لا يتأتى منه النفع والضر، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): منا ومنكم، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا): غائرًا في قعر الأرض، (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ): ظاهر تناله الأيدي، والدلاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن سورة في القرآن

ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له، تبارك الذي بيده الملك " وعنه - عليه الصلاة والسلام - " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ". والحمد لله الذي هدانا لهذا. * * *

سورة ن

سورة ن مكية وهى ثنتان وخمسونَ آية وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) * * *

(ن)، عن بعضٍ: المراد منه الحوت الذي هو حامل الأرضين السبع (1)، أو الدواة، وقد نقل إن أول شيء خلق القلم، ثم النون أي: الدواة، فقال له: اكتب ما يكون من عمل، أو رزق إلى يوم القيامة، أو لوح من نور، وفيه حديث مرسل وعلى الوجوه يكون قسمًا بحذف حرفه، (وَالْقَلَمِ): الذي خط اللوح المحفوظ، أو جنس القلم كقوله تعالى (الذي علم بالقلم) [العلق: 4]، (وَمَا يَسْطُرُون) أي: الملائكة من أعمال العباد وأحوالهم أو الأقلام أسنده إلى الآلة، وجعلها بمنزلة أولي العلم، (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)، جواب القسم أي: ما أنت بمجنون متلبسًا بنعمة ربك حال عن المستكن فى الخبر، وقيل: متعلق بمعنى النفي أي: انتفى منك بسبب نعمته الجنون، لا كما يقول الكفرة، (وَإنَّ لَكَ لأَجْرًا): على الإبلاغ وألصبر، (غَيْرَ مَمْنُونٍ): مقطوع، (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ): لأنك تحتمل من الأذى ما لا يحتمل غيرك، (فَسَتُبْصِرُ): يا محمد، (وَيُبْصِرُون): المشركون الذين رموك بالجنون، (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)، الجنون مصدر، كالمجلود والمعقول، أو الباء زائدة، أو بمعنى: في أي: في أي

_ (1) من الإسرائيليات المنكرة.

الفريقين من فريقك، وفريقهم المجنون، أو المفتون: الشيطان، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ): فلا عقل لهم أصلاً، وهو المجنون حقيقة، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ): الفائزين بالعقل الكامل، (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ): صمم على معاداتهم، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ)، من المداهنة أي: تلاينهم، (فَيُدْهِنُونَ): فيلاينونك مثل أن تعظم دينهم وآلهتهم، فيعظمون دينك وإلهك، والفاء للسببية، أي: فهم يدهنون حينئذ أو للعطف، أي: ودوا مداهنتك فمداهنتهم، (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ): كثير الحلف، (مَهِينٍ): حقير القلب والرأي، (هَمَّازٍ): مغتاب عياب، (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ): نقال للكلام سعاية وإفسادًا، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ): يمنع نفسه عن الخير، أو الناس عنه، (مُعْتَدٍ): متجاوز عن الحد، (أَثِيمٍ): كثير الآثام، (عُتُلٍّ): غليظ جاف، وفي الحديث " هو الشديد الخلق الصحيح الجسم الأكول الشروب الواجد للطعامِ والشراب، الظلوم للناس رحيب الجوف "، (بَعْدَ ذَلِكَ): بعدما عد من النقائص، (زَنِيمٍ): دَعِيّ

منسوب إلى قوم ليس منهم، قيل: هو [الوليد بن المغيرة]، وكان ولد الزنا، أو من له زنمة، وهي قطعة من جلد تعلق في حلق الشاة يعني: يعرف بالشر كما يعرف الشاة بزنمتها، (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي: كذب آيتنا، لأن كان ذا مال وبنين يعني يجعل مجازاة نعمنا الكفر بآيتنا، فهو متعلق بما يدل عليه قوله " قال أساطير الأولين " لا بقال؛ لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، أو متعلق بلا تطع أي: لا تطعه لماله، وبنيه مع تلك المعايب، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ): سنجعل على أنفه علامة، ووقعت يوم بدر، وفي لفظ الخرطوم استخفاف، فإنه لا يكاد يستعمل إلا في أنف الخنزير والفيل، أو سنلحق به شيئًا ظاهرًا لا يفارقه، ونذله غاية الإذلال، فإن صاحب المال والبنين متكبر غالبًا، أو نسود وجهه يوم القيامة، أو سنبين أمره بيانًا ظاهرًا كما يظهر السمة على الخراطيم، (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ): أهل مكة بالقحط (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ): كما امتحنا أصحاب بستان باليمن كان لرجل يتصدق منها على الفقراء فلما مات قال أبناؤه: كان أبونا أحمق إذ كان يصرف منها شيئًا كثيرًا على الفقراء، (إِذْ أَقْسَمُوا): فحلفوا، (لَيَصْرِمُنَّهَا): ليقطعن ثمرها، (مُصْبِحِينَ): داخلين في الصبح خفية عن المساكين، (وَلَا يَسْتَثْنُونَ): لا يقولون إن شاء اللًه قيل: لا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم، (فَطَافَ عَلَيْهَا): على الجنة، (طَائِفٌ): بلاءٌ طائف، (مِنْ رَبِّكَ): نزلت نار فأحرقتها، (وَهُمْ نَائِمُون): في بيوتهم، (فَأَصْبَحَتْ): الجنة، (كَالصَّرِيمِ): كالليل الأسود المظلم أو كالزرع الذي حصد يابسًا، (فَتَنَادَوْا) أي: نادى بعضهم بعضًا، (مُصْبِحِينَ): داخلين في الصباح،

(أَنِ اغْدُوا): بأن أقبلوا غدوة، (عَلَى حَرْثِكُمْ)، فتعديته بعلى لتضمين معنى الإقبال، (إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ): قاطعين الثمر، (فَانطَلَقُوا): ذهبوا، (وَهُمْ يَتَخَافتونَ): يتسارون فيما بينهم، (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ)، أن مفسرة بمعنى أي، والنهي عن تمكين المسكين من الدخول أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل، (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ): على جد وجهد، أو على منع المساكين، أو الحرد اسم لبستانهم أو على غيظ وغضب، والحرد في اللغة القصد والمنع والغضب، (قَادِرِينَ): عند أنفسهم على ثمارها أو على حرد متعلق بـ قادرين أي: غدوا قادرين على نكد، وحرمان لا على انتفاع، فإنه ما حصل لهم إلا الحرمان يقال: حاردت السنة، إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الإبل إذا منعت درها، (فَلَمَّا رَأَوْهَا): الجنة مسودة، (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ): طريق جنتنا ليست هذه بجنتنا، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ): يعني لما تأملوا وعلموا أنها هي رجعوا عما كانوا، وقالوا: بل نحن حرمنا لفعها، (قَالَ أَوْسَطُهمْ): أعقلهم وخيرهم، (أَلَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ): هلا تسبحونه، وتشكرونه على ما أعطاكم، (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ): سبحوا واعترفوا بذنبهم، حيث لا ينفع فيما مضى، وعن بعض معناه: هلا تستثنون، وسمي الاستثناء تسبيحًا؛ لأنه تعظيم الله، وإقرار بأن له القدرة فنزهه عن العجز، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْص يَتَلاوَمُونَ): يلوم بعضهم بعضًا، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا

(34)

كُنَّا طَاغِينَ): متجاوزين الحد، (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا): في الدنيا، أو في الآخرة، (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ): راجون الخير، وقبول التوبة، (كَذَلِكَ الْعَذَابُ): هكذا عذاب من بدل نعمة الله كفرًا، أو كفرانًا، (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ): منه وأشق، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ): لاحترزوا عن موجب العذاب أو لو كانوا من أهل العلم لعلموا أن عذاب الآخرة أشد. * * * (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) * * * (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ): عند حال من قوله: (جَنَّاتِ النَّعِيمِ): لا تنغيص فيها أصلاً، نزلت حين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا لم يفضلونا، ولم يزيدوا علينا، (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)، أنكر الله ما يدعون، وأبطله، ثم قال لهم - على طريق الالتفات: (مَا لَكُمْ) أي شيء لكم؟ (كَيْفَ تَحْكُمُونَ): هذا الحكم الأعوج أتحكمون من عند أنفسكم ورأيكم؟! (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ): من الله، (فِيهِ تَدْرُسُون): تقرءون، (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ): هذا كما تقول: علمت أن في الدار لزيد، أو حاصله: هل لكم من الله كتاب تقرءون فيه أن ما تشتهونه وتختارونه لكم؟! والجملة حكاية للمدروس قيل ضمير فيه الثانية جاز رجعها إلى عند ربهم، (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا): عهود

مؤكدة بالأيمان، (بَالِغَةٌ): متناهية في التوكيد، (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)، متعلق إما بـ بالغة، أو بمتعلق لكم، (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)، جواب القسم، فإن حاصله أم أقسمنا لكم، (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ) أي: الحكم، (زَعِيمٌ): قائم يدعيه، ويصححه، (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ): في هذا القول من البشر؟! (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ): في دعواهم يعني: إن هذا الدعوى مهمل لا يشاركهم أحد، أو معناه أم لهم آلهة غير الله تصحح لهم ما يدعون، وتثبت فليأتوا بها حتى تصحح، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)، مقدر بـ اذكر، أو متعلق بـ " فليأتوا "، أي: يوم يشتد الأمر، وكشف الساق مثل في ذلك، أو يوم يكشف عن حقائق الأمور وخفياتها، وفي الصحيحين سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - " يوم يكشف ربُّنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة "، وقد نقل عنه - عليه

الصلاة والسلام - " يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ نور عظيم يخرون له سجدًّا "، (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي: الكافرون والمنافقون، فإن المؤمنين يسجدون بلا دعاء، (فَلاَ يَسْتَطِيعُون): السجود، لأنه صار ظهرهم طبقًا واحدًا بلا مفاصل كلما أرادوا السجود خروا لقفاهم عكس السجود، (خَاشِعَةً)، حال من فاعل يدعون، أو لا يستطيعون، (أَبْصَارُهُمْ): لا يرفعونها لدهشتهم، (تَرْهَقُهُمْ): تلحقهم، (ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ): في الدنيا، (وَهُمْ سَالِمُونَ): أصحاء، فلا يسجدون لله عن كعب الأحبار، والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات، (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ): كله إلى فإني عالم بما يستحق لا تشغل قلبك بهم، (سَنَسْنتَدْرِجُهُم): سنقربهم من العذاب درجة درجة بالإمهال، وإكمال الصحة، والنعمة، (مِّنْ حَيثُ لَا يَعْلَمُون): إنه استدراج، وهو إنعامنا عليهم بالمال، وطول العمر، والصحة، فلم يشكروا، وحسبوا أنهم أحباء الله، والثروة قد تكون نعمة، وقد تكون نقمة، والعلامة الشكر، (وَأُمْلِي لَهُمْ): أمهلهم، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ): لا يدفع بشيء سمى الاستدراج كيدًا؛ لأنه في صورة الكيد، (أَمْ تَسْألهُمْ): يا محمد (أَجْرًا): على الهداية، (فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ): غرامة، (مُّثْقلُون): بحملها، فلذا يعرضون عنك، وأم منفصلة، والهمزة للإنكار، (أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ): علم الغيب، (فهُمْ يَكْتُبُونَ): فلا يحتاجون إليك وإلى علمك، (فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّكَ): بإمهالهم، (وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ): يونس - عليه السلام - في العجلة والضجر كما مرَّ في

سورة الأنبياء، (إِذْ نَادَى): في بطن الحوت، (وَهُوَ مَكْظُومٌ): مغموم، (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ): بقبول توبته (لَنُبِذَ): لطرح، (بِالْعَرَاءِ): بالفضاء من بطن الحوت، (وَهُوَ مَذْمُومٌ)، حال كونه مجرمًا (1) ملومًا يعني لما تداركه برحمته نبذه على حال غير حال الذم، واللوم (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ): اصطفاه، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ): من الأنبياء، (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، إن مخففة، (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) أي: ينظرون إليك بنظر البغضاء، ويكادون يزلقون به قدمك ويزلونها كما تقول: نظر إليَّ نظرًا يكاد يأكلني، (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ): القرآن، فإنهم لم يملكوا أنفسهم حسدًا حينئذ، وعن بعض: إن فيهم العين فأرادوا أن يصيبوه بالعين، فعصمه الله، ونزلت، فمعناه يكادون يصيبونك بالعين لكن قوله، (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ): لمجيئه بالقرآن، (لَمَجْنُونٌ): يناسب الوجه الأول، لأن شأن العَيَّانين المدح لا الذم، (وَمَا هُوَ) أي: القرآن، (إِلا ذِكْرٌ): عظة، (للْعَالَمِينَ) فكيف يمكن نسبة من جاء بمثله إلى الجنون. والحمد لله على الهداية والدراية. * * *

_ (1) تعبير فيه بشاعة، والأولى مراعاة الأدب مع أنبياء الله تعالى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

سورة الحاقة

سورة الْحَاقَّة مكية وهى اثنتان وخمسون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي

سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) * * * (الْحَاقَّةُ)، سميت القيامة بها؛ لأنها واجبة الوقوع من حق يحق بالكسر أي: الساعة الواجبة، أو التي فيها حواق الأمور أي: ثوابتها كالحساب والعقاب، فيكون من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه أي: ذو الحاقة، (مَا الحَاقَّةُ)، استفهام لتفخيم شأنها، وهذه الجملة خبر للحاقة، أي: أي شيء هي؟ كقولك: زيد ما زيد؟ بوضع الظاهر موضع المضمر، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحَاقَّةُ): وأى شيء أعلمك ما هي؟ يعني لا علم لك بكنهها لعظمها، فما مبتدأ، وأدراك خبر، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) أي: بها وسماها قارعة لقرعها القلوب بالمخافة، (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي: بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، وهي الصيحة، وعن بعض بسبب طغيانهم، فتكون مصدرا كالعافية " كذبت ثمود بطغواها " [الشمس: 11] (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ): شديدة البرد، (عَاتِيَةٍ)، أصل العتو مجاوزة الحد أي: عتت على خزانها، فخرجت بغير حساب، أو عتت على عاد، فلم يقدروا ردها، (سَخَّرَهَا): سلطها، (عَلَيْهِمْ)، استئناف، أو صفة، (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا): متتابعات أو

نحسات، أو قاطعات جمع حاسم صفة لسبع ليال، (فَتَرَى الْقَوْمَ) أي: لو كنت حاضرًا، أو استحضار لصورهم كأنه يراهم، (فِيهَا): في تلك الأيام، (صَرْعَى): موتى جمع صريع حال، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ): أصول، (نَخْلٍ خَاوِيَةٍ): خالية الأجواف، أو ساقطة، (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ): من بقية أو نفس باقية، ولا يبعد أن يراد منها، هل ترى باقية من العذاب لهم؟ يعني: قد وصل العذاب غايته، (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ): من الأمم الكافرة، وقراءة كسر القاف، وفتح الباء، فمعناه من عنده من أتباعه، (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ): قرى قؤم لوط أي: أبها، (بِالْخَاطِئَةِ): بالخطيئة، (فَعَصَوْا) أي: كل منهم، (رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً): زائدة في الشدة، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) أي: تجاوز عن الحد زمن نوح، (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ): في السفينة، فكل من بقي من البشر من أصلاب مَن في السفينة، (لِنَجْعَلَهَا) أي: تلك الفعلة، وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين، (لَكُمْ تَذْكِرَةً): عبرة وعظة، (وَتَعِيَهَا): تحفظها، (أذُنٌ وَاعِيَةٌ) أي: من شأنها أن تحفظ ما سمعت به، ولا تضيعه بترك التفكر والعمل به، وفي الحديث " لما نزلت سألت الله أن يجعلها أذن عليٍّ " فكان

على يقول: ما سمعت شيئًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسيته، (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ): لا تثني في وقتها، والمراد النفخة الأولى لما ذكر حال المكذبين رجع إلى شرح أهوال القيامة، (وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ): رفعت عن أماكنها، (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً): ضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة، فيصير الكل هباء منثورًا، أو بسطتا فصارتا أرضًا لا عوج لها يقال: أرض دكاء، أي مستوية متسعة، (فَيَوْمَئِذٍ): حينئذ، (وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ): قامت القيامة، (وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ): من المجرة، هكذا روي عن علي - رضي الله عنه (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ): ضعيفة ساقطة القوة، (وَالْمَلَكُ)، المراد منه الجنس، (عَلَى أَرْجَائِهَا): جوانبها جمع رجا بالقصر يعني أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فيأوون إلى ما حولها من حافاتها، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ): فوق رءوس الثمانية، (يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ): من الملائكة بعد ما بين شحمة أذن ملك منها وعنقه

بخفق الطير سبعمائة عام، وعن بعض ثمانية صفوف، وعن بعض المفسرين: المراد بالعرش عرش يوضع يوم القيامة في الأرض لفصل القضاء لا العرش العظيم، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ): على الله لإفشاء الأحوال، وإظهار العدل، (لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ): سريرة كانت تخفى فى الدنيا، ولما كان اليوم يطلق على زمان ممتد يقع فيه النفختان، وأهوال القيامة مطلقًا صح أن يقال فيه العرض، والحساب، وفي الحديث " يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان، فجدال، ومعاذير وأما الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وأخذ بشماله " (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ): تبجحًا، (هَاؤُمُ)، اسم فعل للجمع أي: خذوا، (اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)، منصوب بالفعل الثاني عند البصريين، والهاء للسكت تثبت في الوقف، وتسقط في الوصل، (إِنِّي ظَنَنْتُ): علمت، (أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) أي: أيقنت أني أحاسب، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)، جعل الرضا للعيش مجازًا، وهو لصاحبها أو هو كـ لابنٍ وتامرٍ أي: منسوبة إلى الرضا، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ): رفيعة هي، وقصورها أيضًا، (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ): ثمارها قريبة يتناولها الراقد، (كُلوا وَاشْربوا)، بإضمار القول، (هَنِيئًا)، صفة مصدر محذوف، (بِمَا أَسْلَفْتُمْ) أي: بسبب ما قدمتموه من الخيرات، (فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ): الماضية في الدنيا، وقد روي عن ابن

عباسٍ - رضي الله عنهما - إن هذا في الصائمين خاصة أي بدل ما أمسكتم في الأيام الجائعة، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ): تحسرًا، (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا): الموتة التي متُّها، (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ): القاطعة لأمري، فلم أبعث، أو يا ليت تلك الحالة التي أنا فيها كانت الموتة، فإنها أسهل، (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ): ما حصل لي من المال وغيره، ومفعول أغنى محذوف، أو ما على تقدير أن يكون استفهامية إنكارية، (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ): ضل عني حجتي، أو زال عني ملكي وقوتي، (خُذُوهُ): لما أمر الله بذلك ابتدره سبعون ألف ملك، وروي " لا يبقى شيء إلا دقه، فيقول: ما لي ولك، فيقول: إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ): لا تدخلوه إلا الجحيم، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ

(38)

ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) أي: طويلة، وفي الحديث ما يدل على أنها أطول من مسافة بين السماء والأرض، (فَاسْلُكُوهُ): أدخلوه فيها، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - يدخل في استه، ثم يخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوي، (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ)، استئناف للتعديل، (وَلَا يَحُضُّ): لا يرغب، (عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ): على إطعامه، وفيه إشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل، وبأن أشنع الذمائم البخل، وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير المرق للمساكين، ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها بالحض؟ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ): قريب يحميه، (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ): دم وقيح يسيل من لحومهم، أو شجرة فيها، (لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ): أصحاب الخطايا، والمراد المشركون. * * * (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)

وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) * * * (فَلَا أُقْسِمُ)، لا مزيدة، أو رد لكلام المشركين، وقيل: لا أقسم بظهور الأمر بحيث لا يحتاج إلى القسم، (بِمَا تُبْصِرُونَ): بما في السماء، والأرض، (وَمَا لَا تُبْصِرُونَ): بما هو في علم الله، ولم يطلع عليه أحد، (إِنَّهُ): القرآن، (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ): على الله يبلغه عن الله، فإن الرسول هو المبلغ، (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ): يخيله من عند نفسه كما تزعمون، (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ): تصدقون تصديقًا قليلاً، أو المراد من القلة العدم، (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ): تذكرون تذكرًا قليلاً، فلذلك التبس عليكم الأمر، ولما كان عدم مشابهة القرآن للشعر أظهر ذكر الإيمان مع الأول، والتذكر مع الثاني، (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: هو تنزيل، (وَلَوْ تَقَوَّلَ): الرسول، (عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ): يختلق، ويفتري، (لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ): بيده اليمنى

منه ليكون أشد، فإن القتَّال إذا وقف بين يديه بحيث ينظر المقتول إلى السيف مريدًا قتله من خلفه يأخذه بيده اليمني، وإذا وقف خلفه مريدًا قتله من قفاه يأخذ بيساره، أو اليمين بمعنى القوة، (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ): نياط القلب، وهو حبل الوريد، (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ): دَافعين عن القتل، أو عن نفسه بأن تحولوا بيني وبينه، (وَإِنَّهُ) أي: القرآن، (لَتَذْكِرَةٌ للْمُتَّقِينَ): فإنهم المنتفعون به، (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ): فنجازيهم، (وَإِنَّهُ) الضمير للقرآن أو للتكذيب، (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ): يوم يرون ثواب الإيمان به، (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) اليقين هو العلم الذي زال عنه اللبس، والحق هو الثابت، فالإضافة إما بمعنى اللام، أو بمعنى من أو بيانية، (فَسَبِّحْ): الله، (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، والعظيم إما صفة المضاف أو المضاف إليه. والحمد لولي الحمد. * * *

سورة المعارج

سورة المعارج مكية وهي أربع وأربعون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) * * *

(سَأَلَ سَائِل) أي: دعا داعٍ، (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ): ألبتَّة، (للْكَافِرِينَ)، هو [النضر بن الحارث] قال: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فالباء لتضمين معنى دعا بمعنى استدعى، وقيل: لتضمين معنى استعجل، وعن الحسن، وقتادة لما خوفهم الله تعالى العذاب قال بعضهم: سلوا عن العذاب على من يقع؟ فنزلت، فعلى هذا الباء لتضمين معنى اهتم، أو الباء بمعنى عن، كما قيل في: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 59] ويكون للكافرين خبر محذوف جوابًا للسائل، أي: هو للكافرين، (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ): يرده صفة أخرى لعذاب على الوجه الأول، وجملة مؤكدة للكافرين على الثاني، (مِنَ اللهِ) أي: دافع من جهته، لأنه قدره، وقيل تقديره هو من الله، (ذِي الْمَعَارِجِ): ذي السماوات، فإن الملائكة تعرج فيها أو ذي الدرجات أو ذي الفواضل، (تَعْرُجُ المَلائكَةُ وَالرُّوحُ): جبريل، أو خلق أعظم من الملك يشبهون الناس، وليسوا ناسًا، وعن بعض المفسرين: المراد أرواح المؤمنين، فقد ورد أنها يصعد من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السابعة، (إِلَيْهِ): إلى محل قربته، (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ): من سني الدنيا لو صعد غير الملك، وذلك لأن غلظ كل أرض خمسمائة

وبين كل أرض إلى أرض كذلك، وكذا السماء، فيكون إلى محدب السماء السابعة أربعة عشر ألف عام، وبينها إلى العرش ستة وثلاثون، فيكون خمسين ألف سنة، هكذا نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما، أو المراد يوم القيامة أي: تعرج الملك والروح للعرض والحساب في يوم كذا جعله الله على الكافرين خمسين ألف سنة، ويخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا، وفي الأحاديث الصحاح " إن طول يوم القيامة خمسون ألف سنة " وقيل في يوم متعلق بواقع، وعن بعض المراد مدة الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة، وعن بعض اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة خمسون ألف سنة (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِلاً)، على التكذيب، والاستهزاء، وذلك قبل آية القتال، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ): العذاب، أو يوم القيامة، (بَعِيدًا): من الإمكان، (وَنَرَاهُ قَرِيبًا): من الوقوع، (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ)، ظرف لمقدر مثل يقع لدلالة المقام، أو لـ قريبًا، أو بدل عن " في يوم " على ثاني وجوهه (كَالْمُهْلِ): كدردي الزيت، وقيل: كالفلز المذاب، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ): كالصوف المندوف، (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا): قريب عن قريبه للشدة، (يُبَصَّرُونَهُمْ)، التبصير التعريف،

