تفسير الثعالبي = الجواهر الحسان في تفسير القرآن

الثعالبي، أبو زيد

الجزء الاول

[الجزء الاول] بسم الله الرّحمن الرّحيم «توطئة» نحمدك اللهم حمد الشاكرين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وصلاة وسلاما دائمين متلازمين على نبينا محمد عبد الله ورسوله، خير من قرأ كتاب الله، وخير من فسره، وخير من عمل به. وبعد: فإن علم التفسير من خير العلوم قاطبة، وشرف العلم من شرف المعلوم، وقدر المرء قدر ما يحسنه، ولا شك أن الاشتغال بكتاب الله تعالى وتفسيره شرف عظيم، ف «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» . يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] . وهذا الشفاء لن يتحصل عليه إلا من التزم بشرطه، وشرطه التدبر، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] . ولما كانت حاجة الأمة ماسّة إلى معرفة تفسير كتاب ربها، والوقوف على أسراره- قمنا بإخراج أحد هذه التفاسير المباركة ليكون تبصرة للمسلمين، وعونا لهم على فهم كتاب الله العزيز. وها نحن أولاء نقدم للأمة الإسلامية تفسير «الجواهر الحسان» للإمام العلامة أبي زيد الثعالبي رحمه الله تعالى. وقد جاء هذا الكتاب في قسمين: القسم الأول: الدراسة. وجاء في ثلاثة مباحث:

1 - مدرسة ابن عباس ب"مكة"، وكان أشهر تلاميذه من التابعين:

المبحث الأول: نبذة عن حياة أبي زيد الثعالبي. ويشمل: اسمه، كنيته، لقبه، مولده، نشأته، شيوخه، تلاميذه، مصنفاته، ثناء الناس عليه، ثم وفاته. المبحث الثّاني: في الحديث عن التفسير قبل أبي زيد الثعالبي. وفيه ذكرنا معنى التفسير والتأويل، والفرق بينهما، ثم ذكرنا حاجة الناس إلى تفسير الكتاب العزيز، ثم الحديث عن فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، ثم ذكرنا أشهر مفسري القرآن من الصحابة فمن بعدهم، وبيّنا كذلك قيمة التفسير بالمأثور. ثم عرضنا لأهم مدارس التفسير، وكانت كما يلي: 1- مدرسة ابن عباس ب «مكّة» ، وكان أشهر تلاميذه من التابعين: - سعيد بن جبير. - مجاهد بن جبر. - عكرمة. - طاوس. - عطاء بن أبي رباح. 2- مدرسة أبي بن كعب ب «المدينة النبوية» ، وأشهر تلاميذه: - أبو العالية. - محمد بن كعب القرظي. - زيد بن أسلم. 3- مدرسة عبد الله بن مسعود ب «العراق» ، وأشهر تلاميذه: - علقمة. - مسروق. - عامر الشعبي. - الحسن البصري. - قتادة.

ثم تحدثنا عن قيمة التفسير المأثور عن التابعين، واختلاف أهل العلم من بعدهم في الاحتجاج بأقوالهم. وكذلك خضنا في ذكر سمات التفسير في تلك المرحلة من مثل: اعتماده على التّلقّي والرواية، والخلاف المذهبي الناشئ، وغير ذلك مما هو مسطور في موضعه. وانتقل بنا الحديث إلى الكلام عن التفسير في عصر التدوين، وتحديد هذا العصر تاريخيّا، وكيف سار هذا التفسير سيره حتى بلغ تابعي التابعين. ثم تدرّجنا إلى تبيان اتجاهات التفسير الموجودة بين المفسرين، وكانت: - الاتجاه الأثري: وذكرنا من أعلامه «يحيى بن سلام» ، ثم «محمد بن جرير الطّبريّ» . - الاتجاه اللّغوي: وبيّنّا تاريخ بدايته، وبعض أعلامه، مثل «أبي عبيدة معمر بن المثنى» . - الاتجاه البيانيّ: وأوضحنا جذوره، وبعض أمثلته. المبحث الثالث: الكلام على تفسير أبي زيد. وتحدثنا فيه عن مصادر الشيخ الثعالبي في تفسيره، والكتب التي استقى منها مادّته، وبنى عليها مصنفه. ثم تطرّقنا إلى بيان منهجه في بناء تفسيره من احتجاج بمأثور، ورأي، وكيف أنه مزج بينهما، ففسر كتاب الله بعضه ببعض، ثم بالسّنّة، ثم بتفسير الصحابة والتابعين، واحتجاجه باللغة والأصول، وحديثه عن التوحيد، والرقائق، وعلوم الآخرة، وغير ذلك. وتحدثنا عن الإسرائيليات في تفسيره، وكيف أنه أقلّ منها، ولم يعتمد عليها. ثم تحدثنا عن المنهج اللّغويّ في تفسير أبي زيد، وكذلك المنهج البياني، ثم علوم القرآن في تفسير «الجواهر الحسان» ، وهي: - المكّي والمدني. - القراءات المتواترة والشّاذّة. - الناسخ والمنسوخ. - الأحكام الفقهية المأخوذة من آيات الأحكام.

القسم الثاني: وهو قسم تحقيق النّصّ: وقد كان عملنا في الكتاب مرتبا على النحو التالي: أولا: إخراج النّص سليما خاليا من الأخطاء النحوية والإملائية، وقد اقتضى ذلك من الموازنة بين النسخ التي تحت أيدينا، فآثرنا النص الأصوب والأرقّ دون اعتماد على نسخة بعينها. ثانيا: إثبات فروق النّسخ، وتركنا الكثير منها حيث لا جدوى من ذكرها. ثالثا: تخريج الأحاديث الواردة في النص. رابعا: عزو الآثار إلى مصادرها. خامسا: توضيح الغريب من الألفاظ الواردة في النّصّ معتمدين في ذلك على المعاجم اللغوية والفقهية. سادسا: ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في النص. سابعا: عزو القراءات إلى مصادرها، والتعليق على بعضها حسبما احتاج النص مع بيان كل قراءة. ثامنا: توضيح بعض المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في النص. تاسعا: التعليق على بعض الموضوعات التي أشار إليها المصنف. عاشرا: وضع آيات القرآن الكريم ضمن هلالين مزهرين تيسيرا على القارئ، وتخريج آيات الشواهد.

المبحث الأول نبذة عن حياة الثعالبي

المبحث الأول نبذة عن حياة الثعالبي اسمه، وكنيته، ولقبه: هو عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف «1» ، يكنى أبا زيد، ويلقب ب «الثعالبي» «2» . الجزائري «3» ، المغربي، المالكي. مولده: ذكر صاحبا «شجرة النور الزّكيّة» ، و «الأعلام» أنه ولد سنة 786 هـ- جزما، بينما حكى صاحب «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» الشك في سنة ميلاده بين ستا وثمانين، وسبع وثمانين. نشأته: لم تذكر المصادر المترجمة لهذا الإمام شيئا عن نشأته إلا أن الظن بحال من حاله كالإمام يؤكد أن نشأته في بيت علم وفضل، ولا يبعد وجود أهل صلاح في أسرته، كما أن الظن بمثله أن يكون درج على طلب العلم، كما يطلبه أهله من قراءة كتاب الله وحفظه في

_ (1) ينظر ترجمته في: «الضوء اللامع» (4/ 152) ، و «شجرة النور الزكية» (265) ت (976) ، و «فهرس الفهارس» (2/ 131) ، و «هدية العارفين» (532) ، و «ديوان الإسلام» (2/ 56) ت (637) ، و «نيل الابتهاج» (257) ت (306) ، و «الأعلام» (3/ 331) . والملاحظ اتفاقها على ذكر اسمه وكنيته ولقبه، بلا زيادة على ما تقدم. (2) هذه النسبة إلى خياطة جلود الثعالب، وعمل الفراء. وفرق بينها وبين «الثعلبي» حيث إن الأخيرة نسبة إلى القبائل وإلى الموضع، فأما المنتسب إلى القبائل، فإلى ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، منهم أسامة بن شريك الثعلبي، وابن أخيه زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي، والنسبة إلى ثعلبة بن ثور بن هدبة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة، بطن من «مزينة» ، وأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي. ويقال: الثعالبي، المفسر المشهور النيسابوري. وثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، بطن كبير من تميم. وثعلبة بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء، بطن مشهور من طيء، منهم مسعود بن علبة بن حارثة بن ربيع بن عمرو بن عكوة بن ثعلبة الشاعر. ينظر: «الأنساب» (1/ 505) ، و «اللباب» (1/ 237- 239) ، و «الإكمال» (1/ 529) و «لب الألباب» (1/ 185) . (3) نسبة الى البلدة المعروفة ب «الجزائر» إحدى أقطار المغرب العربي.

رحلاته وشيوخه:

الصغر، واطّلاعه على كتب التاريخ، والتفسير، والحديث، والأصول، والكلام، والأدب، واللغة، والنحو، والصرف، والعروض، وغيرها. رحلاته وشيوخه: مما لا شكّ فيه أن حاجة العلماء إلى الرحلة عظيمة جدّا سعيا في تحصيل العلم، والسّماع من الأشياخ لأن في الرّحلة إليهم، والالتقاء بهم تثقيفا للعقول، وتنقيحا للعلوم، وتمحيصا للمحفوظ. ولقد كانت الرّحلة سنّة العلماء من لدن سيدنا محمد- عليه الصلاة والسلام- إلى أن وقع النّاس فريسة للتخلّف والتكاسل، فقعد بهم ذلك عن طلب العلم، والسّعي في تحصيله. ولقد كان بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تناءت به الدّار، يركب إلى «المدينة» ، فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم. واستمر ذلك السّعي والتّرحال بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم. ولما اتسعت رقعة الدولة الإسلاميّة بعد الفتوحات العظيمة، نجد أن الرّحلة شاعت، وانتشر أمرها، لتفرّق العلماء في شتّى بلدان الدولة الإسلامية. ولقد ضحّى سلفنا الصّالح بكل غال ورخيص، ودفعوا المال والجهد، وتكبّدوا العناء والمشاقّ، في سبيل طلب الحديث وجمعه، والعناية بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الصّحابي الجليل أبو أيوب الأنصاريّ يرحل من «المدينة» قاصدا عقبة بن عامر ب «مصر» ليسأله عن حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا وصل إلى منزل عقبة بن عامر، خرج إليه عقبة فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه منه غيري وغيرك، في ستر المؤمن. قال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر مؤمنا في الدّنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة» . فقال أبو أيوب: صدقت. ثم انصرف أبو أيوب من توّه إلى راحلته، راجعا إلى «المدينة» ، متحمّلا مشقّة السفر، ووعثاء الطريق، وأخطار المفاوز والقفار. ويقول سعيد بن المسيّب: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد. وذات مرّة قال عمرو بن أبي سلمة للأوزاعيّ: يا أبا عمرو أنا ألزمك منذ أربعة أيام،

ولم أسمع منك إلّا ثلاثين حديثا! قال: وتستقلّ ثلاثين حديثا في أربعة أيّام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى «مصر» ، واشترى راحلة فركبها، حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد، وانصرف إلى «المدينة» ، وأنت تستقلّ ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ «1» . مما سبق يتبيّن أن للرحلة أثرا ملحوظا في تمحيص العلوم، وتنقيحها، وتثبيتها في أذهان العلماء، وأن طلاب العلم نزحوا من قطر إلى قطر، تحملهم ظهور الفيافي والقفار، تنقيبا عن الحديث، أو المسألة الفقهية، أو السّماع من شيخ مشهور، أو التّلمذة على يد عالم إمام. ولم يكن الإمام الثعالبي بدعا في هذا الشّأن، بل سار على درب أسلافه من العلماء، وأقرانه من طلّاب العلم في السّعي والسّفر رغبة في تحصيل العلم، وطلب مسائله وقضاياه. وقد عرفنا الثعالبي نفسه أنه قد رحل في طلب العلم، وسمع من أهل العلم في مختلف الأقطار، فنراه يقول: رحلت في طلب العلم من ناحية «الجزائر» في آخر القرن الثامن، فدخلت «بجاية» عام اثنين وثمانمائة، فلقيت بها الأئمة المقتدى بهم في العلم والدين والورع، أصحاب الفقيه الزاهد الورع عبد الرحمن الوغليسي، وأصحاب الشيخ أبي العباس أحمد بن إدريس متوافرون يومئذ، أصحاب ورع ووقوف مع الحد لا يعرفون الأمراء، ولا يخالطونهم، وسلك أتباعهم مسلكهم، كشيخنا الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عثمان المكلاتي، وشيخنا الولي الفقيه المحقّق أبي الربيع سليمان بن الحسن، وأبي الحسن علي بن محمد البليليتي، وعلي بن موسى، والإمام العلامة أبي العباس النقاوسي، حضرت مجالسهم، وعمدتي على الأولين، ثم دخلت «تونس» عام تسعة أوائل عشرة وأصحاب ابن عرفة متوافرون، فأخذت عنهم، كشيخنا واحد زمانه أبي مهدي عيسى الغبريني، وشيخنا الجامع بين علمي المنقول والمعقول أبي عبد الله الأبي، وأبي القاسم البرزلي، وأبي يوسف يعقوب الزغبي، وغيرهم، وأكثر عمدتي على الأبي، ثم رحلت للمشرق، وسمعت «البخاري» ب «مصر» على البلالي، وكثيرا من اختصار «الإحياء» له، وحضرت مجلس شيخ المالكية بها أبي عبد الله البساطي، وحضرت كثيرا عند شيخ المحدثين بها ولي الدين العراقي، وأخذت عنه علوماً جَمَّةً، مُعْظَمُهَا عِلْمُ الحديث، وفتح لي فتحا عظيما وأجازني،

_ (1) روى هذه الآثار الحاكم في «علوم الحديث» ص 7، 8.

ثم رجعت ل «تونس» فإذا في موضع الغبريني الشيخ أبو عبد الله القلشاني خلفه فيه عند موته، فلازمته، وأخذت البخاري إلا يسيرا عن البرزلي، ولم يكن ب «تونس» يومئذ من يفوقني في علم الحديث، إذا تكلمت أنصتوا، وقبلوا ما أرويه، تواضعا منهم، وإنصافا واعترافا لحق، وكان بعض فضلاء المغاربة يقول لي لما قدمت من المشرق: كنت آية في علم الحديث، وحضرت أيضا شيخنا الأبي وأجازني، ثم قدم «تونس» شيخنا ابن مرزوق عام تسعة عشر، فأقام بها نحو سنة، فأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه «الموطأ» بقراءة الفقيه أبي حفص عمر القلشاني ابن شيخنا أبي عبد الله وغير شيء، وأجازني وأذن لي هو والأبي في الإقراء، وأخذت عن غيرهم- اهـ-. مما سبق يتضح أن الثعالبي قد ذكر أنه سمع في رحلته من شيوخ كثيرين، سمى منهم أربعة عشر شيخا، وسنوردهم فيما يلي مع ذكر البلد التي سمع فيها: 1- محمد بن خلفة بن عمر التونسي الوشتاني «1» الشهير ب «الأبي» : الإمام، العلامة، المحقق، المدقق، البارع، الحافظ، الحاج، الرّحلة، أخذ عن الإمام ابن عرفة، ولازمه، واشتهر في حياته بالمهارة والتقدم في الفنون، وكان من أعيان أصحابه ومحققيهم، «وأبة» «2» ، بضم الهمزة، قرية من «تونس» . قال السّخاويّ: كان سليم الصدر، ذكر ذلك جماعة عنه مع مزيد تقدم في الفنون، له «إكمال الإكمال» في شرح مسلم في ثلاثة مجلدات، جمع فيه بين المازري، وعياض، والقرطبي، والنووي مع زيادات مفيدة من كلام ابن عرفة شيخه وغيره. وله «شرح المدوّنة» أيضا، وله نظم، وكثر انتقاده لشيخه مشافهة، وربما رجع عليه سيما في تعريفه الطهارة. ووصفه ابن حجر في المثبتة بالأصولي، عالم المغرب بالمعقول. وقال: إنه سكن «تونس» وسمّى والده خلفا. وأما شرحه لمسلم، ففي غاية الجودة ملأه بتحقيقات بارعة، وزيادة حسنة نافعة سيما أوائله. قال الثعالبي: حضرت عليه قراءة بحث وتحقيق وتدقيق من أوله إلى «الطهارة» متواليا، وكثيرا من «الطهارة» وأكثر «كتاب الصلاة» ، وكثيرا من أواخر مسلم أو كله، ومن

_ (1) ينظر ترجمته في: «شجرة النور الزكية» (244) ، و «نيل الابتهاج» (487) . (2) أبة: اسم مدينة بإفريقية، بينها وبين القيروان ثلاثة أيام، وهي من ناحية الأربس، موصوفة بكثرة الفواكه وإنبات الزعفران. ينظر: «معجم البلدان» (1/ 108) .

«المدونة» و «الرسالة» و «ابن الحاجب» كلها قراءة بحث وتحقيق، وأكثر «إرشاد» أبي المعالي وتفسير القرآن، وأذن لي في إقرائها كلها سنة تسعة عشر وثمانمائة- اهـ- ملخصا. وسمعت والدي الفقيه أحمد- رحمه الله- يحدث عن بعض المشارقة أنه رأى له تفسير القرآن في ثمان مجلدات- اهـ. قال التنبكي: قرأت بخط سيّدي يخلفتين حفيد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي أن وفاته سنة ثمان وعشرين وثمانمائة- اهـ. ويذكر أن الإمام ابن عرفة ليم على كثرة الاجتهاد، وتعبه نفسه في النظر، فقال: كيف أنام وأنا بين أسدين الأبي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه ونقله- اهـ. ووصفه أبو عبد الله المشذالي بالفقيه، المحقق، العالم. وأخذ عنه جماعة من الأئمة كالقاضي عمر القلشاني، وأبي القاسم بن ناجي، وعبد الرحمن الجدولي، والثعالبي، والشريف العجيسي، وغيرهم، وقال الثعالبي فيه: شيخنا، مولاي، الإمام، الحجة، الثقة، إمام المحققين، الجامع بين حقيقتي المنقول والمعقول، ذو التصانيف الفائقة البارعة، والحجج السّاطعة اللامعة- اهـ. توفي، فيما قيل، سنة سبع وعشرين، و «خلفة» بكسر المعجمة وفتحها ثم لام ساكنة بعدها فاء. وقد سمع الثعالبي من شيخه الأبي ببلدة «تونس» . 2- وليّ الدين العراقي «1» : وهو أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، الإمام الحافظ الفقيه، المصنف، قاضي القضاة وليّ الدين أبو زرعة ابن الإمام العلامة الحافظ زين الدين أبي الفضل، العراقي الأصل، المصري. ولد في ذي الحجة سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وبكر به أبوه، فأحضره عند أبي الحرم القلانسي خاتمة المسندين بالقاهرة، واستجاز له من أبي الحسن الفرضي، ثم رحل به إلى «الشام» سنة خمس وستين، فأحضره في الثالثة على جماعة من أصحاب الفخر ابن البخاري، ثم رجع، وأسمعه ب «القاهرة» من جماعة من المسندين، ثم طلب بنفسه وهو شاب، فقرأ الكثير، ودأب على الشيوخ، ثم رحل إلى «الشام» صحبه صهره الحافظ نور الدين الهيثمي بعد الثمانين، فسمع الكثير ثم رجع، وهو

_ (1) ينظر ترجمته في: «إنباء الغمر في أبناء العمر» (8/ 21) ، و «البدر الطالع» (1/ 72) ، و «طبقات ابن قاضي شهبة» (4/ 80) .

مع ذلك ملازم للاشتغال بالفقه، والعربية، والفنون، حتى مهر واشتهر، ولازم الشيخ سراج الدين البلقيني، وحفظ، وكتب عنه الكثير، وأخذ عن علماء عصره. قال الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين ابن حجر: ونشأ صيّنا، ديّنا، خيّرا، مع جمال الصورة، وطيب النعمة والتودّد إلى الناس، وناب في الحكم، ودرس في عدة أماكن، ثم استقر في جهات والده بعد وفاته، وعقد مجلس الإملاء بعده، واشتهر صيته وصنف التصانيف، وخرج التخاريج، وولي مشيخة «الجمالية» . ومن تصانيفه: «تحرير الفتاوى» على التنبيه، و «المنهاج» ، و «الحاوي» ، أخذ نكت النشائي، والتوشيح، ونكت ابن النقيب على المنهاج، ونكت الحاوي لابن الملقن، وشحن الكتاب بفوائد الشيخ سراج الدين البلقيني، وبسبب ذلك اشتهر الكتاب، واجتمع شمل فوائد الشيخ، وجمع حواشي الشيخ على «الروضة» في مجلدين، واختصر «المهمات» ، وجمع بينها وبين حواشي «الروضة» في مجلدين، وشرح «بهجة» ابن الوردي في مجلدين، وشرح «جمع الجوامع» للسبكي في مجلدة، وله وفيّات ابتدأ فيها من سنة مولده- رحمه الله تعالى- قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر: وشرح منظومة أبيه في الأصول، وشرع في شرح «سنن» أبي داود، فكتب نحو السدس منه في سبع مجلدات. مات في شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة وله ثلاث وستون سنة وثمانية أشهر. وسمع منه الإمام الثعالبي ب «مصر» . 3- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق الحفيد العجيسي التلمساني «1» : الإمام المشهور، العلّامة، الحجّة، الحافظ، المحقّق الكبير، الثقة الثبت، المطلع النظار، المصنف، التقي، الصالح، الزاهد، الورع، البركة، الخاشي لله، الخاشع الأوّاب، القدوة النبيه، الفقيه المجتهد، الأبرع، الأصوليّ المفسر المحدث، الحافظ المسند الراوية، الأستاذ المقرئ المجوّد، النحوي اللغوي البياني العروضي، الصوفي المسلك المتخلق، الولي الصالح العارف بالله، الآخذ من كل فنّ بأوفر نصيب. أخذ العلم عن جماعة، كالسّيد الشريف العلامة أبي محمد عبد الله بن الإمام العلم الشريف التلمساني، والإمام عالم المغرب سعيد العقباني، والولي الصالح أبي إسحاق

_ (1) ينظر ترجمته في: «البدر الطالع» (2/ 119) ، و «نيل الابتهاج» (499) .