والإيضاح أي: يبصر الأحماء الأحماء، ومع ذلك لا يسأل عنه لاشتغالهم بحال أنفسهم استئناف، أو حال وذو الحال في معنى المعرف بالاستغراق، أو صفة لـ حميما، ولما كان الحميم عامًّا جمع الضميرين، (يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي) " لو " بمعنى أن، (مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) أي: هو بحيث يتمنى الافتداء بأقرب الناس فضلاً عن أن يهتم بحاله، ويسأل عنه، (وَفَصِيلَتِهِ): عشيرته، (الَّتِي تُؤْوِيهِ): تضمه في النسب، أو في الشدائد، أو المراد من الفصيلة الأم، (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي: يود لو يفتدي، ثم لو ينجيه الافتداء، وهيهات أن ينجيه، فـ ثم للاستبعاد، (كَلَّا)، ردع للمجرم عن الودادة، (إِنَّهَا) أي: النار، أو ضمير مبهم يفسره ما بعده، (لَظَى): لهب، أو هو علم للنار، (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) الشوى: الأطراف، أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس، أو لحم الساقين، أو محاسن الوجه، وأم الرأس، أو اللحم والجلد، أو الجوارح ما لم يكن مقتلا، (تَدْعُو): النار إلى نفسها بأسمائهم، (مَنْ أَدْبَرَ): عن الحق، (وَتَوَلَّى): عن الطاعة، (وَجَمَعَ): المال، (فَأَوْعَى): فأمسكه في وعائه، ولم يصرفه في الخير، (إِنَّ الْإِنْسَانَ)، التعريف للاستغراق، (خُلِقَ هَلُوعًا): شديد الحرص قليل الصبر، (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا): لم ينفق أصلاً، والأحوال الثلاثة مقدرة، أو محققة، لأنه مجبول طبيعته على الجزع، والبخل عند الفقر، والمال، (إِلَّا الْمُصَلِّينَ): إلا من قدر الله أنه من أهل التوحيد، والطاعة،

فإنه ما خلقه كذلك، (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ): لا يتركون فريضة، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ)، كالزكاة وغيرها، (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، مر تفسيره في سورة " والذاريات " (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ): بيوم الجزاء، فلا يعملون السيئات، ولو عملوا نادرًا يتوبون عن قريب خوفًا عن الجزاء، (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ): خائفون، (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ)، معترضة تدل على أن ليس لعاقل الأمن من عذاب الله، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)، سبق في أول سورة (قد أفلح المؤمنون) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ): لا يخونون، ولا يغدرون، (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ

(36)

قَائِمُونَ): محافظون عليها لا يكتمون، ولا يزيدون، ولا ينقصون، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ): على أركانها، وواجباتها، ومستحباتها افتتح في وصفهم بذكر الصلاة، واختتم بها كما في سورة المؤمنين لشرفها، وكمال الاعتناء بها، (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ): عند الله. * * * (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) * * * (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ): مسرعين حولك مادِّي أعناقهم إليك، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ): فرقًا شتى، جمع عزة نزلت فيمن يجتمع حوله - عليه السلام - يستمعونه، ويستهزئون به، وعن اليمين إما متعلق بعزين، أو هو أيضًا حال، أو بـ مهطعين، (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)، كانوا يقولون: لو كانت جنة، فلندخلنها قبلهم، (كَلَّا)، ردع عن هذا الطمع، (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا

يَعْلَمُونَ) أي: من تراب، ثم من نطفة، وهي جملة للتعليل، كأنه قال: ارتدعوا عن طمع الجنة، لأن الدليل دالٌّ على ضلالكم، فإنكم على استحالة البعث وهو ممكن، لأنا خلقناكم من نطفة، وكذا وكذا، ومن كان قادرًا على مثل ذلك كيف لا يقدر على الإعادة، أو معناه إنا خلقناهم من نطفة قذرة فمن أين يدعون التقدم من غير تطهير النفس بالإيمان، والأعمال؟ أو إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ): مشارق الكواكب، ومغاربها، (إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا): على أن نعيدهم يوم القيامة بأبدان خير من هذه، (مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ): عاجزين مغلوبين، أو معناه نحن قادرون على أن نهلكهم، ونأتي بدلهم بخلق خير منهم، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)، هذا قبل وجوب القتال، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ): القبور، (سِرَاعًا): مسرعين إلى إجابة الداعي، (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ): يسرعون إلى النصب يبتدرون أيهم يستلمه أول

فعلوا حين عاينوا أنصابهم في الدنيا، أو يسارعون إلى علامة وغاية منصوبة، (خَاشِعَةً): ذليلة خاضعة، (أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ): هوان، (ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ): في الدنيا. والحمد للهِ على الإيمان. * * *

سورة نوح

سورة نوح مكية وهي تسع أو ثمان وعشرون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) * * * (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ): بأن أنذر، أي: بأن قلنا له أنذر، (قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ)،

لتضمن الإنذار معنى القول جاز أن يكون أن مفسرة، (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ): بعضها، وهو ما سبق وقيل: من زائدة، (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى): منتهى آجالكم، ولا يستعجلكم بالعقوبة، فإن الطاعة وصلة الرحم يزاد بهما في العمر، (إِنَّ أَجَلَ اللهِ): الأجل الأطول، (إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ): فآمِنوا قبْل مجيئه، أو إن الأجل المقدر إذا جاء على الوجه المقدر به أجلاً لا يؤخر، فبادروا في حين الإمهال، (لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): من أهل العلم لعلمتم ذلك، (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) أي: دائمًا، (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا): من الحق، (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ): إلى الإيمان، (لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ): لئلا يسمعوا دعوتي، (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ): تغطوا بالثياب لئلا يروني، أو لئلا أعرفهم، (وَأَصَرُّوا): على ضلالهم، (وَاسْتَكْبَرُوا): عن اتباعي، (اسْتِكْبَارًا)، قالوا: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) [الشعراء: 111]، (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) أي: دعوتهم مرة بعد أخرى بأي وجه أمكنني و " ثم " للتراخي الزماني، أو الرتبي، " وجهارًا " مصدر من غير لفظه، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ): بالتوبة، (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا): كثير الدرور

(21)

حال، والمفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ): بساتين، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا): لا تخافون له عظمة، حتى تتركوا عصيانه " والله " إما حال من وقارًا، أو مفعول ترجون بزيادة اللام، و " وقارًا " تمييز كـ فجرنا الأنهار عيونًا، أو لا ترون له عظمة، أو لا تعتقدون الوقار، فيثيبكم على توقيركم، (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا): نطفة، ثم علقة، ثم وثم حال موجبة لتعظيمه وتوقيره (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا): مطابقة بعضها فوق بعض، (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ): فيهن، (سِرَاجًا): تزيل الظلمة كما يزيلها السراج، ولو كان القمر والشمس في أحدهن نورًا وسراجًا لصدق أنهما فيهن، أو إضاءتهما في السماوات كلها، وكلام ابن عباس يدل عليه، (وَاللهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا) أي: أنشأكم منها، فإن آدم منها، أي: أنبتكم فنبتم نباتًا، فاختصر دلالة على سرعة نفاذ أمره، (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا): بعد الموت، (وَيُخْرِجُكمْ): من الأرض، (إِخْرَاجًا): بالحشر أكده بالمصدر كما أكد الإنشاء دلالة على أنه في التحقق كهو، (وَالله جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ بسَاطًا): تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه، (لِتَسْلكوا): متخذين، (مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا): واسعة. * * * (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا

وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) * * * (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي): فيما أمرتهم به، (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) أي: اتبعوا رؤساءهم الأخسرين بسبب الأموال والأولاد، (وَمَكَرُوا)، عطف على لم يزده وجمع الضمير باعتبار المعنى، (مَكْرًا كُبَّارًا): عظيمًا في الغاية

لاتباعهم في تسويلهم أنهم على الحق كما يقولون في القيامة، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا) الآية [سبأ: 33]، (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي: عبادتها، (وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) أي: لا تذرن الآلهة سيما هؤلاء هي أسماء آلهتهم، (وَقَدْ أَضَلُّوا): الأصنام، (كَثِيرًا): من الخلق كما قال الخليل: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا) الآية [إبراهيم: 35، 36]، وعن مقاتل، وقد أضل رؤساؤهم كثيرًا، (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ)، عطف على " ربِّ إنهم عصوني " (إِلَّا ضَلَالًا)، دعاء عليهم لتمردهم وعنادهم، كما دعا موسى (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) [يونس: 88] (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ): من أجلها وما مزيدة للتأكيد، (أُغْرِقُوا): بالطوفان، (فَأُدْخِلُوا نَارًا): فإنه يعرض عليهم النار في القبور بكرة وعشيا، أو المراد نار جهنم، والتعقيب لعدم الاعتداد لما بين الإغراق، والإدخال كأنه نومة، (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا): ما نصرهم آلهتهم، (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) أي: أحدًا يدور في الأرض، أو نازل دار، وأصله ديوار، ففعل به ما فعل بسيد، (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ): صبيانهم، (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا

فَاجِرًا كَفَّارًا)، قال ذلك لخبرته بهم، وتجربته لمكثه بينهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، كانا مؤمنين، (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ): داري، أو مسجدي، أو سفينتي، (مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ): إلى القيامة، (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا): هلاكًا. والحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة الجن

سورة الجنِّ مكية وهى ثمان وعشرون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) * * *

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ)، الضمير للشأن، (اسْتَمَعَ نَفَرٌ): جماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة، (مِنَ الْجِنِّ)، أمر الله رسوله أن يخبر قومه أن جماعة من الجن استمعوا للقرآن، فآمنوا به وصدقوه، (فَقَالُوا): حين رجعوا إلى قومهم، (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا

عَجَبًا): في نهاية البلاغة مصدر وضع للمبالغة موضع العجيب، (يَهْدِي): الخلق، (إِلَى الرشْدِ): إلى الصواب، والسداد، (فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، (وَأَنَّهُ) أي: الشأن، (تَعَالَى جَدُّ): عظمة، (رَبِّنَا)، أو علا ملكه، أو غناه، وقراءة " إن " بالكسر عطف على (إنا سمعنا) من جملة المقول، وأما الفتح، فعلى العطف على " به " في " آمنا به " بحذف حرف الجر وحذفه من أن وإن كثير والأولى عندي أن يكون عطفًا [على] أنه استمع أي: أوحى إلى هذا الكلام، وهو أنه تعالى جد ربنا حكاية عن كلام الجن حتى لا يحتاج في وأنه كان رجال وغيره إلى تمحل عظيم، فتأمل، (مَا اتَخَّذَ صَاحِبَه وَلاَ وَلَدًا) بيان لقوله تعالى: " جَدُّ رَبِّنَا "، كأنه قال: تعالى عظمته عن اتخاذ الصاحبة والولد، (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا): إبليس، أو جاهلنا، (عَلَى اللهِ شَطَطًا) أي: قولاً ذا شطط، وهو مجاوزة الحد في الظلم، (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبً) أي: حسبنا أن أحدًا لن يفتري عليه، فكنا نصدق ما أضافوا إليه حتى تبين لنا من القرآن افتراؤهم، و " كذبا " مصدر؛ لأنه نوع من القول، (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) إذا نزلوا واديًا في الجاهلية قالوا: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، كما كانت عادتهم دخول بلاد الأعداء في جوار رجل كبير منهم، وخفارته، (فَزَادُوهُمْ) أي: الجنُّ الإنسَ، (رَهَقًا): إخافة وإرهابًا، عن عكرمة: كان إذا نزل الإنس واديًا هرب الجن منهم، فلما سمع الجنُّ يقول الإنسَ: نعوذ بأهل هذا الوادي قالوا: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم بالجنون، والخبل،

أو فزاد الجن تكبرًا وطغيانًا بسبب استعاذة الإنس بهم، (وَأَنَّهُمْ): أي: الإنس، (ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ): أيها الجن، (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا): بعد ذلك بالرسالة أو لا بعث، ولا حشر، وهذا قول نفر من الجن لقومهم حين رجعوا إليهم، (وَأَنَّا لَمَسْنَا): طلبنا، واللمس والمس استعير للطلب، لأن الماس طالب متعرف، (السَّمَاءَ) أي: بلوغها لاستراق السمع، (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا)، اسم بمعنى الحراس كالخدم، (شَدِيدًا): من الملائكة، (وَشُهُبًا): من النجوم، (وَأَنَّا كُنَّا): قبل ذلك، (نَقْعُدُ مِنْهَا): من السماء، (مَقَاعِدَ): صالحة للترصد، (لِلسَّمْعِ): لاستماع أخبار السماء، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا): راصدًا لأجله يمنعه من الاستماع، (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ): بحراسة السماء، (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا): خيرًا، وهذا من أدبهم، حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، ثم اعلم أن الكواكب يرمي بها قبل المبعث، لكن ليس بكثير، والأحاديث تدل عليه، وبعد مبعثه قد كثرت الشهب بحيث لم يقدر الجن بعد على استراق السمع من غير أن يأتيه شهاب، فهالَ ذلك الإنس والجن، نعم: قد يسترق كلمة فيلقيها إلى صاحبه، ثم يدركه الشهاب كما ورد في الصحيحين، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها حتى وجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة فعرفوا أن هذا هو السبب في حراسة السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد من تمرد، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا): قوم، (دُونَ ذَلِكَ)، وهم الطالحون، أو المقتصدون، (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) أي: كنا ذوي مذاهب متفرقة،

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي: علمنا، (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ): إن أراد بنا أمرًا، (وَلَنْ نُعْجِزَهُ): إن طلبنا، (هَرَبًا): هاربين، وفي الأرض وهربا حالان وفائدة ذكر الأرض تصوير أنه مع تلك البسطة ليي فيها بمهرب من الله، (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى): القرآن، (آمَنَّا بِهِ)، كرروا ذلك للافتحار، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ) أي: فهو لا يخاف بحذف المبتدأ للدلالة على الاختصاص، ولذلك لم يقل لا يخف، (بَخْسًا): نقصًا في الجزاء، (وَلاَ رَهَقًا): ظلمًا، (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ): الحائرون عن الحق، (فمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا): قصدوا، (رَشَدًا): عظيمًا، (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا): كما لكفار الإنس، (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا)، عطف على أنه استمع لا غير أي: وأن الشأن لو استقام الجن أو الإنس والجن، (عَلَى الطَّرِيقَةِ): الحسنى، وآمنوا كلهم، (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا): مطرًا كثيرًا، ووسعنا عليهم في الرزق، (لِنَفْتِنَهُمْ): لنحشرهم، (فيهِ): في سقي الماء كيف يشكرونه (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 1، 2] أو معناه أن

(20)

لو استقاموا على طريقتهم القديمة من الكفر لأوسعنا عليهم الرزق استدراجًا كما قال تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم " الآية [الأنعام: 44] (وَمَن يعْرِضْ عَن ذِكْرِ ربِّه): ولم يؤمن به، (يَسْلُكْهُ): يدخله، (عَذَابًا صَعَدًا): شاقا يعلو المعذب مصدر وصف به عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو جبل في جهنم، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ): مواضع بنيت للعبادة، أو المراد جميع الأرض، أو أعضاء السجود، (لله فَلَا تَدْعُوا): فلا تعبدوا أيها الإنس والجن، (مَعَ اللهِ أَحَدًا): فيها، أو بها نزلت حين قالت الجن: ائذن لنا يا رسول الله فنشهد معك الصلوات في مسجدك، أو حين قالوا: كيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك؟ وعن قتادة اليهود والنصارى أشركوا بالله في كنائسهم فأمرنا الله بالتوحيد، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال الجن لقومهم: لما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعبد الله ويصلي كاد أصحابه من الإنس عليه متراكمين للحرص على العبادة والاقتداء، أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين ليبطلوه، ويطفئوه، أو لما قام يصلي كاد الجن يكونون عليه متراكمين تعجبًا، وحرصًا على الاستماع. * * * (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ

الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) * * * (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا): وليس هذا بأمر منكر عجيب بدع، وهذا يؤيد الوجه الثاني في قوله: كادوا يكونون عليه لبدا، (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) أي: لا ضرًّا ولا نفعًا، ولا رشدًا، أو غيًّا، بل الكل بيد الله إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ، (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ): إن أرادني بسوء، (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا): ملجأً أميل إليه، (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ) أي: لا أملك نفعًا إلا أن أبلغ عن الله، وأبلغ رسالته التي أرسلني بها، و " من الله " صفة لـ بلاغًا لا صلة له، وقوله: " قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي " معترضة تؤكد نفي الاستطاعة، أو الاستثناء منقطع أي: لكن الإبلاغ هو الذي يُجِيرَنِي من عذاب الله، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ): ولم يؤمن، (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا)، غاية لمحذوف دل عليه الحال أي: لا يزالون على ما هم عليه حتى وقيل: لقوله يكونون عليه لبدًا على التوجيه الثاني، (مَا يُوعَدُونَ) من العذاب، (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا): هو، أو هم، (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)، غاية كأنهم قالوا متى يكون وقت ما تعدنا فقيل له، قل لا أدري أهو حال أم مؤجل، (عَالِمُ الغَيْبِ) أي: هو عالمه، (فَلاَ يُظْهِرُ):

لا يطلع، (عَلَى غَيْبِهِ)، المختص به بدلالة الإضافة، (أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى):

للاطلاع، (مِنْ رَسُولٍ)، بيان لمن، (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)

أي: يجعل من جميع جوانبه حرسًا من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الجن، فيلقيه إلى الكهنة، والرسول من أن يتشبه الشياطين في صورة الملك، (لِيَعْلَمَ): النبي - صلى الله عليه وسلم -، (أَن قَدْ أَبْلَغُوا) أي: الملائكة، (رِسَالاتِ رَبِّهِمْ)، وليس بشيطان جاء بصورة ملك،

وعن كثير من السلف، من الله حرس على كل يخبرونه إذا جاء أحد يخبره أنه ملك من الله، أو شيطان فاحذر، أو ليعلم أن قد أبلغ الأنبياء ويتعلق علمه بتبليغهم رسالاته محروسة عن التغيير، (وَأَحَاطَ): الله، (بِمَا لَدَيْهِمْ): بما عند الرسل، عطف على أبلغوا على التوجيه الأول، (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي: معدودًا فهو حال، أو عددًا بمعنى إحصاء، أو أحصى بمعنى عَدَّ. والحمد لله على وفور أفضاله. * * *

سورة المزمل

سورة الْمُزَّمِّل مكية وهى تسع عشرة أو عشرون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) * * *

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي: المتلفف بثوبه أصله المتزمل، أدغم التاء في الزاء، أو أيها النائم، أو أيها المتحمل للقرآن من الزمل الذي هو الحمل، (قُمِ): إلى الصلاة، (اللَّيْلَ): كله، (إِلا قَلِيلًا)، كان قام الليل فرضًا على الكل، ثم نسخ، (نِصْفَهُ)، بدل من قليلاً، وهذا النصف الخالي عن الطاعة، وإن ساوى النصف المعمور بذكر الله في الكمية لا يساويه في التحقيق، بل هو القليل، وذلك النصف بمنزلة الكل، (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا): الضمير إلى النصف أو الليل المقيد بالاستثناء، والحاصل واحد، (قَلِيلاً)، وهو الثلث، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)، وهو الثلثان، وهذا هو الوجه في الإعراب، والمعنى من غير تكلف الموافقُ لكلام السلف، (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا): بينه، واقرأه على تؤدة،

وتبيين حروف، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا): تَلَقِّيْهِ لعظمة الكلام، وفي الحديث " ينزل عليه الوحي في يوم شديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقًا " وأيضًا " كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي باطن عنقها، فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه " أو ثقيل العمل به على المكلفين، والجملة كالعلة لقيام الليل فإن الطاعة سيما في الليل تعين الرجل على نوائبه وتسهل عليه المصائب، (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) أي: قيامه مصدر كالعافية، أو ساعاته، فإنها تنشأ أي: تحدث واحدة بعد أخرى أو النفس الناشئة التي تنشأ وتنهض من مضجعها إلى العبادة، (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) أي: كلفة، أو أشد ثباتًا في الخير، وأما قراءة [الوِطاء]، فبمعنى المواطأة يعني: موافقة القلب، والسمع، والبصر، واللسان بالليل أشد وأكثر، (وَأَقْوَمُ قِيلًا): وأشد مقالاً، وأصوب قراءة لسكون الأصوات فيه، (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا): تقلبًا، وإقبالاً وإدبارًا في أشغالك، وأصله سرعة الذهاب، أو فراغًا وسعة للنوم والحوائج جملة فيها حث على قيام الليل، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ): ودم على ذكره، (وَتَبَتَّلْ): انقطع، (إِلَيْهِ): إلى الله لعبادتك، (تَبْتِيلًا)، لما لم ينفك التبتل الذي هو لازم عن التبتيل الذي هو متعد يمكن أن يؤتى بمصدر أحدهما عن الآخر، وفيه مبالغة مع رعاية الفواصل أي: انقطع وجرد نفسك عما سواه تبتيلاً، (رَبُّ) أي: هو رَبُّ، (الْمَشْرِقِ

وَالْمَغرِبِ)، وقراءة الجر، فعلى البدل من ربك، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا): فإن وحدته في الألوهية تقتضي التوكل عليه، (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُم هَجْرًا جَمِيلاً): بالإعراض عنهم، والمداراة معهم، وترك المكافأة، وقيل: هذا آية القتال، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ): دعني وإياهم، فإني منتقم لأجلك منهم، (أُولِي النَّعْمَةِ): أرباب التنعم، والترفه هم صناديد قريش، (وَمَهِّلْهُمْ): زمانًا، أو إمهالاً، (قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً): قيودًا ثقالاً، (وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ): يغص في الحلق، ولا ينزل فيه بسهولة كالزقوم، (وَعَذَابًا أَلِيمًا): نوعًا آخر لا يمكن تعريفه، (يَوْمَ تَرْجُفُ): تضطرب، ظرف لمتعلق لدينا، (الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا): مثل رمل مجتمع، (مَهِيلًا): منثورًا أي: تصير كذلك بعدما كانت حجارة صمًّا، (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ): يا معشر قريش، (رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ): في القيامة (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) أي: ذلك الرسول الذي أرسلنا إليه، (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً): ثقيلاً، (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) أي: كيف تتقون يومًا؟ أي: عذاب يوم يجعل الولدان من شدة هوله شيبًا إن كفرتم في الدنيا، كأنه قال، هب أنكم لا تؤاخذون في الدنيا كما

(20)

أخذنا فرعون، فكيف تتقون أنفسكم هول القيامة إن دمتم على الكفر، ومتم عليه؟ أو " يومًا " مفعول لـ كفرتم بمعنى جحدتم، أي: كيف تتقون الله إن جحدتم ذلك اليوم، وفي ذكر " إن " التي للشك إشعار بأنه لا ينبغي الشك مع إرسال هذا الرسول النور المبين، وفى الحديث " قرأ - صلى الله عليه وسلم - يوم يجعل الولدان شيئًا، قال: ذلك حين يقال لآدم: قم فابعث من ذريتك بعثًا إلى النار، قال: من كم يا رب؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ): منشق بسبب ذلك اليوم وهوله، أو الباء للآلة، أو منفطر بالله وبأمره، وتذكير منفطر على تأويل السقف، (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا إِنَّ هَذِهِ): الآيات، (تَذْكِرَةٌ): عظة، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): يتقرب إليه بالطاعة. * * * (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) * * * (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى): أقل، (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ)، وفي قراءة نصب نصفه وثلثه عطف على أدنى، ويكون المراد من أدنى من ثلثي الليل الربع،

ليكون تجاوزًا عن الأمر فيترتب عليه قوله: " فتاب عليكم "، ويكون موافقًا لتلك القراءة معنى، (وَطَائِفَةٌ)، عطف على فاعل تقوم، (مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي: يقومون أقل، (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): لا يعرف مقادير ساعاتهما إلا هو، فيعلم القدر الذي يقومون فيه، (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ): أن لن تطيقوا ما أوجب عليكم من القيام، أو لن تستطيعوا ضبط الساعات، (فَتَابَ عَلَيْكُمْ): عاد عليكم بالعفو والتخفيف، وعن غير واحد من السلف إن هذه الآية نسخت الذي كان الله أوجبه على المسلمين أولاً من قيام الليل واختلفوا في المدة التي بينهما سنة، أو قريب منها أو ستة عشر شهرًا أو عشر سنين، (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ): من غير تحديد لوقت لكن قوموا من الليل ما تيسر عبر عن الصلاة بالقراءة، ومذهب حسن البصري وبعض آخر: الواجب على حملة القرآن أن يقوموا من الليل، ولو بشيء منه، وفي الحديث ما يدل على ذلك، (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى): لا يستطيعون القيام الذي قررناه، (وَآخَرُونَ

يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ): يسافرون للتجارة، واجتماع كلفة السفر، وكلفة إحياء الليل بالصلاة في غاية من الصعوبة، (وَآخَرُونَ يُقَاتِلونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)، هذا إخبار عن الغيب، فإن السورة مكية، والقتال شرع في المدينة، (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ): المفروضة عن بعض: إنه نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس، (وَآتُوا الزَّكَاةَ): الواجبة، وهذا يدل على قوله من قال: إن فرض الزكاة بمكة لكن المقادير والمصرف لم يبين إلا بالمدينة، (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا)، يريد سوى الزكاة من الصدقات، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ)، هو ضمير الفصل، (خَيْرًا): من الذي تؤخرونه، أو من الذي أعطيتموه، وهو ثاني مفعولي تجدوه، (وَأَعْظَمَ أَجْرًا): نفعًا، وجزاء، وفي الصحيح قال - عليه السلام - " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك، قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخَّر "، (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة المدثر

سورة الْمُدَّثِّر مكية وهى ست وخمسون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) * * *

(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ): المتدثر، أي: لابس الدثار، الأصح بل الصحيح أنه أول سورة نزلت بعد فترة الوحي جمعًا بين الأحاديث الصحاح، وعليه الجمهور، فإن أول ما نزلت (اقرأ باسم ربك) [العلق: 1] وفي صحيح مسلم " إنه - عليه السلام - يحدث عن فترة الوحي قال: فبينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فخفت منه، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله " يا أيها المدثر قم فأنذر " وفي الطبراني " تأذى من قريش فتغطى بثوبه محزونًا، فنزلت " (قُمْ): من مضجعك، أو قم قيام جد، (فَأَنذِرْ)، ترك المفعول للتعميم، (وَربَّكَ فَكَبِّرْ): خصص ربك بالتكبير، والتعظيم، والفاء في مثله بمعنى الشرط، كأنه قال: ما يكن من شيء فكبر أنت ربَّك، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): لا تكن عاصيًا غارًا، والعرب تقول للفاجر: دنس الثياب، وإذا وفي، وأصلح، مطهر الثياب، أو طهر نفسك من الأخلاق الذميمة، أو طهر ثوبك من النجاسات، فإن المشركين لا يطهرون، أو أعرض عما قالوا، ولا تلتفت إليهم، (وَالرُّجْزَ): الأصنام، (فَاهْجُرْ)، أو اترك ما يؤدي إلى العذاب، (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي: لا تعط طالبًا لكثير نهى أن يهب شيئًا طامعًا في عوض أكثر، وهذا خاصة له عليه السلام، أو نهي تنزيه، أو لا تمنن بنبوتك على الناس طالبًا لكثرة الأجر منهم، أو لا تضعف عن الطاعة طالبًا لكثرة الخير، (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) استعمل الصبر لله، فيشمل الصبر على الأذى، وعلى الطاعات، (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ): نفخ في الصور، الفاء للسببية، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير، (فَذَلِكَ)، الفاء للجزاء، (يوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ)، إذا ظرف لما دل عليه الجزاء، لأن معناه عسر الأمر عليهم، وذلك مبتدأ خبره " يوم عسير "، و " يومئذ " إما بدل من ذلك،

أو معمول له فإنه إشارة إلى وقت النقر أي: وقت النقر في ذلك اليوم، أو ظرف مستقر لـ يوم عسير أي: وقت النقر وقت عسير حال كون ذلك الوقت في يوم القيامة، (غَيْرُ يَسِيرٍ): عليهم تأكيد، وتعريض بحال المؤمنين، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا): حال من الضمير المحذوف أي: خلقته حال كونه وحيدًا لا مال له، ولا ولد له، (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا): مبسوطًا كثيرًا قيل: وحيدًا حال من مفعول ذرني، أو من فاعل خلقت أي: ذرني وحدي معه، فإني أكفيكه، أو كان ملقبًا بالوحيد في قومه، فسماه الله تهكما، فيكون نصبًا بتقدير أعني، أو وحيدًا عن أبيه، فإنه ولد الزنا فالمراد منه [الوليد بن المغيرة]، وهو كما مَرَّ زنيم، (وَبَنِينَ شُهُودًا): حضورًا معه لا يغيبون للتجارة لاستغنائهم وخدمهم يتولون الأمر، وهم ثلاثة عشر، أو عشرة، أو سبعة،

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا): بسطت له في المال، والجاه، وطول العمر بسطًا، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ): على ما أوتيه، (كَلَّا)، ردع له عن الطمع، (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا): معاندًا مستأنفة تعليل للردع قيل: ما زال بعد نزول الآية في نقصان، (سَأُرْهِقُهُ): سأغشيه، (صَعُودًا)، عقبة شاقة المصعد مثل للإلقاء في الشدائد، وفي الحديث " الصعود جبل في النار "، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - " صخرة في النار يسحب عليها الكافر على وجهه (إِنَّهُ فَكَّرَ): فيما يخيل طعنًا في القرآن مستأنفة علة للوعيد، (وَقَدَّرَ): في نفسه ما يقول فيه، (فَقُتِلَ)، دعاء عليه، (كَيْفَ قَدَّرَ)، تعجيب من تقديره نحو: قاتلهم الله أني يؤفكون، (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)، تكرير للمبالغة، وثم للدلالة على أن النظر الثاني فيما قدر يورث تعجبًا أبلغ من الأول، (ثُمَّ نَظَرَ): في أمر القرآن مرة أخرى، (ثُمَّ عَبَسَ): قبض بين عينيه، كما هو شأن المهتم المتفكر، (وَبَسَرَ): اشتد عبوسه، (ثُمَّ أَدْبَرَ): عن الحق، (وَاسْتَكْبَرَ): عن اتباعه، (فَقَالَ): حين خطرت هذه الكلمة بخاطره من غير تلبث، والفاء يدل عليه، (إِنْ هَذَا): القرآن، (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ): يروي عن السحرة، (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ): كالتأكيد للأول، نقل إن [الوليد بن المغيرة] مرة سمع القرآن، فمال قلبه إليه، فلامه قومه، فقالوا: لابد أن تقول قولاً نعلم أنك منكر: قال: والله لا يشبه رجزة، ولا قصيدة، ولا أشعار الجن، ووالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، فقالوا: والله

لا نرضى إلا أن تقول فيه، قال: دعوني حتى أفكر، فلما فكر قال: سحر يَأثِرُهُ عن غيره، فنزلت: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ)، تعظيم لأمرها، (لاَ تُبْقِي): شيئًا يُلقى فيها إلا أهلكته، (وَلاَ تَذَرُ): بعد الإهلاك، فإنه يعاد " كلما نضجت جلودهم " الآية [النساء: 56]، (لَوَّاحَةٌ): مسودة، (لِلْبَشَرِ): للجلد، (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ): ملكًا، نزعت منهم الرحمة يدفع أحدهم سبعين ألفًا، فيرميهم في جهنم حيث أراد. لما نزلت قال أبو جهل: أنتم الدهم الشجعاء أيعجز كل عشرة منكم أن تبطشوا بواحدة من خزنتها؟ فقال أبو الأسود الجمحي: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين، وأنا أكفيكم سبعة عشر إعجابًا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة أنه يقف على جلد بقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه، فيتمزق الجلد، ولا يتزحزح عنه، وهو الذي قال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه - عليه السلام - مرارًا ولم يؤمن فنزل قوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً): لا رجالاً، فمن ذا الذي يغلب الملائكة، (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي: وما جعلنا عددهم إلا عددًا قليلاً هو سبب لفتنتهم للاستهزاء به يعني إخبارى بأنَّهم على هذا العدد، (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): بصدق القرآن، وبأن هذا الرسول حق، لأنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية، فإخبار الله بأنَّهم على هذا العدد المخصوص علة لاستيقانهم، والوصف أعني: افتتان الكفار بهذا العدد لا مدخل له، (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا): بسبب الإيمان به، أو بتصديق أهل الكتاب، (وَلاَ يَرْتَابَ)، عطف على يستيقن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ): في ذلك جمع لهم إثبات اليقين، ونفى الشك للتأكيد،

(32)

والتعريض بحال من عداهم، فليس لهم يقين، ولهم ريب وشك، (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شك، ونفاق، (وَالْكَافِرُونَ): المشركون، وفي الآية إخبار عن الغيب، لأنها مكية فظهر النفاق في المدينة، (مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا) أي شيء أراد الله بهذا العدد؟! (مَثَلًا)، حال من هذا أو تمييز له، وسموه مثلاً لغرابته، ومرادهم إنكاره، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص، (كَذَلِكَ): مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى، (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ): لا يعلم عددهم، وكمية الموكلين بأمر دون أمر إلا الله، وحكم أمثال ذلك كحكم أعداد السماوات والأرض، وغيرهما لا يطلع عليه إلا بعض المقربين، (وَمَا هِيَ): السقر التي وصفت، (إِلَّا ذِكْرَى): تذكرة، (لِلْبَشَرِ). * * * (كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)

وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) * * * (كَلَّا)، ردع لمن أنكرها، (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ): أدبر على المضي كقبل بمعنى أقبل، وقيل: من دبر الليل النهار إذا خلفه، (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسفَرَ): أضاء، (إِنَّهَا) أي: سقر، (لإِحْدَى الكُبَرِ): لإحدى البلايا الكبر، جمع كبرى، أسقطت ألف التأنيث كتائها، يقال: فُعَلُ في جمع فُعْلةٍ، وعن مقاتل دركات جهنم سبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية، وهي جواب القسم أو تعليل لـ (كلا) والقسم معترض للتوكيد، (نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ) تمييز أي: إنَّهَا لإحدى الدواهي إنذارًا كقولك: هو أحد الرجال كياسة، (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ)، بدل من البشر، (أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) مفعول شاء أي: نذيرًا لمن شاء التقدم والسبق إلى الخير، أو التأخر، والتخلف عنه، أو أن يتقدم مبتدأ، ولمن شاء خبره نحو " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " [الكهف: 29] (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ): مرهونة عند الله في القيامة مصدر كالشتيمة، فإن فعيل الصفة لا يؤنث، (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ): فإنهم فكوا

رقابهم بحسن أعمالهم، ونقل عن علي - رضي الله عنه - إنهم أطفال المسلمين لأنه لا أعمال لهم يرتهنون بها (فِي جَنَّاتٍ)، حال من أصحاب اليمين، (يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي: يتساءلون المجرمين عن حالهم، فحذف المفعول؛ لأن ما بعده يدل عليه، (مَا سَلَكَكُمْ): ما أدخلكم، (في سَقَرَ)، بيان للتساؤل، وهذا أولى الوجوه، (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي: ما عبدنا ربنا، وما أحسنا إلى خلقه، (وَكنَّا نَخُوضُ): في الباطل، (مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ): أى مع هذا كله كنا نكذب بالقيامة، (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ): الموت، (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لو شفعوا أجمعين لهم، وهو قول الله، (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي: ما لهؤلاء الكفرة معرضين عن التذكير؟ فـ " معرضين " حال من الضمير، (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي: كأنهم في نفارهم عن الحق حمر وحشية فرت مِنْ مَنْ يصيدها، أو من الأسد، (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) قالوا: إنْ سرَّك أن نتبعك، فأت كلاًّ منا بكتاب من السماء أن اتبع يا فلان محمدًا فإنه رسولك، أو كل منهم يريد أن ينزل عليه كما نزل عليك قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى) الآية [الأنعام: 124]، (كَلَّا): ردع عن تلك الإرادة، (بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ)، ولهذا أعرضوا عن التذكرة، (كَلَّا)،

ردع عن الإعراض، (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) أي: فمن شاء اتعظ به، أو حفظه، (وَمَا يَذْكُرُونَ): وما يتعظون به، (إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ)، ذكرهم، أو مشيئتهم، (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى): هو أهل أن يتقى، فلا يجعل معه إله، (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): وأهل لأن يغفر لمن اتقى أن يجعل معه إلها، كذا رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه في تفسير (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ). والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة القيامة

سورة الْقِيَامَةِ مكية وهى أربعونَ آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) * * * (لَا أُقْسِمُ)، زيادة لا النافية على القسم للتأكيد شائع، (بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) هي نفس المؤمن لم تزل تلومه: لم قلت كذا لما فعلت؟ لم تركت؟ أو

النفس مطلقًا تلوم يوم القيامة نفسه إن عمل خيرًا لم ما استكثرته؟ وإن شرًّا لم عملته؟ وجواب القسم محذوف نحو " إنكم مبعوثون " يدل عليه قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ): جنسه، أو الكفار منهم، (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ): بعد تفرقها لعدم قدرتنا، (بَلَى): نجمعها، (قَادِرِينَ)، حال من فاعل نجمع المقدر، (عَلَى أَن نُسَوِّيَ بَنَانَهُ): أن نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية كخف البعير، فلا يمكنه القبض، والأخذ، وفنون الأعمال، أو على أن نضم الأنامل بعضها إلى بعض كما كانت على صغرها، فكيف بكبار العظام، (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ): ليدوم على الفجور فيما يستقبله من الأوقات، والمعنى على إنكار الحسبان، أولاً ثم الإضراب عنه بالإخبار عن حال بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ، وفيه إيماء بأنه عالم بوقوع الحشر لكنه متغاب، (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ): متى يكون إنكارًا أو استهزاء، (فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ): تحير فزعًا من شدة الأهوال، (وَخَسَفَ القَمَرُ): ذهب ضوءه، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي: جمع بعض أجزاء الشمس إلى بعض، ويلف كالحصير، وكذا القمر، أو جمع بينهما، فلا يكون كل واحد في فلك، (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ): أين الفرار؟

(كَلَّا)، ردع عن طلب الفرار، (لاَ وَزَرَ): لا ملجأ، (إِلَى ربِّكَ): وحده، (يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ): استقرار العباد، (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ): بأعمال أوائل عمره وأواخره، أو بما عمله وما تركه، أو بأعمالٍ عملها، وبأعمالٍ أخَّرها فعمل بها كسنة حسنة وسيئة، (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ): حجة بينة تشهد جوارحه عليه نحو: لما جاءت آياتنا مبصرة أو عين بصيرة يعني لا يحتاج إلى الإنباء، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ): ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه جمع معذار، وهو العذر، أي: لا ينفعه عذره؛ لأن من نفسه من يكذبه، وعن بعض: ولو ألقى الستور وأخفى الذنب كل الإخفاء، وأهل اليمن يسمون الستر معذارًا، (لَا تُحَرِّكْ): يا محمد، (بِهِ): بالقرآن، (لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ): لتأخذه على عجلة قد صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره: إنه إذا نزل جبريل بالوحي قرأ النبي - عليه السلام - قبل فراغه مسارعة إلى الحفظ، وخوفًا من الانفلات، فنزل: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ): في صدرك، (وَقُرْآنَهُ): إثبات قراءته في لسانك، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ): بلسان الملك عليك، وأصغيته، (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ): فاتبع قراءته، وكن مقفيًا له فيه، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ): بيان ما أشكل عليك، (كَلَّا)، ردع لإلقاء المعاذير، (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ): تختارون الدنيا على العقبى، ولا تعملون للعقبى، والخطاب لجنس الإنسان؛ لأن فيهم من

هو كذلك، أو الكفار وقوله: " لا تحرك " إلى قوله: " ثم إن علينا بيانه " اعتراض بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات مع ما فيه من إنكار العجلة، وإن كان في أمور الخير، وما قبل الاعتراض وما بعده في التوبيخ على حب العجلة، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ): يوم القيامة، (نَاضِرَةٌ)، من النضارة أي: حسنة بهيَّة مشرقة، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ):

تراه عيانًا حين يرى ربه لا يلتفت إلى غيره، والنظر إلى غيره في جنب النظر إليه

(31)

لا يعد نظرًا، ولهذا قدم المفعول، والأحاديت الصحاح في تفسير تلك الآية وأقوال السلف والخلف على ذلك بحيث يعد المكابر معاندًا، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ): شديد العبوس، (تَظُنُّ): تتوقع، (أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ): داهية تكسر فقار الظهر، فهذا ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب لكون ذلك غاية النعمة، وهذا غاية النقمة، والظن فى البلاء أشد، والتنوين في وجوه، ونظائره كـ قلوب يومئذ واجفة للتنويع، ويقوم مقام الوصف المخصص للمبتدأ، أو كان هذا أولى مما قيل: إن بعض المذكور كناظرة وصف مخصص، وبعضه كـ إلى ربها ناظرة خبر، (كَلاَّ)، ردع عن إيثار الدنيا، (إِذا بَلَغَتِ): النفس، (التَّرَاقِيَ): أعالي الصدور، (وَقِيلَ)، القائل الملك، (مَنْ رَاقٍ): من يرقى بروحه ملك الرحمة، أو ملك الرحمة، أو ملك العذاب، أو القائل الحاضرون من يرقيه مما به، (وَظَنَّ): المحتضر، (أنَّهُ): أن ما نزل به، (الفِرَاقُ): فراق الدنيا، (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ)، الساق مثل في الشدة أي: التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، وقيل: التوت الساق بالساق عند قلق الموت، (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ): المرجع يسوق الملك الروح إلى السماوات كما في الحديث. * * * (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ

فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) * * * (فَلاَ صَدَّقَ) أي: الإنسان المذكور في قوله: " أيحسب الإنسان " أو المراد أبو جهل ما يجب تصديقه، (وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ): الحق،، (وَتَوَلَّى): عن الطاعة، (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى): يتبختر افتخارًا، وسرورًا، (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، دعاء عليه من الولى، وهو القرب أي: قاربه ما يهلكه فعل فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى): مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى، (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ): فقدره الله، (فَسَوَّى): عدله، (فَجَعَلَ مِنْهُ): من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ): الصنفين، (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ): الذي أنشأ هذا الإنشاء، (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، والسنة أن يقول بعده سبحانك فَبَلى، أو بلى بغير فاء. والحمد لله وحده. * * *

سورة الإنسان (الدهر)

سورة الإنسان (الدهر) مكية وهى إحدى وثلاثونَ آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ

مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) * * * (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَان): قد أتى على جنس بني آدم، (حِينٌ منَ الدَّهْرِ): طائفة من الزمن الممتد، (لَمْ يَكُنَ شَيْئًا مَّذكُورًا): لم يعرف، ولم يذكر، وعن بعض المراد آدم، فإنه ملقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، والجملة حال من الإنسان، أو وصف لحين بحذف الراجع أي: لم يكن فيه شيئًا، (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ): بني آدم، (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ)، جمع مشج أي: أخلاط أي: من نطفة قد اختلط، وامتزج فيها ماء الرجل والمرأة، أو ألوان فما للرجل لون وللمرأة لون (نَبْتَلِيهِ): مريدين اختباره، (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا): فإنه بالسمع والبصر يتمكن من الطاعة والمعصية، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ): بيَّنَّا له طريق الحق، (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، حالان من أول مفعولي هدينا أي: هديناه في حاليه جميعًا، أو مقسومًا إلى الحالين بعضهم شاكر بأن سلكوا طريقًا هديناهم، وبعضهم كفور بالإعراض عنه، (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ)، جمع بر أو بارَّ، (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ):

من خمر، (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا): تخلق منها رائحة الكافور، وبياضه وبرده، فكأنها مزجت بالكافور، أو تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك، (عَيْنًا)، بدل من محل من كأس بحذف مضاف أي: خمر عين، أو نصب على الاختصاص، أو الكافور اسم عين فى الجنة، فيكون عينًا بدلاً منه، (يَشْرَبُ بِهَا) أي: ملتذًّا بها، أو يشرب بمعنى يروى، فلذلك عدي بالباء، أو الباء زائدة، أو بمعنى من، (عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا): يجرونها حيث أرادوا من منازلهم، (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)، مستأنفة كأنه قيل: لأي سبب رزقوا ذلك؟ وعن بعض المراد بالنذر الواجب أي: يوفون بما يجب عليهم من الصلاة، والزكاة، وغيرهما، (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا): منتشرًا غاية الانتشار فيجتنبون عن المعاصي، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) الأولى أن يكون الضمير للطعام ليكون موافقًا لقوله تعالى " لن تنالوا البر " الآية [آل عمران: 92]، ولأن فيما بعده، وهو لوجه الله فَنِيَّة أن يكون تقديره على حب الله، (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا): وإن كان من أهل الشرك أمر - عليه السلام - يوم بدر بإكرام الأسراء أو المراد المسجون من المسلمين، أو المراد الأرقاء نزلت حين نذر علي وفاطمة صوم ثلاث في مرض ولديهما إن بريا فلما صاما وأرادا الإفطار وقف عليهما مسكين فآثراه فباتا بلا عشاء، ثم وقف عليهما في الليلة الثانية يتيم، فآثراه فباتا جائعين ثم في الثالثة أسير من

المشركين فآثراه فلم يفطرا في صوم ثلاث إلا بالماء (1)، (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ): قائلين ذلك بلسان الحال، أو المقال ليعرف الفقير أنها صدقة ليست للمجازاة، (لِوَجْهِ اللهِ): خالصًا غير مشوب بحظ النفس، (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، مصدر كالقعود، (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا)، مستأنفة للتعليل، (يَوْمًا) أي: عذابه، (عَبُوسًا)، مجاز أي: عبوسًا فيه أهله، أو كالأسد العبوس في الضرر والشدة، (قَمْطَرِيرًا): شديد العبوس، عن عكرمة وغيره، يعبس الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق كالقطران، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - العبوس الضيق، والقمطرير الطويل، (فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً)، بدل عبوس الكفار، (وَسُرُورًا)، بدل حزنهم، (وَجزَاهُم بِمَا صَبَرُوا): على ترك الشهوات، وأداء الواجبات، (جَنَّةً وَحَرِيرًا): يلبسونه، (مُتَّكِئِينَ فِيهَا)، حال من أول مفعولي جزاء، أو صفة لثاني مفعوليه على مذهب الكوفيين، (عَلَى الأَرَائِكِ): السرر في الحجال، (لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا): لا حرٌّ مزعجٌ، ولا بردٌّ مؤلم، بل هواء معتدل، (وَدَانِيةً): قريبة، (عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا)، الواو للعطف على متكئين، " ولا يرون " يحتمل أن يكون حالاً من ضمير متكئين، (وَذُلِّلَتْ): سهلت، (قُطُوفُهَا) ثمارها، (تَذْلِيلاً): لا يمتنع على قطافها في أى حال يكونون من القيام، والرقود يحتمل أن يكون الواو حالاً من ضمير عليهم

_ (1) السورة مكية وعليٌّ - رضي الله عنه - بنى بفاطمة - رضي الله عنه - في المدينة؟؟!!! وهذه الرواية ذكرها القرطبي في تفسيره، وقال الترمذي: الحكيم أبو عبد الله في نوادر ْالأصول: فهذا حديث مزوّق مزيف قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفًا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم. وذلك لأنه بفعله هذا ضيع من يعول، حيث قال - صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت " [وذكره الواحدي في: " أسباب النزول " (1/ 331)].