المصمودي، أفرد ترجمته بتأليف، والعلامة أبي الحسن الأشهب العماري، وعن أبيه وعمّه ابني الخطيب ابن مرزوق، وبتونس عن الإمام ابن عرفة، وأبي العباس القصار، وبفأس عن الأستاذ النحوي ابن حياتي الإمام، والشيخ الصالح أبي زيد المكودي، والحافظ محمد بن مسعود الصنهاجي الفيلالي في جماعة، وبمصر عن الأئمة السراج البلقيني، والحافظ أبي الفضل العراقي، والسراج ابن الملقن، والشمس الغماري، والمجد الفيروزآبادىّ صاحب «القاموس» ، والإمام محبّ الدين بن هشام ولد صاحب «المغني» ، والنور النويري، والولي ابن خلدون، والقاضي العلامة ناصر الدين التنسي، وغيرهم. وأجازه من «الأندلس» الأئمة كابن الخشّاب، وأبي عبد الله القيجاطي، والمحدث الحفار، والحافظ ابن علاق، وأبي محمد ابن جزي، وغيرهم، وأخذ عنه جماعة من السادات كالشيخ الثعالبي، وقاضي الجماعة عمر القلشاني، والإمام محمد بن العباس، والعلامة نصر الزواوي، وولي الله الحسن أبركان، وأبي البركات الغماري، والعلّامة أبي الفضل المشذالي، والسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس بن أبي يحيى الشريف، وأخيه أبي الفرج، وإبراهيم بن فائد الزواوي، وأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن الندرومي، والعلّامة علي بن ثابت، والشهاب ابن كحيل التجاني، وولد العالم محمد بن محمد بن مرزوق الكفيف، والعلامة أحمد بن يونس القسنطيني، والعالم يحيى بن بدير، وأبي الحسن القلصادي، والشيخ عيسى بن سلامة البكري، والعلامة يحيى المازوني، والحافظ التنسي، والإمام ابن زكري. في خلق كثيرين من الأجلّاء. وقال الحافظ السّخاوي: هو أبو عبد الله حفيد ابن مرزوق، ويقال له أيضا «ابن مرزوق» ، تلا بنافع على عثمان الزروالي، وانتفع في الفقه بابن عرفة، وأجازه ابن الخشّاب والحفار والقيجاطي. وحج قديما سنة تسعين وسبعمائة رفيقا لابن عرفة، وسمع من البهاء الدماميني، والنور العقيلي بمكة، وقرأ بها البخاري على ابن صديق، ولازم المحب ابن هشام في العربية، ثم حج سنة تسعة عشر وثمانمائة، ولقيه رضوان الزيني بمكة، وكذا لقيه ابن حجر- اهـ. وأما تآليفه، فكثيرة منها: شروحه الثلاثة على «البردة» : الأكبر المسمى «إظهار صدق المودة في شرح البردة» استوفي فيه غاية الاستيفاء، ضمنه سبعة فنون في كل بيت، و «الأوسط» و «الأصغر» المسمى «بالاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب» و «المفاتيح القرطاسية في شرح الشقراطيسية» ، و «المفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية» ، ورجزان في علوم الحديث، الكبير سماه «الروضة» جمع فيه بين ألفيتي ابن ليون والعراقي،

و «مختصر الحديقة» اختصر فيه ألفية العراقي، وأرجوزة في الميقات سماه «المقنع الشافي» في ألف وسبعمائة بيت، وأرجوزة ألفية في محاداة «الشاطبية» ، وأرجوزة نظم «تلخيص المفتاح» ، وأرجوزة نظم «تلخيص ابن البنا» وأرجوزة نظم «جمل» الخونجي، وأرجوزة في اختصار «ألفية ابن مالك» ، و «نهاية الأمل» في شرح جمل الخونجي، و «اغتنام الفرصة في محادثة عالم قفصة» ، وهو أجوبة على مسائل في الفقه والتفسير وغيرهما، وردت عليه من عالم قفصة أبي يحيى بن عقيبة فأجابه عنها، و «المعراج إلى استمطار فوائد الأستاذ ابن سراج» أجاب فيه العالم قاضي الجماعة بغرناطة ابن سراج عن مسائل نحوية ومنطقية، و «نور اليقين في شرح أولياء الله المتقين» تأليف ألفه في شأن البدلاء تكلم فيه على حديث في أول «الحلية» ، و «الدليل المؤمى في ترجيح طهارة الكاغذ الرومي» ، و «النصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل للناقص» في سبعة كراريس، ألفه في الرد على عصريه وبلديه الإمام قاسم العقباني في فتواه في مسألة الفقراء الصوفية في أشياء صوّب العقباني صنيعهم فيها، فخالفه ابن مرزوق، و «مختصر الحاوي في الفتاوى» لابن عبد النور التونسي، و «الروض البهيج في مسألة الخليج» في أوراق نصف كراس، و «أنوار الدراري في مكررات البخاري» ، وتأليف في مناقب شيخه الزاهد الولي إبراهيم المصمودي في مقدار كراس، و «تفسير سورة الإخلاص على طريقة الحكماء» ، وهذه كلها تامة. وأما ما لم يكمل من تآليفه، «فالمتجر الربيح والسعي الرحب الفسيح في شرح الجامع الصحيح» صحيح البخاري، و «روضة الأديب في شرح التهذيب» ، و «المنزع النبيل في شرح مختصر خليل» شرح منه الطهارة في مجلدين، ومن الأقضية لآخره في سفرين في غاية الإتقان، و «التحرير والاستيفاء والتنزيل لألفاظ الكتاب والنقول» لا نظير له أصلا، لخصه العلامة الراعي، و «إيضاح المسالك في ألفية ابن مالك» انتهى إلى اسم الإشارة والموصول، مجلد في غاية الإتقان، ومجلد في شرح شواهد شراحها إلى باب كان وأخواتها، وله خطب عجيبة، وأما أجوبته وفتاويه على المسائل المنوعة، فقد سارت بها الركبان شرقا وغربا، بدوا وحضرا. ذكر المازوني والونشريسي منها جملة وافرة في كتابيهما، وله أيضا عقيدته المسماة «عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد» ، وعلى منحاه بنى السنوسي عقيدته الصغرى، و «الآيات الواضحات في وجه دلالة المعجزات» ، و «الدليل الواضح المعلوم في طهارة كاغد الروم» ، و «إسماع الصّم في إثبات الشرف من قبل الأم» . وذكر السخاوي أن من تأليفه شرح فرعي ابن الحاجب، وشرح التسهيل، والله أعلم.

ومولده، كما ذكره هو في شرحه على البردة، ليلة الاثنين رابع عشر ربيع الأول عام ستة وستين وسبعمائة. وقال تلميذه الإمام الثعالبي: وقدم علينا بتونس شيخنا أبو عبد الله بن مرزوق، فأقام بها وأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه جميع «الموطأ» بقراءة صاحبنا أبي حفص عمر ابن شيخنا محمد القلشاني، وختمت عليه «أربعينيات النووي» قراءة عليه في منزلة قراءة تفهم، فكان كلما قرأت عليه حديثا يعلوه خشوع وخضوع، ثم أخذ في البكاء، فلم أزل أقرأ وهو يبكي حتى ختمت الكتاب، وهو من أولياء الله تعالى الذين إذا رأوا ذكر الله. وأجمع الناس على فضله من «المغرب» إلى الديار المصرية، واشتهر فضله في البلاد، فكان بذكره تطرز المجالس، جعل الله حبه في قلوب العامة والخاصة، فلا يذكر في مجلس إلا والنفوس متشوقة لما يحكى عنه، وكان في التواضع والإنصاف والاعتراف بالحق في الغاية وفوق النهاية، لا أعلم له نظيرا في ذلك في وقته فيما علمته. وقال أيضا في موضع آخر: هو سيدي الشيخ الإمام، الحبر الهمام، حجة أهل الفضل في وقتنا وخاتمتهم، ورحلة النقاد وخلاصتهم، ورئيس المحققين. توفي يوم الخميس عصر رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمانمائة، وصلّى عليه بالجامع الأعظم بعد صلاة الجمعة، حضر جنازته السلطان فمن دونه، لم أر مثله قبله، وأسف الناس لفقده، وآخر بيت سمع منه عند موته: [البسيط] إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فما غلت نظرة منكم بسفك دمي وقد سمع الثعالبي منه بعد عودته من رحلته إلى تونس. 4- أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي، القيرواني، ثم التونسي، الشهير بالبرزلي، الإمام المشهور «1» ، نزيل «تونس» : مفتيها، وفقيهها، وحافظها، العلّامة، أحد الأئمة في المذهب المالكي صاحب «الديوان» في الفقه والنوازل، من كتب المذهب الأجلة، أجاد فيه ما شاء، كان- رحمه الله- إماما علامة، بارعا، حافظا للفقه متفقها فيه، بحاثا نظارا مستحضرا للفقه، أخذ عن جماعة، وفي بعض إجازاته ما ملخصه أنه قرأ على الفقيه المحدث الراوية الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق شيئا من الصحيحين، والشاطبيتين، وتكملة القيجاطي، والدرر

_ (1) ينظر ترجمته في: «شجرة النور الزكية» (245) ، و «نيل الابتهاج» (368) .

اللّوامع، يرويهما عن مؤلفهما، والعمدة وغيرها، وعلى الفقيه المحدث الراوية المسن الصالح أبي الحسن البطروني القراءة السبعة، وكتبا كثيرة، وأحزاب الشاذلي عن الشيخ ماضي عنه، وعلى الإمام المؤلف الفقيه الصّالح المتفنن العلم أبي عبد الله بن عرفة، لازمه ما ينيف على ثلاثين سنة، وقرأ عليه بعض مسلم، وسمع جميعه عليه وجميع البخاري، و «الموطأ» ، و «الشفاء» ، و «علوم الحديث» لابن الصلاح، وجميع «التهذيب» مرارا، وابن الحاجب الفرعي، وكثيرا من الأصلي، و «معالم» التلمساني الفقيه، و «جمل» الخونجي، وكثيرا من «المحصل» ، وإلقاء التفسير مرارا، وقرأ عليه مختصره المنطقي وفي الأصلين وأكثر مختصره الفقهي، وأجازه بالجميع وغيرها، وكتب له بخطه مرارا، وقرأ عليه الفقيه المقرئ الراوية أحمد بن مسعود البلنسي، (عرف بابن الحاجة) القراءات السبعة وغيرها، وعلى الفقيه الصالح الراوية المتفنن أبي محمد الشبيبي القراءات السبعة وغيرها، و «التهذيب» ، و «الجلاب» ، و «الرسالة» وغيرها، و «الموطأ» ، ومسلما، وعلم النحو، والحساب، والفرائض، والتنجيم، ولازمه من حدود ستين وسبعمائة إلى عام سبعين، وعلى الفقيه الصالح القاضي العدل الحافظ أحمد بن حيدرة التوزري، لازمه كثيرا، وأخذ عنه مسائل كثيرة، وقرأ على الفقيه الصالح العدل أبي العباس المومناني الصحيحين، و «الشفاء» ، وغيرها، وكذا أخوه الفقيه الصالح القاضي العدل أبو زيد عبد الرحمن، وقرأ عليه شيئا من أصلي ابن الحاجب، وأذن له في إقرائه، وعلى الفقيه المحدث الراوية برهان الدين الشامي، قرأ عليه أبعاضا من البخاري، والترمذي، والشفاء، والشاطبية، وغيرها، وناوله فهرسته، وعلى الرواية المحدث المعمر أبي إسحاق بن صديق الرسام. وذكر في فتاويه أنه لازم ابن عرفة نحو أربعين عاما، فأخذ هديه وعلمه وطريقته، وجالس غيره كثيرا في الفقه والرواية في الحديث وغيره، وحصل بذلك علما كثيرا. وقال السّخاويّ: كان البرزلي أحد أئمة المالكية ببلاده «المغرب» ، وصاحب الفتاوى المتداولة، قدم «القاهرة» حاجا سنة ست وثمانمائة، وأجاز لشيخنا (يعني: ابن حجر) أخذ عنه غير واحد ممن لقيناهم، كأحمد بن يونس. توفي بتونس سنة أربع وأربعين، على ما قيل، أو سنة ثلاث، عن مائة وثلاث سنين، وحينئذ فهو آخر من في القسم الأول من معجم الحافظ ابن حجر، وكان موصوفا بشيخ الإسلام- اهـ. وقد سمع الثعالبي منه ب «تونس» . وكانت وفاته سنة اثنين وأربعين، ومولده (على ما قال السخاوي) في حدود أربعين وسبعمائة، وممن أخذ عنه الشيخ أبو القاسم بن ناجي، والرصاع، والشيخ حلولو،

وغيرهم. 5- علي بن عثمان المنجلاتي «1» ، الزواوي، البجائي: من علماء المالكية وفقهائها الجلة، أخذ عن الشيخ عبد الرحمن الوغليسي وغيره، وهو والد العلامة أبي منصور مفتي «بجاية» ، قال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في حقّه: شيخنا أبو الحسن، الإمام الحافظ، وعليه كانت عمدة قراءتي ببجاية- اهـ. وله فتاوى نقل بعضها في «المازونية» و «المعيار» . وقد سمع منه الثعالبي أثناء رحلته ب «بجاية» . 6- أحمد النقاوسي البجاني «2» ، العلامة: قال تلميذه أبو زيد عبد الرحمن الثعالبي: هو شيخنا الإمام المحقق الجامع بين علمي المنقول والمعقول، ذو الأخلاق المرضية، والأحوال الصالحة السنية- اهـ. وقد سمع منه الثعالبي ب «بجاية» . 7- عيسى بن أحمد بن محمد بن محمد الغبريني، أبو مهدي التونسي «3» : قاضي الجماعة ب «تونس» وعالمها وصالحها، وحافظها وخطيبها، قال الشيخ الثعالبي: شيخنا أوحد زمانه علما ودينا- اهـ. ووصفه تلميذه أبو القاسم بن ناجي بأنه ممن يظن به حفظ المذهب بلا مطالعة، وبالغ في الثناء عليه في غير موضع، بل نقل عنه عصريه أبو القاسم البرزلي في ديوانه في غير موضع. قال السّخاويّ في «تاريخ أهل المائة التاسعة» فيه: قاضي «تونس» وعالمها، أخذ عنه أحمد القلشاني، والشرف العجيسي وغيرهما، مات عام ستة عشر وثمانمائة- اهـ. قال أحمد التنبكي في «نيل الابتهاج» : بل أخذ عنه غالب تلاميذ ابن عرفة المتأخرة وغيرهم، كالبسيلي، وأبي يحيى بن عقبة، وعمر القلشاني، وأبي القاسم القسنطيني، وأبي الحسن علي بن عصفور، وابن ناجي، والزلديوي في خلق كثير، قال ابن ناجي: ما رأيت أصح منه نقلا، ولا أحسن منه ذهنا، ولا أنصف منه، مع كمال الرئاسة، وشاهدت بعض

_ (1) وقع في «شجرة النور الزكية» هكذا: المنكلاتي. وفي غيره «المكلاتي» . وهو هنا كما في «نيل الابتهاج» (332) . (2) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (111) . (3) ينظر ترجمته في: «شجرة النور الزكية» (243) ، و «نيل الابتهاج» (297) .

جهّال الطلبة، وكان مؤدبا تلقّاه لما قام في مجلسه، وسجد بين يديه مشتكيا له بإنسان، فصاح عليه وانتهره، وهرب منه، وغضب لمخالفته السنة، وحلف له لا أسمع منه الآن كلمة واحدة- اهـ. وقال تلميذه الأمير أبو عبد الله المدعو الحسن بن السلطان أبي العباس: شيخنا ابن عرفة وشيخنا الغبريني ممن يجتهد في المذهب، ولا يحتاج للدليل على ذلك إذ العيان شاهد بتلك- اهـ. وقال أبو العباس القلشاني: استناب ابن عرفة وقت سفره للحج تلميذه القاضي الجليل أبا مهدي الغبريني على إمامة جامع «الزيتونة» ، وهو المشار إليه في كلامه، وتلميذه حينئذ قاضي الجماعة، ثم استقل بالإمامة المذكورة بعد وفاته، وبقي عليها حتى توفي ليلة السبت سابع عشرين من ربيع الثاني عام خمسة عشر وثمانمائة- اهـ. وقد سمع منه الثعالبي ب «تونس» . 8- سليمان بن الحسن البوزيدي، الشريف التلمساني، أبو الربيع «1» : الإمام العالم، المحصّل، السيد، قال الشيخ أبو البركات التالي: شيخنا الفقيه المحقق، كان قائما على «المدونة» و «ابن الحاجب» ، مستحضرا لفقه ابن عبد السلام، وأبحاثه نصب عينيه- اهـ. قال القلصادي في رحلته: حضرت مجلس سيّدي سليمان البوزيدي، وكان فقيها إماما عالما بمذهب مالك- اهـ. وذكر ابن غازي في ترجمة شيخه أبي محمد الورياغلي، أن من شيوخه صاحب الترجمة، وأنه وصف بالشريف، الحسيب النسيب، الفقيه العالم، المحقق الأفضل- اهـ. قال الونشريسي: شيخ شيوخنا، الفقيه المحصّل المحقّق، له إشكالات وجهها لعالم تونس أبي عبد الله بن عقاب، فأجابه عنها- اهـ. وقال في وفياته: توفي شيخ شيوخنا، الحافظ الذاكر، شيخ الفروع أبو الربيع سليمان الشريف عام خمسة وأربعين وثمانمائة. وسمع منه الثعالبي ب «بجاية» .

_ (1) تنظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (185) .

9- محمد بن علي بن جعفر الشمس، العجلوني، ثم القاهري، الشافعي الصوفي، ويعرف بالبلالي «1» - بكسر الموحدة ثم لام خفيفة-: ولد قبل الخمسين وسبعمائة، واشتغل بتلك البلاد قليلا، ولازم أبا بكر الموصلي، فانتفع به وبغيره، وتميز في التصوف، ولازم النظر في «الإحياء» بحيث كاد يأتي عليه حفظا، وصارت له به ملكة قوية بحيث اختصره اختصارا حسنا جدا. وكان بالنسبة لأصله كالحاوي مع الرافعي، وانتفع به الناس وأقبلوا على تحصيله سيما المغاربة وقرىء عليه غير مرة، وربما استكثر عليه، وكذا صنف «السول في شيء من أحاديث الرسول» ، واختصر «الروضة» ولكن لم يكملا، واختصر «الشفا» ، وعمل مختصرا بديعا في الفروع، وقرض السيرة النبوية لابن ناهض. وعرف بالخير والصلاح قديما، واشتهر بالتعظيم في الآفاق، وحسنت عقيدة الناس فيه، واستقدمه سودون الشيخوني نائب السّلطنة في حدود التسعين، وولاه مشيخة سعيد السعداء، فدام بها نحو ثلاثين سنة لم يزل عنها إلا مرة بخادمها خضر لقيام تمراز نائب الغيبة في الأيام الناصرية فرج ولم يمض سوى عشرة أيام، ثم جيء بالقبض عليه، وعد ذلك من كرامات البلالي، ثم أعيد. وكان كثير التواضع إلى الغاية منطرح النفس جدا، مشهورا بذلك، كثير البذل لما في يده، شديد الحياء، كثير العبادة والتلاوة والذكر، سليم الباطن جدّا بحيث كان كثير من الناس يتكلم فيه بسبب ما له من المباشرات بالخانقات وتؤثر عنه كرامات وخوارق. ذكره ابن حجر في معجمه بما هذا حاصله، قال: وكان يودني كثيرا، وأجاز في استدعاء ابني محمد، وذكر أنه ضاع منه مسموعاته. وكذا ذكره في «الإنباء» باختصار، وأنه استقر في مشيخة سعيد السعداء مدة متطاولة مع التّواضع الكامل، والخلق الحسن وإكرام الوارد. واختصر «الإحياء» فأجاد، وطار اسمه في الآفاق، ورحل إليه بسببه، ثم صنف تصانيف أخرى. وكانت له مقامات وأوراد، وله محبون معتقدون، ومبغضون منتقدون. ونحوه قول المقريزي: كان معتقدا وله شهرة طارت في الآفاق، وللناس فيه اعتقاد، وعليه انتقاد. مات في يوم الأربعاء رابع عشر شوال سنة عشرين، ودفن بمقابر الصوفية بعد شهود ابن حجر الصلاة عليه، وقد جاز السبعين. وهو في عقود المقريزي، وقال: كان كثير الذكر، متواضعا إلى الغاية بحيث لما اجتمعت به قبل يدي مرارا، وقدم إليّ نعلي لما انصرفت عنه، وهذه سيرته مع كل أحد، وحضرت عنده وظيفة الذكر بعد العشاء بالخانقاه، وكان يرى رفع الصوت به ويعلل ذلك،

_ (1) ينظر: «الضوء اللامع» (8/ 178) . [.....]

كثير الحياء يديم التلاوة مع سلامة الباطن، وله محبون يؤثرون عنه كرامات وخوارق رحمه الله. وسمع منه الثعالبي ب «مصر» . 10- عمر بن محمد القلشاني «1» - بفتح القاف وسكون اللام ثم معجمة أو جيم- المغربي، التونسي، الباجي الأصل- «باجة تونس» لا «الأندلس» فتلك منها شارح «الموطأ» - المالكي والد قاضي الجماعة محمد وأخو أحمد. أخذ عن أبيه وغيره، وولي قضاء الجماعة بتونس، واقرأ الفقه، والأصلين، والمنطق، والمعاني والبيان والعربية. وحدث بالبخاري عن أبي عبد الله بن مرزوق، وشرح «الطوالع» شرحا حسنا لم يكمل انتهى منه أكثر من مجلد إلى الإلهيات، وأخذ عنه خلق، منهم ولده، وإبراهيم الأخضري، وغالب الأعيان، وأبو عبد الله التريكي وآخرون ممن لقيناهم كابن زغدان، وكانت ولايته أولا قضاء الأنكحة ببلده كأبيه، ثم قضاء الجماعة بعد موت أبي القاسم القسنطيني، وكان يكون بينهما ما بين الأقران فدام به قليلا حتى مات في سنة ثمان وأربعين. وهناك من أرخه في سنة سبع وسمى جده عبد الله، وكان أبو القاسم قام على أخيه أحمد بسبب ما وقع منه من نقل كلام بعض المفسرين في قصة آدم عليه السلام وأفتى بقتله، بل أفتى أخوه أيضا بذلك قبل علمه به، فلما تبين أنه أخوه قام في الدفع عنه، وكان فصيحا في التقرير بحيث يستفيد منه من يكون بمجلسه من الأعلى والأدنى، ولا يمكن كبير أحد من الكلام، وقد قيل: إن سبب دخوله في القضاء أن عمه أحمد لم يسر سير ابن عقارب الذي كان قبله، فعز على الملك، واقتضى رأيه صرفه بابن أخيه هذا، وحصل لعمه نكاية عظيمة ولكن أعطوه إمامة جامع «الزيتونة» ، واستمر حتى مات، فالله أعلم. وسمع منه الثعالبي بعد رجعته إلى «تونس» . 11- علي بن موسى البجائي، أحد شيوخ عبد الرحمن الثعالبي ابن عبد الله بن محمد بن هيدور التادلي «2» : كان إماما في الفرائض والحساب، حسن الخط كثير التقييد، له مسائل في فنون، شرح تلخيص ابن البناء، وقيد على رفع الحجابلة، توفي عام ستة عشر وثمانمائة.