بحذف العائد أي: وذلك لهم، (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ)، الباء للتعدية، (مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ): أباريق بلا عروة، (كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي: جامعة بين صفاء الزجاجة، وبياض الفضة، ولينها ونصب قوارير على البدل، أو بتقدير أعني، (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا)، الضمير للطائفين بها الدال عليه " يطاف عليهم " أي: قدرَ الخدمُ الآنيةَ على قدر ريهم وحاجتهم لا يزيد فيها الشراب، ولا ينقص، وهو ألذ للشارب، وقيل: مرجع هذا الضمير مرجع سائر الضمائر في الآية أي قدروها في أنفسهم، فجاءت مقاديرها، وأشكالها كما تمنوه، (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا) خمرًا (كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا)، المعنى والإعراب كما مر في كان مزاجها كافورًا عينًا، والعرب تستطيب طعم الزنجبيل جدًا، وعن قتادة وغيره: الأبرار يمزج لهم من هذا تارة ومن ذاك أخرى، وأما المقربون فيشربون من كل منهما صرفًا، (تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا)، لسلاسة في الحلق ليس فيها إحراق الزنجبيل، ولدغه مع أن فيها طعمه، أو سميت به، لأنها تسيل عليهم في السبل، والطرق، والمنازل، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ):

(23)

لا يموتون، (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا): من صفاء ألوانهم، وطراوتهم، وانبثاثهم فى منازلهم، (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ) أي: إذا وجدت الرؤية في الجنة، ترك مفعوله ليعم، (رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا): واسعًا، (عَالِيَهُمْ)، بالنصب حال من عليهم وبسكون الياء مبتدأ، وقوله: (ثِيَابُ سُنْدُسٍ)، خبره، وهو ما رقَّ من الثياب، (خُضْرٌ)، بالجر صفة سُنْدُسٍ، وبالرفع صفة ثياب، (وَإِسْتَبْرَقٌ): هو ما غلظ من الثياب، وله بريق، ولمعان بالرفع عطف على ثياب، وبالجر على سندس، (وَحُلُّوا)، عطف على ويطوف، (أَسَاوِرَ)، جمع سوار، (مِنْ فِضَّةٍ)، وهذا للأبرار، وأما المقربون فيحلون من أساور من ذهب، أو للأبرار أساور من ذهب، وفضة، (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)، عين على باب الجنة من شرب منها نزع ما كان في قلبه من الأخلاق الرديئة، أو طاهرًا من الأقذار لم تدنسه الأيدي، والأرجل كخمر الدنيا، أو لأنه يرشح عرقًا له ريح كالمسك، (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ) أي: يقال لهم ذلك، (جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا): غير مضيَّع. * * * (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) * * *

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا): متفرقًا منجمًا آية بعد آية، وفي تكرير الضمير مع التأكيد بإن مزيد اختصاص التنزيل، (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ): بتأخير نصرك، (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، لفظ أو للدلالة على أن إطاعة كل واحد منهما قبيح، فالجمع بين الطاعتين أقبح، والآثم الكافر؛ لأن الفسوق في الأفعال يظهر من الكافر، والكفور المنافق، لأنه صفة القلب، ولا تطع الكافرين، والمنافقين، وعن بعض الآثم عتبة، فإنه ركَّاب الفسوق، والكفور الوليد، فإنه الغالي في الكفر، وهما قالا لو رجعت عن هذا الأمر لزوجناك ابنتينا بغير مهر، وأعطيناك من المال حتى ترضى، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا): أول النهار وآخره، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا)، كما قال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) [الإسراء: 79] وعن بعض المراد صلاة الصبح، والعصر، والمغرب، والعشاء، والتهجد، (إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ العَاجلَةَ): الدار العاجلة، (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ): وراء ظهورهم، أو أمامهم، (يَوْمًا ثَقِيلًا): شديدًا، (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ): ربطهم، وتوثيق مفاصلهم، (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ): في شدة الأسر بعد إهلاكهم، (تَبْدِيلًا)، والمراد النشأة الأخرى، والتبديل في الصفات، أو المراد إذا شئنا أهلكناهم،

ونأت بخلق جديد مثلهم بدلهم فالتبديل في الذوات، وحقه حينئذ إن بدل إذا لكن جيء بإذا على المبالغة كأن له وقتًا معينًا، (إِنَّ هَذِهِ) أي: السورة، (تَذْكِرَةٌ): عظة، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): طريقًا ومسلكًا إلى الله، (وَمَا تَشَاءُونَ): ذلك، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) أي: إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا): فيعلم من يستحق الهداية، فيقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فييسر له أسبابها، وله الحكم في ذلك، (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ): بهدايته، (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، نصب الظالمين بفعل يفسره ما بعده، مثل أعد. اللهم أدخلنا برحمتك في رحمتك ولا تجعلنا من الظالمين. * * *

سورة المرسلات

سورة الْمُرْسَلَاتِ مكية وهى خمسون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) * * *

(وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا)، أقسم سبحانه بالرياح المرسلة حال كونها متتابعات تهب شيئًا فشيئًا، أو بالملائكة حال كونهم يتبع بعضهم بعضًا وعن بعض المراد بالعرف المعروف أي: الملائكة التي أرسلت للمعروف من الأوامر والنواهي، (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا)، وبالرياح الشديدة الهبوب، أو بالملائكة العاصفات عصف الرياح في امتثال أمر الله، (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا)، وبالرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء، أو بالملائكة الناشرات أجنحتهن لنزول الوحي، أو التي نشرن الشرائع في الأرض، (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا)، وبالملائكة الفارقات بين الحق والباطل بسبب الوحي، (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا)، وبالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيًا، (عذْرًا أَوْ نذْرا) أي: لإعذار المحققين، أو إنذار المبطلين، ويحتمل أن يكونا بدلين من ذكرا، (إِنَّمَا تُوعَدُونَ): من مجيء القيامة، (لَوَاقِعٌ)، هو جواب القسم، (فَإِذَا النُّجُومُ

طُمِسَتْ): مُحى نورها، أو محقت ذواتها، (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ): انشقت، (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ): قلعت، (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ): جمعت، وعين لها الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي: يقال لأي يوم أخرت؟ وضرب الأجل لجمعهم، وهو تعظيم لليوم، وتعجيب منه، (لِيَوْمِ الفَصْلِ)، بين الخلائق بيان ليوم التأجيل، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ)، لعظمته لا يكتنه كنهه، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): بذلك اليوم، هو مثل سلام عليك في العدول إلى الرفع، ويومئذ ظرف للويل، (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ): من الأمم المكذبة، (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ): نتبعهم أمثالهم من الآخرين ككفار مكة، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الفعل، (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)، التكرير للتوكيد، وهو حسن شائع في عرف العرب ولغتهم، (أَلَمْ نَخْلُقكم مِّن مًّاء مَّهِين): نطفة ذليلة، (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مكِينٍ)، هو الرحم، (إِلَى قَدَرٍ): مقدار، (مَّعْلُومٍ): من الوقت، (فَقَدَرْنَا): ذلك تقديرًا من التقدير لا من القدرة، (فنعْمَ القَادِرُونَ): نحن، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا)، اسم لما يكفت أي: يضم، ويجمع أي: كافتة،

(أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا)، مفعول كفاتا، أو تقديره تكفت أحياء على ظهرها، وأمواتًا في بطنها قيل: كفاتا حال وأحياء ثاني مفعولي جعل أو بالعكس فالمراد من الأحياء ما ينبت، ومن الأموات ما لا ينبت، (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (شَامِخَاتٍ): طوالاً، (وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا): عذبًا من الأمطار والأنهار، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ انطَلِقُوا) أي: يقال لهم في ذلك اليوم اذهبوا، (إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُون): في الدنيا، (انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ) أي: ظل دخان جهنم، (ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ): يتشعب لعظمه ثلاث شعب كما ترى الدخان العظيم يتفرق ذوائب، (لَا ظَلِيلٍ): كسائر الظلال، (وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ): وغير مغن عنهم من حر اللهب شيئًا، (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ)، هو ما تطاير من النار، (كَالْقَصْرِ): كل شررة كالقصر فى العظم، أو هو جمع قصرة أي: شجرة غليظة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كنا نعمد إلى الخشبة، فنقطعها ثلاثة أذرع، وفوق ذلك ودونه ندخرها للشتاء، فكنا نسميه القصر، (كَأَنَّهُ) أي: الشرر، (جِمَالَتٌ صُفْرٌ)، جمع جمال جمع جمل شبه الشرر بالقصر في عظمه حين ينفض من النار، وبالجمالات في اللون، والكثرة، والتتابع، والاختلاط، وسرعة الحركة حين يأخذ في الارتفاع، والانبساط، ومن قرأ بضم الجيم فالمراد الحبال العظيمة من حبال السفن شبهه بها في امتداده، والتفافه، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذا يَوْمُ لَا يَنطِقُون): للقيامة حالات وأيام، ففي بعضها يخاصمون، وفي بعضها يقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي: لا يحصل لهم الإذن، ولا الاعتذار عقيبه فيعتذرون عطف على يؤذن، وما جعله جوابًا لإيهام أن لهم عذرًا لكن لم يؤذن لهم فيه، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذا يَوْمُ الفَصْلِ): بين المحق والبطل، (جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ): حتى يمكن الفصل، (فَإِنْ كَانَ

(41)

لَكُمْ كَيْدٌ): في الفرار مني، (فَكِيدُونِ)، تقريع وتهديد على كيدهم في الدنيا لإطفاء دين الله، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ). * * * (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) * * * (إِنَّ الْمُتَّقِينَ)، مقابل للمكذبين، (فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي: مستقرون في أنواع الترفع، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: مقولاً لهم ذلك، (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): في العقيدة والعمل، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا)، كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا، (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ)، استئناف علة لقلة التمتع، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ): في الدنيا، (لَهُمُ ارْكَعُوا) أي: صلُّوا، (لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ): بعد القرآن، (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به مع أنه لا حديث يساويه أو يدانيه، فلا حديث أحق بالإيمان منه، وقد ورد " من قرأ والمرسلات عرفا " " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ " فليقل آمنت بالله، وبما أنزل. والحمد لله وحده. * * *

سورة النبإ

سورة النَّبَإِ مكية وهي أربعون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) * * * (عَمَّ)، حرف جر دخل على ما الاستفهامية، وحذف الألف في كثرة الاستعمال، (يَتَسَاءَلُونَ)، كان أهل مكة يتساءلون فيما بينهم عن القيامة استهزاء، ومعنى هذا

الاستفهام التفخيم والتعظيم، (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)، بيان للشأن المفخم، أو صلة يتساءلون، و " عم " متعلق بفعل يفسره ما بعد، وقراءة " عمه " دالة عليه، والنبأ: القيامة، وعن بعض: القرآن، (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): بالإنكار والشك، أو ضمير يتساءلون لجنس الناس، ويكون الاختلاف بالإقرار، والإنكار، (كَلَّا)، ردع عن هذا التساؤل، والاختلاف، (سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، تكرير للمبالغة، و " ثم " للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد، (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا): فراشًا، (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا): للأرض حتى لا تتحرك يعني: ومن قدر على مثل هذا كيف لا يقدر على البعث؟! (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا): أصنافًا ذكرَّاَ وأنثى، (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا): قطعًا عن الحس، والحركة استراحة للبدن أو موتًا، فإن النوم أخو الموت، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا): غطاء يستركم عن العيون، (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا): وقت معاش تحصلون فيه ما تعيشون به، (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا): سبع سموات، (شِدَادًا): محكمات، (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا) أي: الشمس، (وَهَّاجًا): متلألئًا حارًا، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ)، هي السحائب، التي شارفت أن تعصرها الرياح، كأعصرت الجارية،

إذا دنت أن تحيض، أو الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، فهمزة أعصرت للحينونة، والرياح كالمبدأ الفاعلي للمبدأ؛ لأنها تنشئ السحاب فجاز أنه منه، أو هي السماوات، فإن الماء ينزل من السماء إلى السحاب كما صح عن ابن عباس، وغيره، فالسماوات يحملن السحاب على العصر، فالهمزة للتعدية، (مَاءً ثَجَّاجًا): منصبًا لكثرته، (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا): من الحنطة، والشعير، (وَنَبَاتًا): خضرًا مما يأكل الناس، والأنعام، (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا): ملتفة بعضها ببعض، جمع لف بكسر اللام، أو بضمها جمع لفاء، فيكون جمع الجمع، أو جمع ملتفة بحذف الزوائد، (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ): في علم الله، (مِيقَاتًا): وقتًا محدودًا [تنتهي] الدنيا عنده، أو تنتهي الخلائق إليه، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ)، بدل أو عطف بيان، (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا): زمرًا وجماعات، (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ): شقت، (فَكَانتْ): فصارت، (أَبْوَابًا): ذات أبواب، أو من كثرة الشقوق كان الكل أبواب، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ): في الهواء كالهباء، (فَكَانَتْ سَرَابًا): كسراب، فإنها كانت شيئًا فالآن لا شيء، (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا)، هو الحد الذي فيه الحراس أي: موضع يرصد الكفار فيه، أو طريقًا وممرًا إلى الجنة، (لِلطَّاغِينَ مَآبًا): مرجعًا، (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): حقبًا بعد حقب إلى ما لا يتناهى، وعن عليٍّ: كل حقب ثمانون سنة، كل

(31)

يوم منها ألف سنة مما تعدون، (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا): روحًا ينفس عنهم حر النار، أو نومًا، (وَلَا شَرَابًا): يسكن من عطشهم، (إِلا حَمِيمًا) أي: لكن يذوقون فيها ماء في غاية الحرارة، (وَغَسَّاقًا): ماء يسيل من جلود أهل النار، وعيونهم، أو الزمهرير، ويحتمل أن قوله: " لا يذوقون " حال من ضمير " لابثين "، أو صفة " أحقابًا " على أن ضمير فيها للأحقاب، وحاصله: لابثين فيها أحقابًا غير ذائقين إلا حميمًا، وَغَسَّاقًا، وبعد ذلك يبدلون جنسًا آخر من العذاب، (جَزَاءً وِفَاقًا) أي: جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقًا لها، (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ): لا يخافون، (حِسَابًا): ولا يؤمنون بيوم الدين، (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا): تكذيبًا، وفعال بمعنى تفعيل شائع مطرد، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا): في الإحصاء، والكتابة معنى الضبط، والتحصيل، فيكون كتابًا مفعولاً مطلقًا من أحصينا، لأن أحصى بمعنى كتب، أو بالعكس، وجاز أن يكون حالاً بمعنى المكتوب في اللوح، (فَذُوقُوا) أي: فيقال لهم: ذوقوا، وهو مسبب عن عدم الحوف عن الحساب، وتكذيب الآيات، (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)، عن بعض السلف: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه. * * * (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) * * * (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا): محل فوز، أو فوزًا وظفرًا بالبغية، (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا): بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، سيما العنب، بدل اشتمال، أو بعضٍ من مفازًا، (وَكَوَاعِبَ): نساء استدارت ثديهن، (أَتْرَابًا): مستويات في السن، (وَكَأْسًا دِهَاقًا): مملوة، (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا): كلامًا خاليًا عن الفائدة، (وَلَا كِذَّابًا): تكذيبًا أي: لا يكذب بعضهم بعضًا، (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ)، بمقتضى وعده، نصب بمصدر مؤكد لقوله: " إن للمتقين مفازا "، (عَطَاءً حِسَابًا) أي: تفضلاً كافيًا، بدل من جزاء، (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، بالجر بدل من (ربِّك)، وبالرفع مبتدأ، (الرَّحْمَنِ)، بالجر صفة، وبالرفع مع رفع " رب "، فيكون خبرًا له، ومع جره فتقديره: هو الرحمن أو مبتدأ خبره قوله: (لاَ يَمْلِكُونَ) أي: أهل السماوات،

والأرض، (مِنْهُ): من الله، (خِطَابًا)، فمنه صلة يملكون، أي: لا يُمّلكهم الله خطابًا واحدًا، إشارة إلى أن مبدأ الملك منه، نعم إن أُذِنَ لهم فيقدرون على تكلّمه وخطابه، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ)، هو بنو آدم، أو خلق أعظم من الملائكة على صورة البشر، أو جبريل، أو أشرف الملائكة يعني صاحب الوحي، أو القرآن أو ملك بقدر جمع المخلوقات، هو صنف، وسائر الخلائق صف، (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي: صافين، (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ)، ويوم ظرف لا يملكون، أو لا يتكلمون، وفيه تقرير، وتوكيد لقوله: " لا يملكون منه خطابًا "، فإن الملائكة مع أنَّهم من

أفضل الخلائق مقربون غير عاصين إذا لم يقدروا أن يتكلموا إلا بإذنه فكيف غيرهم؟ (وَقَالَ صَوَابًا) أي: للتكلم شرطان: الإذن، والتكلم بالصواب، فلا يشفع مثلاً لغير المستحق، أو له شرطان: الإذن والتكلم بالصواب في الدنيا، فالكافر لا يتكلم يعني كلامًا ينفعهم، أو ينفع غيرهم، (ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ): الكائن لا محالة، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا): مرجعًا بالطاعة، وأنواع القربات، (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا): عذاب الآخرة، وكل ما هو آت قريب، مع أن مبدأه الموت، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ): من خير وشر، والمرء عامٌّ، وقيل: الكافر، والمراد مما قدمت يداه الشر، وما إما موصولة مفعول " ينظر "، وإما استفهامية مفعول " قدمت "، قُدَّمت لصدارتها، و " يوم " بدل من " عذابًا " بحذف مضاف، أي: عذاب يوم، أو بدل اشتمال فلا يحتاج إلى تقدير، أو صفة أخرى لـ عذابًا، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا): في هذا اليوم، وفي الحديث " يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات، حتى ليقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من الحكم قال لها كوني، ترابًا، فتصير الحيوانات ترابًا فعند ذلك يتمني الكافر، ويتمني أن يكون في الدنيا ترابًا، فلم أخلق، ولم أكلف ". والحمد لله على الإسلام. * * *

سورة النازعات

سورة النَّازِعَاتِ مكية وهي ست وأربعون آية، وفيها ركوعَانِ * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) * * * (وَالنَّازِعَاتِ) أقسم سبحانه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار، (غَرْقًا): إغراقًا في النزع، فإنها تنزعها من أقاصي الأجساد من الأنامل والأظفار بعسر وشدة، أو المراد النجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها قطع الفلك كله حتى تنحط في

أقصى الغرب، أو المراد قسي الغزاة تنزع السهام إغراقًا في النزع، والأصح الأول، وهو قول أكثر الصحابة، (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا): الملائكة التي تنشط، أي تخرج أرواح المؤمنين، كما ينشط العقال من يد البعير بسهولة، أو النجوم التي تخرج من برج إلى آخر، أو الغزاة تخرج السهم للرمي، (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا): الملائكة التي تسبح في مضيها، وتسرع في قضاء الحوائج، أو السيارات، فكل في فلك يسبحون، أو خيل الغزاة تسبح في جريها، أو السفن، (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا): الملائكة التي سبقت ابن آدم بالإيمان والأعمال، أو أرواح المؤمنين تسبق شوقًا إلى لقاء الله، أو النجوم تسبق بعضها بعضًا في السير، أو خيل الغزاة، (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا): الملائكة التي تدبر الأمر من السماء إلى الأرض بأمر ربها، والسلف ما اختلفوا في هذا الأخير، ولم ينقل عنهم إلا قول واحد، وجواب القسم محذوف، وهو مثل (لَتُبْعَثُنَّ) وما بعده يدل عليه، (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي: تضطرب، وتتحرك الواقعة التي ترجف عندها الأجرام، كـ يوم ترجف الأرض، والجبال، وهي النفحة الأولى، ويوم ظرف لجواب القسم المحذوف، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ): الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة، والجملة حال، وفي الترمذي وغيره " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل، قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه (قُلُوبٌ) مبتدأ خصص بتنكير التنويع، (يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ): شديدة الاضطراب خائفة، (أَبْصَارُهَا) أي: أبصار أصحابها، (خَاشِعَةٌ): ذليلة من الخوف، (يَقُولُونَ) مستأنفة للتعليل، كأنه قال: لأنَّهُم يقولون في الدنيا: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) في الحالة الأولى: أي: الحياة بعد الموت، يقال: رجع في حافرته، أي: من

حيث جاء، وعن مجاهد: أئِنا لمردودون إلى الحياة حال كوننا في الحافرة أي القبرة، (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) أي: أئذا كنا عظامًا بالية تردوا، المحذوف عامل إذا، (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ): ذات خسران، يعني: إن صحت فنحن إذا خاسرون، وهذا منهم استهزاء، (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ)، هذا قول الله أي: لا تستصعبوها فما هيِ إلا صيحة، والمراد النفخة الأخيرة، (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي: فإذا الناس أحياء على وجه الأرض، والساهرة: الأرض المستوية، وعن قتادة: هي جهنم، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)، وهذا تسلية من الله لرسوله، (إِذْ نَادَاهُ ربهُ بالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوًى) اسم الوادي على الأصح، كما مر في سورة طه، (اذْهَبْ)، أي: قال له اذهب، (إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى): تكبر وتمرد، (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى): أي هل لك ميل، ورغبة إلى أن تتطهر من الشرك، والطغيان، (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ): إلى معرفته، (فَتَخْشَى): من عقابه، (فَأَرَاهُ) أي: فذهب فبلغ فأراه، (الْآيَةَ

(27)

الْكُبْرَى) أي: المعجزة الكبرى، (فَكَذبَ): بأنَّهَا من الله، (وَعَصَى): الله، (ثُمَّ أَدْبَرَ): أعرض عن الطاعة، (يَسْعَى): ساعيًا في الفساد، وإبطال أمره، (فَحَشَرَ): جمع جنوده، (فَنَادَى)، في المجمع، (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى): لا رب فوقي، قيل: هم يعبدون الأصنام، فأراد ربها وربكم، (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى): نكال الآخرة بالإحراق ونكال الدار الدنيا بالإغراق، وعن مجاهد نكال الكلمة الآخرة، وهي قوله " أنا ربكم الأعلى " ونكال الكلمة الأولى، وهي قوله: " ما علمت لكم من إله غيري " [القصص: 38]، وبينهما أربعون سنة، ونصب نكال، بأنه مصدر مؤكد أو مفعول له، أي: للتنكيل فيهما، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى): لمن كان من شأنه الخشية. * * * (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) * * *

(أَأَنْتُمْ): يا منكرى البعث، (أَشَدُّ): أصعب، (خَلْقًا)، بعد الموت، (أَمِ السَّمَاءُ) ثم بين كيفية خلقها فقال: (بَنَاهَا)، ثم بين البناء فقال: (رَفَعَ سَمْكَهَا): جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديدًا رفيعًا، (فَسَوَّاهَا): عدلها مستوية بلا قطور، أو تممها وأصلحها، من سويت أمره إذا أصلحته، (وَأَغْطَشَ): أظلم، (لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): أبرز ضوء شمسها، أضاف الليل والنهار إلى السماء، لأنهما يحدثان بحركتها، (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا): بسطها، خلق الأرض قبل السماء لكن دحوها بعدها، نقل ذلك عن ابن عباس، وفيه إشكال لأن الدحو هو البسط، وخلقُ الجبال، والأنهار، والمراعي، كما صرح ابن عباس، وقد مر في سورة " حم " السجدة أن ذلك مقدم على خلق السماء، ويدل على ذلك صريح الآية في تلك السورة، وأيضًا كثير من الصحابة صرحوا بأن خلق نفس الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في الثلائاء والأربعاء، وخلق السماء في الخميس والجمعة، قيل: فالوجه أن يجعل الأرض منصوبًا بمضمر، نحو تذكر وتدبر، أو اذكر الأرض بعد ذلك

وإن جعل مضمرًا على شريطة التفسير، جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقًا، من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه، ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء، تنبيهًا على أنه قاصر في الدلالة عن الأول، لكنه تتميم، ولو قلنا: إن " ثم " في قوله " ثم استوى إلى السماء " في سورة حم السجدة، لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في المدة، ويكون دحو الأرض بعد خلق السماء، لما يبقى مخالفة بين الآيتين، لكن مخالف لإطباق أهل التفسير، ثم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، ثم خلق السماء وما فيها في يومين، إلا ما نقل الواحدي في " البسيط "، عن مقاتل: أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها، وعلى أي وجه لا يخلو عن إشكال فلا تغفل، (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا): عيونها، ترك العطف لأنه حال بتقدير " قد " أو بيان للدحو وهو المراد منه، (وَمَرْعَاهَا): رعيها، الرعي بالكسر: الكلاء، وبالفتح: المصدر، والمرعى يقع عليهما، وعلى الموضع، (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا): أثبتها حتى لا يتحرك، (مَتَاعًا): تمتيعًا، (وَلِأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ): الداهية، التي تطم وتعلو وتغلب على الدواهى، (الْكُبْرَى): وهي القيامة، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى): ما عمل في الدنيا، وقد نسيها بدل من إذا جاءت، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى): أظهرت لمن له عين، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى): تمرد، (وَآثَرَ

الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، على الآخرة، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) أي: هي مأواه واللام ساد مسد الإضافة للعلم به، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)، أي: مقامه بين يديه في الآخرة، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى): زجرها عن اتباع شهوتها، (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وجواب فإذا جاءت هو قوله: " فأما " كأنه قال: فإذا جاءت، فإن الطاغي للجحيم مأواه، وإن الخائف للجنة مأواه، وزيادة إما لزيادة المبالغة، وتحقيق الترتيب، والثبوت على كل تقدير، أو جوابه محذوف كأنه قال: فإذا جاءت وقع ما وقع، وقوله، " فأما " تفصيل لذلك المحذوف، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ): متى، (مُرْسَاهَا): إرساء بها وإقامتها، (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا): في أي شيء أنت يا محمد، من أن تذكر وقتها لهم، يعني ما أنت من تبيين وقتها في شيء، وقيل: تتمة لسؤالهم، أي: سألوا متى وقتها؟ وفي أي شيء أنت من ذكرها؟ أي: هل لك يقين أو ظن أو جهل؟ والجواب قوله: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا)، أي: منتهى علمها إلى الله وحده،) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)، لا مُعِين وقتها، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا): في الدنيا، وقيل: في القبر، (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، أي: ضحى تلك العشية يعني: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا كأنها لم تبلغ يومًا كاملاً، ولكن ساعة منه إما عشية أو ضحاه كما تقول آتيك العشية أو غداتها. والحمد لله حقَّ حمده. * * *

سورة عبس

سورة عَبَسَ مكية وهي اثنتان وأربعون آية، وفيها ركوع واحد وكذا إلى آخره * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) * * * (عَبَسَ وَتَوَلَّى): أعرض، (أَن جَاءَهُ)، أي: لأن جاءه، (الأَعْمَى)، نزلت حين جاء عبد الله بن أم مكتوم النبيَّ - عليه السلام -، وكان ممن أسلم قديمًا، فجعل يسأل عن شيء ويلح، وهو عليه السلام يخاطب بعض عظماء قريش طمعًا في إسلامهم، فعبس في وجه عبد الله وأعرض عنه، وهو ضرير، وأقبل عليهم، (وَمَا يُدْرِيكَ)، أيُّ شيء يجعلك داريًا بحال هذا الأعمى، (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)، يتطهر من الآثام بما يتعلم منك، (أَوْ يَذَّكَّرُ): يتعظ، (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)، وينتهي عن المحارم، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى): عن الله بماله، (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى): تتعرض له بالإقبال، (وَمَا عَلَيْكَ): بأس وضرر، (أَلَّا يَزَّكَّى)، في ألا يتزكى بالإسلام، فلم أعرضت عنه وتعرضت له؟!، (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى): يسرع، هو ابن أم مكتوم، (وَهُوَ يَخْشَى): الله، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى): تتشاغل، نقل أنه عليه السلام بعد

ذلك يكرمه، ويقول إذا جاءه: " مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي " واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين، (كَلَّا)، ردع عن معاودة مثله، (إِنَّهَا): القرآن، وتأنيثه لتأنيث الخبر، (تَذْكِرَةٌ فمَن شَاءَ ذَكَرَهُ): اتعظ به، أو حفظه، أو أن الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم تذكرة، فمن شاء ذكره، (فِي صُحُفٍ)، أي: هو مثبت في صحف، أو صفة لـ تذكرة، (مُكَرَّمَةٍ)، عند الله، (مَرْفُوعَةٍ): رفيعة القدر، (مُطَهَّرَةٍ): من أيادى الشياطين، (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ)، ملائكة هم الرسل، والسفير هو الرسول، (كِرَامٍ)، على الله، (بَرَرَةٍ): أتقياء، ولعل الصحف ما بأيدي الملائكة، ينتسخون القرآن من اللوح المحفوظ، حين ينزلونه إلى السماء الدنيا، أو المراد من السفرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو القراء، والسفرة: الكتبة، فالمراد من الصحف ما بأيدي الناس من المصاحف والألواح، (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ): ما أشد كفره، دعاء على من أنكر البعث بأبلغ

وجه وأشده، (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ): شيء حقير مهين، (خَلَقَهُ)، بيان لا أنعم عليه، (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)، أطوارًا إلى أن تم خلقته، أو هيأه لما يصلح من الأشكال، (ثُمَّ السَّبِيلَ)، إلى الخروج من بطن أمه، (يَسَّرَهُ)، أو الطريق إلى الحق ذلل له نحو: " إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا " [الإنسان: 3]، (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)، أمره بالقبر، أو صير له قبرًا يدفن فيه، ولم يجعله ممن يلقى كالسباع تكرمة له، (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ): أحياه بعد موته، (كَلَّا)، ردع للإنسان عن الكفر، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)، أي: لم يقض الإنسان أبدًا ما أمره الله من الفرائض، وفي البخاري عن مجاهد " لا يقضي أحد ما أمره به "، أي: جميع ما كان عليه، فإن الإنسان لا ينفك عن تقصير، وقيل معناه: كلا إن القيامة توجد الآن، لأنه لم يقض، ولم ينفذ ما أمره الله، وقدره من مدة حياة الدنيا وكمية بني آدم، فكأنه ردع لاستعجالهم بقولهم " أيان يوم القيامة " [القيامة: 6]، (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)، فيه امتنان واستدلال بإحياء الأرض على البعث، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا): المطر، وقراءة (أَنَّا) بالفتح على بدل الاشتمال من طعامه، (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا)، بالنبات، ويحتمل أن يكون المراد الشق بالكراب على البقر، وأسند الفعل إلى الموجد، والمقرر أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا لمن صدر عنه إيجادًا، (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا): في الأرض، (حَبًّا)، كالحنطة، (وَعِنَبًا وَقَضْبًا): القتّ، فإنه يقطع، ويقضب مرة بعد أخرى، أو مطلق علف الدواب، (وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا): عامًا

لكثرة أشجارها واتساعها، أو عظم أشجارها وغلظها، (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا): مرعى من علف الدواب، (مَتَاعًا): تمتيعًا، (لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ): اسم من أسماء القيامة، صخه: ضرب أذنه، فأصمها سميت صيحة القيامة بها، لأنه تصخ الآذان من شدتها، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ)، بدل من إذا جاءت، (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)، حذرًا من أن يطلب منه حسنة من حسناته، لعله ينجو بها، أو لاشتغاله بشأن نفسه، أو حذرًا من مطالبتهم في التبعات، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)، يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره، وهو جواب (إذا جاءت) وفي الحديث (إن عائشة سألت، أينظر بعضنا عورة بعض؟ حين قال عليه السلام: يحشرون حفاة عراة غرلاً، فقال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، أو قال: ما يشغله عن النظر)، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ): مضيئة، (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ): فرحة بما نال من كرامة الله، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ): كُدُوَرة، (تَرْهَقُهَا): تغشاها، (قَتَرَةٌ): سواد، وظلمة، (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)، وكان جمع الغبرة إلى سواد الوجه لجمعهم الفجور إلى الكفر. اللهم لا تحشرنا بحق القرآن فيهم. * * *

سورة التكوير

سورة التكوير مكية وهي تسع وعشرون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) * * * (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ): جمع بعضها إلى بعض، فتُلَفّ، أو أظلمت، أو أذهبت ومحيت، أو ألقيت في جهنم، والأولى أن يكون رافع الشمس فعلاً مضمرًا يفسره ما

بعده لأن: " إذا " طالب للفعل، (وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ): تناثرت، وتساقطت من السماء إلى الأرض، أو تغيرت فلم يبق لها ضوء، (وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ)، عن وجه الأرض، أو سيرت في الهواء، (وَإِذَا العِشَارُ): الحوامل من الإبل التي وصلت في حملها إلى الشهر العاشر، وهي خيار الأموال عند العرب، (عُطِّلَتْ): تركت وسيبت، أو العشار: السحاب عطلت عن المطر، أو المراد: الأرض، التي تُعَشَّر، عُطّلت عن الزرع، (وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ)، جمعت، فاختلط الناس والدواب والطيور، وماج بعضها في بعض، أو بعثت ليقتص بعضها من بعض، أو أميتت، عن ابن عباس: حشر كل شيء الموت سوى الجن والإنس، (وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ): أوقدت فصارت نارًا، وعن كثير من السلف: يرسل

الله على البحر الدبور، فتسعرها فتصير نارًا، أو ملئت، وفجر بعضها إلى بعض، فتصير الكل بحرًا واحدًا أو يبست فلم يبق فيها قطرة ماء، (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ): بالأبدان، أو قرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، أي: الأمثال من الناس بينهم، أو نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين، أو قرنت نفس الصالح مع الصالح فِي الجنة، ونفس الطالح مع الطالح في النار، (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ): البنات المدفونة حية، (سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، وسؤالها لتوبيخ قاتلها، وتبكيته كتبكيت النصاري بسؤال (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ) [المائدة: 116]، (وَإِذا الصُّحُفُ): صحائف الأعمال، (نشِرَتْ)، للحساب، فإنها كانت مطوية، أو فرقت بين أصحابها، (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ): كشفت وأزيلت كما يكشف الغطاء عن الشيء، (وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ): أوقدت شديدًا، (وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ): قربت من المؤمنين، (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)، من خير وشر، وهو جواب إذا، والمراد زمان ممتد من النفخة الأولى، وهي زمان التكوين إلى آخر الموقف، ونفس في معنى العموم كتمرة خير من جرادة، وقيل معناه: علمت نفس كافرة ما أحضرت، فالتنوين للتنويع، (فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)، خَنَسَ: تأخر، واختفى، وخنس الكواكب: رجع، (الجَوَارِ الكُنَّسِ)، الجواري: السيارة، يقال كنس الوحش إذا دخل كناسه، عن عليٍّ وغيره رضي الله عنهم: هي النجوم تخنس بالنهار، وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها، أو المراد السيارات منها، سوى النيرين تجري معهما، أو ترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، أو المراد الوحش تأوي إلى كناسها، وعليه ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد، (وَالليْلِ إِذا عَسْعَسَ): أقبل ظلامه، أو أدبر، والأول أولى لقوله تعالي: (والضحى والليل إذا سجى)

[الضحى: 1، 2] (والليل إذا يغشى) [الليل: 1] والتحقيق أن الواو للعطف، والظرف في مثل هذه الموضع معمول مضاف مقدر، أي: وبعظمة الليل إذا، فإن الإقسام بالشيء إعظام له، كما صرح الزمخشري في " لا أقسم بيوم القيامة " [القيامة: 1] لا أنه معمول لفعل القسم لفساد المعنى، إذ ليس المراد أن إقسامه في الليل، وفي الصبح، أو إذا بدل كأنه قيل: والليل وقت غشيانه، ومثل هذا الشائع، (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ): إذا أضاء، (إِنَّهُ): القرآن، (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ): جبريل، قال عن الله،

(ذي قُوَّة): شديد القوى، (عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِين): ذي مكانة، (مُطَاعٍ ثَمَّ): في السماوات بين الملأ الأعلى، فإنه من سادة الملائكة، (أَمِينٍ)، على الوحي والأمر، (وَمَا صَاحِبُكُم): محمد عليه السلام، (بِمَجنونٍ)، كما زعمتم، وهذا أيضًا من جواب القسم، والكلام مسوق لحقيقة المنزل، ليدل على صدق ما فيه من أهوال القيامة، ووصف الآتي بالقول يؤيد ذلك، ويشد عضده، وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في هذا الغرض الذي هو حقية القرآن، ولذا وصف جبريل، واكتفى في وصف محمد عليهما السلام بنفي الجنون المزعوم المنافي لأن يكون صاحبه ممن أنزل عليه، (وَلَقَدْ رَآهُ): محمدٌّ جبريلَ على صورته، (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ): هو

الأفق الأعلى من ناحية المشرق، (وَمَا هُوَ): محمد، (عَلَى الغَيْبِ): على كل ما اطلع عليه مما كان غائبًا عنه، [(بِضنينٍ)]: بمتهم، ومن قرأ بالضاد فمعناه ليس ببخيل عليه، بل يبذله لكل أحد ويعلمه، (وَمَا هُوَ): القرآن، (بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رجِيمٍ)، فليس بشعر، ولا كهانة وسحر، (فَأَيْنَ تَذهَبُونَ)، هذا يقال لمن ضل الطريق، مثلت حالهم بحاله في عدولهم عنه إلى الباطل، (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ): عظة، (لِّلْعَالَمِينَ): لجميع الخلائق، (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ)، على الطريق الحق، بدل من العالمين فإن بالقرآن لم ينتفع إلا من أراد الاستقامة فكأنه لم يوعظ به غيره، (وَمَا تَشَاءُونَ)، الاستقامة، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ): إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، (رَبُّ الْعَالَمِينَ): مالك الخلق، عن سفيان الثوري: لما نزلت " لمن شاء منكم أن يستقيم " قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). * * *

سورة الانفطار

سورة الانفطار مكية وهي تسع عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله (19) * * * (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ): انشقت، (وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ): تساقطت، (وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ): فتح بعضها إلى بعض، فصارت بحرًا واحدًا، أو فتحت مجاريها فيذهب ماؤها فلا يبقى بحر، (وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ): قلب

ترابها، وبعث من فيها من الموتى أحياء، (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، جواب إذا، ومعناه ما مر في سورة لا أقسم، (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ)، أيّ شيء جرأك على عصيان من لطف بك حتى قابلت الطاعة بالمعاصي، وما عرفت أن الكرم يقتضي عدم التسوية بين المطيع والعاصي، عن ابن عباس وغيرهما: غرَّه واللهِ جهلُه، (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ): جعل أعضاءك سليمة مسواة، [(فعَدَّلَكَ)]: صيرك معتدلاً متناسبة الخلق، وقراءة التخفيف إما بمعنى التشديد، وإما بمعنى عدلك وصرفك عن صورة غيرك، وخلقك خلقة حسنة لا كالبهائم، (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ): ركبك في أي صورة شاء، فما زائدة، في الحديث (إن

النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر كل عرق بينه وبين آدم، ثم قرأ (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)، وعن عكرمة وغيره: إن شاء في صورة كلب، أو خنزير، لكن بلطف الله خلقه في شكل حسن، (كَلَّا)، ردع عن الاغترار بالرب الكريم، (بَلْ تُكَذٌبُونَ بالدِّينِ)، إضراب إلى بيان حقيقة ما هو السبب في الاغترار والدين: والجزاء، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبينَ): ملائكة كرامًا على الله يكتبون الأعمال، والأقوال، وكرامًا صفة لحافظين، (يَعْلَمُونَ مَا تَفعلُونَ)، فالجزاء ثابت محقق، وأنتم تكذّبون به، (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)، يعني: لأجل ذلك يكتبون، (يَصْلَوْنَهَا): يدخلونها، (يَوْمَ الدِّينِ وَمَا همْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ): قط بعد دخولها، بل هم مخلدون فيها، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)، فيه تعجيب وتعظيم لشأنه، أي: لا يدرى كنهه أحد، وإن تأمله مرات، (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا): لا يقدر أحد على نفع أحد، ولا على ضره، وقراءة " يومُ " بالرفع فعلى البدل من يوم الدين، أو هو يوم لا تملك (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله): وحده لا كما ملكهم في الدنيا بعض الأمور ظاهرًا. * * *

سورة التطفيف

سورة التطفيف مختلف فيها وهى ست وثلاثون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ

حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) * * * (وَيْلٌ للْمُطَفِّفِينَ)، التطفيف: البخس، والنقص في الكيل والوزن، وعن ابن عباس: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله، فأحسنوا الكيل بعد ذلك، (الذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ): يكتالون حقوقهم من الناس، (يَسْتَوْفون): يأخذونها وافية، ولما كان اكتيالهم منهم أخذ حق عليهم عداه بعلى، قال الفراء: من وعلى يعتقبان في هذا الموضع، (وَإِذَا كَالُوَهُمْ)، أي: كالوا هم، (أَو وَزَنوَهُمْ)، أي: لهم، فهو من باب حذف الجار وإيصال الفعل، قيل: فيه حذف المضاف، أي: كالوا مكيلهم وموزونهم، (يُخسِرُون): ينقصون، وهؤلاء كأن عادتهم في أخذ حقهم من الناس الكيل دون الميزان لتمكنهم الاكتيال من الاستيفاء والسرقة بتحريك المكيال ونحوه ليسعه، وأما إذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعًا، ولذا ما ذكر الوزن في الأول، (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)، فإن الظن بالبعث رادع عن مثل تلك القبائح، (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ): لعظم ما فيه، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ)، منصوب بأعني، أو مبعوثون، أو بدل من الجار والمجرور، (لِرَبِّ العَالَمِينَ): لحكمه، (كَلَّا)، ردع عن الغفلة عن البعث، وعن التطفيف، (إِنَّ كتَابَ الفُجَّارِ): الذي فيه

أعمالهم، (لَفِي سِجِّينٍ): هي أرض السابعة، السفلى فيها الشياطين، وأرواح الكفار، وهي صخرة تحت الأرض السابعة أو بئر في جهنم، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ)، لعظمه وغاية قباحته، (كِتَابٌ مرْقُوم)، من المفسرين من جعله خبرًا ثانيًا لقوله: " إن كتاب الفجار " أو خبر محذوف، أي: هو يعني كتاب الفجار كتاب مرقوم مسطور بَيِّن [مختوم عليه]، ومنهم من قال: السجين: كتاب جامع هو ديوان الشر فيه أعمال الأشرار، وهو كتاب مرقوم، وسمي الكتاب سجينًا الذي هو الحبس، والتضييق، لأنه سبب الحبس في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش، هو مسكن إبليس وجنوده استهانة، وليشهده الشيطان، وقيل: كتاب، أي: موضع كتاب بحذف المضاف، (وَيْل يَوْمَئِذٍ للْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُل مُعْتَدٍ): متجاوز عن الحد، (أَثِيمٍ): منهمك في الحرمات، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ)، من فرط الجهل والعناد، (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا)، ردع عن هذا القول، (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانوا يَكْسِبُون)، أي: ليس الأمر كما يقوله من أن ذلك أساطير الأولين، بل كثرة ارتكابهم الآثام، صارت سببًا لحصول الرين في قلوبهم، ولهذا تفوه بهذا المقال،

_ (1) في الأصل هكذا [مفروع عنه] ولعلَّ ما أثبته من التفاسير يوافق الصواب إن شاء الله تعالى. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

وكذب به، وفي الحديث (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلوا قلبه، وذاك الران الذي ذكره الله في القرآن "كلا بل ران")، ولفظ الترمذي والنسائي، وابن ماجة (إن العبد) بدل إن المؤمن، وعن كثير من السلف: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت، والرين: الصدأ، (كَلَّا)، ردع عن الكسب الراين، (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون): فلا يرونه، أو عن رحمته وكرامته، (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجَحِيمِ): ليدخلونها، (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا)، ردع عن التكذيب، أو تكرير للأول، (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)، عن كثير من السلف: هي السماء السابع، وفيها أرواح المؤمنين، أو لوح من زبرجد خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه، أو قائمة العرش اليمنى، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كتَابٌ مَّرْقُوم)، الكلام فيه ما مر في نظيره بعينه، (يَشْهَدُهُ الُمقَربونَ): يحضره من كل سماء مقربوها، (إِن الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)، أي: يوم القيامة، (عَلَى الأَرَائِكِ): على السرر في الحجال، (يَنظُرُونَ): إلى ملكهم ونعيمهم، أو إلى الله، أو إلى عدوهم كيف يعذبون، (تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ): بهجة التنعم ورونقه، (يُسْقَوْنَ مِن رحِيقٍ): خمر خالص، (مَخْتُومٍ): يختم أوانيه إكرامًا لهم كعادة الملوك، (خِتَامُهُ مِسْكٌ): مقطعه عن الفم، وآخره مسك، أو تختم الأواني

بالمسك مكان الطين، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ): فليرتغب، (المُتَنَافسُونَ): المرتغبون، وفي الحديث المرفوع: (أيما مؤمن سقى مؤمنًا شربة ماء على ظمإٍ، سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم)، (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ)، أي: تمزج تلك الخمر للأبرار من تسنيم، هو عين في الجنة، (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا المُقَربونَ): صرفًا، وتمزج للأبرار، ونصب عينًا على المدح، أو الحال، والكلام فيها كما مر في سورة " هل أتى على الإنسان "، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا): كفار قريش، (كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون): يستهزءون بفقراء المؤمنين، (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون): يشير بعضهم بعضًا بأعينهم استهزاء، (وَإِذا انقَلَبُوا): رجعوا أي: هؤلاء المجرمون، (إِلَى أَهْلِهمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ): ملتذين بالسخرية، (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ)، نسب المجرمون المؤمنين إلى الضلال، (وَمَا أُرْسِلُوا)، قال الله تعالى: وما أرسل المجرمون، (عليهم): على المؤمنين، (حَافِظِينَ)، لأعمالهم، شاهدين برشدهم وضلالهم، (فَالْيَوْمَ)، أي: القيامة، (الذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفارِ يَضْحَكُونَ)، في مقابلة ما ضحكوا بهم في الدنيا، (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)، إليهم في النار، أو إلى الله، حال من يضحكون، (هَلْ ثُوِّبَ الكفارُ): هل جوزوا، (مَا كَانُوا يَفْعَلُون)، من السخرية، وغيرها. والحمد لله وحده. * * *

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق مكية وهي خمس وعشرون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) * * * (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، عن علي رضي الله عنه (تنشق من المجرة)، (وَأَذِنَتْ

لِرَبِّهَا): سمعت له في أمره بالانشقاق، وأطاعت وانقادت، (وَحُقَّتْ)، وهي حقيقة بأن تستمع وتنقاد، (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ): مد الأديم، وبسطت فلم يبق فيها جبال، وبناء، (وَأَلْقتْ مَا فِيهَا): ما في بطنها من الأموات والكنوز، (وَتَخَلَّتْ): بلغ جهده في الخلو، حتى لا يبقى في باطنها شيء، (وَأَذِنتْ لِرَبِّهَا وَحُقتْ)، تكرار للأول، أو أذنت في الإلقاء والتخلية، وجواب إذا محذوف، يدل عليه ما بعده، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، أي: جاهد بالعمل إليه ساعٍ فملاقٍ لربك فيجازيك، أو فملاق لكدحك ويصل إليك جزاؤه، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، أي: سهلاً بلا تعسير، وفي الصحيحين عن عائشة: قال عليه السلام: (من نوقش الحساب عذب)، قالت: فقلت أليس الله يقول: " فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا "؟، قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) وفي غيرهما عنها قالت: قال عليه السلام: (إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبًا، فقلت) الحديث، إلخ، (وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ): فِي الجنة من الحور، والآدميات، (مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)، يثني شماله إلى ورائه، ويعطى كتابه بها، (فَسَوْف يَدْعُو ثُبُورًا): هلاكًا يقول: يا ثبوراه، (وَيَصْلَى سَعِيرًا):

يدخل النار، (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ): في الدنيا، (مَسْرُورًا)، باتباع هواه، وبدنياه ليس له هم الآخرة، (إِنَّهُ ظَنَّ أَن لن يَحُورَ): لن يرجع إلى الله، (بَلَى): يرجع إلى الله، (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا): عالمًا بأعماله، فيعيده ويجازيه، (فَلاَ أُقْسِم بِالشَّفَقِ): الحمرة بعد الغروب، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: البياض الذي يلي الحمرة، وعن مجاهد: النهار كله، (وَالليْلِ وَمَا وَسَقَ): ما جمع، وضم من دابة وغيرها، (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ): استوى وتم بدرًا، (لَتَركَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ): حالاً بعد حال مطابقة لأختها في الشدة بعد الموت، أو حالاً بعد حال من مثل الصغر والكبر، والهرم، والغنى والفقر، والصحة والسقم، أو لتركبن ما طابق سنن من كان قبلكم، وفي الحديث (لتركبن سنن من كان قبلكم من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، والظاهر أن (لَتَرْكَبُنَّ) بالضم على خطاب الجنس، فإن النداء له، وبالفتح على خطاب الإنسان في " يا أيها الإنسان " باعتبار اللفظ، وعن بعض من السلف: (لَتَرْكَبَنَّ) يا محمد سماء بعد سماء، أي: ليلة المعراج، أو درجة بعد درجة في الرتبة، وكان منشأ هذا قول ابن عباس كما بيناه في

الحاشية، و " عن طبق " صفة لـ " طبقًا "، أي: طبقًا مجاوز الطبق، أو حال من ضمير تركبن، أي مجاوزين لطبق، (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ): بالقيامة، (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ): إعظامًا وإكرامًا، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ): به، مكان السجود والخضوع، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُون): بما يضمرون في أنفسهم، (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ)، الاستثناء منقطع، وقيل متصل، أي: إلا من تاب وآمن منهم، (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع، أو منقوص، ولله المنة على أهل الجنة في كل حال دائمًا سرمدًا. والحمد لله حقَّ حمده، والصلاة على نبيه * * *

سورة البروج

سورة البروج مكية وهي اثنتان وعشرون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) * * * (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ): النجوم العظام، أو هي البروج الاثنى عشر، أو

البروج التي فيها الحرس، (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ): القيامة، (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)، اختلفوا فيه، والحديث المرسل والضعيف على أنها يوم جمعة، وعرفة، وعليه كثير من السلف، أو الشاهد محمد، والمشهود: القيامة، أو الجمعة، أو الله، أو هما ابن آدم، والقيامة، أو ابن آدم، والجمعة، أو عرفة، والقيامة، أو يوم الذبح وعرفة، أو الله والخلف، أو عكسه، أو أعضاء بني آدم وبنو آدم، والجمعة والنحر، أو آدم والقيامة، أو الملك والقيامة، أو الملك وبنو آدم، أو هذه الأمة وسائر الأمم، أو الله والقيامة، (قُتِلَ): لُعِنَ، (أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)، الأظهر أن جواب القسم محذوف،

وهذا دليله كأنه قال: إنهم، أي كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل. تقديره لقد قتل أصحاب الأخدود، وهو جواب القسم، والأخدود: الشق

في الأرض، واختلف فيهم، لكن اتفقت كلمتهم على أن بعض الكفرة عمدوا إلى بعض المؤمنين عشرين ألفًا أو أقل أو أكثر، من أهل فارس، أو اليمن، أو الحبشة أو نجران أو الشام، وقهروهم أن يرجعوا إلى الكفر فأبوا، فحفروا لهم في الأرض أخاديد، وأججوا فيها نيرانًا، وأوعدوهم عليها فلم يقبلوا الكفر فقذفوهم فيها لعنهم الله، ورحمهم الله، (النَّارِ)، بدل اشتمال من الأخدود، (ذَاتِ الْوَقُودِ)، صفة تبين عظمتها، أي: لها كثرة ما يرتفع به لهبها، (إِذْ هُم): الكفار، (عَلَيهَا): على حافة النار، (قُعُودٌ)، يعذبون المؤمنين، (وَهُم عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ): مشاهدون لهذا التعذيب الأليم، أو يشهد بعضهم لبعض عند أميرهم وملكهم بأنه لم يقصر فيما أمر به، (وَمَا نقَمُوا): ما عابوا، وما كرهوا، (مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ)، ما هو حقيق بأن يكون سببًا للثناء، والألفة جعلوه سببًا للعيب والكراهة، (العَزِيزِ الحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، وصفه بصفات توجب الإيمان به وحده، (إِنَّ الذِينَ فَتَنُوا المؤْمِنِينَ والْمُؤمِنَاتِ)، بالإحراق، (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)، لم يندموا عما

أسلفوا، (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)، لكفرهم، (وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ)، العذاب الزائد فِي الإحراق بما أحرقوا المؤمنين، وعن بعض لهم عذاب الحريق في الدنيا، وذلك لأن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، أو المراد الذين بلوهم بالأذى على العموم لا أن المراد أصحاب الأخدود خاصة للفاتنين عذابان لكفرهم، ولفتنتهم، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)، المراد منهم المطروحون في الأخاديد، أو أعم، (إِنْ بَطْشَ ربِّكَ)، أخذه بالعنف لأعدائه، (لَشَدِيدٌ)، مضاعف، (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ)، الخلق، (وَيُعِيدُ)، بعد الموت، (وَهُوَ الغَفُورُ)، للمؤمنين، (الوَدُودُ)، المحب لهم، (ذُو العَرْشِ)، مالكه، (المَجِيدُ)، العظيم في الذات، والصفات، وقراءة الكسر على صفة العرش فمعناه علوه وسعته، (فعَّالٌ لمَا يُرِيدُ)، لا يزاحمه أحد، ولا شيء، (هَلْ أَتَاكَ)، يا محمد، (حَدِيثُ الجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ)، هما بدل من الجنود، والمراد من فرعون هو وقومه، وهذا تقرير لقوله: (إن بطش ربك لشديد)، (بَل الذِينَ كَفَرُوا): من قومك يا محمد، (فِي تَكْذِيبٍ)، للقرآن، ولك أي تكذيب، فلا يعتبرون بسماع قصة من قبلهم، ومعنى (بل) الإضراب عن الأمر بالإسماع، والتذكير، كأنه قال: ذكّر قومك بشدة بطش ربك، وأسمعهم حكاية فرعون وثمود لعلهم يتعظوا به، بل هم في تكذيب عظيم لا يمكن لهم الارتداع، والاتعاظ، (وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ): لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط، (بَلْ هُوَ): بل هذا الذي كذبوا به، (قُرْآنٌ مجِيدٌ): عظيم في اللفظ والمعنى، (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)،

بالرفع صفة القرآن، أي: محفوظ من الزيادة، والنقصان، وبالجر صفة اللوح، وعن أنس بن مالك وغيره: إن هذا اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل، وعن مقاتل: هو عن يمين العرش، وفي الطبراني، قال عليه السلام: (إن الله قد خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء وصفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور، وكتابه نور لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق، ويميت، ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء). * * *

_ (1) أخرجه الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما.