_ (1) ينظر ترجمته في: «الضوء اللامع» (6/ 137) . (2) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (333) .

وسمع منه الثعالبي ب «بجاية» . 12- البساطي «1» - محمد بن أحمد بن عثمان بن نعيم بن مقدم البساطي شمس الدين أبو يوسف القاضي المصري المالكي ولد سنة (756) وتوفي سنة (842) اثنتين وأربعين وثمانمائة. من تصانيفه: توضيح المعقول وتحرير المنقول في شرح منتهى السول والأمل لابن الحاجب، حاشية على شرح المواقف، حاشية على شرح لوامع الأسرار للتحتاني في المنطق والحكمة، حاشية على المطول، الرد الوافر على ابن الناصر، روضة المجالس وأنس الجالس، شرح الألفية لابن مالك، شرح البديعية لابن حجة، شرح التائية لابن الفارض، شرح قصيدة البردة، شفاء العليل شرح مختصر الشيخ الخليل في الفروع قصة الخضر عليه السلام، محاضرات خواص البرية في ألغاز الفقهية، المغني في الفروع، المفاخرة بين الدمشق والقاهرة، مقدمة في الأصول، مقدمة في الكلام، نكت على طوالع الأنوار للبيضاوي في الكلام. وسمع منه الثعالبي أثناء رحلته، وذلك ب «مصر» حرسها الله!! 13- أبو الحسن علي بن محمد البليليتي «2» : وسمع منه الثعالبي ب «بجاية» . 14- أبو يوسف يعقوب الزغبي «3» : وسمع منه ب «تونس» . وأما شيوخه الذين لم يذكرهم في رحلته، فقد ذكر التنبكي في «نيل الابتهاج» منهم ثلاثة، وهم: 1- عبد الله بن مسعود التونسي «4» : شهر بابن قرشية، قال ابن حجر: أخذ عن والده، وقرأت بخطه أن من شيوخه الإمام ابن عرفة، وقاضي الجماعة أحمد بن محمد بن حيدرة، وأحمد بن إدريس الزواوي، وأبا الحسن محمد بن أحمد البطروني، وأبا العباس أحمد بن مسعود بن غالب القيسي، وتوفي

_ (1) ينظر ترجمته في: «هدية العارفين» (192) . (2) ينظر: «نيل الابتهاج» (258) . (3) ينظر: «نيل الابتهاج» (258) ، و «شجر النور الزكية» (265) ، وفيه «الزعبي» بالعين المهملة. (4) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (230) ، و «الضوء اللامع» (3/ 70) .

سنة سبع وثلاثين وثمانمائة. 2- عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي «1» : الإمام الحافظ الفقيه المحدث العلامة الجليل، حامل لواء المذهب والحفظ في وقته، أبو القاسم شيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام أبي عمران العبدوسي الفاسي نزيل «تونس» ، أخذ عن أبيه وغيره، ووصل في قوة الحافظة الدرجة العظمى، قال القاضي أبو عبد الله بن الأزرق: كتب إليّ الشيخ الفقيه الجليل أحد المفتيين بتونس أبو عبد الله الزلديوي يعرفني حاله بالحفظ فيما يقضي منه العجب من الغرابة، قال: ورد علينا في أخريات عام سبعة عشر وثمانمائة الفقيه العالم الحافظ أبو القاسم ابن الشيخ الإمام أبي عمران موسى العبدوسي بكتاب في يده من قبل الإمام أبي عبد الله محمد بن مرزوق، ويقول لنا فيه: يرد عليكم حافظ المغرب الآن، فقلنا: لعل ذلك من تعسيل الإخوان لإخوانهم في الوصيّة بهم، فلما اجتمعنا به، وأقام عندنا أزيد من عام رأينا منه العجب العجاب من حفظ لا نتوهّم يكون لأحد لما رأينا في بلادنا إفريقيا ومجالس أشياخنا بتونس وبجاية، كان عندنا بتونس الشيخ أبو القاسم البرزلي له أهل زماننا في حفظ الفقه، وأشياخ المدونة والناس دونه في ذلك، وببجاية الشيخ الفقيه أبو القاسم المشذالي حضرنا مجالسهم، فما رأينا ولا سمعنا من يشبه العبدوسي في حفظه، وعلمنا صدق ابن مرزوق فيما وصفه به، وأن من ورعه ألا يذكر ولا يكتب إلا بما تحقق كما قال الشاعر: [الطويل] فلمّا التقينا صدّق الخبر الخبر وقال الآخر: [منهوك الرجز] بل صغّر الخبر الخبر وقال الونشريسي في تحليته: إنه الفقيه الحافظ المدرس المحدث الصدر الراوية المعتبر الأرفع الأفضل- اهـ. وقال الشيخ الرصاع: شيخنا الإمام العلامة المحدث الصالح الرباني يقال: اجتمع ليلة في جهاز بالشيخ أبي القاسم البرزلي، وهو أعمى، ولما تكلم العبدوسي قال له البرزلي: أهلا بواعظ بلدنا، فقال له العبدوسي: قل وفقيهها، فسكت البرزلي، فعد ذلك من رجلة العبدوسي وسرعة جوابه، رحمهم الله تعالى- اهـ.

_ (1) ينظر ترجمته في: (270) ، (371) ، و «شجرة النور الزكية» (252) .

تلاميذه:

ونقل عنه ابن ناجي في «شرح المدونة» ، والشيخ الثعالبي في شرح ابن الحاجب، وذكر عنه أنه قال: لا يلزم البراذعي مما تعقب به إلا حيث خالف ما في روايته من الأمهات عن موسى بن عقبة. وذكر الونشريسي في وفياته أنه توفي بتونس في التاسع والعشرين في ذي القعدة عام سبعة وثلاثين وثمانمائة. 3- عبد الواحد الغرياني «1» : تلاميذه: أخذ عن الإمام الثعالبي جماعة من أهل العلم منهم: 1- محمد بن محمد بن أحمد بن الخطيب، الشهير محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق «2» . العجيسي التلمساني، عرف بالكفيف، ولد الإمام أبي الفضل قطب المغرب الحفيد ابن مرزوق شارح «المختصر» ، كان ولده صاحب الترجمة إماما عالما علامة، وصفه ابن داود البلوي بشيخنا الإمام، علم الأعلام، فخر خطباء الإسلام، سلالة الأولياء وخلف الأتقياء، المسند الراوية المحدث، العلامة القدوة الحافل الكامل، أبو عبد الله ابن سيدنا شيخ الإسلام، خاتمة العلماء الأعلام، الحبر البحر، الناقد النافذ النّحرير، المشاور العمدة الكبير، ذي التصانيف العديدة، والأنظار السديدة، أبي عبد الله بن مرزوق. أخذ العلم عن جماعة منهم: أبو شيخ الإسلام، قرأ عليه «الصحيح» ، و «الموطأ» وغير كتاب من تآليفه وغيرها، وتفقه عليه وأجازه ما يجوز له وعنه روايته. والإمام العالم، النظار الحجة، أبو الفضل ابن الإمام، والإمام العلامة قاضي الجماعة المعمر المشاور أبو الفضل قاسم العقباني، والأستاذ المقرئ العالم أحمد بن محمد بن عيسى اللجائي الفاسي، والإمام العالم والولي الصالح المحدث عبد الرحمن الثعالبي، والإمام العالم الفقيه النظار أبو عبد الله محمد بن قاسم المشذالي، والإمام قاضي الجماعة العالم المحقق أبو عبد الله بن عقاب الجذامي التونسي، والإمام العالم الراوية الرحال، قاضي الأنكحة أبو محمد عبد الله بن سليمان بن قاسم البجيري التونسي. قرأ وسمع عليهم، وأجازوه عامة، وأجازه مكاتبة من شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر مع أولاد مرزوق عام تسعة وعشرين،

_ (1) ينظر: «نيل الابتهاج» (259) ، و «شجرة النور الزكية» (265) . (2) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (574) .

ومولده ليلة الثلاثاء غرة ذي القعدة عام أربع وعشرين وثمانمائة. قال التنبكي: ومن شيوخه الإمام ابن العبّاس، قال السخاوي: قدم صاحب الترجمة «مكة» فعرض عليه ظهيرة، وأخذ عنه في الفقه وأصوله، والعربية والمنطق في سنة إحدى وستين، وسمعت في إحدى وسبعين أنه حي- اهـ. وفي «وفيات الونشريسي» أن وفاته عام أحد وتسعمائة، ووصفه بالفقيه الحافظ المصقع. وأخذ عنه الخطيب ابن مرزوق ابن أخته، وابن العباس الصغير، ووصفه بشيخنا علم الأعلام وحجة الإسلام آخر حفاظ «المغرب» ، قرأت عليه الصحيحين وبعض مختصري ابن الحاجب الأصلي والفرعي، وحضرت عليه جملة من «التهذيب» و «الخونجي» وغيرها. وبالإجازة ابن غازي نقل عنه في «المازونية» . 2- محمد بن يوسف بن عمر شعيب السنوسي «1» : وبه اشتهر نسبة لقبيلة بالمغرب، الحسني، نسبة للحسن بن علي بن أبي طالب من جهة أم أبيه، قاله تلميذه الملالي في تأليفه التلمساني، عالمها، وصالحها، وزاهدها، وكبير علمائها، الشيخ، العلامة المتفنن، الصالح الزاهد العابد، الأستاذ المحقّق المقرئ، الخاشع: أبو يعقوب يوسف. نشأ خيرا مباركا فاضلا صالحا، أخذ (كما قال تلميذه الملالي) عن جماعة، منهم: والده المذكور، والشيخ العلامة نصر الزواوي، والعلامة محمد بن توزت، والسيد الشريف أبو الحجاج يوسف بن أبي العباس بن محمد الشريف الحسني، أخذ عنه القراءات، وعن العالم المعدل أبي عبد الله الحباب علم الأسطرلاب، وعن الإمام محمد بن العباس الأصول والمنطق، وعن الفقيه الجلاب الفقه، وعن الولي الكبير الصالح الحسن أبركان الراشدي حضر عنده كثيرا، وانتفع به وببركته، وكان يحبه ويؤثره ويدعو له، فحقق الله فيه فراسته ودعوته، وعن الفقيه الحافظ أبي الحسن التالوتي أخيه لأمه «الرسالة» ، وعن الإمام الورع الصالح أبي القاسم الكنابشي «إرشاد» أبي المعالي والتوحيد، وعن الإمام الحجة الورع الصالح أبي زيد الثعالبي «الصحيحين» وغيرهما من كتب الحديث، وأجازه ما يجوز له وعنه، وعن الإمام العالم العلامة الولي الزاهد الناصح إبراهيم التازي، وروى عنه أشياء

_ (1) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (563) .

كثيرة من المسلسلات وغيرها. وعن العالم الأجلّ الصالح أبي الحسن القلصادي الأندلسي الفرائض والحساب، وأجازه جميع ما يرويه وغيرهم. وكان آية في علمه وهديه، وصلاحه وسيرته، وزهده وورعه وتوقيه. جمع تلميذه الملالي في أحواله وسيره وفوائده تأليفا كبيرا في نحو ستة عشر كراسا من القالب الكبير. وكان حليما، كثير الصبر، ربما يسمع ما يكره فيتعامى عنه ولا يؤثر فيه، بل يتبسم، وهذا شأنه في كل ما يغضبه ولا يلقي له بالا، ولا يحقد على أحد، ولا يعبس في وجهه، يفاتح من تكلم في عرضه بكلام طيب وإعظام حتى يعتقد أنه صديقه، وقع له ممن يدعي أنه أعلم أهل الأرض كلام ينقصه، فما بالى به، ولما ألّف بعض عقائده أنكر عليه كثير من علماء أهل وقته، وتكلموا بما لا يليق، فتغير لذلك كثيرا وحزن أياما، ثم رأى في منامه عمر بن الخطاب واقفا على رأسه بيده سيف أو عصا، فهزها على رأسه وهدده بها، وكأنه قال: ما هذا الخوف من الناس. فأصبح قد زال حزنه، واشتدّ قلبه على المنكرين فخرست حينئذ ألسنتهم، فحلم عنهم وسمح، فأقروا بفضله. وكان من عاداته أنه إذا صلى الصبح في مسجده وفرغ من ورده، أقرأ العلم إلى وقت الفطور المعتاد، ثم خرج ووقف مع الناس ساعة بباب داره ثم دخل وصلى الضحى قدر قراءة عشرة أحزاب، ثم اشتغل بالمطالعة في وقت طول النهار، وإلا ربما زالت الشمس وهو في الضحى، وخرج بعد الزوال للخلوات، فلا يرجع إلا للغروب، أو يبقى في بيته فيتوضأ ويصلي أربع ركعات، ثم خرج لمسجده وصلى بالناس الظهر وتنفل أربعا، ويقرىء ثم يتنفل وقت العصر أربعا، ويصلي العصر ويقرأ، أو يخرج لداره. واشتغل بالورد إلى الغروب، ثم خرج للمغرب وتنفل بست ركعات، ويبقى هناك حتى يصلي العشاء، ويقرأ ما تيسر ورجع لداره ونام ساعة، ثم اشتغل بالنظر أو النسخ ساعة وتوضأ، ويصلي باقيا فيها، أو في ذكر لطلوع الفجر، هذا أكثر حاله. وأما وعظه، فكان يقرع الأسماع، وتقشعر منه الجلود، كل من حضر يقول: معي يتكلم، وإياي يعني، جله في الخوف والمراقبة وأحوال الآخرة، لا تخلو مجالسه منه مع حلاوة له، لا توجد في كلام غيره، يعظ كل أحد بحسب حاله، ما رؤي قط إلا وشفتاه متحركتان بالذكر، وربما يكلمه إنسان وهو يذكر الله تعالى، وتسمع لقلبه أنينا من شدة خوفه ومراقبته على الدوام، كان يقول: حقيقة العبودية امتثال الأمر، واجتناب النهي مع كمال الذلة والخضوع.

وكان- رحمه الله- أورع زمانه، يبغض الاجتماع بأهل الدنيا والنظر إليهم وقربهم، وأتاه في مرضه بعض من يذمه من علماء عصره، فطلب منه أن يسمح له، فغفر له ودعا له، ولما مات بكى عليه هذا العالم شديدا وتألم، ومتى ذكره بكى ويقول: فقدت الدنيا بفقده، كان يثني كثيرا على رجلين من علماء عصره ممن يذمونه ويسيئون إليه، وكان يصلح بين الخصام، ويقضي الحوائج، ذكر أنه كتب يوما ثلاثين كتابا بلا فترة، قال: «كلفني بها إنسان لم أقدر على ردها» . ولو كان إنسان ينسخ مثل هذا في كل يوم لظفر بعدة أسفار، وهذه مصائب ابتلينا بها. ومن صبره كثرة وقوفه مع الخلق، ولا يفارق الرجل حتى ينصرف. وهذا كله مع إدامة الطاعات وسواء الطريقة وشدة التّحرّز والإسراع بوفاء حقوق العباد قبل استحقاقها، إذا أعار كتابا رده في أقرب مدة قبل طلب صاحبه، وربما كان سفرا ضخما لا يمكن مطالعته إلا في ثلاثة أيام، فيطالعه يوما واحدا ويرده. وكان يأمر أهله بالصّدقة سيما وقت الجوع ويقول: من أحب الجنة فليكثر الصدقة خصوصا في الغلاء، كثير التصدق بيده، ويكثر الخروج للخلوات ومواضع الخرب الباقية آثارها للاعتبار، وإذا رأى ما كان منها متقنا ذكر حديث: «رحم الله عبدا صنع شيئا فأتقنه» ويقول: أين سكانها؟ وكيف يتنعمون؟. وأما تآليفه فقال الملالي: منها شرحه الكبير على «الحوفية» المسمى «المقرب المستوفى» كبير الجرم، كثير العلم، ألفه وهو ابن تسعة عشر عاما، ولما وقف عليه شيخه الحسن أبركان تعجب منه، وأمر بإخفائه حتى يكمل سنه أربعين سنة لئلا يصاب بالعين، ويقول له: لا نظير له فيما أعلم، ودعا لمؤلفه، وعقيدته الكبرى سماها «عقيدة التوحيد» في كراريس من القالب الرباعي، أول ما صنفه في الفن، ثم شرحها، ثم الوسطى وشرحها في ثلاثة عشر كراسا، ثم الصغرى وشرحها في ست، وهي من أجل العقائد لا تعادلها عقيدة، كما أشار إليه هو. حدثني بعضهم أنه مات قريبه وكان صالحا، فرآه في النوم. فسأله عن حاله فقال: دخلت الجنة فرأيت إبراهيم الخليل (عليه السلام) يقرىء صبيانا عقيدة السنوسي، يدرسونها في الألواح يجهرون بقراءتها- اهـ. قال الشيخ: لا شك أنه لا نظير لها فيما علمت، تكفي من اقتصر عليها عن سائر العقائد، وقد نظم سيدي محمد بن يحبش التازي في مدحها أبياتا، وعقيدته المختصرة أصغر من الصغرى، وشرحها أربع كراريس، وفيه فوائد ونكت، والمقدمات المبينة لعقيدته الصغرى قريبة منها جرما، وشرحها خمس كراريس، وشرح الأسماء الحسنى في كراريس،

وشرحه الكبير على الجزيرية فيه نكت نفيسة، ومختصر الأبي على مسلم في سفرين فيه نكت حسنة، وشرح «ايسا غوجي» في المنطق، تأليف البرهان البقاعي كثير العلم، ومختصره العجيب فيه زوائد على «الخونجي» وشرحه الحسن جدا، وشرح قصيدة الحباك في الأسطرلاب شرح جليل، وشرح أبيات الإمام الاليري في التصوف، وشرح الأبيات التي أولها: تطهر بماء الغيب، وشرحه العجيب على البخاري وصل فيه إلى باب «من استبرأ لدينه» ، وشرح مشكلات البخاري في كراسين، ومختصر الزركشي على البخاري. ومنها عقيدة أخرى فيها دلائل قطعية على من أثبت تأثير الأسباب العادية، كتبها لبعض الصالحين، ومختصر «حاشية التفتازاني» على «الكشاف» ، و «شرح مقدمة الجبر والمقابلة» لابن الياسمين، وشرح «جمل» الخونجي في المنطق، و «شرح مختصر ابن عرفة» ، فيه حل صعوبته، وقال لي: إن كلامه صعب سيما هذا المختصر تعبت كثيرا في حله لصعوبته إلى الغاية، لا أستعين عليها إلا بالخلوة. ومنها شرح رجز ابن سينا في الطب لم يكمل، ومختصر في القراءات السبع، وشرح «الشاطبية» الكبرى لم يكمل، وشرح «الوغليسية» في الفقه لم يكمل، ونظم في الفرائض، واختصار «رعاية» المحاسبي، ومختصر «الرّوض الأنف» للسهيلي لم يكمل، ومختصر «بغية السالك في أشرف المسالك» للساحلي، وشرح «المرشدة» و «الدر المنظوم» في شرح «الجرومية» ، وشرح «جواهر العلوم» للعضد في علم الكلام على طريقة الحكماء، وهو كتاب عجيب جدا في ذلك، إلا أنه صعب متعسّر على الفهم جدا، وتفسير القرآن إلى قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في ثلاثة كراريس، ولم يمكن له التفرغ له، وتفسير سورة «ص» وما بعدها، فهذا ما علمت من تآليفه مع ما له من الفتاوى والوصايا والرسائل والمواعظ، مع كثرة الأوراد وقضاء الحوائج والإقراء- اهـ. وقد أخذ عنه أعلام كابن صعد، وأبي القاسم الزواوي، وابن أبي مدين، والشيخ يحيى بن محمد، وابن الحاج البيدري، وابن العباس الصغير، وولي الله محمد القلعي ريحانة زمانه، وإبراهيم الوجديجي وابن ملوكة، وغيرهم من الفضلاء. وتوفي يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأخيرة عام خمسة وتسعين وثمانمائة، وشم الناس المسك بنفس موته، رحمه الله. مولده بعد الثلاثين وثمانمائة. 3- أبو العباس أحمد بن عبد الله الجزائري الزواوي «1» ، الشيخ الإمام الفاضل،

_ (1) ينظر ترجمته في: «شجرة النور الزكية» (265) .

العالم العامل، الولي الصالح الكامل. أخذ عن أبي زيد الثعالبي وغيره، وعنه الشيخ زروق وغيره. ألف اللامية المشهورة في العقائد، شرحها الشيخ السنوسي، وأثنى على ناظمها بالعلم والصّلاح. توفي سنة 884 هـ. 4- محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي «1» : التلمساني خاتمة المحققين، الإمام العالم، العلامة الفهامة، القدوة الصالح السني، أحد الأذكياء، ممن له بسطة في الفهم والتقدم، متمكن المحبة في السنة وبغض أعداء الدين، وقع له بسبب ذلك أمور مع فقهاء وقته حين قام على يهود «توات» ، وألزمهم الذل، بل قتلهم وهدم كنائسهم، ونازعه في ذلك الفقيه عبد الله العصنوني قاضي «توات» ، وراسلوا في ذلك علماء «فاس» و «تونس» و «تلمسان» ، فكتب في ذلك الحافظ التنسي كتابة مطولة، بصواب رأي صاحب الترجمة، ووافقه عليها الإمام السنوسي. دخل بلاد «أهر» وبلاد «تكدة» ، واجتمع بصاحبها، وأقرأ أهلها وانتفعوا به، ثم دخل بلاد «كنو وكشن» من بلاد السودان، واجتمع بصاحب «كنو» واستفاد عليه، وكتب رسالة في أمور السلطنة يحضه على اتباع الشرع، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرر لهم أحكام الشرع وقواعده. ثم رحل لبلاد «التكرور» ، فوصل إلى بلدة «كاغو» ، واجتمع بسلطانها ساسكي محمد الحاج، وجرى على طريقته من الأمر بالمعروف، وألف له تأليفا أجابه فيه عن مسائل، وبلغه هناك قتل ولده بتوات من جهة اليهود، فانزعج لذلك، وطلب من السلطان قبض أهل توات الذين بكاغو حينئذ، فقبض عليهم، وأنكر عليه أبو المحاسن محمود بن عمر إذ لم يفعلوا شيئا، فرجع عن ذلك، وأمر بإطلاقهم، ورحل لتوات فأدركته المنية بها، فتوفي هناك سنة تسع وتسعمائة. ويقال: إن بعض ملاعين اليهود أو غيرهم مشى لقبره فبال عليه فعمي مكانه، وكان- رحمه الله- مقداما على الأمور، جسورا جريء القلب، فصيح اللسان، محبا في السنة جدليا نظارا محققا. له تآليف منها: «البدر المنير في علوم التفسير» ، و «مصباح الأرواح في أصول الفلاح» كتاب عجيب في كراسين أرسله للسنوسي، وابن غازي، فقرظاه، وشرح «مختصر

_ (1) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (576) ، و «بروكلمان» (2/ 363) .