سورة الطارق

سورة الطارق مكية وهي سبع عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) * * * (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ): الكوكب، وسماه طارقًا لأنه يظهر في الليل، فالطارق: الآتي ليلاً (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ): المضيء، أو الذي يثقب الشياطين إذا أرسل إليها، والمراد الجنس، وقيل: الثريا، أو زحل عبر عنه أولاً بوصف عام ثم فسره بعدما عظّم شأنه تعظيمًا على تعظيم (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ): ما كل نفس إلا عليها حافظ يحفظ عملها، أو يحفظها من الآفات، وقراءة " لما " بالتخفيف، فتقديره: إن الشأن كل نفس لعليها، فما صلة، وهو جواب القسم على الوجهين (فَلْيَنظرِ الإِنسَان مِممَّ خلِقَ): يتفكر في مبدأ خلقه ليعترف بصحة الإعادة، فلا يعمل ما يضره في عاقبته، لأن عليه حافظًا يحفظ أعماله، أو لما لطف عليه بأن وكَّل عليه حافظًا يحفظه من الآفات، فليتأمل هو في مبدأ خلقه ليعترف بإعادته، فلا يكون منكرًا لقول ربه، ولما أرسل لأجله المرسلين (خُلِقَ)

جواب الاستفهام (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ): ذي دفق كتامرٍ ولابنٍ، أو مدفوق: مصبوب، وهو الممتزج من ماء الرجل والمرأة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ): صلب الرجل (وَالتَّرَائِبِ): ترائب المرأة، وهي عظام صدرها (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) أى: إن الله الذي خلق الإنسان من ماء كذا، القادر على رجعه، وإعادته بعد موته (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ): تتميز، وتتعرف ما أُسرَّ في القلوب من العقائد، وما أُخْفي من الأعمال، ظرف لرجعه، والفاصل غير أجنبي، لأنه عامل، أو تفسير للعامل على المذهبين، أو معناه: إن الله لقادر على رجع الماء إلى مخرجه، ثم قال اذكر يوم تبلى السرائر (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ): يمنعه عن عقاب أراده الله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْع): المطر، سماه به، لأنه لِرجع حينًا فحينًا، قيل: وصف السماء بالرجع لأنه يرجع في كل دورة إلى ما كان يتحرك منه (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ): الشق بالنبات، والعيون (إِنَّهُ) أي: القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ): فاصل بين الحق والباطل

(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ): فإنه جد وحق كله (إِنَّهُمْ) أهل مكة (يَكِيدُونَ كَيْدًا) في إطفاء نور القرآن (وَأَكِيدُ كَيْدًا): أقابلهم بما يشبه الكيد في استدراجي لهم (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ): فلا تستعجل بإهلاكهم (أَمْهِلْهُمْ روَيْدًا): إمهالاً يسيرًا، كرر وخالف بين الفعلين لزيادة التسكين، والتصبير. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * * *

سورة الأعلى

سورة الْأَعْلَى مكية وهي تسع عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) * * * (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي: نزه ذاته الذي هو أعلى من أن يقاس بغيره فالاسم مقحم، والأعلى صفة لربك، أو نزه أسماءه عما لا يصح فيه من المعاني،

والأعلى إما صفة للاسم، أو للرب (الذِي خَلَقَ) كل شيء (فَسَوَّى): خلقه، ولم يأت به متفاوتًا غير ملتئم (وَالذِي قَدَّرَ): الأشياء على وجه معين (فَهَدَى): فوجهها إليه (وَالَّذِي أَخْرَجَ) من الأرض (المَرْعَى): ما يرعاه الدواب (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته (غثَاءً): يابسًا (أَحْوَى) أسود، وقيل: أحوى حال من المرعى، أي: من شدة الخضرة أسود (سَنُقْرِئُكَ) على لسان جبريل، أو سنجعلك قارئًا (فَلاَ تَنسَى) فهذا وعد من الله (إِلا مَا شاءَ اللهُ) نسيانه بأن نسخ تلاوته، أو إلا ما شاء الله لكن لم يشأ، وعن مجاهد وغيره، كان عليه السلام يستعجل بالقراءة قبل إتمام قراءة جبريل مخافة النسيان، فنزل هذا الوعد فلم ينسَ بعد ذلك شيئًا، وقيل: نفي بمعنى النهي، أو نهي، والألف للفاصلة نحو: السبيلا، (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى): ما ظهر من الأحوال وما بطن، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة، (وَنُيَسِّرُكَ)، عطف على سنقرئك، أي: نُعدّلك (لِلْيُسْرَى): للشريعة اليسرى السمحة، أو نسهل عليك أفعال الخير، وقيل: معناه إنه يعلم الجهر مما تقرأه بعد فراغ جبريل، وما يخفى مما تقرأه في نفسك معه مخافة النسيان، ثم وعده وقال، نيسرك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى): عظ بالقرآن إن

نفعت التذكير، قال على رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وحاصله إن كنت جربت أن الموعظة لا تنفع فلا تتعب نفسك (سَيَذَّكَّرُ): يتعظ، وينتفع بها (مَن يَخْشَى): الله (وَيَتَجَنَّبُهَا)، أي: الذكرى، ويتباعد عنها (الأَشقَى) من الكفرة لتوغله في الكفر والعناد، أو المراد من الأشقى الكافر في علم الله (الذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى): نار جهنم، فإنما أشد حرًّا من نار الدنيا (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا): فيستريح (وَلَا يَحْيَى): حياة يجد منها روح الحياة، فهذا للكافر، وأما المذنب ففي صحيح مسلم وغيره (إن أناسًا دخلوا النار بخطاياهم يموتون في النار، فيصيرون فحمًا، ثم يخرجون فيلقون على أنهار الجنة فيرش عليهم منها، فينبتون كالحبة في حميل السيل) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى): تطهر نفسه من الكفر والمعصية (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بقلبه ولسانه (فَصَلَّى): الصلوات الخمس نحو: " أقم الصلوة لذكري " [طه: 14]، وعن كثير من السلف المراد من أعطى صدقة الفطر فصلى العيد، وعلى هذا يكون النزول سابقًا على الحكم، لأن السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا فطر كما قالوا في قوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) كما سيجيء (بَلْ تُؤْثِرُونَ): تختارون (الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) عن ابن مسعود قال: حين وصل إلى هذه الآية، آثرناها لأنَّا رأينا زينتها، ونساءها، وطعامها، وشرابها، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل، وجاز أن يكون

الخطاب للأشْقَيْنَ على الالتفات (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا) عن كثير من السلف: الإشارة إلى أربع آيات متقدمة من قوله: " قد أفلح من تزكى "، وعن بعض منهم: الإشارة إلى جميع السورة (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى): الكتب السماوية المتقدمة (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) بدل من الصحف الأولى، وفي مسند الإمام أحمد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة. الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الغاشية

سورة الْغَاشِيَةِ مكية وهي ست وعشرون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) * * *

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ): القيامة، لأنها تغشى الناس بشدائدها (وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ): ذليلة (عَامِلَةٌ): في النار، كالصعود والهبوط مع جر السلاسل فيها (نَاصِبَةٌ): تتعب في ذلك العمل، أو عملت وتعبت في أعمالٍ في الدنيا لا تنفع في الآخرة على غير طريقة السنة أو عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها، فهي في نصب منها في الآخرة (تَصْلَى): تدخل (نَارا حَامِيَةً): متناهية في الحر (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنيةٍ): انتهى غليانها (لَيْسَ لَهُمْ طعامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ): هو اليابس من الشَّبْرِق، وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطبًا فإذا يبس صار سُمًّا قاتلاً، ويكون الضريع طعام هؤلاء، والزقوم وغيره طعام غيرهم، أو في بعض الأحوال ليس طعام الكل إلا هذا (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وفائدة الطعام أحد الأمرين (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ): ذات بهجة (لِسَعْيهَا) في الدنيا (رَاضِيَةٌ) في الآخرة، لما رأت ثوابه (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ): المحل، أو القدر (لاَ تَسْمَعُ) يا مخاطب، أو الوجوه (فِيهَا لَاغِيَةً): لغوًا، أو كلمة ذات لغو (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) التنكير للتعظيم (فِيهَا سُرُرٌ مرْفُوعَةٌ): رفيعة السمك إذا أراد أن يجلس عليها صاحبها تواضعت له ثم ترفع (وَأَكوَابٌ) الكوب: إناء لا عروة له (مَّوْضُوعَةٌ) بين أيديهم (وَنَمَارِقُ): وسائد (مَصْفُوفَةٌ): بعضها بجنب بعض (وَزَرَابِيُّ): بسط

فاخرة (مَبْثُوثَةٌ): مبسوطة (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) لما كذب الكفار عجائب الجنة التي ذكرها الله في تلك السورة، فذكرهم الله صنعه، والإبل أغرب حيوان وأنفعه عند العرب، (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) بلا عمد (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ): راسخة لا تميل لئلا تميد الأرض بأهلها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ): بسطت، نبه العرب في بواديهم بما يشاهد من بعيره الذي هو راكب عليه، والسماء الذي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه والأرض التي تحته على كمال قدرة خايقه، فلا تنكر الجنة ونعيمها، والبعث وأهوالها (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) ما عليك إلا البلاغ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ): بمتسلط فتكرههم على الإيمان (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ): لكن مَنْ تَوَلَّى وكفر (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ): عذاب جهنم، أو الاستثناء متصل أي: فذكرهم إلا من انقطع طمعك من إيمانه نحو: " فذكر إن نفعت الذكرى " [الأعلى: 9]، وقيل: لست بمتسلط عليهم إلا على من تولَّى، فإن جهادهم وقتلهم تسلط، وعلى هذا يكون وعدًا برخصة القتال، فإن السورة مكية، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ): رجوعهم، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)، في المحشر، وتقدم الخبر للتخصيص والتشديد في الوعيد. والحمد لله المجيد الفعَّال لما يريد * * *

سورة الفجر

سورة الْفَجْرِ مكية وهي ثلاثون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي

إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) * * * ((وَالْفَجْرِ) أقسم سبحانه بالصبح، أو بصبح يوم النحر، أو بصلاة الفجر (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) عشر ذي الحجة، أو العشر الأول من المحرم، أو من رمضان (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يوم النحر شفع لأنه عاشر، ويوم عرفة وتر لأنه تاسع، أو اليومان من أيام التشريق، والوتر اليوم الثالث، أو الصلاة المكتوبة منها شفع، ومنها وتر، أو الخلق والله، والقول فيهما أكثر لكن الذي أوردناه ما اتفق عليه أكثر السلف والثلاث الأول منقول بالحديث أيضًا (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ): إذا يمضي، أو إذا يُسْرَى فيه كقولهم صلَّى المقامُ، والمراد ليلة المزدلفة، أو مطلق الليالي (هَلْ في ذَلِكَ): المقسم به من هذه الأشياء (قَسَمٌ): مقسم به (لذِي حِجْرٍ): عقل،

فالاستفهام للدلالة على استحقاقها، لأن يعظم بالإقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه، وتأكيده من طريق الكناية، أو في ذلك القسم قسم له، فللدلالة على أن ذوي العقول يؤكدون بمثله المقسم، فيدل على تأكيد القسم عليه أيضًا، وجواب القسم محذوف نحو: ليعذبن إن لم يومنوا، ويدل عليه قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) أي: عاد الأولى، يعني أولاده سموا باسم أبيهم، وهم الذين بعث الله فيهم هودًا فكذبوه، وأهلكهم " بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال " الآية [الحاقة: 6، 7] (إِرَمَ) عطف بيان لعاد على حذف مضاف، أي: سبط إرم، فإنهم أولاد عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح، أو عاد بن عوص بن إرم، أو اسم بلدتهم، أي: عاد أهل إرم علم قبيلة أو بلدة فلم ينصرف (ذاتِ العِمَادِ) هم سكان بيوت الشعر التي ترتفع بالأعمدة، أو طوال الأجسام على تشبيه قدهم بالأعمدة، أو أبنية بنوها (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ): مثل تلك القبيلة

للقوة وعظم التركيب، وفي الحديث (كان الرجل منهم يأتي على الصخرة، فيلقيها على الحي -أي: القبيلة- فيهلكهم)، وقيل: لم يخلق مثل أبنيتهم، وأما حكاية جنة شداد بن عاد المشهورة المذكورة فِي أكثر التفاسير فعند المحققين من السلف والمؤرخين أنها من مخترعات بني إسرائيل، ولا اعتبار له (وَثَمُودَ الذِينَ جَابُوا): قطعوا (الصَّخْرَ بالْوَادِ): وادي القرى كما قال تعالى: " وتنحتون من الجبال بيوتًا " الآية [الشعراء: 149] (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ): ذي الجنود الكثيرة، أو لأنه يعذب بالأوتاد، أو له جبال وأوتاد يلعب بها عنده (الذِينَ) صفة للمذكورين (طَغَوْا فِي البِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) الإضافة بمعنى من، أي: سوطًا من المعذب به، أي: نصيبًا أو شدة عذاب، فإن السوط عندهم غاية الإهانة (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) هو مكان يترقب فيه الرصد، وهذا تمثيل لإرصاده العباد بالجزاء، وأنَّهم لا يفوتونه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرصد خلقه فيما يعملون، قيل: هو جواب القسم، وما بينهما اعتراض (فَأَمَّا الإِنسَانُ) هو كالمبين لقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) لأنه لما ذكر أنه تعالى يرصد خلقه في أعمالهم يعد بعض ذمائمهم (إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) أي: امتحنه بالنعمة (فَأَكْرَمَهُ) بالمال

(وَنَعَّمَهُ) بالسعة (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) دخول الفاء في خبر المبتدأ، لما في (أما) من معنى الشرط، وإذا ظرف ليقول أي: أما الإنسان فيقول وقت ابتلائه بالغنى: ربي أكرمن (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ): اختبره بالفقر (فَقَدَرَ): ضيق (عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) أي: وأما هو فيقول وقت ابتلائه بالفقر: ربي أهانني (كَلَّا) ردع عن القطع بأن الغنى إكرام والفقر إهانة، فكثيرًا ما يكون بالعكس (بَل لا تُكْرِمون اليَتِيمَ) أي: بل فعلهم أقبح من قولهم (وَلاَ تَحَاضُّونَ): يحثون أهلهم (عَلَى طَعامِ المِسْكِينِ) أي: على إطعامه (وَتَأكُلُونَ التُّرَاثَ): الميراث (أَكْلًا لَمًّا): ذا لَمَّ، أي: جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء والصبيان (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا): كثيرًا مع الحرص (كَلَّا) ردع لهم عن ذينك وإنكار ثم أتى بالوعيد فقال: (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)، أي: دكا بعد دكة حتى سويت الأرض والجبال، فلمْ يبق تلال ولا وهاد، ظرف ليتذكر الإنسان (وَجَاءَ رَبُّكَ): لفصل

القضاء جيئة تليق بقدسه من غير حركة ونقلة (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) مصطفين محدقين بالجن والإنس (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهًّمَ) في صحيح مسلم (يؤتى بجهنم يومئذ

لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)، (يَوْمَئِذٍ)، بدل من " إذا دكت " (يَتَذكَّرُ الإنسَانُ) معاصيه، أو يتعظ ويندم (وَأَنَّى لَهُ) أي: أنى ينفعه فإن اللام للنفع (الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ): الأعمال الصالحة (لِحَيَاتِي): هذه، أو وقت حياتي في الدنيا (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) أي: لا يعذب أحد من الزبانية أحدًا، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل تعذيب الإنسان وإيثاقه فإن عذابه أشد، فضمير عذابه للإنسان والإضافة إلى المفعول، وهذا أرجح الوجوه لكن على هذا يلزم أن عذاب بعض الكفار أشد من عذاب الشياطين، فكأنه كذلك، وكذلك معنى يعذب، ويوثق على قراءة المجهول (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الُمطْمَئِنَّةُ) أي: يقول الله للمؤمن ذلك، المطمئنة: الساكنة الدائرة مع الحق، أو المطمئنة بذكر الله، أو الآمنة من عذاب الله (ارْجِعِي إِلَى ربِّكِ): إلى جوار الله، وثوابه، يقال لها ذلك عند الاحتضار، وعند البعث، وفيه إشعار بأن النفوس قبل الأبدان كانت موجودة في عالم القدس، وعن بعض من السلف معناه: ارجعى يا نفس إلى صاحبك، أي: بدنك الذي كنت فيه (رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً): عند الله (فَادْخلِي فِي عِبَادِي) أي: في زمرة الصالحين، الذين

هم عباد الله على الحقيقة (وَادْخُلِي جَنَّتِي) عن سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم نر على خلقته، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجًا منه، فلما دفن تليت عليه هذه الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها، رواه الطبراني عن غيره. والحمد لله حقَّ حمده. * * *

سورة البلد

سورة الْبَلَدِ مكية وهي عشرون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) * * * (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ): مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ) يعني: في المستقبل (بِهَذَا البَلَدِ): تقاتل فيه، وتصنع ما تريد من القتل، والأسر، فهذه جملة معترضة بوعده فتح مكة، وفي الحديث: (إنَّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض لم يحل لأحد قبلي ولا بعدي إنما أحلت لي ساعة من نهار، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) (1)، قيل: معناه: أقسم بمكة حال حلولك فيها، فيكون تعظيمًا للمقسم به (وَوَالِدٍ): آدم (وَمَا وَلَدَ): ذريته، أو إبراهيم وذريته، أو كل والد، وكل مولود، وعن ابن

_ (1) أخرجه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما.

عباسٍ وعكرمة: الوالد العاقر، وما ولد الذي يلد وإيثار ما على من لإرادة الوصف كما في وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ " [آل عمران: 36] (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ): تعب، يكابد مصائب الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون تسليته عليه السلام عما يكابده من قريش، أو في استقامة واستواء، وعن مقاتل: في قوة، قيل: نزلت في كافر قوي قد ذكرناه في سورة المدثر (أَيَحْسَبُ) الضمير لبعضهم (أَن لن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ): فينتقم منه، فإن الكفار لا يؤمنون بالقيامة والمجازاة، وعلى ما فسره مقاتل، فمعناه: لأنه مغرور بقوته، يظن أن لن يقدر عليه أحد، (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا): أنفقت مالاً كثيرًا، يفتخر بما أنفقه رياء وسمعة، أو معاداة للنبي عليه السلام (أَيَحْسَبُ أَن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ): يظن أن الله لم يره، ولا يسأله من أين كسبه وأين أنفقه (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما (وَلِسَانًا) يعبر به عما في ضميره (وَشَفَتَيْنِ) يستعين بهما على النطق والأكل، وغيرهما ويكون جمالاً (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ): طريقي الخير والشر، والثديين، روى الحافظ ابن عساكر عن النبي عليه السلام: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم إن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاء، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، فإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما، وجعلت لك لسانًا وجعلت له غلافًا، فانطق بما أحللت، فإن عرض لك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك، وجعلت لك فَرْجًا،

وجعلت له سترًا فأصب بفرجك ما أحللت لك، فإن عرض لك ما حرمت عليك، فأرخ عليك سترك يا ابن آدم إنك لا تحمل سخطي، ولا تطيق انتقامي) (فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ) اقتحم: دخل وتجاوز بشدة، جعل الأعمال الصالحة عقبة، وعملها اقتحامًا لها، لما فيه من مجاهدة النفس، أي: فلم يشكر تلك النعم بأعمال تلك الحسنات (ومَا أدرَاكَ مَا العَقَبَة) أي: لم تدْرِ كُنْهَ صعوبتها، وثوابها (فَكُّ رَقَبَةٍ) تفسير للعقبة، أي: تخليصها من الرق، وفي الحديث (من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار) (أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ) أي: ذي مجاعة، الناس محتاجون إلى الطعام (يَتِيمًا) مفعول طعام، أو تقديره: أطعم يتيمًا (ذَا مَقْرَبَةٍ): ذا قرابة منه (أَوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ): افتقار، هو من لا بيت له ولا شيء يقيه من التراب، أو ذو عيال، أو غريب فقير، وقراءة " فَكَّ " و " أَطْعَم " على الفعل فبدل من اقتحم، ولما كان حاصل معنى " فلا اقتحم العقبة " فلا فك رقبة، ولا أطعم يتيمًا أو مسكينًا، وقع لا موقعه فإنها قلما تدخل على الماضي إلا مكررة (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على اقتحم، أي: ولا كان من المؤمنين، وثم لتباعد رتبة الإيمان

عن العتق والإطعام (وَتَوَاصَوْا) أي: بعضهم بعضًا (بِالصَّبْرِ) على طاعة الله (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ): بالرحمة على العباد (أوْلَئِكَ) إشارة إلى الذين آمنوا في قوله: " من الذين آمنوا " أو إلى ضد من ذمه فإنه في حكم المذكور (أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ): اليمين، أو اليمن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المَشْئَمَةِ): الشمال، أو الشؤم (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ): مطبقة لا يدخل فيها رَوح، ولا يخرجون منها آخر الأبد. * * *

سورة الشمس

سورة الشَّمْسِ مكية وهي خمس عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) * * * (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) أي: ضوءها إذا أشرقت، وعن قتادة هو النهار كله (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا): تبع طلوعه طلوعها، وهو أول الشهر، أو غروبها، يعني:

حين كونه بدرًا (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) الضمير للشمس، فإنها تنجلي تامًّا إذا انبسط النهار، أو للظلمة وإن كانت غير مذكورة للعلم بها (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) أي: الشمس، فإنها تغيب في الليل، وتحقيق عامل مثل هذا الظرف قد مر في سورة التكوير عند قوله: " والليل إذا عسعس " [التكوير: 17]، فلا تغتر بما يرى بادي الرأي (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) أي: ومن بناها، والعدول إلى (ما) على الوصفية، والبلوغ في الغاية للإبهام فإن (ما) أشد إبهامًا (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا): ومن بسطها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا): من سوى خلقها، بتعديل الأعضاء، والقوى، ومنها المفكرة، أو خلقها مستقيمة على الفطرة القويمة، وفي صحيح مسلم: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) وتنكير نفس للتكثير نحو: (علمت نفسٌ) (فَأَلْهَمَهَا): علمها، وبين لها (فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وجاز أن يكون (الماءات) الثلاثة مصدرية، كما قال الفراء والزجاج، وقوله: " فألهمها " عطف على ما بعد ما كأنه قيل: ونفس وتسويتها فإلهامها فجورها، والمهلة فيها عرفية، ولا محذور (قدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا): من طهرها الله من الأخلاق الدنية، وتأنيث الضمير لأن (من) في معنى النفس، أو من طهر النفس، وإسناد الضمير إليه لقيامه به، والأول أرجح لما في الطبراني وغيره أنه عليه السلام إذا قرأ " فألهمها فجورها وتقواها " وقف ثم قال: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها)، وفي صحيح مسلم (إنه كان عليه السلام يدعوا بهذا الدعاء) وعن ابن عباس - رضي الله عنها -

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " قد أفلح من زكاها " أفلحت نفس زكاها الله عز وجل (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا): دسها الله، ونقصها وعدلها عن الهدى، وأصله دسسها كـ تقضَّى وتقضض، وهو جواب القسم بحذف اللام للطول، أي: لقد أفلح، أو هو استطراد بذكر بعض أحوال النفس، تابع لقوله: " فألهمها "، والجواب محذوف، أي: لَيُدَمْدِمَنَّ الله على كفار مكة إن لم يؤمنوا كما دمدم على ثمود (كَذبَتْ ثَمُودُ بِطَغوَاهَا) بسبب طغيانها (إِذِ انْبَعَثَ) أي: كذبت حين قام (أَشْقَاهَا) أشقى ثمود، عن عمار بن ياسر قالَ: قال عليه السلام لِعَلِيٍّ: (ألا أحدثك بأشقى الناس؟ قال: بلى، قال: رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا -يعني قرنه- حتى تبتل منه هذه- يعني لحيته-) (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ): صالح عليه السلام (نَاقَةَ اللهِ) نصب على التحذير، أي: احذروا عقرها (وَسُقْيَاهَا): وشربها في يومها، فإن لها شرب يوم، ولكم شرب يوم معلوم (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا): قتلوا الناقة (فَدَمْدَمَ): فأطبق العذاب (عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ): بسببه (فَسَوَّاهَا): فسوّى الدمدمة بينهم، ولم يفلت منهم أحد، أو فسوى ثمود بالإهلاك (وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا) أي: ولا يخافُ الله

عاقبة الدمدمة وتبعتها، كما يخاف الملوك فيبقى بعض الإبقاء، أو لا يخاف ذلك الأشقى عاقبة فعلته، والواو للحال. والحمد لله وحده. * * *

سورة الليل

سورة اللَّيْلِ مكية وهي إحدى وعشرون آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) * * * (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى): الخليقة بظلامه (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى): بَانَ وظهر (وَمَا خَلَقَ) أي: ومن خلق، وقيل: مصدرية (الذكَرَ وَالأنثَى) أي: صنفيهما، أو آدم وحواء (إِنَّ سعْيَكُمْ): مساعيكم (لَشَتَّى) أي: أشتات مختلفة وأعمالكم متضادة، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى): ماله لوجه الله (وَاتَّقَى): محارمه (وَصَدَّقَ

بالْحُسْنَى): بالمجازاة وأيقن أن الله سيخلفه، أو بالكلمة الحسني، وهي كلمة التوحيد، أو بالجنة (فَسَنُيَسِّرُهُ) في الدنيا (لِلْيُسْرَى): للخلة التي توصله إلى اليسر، والراحة في الآخرة، يعني للأعمال الصالحة، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ): بالإنفاق في الخيرات، (وَاستَغنَى): بالدنيا عن العقبى، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ)، في الدنيا، (لِلْعُسْرَى): للخلة المؤدية إلى الشدة في الآخرة، وهي: الأعمال السيئة، ولهذا قالوا: من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها، (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى): هلك، أو سقط وتردى في جهنم، (إِنَّ عَلَيْنَا)، أي: واجب علينا بمقتضى حكمتنا، (لَلْهُدَى): للإرشاد إلى الحق، أو طريقة الهدى علينا فمن سلكها وصل إلينا، (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى)، فنعطي ما نشاء لمن نشاء، ومن طلب من غيرنا فقد أخطأ، (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى): تتلهب، وفي الصحيح (إن أهون أهل النار عذابًا رجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه) (لَا يَصْلَاهَا): لا يلزمها مقاسيًا شدتها، (إِلَّا الْأَشْقَى): الكافر، (الذِي كَذَّبَ): بالحق، (وَتَوَلى): عن الطاعة، وفي الحديث: (لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن هو؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة، ولا يترك لله معصية)

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى): الذي اتقى عن الشرك والمعصية فلا يدخلها أصلاً، وأما من اتقى الشرك وحده فيمكن أن يدخلها، لكن لا يصلاها ولا يلزمها، (الذِي يُؤْتِي مَالَهُ): يعطي ماله ويصرفه في طاعة الله، (يَتَزَكَّى): يطلب تزكية نفسه وماله، بدل، أو حال، (وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى): فيقصد بإيتائه مجازاتها، (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى)، أي: لكن يؤتي لطلب مرضاة الله، (وَلَسَوْفَ يَرْضَى): من ربه حين يدخله في رحمته، وعن كثير من المفسرين: إن هذه السورة في الصديق - رضي الله عنه -

وهو الأتقى، وأمية بن خلف هو الأشقى، فيكون الحصر ادعائيًا لا حقيقيًّا، لأن غير هذا الأشقى غير ضال وغير هذا الأتقى غير مجنب بالكلية. والحمد لله على كل حال * * *

سورة الضحى

سورة الضُّحَى مكية وهي إحدى عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) * * * (وَالضُّحَى): وقت الضحى، وهو صدر النهار، أو المراد النهار، (وَالليْلِ إِذَا سجى): سكن ظلامه، أو سكن أهله، (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ)، جواب القسم، أى: ما تركك ترك المودع، (وَمَا قَلَى): وما أبغضك، وحذف المفعول للعلم به، رعاية لفواصل الآي، اشتكى عليه السلام، فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتت امرأة قيل امرأة أبي لهب، وقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك، فنزلت، أو لما تأخر الوحي خمسة عشر يومًا أو أقل أو أكثر، قال المشركون: إن محمدًا قد قلاه ربه، لما رد الله كلام المشركين، ودفع عنه ما يسوءه، وعد له ما يسره فقال: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)، في الحديث (إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا)،

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، عن ابن عباس أعطاه في الجنة ألف قصر، في كل منها ما ينبغي له من الأزواج والخدم، وعنه من رضاه عليه السلام أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وعن الحسن وغيره المراد الشفاعة، واللام لام التأكيد عند ابن الحاجب لا لام الابتداء، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ، ويكون تقديره: ولأنت سوف يعطيك، (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)، عدد عليه أياديه من أول نشئه، والمنصوبان مفعولا يجد، لأنه بمعنى العلم، أو الثاني حال، وهو بمعنى المصادفة، أي: فآواك ورباك وضمك إلى عمك، وهو مع كفره رعاك وحماك، (وَوَجَدَكَ ضَالًّا): جاهلاً، (فهَدَى): فعلمك، (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) الآية [الشورى: 52]، وقيل: ضل في شعاب مكة وهو صغير، فهداه، وقيل: أضله إبليس في طريق الشام عن الطريق في ليلة ظلماء، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة، ورده إلى القافلة، (وَوَجَدَكَ عَائِلًا): فقيرًا ذا عيال، (فأَغنَى): فأغناك بمال خديجة - رضي الله عنها -، ثم بالغنائم، أو فأغناك عمن سواه فجمع له بين مقامَي الفقير الصابر والغني الشاكر، (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) كما كنت يتيمًا فآواك الله، كن لليتيم كالأب الرحيم (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) كما كنت جاهلاً فعلمك، لا تزجر سائلاً مسترشدًا طَالب علم، ولما هداك إلى ما هو روحك لا تزجر من يطلب منك قوت بدنه، (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، فاشكر مولاك الذي أغناك، فإن من شكر النعم أن يحدث بها، ومن كفرها أن

يكتمه، " ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله " (1)، أو ما جاءك من النبوة فحدث بها وادع إليها، أو من القرآن فاقرأه أو بلغه، أو ما عملت من خير فحدث إخوانك ليتابعوك، وجاز أن يكون نشرًا مشوشًا، ويكون " أما بنعمة ربك فحدث " في مقابلة هدية الله له بعد الضلال، والمراد من التحديث تعليم الشرائع والقرآن، وكيفية العبادة والدعوة إلى الإيمان، والسنة التكبير بلفظ الله أكبر، أو بزيادة لا إله إلا الله والله أكبر، من آخر والضحى، أو من آخر الليل إلى آخر القرآن، ونقل عن الشافعي: أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال له: أحسنت وأصبت السنة. * * *

__ (1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وهذا المعنى رواه أبو داود أيضًا.

سورة الانشراح

سورة الانشراح مكية وهي ثمان آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) * * * (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، أي: فسحناه ونورناه ووسعناه بالنبوة والحكمة، أو إشارة إلى شق صدره في صباه، وإخراج الغل والحسد وإدخال الرأفة والرحمة، والحكاية مشهورة، والهمزة لإنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته، (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ): غفرنا لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أو الخطأ والسهو، (الذِي أَنقَضَ): أثقل، (ظَهْرَكَ)، كأن الذنوب حمل يثقل الظهر، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، " في الدنيا والآخرة، إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ معي، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ)، كضيق الصدر، والوزر، (يُسْرًا)، كالشرح، والوضع، والتنكير للتعظيم، (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، جاز أن يكون هذا تأكيدًا، أو جاز أن يكون تأسيسًا مستأنفًا

، وهو راجح لفضل التأسيس عليه، وكلام الله محمول على أبلغ الاحتمالين، كيف لا والمقام مقام التسلية، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يغلب عسر يسرين "، وذلك لأن المعرف المعاد عين الأول، والنكرة المعادة غيره وذكر أن " مع " للمبالغة في اتصال اليسر به اتصال المتقاربين، (فَإِذَا فَرَغْتَ): من أمور دنياك، أو من التبليغ، أو من الجهاد، (فَانْصَبْ): فاتعب في العبادة، أو من صلاتك واتعب في الدعاء، فإن الدعاء بعد الصلاة مستجابة، (وَإِلَى رَبِّكَ): وحده، (فَارْغَبْ): بالسؤال، أو اجعل نيتك في العبادة خالصة. والحمد للهِ. * * *

سورة التين

سورة التِّينِ مكية وهي ثمان آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) * * * (وَالتِّينِ): هو المعروف، خص من بين الفواكه لأنه يشبه فواكه الجنة من حيث إنه بلا عجم، (وَالزَّيْتُونِ)، خصه، لأنه شجرة مباركة نور وفاكهة وإدام، والأول: اسم مسجد دمشق، أو الجبل الذي عندها، والثاني: مسجد بيت المقدس، (وَطُورِ سِينِينَ): الجبل الذي كلم الله عليه موسى، قيل معنى سينين: المبارك بالسريانية، وقد مر شرحه في " وشجرة تخرج من طور سيناء " الآية [المؤمنون: 20]، (وَهَذا البَلَدِ الأَمِينِ): أمانته أن يحفظ من دخله، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه، فهو من آمن، أو المأمون من الغوائل، فهو من أمنه، والمراد: مكة، وعن كثير من العلماء أقسم بمحال ثلاثة، بعث الله في كل واحد نبيًا من أولي العزم، فالأول: كناية عن بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى، والثاني: طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى، والثالث: البلد الحرام الذي أرسل فيه نبينا محمد - عليه وعليهم الصلاة

والسلام (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ): تعديل لشكله، وتسوية لأعضائه، وتزيين بعقله، (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، إلى النار في شر صورة، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، استثناء متصل، وهو كقوله: " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا " [العصر: 1 - 3]، لفظًا ومعنى، وعن ابن عباس، وبعض آخر: المراد من أسفل سافلين أرذل العمر، فيكون الاستثناء منقطعًا، أي: لكن المؤمنين العاملين، (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير منقطع على طاعتهم، ويكتب لهم مثل ما كانوا يعملون في الشباب، وإن لم يعملوا في الهرم، (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ):. فأي شيء يحملك يا إنسان على هذا الكذب، ويجعلك كاذبًا بعد هذه الأقسام الأكيدة، أو الدليل الذي هو خلق البداءة في صورة حسنة، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة، (بِالدِّينِ): بسبب الجزاء وإنكاره، يعني: أيُّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبًا بسبب تكذيب الجزاء؟ فالاستفهام للتوبيخ، أو معناه، أيُّ شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل بالجزاء والبعث؟ فالاستفهام لإنكار شيء يكذبه دلالة ونطقًا، (أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحَاكمِينَ): عدلاً وتدبيرًا لا ظلم ولا عجز له بوجه، فلا محال ويقدر على البعث والجزاء، ولابد منهما، والسنة إذا قرأ " أليس الله بأحكم الحاكمين " أن يقال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. * * *

سورة العلق

سورة العلق مكية وهي تسع عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) * * * (اقْرَأْ) أي: القرآن (بِاسْمِ) أي: مفتتحًا باسم (رَبِّكَ الذي خَلَقَ) أي: الخلائق (خَلَقَ الإِنسَانَ): الذي هو أشرف المخلوقات (مِنْ عَلَقٍ): جمع علقة، جمعه لأن الإنسان في معنى الجمع (اقْرَأْ) تكرير للمبالغة (وَربُّكَ الأَكْرَمُ): الزائد في الكرم على كل كريم بنعم على العباد، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم، وتناهي جحودهم (الَّذِي عَلَّمَ): الحظ الذي هو من جلائل النعم (بِالْقَلَمِ

عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) أي: ما لا يقدر على تعلمه لولا تعليم الله، وقد صح أن هذه السورة إلى هذه الآية، أول آيات نزلت في جبل حراء (كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمه بسبب طغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه (إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى): ليتجاوز عن حده (أَنْ رآهُ): رأى نفسه، لولا أن الرؤية بمعنى العلم، لامتنع أن يكون مرجع المفعول مرجع ضمير الفاعل (استَغنَى) أي: رأى نفسه غنيًّا ذا مال، وهو ثاني مفعولي رأى (إِنَّ إِلَى ربِّكَ) يا إنسان، التفات للتهديد (الرُّجْعَى): الرجوع فيجازي طغيانك (أَرَأَيْتَ الذِي يَنْهَى) أي: أبا جهل (عَبْدًا): هو أشرف العباد - صلى الله عليه وسلم - (إِذَا صَلَّى) قال عليه اللعنة: لئن رأيته ساجدًا لأطأن على عنقه (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى) أخبرني، يا من له أدنى تمييز عن حال من ينهى عبدًا من العباد إذا صلى، إن كان على طريقة سديدة في نهيه عن عبادة الله، أو كان آمرًا بالتقوى، فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم، ألم يعلم بأن الله يرى حاله، فيجازيه؟ أخبرني عن هذا الذي ينهى المصلى إن كان على

التكذيب للحق، والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن، ألم يعلم بأن الله يرى فيجازيه، فعلى هذا " أرأيت " الثاني تكرار للأول للتأكيد، وأما الثالث فمستقل للتقابل بين الشرطين، وحذف جواب الأول لدلالة " ألم يعلم " الذي هو جواب الثالث عليه عند من يجوز أن يكون الإنشاء جوابًا للشرط بلا فاء، وعند من لم يجوز يكون جواب الأول والثالث محذوفًا بقرينة " ألم يعلم "، أو " أرأيت " الأولى فأختاها متوجهات إلى " ألم يعلم "، وهو مقدر عند الأوليين، والحذف للاختصار، أو معناه ما أعجب ممن ينهى عبدًا عن الصلاة، إن كان المنهي على الهدى آمرًا بالتقوى، والناهي مكذب متولي، أو معناه أخبرني إن كان الكافر على الهدى، أو آمرًا بالتقوى، أما كان خيرًا له؟ أو معناه أخبرني يا كافر إن كان المنهي على الهدى في فعله، أو آمرًا بالتقوى في قوله، فما ظنك وأنت تزجره؟ وعلى هذين الوجهين جواب الشرط الثاني فقط قوله: " ألم يعلم "، (كلَّا)، ردع للناهي، (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ)، عما هو فيه، (لَنَسْفَعًا): لنأخذن، وكتابتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، (بِالنَّاصِيَةِ): بناصيته، فلنجرنه إلى النار، (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)، بدل من الناصية أسند الكذب والخطأ إليها، وهما لصاحبها مجاز المبالغة، (فَلْيَدْعُ

نَادِيَهُ): أهل ناديه، يعني: قومه وعشيرته فليستعن بهم، (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ): ملائكة العذاب ليجروه إلى النار، قال عليه اللعنة: واللات والعزى، لئن رأيته يصلي لأطأن على رقبته، فلما رآه جاءه فإذا نكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه خندقًا من نار، وهولاً وأجنحة، فقال عليه السلام: " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا "، (كَلَّا)، أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل، (لاَ تُطِعْهُ): يا محمد ودم على طاعتك، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ): ودم على السجود والتقرب إلى الله حيث شئت، ولا تباله. والحمد لله * * *

سورة القدر

سورة الْقَدْرِ مكية وهي خمس آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) * * * (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ)، أي: القرآن، (فِي لَيْلَةِ القَدْرِ): لعظمة شأنها، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ منْ أَلْفِ شَهْرٍ)، أي: من ألف شهر ليس فيها تلك الليلة، والعمل في تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولذلك ثبت في الصحيحين (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) نزلت، حين ذكر عليه السلام " رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب الصحابة من ذلك " فأعطوا ليلة خيرًا من مدة ذلك الغازي، والأصح أنها من خصائص هذه الأمة، وأنَّهَا في رمضان، وأنَّهَا في العشر الأواخر،

وأنها في أوتارها، وأنَّهَا تختلف في السنين جمعًا بين الأحاديث، ولا خلاف بين السلف في أنها باقية إلى يوم القيامة، سميت بها لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام إلى السنة المقبلة، أو لمنزلتها وقدرها عند الله، (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ): جبريل، أو ضرب من الملائكة، (فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)، مع نزول البركة، والرحمة، قال عليه السلام: (الملائكة في الأرض في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى)، وعن كعب الأحبار: (لا يبقى بقعة إلا وعليها ملك يدعو للمؤمنين، والمؤمنات، سوى كنيسة، أو بيت نار، أو وثن، أو موضع فيه النجاسات، أو السكران، أو الجرس، وجبريل لا يدع أحدًا إلا صافحه فمن اقشعر جلده ورق قلبه، ودمعت عيناه فمن أثر مصافحته، (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، أي: تتنزل من أجل كل أمر قُدِّر في تلك السنة، (سَلامٌ هِيَ)، ليس هي إلا سلامة لا يقدر فيها شر وبلاء، أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا، أو ما هي إلا سلام لكثرة سلام الملائكة على أهل المساجد، وعن مجاهد: سلام هي من كل أمر وخطر، (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، غاية تبين تعميم السلامة، أو السلام كل الليلة، أي: وقت طلوعه، والمطلِع بالكسر أيضًا مصدر كالمرجع، أو اسم زمان كالمشرق على خلاف القياس، ويستحب أن يكثر فيها من قول اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني. والحمد للهِ. * * *

سورة البينة

سورة الْبَيِّنَةِ مختلف فيها وهي ثمان آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) * * * (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ): اليهود والنصارى، (وَالْمُشْرِكِينَ): عبدة الأوثان، (مُنفَكينَ): عن كفرهمَ، (حَتَّى تَأتِيَهُمُ البَيِّنَة)، أي: الرسول

أتاهم بالقرآن، فبين ضلالتهم فدعاهم إلى الإيمان، فآمن بعضهم، (رَسُولٌ مِنَ اللهِ)، بدل من البينة، (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً)، أي: ما في الصحف المطهرة، فإنه مكتوب في الملأ الأعلى في الصحف كما مر في سورة عبس، (فيهَا): في الصحف المطهرة، (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ): مكتوبات، مستقيمة، لا خطأ فيها، (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)، أي: تفرقهم واختلافهم، بعدما أقام الله عليهم الحجج، فإنهم اختلفوا فيما أراده الله من كتبهم، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران: 105]، وفي الحديث: (اختلف اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة، هي ما أنا عليه وأصحابي)، أو معناه: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد عليه السلام حتى بعثه الله، فلما بعث تفرقوا فآمن بعض، وكفر أكثرهم، (وَمَا أُمِرُوا)، أي: بما في الكتابين، (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، أي: إلا لأجل عبادة الله على هذه الصفة نحو (وَمَا أَرْسَلْنَا

مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]، (حُنَفَاءَ): مائلين عن كل دين باطل، (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)، عطف على يعبدوا، (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)، لكنهم حرفوه، (وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ): أي دين الملة والشريعة المستقيمة، وقيل: هي جمع القيم، أي: دين الأمة القائمة لله، (إِنَّ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، أي: يوم القيامة، (أوْلَئِكَ هُمْ شرُّ البَرِيَّةِ): الخليقة، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ)، استدل أبو هريرة، وطائفة من العلماء على تفضيل أولياء الله من المؤمنين على الملائكة بهذه الآية، (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)، فيه مبالغات لا يخفى على المتأمل، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)، استئناف، بما حصل لهم زيادة على جزائهم، (وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ)، أي: هذا الجزاء، (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)، فاتقاه حق تقواه، وإنما يخشى الله من عباده العلماءُ. * * *

سورة الزلزال

سورة الزلزال مكية وقيل مدنية وهي ثمان آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) * * * (إِذَا زُلْزِلَتِ): حركت، (الأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، المقدر لها عند النفخة، (وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا): من الأموات، والكنوز، وألقاها من جوفها على ظهرها، (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)، تعجبًا من تلك الحالة، (يَوْمَئِذٍ)، بدل من إذا، وناصبها تحدِّث، أو عامل إذا مضمر نحو: اذكر، وعامل يومئذ تحدث، (تُحَدِّثُ): الأرض الخلق بلسان القال،، (أَخْبَارَهَا)، وفي الترمذي،

والنسائي " قرأ عليه السلام هذه الآية قال: إن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا "، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، أي: تحدث بسبب إيحاء الرب، وأمره بالتحديث، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ): يرجعون عن موقف الحساب، (أَشْتَاتًا): متفرقين أصنافًا، وأنواعًا ما بين شقي وسعيد، (ليُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)، أي: جزائها، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ): وزن نملة صغيرة، أو ما يرى في الشمس من الهباء، (خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، عن ابن مسعود رضي الله عنه: هذه أحكم آية في كتاب الله، وكان عليه السلام يسميها " الفاذة الجامعة "، وفي إحباط بعض أعمال الخير، والعفو عن بعض أعمال الشر، إشكال، اللهم إلا أن يقال: الآية مشروطة بعدم الإحباط، والعفو، وما ذكره النسائي، وابن ماجه إنه لما نزلت قال أبو بكر: إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال عليه السلام: " ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة "، فلا يخلو عن إشكال لأن قوله: " فمن يعمل " مترتب على قوله: " يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ "، فالظاهر

أن رؤية جزاء الأعمال في الآخرة لا في الدنيا، اللهم إلا أن يقال: قد تم الكلام عند قوله: " ليروا أعمالهم "، وقوله: " فمن يعمل " ابتداء كلام وحكم على حياله، وعن سعيد بن جبير: كان المسلمون يرون أنَّهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أن لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة، والنظرة، والغيبة وأشباهها، فرغبهم الله في القليل من الخير، وحذرهم عن القليل من الشر، فنزلت: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) إلخ. والحمد لله. * * *

سورة العاديات

سورة الْعَادِيَاتِ مختلف فيها وهي إحدى عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) * * * (وَالْعَادِيَاتِ)، أقسم بالخيول التي تعدو في سبيل الله، (ضَبْحًا): تضبح ضبحًا، أو ضابحات، وهو صوت نفسه عند العدو، (فَالْمُورِيَاتِ): الخيول، التي توري النار بحوافرها، (قَدْحًا): صاكَّات بحوافرها الحجارة، (فَالْمُغِيرَاتِ): تغير على العدو، (صُبْحًا): في وقته، (فَأَثَرْنَ بِهِ): هيجن، (نَقْعًا): غبارًا، (فَوَسَطْنَ): توسطن، (بِهِ): بذلك الوقت، (جَمْعًا): من الأعداء، وعن علي رضي الله عنه: المراد الإبل حين تعدو من عرفة إلى مزدلفة، ثم جماعة توقدون