خليل» سماه «مغني النبيل» ، اختصر فيه جدا، وصل فيه للقسم بين الزوجات، وله عليه قطع أخر من البيوعات وغيرها، بل قيل: إنه شرح ثلاثة أرباع المختصر، وحاشية عليه سماها «إكليل المغني» ، وشرح بيوع الآجال من ابن الحاجب، فبحث فيه مع ابن عبد السلام وخليل، وتأليف في المنهيات، ومختصر «تلخيص المفتاح» وشرحه، و «مفتاح النظر» في علم الحديث، فيه أبحاث مع النووي في تقريبه، وشرح «الجمل» في المنطق، ومقدمة فيه، ومنظومة فيه سماها «منح الوهاب» ، وثلاثة شروح عليها. وله أيضا «تنبيه الغافلين عن مكر الملبسين بدعوى مقامات العارفين» ، وشرح خطبة المختصر، ومقدمة في العربية، وكتاب «الفتح المبين» ، وفهرسة مروياته، وعدة قصائد، كالميمية على وزن البردة ورويّها في مدحه صلى الله عليه وسلم. أخذ عن الإمام عبد الرحمن الثعالبي، والشيخ يحيى بن بدير، وغيرهما، وأخذ عنه جماعة، كالفقيه أيد أحمد، والشيخ العاقب الأنصمني، ومحمد بن عبد الجبار الفيجي وغيرهم. ووقع له مراسلة مع الجلال السيوطي في علم المنطق، فمما كتب للسيوطي فيه قوله: [من الطويل] سمعت بأمر ما سمعت بمثله ... وكلّ حديث حكمه حكم أصله أيمكن أنّ المرء في العلم حجّة ... وينهى عن الفرقان في بعض قوله هل المنطق المعنيّ إلّا عبارة ... عن الحقّ أو تحقيقه حين جهله معانيه في كلّ الكلام وهل ترى ... دليلا صحيحا لا يردّ لشكله أرنّي هداك الله منه قضيّة ... على غير هذا تنفها عن محلّه ودع عنك أبداه كفور وذمّة ... رجال وإن أثبتّ صحّة نقله خذ الحقّ حتّى من كفور ولا تقم ... دليلا على شخص بمذهب مثله عرفناهم بالحقّ لا العكس فاستبن ... به لا بهم إذ هم هداة لأجله لئن صحّ عنهم ما ذكرت فكم هم ... وكم عالم بالشّرع باح بضلّه ... في أبيات أخرى، فأجابه السيوطيّ بقوله: [من الطويل] حمدت إله العرش شكرا لفضله ... وأهدي صلاة للنّبيّ وأهله عجيب لنظم ما سمعت بمثله ... أتاني عن حبر أقرّ بنبله

تعجّب منّي حين ألّفت مبدعا ... كتابا جموعا فيه جمّ ب نقله أقرّر فيه النّهي عن علم منطق ... لما قاله الأعلام من ذمّ شكله وسمّاه بالفرقان يا ليت لم يقل ... فذا وصف قرآن كريم ل فضله وقال فيه فيما يقرر رأيه ... مقالا عجيبا نائيا عن مح لّه: ودع عنك أبداه كفور وبعد ذا ... خذ الحقّ حتّى من كفور ب ختله وقد جاءت الآثار في ذمّ من حوى ... علوم يهود أو نصارى ل أجله يعزّز به علما لديه وأنّه ... يعذّب تعذيبا يليق ب فعله وقد منع المختار فاروق صحبه ... وقد خطّ لوحا بعد توراة أهله وقد جاء من نهي اتّباع لكافر ... وإنّ كان ذاك الأمر حقّا ب أصله أقمت دليلا بالحديث ولم أقم ... دليلا على شخص بمذهب مثله سلام على هذا الإمام فكم له ... لديّ ثناء واعتراف بفضله- اهـ- 5- علي بن محمد التالوتي الأنصاري أخو الإمام محمد بن يوسف السنوسي لأمه «1» : قال تلميذه الملالي: شيخنا، الفقيه، الحافظ، المتقن، العالم، المتفنن، الصالح، أبو الحسن، كان محقّقا متقنا حافظا يحفظ كتاب ابن الحاجب، ويستحضره بين عينيه، قل أن ترى مثله حافظا، قرأ عليه أخوه محمد السنوسي «الرسالة» في صغره، وكان من أكابر أصحاب الحسن أبركان، ما رأيته قط مشتغلا بما لا يعنيه، بل إما ذاكرا أو قارئا للقرآن أو مشتغلا بمطالعة أو نحوه، يحفظ «الرسالة» و «ابن الحاجب» ، و «التسهيل» لابن مالك، وغيرها، جعل له وردا كل يوم، قرأت عليه «ابن الحاجب» قراءة بحث وإفادة، وسألته عن وضع الكتاب في الأرض، فقال: حكى شيخنا الحسن أبركان فيه قولين لمتأخري أهل «تونس» و «بجاية» جوازا ومنعا، وسألته عن مستند الناس في عادتهم من عدم أخذ الرجل المقص من صاحبه بل يضعه على الأرض فيأخذه حينئذ، فقال: سألت عنه شيخنا الحسن أبركان فقال: هكذا رأينا شيوخنا يفعلون، ثم قال سيدي علي: ولعلّه علم نسبي- اهـ. قال التنبكي: وقد ذكر السيد الشريف السمهودي الشافعي في كتابه «جواهر العقدين» حكمة منعه عن بعض شيوخه فانظره فيه، قال الملالي: وسألته عن الوتر جالسا قال: فيه قولان بالجواز وعدمه، وذكر أخوه السنوسي أنه يؤخذ جوازه جالسا من قول «المدونة» : أنه

_ (1) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (341) ، و «شجرة النور الزكية» (266) .

يوتر في سفره على الدّابّة- اه. وهذا الأخذ نقله ابن ناجي عن بعض الشيوخ، قال الملالي: رأيت بخطّه عن بعض الصالحين أن من نزل منزلا وجمع أثقاله وخط على حواليها خطّا وهو في داخل الخط، ويقول في داخله ثلاثا: الله الله ربي لا شريك له، لم يضره لصّ ولا عدوّ ولا غيره، ويكون مع ثقله في حرز الله، وهو مجرب- اهـ. وتوفي في صفر عام خمسة وتسعين وثمانمائة، ورأى أخوه السنوسي قبل موته في المنام دارا عظيمة فيها فرش مرتفع فقيل له: هي لأخيك عليّ يدخل فيها عروسا- اهـ. - من الملالي. 6- علي بن عبّاد التّستريّ البكري الفاسي المغربي: «1» أخذ عن أبي بكر البرجي الفقه، وأسئلة كثيرة عن محمد القوري، وسمع الحديث على عبد الرحمن الثعالبي، ومن تآليفه «لطائف الإشارات في مراتب الأنبياء في السموات» ، ولد سنة ثلاثين وثمانمائة. قال التنبكي: وتأليفه المذكور في كراسة ذكر في آخره أنه فرغ منه في ذي الحجة عام ثمانين وثمانمائة. 7- أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق «2» : الإمام العالم الفقيه، المحدث، الصوفي، الولي، الصالح الزاهد، القطب الغوث العارف بالله، الحاج الرحلة المشهورة شرقا وغربا، ذو التصانيف العديدة، والمناقب الحميدة، والفوائد العتيدة، قد عرف بنفسه وأحواله وشيوخه في كناشته وغيرها، فقال: ولدت يوم الخميس طلوع الشمس ثامن وعشرين من المحرم سنة ست وأربعين وثمانمائة، وتوفيت أمي يوم السبت بعده وأبي يوم الثلاثاء بعده كلاهما في سابعي، فبقيت بعين الله بين جدتي الفقيهة أم البنين، فكفلتني حتى بلغت العشر، وحفظت القرآن، وتعلمت صناعة الخرز، ثم نقلني الله بعد بلوغي سادس عشر إلى القراءة، فقرأت «الرسالة» على الشيخين: على السطي، وعبد الله الفخار قراءة بحث وتحقيق، و «القرآن» على جماعة منهم: القوري، والزرهوني، وكان رجلا صالحا، والمجاصي، والأستاذ الصغير بحرف نافع، واشتغلت بالتصوف والتوحيد، فأخذت «الرسالة القدسية» ، و «عقائد الطوسي» على الشيخ

_ (1) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (342) . [.....] (2) ينظر ترجمته في: «نيل الابتهاج» (130) .

عبد الرحمن المجدولي، وهو من تلاميذ الأبي، وبعض «التنوير» على القوري، وسمعت عليه البخاري كثيرا، وتفقهت عليه في كل «أحكام عبد الحق الصغرى» ، و «جامع الترمذي» ، وصحبت جماعة من المباركين لا تحصى كثرة بين قفيه وفقير. وقال فيه الشيخ ابن غازيّ: صاحبنا الأود الخلاصة الصفي، الفقيه المحدث، الفقير، الصوفي البرنسي، و «برنس» ، بنون مضمومة بعد الراء، نسبة إلى عرب بالمغرب، انتهت فهرسته. وقال الحافظ السخاوي: أخذ على القوري، وكتب على «حكم ابن عطاء الله» ، وعلى «القرطبية» في الفقه، ونظم «فصول السلمي» - اهـ. قال التنبكي: ومن شيوخه، كما ذكره هو، الشيخ الإمام عبد الرحمن الثعالبي، والولي إبراهيم التازي، والمشذالي، والشيخ حلولو، والسراج الصغير، والرصاع، وأحمد بن سعيد الحباك، والحافظ التنسي، والإمام السنوسي، وابن زكري، وأبو مهدي عيسى المواسي، وبالمشرق عن جماعة كالنور السنهوري، والحافظ الدميري، والحافظ السخاوي، والقطب أبي العباس أحمد بن عقبة الحضرمي، وولي الله الشهاب الأنشيطي في جماعة آخرين. وأما تآليفه: فكثيرة يميل إلى الاختصار مع التحرير، ولا يخلو شيء منها عن فوائد غزيرة، وتحقيقات مفيدة سيما في التصوف، فقد انفرد بمعرفته وجودة التأليف فيه، فمنها شرحان على «الرسالة» ، وشرح «إرشاد ابن عسكر» ، وشرح «مختصر خليل» ، رأيت مواضع منه بخطه عن الأنكحة والبيوع وغيرها، وشرح «الوغليسية» ، وشرح «القرطبية» ، وشرح «الغافقية» ، وشرح «العقيدة القدسية» للغزالي، ونيف وعشرون شرحا على الحكم، وقفت على الخامس عشر والسابع عشر منها، وأخبرني والدي- رحمه الله تعالى- أن بعض المكيين أخبره، أن له عليها أربعا وعشرين شرحا، وشرحان على «حزب البحر» ، وشرح «الحزب الكبير» لأبي الحسن الشاذلي، وشرح مشكلاته، وشرح «الحقائق والدقائق» للمقري، وشرح قطع الششتري وشرح «الأسماء الحسنى» ، وشرح «المراصد» في التصوف لشيخه ابن عقبة، و «النصيحة الكافية لمن خصّه الله بالعافية» . واختصره. و «إعانة المتوجه المسكين على طريق الفتح والتمكين» ، وكتاب «القواعد في التصوف» ، وهذه الثلاثة في غاية النبل والحسن، سيما الأخير لا نظير له. وكتاب «النصح الأنفع والجنة للمعتصم من البدع بالسنة» ، وكتاب «عدة المريد الصادق من أسباب المقت في بيان الطريق وذكر حوادث الوقت» كتاب جليل فيه مائة فصل بين فيه البدع التي يفعلها فقراء الصّوفية، وله تعليق لطيف على «البخاري» قدر عشرين كراسا اقتصر فيه على ضبط الألفاظ وتفسيرها، وجزء صغير في علم الحديث، وله رسائل كثيرة لأصحابه مشتملة على حكم

ومواعظ وآداب ولطائف التصوف مع الاختصار قلّ أن توجد لغيره، وبالجملة فقدره فوق ما يذكر، ومن تفرغ فذكر حاله وفوائده وحكمه ورسائله جمع منها مجلدا. وهو آخر أئمة الصوفية المحققين الجامعين لعلمي الحقيقة والشريعة، له كرامات عديدة، وحجّ مرات، وأخذ عنه جماعة من الأئمة، كالشمس اللقاني، والعالم محمد بن عبد الرحمن الحطّاب، والزين طاهر القسنطيني، وغيرهم، وقد أجازني سيدي الشيخ الصوفي أحمد بن أبي القاسم الهروي التادلي ما أجازه شيخه العريف الخروبي تلميذ زروق عنه. توفي ب «تكرين» من عمل «طرابلس» «1» في صفر عام تسعة وتسعين وثمانمائة، ووجدت منسوبا إليه من نظمه قوله: [الطويل] ألا قد هجرت الخلق طرّا بأسرهم ... لعلّي أرى محبوب قلبي بمقلتي وخلّفت أصحابي وأهلي وجيرتي ... وتيّمت نجلي واعتزلت عشيرتي ووجّهت وجهي للّذي فطر السّما ... وأعرضت عن أفلاكها المستنيرة وعلّقت قلبي بالمعالي تهمّسا ... وكوشفت بالتّحقيق من غير مرية وقلّدت سيف العزّ في مجمع الوغى ... وصرت إمام الوقت صاحب رفعة وملّكت أرض الغرب طرّا بأسرها ... وكلّ بلاد الشّرق في طيّ قبضتي فملّكنيها بعض من كان عارفا ... وخلّفني فيها بأحسن سيرتي فأرفع قدرا ثمّ أخفض رتبة ... لأرفع مقدارا بأرفع حكمتي وأعزل قوما ثمّ أولي سواهم ... وأعلي منار البعض فوق المنصّة وأجبر مكسورا وأشهر خاملا ... وأرفع مقدارا بأرفع همّتي وأقهر جبّارا وأدحض ظالما ... وأنظر مظلوما بسلطان سطوتي وألهمت أسرارا وأعطيت حكمة ... وحزت مقامات العلا المستنيرة أنا لمريدي جامع لشتاته ... إذا ما سطا جور الزّمان بنكبة وإن كنت في كرب وضيق ووحشة ... فناد أيا زروق، آت بسرعة فكم كربة تجلى بمكنون عزّنا ... وكم طرفة تجنى بأفراد صحبتى

_ (1) طرابلس الغرب: بلدة على جانب البحر. ينظر: «مراصد الاطلاع» (882) .

مصنفات الثعالبي:

مصنّفات الثّعالبيّ: لم تحظ أمة من الأمم بمثل ما حظيت به هذه الأمة الإسلامية من تراث تليد، وأثر حميد، ذلك أن علماءها قد ملئوا مكتباتها بكتب وأسفار تحمل في صفحاتها وصحيفاتها كل علم نافع، سواء في الدنيا أو في الآخرة. ولقد درج الثعالبي- رحمه الله- نفسه ضمن تلك السلسلة المباركة، من شيوخ هذه الأمة، فأخرج لنا نفائس الكتب في مختلف العلوم، إلا أن الذي ذكر لنا في تراجمه لم يكن بالعدد الضخم الذي يبلغ المائة، ولا ما يزيد، مثل ما كان عدد مصنفات ابن الجوزيّ مثلا، فقد قال ابن تيمية عنه: «عددت له ألف مصنف، ثم رأيت بعد ذلك ما لم أر» . وكانت مصنّفات الثعالبي كما يلي: أولا: في التفسير: - الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وهو هذا الكتاب. ثانيا: في الفقه: 1- روضة الأنوار، جمعه من نحو من ستين من أمهات الدواوين المعتمدة. 2- جامع الأمهات في أحكام العبادات. ثالثا: في الحديث: 1- أربعون حديثا مختارة. 2- المختار من الجوامع. رابعا: الرقائق وعلوم الآخرة: 1- الأنوار المضيئة في الجمع بين الشريعة والحقيقة. 2- العلوم الفاخرة في أحوال الآخرة. 3- كتاب النّصائح. 4- جامع الفوائد. 5- الدر الفائق في الأذكار.

6- الإرشاد في مصالح العباد. خامسا: في القراءات: - شرح منظومة ابن بريّ في قراءة نافع. سادسا: تهذيب النّفس: - إرشاد السالك. سابعا: إعراب القرآن وغريبه: 1- تحفة الأقران في إعراب بعض آي القرآن. 2- الذهب الإبريز في غريب القرآن العزيز. ثامنا: في الخصائص النبوية: - كتاب في معجزاته صلى الله عليه وسلم. وقد أثنى العلماء على مصنّفات الثعالبي، فقال السخاوي: «كان إماما علامة، مصنفا ... » .، وفي شجرة النور: له تآليف كثيرة مفيدة. وبالجملة، فهذا تقييم لأحد مترجمي الإمام الثعالبي، ذكر فيه كتبه وحجمها، ومادتها. قال التنبكي: وأما تآليفه فكثيرة كتفسيره «الجواهر الحسان» في غاية الحسن، اختصر فيه «ابن عطية» مع فوائد وزوائد كثيرة، و «روضة الأنوار، ونزهة الأخيار» ، وهو قدر «المدونة» ، فيه لباب من نحو ستين من أمهات الدواوين المعتمدة، وهو خزانة كتب لمن حصله قال: وجمعته في سنين كثيرة، فيه بساتين وروضات- اهـ. وكتاب «الأنوار في معجزات النبي المختار» صلى الله عليه وسلم، و «الأنوار المضيئة الجامع بين الحقيقة» في جزء، و «رياض الصالحين» جزء، وكتاب «التقاط الدرر» ، وكتاب «الدر الفائق في الأذكار والدعوات» ، و «العلوم الفاخرة في أحوال الآخرة» مجلد ضخم، وشرح «ابن الحاجب» الفرعي في سفرين، جمع فيه نخب كلام ابن رشد وابن عبد السلام وابن هارون وخليل وغرر ابن عرفة مع جواهر «المدونة» وعيون مسائلها في سفرين، وفي آخره جامع كبير نحو عشرة كراريس من القالب الكبير فيه فوائد، و «إرشاد السالك» جزء صغير،

ثناء العلماء عليه:

و «الأربعون حديثا مختارة» ، و «المختار من الجوامع في محاذاة الدرر اللوامع» ، وكتاب «جامع الفوائد» ، وكتاب «جامع الأمهات في أحكام العبادات» ، وكتاب «النصائح» ، وكتاب «تحفة الإخوان في إعراب بعض آي القرآن» ، و «الذهب الإبريز في غرائب القرآن العزيز» ، وكتاب «الإرشاد في مصالح العباد» ، ذكر جميعها في فهرسته. ثناء العلماء عليه: نال الإمام الثعالبي ثناء عطرا من أهل العلم، والله (سبحانه) يعلي ذكر المرء في الأمم والأعصار على قدر إخلاصه ونيته. قال الإمام السخاوي: «وكان إماما مصنفا ... وعمل في الوعظ والرقائق وغير ذلك» . وفي «نيل الابتهاج» قال التنبكي: «الشيخ، الإمام، الحجة، العامل، الزاهد، الورع، ولي الله الناصح الصالح، العارف بالله، أبو زيد، شهر بالثعالبي، صاحب التصانيف المفيدة، كان من أولياء الله المعرضين عن الدنيا وأهلها، ومن خيار عباد الله الصالحين، قال السخاوي: كان إماما علامة مصنفا، اختصر تفسير ابن عطية في جزءين، وشرح «ابن الحاجب» الفرعي في جزءين، وعمل في الوعظ والرقائق وغيرها- اهـ. قال الشيخ زروق: شيخنا الفقيه الصالح والديا عليه أغلب من العلم، يتحرى في النقل أتم التحري، وكان لا يستوفيه في بعض المواضع- اهـ. قال ابن سلامة البكري: كان شيخنا الثعالبي رجلا صالحا زاهدا عالما عارفا وليا من أكابر العلماء، له تآليف جمة أعطاني نسخة من تفسير «الجواهر» لا بشراء ولا عوض، عاوضه الله بالجنة، وقال غيره: سيدنا ووسيلتنا لربنا الإمام الولي العارف بالله- اهـ. قلت: وهو ممن اتفق النّاس على صلاحه وإمامته، أثنى عليه جماعة من شيوخه بالقلم والدين والصلاح، كالإمام الأبي، والوليّ العراقي، والإمام الحفيد ابن مرزوق. وقال في «شجرة النور الزكية» : «الإمام، علم الأعلام، الفقيه، المفسر، المحدث، الراوية، العمدة، الفهامة، الهمام، الصالح، الفاضل، العارف بالله، الواصل. أثنى عليه جماعة بالعلم والصّلاح والدين المتين» . وقال الغزي في «ديوان الإسلام» : «الإمام، الحبر، العلامة» .

وفاته:

وقال الذّهبيّ في «التفسير والمفسرون» : «الإمام الحجة، العالم العامل، الزاهد، الورع، ولي الله الصالح، العارف بالله، كان من أولياء الله المعرضين عن الدنيا وأهلها، ومن خيار عباد الله الصالحين» . وفاته: كانت وفاة الثعالبي سنة خمس وسبعين وثمانمائة، كما ذكر تلميذه زروق، وذكره السخاوي في «الضوء اللامع» . إلا أن صاحب «شجرة النور الزكية» حكاها على الشّكّ، بين خمس وست وسبعين. رحمه الله رحمة واسعة!!

المبحث الثاني التفسير قبل أبي زيد الثعالبي التفسير والتأويل

المبحث الثاني التفسير قبل أبي زيد الثعالبي التّفسير والتّأويل التّفسير لغة: التفسير في اللغة: الإيضاح والتبيين ومنه قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33] أي: بيانا وتفصيلا، وهو مأخوذ من الفسر، وهو: الإبانة والكشف. قال الفيروزآباديّ «1» : «الفسر: الإبانة وكشف المغطى كالتفسير، والفعل كضرب ونصر» . وقال ابن منظور «2» : «الفسر: البيان، فسر الشيء يفسره- بالكسر- ويفسره- بالضم- فسرا، وفسّره: أبانه، والتفسير: مثله ... والفسر: كشف المغطّى، والتفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل» . وقال أبو حيان «3» : « ... ويطلق التفسير أيضا على التّعرية للانطلاق قال ثعلب: «تقول: فسّرت الفرس: عريته لينطلق في حصره، وهو راجع لمعنى الكشف، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري» . وعلى ذلك: فالمادة تدور حول معنيين «4» : الكشف المادّيّ المحسوس، والكشف المعنويّ المعقول.