النار في مزدلفة، ثم المسرعات منها إلى منى فإنها في الصبح، ويكون الإغارة سرعة السير، ثم إثارة النقع في الطريق، ثم التوسط متلبسات بالنقع في الجمع، وهو اسم مزدلفة، وعلى هذا الضبح الذي هو للفرس مستعار للإبل، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ)، أي: لنعم ربه، (لَكَنُودٌ): لكفور، (وَإِنَّهُ): الإنسان، (عًلَى ذلِكَ): على كنوده، (لَشَهِيدٌ): يشهد على نفسه بلسان حاله، أو وعيد من الله، أي: إن الله على كنوده لشهيد، (وَإِنَّهُ): الإنسان، (لِحُبِّ الخَيْرِ): لأجل حب المال، (لَشَدِيدٌ): بخيل، أو لقوي بالغ، (أَفَلاَ يَعْلَمُ): الله، (إِذَا بُعْثِرَ): بعث، ظرف " يعلم "، (مَا فِي القُبُورِ): من الموتى، (وَحُصِّلَ)، أي: أظهر محصلاً، (مَا في الصُّدُورِ)، من الخير والشر، أجرى العلم مجرى اللازم، أي: أليس له العلم الكامل بما عليه الأمر في ذلك اليوم؟ ثم يؤكد ذلك بقوله: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ): هو يوم القيامة، (لَخَبِيرٌ). لعالم فيجازيهم. والحمد للهِ. * * *

سورة القارعة

سورة الْقَارِعَةِ مكية وهي إحدى عشرة آية * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) * * * (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ)، مبتدأ وخبر، أي: القارعة ما هي؟ كما مر في سورة الحاقة، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ)، ظرف لما دل عليه القارعة، أي: تقرع يوم، (يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ): في الذلة، والاضطرار، والتطاير إلى الداعي، كتطاير الفَرَاش إلى النار، (وَتَكُونُ الجبَالُ كَالْعِهْنِ): كالصوف، (المَنفُوشِ): المندوف، في خفة سيرها وتطايرها، (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ): بترجيح قدر الحسنات، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ): عيش، (رَّاضيَةٍ): ذات رضي، (وَأَمَّا مَنْ خَفتْ مَوَازِينُهُ): بأن ترجحت سيئاته، (فَأُمُّهُ): َ مأواه، أو أم رأسه، فإنه يطرح فيها منكوسًا، (هَاوِيَةٌ)، من أسماء جهنم، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ)، الضمير للهاوية، والهاء للسكت، (نَارٌ حَامِيَةٌ): ذات حرارة شديدة فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزء. اللهم أجرنا منها. * * *

سورة التكاثر

سورة التَّكَاثُر مكية وهي ثمان آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) * * * (أَلْهَاكُمُ): شغلكم، (التَّكَاثُرُ): المباهات بكثرة الأموال والأولاد عن طلب الآخرة، (حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ) أي: تمادى بكم إلى أن متم، وقبرتم، وفي الحديث: (حتى زرتم المقابر: حتى يأتيكم الموت)، وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه " ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " وعن عمر بن عبد العزيز حين قرأ ذلك قال: ما أدري المقابر إلا زيارة، وما للزائر إلا أن يرجع إلى منزله إلى جنة أو نار، وعن بعض معناه: تكاثرتم بالأحياء، حين قلتم: نحن أكثر عددًا وخدمًا وعشيرة، حتى إذا استوعبتم عددهم، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات، بأن قلتم: هؤلاء قبور خدمنا، وعشائرنا، وأقاربنا، (كَلَّا)، ردع عن الاشتغال بما يضره عما ينفعه، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ)، خطأ ما أنتم عليه، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ

تَعْلَمُونَ)، تكرير للتأكيد، وثم للدلالة على أن التالي أبلغ، (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ)، ما سترجعون إليه، (عِلْمَ اليَقِينِ): علمًا يقينًا، من غير تذبذب، لما ألهاكم شيء عن طلب الآخرة، فجواب " لو " محذوف، (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)، جواب قسم محذوف تأكيد للوعيد، (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا)، تكرير للتأكيد، (عَيْنَ اليَقِينِ)، أي: الرؤية التي هي نفس اليقين، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ): عن شكر ما أنعم الله به عليكم من لذات الدنيا، وفي مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما أنه عليه السلام أكل مع أبي بكر، وعمر رطبًا وماء باردًا، فقال: (هذا من النعيم الذي تسألون عنه)، وفي الحديث: (يُسئل عن كل شيء إلا من ثلاثة خرقة كف بها الرجل عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو جحر يدخل فيه من الحر والقر) وكلام جمهور السلف على أن السؤال عام. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة العصر

سورة الْعَصْرِ مكية وهي ثلاث آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) * * * (وَالْعَصْرِ)، أي: الدهر، أو بصلاة العصر، أو بوقته، (إِنَّ الْإِنْسَانَ): كلهم، (لفِي خُسْرٍ)، في مساعيهم، (إِلا الذِينَ آموا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فإنهم فازوا، وربحوا، لأنهم اشتروا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية، (وَتَوَاصَوْا): أوصى بعضهم بعضًا، (بِالْحَقِّ): بالقرآن أو بما هو الخير، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): على المصائب، أو عن

المعاصي، يعني: يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويحكى عن بعض الأكابر أنه قال: فهمت معنى سورة " والعصر " عن بائع ثلج، يقول: ارحموا على من رأس ماله يذوب. اللهم وفقنا لمرضاتك. * * *

سورة الهمزة

سورة الهُمَزَة مكية وهي تسع آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) * * * (وَيْل لِّكُلِّ هُمَزَةٍ): من اعتاد يكسر أعراض الناس (لمَزَةٍ): من اعتاد بالطعن فيهم، وعن بعض السلف الأول: العيب بالغيب، والثاني في الوجه، وقيل: باللسان، وبالعين، والحاجب، نزلت في الأخنس بن شريق، أو غيره، وعن مجاهد: هي عامة (الذِي جَمَعَ مَالًا) بدل من كل، أو منصوب، أو مرفوع بالذم (وَعَدَّدَهُ): عده مرة بعد أخرى، أو جعله عدة وذخيرة للنوازل (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ): لفرط غروره واشتغاله بالدنيا وطول أمله، لا يخطر الموت بباله، فيعمل أعمال من يظن الخلود (كَلَّا) ردع له عن حسبانه (لَيُنْبَذَنَّ): ليطرحن (في الحُطَمَةِ): من أسماء جهنم، لأنها يحطم، ويكسر (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ): أوقدها الله (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ): تعلو على أوساط قلوبهم، فإنها ألطف ما في

البدن، وأشد تألمًا، وعن كثير من السلف: تأكل كل جسده، حتى بلغت فؤاده جدّد خلقه (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) أي: موثقين في عمد ممدودة يعني: أرجلهم، وأيديهم في حديد كالعمود طويل، هو حال من ضمير (عليهم). والحمد للهِ. * * *

سورة الفيل

سورة الْفِيلِ مكية وهي خمس آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) * * * (أَلَمْ تَرَ) يا محمد، جعل مشاهدة آثارها وسماع أخبارها بمنزلة الرؤية (كَيْفَ فَعَلَ) نصب كيف بفعل (رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) في تخريب

الكعبة (في تَضْلِيلٍ): في تضييع (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ): جماعات جمع إبالة، وهي الحزمة الكبيرة (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ): من طين متحجر، معرّب سنككل (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ): َ ورق زرع (مَأْكُولٍ): أكلته الدواب ورَاثَتْهُ، أو وقع فيه الإكال، وهو أن يأكله الدود، وقصته أن ملك اليمن أبرهة بنى كنيسة، وأراد صرف الحج إليها، فقصدها بعض قريش، وأحدث فيها، فلما رأى السدنة ذلك الحدث، أخبروا الملك بأن ليس هذا إلا من قريش غضبًا لبيتهم، فتوجه الملك لتخريب الكعبة انتقامًا، ومعه فيل عظيم اسمه محمود، وقيل: معه فيلة أخرى، فلما وصلوا قرب مكة تهيئوا للدخول، أرسل الله طيرًا من البحر، أمثال الخطاطيف مع كل في منقاره ورجليه ثلاثة أحجار، أصغر من حمصة، فرمتهم، فإن وقع الحجر على رأس رجل خرج من دبره، فهلكوا على بكرة أبيهم. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة قريش

سورة قُرَيْشٍ مكية وهي أربع آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) * * * (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) عن بعض من السلف: إنه متعلق بالسورة التي قبلها، أي: أهلكهم فجعلهم كعصف مأكول ليبقى قريش، وما ألفوا من الرحلتين، وهما في مصحف أُبيٍّ سورة واحدة (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ): رحلة في الشتاء، ورحلة نصب بإيلافهم (وَالصَّيفِ): ورحلة في الصيف، أطلق الإيلاف، ثم أبدل المقيد عنه للتعظيم (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) الأظهر أن يتعلق لإيلاف، بقوله: (فليعبدوا)، والفاء لما فيه من معنى الشرط، أي: إن لم يعبدوه لسائر نعمه عليهم، فليعبدوا لأجل إيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن، والصيف إلى الشام يتجرون، ويتنعمون، وهم آمنون في رحلتيهم، لا يتعرض عليهم أحد بمكروه، لأنَّهُم أهل بيت الله (الذِي

أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ): عظيم أكلوا فيها الجيف (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ): عظيم، أبناء جنسهم واقعون فيه، فإن الناس غيرهم في حواليهم يغار عليهم، وحاصله أن الله مَنَّ عليهم بالأمن والرخص. والحمد للهِ. * * *

سورة الماعون

سورة الْمَاعُون مكية وقيل مدنية وهي سبع آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) * * * (أَرَأَيْتَ) الاستفهام للتعجب (الذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ): بالجزاء والبعث (فَذَلِكَ) يعني: التكذيب بالدين، هو الذي يحمله على تلك المساوئ (الذِي يَدُعُّ): يدفع دفعًا عنيفًا (اليَتيمَ) عن ابن عباس: هو بعض المنافقين (وَلَا يَحُضُّ): لا يرغب (عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) أي: على إطعامه فضلاً عن أن يطعمه هو (فَوَيْلٌ للْمُصَلِّينَ) أى: لهم، وضع موضِع الضمير، للدلالة على معاملتهم مع الخلق والخالق (الذينَ هُمْ عَن صَلاتهمْ سَاهُون) أي: التزموا بالصلاة علانية، ويتركونها بالسر (الذِينَ هُم يُرَاءُونَ): يصلون في العلانية، لأجل أن يظن فيهم الإسلام (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ): ولا يعطون الزكاة، أو يمنعون عارية القدر، والفأس، والدلو،

والملح، والنار، وأمثال ذلك سيما زكاة المال، وعن بعض المراد من الذي يدع اليتيم، رجل خاص من قريش، فعلى هذا ليس المراد من قوله: " فويل للمصلين " هو الذي يدع لأنه ليس من أهل الصلاة، بل لما عرف المكذب بمن هو يدفع اليتيم زجرًا لأن يحترز عنه، وعن فعله ذكر استطرادًا ما هو أقبح، يعني: إذا كان عنف اليتيم، وترك إطعام الطعام بهذه المثابة، فما بال المصلي الذي هو ساه عن صلاته، فالاحتراز عنه وعن فعله أولى وأولى. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الكوثر

سورة الْكَوْثَرَ مكية أو مدنية وهي ثلاث آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) * * * (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) في الأحاديث الصحاح (هو نهر في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم، فأقول: ربِّ إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، وعن أكثر السلف هو الخير الكثير، ومنه ذلك النهر، والنبوة والقرآن، وعن عطاء: هو حوض في الجنة (فَصَلِّ لِرَبِّكَ): دم عليها مخلصًا شكرًا لما أعطيناك (وَانْحَرْ) أي: البدن ونحوه على اسمه وحده،

بخلاف ما عليه المشركون من السجود لغير الله، والذبح على غير اسمه (إِنَّ شَانِئَكَ): مبغضك وعدوك، يا محمد (هُوَ الْأَبْتَرُ): الأقل الأذل، الذي لا عقب له المنقطع ذكره، نزل في بعض من المشركين يقول: دعوا محمد فإنه أبتر، فإذا هلك انقطع ذكره، وقد روي أنه إذا مات ابناه عليه وعليهما السلام قالوا: بتر محمد، فقال الله: أعداؤك متصفون بما قالوا فيك، وما أنت إلا باقٍ ذريتك الكرام إلى يوم القيامة، وحسن ثنائك على رءوس الأشهاد إلى يوم التناد. والحمد لله. * * *

سورة الكافرون

سورة الْكَافِرُونَ مكية وهي ست آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) * * * (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) نزلت حين قال رهط من قريش: هلم يا محمد تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، ونشركك في أمرنا كله (لاَ أَعبدُ): في المستقبل، فإن (لا) على المضارع للاستقبال (مَا تَعبدُونَ): في الحال (وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ): في المستقبل (مَا أَعبدُ): في الحال وذكر (ما) هاهنا للمطابقة، أو لأن المراد، ما أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق (وَلاَ أَنا عَابدٌ): في الحال، أو قط (مَا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ): في الحال، أو قط (مَا أَعبدُ) لم يقل ما عبدت لأنه لم يطابق المقام؛ لأنَّهُم ينكرون ما هو عليه بعد النبوة، ويعتقدونه ويعظمونه قبلها، وعن بعض العلماء: إن المراد من لا أعبد نفي الفعل، ومن لا أنا عابد نفي الوقوع والإمكان، فلا تكرار، وعن بعض هو تكرار وتأكيد على طريقة أبلغ، فإن الثاني جملة اسمية، وعن بعض: (ما) في الأخيرين مصدرية، أي: ولا أنا عابد، وتابع عبادتكم وطريقتكم، ولا أنتم مقتدون عبادتي وطريقتي، ولهذا قال: (لَكُمْ دِينُكُمْ): الكفر (وَلِيَ دِينِ): الإسلام، لا تتركونه، ولا أترك، وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنَّهم لا يؤمنون. * * *

سورة النصر

سورة النصر مدنية وهي ثلاث آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) * * * (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ) أي: لك على أعدائك (وَالْفَتْحُ): فتح مكة، فسر به جمهور السلف (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ) هو حال إن جعلت رأيت بمعنى أبصرت (فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا) جماعات بعد ما كان يدخل واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين، كانت أحياء العرب ينتظرون فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي لأنهم أهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، يعني إذا فتحت مكة قريتك التي أخرجتك، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فقد فرغ شغلنا في الدنيا بك فتهيأ للقدوم علينا، ولذلك قال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ): نزهه عما يقول الظالمون حامدًا له (وَاسْتَغْفِرْهُ): عما فرط منك من التقصير (1)، أو عن أمتك (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا): لمن استغفر منذ خلق الخلق، وكان عليه السلام حين أنزلت أخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، وعن الإمام أحمد: قال عليه السلام لما نزلت: " إذا جاء نصر الله والفتح " (نُعِيَتْ إِليَّ نفسي) بأنه مقبوض في تلك السنة، وعن أكثر السلف: إنها أجله عليه السلام، وفي مسلم، والطبراني، والنسائي: إنَّهَا آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا، وعن البيهقي وغيره: إنَّهَا نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع، فيكون نزولها بعد فتح مكة بسنتين، فلابد أن نقول: إن " إذا " الذي هو للاستقبال سلبت عن معناه، وقيل: إن فتح مكة أم الفتوح، والدستور لما يكون بعده من الفتوحات، فهو وإن كان متحققًا في نفسه، لكنه متركب باعتبار ما يدل عليه. * * *

_ (1) معاذ الله أن يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - تقصير.

سورة اللهب

سورة اللهب مكية (1) وهي خمس آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) * * * (تَبَّتْ): هلكت (يَدَا أَبِي لَهَبٍ): نفسه، وعادة العرب أن تجعل التعبير عن الجملة باليدين نحو: بما قدمت يداك، وقيل: المراد دنياه وأخراه (وَتَبَّ) الأول: دعاء، والثاني: خبر، أي: وقد حصل الهلاك والخسران، نزلت لما صعد عليه السلام الصفا، فقال: (يا صباحا)، فاجتمعت إليه قريش قال: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني؟ " قالوا: بلى، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد "، فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا دعوتنا جميعًا؟ (مَا أَغنَى عَنْهُ مَالُهُ): من عذاب الله (وَمَا كَسَبَ): الذي كسبه، وهو ولده، فإنه قال: إن كان ما يقول ابن أخي حقًّا، فأنا أفتدي منه نفسى بمالي وولدي، وهو مات عليه اللعنة وبعدما أنتن دفنه بعض السودان، وقد افترس أسد ولده في طريق الشام (سَيَصْلَى): سيدخل (نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ): اشتعال، أي: جهنم (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي: تحمل الحطب في جهنم فتلقى على زوجها ليزداد عذابه، لأنها كانت عونًا له في شره في الدنيا، فتكون في القيامة عونًا عليه في شره وعذابه، والجملة حالية (فِي

_ (1) في الأصل (مدنية) ولعله تصحيف. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

جِيدِهَا): عنقها (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي: مما مُسِد وفتل كالحطابين، وعن ابن عباس وغيره: سلسلة من حديد فتل وأحكم منه، وروي أنها تجمع الشوك، وتطرح ليلاً في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فمعناه: إن حالها في جهنم على الصورة التي كانت عليه في الدنيا، حين تحمل الشوك على ظهرها، وقيل معناه: إن امرأته حمالة الحطب في الدنيا، في عنقها حبل من ليف، والغرض تحقيرها وتخسيس حالها، فإنها من سادة نساء قريش، فقوله: " وامرأته " إلخ من عطف الجملة، ولا تكون حالية، أو هي عامة في الدنيا حمالة الحطب بين الناس لنائرة الشر، وعن بعض إن لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلاً في عنقها من مسد النار. والحمد للهِ. * * *

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص مكية وهي أربع آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) * * * (قُلْ هُوَ اللهُ) نزلت حين قالوا: صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فالضمير لما سئل عنه، و " الله " خبره (أَحَدٌ) خبر بعد خبر، أو بدل، أو الضمير للشأن و " الله أحد " جملة هي خبره، وعند المحققين: إن الأحدية لتفرد الذات، والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، (اللهُ الصَّمَدُ): المقصود إليه في الحوائج، أو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد، وعن كثير من السلف: إنه الذي لا جوف له

لا يدخل فيه ولا يخرج منه شيء، ولذلك قالوا: ما بعده تفسيره، وتكرير لفظ الله للإشارة بأن من لم يتصف، به لم يستحق الألوهية (لَمْ يَلِدْ) لأن الولد من متجانسين، وهو الأحد الصمد الذي لا يجانسه، ولا يماثله أحد (وَلَمْ يُولَدْ) وذلك لأنه هو الله الأحد الصمد، فكيف يمكن أن يكون حادثًا محتاجًا إلى أحد مربوبًا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أي: لم يكن أحد يكافئه، ويماثله من صاحبة؛ لأنه أحد صمد، " وله " إما حال من كفوًا، أو ظرف لـ يكن وقدمه؛ لأن الغرض نفي المكافأة عن ذاته، تقديمًا للأهم، وقد ثبت بروايات صحيحة إن هذه الصورة تعدل ثلث القرآن، ومن [قرأها] مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن، وفي الترمذي، والنسائي (إنه سمع رجلاً يقرأها، فقال عليه السلام: وجبت، قيل: وما وجبت؟ قال: الجنة)، وفي مسند الدارمي، قال عليه السلام: (من قرأ " قل هو الله أحد " عشر مرات بنى الله له قصرًا في الجنة، ومن قرأها عشرين بنى له قصرين، ومن قرأها ثلاثين بنى ثلاثة، فقال عمر بن الخطاب: إذًا لنكثر قصورنا، فقال عليه السلام: الله أوسع من ذلك)، وفضائل تلك السورة في كتب الحديث كثيرة. والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الفلق

سورة الْفَلَقِ مختلَف فيها وهي خمس آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) * * * (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) هو الصبح، أو الخلق كله، لأنه ما من شيء إلا ويفلق ويفرق ظلمة العدم عنه، أو هو بيت، أو جُبٌّ في جهنم إذا فتح صاح جميع

أهل النار من شدة حره، وذكر الرب، لأن الإعادة من المضار تربية (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ): الليل (إِذَا وَقَبَ): دخل ظلامه، ولا شك أن المضار في الليل أكثر وأشد، أو هو القمر إذا وقب، ودخل في الكسوف، والاسوداد، وعن بعض هو الثريا إذا سقطت، ويقال: إن الأسقام تكثر عند وقوعها، ويرتفع عند طلوعها (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) أي: النساء، والجماعات السواحر، اللواتي يعقدن عقدًا، وينفثن عليها، والنفث النفخ مع ريق (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ): إذا أظهر حسده، وعمل بمقتضاه، فإنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر، فلا ضرر منه إلا على نفسه لاغتمامه وهمه، وقد صح أن يهوديًّا سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة، ودسه في بئر، فاشتكى ومرض عليه السلام لذلك أيامًا، وقد روي ستة أشهر فجاءه جبريل، وأخبره بالسحر، والساحر، وموضعه، ونزلت المعوذتان إحدى عشرة آية، فبعث عليه السلام فاستخرجها، فجاء بها فكان كلما قرأ آية، انحلت عقدة، فحين انحلت العقدة الأخيرة قام عليه السلام، كأنما نشط من عقال. * * *

سورة الناس

سورة النَّاسِ مختلَف فيها وهي ست آيات * * * بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس ِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) * * * (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أضاف إلى الناس هاهنا، لأن وسوسة الصدر، المستعاذ منه في تلك السورة لا تكون إلا للإنسان، فكأنه قال: قل أعوذ بربي من شر موسوسي (مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ) عطفًا بيان لـ (رَبِّ النَّاسِ)، وهو من قبيل الترقي في صفات الكمال، فإن الملك أعلى من الرب لأن كل ملك رب ومالك، ولا ينعكس كليًّا، ثم الإله الذي هو أعلى وخاص لله جعل غاية للبيان (مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ) أي: الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، والمراد: الشيطان سمي بالمصدر مبالغة، أو المراد: ذي الوسواس (الخَنَّاسِ): الذي عادته الخنس، أي: التأخر، والرجوع عند ذكر الله تعالى (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس): إذا غفلوا عن ذكر ربِّهم (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان " الذي "، أو

" الوسواس "، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) [الأنعام: 112]، وعن بعض: هو بيان للناس، والناس يعمهما تغليبًا، ويطلق على الجن أيضًا ناس حقيقة، أو لأن المراد من الناس الناسي، ونسيان حق الله يعمهما، وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر إنه عليه السلام قال: " يا عقبة ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن العظيم؟ قال: قلت بلى، قال: فأقرأني " قل هو الله أحد "، و " قل أعوذ برب الفلق "، و " قل أعوذ برب الناس " (1)، فإن قلت المناسب أن يتعوذ المتعوذ بـ أعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، إلى آخر السورتين من غير لفظة " قل " كما لا يخفى؟ قلت: المقصود التعوذ بالسورتين المذكورة فيهما الاستعاذة، من حيث إنهما كلام الله المجيد، والسورة هي مجموع " قل أعوذ " إلى تمام السورة، وبدون " قل " بعض السورة، وليس الغرض التكلم بهذه الكلمات، فربما لا ينفع لو غُيِّر نظم القرآن مع أنه تكليم بجميع تلك الكلمات، فافهم، والله أعلم. والحمد لله الأول الآخر الباطن الظاهر، أولاً وآخرًا، باطنًا وظاهرًا، كلما ذكره الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون حمدًا يليق بعظمة جلاله، وحسن نواله وجماله، وأستعيذ بعفوه من كل زللٍ، واستجير بصفحه، وغفوانه من كل خطأ وخطل، حمدًا يوافي نعمه، ويقابل كرمه، والحمد لله على ما وفقني ورزقني فراغ البال للاشتغال بالتأمل في آيات كتابك، ولكشف أستار غويصات خطابك، والآن أفرُّ من فيح نار الجحيم، إلى ظل ظليل قرآنه الكريم، هاربًا من سواء عدلك، ماسكًا فضلك، إنك أنت الجواد الكريم، المنعم الرحيم، وقد تَمَّ، والحمد لله على جسيم إنعامه في عام سبعين وثمانمائة، في مكة الشريفة تجاه الكعبة، زادها الله شرفًا. وأنا حامدٌ لله مصلي على رسوله، ومسلمٌ عليه. تَمَّ بحمدِ اللهِ * * *

_ (1) أخرجه أحمد في " مسنده " (4/ 148) وإسناده صحيح.

§1/1