_ (1) «القاموس المحيط» «فسر» . (2) «اللسان» : مادة «فسر» . (3) «البحر المحيط» 1/ 13. (4) «التفسير» : معالم حياته- منهجه اليوم- أمين الخولي ص 5، و «التفسير والمفسرون» / للذهبي ج 1/ 15.

التفسير اصطلاحا:

وقيل: إن أصل الكلمة من التّفسرة، وهي الدليل من الماء ينظر فيه الطّبيب فيكشف عن علّة المريض كما يكشف المفسّر عن شأن الآية وقصّتها «1» . التفسير اصطلاحا: عرفه السّيوطيّ قائلا «2» : «هو علم نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكّيّها ومدنيّها، وبيان محكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصّها وعامّها، ومطلقها ومقيّدها، ومجملها ومفسّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها، ونحو ذلك» . وعرّفه أبو حيان فقال «3» : «هو علم يبحث فيه عن كيفية النّطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفراديّة والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التّركيب وتتمّات ذلك ... » وفيه قصور وغموض «4» ... وتعريف الزركشي أوضح من التعريفين السابقين إذ يقول «5» : «التفسير: علم يفهم به كتاب الله المنزّل على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة، والنّحو والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النّزول، والناسخ والمنسوخ» . وهناك تعريفات أخرى- غير ما ذكرنا «6» - وكلها تتفق «على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية فهو شامل لكلّ ما يتوقّف عليه فهم المعنى، وبيان المراد» «7» .

_ (1) «الإتقان في علوم القرآن» / للسيوطي 2/ 294، و «تفسير البغوي» 1/ 18 ط المنار، و «اللسان» : فسر. (2) «الإتقان» 2/ 174. (3) «البحر المحيط» ج 1 أو ما بعدها. (4) راجع: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير أبو شهبة ص 41. (5) «البرهان» ج 1/ 33. (6) راجع مثلا: «مناهل العرفان في علوم القرآن» 1/ 406 ط أولى، و «منهج الفرقان في علوم القرآن» ج 2/ 6، «التيسير في قواعد التفسير» / الكافيجي ص 3، 11 وغيرها. (7) «التفسير والمفسرون» 1/ 17.

التأويل لغة:

التأويل لغة: أصله: «من الأول، وهو الرّجوع» . قال الفيروزآباديّ «1» : «آل إليه أولا ومآلا: رجع- وعنه ارتدّ ... وأوّل الكلام تأويلا، وتأوّله: دبّره وقدّره وفسّره، والتأويل عبارة الرّؤيا» . وقال ابن منظور «2» : «الأول: الرّجوع: آل الشّيء يؤول أولا ومآلا: رجع، وأوّل الشّيء: رجعه، وألت عن الشّيء: ارتددت» وفي الحديث: «من صام الدّهر، فلا صام ولا آل» أي: لا رجع إلى خير ... وأوّل الكلام وتأوّله: دبّره وقدّره، وأوّله وتأوّله: فسّره» . وعليه: فالتأويل: إرجاع الكلام إلى ما يحتمله من المعاني. وقيل: التأويل مأخوذ من الإيالة، وهي السّياسة، فكأنّ المؤوّل ساس الكلام ووضعه في موضعه قال الزمخشري «3» : «آل الرّعيّة يؤولها إيالة حسنة، وهو حسن الإيالة، وائتالها، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم، أي: سائس محتكم قال زياد في خطبته: قد ألنا وإيل علينا، أي: سسنا وسسنا ... » . وقد ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم على معان مختلفة: من ذلك قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ... [آل عمران: 7] . بمعنى: التفسير والتعيين. وقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] بمعنى: العاقبة والمصير. وقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ... [الأعراف: 53] وقوله

_ (1) «القاموس المحيط» 3/ 331. [.....] (2) «اللسان» / مادة «أول» 1/ 171 وما بعدها. (3) «أساس البلاغة» ص 25 ط الشعب.

التأويل اصطلاحا:

تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... [يونس: 39] بمعنى: وقوع المخبر به. ومن آيات سورة يوسف «1» أريد بها: نفس مدلول الرؤيا. ومن آيتي سورة الكهف «2» بمعنى بيان حقيقة الأعمال الّتي عملها العبد الصالح، وليس تأويل الأقوال «3» . التأويل اصطلاحا: التأويل عند السلف له معنيان: أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، وبذلك يكون التأويل والتفسير مترادفين، وهذا ما يعنيه «ابن جرير الطبري» في تفسيره حين يقول: «القول في تأويل قوله تعالى ... » وكذا قوله: «اختلف أهل التأويل في هذه الآية ... » . فالتفسير والتأويل كلاهما بمعنى. ثانيهما: هو نفس المراد بالكلام فإن كان الكلام طلبا، كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به وعليه: فالتأويل هنا نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أم مستقبلة، فإذا قيل: طلعت الشّمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا في نظر «ابن تيميّة» هو لغة القرآن التي نزل بها وعلى هذا فيمكن إرجاع كلّ ما جاء في القرآن من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني «4» . أما التأويل عند المتأخّرين من الأصوليين والكلاميّين وغيرهم: فهو: «صرف اللّفظ عن المعنى الرّاجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به» ، وهذا هو التأويل الذي يتكلّمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف «5» . قال في «جمع الجوامع» «6» :

_ (1) الآيات: 6، 37، 44، 45، 100. (2) الآيتان: 78، 82. (3) راجع: «التفسير والمفسرون» 1/ 18، 19. (4) «التفسير والمفسرون» 1/ 19 (بتصرف وإيجاز) . (5) راجع: «التفسير والمفسرون» 1/ 19. (6) ج 2/ 56، و «التفسير والمفسرون» 1/ 20.

الفرق بين التفسير والتأويل

«التأويل: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل- فصحيح، أو لما يظنّ دليلا من الواقع- ففاسد، أو لا لشيء- فلعب لا تأويل» . الفرق بين التّفسير والتّأويل اختلف علماء «التفسير» في بيان الفرق بين التفسير والتأويل، ولعل منشأ هذا الخلاف «هو استعمال القرآن لكلمة «التأويل» ، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاصّ فيها، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب المقالات والمذاهب» «1» . - ومن العلماء من ذهب إلى أنهما بمعنى واحد، ومن هؤلاء: «أبو عبيد القاسم بن سلّام» ، وطائفة معه «2» . - ومنهم من فرق بينهما: يقول الراغب الأصفهانيّ «3» : «التفسير أعمّ من التّأويل، وأكثر ما يستعمل التّفسير من الألفاظ، والتأويل في المعاني كتأويل الرؤيا. والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهيّة، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها. والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ، والتّأويل أكثره يستعمل في الجمل فالتفسير: إمّا أن يستعمل في غريب الألفاظ: «كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة» ، أو في تبيين المراد وشرحه كقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] ، وإما في كلام مضمّن بقصّة لا يمكن تصوّره إلا بمعرفتها نحو قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] ، وقوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189] . وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عامّا، ومرة خاصّا نحو «الكفر» المستعمل تارة في

_ (1) «التفسير» : معالم حياة- ص 6. (2) «الإتقان» 2/ 173، «التفسير والمفسرون» 1/ 21 و «الإسرائيليات والموضوعات» 43. (3) «التفسير والمفسرون» 1/ 21، «نشأة التفسير في الكتب المقدسة والقرآن» / السيد خليل ص 29، نقلا عن: مقدمة التفسير للراغب ص 402- 403 آخر كتاب «تنزيه القرآن عن المطاعن» للقاضي عبد الجبار.

الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصّة- و «الإيمان» المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحقّ تارة، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة، نحو لفظ «وجد» المستعمل في الجدّ والوجد والوجود» . وقال أبو طالب الثّعلبيّ «1» : «التفسير: بيان وضع اللفظ إمّا حقيقة أو مجازا كتفسير الصراط بالطّريق، والصّيّب بالمطر، والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر فالتأويل: إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير: إخبار عن دليل المراد لأنّ اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل، مثال قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] تفسيره: أنه من الرّصد يقال: رصدته إذا رقبته، والمرصاد: مفعال منه، وتأويله: التّحذير من التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه» . وقال البغويّ «2» : «التأويل: هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط. والتفسير: هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصّتها» . وقيل: التفسير: ما يتعلق بالرواية، والتأويل: ما يتعلق بالدراية» «3» يقول الكافيجيّ «4» : « ... إن علم التفسير علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد، من حيث إنه يدلّ على المراد بحسب الطاقة البشرية، وينقسم إلى قسمين: تفسير: وهو ما لا يدرك إلا بالنّقل أو السماع، أو بمشاهدة النّزول وأسبابه، فهو ما يتعلّق بالرواية ولهذا قيل: إن التفسير للصحابة. وتأويل: وهو ما يمكن إدراكه بقواعد العربيّة، فهو ما يتعلّق بالدراية ولهذا قيل: إن التأويل للفقهاء، فالقول من الأوّل بلا نقل أو سماع خطأ وكذا القول من الثاني بمجرّد

_ (1) «الإتقان» 2/ 173. (2) «تفسير البغوي» 1/ 18. (3) «الإتقان» 2/ 173. [.....] (4) «التيسير في قواعد التفسير» ص 3، 11.

حاجة الناس إلى التفسير

التشهّي، وأما استنباط المعاني على قانون اللّغة فمما يعدّ فضلا وكمالا» . وقد رجّح المرحوم الدكتور الذهبي هذا الرأي، وعلّل ذلك بقوله «1» : «وذلك لأن التّفسير معناه: الكشف والبيان، والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه، الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم. «وأما التأويل: فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللّفظ بالدليل، والترجيح يعتمد على الاجتهاد، ويتوصّل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب، واستعمالها بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربيّة، واستنباط المعاني من كلّ ذلك» . وهذا هو ما نميل إليه. حاجة النّاس إلى التّفسير نزل القرآن الكريم لغرضين أساسيّين: أولهما: ليكون معجزة فلا يقدر البشر على أن يأتوا بمثله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] ، ولا بسورة من مثله: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38] . ثانيهما: ليكون منهج حياة، ودستورا للمسلمين، فيه صلاحهم وفلاحهم إذ تكفّل بكلّ حاجاتهم من أمور الدين والدنيا: عقائد، وأخلاق، وعبادات، ومعاملات ... إلخ. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الاسراء: 82] ، ففي اتباعه الهداية، وفي الإعراض عنه الشقاء والضّنك فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً

_ (1) «التفسير والمفسرون» 1/ 23.

ْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: 123- 126] . وبه مخرج الأمّة من أزماتها، ونجاتها من الفتن يقول علي- كرم الله وجهه-: قلت: يا رسول الله، ستكون فتن، فما المخرج منها؟. قال صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، هو حبل الله المتين، والذّكر الحكيم، والصّراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرّدّ، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به أفلح، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم» . - ولكي يكون معجزا ويتأتّى تحدّيه للبشر. - ولكي يتأتّى اتخاذه دستورا ومنهج حياة.. - ولكي يتدبّر المؤمنون آياته ... «1» . ولكي يستطيع المسلمون العرب الانطلاق بالدعوة «2» .. لكلّ هذا جاء القرآن عربيّا. وكان القوم- «عند نزوله- سواء من هو حجّة له من المؤمنين الصادقين، ومن هو حجّة عليه من الكافرين الجاحدين- يفهمونه ويحيطون بمعانيه إفرادا وتركيبا فيتلقّون دعوته، ويدركون مواعظه، ويعون تحدّيه بالإعجاز بين مذعنين، يقولون: آمنّا به، ومعاندين يلحدون في آياته، ويمعنون في معارضته كيدا وليّا بألسنتهم وطعنا في الدين. «فما كان منهم من تعذّر عليه فهمه، ولا من خفيت عليه مقاصده ومعانيه، بل كان وضوح معانيه، ويسر فهمه، هو الأصل فيما قام حوله من صراع بين مؤمن يجد فيه شفاء نفسه، وانشراح صدره، وكافر ينقبض لقوارع آياته فلا يزال يدفعها بالإعراض والمعارضة، والدفاع والمقارعة، وكان ذلك هو الأصل أيضا في تكوّن الأمّة المحمّدية، وتولّد التاريخ الإسلاميّ» «3» .

_ (1) قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ.... (2) قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ.... (3) «التفسير ورجاله» / محمد الفاضل بن عاشور ص 7- 8.

يقول ابن خلدون «1» : «إنّ القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه» . وقد سبقه أبو عبيدة معمر بن المثنّى حين قال «2» : «إنما نزل القرآن بلسان عربيّ مبين فلم يحتج السلف، ولا الذين أدركوا وحيه، إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص» . إلا أن هذا الإطلاق يعارضه قول عمر بن الخطّاب للرسول صلى الله عليه وسلم «3» : «يا رسول الله، إنّك تأتينا بكلام من كلام العرب، وما نعرفه، ولنحن العرب حقّا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربّي علّمني فتعلّمت، وأدّبني فتأدّبت» . كما يعارضه صريح القرآن إذ يقول تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] . نعم.. إن هناك ألفاظا لم تستطع بعض القبائل العربيّة معرفتها، ربّما لعدم استعمالهم لها، أو لاحتمال اللفظ عدّة معان، وكذا بعض آيات أشكل عليهم فهم معناها وذلك كسؤالهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] ، فقالوا: وأيّنا لم يظلم؟ وفزعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فبيّن لهم أنّ المراد بالظّلم الشرك واستدلّ عليه بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «4» [لقمان: 13] . ولو صح ما ذهب إليه ابن خلدون وأبو عبيدة، لما كانت حاجة الصحابة إلى تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم. لكنّ تفسير الرسول للقرآن، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة، بيانا لمعنى

_ (1) المقدمة ص 367 ط الأزهرية سنة 1930. (2) «مجاز القرآن» - ط ثانية- دار الفكر. (3) «البرهان في علوم القرآن» للزركشي 1/ 284 ط الحلبي تحقيق أبو الفضل إبراهيم، وقال الصيرفي: ولست أعرف إسناد هذا الحديث، وإن صح، فقد دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرف ألسنة العرب. (4) «الإتقان» للسيوطي 2/ 330 و «البرهان» للزركشي 1/ 14.

لفظ، أو توضيحا لمشكل، أو تأكيدا لحكم، أو تفصيلا لمجمل، أو تخصيصا لعامّ، أو تقييدا لمطلق ... إلخ. وكان الصحابة- رضوان الله عليهم- حراصا على حفظ القرآن، وفهم معانيه، وفقه أحكامه ... قال أبو عبد الرحمن السّلميّ: «حدّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزوها حتّى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلّمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعا» . وإذا كان العرب الخلّص الذين لم تعكّر عربيّتهم عجمة- يحتاجون إلى التّفسير، فنحن أولى وأحوج، بل وأشدّ حاجة إلى تفسير القرآن الكريم إذ صار البون بعيدا بين العرب والفصحى. يقول السّيوطيّ «1» : «ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه، وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلّم، فنحن أشدّ احتياجا إلى التفسير» . والحاجة إلى التفسير «إنّما هي حاجة عارضة نشأت من سببين: السبب الأول: هو أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف زمنيّ متسع جدّا قدره أكثر من عشرين عاما، فكان ينزل منجّما على أجزاء مع فواصل زمنيّة متراخية بين تلك الأجزاء، وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخّر البعض الآخر، على ترتيب يختلف عن ترتيبه التعبّديّ لأنّ ترتيب تاريخ النزول كان منظورا فيه إلى مناسبة الظروف والوقائع، مناسبة ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وترتيب التلاوة أو الترتيب التعبدي، كان منظورا فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض، ... والترتيب الأوّل مؤقّت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة.

_ (1) «الإتقان» 2/ 296- 297.

فهم الصحابة للقرآن الكريم

أما ترتيب التلاوة التعبديّ فباق لأنه في ذات الكلام، يدركه كلّ واقف عليه وتال له من الأجيال المتعاقبة، بينما الترتيب التاريخيّ لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن ... وكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجا إلى معرفتها معرفة نقلية تصوّرية، ليتمكّن الآتون من استعمال القرائن والأحوال، التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم. وأما السبب الثاني: فهو أنّ دلالات القرآن الأصليّة، التي هي واضحة بوضوح ما يقتضيه من الألفاظ والتراكيب- تتبعها معان تكون دلالة التراكيب عليها محلّ إجمال أو محلّ إبهام إذ يكون الترتيب صالحا على الترديد لمعان متباينة، يتصوّر فيها معناه الأصليّ ولا يتبيّن المراد منها، كأن يقع التعبير عن ذات بإحدى صفاتها، أو يكنى عن حقيقة بإحدى خواصّها، أو أحد لوازمها ... فينشأ عن ذلك إجمال يتطلّب بيانا، أو إبهام يتطلّب تعيينا ... ولما كان الذين اتصلوا أوّلا بتلك المجملات أو المبهمات أو المطلقات قد رجعوا إلى المبلّغ صلى الله عليه وسلم في طلب بيانها أو تعيينها أو تقييدها فتلقّوا عند ما أفادهم فاطلعوا بأن الذين أتوا بعدهم احتاجوا إلى معرفة تلك الأمور المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لتتّضح لهم تلك المعاني كما اتضحت لمن قبلهم ... » «1» . وبذا تبيّن أن التفسير نشأ منذ بدء الوحي إذ احتاج إليه الصحابة، ثم زادت حاجة التابعين إلى التفسير، ولا سيّما ما رآه الصحابة وسمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتمكّنوا هم من رؤيته ولا سماعه ... ثم اشتدّت حاجة تابعي التابعين. وهكذا كلّما بعد الناس عن عصر نزوله، زادت الحاجة إلى التفسير بمقدار ما زاد من غموض «2» ... فهم الصّحابة للقرآن الكريم نزل القرآن عربيّا على رسول عربيّ، وقوم عرب هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ... [الجمعة: 2] ، فكانوا أخبر بلغتهم، وفهموا القرآن حقّ فهمه، وقد يشكل عليهم فهم آية منه فيرجعون إلى القرآن نفسه، فقد يجدون فيه توضيحا أو تفصيلا، وإلا رجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليفسّر لهم ما أشكل عليهم ...

_ (1) «التفسير ورجاله» من 10- 13. (2) راجع «التفسير والمفسرون» / للذهبي 1/ 101- 102.

وكان الصحابة يجتهدون في فهم القرآن الكريم مستعينين على ذلك ب «1» : 1- معرفة أوضاع اللّغة وأسرارها. 2- معرفة عادات العرب. 3- معرفة أحوال اليهود والنصارى في الجزيرة وقت نزول القرآن. 4- قوّة الفهم، وسعة الإدراك. وبدهيّ أن يتفاوت الصحابة في توافر هذه الأدوات عندهم. وبالتّالي في فهم القرآن الكريم فلم يكونوا جميعا في مرتبة واحدة، ومن هنا كان الاختلاف اليسير بينهم في تفسير القرآن الكريم. ومن ذلك: - ما روي «من أن الصحابة فرحوا حين نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] لظنّهم أنها مجرّد إخبار وبشرى بكمال الدين، ولكنّ عمر بكى وقال: ما بعد الكمال إلّا النّقص، مستشعرا نعي النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد كان مصيبا في ذلك إذ لم يعش النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدها إلا واحدا وثمانين يوما كما روي» «2» . - وفيه ما رواه البخاريّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «3» : «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر. فكأنّ بعضهم وجد في نفسه، وقال: لم يدخل هذا معنا، وإنّ لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنّه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذ نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، ولم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عبّاس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ

_ (1) راجع «التفسير والمفسرون» 1/ 59 وما بعدها. (2) «الموافقات» للشاطبي ج 3/ 384، «التفسير والمفسرون» 1/ 61، 62. [.....] (3) «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» 8/ 519، / باب التفسير، وكذا «أسد الغابة» .

أشهر مفسري القرآن من الصحابة

[النصر: 1] فذلك علامة أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 3] فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول» . - وقال ابن عباس «1» : «كنت لا أدري ما فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] ، حتّى أتاني أعرابيّان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها يقول: أنا ابتدأتها» . أشهر مفسّري القرآن من الصّحابة عدّ السّيوطيّ عددا من مفسّري القرآن من الصحابة ذكر منهم: الخلفاء الأربعة، وابن عبّاس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعريّ، وعبد الله بن الزّبير رضي الله عنهم. أما الخلفاء الثلاثة الأول، فالرواية عنهم في التفسير قليلة جدّا وذلك بسبب تقدّم وفاتهم، ولا نشغالهم بمهامّ الخلافة «2» . 1- عليّ بن أبي طالب: وأما عليّ- كرّم الله وجهه- فهو أكثرهم تفسيرا للقرآن وذلك لأنه لم يشغل بالخلافة، وإنما كان متفرّغا للعلم حتّى نهاية عصر عثمان ... وكثرة مرافقته للرسول صلى الله عليه وسلم، وسكناه معه، وزواجه من ابنته فاطمة إلى جانب ما حباه الله من الفطرة السليمة ... كلّ ذلك أورثه العلم الغزير حتّى قالت عائشة رضي الله عنها «3» : «أما إنّه لأعلم النّاس بالسّنّة» في زمن كان الصحابة- رضي الله عنهم- متوافرين. وروى معمر، عن وهب بن عبد الله، عن أبي الطّفيل قال: «شهدت عليّا يخطب، وهو يقول: سلوني فو الله، لا تسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب الله فو الله، ما من آية إلّا أنا أعلم: أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل» . وقيل لعطاء: أكان في أصحاب محمّد أعلم من عليّ؟

_ (1) «الإتقان» 2/ 113. (2) «الإسرائيليات والموضوعات في التفسير» 84، و «التفسير والمفسرون» للذهبي 1/ 64، 65. (3) «الاستيعاب» 3/ 1104، و «أسد الغابة» 4/ 29.

2 - عبد الله بن مسعود:

قال: لا، والله لا أعلمه. وقال ابن مسعود: «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده من الظّاهر والباطن» «1» . نموذج من تفسير عليّ- رضي الله عنه- للقرآن: قال في تفسير قوله تعالى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التوبة: 124] : إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلّما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض، حتّى يبيضّ القلب كلّه، وإنّ النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلّما ازداد النفاق ازداد بذلك السّواد، حتّى يسودّ القلب كلّه، وايم الله، لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتّموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتّموه أسود» «2» . 2- عبد الله بن مسعود: هو: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمح، وقيل «شمخ» ... ينتهي نسبه إلى مضر، يكنى بأبي عبد الرحمن، وأمّه: أمّ عبد بنت عبد ودّ من هذيل، وكان يقال له: ابن أمّ عبد. أسلم قديما قبل عمر بن الخطّاب، وكان سبب إسلامه: حين مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر- رضي الله عنه- وهو يرعى غنما، فسألاه لبنا فقال: إنّي مؤتمن، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عناقا لم ينز عليها الفحل، فاعتقلها، ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضّرع: أقلص، فقلص، فقلت: علّمني من هذا الدّعاء، فقال: إنّك غلام معلّم ... الحديث «3» . كان عبد الله من أحفظ الصحابة لكتاب الله وأقرئهم له، وكان صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يقرأه عليه، فقال له يوما: اقرأ عليّ سورة النّساء، قال ابن مسعود: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري، يقول: فقرأت عليه، حتّى بلغت: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] ففاضت

_ (1) راجع «الإتقان» 2/ 319. (2) «تفسير البغوي» - ط المنار 4/ 273. (3) «البداية والنهاية» 7/ 169، «أسد الغابة» 3/ 256- 260.

عيناه صلى الله عليه وسلم «1» . وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرّه أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد» «2» وكان ابن مسعود حريصا على فهم القرآن الكريم يروي الطبريّ وغيره عن ابن مسعود أنه قال: «كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتّى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ، وعن مسروق قال «3» : قال عبد الله بن مسعود: «والّذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيم نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منّي تبلغه الإبل لركبت إليه» . وطرق الرواية عن ابن مسعود متعدّدة، وأصحّ هذه الطرق ما جاء من «4» : 1- طريق الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروق، عن ابن مسعود. 2- طريق مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود. 3- طريق الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود. وهذه الطرق الثلاثة أخرج منها البخاريّ في صحيحه. وهناك طرق أخرى ك: 1- طريق السّدّيّ الكبير عن مرّة الهمذانيّ عن ابن مسعود أخرج منها الحاكم في مستدركه، وابن جرير في تفسيره- كثيرا. 2- طريق أبي روق عن الضّحّاك عن ابن مسعود، وهي طريق غير مرضيّة أخرج منها ابن جرير في تفسيره أيضا، وهي منقطعة لأن الضّحّاك لم يلق ابن مسعود. وكان لابن مسعود تلاميذ كثير في الكوفة، وكان عمر- رضي الله عنه- لمّا ولّى عمّار بن ياسر على الكوفة سيّر معه عبد الله بن مسعود معلّما ووزيرا، فجلس الكوفيّون إليه وتعلّموا منه.

_ (1) «البداية والنهاية» 7/ 169. (2) «مسند الإمام أحمد» 1/ 7. (3) «صحيح البخاري» - كتاب الفضائل/ باب مناقب عبد الله بن مسعود. (4) «التفسير والمفسرون» للذهبي 1/ 87، 88.

3 - أبي بن كعب:

ويقول العلماء: إن ابن مسعود هو الذي وضع الأساس لطريقة الاستدلال، وقد أثرت هذه الطريقة في مدرسة التفسير، فكثر التفسير بالرأي والاجتهاد «1» ، وسوف يأتي ذكر تلاميذه عند حديثنا عن تفسير التابعين. 3- أبيّ بن كعب: هو: أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النّجّار، سيّد القرّاء «2» ، كنيته: أبو المنذر أو أبو الطّفيل. شهد بيعة العقبة مع السّبعين من الأنصار، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو أحد المشهورين بحفظ القرآن من الصحابة، وبإقرائه قال فيه عمر بن الخطاب: «أبيّ أقرؤنا» «3» . وهو أحد الذين تلمذ عليهم «ابن عبّاس» يقول ابن عباس «4» : «ما حدّثني أحد قطّ حديثا فاستفهمته، فلقد كنت آتي باب أبيّ بن كعب، وهو نائم، فأقيل على بابه، ولو علم بمكاني لأحبّ أن يوقظ لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّي أكره أن أملّه» . كان أبيّ يكتب في مصحفه أشياء ليست من القرآن الكريم مما يعدّ شرحا، أو تفسيرا، أو سببا لنزول، أو مما نسخ، وكان يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم «5» ، فمن ذلك مثلا: دعاء القنوت «6» . وكان من أعلم الصحابة بكتاب الله وذلك لعدّة عوامل: أنه كان من كتّاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم. أنه كان حبرا من أحبار اليهود العارفين بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها.

_ (1) المصدر السابق 1/ 120. (2) «تهذيب التهذيب» 1/ 187، «غاية النهاية في طبقات القراء» 1/ 31. «أسد الغابة» 1/ 49- 51. (3) رواه البخاري، وانظر «طبقات القراء للذهبي» 6/ 629 وكذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. [.....] (4) «طبقات ابن سعد» 2/ 371. (5) «تاريخ الإسلام» للذهبي 2/ 28. (6) راجع «الإتقان» 1/ 66.

4 - عبد الله بن عباس:

وقد تعدّدت طرق الرواية عنه، وأشهر هذه الطّرق: 1- طريق أبي جعفر الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية، عنّ أبيّ، وهي طريق صحيحة، أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا، وأخرج الحاكم منها في مستدركه، والإمام أحمد في مسنده. 2- طريق وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن محمّد بن عقيل، عن الطّفيل بن أبيّ بن كعب، عن أبيه، وهذه يخرج منها الإمام أحمد في مسنده، وهي على شرط الحسن «1» . وتلاميذ أبيّ كثير منهم: أبو العالية، وزيد بن أسلم، ومحمّد بن كعب القرظيّ وغيرهم، ويعدّ أبيّ بن كعب أستاذ مدرسة التفسير في المدينة. 4- عبد الله بن عبّاس «2» : هو: عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم ... يلتقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجدّ الأول (عبد المطلب) ، فهو ابن عمّ رسول الله. ولد إبّان المقاطعة الاقتصادية الّتي فرضتها قريش على بني المطّلب، أيّ: قبل الهجرة بثلاث سنوات. لازم ابن عبّاس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنّ الرسول توفّي ولابن عباس من العمر ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة. وقد حظي ابن عبّاس بدعوة رسول الله له حين قال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ، علّمه الكتاب والحكمة» . وفي رواية: «اللهمّ، فقّهه في الدّين وعلّمه التّأويل» . واستجيبت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان عبد الله بن عبّاس «ترجمان القرآن» يقول ابن مسعود: «نعم ترجمان القرآن ابن عبّاس» وذلك لبراعته في التفسير، كما لقّب بالحبر لغزارة علمه، وبالبحر كذلك.

_ (1) راجع «التفسير والمفسرون» 1/ 92، 93. (2) بعض الكتب التي تترجم للمفسرين من الصحابة تقدم ابن عباس على سائر الصحابة لتفوقه في هذا العلم، وبعضها ترجئه بعد الثّلاثة السابقين لتقدمهم في السن عليه وحداثته بينهم.

وإذا كان ابن عبّاس قد فاته طول الصّحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة، يسألهم، ويتعرّف أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك. يقول ابن عبّاس «1» : «لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطّاب عن المرأتين من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم اللّتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [التحريم: 4] ، ولم أزل أتلطّف له حتّى عرفت أنهما حفصة وعائشة» . ويقول: «وجدت عامّة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الأنصار فإنّي كنت لآتي الرّجل، فأجده نائما، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الرّيح، حتّى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عمّا أريد ثمّ أنصرف» . لقد تلمذ ابن عبّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّلا، فكان الرسول يعلّمه ويربّيه، قال له يوما: «يا غُلاَمُ، إنِّي أُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهِ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّه، وإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، واعْلَم أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لم يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه لَكَ، وإن اجْتَمَعُوا عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف» . وفي خلافة عمر كان لابن عبّاس تقدير خاصّ عنده، فكان يدنيه من مجلسه، رغم حداثة سنّه- كما ذكرنا. وقد أفاد ابن عبّاس من هؤلاء الذين يعدّون بمثابة شيوخه: عمر بن الخطّاب، وأبيّ بن كعب، وعليّ بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، روى عبد الرزّاق عن معمر قال «2» : «عامّة علم ابن عبّاس من ثلاثة: عمر وعليّ وأبيّ بن كعب» . وذكر ابن الأثير الجزريّ في ترجمة ابن عبّاس أنه «3» «حفظ المحكم في زمن

_ (1) «الجامع لأحكام القرآن» / للقرطبي 1/ 22. (2) «تذكرة الحفاظ» للذهبي 1/ 41. (3) «طبقات القراء» 425.

النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم عرض القرآن على أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، وقيل: إنّه قرأ على علي بن أبي طالب- رضي الله عنه» . لقد أوتي ابن عبّاس علما غزيرا جعله أبرز المفسّرين، وأتمّهم اضطلاعا بالتفسير حتّى إنه «لم يبق عند منتصف القرن الأوّل من الهجرة من بين الصحابة وغيرهم إلّا مذعن لابن عبّاس، مسلّم له مقدرته الموفّقة، وموهبته العجيبة، وعلمه الواسع في تفسير القرآن» «1» . لقد امتلك ابن عبّاس أدوات المفسّر فكان عالما بأسرار العربيّة يحفظ الكثير من الشّعر القديم، ويحثّ النّاس على النّظر فيه قائلا «2» : «إذا تعاجم شيء من القرآن، فانظروا في الشّعر فإنّ الشّعر عربيّ» . وهو القائل «3» : «الشّعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الّذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه» . وقد ذكر السّيوطيّ بسنده حوارا دار بين نافع بن الأزرق وابن عبّاس فقال «4» : بينا عبد الله بن عبّاس جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترىء على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه، فقالا: إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسّرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب فإنّ الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربيّ مبين، فقال ابن عبّاس: سلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [المعارج: 37] . قال: العزون: حلق الرّفاق.

_ (1) «التفسير ورجاله» / ابن عاشور ص 16. (2) «التفسير ورجاله» / ابن عاشور ص 17. (3) «الإتقان» 1/ 119، «غاية النهاية في طبقات القراء» 426. (4) «الإتقان» 1/ 120.

طرق الرواية عن ابن عباس:

قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: [الوافر] فجاءوا يهرعون إليه حتّى ... يكونوا حول منبره عزينا قال: أخبرني عن قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35] . قال: الوسيلة: الحاجة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت عنترة وهو يقول: [الكامل] إنّ الرّجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي إلى آخر المسائل وأجوبتها «1» . وهي إن دلّت فإنما تدلّ على سعة علمه بلغة العرب، وقوّة ذاكرته مما جعله إمام التّفسير في عهد الصحابة، ومرجع المفسّرين في الأعصر التالية لعصره، وهو إمام مدرسة التفسير في مكّة، وأوّل من ابتدع الطريقة اللّغويّة في تفسير القرآن. طرق الرواية عن ابن عبّاس: تعدّدت طرق الرواية عن ابن عباس، واختلفت تلك الطّرق وأشهر هذه الطّرق وأصحّها «2» : 1- طريق الزّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس، وتعدّ هذه الطريق من السلاسل الذهبيّة، وقد أخرج منها ابن جرير الطبريّ، وعبد الرّزاق في تفسيرهما. 2- طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح- وعن عكرمة أحيانا- عن ابن عباس، وقد أخرج منها عبد الرّزّاق في تفسيره. 3- طريق معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس ... وقالوا:

_ (1) راجعها في «الإتقان» 1/ 120 وما بعدها. (2) راجع: «الإتقان» 2/ 188، «التفسير والمفسرون» 1/ 77، 88، «حبر الأمة عبد الله بن عباس» ص 182. [.....]

قيمة التفسير المأثور عن الصحابة

إن هذه أجود الطّرق عنه، وفيها قال الإمام أحمد- رضي الله عنه- «إنّ بمصر صحيفة في التّفسير رواها عليّ بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا» . وقال الحافظ ابن حجر: «وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب اللّيث، رواها عن معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، وهي عند البخاريّ عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه فيما يعلّقه عن ابن عباس» . 4- طريق عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس. وهناك طرق أخرى تلي هذه الطّرق ... «1» . وكان لابن عبّاس مدرسة في التفسير بمكّة، فكان يجلس لأصحابه من التابعين يفسّر لهم كتاب الله تعالى. يقول الإمام ابن تيميّة. «أما التفسير، فأعلم النّاس به أهل مكّة لأنهم أصحاب ابن عبّاس كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عبّاس، وغيرهم من أصحاب ابن عبّاس كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم..» «2» . قيمة التّفسير المأثور عن الصّحابة بعض المحدّثين يعطي التفسير المأثور عن الصحابيّ حكم المرفوع ومن هؤلاء الإمام الحاكم في «مستدركه» إذ يقول «3» : «ليعلم طالب الحديث أنّ تفسير الصحابيّ الذي شهد الوحي والتنزيل- عند الشيخين- حديث مسند» . ولكن قيد ابن الصّلاح والنّوويّ وغيرهما هذا الإطلاق بما يرجع إلى أسباب النّزول، وما لا مجال للرّأي فيه.

_ (1) راجع: «حبر الأمة عبد الله بن عباس» 146 وما بعدها. (2) «مقدمة في أصول التفسير» ص 15. (3) راجع: «تدريب الراوي» ص 64، «التفسير والمفسرون» للذهبي 1/ 94.

يقول ابن الصّلاح «1» : «ما قيل من أنّ تفسير الصحابيّ حديث مسند، فإنما ذلك في تفسير يتعلّق بسبب نزول آية يخبر به الصّحابيّ، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلّا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا مدخل للرأي فيه كقول جابر- رضي الله عنه-: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة من دبرها في قبلها، جاء الولد أحول فأنزل الله عزّ وجلّ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ... [البقرة: 223] الآية، فأما سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمعدودة في الموقوفات» . وذكروا أن تفسير الصحابيّ له حكم المرفوع إذا لم يكن للرأي فيه مجال، وأما ما يكون للرأي فيه مجال، فله حكم الموقوف. وما حكم عليه بالوقف: قال بعض العلماء: لا يجب الأخذ به لأنه مجتهد فيه، وقد يصيب وقد يخطىء. وقال بعضهم: يجب الأخذ به لأنه: إما سمعه من الرسول، وإما فسّره برأيه، وهم أدرى النّاس بكتاب الله، وهم أهل اللسان، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال، ولا سيّما ما ورد عن الأئمّة الأربعة وابن مسعود وابن عبّاس وغيرهم «2» . يقول الزركشيّ «3» : «اعلم أنّ القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنّقل، وقسم لم يرد، والأوّل: إما أن يرد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، أو رءوس التابعين، فالأوّل: يبحث فيه عن صحّة السّند، والثاني: ينظر فيه تفسير الصحابيّ: فإن فسّره من حيث اللغة، فهم أهل اللسان فلا شكّ في اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شكّ فيه ... » . ويقول الحافظ ابن كثير «4» : «.. وحينئذ: إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السّنّة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصّحابة فإنّهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصّوا بها، ولما لهم

_ (1) مقدمة «ابن الصلاح» ص 24. (2) «التفسير والمفسرون» ص 95 (بتصرف) . (3) «البرهان» 2/ 183. (4) مقدمة «تفسير ابن كثير» / الجزء الأول.

مدرسة مكة تلاميذ ابن عباس

من الفهم التامّ والعلم الصحيح والعمل الصالح، ولا سيّما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمّة الأربعة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديّين، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم» . مدرسة مكّة تلاميذ ابن عبّاس 1- سعيد بن جبير: هو «1» : سعيد بن جبير بن هشام الأسديّ، مولى بني والبة، يكنى بأبي محمّد «2» أو بأبي عبد الله «3» ، كان حبشيّ الأصل، أسود اللّون، أبيض الخصال «4» . هو أحد كبار التابعين، وإمام من أئمّة الإسلام في التّفسير. كان في أوّل أمره كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم لأبي بردة الأشعريّ، ثم تفرّغ للعلم حتّى صار إماما علما «5» . أخذ العلم عن ابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن مغفّل المزنيّ وغيرهم، وتخرّج من مدرسة ابن عبّاس «6» . وكان ابن عباس يثق بعلمه، ويحيل عليه من يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أمّ الدّهماء؟! يعني: سعيد بن جبير «7» . وكان يحبّ أن يسمع منه، قال له مرّة: حدّث، فقال: أحدّث، وأنت هنا؟ فقال: أليس من نعمة الله عليك أن تحدّث، وأنا شاهد فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت علّمتك «8» ؟!

_ (1) ترجمته في: «طبقات ابن سعد» 6/ 256، «تقريب التهذيب» 1/ 292، و «فيات الأعيان» 1/ 204، «تهذيب التهذيب» 4/ 11، «البداية والنهاية» 9/ 103، «الأعلام» 3/ 145. (2) «طبقات ابن سعد» ، و «البداية والنهاية» وغيرهما. (3) «طبقات ابن سعد» ، و «البداية والنهاية» وغيرهما. (4) «التفسير والمفسرون» 1/ 104. (5) «الإسرائيليات والموضوعات» 95. (6) «الإسرائيليات والموضوعات» 95. (7) «التفسير والمفسرون» 1/ 105. [.....] (8) «طبقات ابن سعد» 6/ 257، و «وفيات الأعيان» 1/ 204.

مكانته في التّفسير: كان- رضي الله عنه- من أعلم التابعين بالقراءات يقول إسماعيل بن عبد الملك «1» : «كان سعيد بن جبير يؤمّنا في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدا» . وساعدته معرفته بالقراءات على معرفة معاني القرآن وأسراره، ومع ذلك كان يتورّع من القول في التفسير برأيه. يروي ابن خلّكان «2» : «أن رجلا سأل سعيدا أن يكتب له تفسير القرآن، فغضب، وقال: لأن يسقط شقّي أحبّ إليّ من ذلك» . وقد شهد له التابعون بتفوّقه في العلم، ولا سيّما التفسير قال قتادة «3» : «وكان أعلم النّاس أربعة، كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتّفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسّير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام» . وقال سفيان الثّوريّ «4» : «خذوا التّفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، والضّحّاك» . وقال خصيف «5» : «كان من أعلم التابعين بالطّلاق سعيد بن المسيّب، وبالحجّ عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتّفسير أبو الحجّاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كلّه سعيد بن جبير» . نموذج من تفسيره: قال سعيد بن جبير: السّبع المثاني هي: البقرة وآل عمران، والنّساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس قال: وسمّيت بذلك لأنها بينت فيها الفرائض والحدود «6» . قتله: قتل- رضي الله عنه- سنة أربع وتسعين من الهجرة، قتله الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ

_ (1) «وفيات الأعيان» 1/ 204. (2) «وفيات الأعيان» 1/ 204- 205. (3) «الإسرائيليات والموضوعات» 95. (4) «الإسرائيليات والموضوعات» 95. (5) «وفيات الأعيان» 1/ 204- 205. (6) «تفسير الطبري» 1/ 33، 34.

صبرا وذلك: أن سعيد بن جبير خرج على الخليفة مع ابن الأشعث، فلما قتل ابن الأشعث وانهزم أصحابه من دير الجماجم هرب سعيد، فلحق بمكّة، وكان واليها خالد بن عبد الله القسريّ، فأخذه وبعث به إلى الحجّاج، فقال له الحجّاج: ما أسمك؟ قال: سعيد بن جبير. قال: بل أنت شقيّ بن كسير، قال: بل أمّي كانت أعلم باسمي منك. قال: شقيت أنت وشقيت أمّك، قال: الغيب يعلمه غيرك. قال: لأبدّلنّك بالدّنيا نارا تلظّى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتّخذتك إلها. قال: فما قولك في محمّد؟ قال: نبيّ الرحمة، وإمام الهدى. قال: فما قولك في عليّ؟ أهو في الجنّة أو هو في النار؟ قال: لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها «1» . قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل. قال: فأيّهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقهم. قال: وأيّهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرّهم ونجواهم. قال: فما بالك لم تضحك؟ قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين، والطين تأكله النّار؟! قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. ثم أمر الحجّاج باللّؤلؤ والزّبرجد والياقوت، فجمعه بين يديه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتتّقي به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كلّ مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جمع للدّنيا إلّا ما طاب وزكا، ثمّ دعا الحجّاج بالعود والنّاي، فلمّا ضرب بالعود، ونفخ بالنّاي بكى سعيد. فقال: ما يبكيك هو اللّعب؟ قال سعيد: هو الحزن: أما النفخ، فذكّرني يوما عظيما، يوم النّفخ في الصّور، وأما

_ (1) هذه رواية المحاجّة بين سعيد والحجاج، أمّا نحن فننزّه سعيدا عن هذا الرد، ونجزم بكون عليّ من أهل الجنة.

العود، فشجرة قطعت من غير حقّ، وأما الأوتار، فمن الشّاء تبعث معها يوم القيامة. قال الحجّاج: ويلك يا سعيد! قال: لا ويل لمن زحرح عن النّار وأدخل الجنّة! قال الحجاج: اختر يا سعيد أيّ قتلة أقتلك. قال: اختر لنفسك يا حجّاج فو الله، لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة! قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو، فمن الله، وأما أنت، فلا براءة لك ولا عذر. قال الحجّاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلمّا خرج، ضحك، فأخبر الحجّاج بذلك فردّه، وقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عليك. فأمر بالنّطع فبسط، وقال: اقتلوه! فقال سعيد: وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض، حنيفا وما أنا من المشركين. قال: وجّهوا به لغير القبلة، قال سعيد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] . قال: كبّوه لوجهه، قال سعيد: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه: 55] . قال الحجّاج: اذبحوه! قال سعيد: أما إنّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خذها منّي حتّى تلقاني بها يوم القيامة، ثمّ دعي سعيد فقال: اللهمّ لا تسلّطه على أحد يقتله بعدي. وكان الحجّاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه، ويقول: يا عدوّ الله، فيم قتلتني؟ فيقول الحجّاج: ما لي ولسعيد بن جبير؟! ما لي ولسعيد بن جبير؟ «1» . ذكر عن الإمام أحمد أنه قال «2» : قتل سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلّا وهو محتاج- أو قال: مفتقر- إلى علمه.

_ (1) انظر «وفيات الأعيان» 1/ 205- 206، «تذكرة الحفاظ» 71- 73، «البداية والنهاية» 9/ 101- 103. (2) «طبقات ابن سعد» 6/ 266، «وفيات الأعيان» 1/ 206، «الأعلام» 3/ 145.

2 - مجاهد بن جبر:

2- مجاهد بن جبر: هو: مجاهد بن جبر، أبو الحجّاج القرشيّ المخزوميّ، مولى السّائب بن أبي السّائب المخزوميّ، ولد سنة 21 هـ- في خلافة عمر بن الخطاب، وتوفي سنة 103 هـ «1» . أحد أئمّة التابعين والمفسّرين، وأحد أعلام القرّاء، ومن خاصّة أصحاب ابن عبّاس، اشتهر بقوّة حافظته حتى قال ابن عمر وهو آخذ بركابه: «وددت أنّ ابني سالما وغلامي يحفظان حفظك» «2» . كان مجاهد شغوفا بالعلم، وخاصّة التفسير، روى الفضل بن ميمون عن مجاهد قال «3» : عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاثين مرّة. ويقول أيضا «4» : عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاث عرضات، أقف عند كلّ آية، أسأله، فيم نزلت، وكيف كانت؟ ولا تعارض بين الرّوايتين، فالأولى لتمام الضّبط والتجويد، والثانية للعلم والتفسير. أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم، عن ابن عمر، وابن عبّاس، وأبي هريرة، وابن عمرو، وأبي سعيد، ورافع بن خديج ... وروى عنه خلق من التابعين «5» . مكانته في التّفسير: كان مجاهد أقلّ أصحاب ابن عبّاس رواية عنه في التفسير، وكان أوثقهم. قال سفيان الثّوريّ «6» : «إذا جاءك التّفسير عن مجاهد، فحسبك به» . وقال ابن تيميّة «7» : «ولذا يعتمد على تفسيره الشافعيّ والبخاريّ وغيرهما من أهل العلم» غير أن بعض العلماء كان لا يأخذ بتفسيره يقول أبو بكر بن عيّاش: قلت للأعمش، ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو: ما بالهم يتّقون تفسير مجاهد؟

_ (1) «طبقات ابن سعد» 5/ 446، «تهذيب التهذيب» 10/ 42، «البداية والنهاية» 9/ 232. (2) «ميزان الاعتدال» 3/ 9. (3) «ميزان الاعتدال» 3/ 9. (4) «تهذيب التهذيب» 10/ 42. [.....] (5) «البداية والنهاية» 9/ 232. (6) «تفسير الطبري» 1/ 30. (7) «مقدمة في أصول التفسير» ص 7 لابن تيمية.

3 - عكرمة:

قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب «1» . لكن هذا لا يقدح في صدقه وعدالته فقد «أجمعت الأمّة على إمامته والاحتجاج به، وقد أخرج له أصحاب الكتب السّتّة» «2» . ثم إنّ سؤال أهل الكتاب أمر مباح- فيما لا يتعلّق بحكم تشريعيّ- أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم «3» . كان مجاهد- رضي الله عنه- يعطي عقله حرّيّة واسعة في فهم بعض نصوص القرآن التي يبدو ظاهرها بعيدا فإذا ما مرّ بنصّ قرآنيّ من هذا القبيل، وجدناه ينزّله بكلّ صراحة ووضوح على التشبيه والتمثيل، وتلك الخطّة كانت فيما بعد مبدأ معترفا به، ومقرّرا لدى المعتزلة في تفسير القرآن بالنسبة لمثل هذه النصوص» «4» . نموذج من تفسير مجاهد: روى ابن كثير أن مجاهدا قال في قوله تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً [لقمان: 20] ، قال: أما الظاهرة: فالإسلام والقرآن والرسول والرّزق، وأما الباطنة: فما ستر من العيوب والذنوب «5» . وقال في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] قال: من لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى، فهو من الظّالمين «6» . 3- عكرمة: هو: عكرمة بن عبد الله البربريّ المدنيّ، مولى عبد الله بن عبّاس، يكنى بأبي عبد الله، أصله من البربر بالمغرب «7» . سمع من مولاه «ابن عبّاس» ، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهم «8» .

_ (1) «طبقات ابن سعد» 5/ 466. (2) «سير أعلام النبلاء» 4/ 324. (3) يقول صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. (4) «التفسير والمفسرون» 1/ 108. (5) «البداية والنهاية» 9/ 234. (6) «البداية والنهاية» 9/ 234. (7) «طبقات ابن سعد» 5/ 287، «وفيات الأعيان» 1/ 319، «البداية والنهاية» 9/ 254، «الأعلام» 5/ 43. (8) «طبقات ابن سعد» 5/ 287.

تلمذ على يدي عبد الله بن عبّاس، وكان ابن عبّاس لا يألو جهدا في تثقيفه وتعليمه، بل إنّه كان يقسو عليه حتّى يعلّمه، روى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال «1» : «كان ابن عبّاس يجعل في رجليّ الكبل يعلّمني القرآن والسّنّة» . وروى البخاريّ في صحيحه عن عكرمة أن ابن عباس قال له «2» : «حدّث النّاس كلّ جمعة مرّة، فإن أبيت فمرّتين، فإن أكثرت فثلاث مرّات، ولا تملّ النّاس هذا القرآن، ولا ألفينّك تأتي القوم، وهم في حديث من حديثهم فتقصّ عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملّهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدّثهم، وهم يشتهونه، وانظر السّجع من الدّعاء فاجتنبه فإنّي عهدتّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك» . لقد اهتمّ ابن عبّاس بتلميذه هذا اهتماما كبيرا وكأنّه كان يعدّه ليكون خليفته في تفسير القرآن، وكان يكافئه إذا ما أحسن فهم آية أشكلت على ابن عبّاس. روى داود بن أبي هند عن عكرمة قال: قرأ ابن عبّاس هذه الآية: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً [الأعراف: 164] قال ابن عبّاس: لم أدر أنجا القوم أم هلكوا؟ قال: فما زلت أبيّن له حتّى عرف أنهم نجوا، فكساني حلّة «3» . قال شهر بن حوشب: «عكرمة حبر هذه الأمّة» «4» . وقد شهد له الأئمّة الأعلام بالثّقة والعدالة. قال المروزيّ: قلت لأحمد: يحتجّ بحديث عكرمة؟ فقال: نعم، يحتجّ به «5» . وقال ابن معين: إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وفي حمّاد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام «6» .

_ (1) «البداية والنهاية» 9/ 255، والكبل: القيد. (2) «ميزان الاعتدال» 3/ 93. (3) «طبقات ابن سعد» 5/ 288. [.....] (4) «ميزان الاعتدال» 3/ 93، مقدمة فتح الباري ص 450. (5) «مقدمة فتح الباري» ص 340. (6) «معجم الأدباء» 12/ 189.

وقال البخاريّ: ليس أحد من أصحابنا إلّا وهو يحتجّ بعكرمة «1» . وقد أخرج له: البخاريّ ومسلم وأبو داود والنّسائيّ. علمه ومكانته في التّفسير: كان عكرمة على درجة كبيرة من العلم، فهو من أعلم النّاس بالسّير والمغازي. قال سفيان عن عمرو قال «2» : كنت إذا سمعت عكرمة يحدّث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفّون ويقتتلون، وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن. أما التفسير، فقد شهد له الأئمة بذلك، يقول الشّعبيّ: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة «3» . وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء فأقبل مجاهد، وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلّا فسّرها لهما، فلمّا نفذ ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا «4» . نموذج من تفسير عكرمة: قال عكرمة في قوله تعالى: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: بالشهوات، وَتَرَبَّصْتُمْ بالتوبة، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي: التّسويف، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ: الموت، وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد: 14] : الشّيطان «5» . وتوفّي عكرمة- رضي الله عنه- بالمدينة سنة سبع ومائة للهجرة، وقيل: سنة أربع ومائة «6» .

_ (1) «مقدمة فتح الباري» ص 450. (2) «البداية والنهاية» 9/ 255، «مقدمة فتح الباري» ص 450. (3) «البداية والنهاية» 9/ 255. (4) «مقدمة فتح الباري» ص 450. (5) «البداية والنهاية» 9/ 259. (6) «تهذيب التهذيب» 7/ 263- 273، «تذكرة الحفاظ» 1/ 90، «البداية والنهاية» 9/ 253.

4 - طاوس:

4- طاوس: هو: طاوس بن كيسان الخولانيّ، أبو عبد الرّحمن. أوّل طبقة أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن «1» . أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم، وروايته عن ابن عبّاس أكثر، وأخذه عنه في التفسير أكثر من غيره ولهذا عدّ من تلاميذ ابن عبّاس، وجاء ذكره في مدرسته بمكّة «2» . روى عنه خلق من التابعين، منهم: مجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وغيرهم «3» ، شهد له ابن عبّاس بالورع والتقوى، فقال: «إنّي لأظنّ طاوسا من أهل الجنّة» «4» . وطاوس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب السّتّة. كان طاوس- رضي الله عنه- جريئا في الحقّ، لا يخشى فيه لومة لائم. روى الزّهريّ «5» : أنّ سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت، له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهريّ؟ فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدّة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان، فأتاه، فقال: لو ما حدّثتنا!! فقال: حدّثني أبو موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أهون الخلق على الله عزّ وجلّ من ولي من أمور المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم» ، فتغيّر وجه سليمان، فأطرق طويلا، ثم رفع رأسه إليه، فقال: لو ما حدّثتنا!! فقال: حدّثني رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن شهاب: ظننت أنه أراد عليّا- قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: إنّ لكم على قريش حقّا، ولهم على النّاس حقّ، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدّوا، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين،

_ (1) «البداية والنهاية» 9/ 244. (2) «التفسير والمفسرون» 1/ 114. (3) «البداية والنهاية» 9/ 245. (4) «تهذيب التهذيب» 5/ 9. (5) «البداية والنهاية» 9/ 247. [.....]

5 - عطاء بن أبي رباح:

لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» . قال: فتغيّر وجه سليمان، وأطرق طويلا، ثم رفع رأسه إليه، وقال: لو ما حدّثتنا!! فقال: حدّثني ابن عبّاس أنّ آخر آية نزلت من كتاب الله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] . علمه: بلغ طاوس من العلم مبلغا عظيما، وكان واثقا من علمه هذا ... أنكر عليه سعيد بن جبير قوله عن ابن عبّاس: «إنّ الخلع طلاق» ، فلقيه مرّة فقال له: «لقد قرأت القرآن قبل أن تولد، ولقد سمعته وأنت إذ ذاك همّك لقم الثّريد» . وقال قيس بن سعد: «كان طاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم» . والتفسير المأثور عنه قليل جدّا، ومعظمه يرويه عن ابن عباس، ولقلّة التفسير المأثور عنه وطول باعه في الفقه قالوا عنه: إنّه فقيه لا مفسّر، وعدّه علماء الفقه فقيها. نموذج من تفسيره: قال في قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ... [الروم: 39] الآية: «هو الرّجل يعطي العطيّة، ويهدي الهديّة، ليثاب أفضل من ذلك، ليس فيه أجر ولا وزر» . وقد توفّي طاوس- رضي الله عنه- يوم السابع من ذي الحجة سنة 106 هـ، ووافته منيته وهو يحجّ بيت الله الحرام، وصلّى عليه هشام بن عبد الملك، وهو خليفة. 5- عطاء بن أبي رباح: هو: عطاء بن أبي رباح، وأبو رباح هو: أسلم بن صفوان، مولى آل أبي ميسرة بن أبي حثيم الفهريّ «1» . سيّد التابعين علما وعملا وإتقانا في زمانه بمكّة «2» . قال ابن سعد «3» :

_ (1) «طبقات ابن سعد» 5/ 467، «وفيات الأعيان» 1/ 318، «البداية والنهاية» 9/ 317، 318. (2) «ميزان الاعتدال» 3/ 70. (3) «طبقات ابن سعد» 5/ 496، «البداية والنهاية» 9/ 318.

سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود، أعور، أفطس، أشلّ، أعرج، ثمّ عمي بعد ذلك، وكان ثقة، فقيها، عالما، كثير الحديث. قال أبو جعفر الباقر وغير واحد «1» : ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، وزاد بعضهم: وكان قد حجّ سبعين حجّة، وعمّر مائة سنة، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان من الكبر والضّعف، ويفدي عن إفطاره. روى عن عدد كثير من الصحابة، منهم: ابن عمر، وابن عمرو، وعبد الله بن الزّبير، وأبو هريرة، وغيرهم. وسمع من ابن عبّاس التفسير وغيره، وروى عنه من التابعين عدّة، منهم: الزّهري، وعمرو بن دينار، وقتادة، والأعمش، وغيرهم «2» . مكانته في التّفسير: كان ابن عبّاس يقول لأهل مكّة إذا جلسوا إليه: تجتمعون إليّ يأهل مكّة، وعندكم عطاء؟ «3» . وقال قتادة «4» : كان أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسّير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام. لم يكن عطاء مكثرا من رواية التّفسير عن ابن عبّاس فضلا عن تفسيره هو، ولعلّ إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرّجه من القول بالرّأي «5» . قال عبد العزيز بن رفيع «6» : سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي.

_ (1) «البداية والنهاية» 9/ 318. (2) «البداية والنهاية» 9/ 318. (3) «تذكرة الحفاظ» 1/ 91. (4) «طبقات ابن سعد» 5/ 496. (5) «التفسير والمفسرون» 1/ 115. (6) «التفسير والمفسرون» 1/ 115.

لكنّه كان يدلي برأيه- أحيانا- في التفسير. روى الطبرانيّ- بسنده- عن يحيى بن ربيعة الصّنعانيّ قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في قوله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل: 48] قال: كانوا يقرضون الدّراهم، قيل: كانوا يقصّون منها ويقطعونها «1» . وقيل لعطاء: إن هاهنا قوما يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] ، فما هذا الهدى الذي زادهم؟ قلت: ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله، فقال: قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] فجعل ذلك دينا «2» . وتوفّي- رضي الله عنه- سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة «3» . وبعد: فهذه هي مدرسة التّفسير بمكّة، تلك التي أسّسها حبر الأمّة عبد الله بن عبّاس، وهؤلاء أشهر شيوخها الذين تخرّجوا فيها على يدي ابن عبّاس، وفي نهاية مطافنا معها نرصد ما يلي: كان لهذه المدرسة دور ضخم في نشر التفسير، وقد هيأ لها هذا الدّور: نبوغ شيوخها، بالإضافة إلى موطن المدرسة «مكّة» حيث البيت الحرام الذي يأتيه الناس من كلّ فجّ عميق. لم يكتف شيوخ هذه المدرسة بنشر التفسير في مكّة، وإنما كان لهم دور بالغ الأهمية خارج مكّة فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الرّيّ نشر فيها الكثير من العلم «4» ، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكّة، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم ابن عباس وتفسيره، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الإسلاميّة شرقا وغربا إذ رحل إلى خراسان، واليمن، والعراق، والشّام، ومصر، والحرمين «5» .

_ (1، 2) «البداية والنهاية» 9/ 318، 319. (3) «المصدر نفسه» 9/ 317. (4) راجع: «حبر الأمة عبد الله بن عباس» ص 145. (5) راجع: «وفيات الأعيان» 1/ 319، «معجم الأدباء» 12/ 181، «البداية والنهاية» 9/ 254.

مدرسة المدينة تلاميذ أبي بن كعب

جزى الله هؤلاء الأعلام عن القرآن والمسلمين خير الجزاء. مدرسة المدينة تلاميذ أبيّ بن كعب قامت مدرسة المدينة في التفسير على الصحابيّ الجليل أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- فهو أستاذها وأشهر مفسّريها. وكان بالمدينة كثير من الصحابة، أقاموا بها، فجلسوا إلى أبيّ يعلمهم كتاب الله وسنّته، ومن أشهر هؤلاء: 1- أبو العالية: هو: زياد، وقيل: رفيع بن مهران الرّياحيّ، مولاهم «1» . مخضرم، أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسنتين. روى عن: عليّ، وابن مسعود، وابن عبّاس. وابن عمر، وأبيّ بن كعب، وغيرهم. كان من ثقات التابعين، وقد أجمع عليه أصحاب الكتب السّتّة. كان يحفظ القرآن ويتقنه، قال: «قرأت القرآن بعد وفاة نبيّكم بعشر سنين» . وقال: «قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرّات» . وقال فيه ابن أبي داود: «ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية» . رويت عنه نسخة كبيرة في التفسير، رواها أبو جعفر الرازيّ عن الرّبيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ، وهو إسناد صحيح. توفّي سنة تسعين من الهجرة، على أرجح الأقوال.

_ (1) راجع: «تهذيب التهذيب» 3/ 284- 285، و «مقدمة فتح الباري» ص 422، وانظر: «التفسير والمفسرون» 1/ 116، 117. [.....]

2 - محمد بن كعب القرظي:

2- محمّد بن كعب القرظيّ: هو: محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظيّ، المدنيّ، أبو حمزة، أو أبو عبد الله، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم: عليّ، وابن مسعود، وابن عبّاس، وغيرهم، وروى عن أبيّ بن كعب بالواسطة «1» . قال فيه ابن سعد «2» : كان ثقة، عالما، كثير الحديث، ورعا، وهو من رجال الكتب السّتّة. قال فيه ابن عون «3» : ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظيّ: نموذج من تفسيره «4» : قال في قوله تعالى: ... اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ... : اصبروا: على دينكم، وصابروا: لوعدكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوّكم الظاهر والباطن، وَاتَّقُوا اللَّهَ: فيما بيني وبينكم، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200] إذا لقيتموني. توفي سنة مائة وثمان من الهجرة «5» ، وقيل: بعد ذلك. 3- زيد بن أسلم: هو «6» : زيد بن أسلم العدويّ، المدنيّ، الفقيه، المفسّر، أبو أسامة، أو أبو عبد الله. كان أبوه مولى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. وكان زيد من كبار التّابعين الذين عرفوا القول بالتفسير. قال فيه الإمام أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنّسائيّ: «ثقة» ، وهو عند أصحاب الكتب السّتّة.

_ (1) «البداية والنهاية» 9/ 268 وما بعدها. (2) راجع: «التفسير والمفسرون» 1/ 117، و «الإسرائيليات والموضوعات» 98. (3) راجع: «التفسير والمفسرون» 1/ 117، و «الإسرائيليات والموضوعات» 98. (4) «البداية والنهاية» 9/ 268. (5) المصدر نفسه. (6) «تهذيب التهذيب» 3/ 395- 397، وراجع: «التفسير والمفسرون» 1/ 118، 119.

مدرسة العراق تلاميذ عبد الله بن مسعود

عرف بغزارة العلم، كان يقرأ القرآن برأيه، ولا يتحرّج من ذلك، إذ يرى جواز التّفسير بالرّأي. وأشهر من أخذ التّفسير عن زيد بن أسلم من علماء المدينة: ابنه عبد الرّحمن بن زيد، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة. وتوفّي سنة ستّ وثلاثين ومائة للهجرة، وقيل غير ذلك. مدرسة العراق تلاميذ عبد الله بن مسعود قامت هذه المدرسة على عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه عنه- وغيره، إلا أنّ ابن مسعود هو أشهر أساتذتها أو هو أستاذها الأوّل لطول باعه في هذا الميدان، بالإضافة إلى أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حين ولّى عمّار بن ياسر على الكوفة، سيّر معه عبد الله بن مسعود، معلّما ووزيرا، فجلس إليه أهل الكوفة وأخذوا عنه أكثر من غيره. ومن أهمّ سمات هذه المدرسة: شيوع طريقة الاستدلال فيها: نظرا إلى أنّ أهل العراق عرفوا بأنهم أهل الرّأيّ، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد الله بن مسعود «1» . ومن أشهر رجال هذه المدرسة: 1- علقمة بن قيس: هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك، أبو شبل، النّخعيّ، الكوفيّ. كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم، وكان يشبّه بابن مسعود، وكان أعلم أصحابه بعلم ابن مسعود «2» . قال عثمان بن سعيد: «قلت لابن معين: علقمة أحبّ إليك أم عبيدة؟ فلم يخيّر، قال عثمان: كلاهما ثقة، وعلقمة أعلم بعبد الله» . وروى عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: ما أقرأ شيئا ولا أعلمه إلّا علقمة

_ (1) «التفسير والمفسرون» 1/ 120 (بتصرف وإيجاز) . (2) «تهذيب التهذيب» 7/ 276- 278، «البداية والنهاية» 8/ 219.

2 - مسروق:

يقرؤه ويعلمه. قال فيه الإمام أحمد: ثقة من أهل الخير، وهو عند أصحاب الكتب الستّة. مات سنة إحدى وستين، وقيل: سنة اثنتين وستّين عن تسعين سنة «1» . 2- مسروق: هو: مسروق بن الأجدع بن مالك بن أميّة الهمدانيّ، الكوفيّ، العابد، أبو عائشة. سأله عمر يوما عن اسمه، فقال له: اسمي مسروق بن الأجدع، فقال عمر: الأجدع شيطان، أنت مسروق بن عبد الرحمن «2» . روى عن الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وغيرهم. وكان أعلم أصحاب ابن مسعود، وأكثرهم أخذا منه، قال عليّ بن المدينيّ: ما أقدّم على مسروق أحدا من أصحاب عبد الله، يعني: ابن مسعود. وقال الشّعبيّ: ما رأيت أطلب للعلم منه. وقد وثّقه علماء الجرح والتّعديل فقال ابن معين: ثقة، لا يسأل عن مثله، وقال ابن سعد: «كان ثقة، وله أحاديث صالحة» ، وقد أخرج له الستة. توفّي- رضي الله عنه- سنة ثلاث وستّين من الهجرة على الأشهر «3» . 3- عامر الشّعبيّ: هو: عامر بن شراحيل الشّعبيّ، الحميريّ، الكوفيّ، التّابعيّ الجليل أبو عمرو. قاضي الكوفة «4» .

_ (1) راجع المصدرين السابقين. (2) «تهذيب التهذيب» 10/ 109- 111، «التفسير والمفسرون» 1/ 121، 122، «الإسرائيليات والموضوعات» 99. (3) «تهذيب التهذيب» 10/ 109- 111، «التفسير والمفسرون» 1/ 121، 122، «الإسرائيليات والموضوعات» 99. (4) «تهذيب التهذيب» 5/ 65- 69، «البداية والنهاية» 9/ 239- 240.

4 - الحسن البصري:

كان علّامة أهل الكوفة، إماما حافظا، ذا فنون. وقد أدرك خلقا من الصحابة وروى عنهم، ومنهم: عمر، وعليّ، وابن مسعود، وإن لم يسمع منهم، وروى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عبّاس، وأبي موسى الأشعريّ، وغيرهم. قال الشّعبيّ: أدركت خمسمائة من الصحابة. والشّعبيّ ثقة، فهو عند أصحاب الكتب السّتّة، وقال ابن حبّان في الثقات: كان فقيها شاعرا. وعن سليمان بن أبي مجلز قال: ما رأيت أحدا أفقه من الشّعبيّ، لا سعيد بن المسيّب، ولا طاوس، ولا عطاء، ولا الحسن، ولا ابن سيرين. وقال ابن سيرين: قدمت الكوفة، وللشّعبيّ حلقة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير «1» . ومع أنه قد أوتي هذا الحظّ الوافر من العلم، لم يكن جريئا على كتاب الله حتّى يقول فيه برأيه قال ابن عطية «2» : كان جلّة من السلف كسعيد بن المسيّب، وعامر الشّعبيّ يعظّمون تفسير القرآن، ويتوقّفون عنه تورّعا واحتياطا لأنفسهم، مع إدراكهم وتقدّمهم. توفّي سنة أربع ومائة من الهجرة «3» ، وقيل: سنة تسع ومائة. 4- الحسن البصريّ: هو: الحسن بن أبي الحسن يسار البصريّ، أبو سعيد، مولى الأنصار، وأمّه خيرة مولاة أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ربّي في حجرها، وأرضعته بلبانها، فعادت عليه بركة النّبوّة «4» .

_ (1) راجع لهذه الأقوال: «تهذيب التهذيب» ، «البداية والنهاية» ، و «التفسير والمفسرون» . (2) «مقدمة تفسير القرطبي» 1/ 34. [.....] (3) «البداية والنهاية» 9/ 239. (4) «تهذيب التهذيب» 2/ 263- 270، «البداية والنهاية» 9/ 280، «الحسن البصري» للإمام أبي الفرج بن الجوزي- هدية مجلة الأزهر/ محرم 1408 هـ.

5 - قتادة:

ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطّاب. وهو أحد كبار التابعين الأجلّاء علما وعملا وإخلاصا، شهد له بالعلم خلق كثير. قال أنس بن مالك: «سلوا الحسن فإنّه حفظ ونسينا» ، وقال سليمان التّيميّ: «الحسن شيخ أهل البصرة» ، وروى أبو عوانة عن قتادة أنه قال: «ما جالست فقيها قطّ إلّا رأيت فضل الحسن عليه» . وكان أبو جعفر الباقر يقول عنه: «ذلك الّذي يشبه كلامه كلام الأنبياء» «1» . وقد التزم الحسن البصريّ بمنهجه السّلفيّ في تفسير الآيات المتعلّقة بالله وصفاته، ولم يمنعه هذا الالتزام من حرّيّة العقل حين تعرّض لغيرها يقول في تفسير قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] ، قدّر الله لكلّ شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له، وهذه هي عقيدة السّلف التي بنوها على ما تعلّق بالآية من سبب لنزولها، فعن أبي هريرة قال: جاءت مشركو قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] «2» . وكان الحسن يعمل عقله وفكره في فهم القرآن وتفسيره يقول في قوله تعالى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: 23] : «إنّ الله لم يجعل لأهل النّار مدّة، بل قال: لابثين فيها أحقابا، فو الله، ما هو إلّا أنّه إذا مضى حقب دخل آخر ثمّ آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدّة إلّا الخلود» «3» . وتوفّي- رحمه الله- سنة عشر ومائة من الهجرة عن ثمان وثمانين سنة. 5- قتادة: هو: قتادة بن دعامة السّدوسيّ: الأكمه، أبو الخطّاب، عربيّ الأصل، كان يسكن البصرة.

_ (1) «تهذيب التهذيب» 2/ 263. (2) «البغوي الفراء» 221. (3) «البغوي الفراء» 222.

أحد علماء التّابعين، والأئمّة العاملين، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التابعين، منهم: سعيد بن المسيّب، وأبو العالية، وزرارة بن أوفى، وعطاء، ومجاهد، وابن سيرين، ومسروق، وأبو مجلز، وغيرهم «1» . وحدّث عنه جماعات من الكبار كالأعمش، وشعبة، والأوزاعيّ، وغيرهم. وكان قويّ الحافظة، واسع الاطّلاع في الشّعر العربيّ، بصيرا بأيّام العرب. كان قتادة على مبلغ عظيم من العلم، فضلا عما اشتهر به من معرفته لتفسير كتاب الله تعالى، وقد شهد له بذلك كبار التّابعين والعلماء. قال فيه سعيد بن المسيّب: «ما أتاني عراقيّ أحسن من قتادة» . وقد استخدم قتادة معرفته باللّغة العربية في التفسير، وأعمل فكره في تفهّم الآيات، بجانب روايته عن السّلف. وقد توفّي- رضي الله عنه- سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة، عن ستّ وخمسين سنة على المشهور، وقيل: سنة خمس عشرة ومائة «2» . وبعد: فهذه هي مدارس التفسير المشهورة في عصر التابعين، الذين تلقّوا غالب أقوالهم في التفسير عن الصحابة، وبعضهم استعان بأهل الكتاب، ثم اجتهدوا مستعينين على ذلك بما بلغوا من العلم ودقّة الفهم، وقرب عهدهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، والعرب الخلّص، فلم تفسد سليقتهم. وهناك مدارس أخرى غير هذه المدارس الثّلاث، ولكنّها لم ترق لشهرة هذه الثلاث، ومن هذه: مدرسة مصر التي اشتهر من شيوخها: يزيد بن حبيب الأزديّ، وأبو الخير مرثد بن عبد الله، وغيرهما. ومدرسة اليمن التي أرسى دعائمها طاوس بن كيسان، وكان من أشهر شيوخها: وهب بن منبّه الصّنعانيّ.

_ (1) «وفيات الأعيان» 2/ 179، «البداية والنهاية» 9/ 326، «تهذيب التهذيب» 8/ 351. (2) راجع: «تهذيب التهذيب» 8/ 351- 356، «البداية والنهاية» 9/ 325، 326.

قيمة التفسير المأثور عن التابعين

وهكذا بذل هؤلاء التابعون جهدا ضخما في حمل الأمانة عن الصحابة، ثم جاء تابعو التّابعين ليكملوا المسيرة، وظلّت تتوارث حتّى وصلت إلينا، فجزى الله كلّ من أسهم في هذا العلم خير الجزاء، ونفعنا الله بالقرآن وعلومه!! قيمة التّفسير المأثور عن التّابعين تفسير التّابعيّ: إما أن يكون مأثورا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته، أو لا، فإن كان مأثورا عن النبيّ، يأخذ حكم تفسيره صلى الله عليه وسلم، وكذلك إن كان مأثورا عن الصحابة. وإن لم يكن مأثورا عن النبيّ ولا عن الصحابة، فقد اختلف العلماء في الرّجوع إليه والأخذ بأقوال التابعين فيه. فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه قال «1» : ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرّأس والعين، وما جاء عن الصّحابة تخيّرنا، وما جاء عن التّابعين فهم رجال، ونحن رجال. ونقلوا عن الإمام أحمد روايتين، إحداهما: بالقبول، والأخرى: بعدم القبول «2» . وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يؤخذ بتفسير التابعين لأنهم لم يسمعوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف تفسير الصّحابة الذين سمعوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم وشاهدوا القرائن والأحوال. وأكثر المفسّرين على الأخذ بأقوال التابعين لأنهم تلقوا على أيدي الصحابة كما سبق أن ذكرنا. والرّأي الذي نرجّحه، ونميل إليه هو ما ذكره ابن تيميّة، قال «3» : «قال شعبة بن الحجّاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجّة، فكيف تكون حجّة في التفسير!! يعني أنها لا تكون حجّة على غيرهم ممّن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجّة، فإن اختلفوا، فلا يكون قول بعضهم حجّة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك» .

_ (1) راجع: «التفسير والمفسرون» للذهبي 1/ 129. (2) المصدر نفسه. (3) «مقدمة في أصول التفسير» ابن تيمية 28- 29، «الإتقان في علوم القرآن» 2/ 179.

سمات التفسير في تلك المرحلة

سمات التّفسير في تلك المرحلة أتّسم التفسير في تلك المرحلة بعدّة سمات، من أبرزها «1» : أنه اعتمد على التلقّي والرواية، وغلب على التلقّي والرواية طابع الاختصاص، فكان لكلّ بلد مدرسته وأستاذه، فمكّة: أستاذها ابن عبّاس، والمدينة: أستاذها أبيّ بن كعب، والعراق: أستاذه ابن مسعود، وهكذا. دخول أهل الكتاب في الإسلام كان سببا في تسلّل الدّخيل إلى علم التفسير، وقد تساهل التابعون في النّقل عنهم- فيما لا يتعلّق بالأحكام الشرعية- بدون تحرّ ونقد، وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب: عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبّه، وغيرهم. كان بدهيّا أن يختلف التابعون في التفسير نظرا لتعدّدهم وكثرتهم، واختلاف مدارسهم التي تخرّجوا فيها، ولكنه خلاف ليس بالكثير إذا ما قيس بالعصور اللاحقة. كما ظهرت نواة الخلاف المذهبيّ إذ ظهرت بعض التفسيرات تحمل في طيّاتها بذورا لتلك المذاهب. التّفسير في عصر التّدوين تبدأ هذه المرحلة في أواخر العصر الأمويّ وأوائل العصر العباسيّ إذ انتشر التدوين بصورة واسعة، وعني العرب «بتدوين كلّ ما يتّصل بدينهم الحنيف، فقد تأسّست في كلّ بلدة إسلامية مدرسة دينية عنيت بتفسير الذّكر الحكيم، ورواية الحديث النبويّ، وتلقين الناس الفقه وشئون التشريع، وكان كثير من المتعلّمين في هذه المدارس يحرصون على تدوين ما يسمعونه ... » «2» . تدوين التّفسير: اختلف في أوّل من ألّف تفسيرا «مكتوبا» ، فبعضهم يذكر أن عبد الملك بن جريج «3» (ت 149 هـ.) هو أوّل من ألّف تفسيرا مكتوبا.

_ (1) راجع: «التفسير والمفسرون» 1/ 131، 132. (2) «تاريخ الأدب العربي» / العصر الإسلامي د. شوقي ضيف 452. (3) هو عبد الملك عبد العزيز بن جريج، أبو خالد، أو أبو الوليد، مولاهم، من علماء مكة ومحدثيها، ولد سنة 80 هـ، توفي سنة 149 هـ، أول من صنف بالحجاز الكتب، نقل عنه ابن جرير في تفسيره. راجع «طبقات ابن سعد» .

أقسام التفسير

وذكر ابن النّديم: أن أبا العبّاس ثعلبا قال: كان السّبب في إملاء كتاب الفرّاء في المعاني أنّ عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفرّاء: إنّ الأمير الحسن بن سهل، ربّما سألني عن الشّيء بعد الشّيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه، فعلت، فقال الفرّاء لأصحابه: اجتمعوا حتّى أملي عليكم كتابا في القرآن ... فقال الفرّاء لرجل: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسّرها، ثم نوفي الكتاب كلّه، فقرأ الرجل وفسّر الفرّاء، قال أبو العبّاس: «لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أنّ أحدا يزيد عليه» «1» . وبذلك يكون ابن النّديم قد عدّ «الفرّاء» أوّل من ألّف تفسيرا للقرآن مدوّنا. ولكن ابن حجر يذكر أن التفسير المدوّن كان قبل الفرّاء وقبل ابن جريج إذ يقول «2» : «وكان عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ.) سأل سعيد بن جبير (ت 95 هـ.) أن يكتب إليه بتفسير القرآن فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير. ويبدو أنه من الصّعب تحديد أوّل من فسّر القرآن تفسيرا مدوّنا على تتابع آياته وسوره كما في المصحف. أقسام التّفسير وظل الخلف يحمل رسالة السّلف جيلا بعد جيل، حتّى وصلت مسيرة التفسير إلى تابعي التابعين، وهنا تعدّدت اتجاهات التفسير إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية هي: أوّلا- الاتّجاه الأثريّ (التّفسير بالمأثور) : والمأثور: اسم مفعول من أثرت الحديث أثرا: نقلته، والأثر: اسم منه، وحديث مأثور، أي: منقول «3» . وعلى ذلك، فهو يشمل المنقول عن الله تبارك وتعالى- في القرآن الكريم،

_ (1) «الفهرست» ص 99. [.....] (2) «تهذيب التهذيب» 7/ 198. (3) «المصباح المنير» (أثر) ، «الإسرائيليات والموضوعات» أبو شهبة ص 64.

-"ابن جرير الطبري":

والمنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمنقول عن الصّحابة، والمنقول عن التّابعين. وجلّ الذين يكتبون عن تاريخ التفسير ويتحدّثون عن الاتجاه الأثريّ يبدأونه بالطبريّ، «فيقطعون بذلك اتصال سلسلة التطوّر في الأوضاع التفسيريّة بين القرن الأول والقرن الثالث بإضاعة حلقة من تلك السلسلة التي تمثّل منهج التفسير في القرن الثّاني لأن تفسير ابن جرير الطبريّ ألّف في أواخر القرن الثالث، وصاحبه توفّي في أوائل القرن الرّابع، وبالوقوف على هذه الحلقة- وهي إفريقيّة تونسيّة- يتّضح كيف تطوّر فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج، إلى ما أصبح عليه في تفسير الطبريّ، ويتضح لمن كان الطبريّ مدينا له بذلك المنهج الأثريّ النظريّ الذي درج عليه في تفسيره العظيم. «ذلك التفسير هو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق، ويعدّ صاحبه مؤسّس طريقة التفسير النقديّ، أو الأثريّ النظريّ الذي صار بعده «ابن جرير الطبريّ» واشتهر بها. ذلك هو تفسير «يحيى بن سلّام» التميميّ البصريّ المتوفّى سنة 200 هـ، ويقع في ثلاث مجلّدات ضخمة، وقد بناه على إيراد الأخبار مسندة، ثم تعقّبها بالنقد والاختيار، وكان يبني اختياره على المعنى اللّغويّ والتخريج الإعرابيّ، وتوجد من هذا التفسير نسخة بتونس «1» . ويعدّ ابن جرير الطبريّ ربيب تلك الطريقة، طريقة يحيى بن سلّام، وثمرة غرسه، وقد ذكر السّيوطيّ عددا من مفسّري هذا الاتجاه الأثريّ منهم: يزيد بن هارون ت 117 هـ. شعبة بن الحجّاج ت 160 هـ. وكيع بن الجرّاح ت 197 هـ. سفيان بن عيينة ت 198 هـ، وغيرهم. - «ابن جرير الطّبريّ» «2» : لكنّ التفسير حين انتهى إلى الطبريّ في أوائل القرن الثالث الهجريّ «كان نهرا مزبدا،

_ (1) «التفسير ورجاله» / ابن عاشور ص 27. (2) هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، الإمام أبو جعفر الطبري، ولد سنة 224 هـ، وتوفي سنة 310 هـ. وقد جاوز الثمانين بخمس أو ست سنين.

طريقة الطبري في التفسير:

ذا ركام ورواسب، قد انصبّ إلى بحر خضمّ عباب، فامتزج بمائه، وتشرّب من عناصره، وصفا إليه من زبده، وتطهّر لديه من ركامه ورواسبه» «1» . «وابن جرير» فقيه، عالم تبحّر في فنون شتّى من العلم، فهو أحد المشاهير من رجال التّاريخ، ويعدّ كتابه «تاريخ الأمم والملوك» فيه مرجع المراجع، وبه صار إمام المؤرّخين غير منازع. وقد شهد له بذلك كثير من الأعلام يقول الخطيب البغداديّ «2» : «جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات كلّها، بصيرا بالمعاني، فقيها في الأحكام، عالما بالسّنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتّابعين ومن بعدهم، عارفا بأيّام النّاس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنّف أحد مثله ... » . لقد امتلك الطبريّ أدوات التّفسير فاستخدمها بمهارة وحذق، ومن هنا عدّ تفسيره «ذا أوّليّة بين كتب التفسير، أولية زمنية، وأولية من ناحية الفنّيّة والصياغة، أما أوليته الزمنية: فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا وما سبقه من المحاولات التفسيريّة، ذهبت بمرور الزّمن، ولم يصل إلينا شيء منها، اللهمّ، إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذي نحن بصدده» . «وأما أوليته من ناحية الفنّ والصياغة، فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة الّتي سلكها فيه مؤلّفه، حتّى أخرجه للنّاس كتابا له قيمته ومكانته» «4» . طريقة الطّبريّ في التّفسير: حين يفسّر الطبريّ آية يضع لها عنوانا هكذا «القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه ... » ثم يقول: «يعني تعالى بذلك ... » ويستشهد على التفسير بما يرويه بسنده إلى الصّحابة أو

_ (1) «التفسير ورجاله» ص 30. (2) «البداية والنهاية» لابن كثير 11/ 156. (3) هذا على اعتبار فقد تفسير «يحيى بن سلام» الذي أشرت إليه آنفا، أما وقد ذكر الإمام الفاضل بن عاشور أن نسخة من الكتاب موجودة في تونس فإن تفسير الطبري لا يعد ذا أولية زمنية. (4) «التفسير والمفسرون» 1/ 205.

ثانيا - الاتجاه اللغوي:

التابعين، عارضا المعاني الحقيقة والمجازية في استعمالات العرب، مستشهدا بالشّعر العربيّ على ما يثبت استعمال اللفظ في المعنى الذي حمله عليه. وقد يعرض أقوال الصحابة والتابعين إذا تعدّدت في الآية الواحدة، ثم لا يكتفي بمجرّد العرض، وإنما يرجح رأيا على رأي بقوله «1» : «وأولى الأقوال عندي بالصّواب ... » أو «وقال أبو جعفر: والصّواب من القول في هذه الآية ... » ، أو «وأولى التأويلات بالآية ... » ، ثم يويّد رأيه بقوله: «وبمثل الذي قلنا قال أهل التّأويل ... » أو بعرض حجج وأدلة قائلا: «وإنّما رأينا أنّ ذلك أولى التأويلات بالآية لأنّ ... » ، وقد عني ابن جرير بالقراءات عناية كبيرة، ولا غرو، فهو من علماء القراءات المشهورين، وله فيها مؤلّف، إلا أنه ضاع ضمن ما ضاع من التراث العربيّ القديم. كما اهتم الطبريّ بالشعر القديم، يستشهد به على الغريب، وهو في ذلك تابع لابن عباس كما كانت له عناية بالمذاهب النحويّة البصريّة والكوفيّة، يورد الرّأي ويوجّهه. ويورد بعض الأحكام الفقهيّة في تفسيره، مختارا لأحد الآراء، مؤيّدا اختياره بالأدلّة العلميّة القيّمة ... «2» . رحم الله الطبري وجزاه عن القرآن وتفسيره خير الجزاء. ثانيا- الاتّجاه اللّغويّ: وقد بدا هذا الاتجاه واضحا في أواخر القرن الثاني الهجريّ وأوائل القرن الثّالث إذ نشأ علم النّحو، ونضجت علوم اللغة على أيدي الرّوّاد أمثال أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، والخليل بن أحمد الفراهيديّ، وغيرهم. وكان الغرض الأسمى من تأصيل هذه العلوم وتقعيدها خدمة القرآن الكريم صيانة له من اللّحن، ولا سيما بعد اتصال العرب بالعجم. وقد أثّرت هذه الدراسات في تفسير القرآن تأثيرا كبيرا إذ اشتغل اللغويّون أنفسهم بالقرآن ولغته، وكان من أشهر هؤلاء العلماء «أبو عبيدة معمر بن المثنّى» المتوفّى سنة

_ (1) راجع: «تفسير الطبري» . (2) راجع: «التفسير والمفسرون» 1/ 202- 218.

208 هـ. أو 215 هـ، وقد ألف كتابه «مجاز القرآن» سنة 188 هـ «1» ، ويعدّ هذا الكتاب أقدم مؤلّف في معاني القرآن وصل إلينا. وأبو عبيدة موسوعة علمية له مؤلّفات في مجالات شتّى، وقد «أوتي لسانا صارما جلب على نفسه عداوات كثيرة، ثم تنفّس به العمر قرابة قرن كامل زامل فيه أعلاما كبارا، وجادل خصوما كثارا، وشهد تلاميذه ومن في طبقتهم يجادلون عنه، ويجادلون فيه، فقرّب وباعد، وواصل وقاطع، ولكنّ مخالفيه كانوا من الكثرة بحيث أرهقوه وضايقوه، حتّى جاءه الأجل فلم ينهض لتشييع جنازته أحد، وعلّل ذلك بما ترك من حزازات أدبية» «2» . ويحكي أبو عبيدة سبب تأليفه كتاب «مجاز القرآن» فيقول: «أرسل إليّ الفضل بن الربيع والي البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة، فقدمت إلى بغداد واستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت عليه، وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسيّ، وهو جالس عليها، فسلّمت عليه بالوزارة، فردّ وضحك إليّ، واستدناني حتّى جلست إليه على فرشة، ثم سألني وألطفني وباسطني، وقال: أنشدني، فأنشدتّه فطرب وضحك، وزاد نشاطه، ثم دخل رجل في زيّ الكتّاب له هيئة، فأجلسه إلى جانبي، وقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أبو عبيدة علّامة أهل البصرة! أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرّظه لفعله هذا، وقال لي: إنّي كنت إليك مشتاقا، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرّفك إيّاها؟ فقلت: هات، قال: قال الله عزّ وجلّ: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] ، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله وهذا لم يعرف، فقلت: إنما كلّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول امرئ القيس: [الطويل] أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وهم لم يروا الغول قطّ، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم، أو عدوا به فاستحسن الفضل ذلك، واستحسن السّائل، وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلمّا رجعت إلى البصرة، عملت كتابي الذي سمّيته

_ (1) «معجم الأدباء» 19/ 158. (2) «خطوات التفسير البياني» د. رجب البيومي ص 37، 38، وراجع: «معجم الأدباء» 19/ 160.

ثالثا - الاتجاه البياني:

المجاز، وسألت عن الرجل السائل، فقيل لي: هو من كتّاب الوزير وجلسائه وهو إبراهيم بن إسماعيل الكاتب» «1» . وبعض العلماء ينكر هذه القصّة لأن أبا عبيدة لم يشر إليها في مقدّمة كتابه ... «2» . ومن الذين كتبوا عن اتجاهات التّفسير من يسلك أبا عبيدة- من خلال كتابه هذا- في سلك الاتجاه البيانيّ في التّفسير، وأكثرهم يعدّه رائدا في الاتجاه اللّغويّ. على أن أبا عبيدة لم «يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنّما عنى بمجاز الآية ما يعبّر به عن الآية» «3» . فقد يستعمل أبو عبيدة لفظ المجاز قاصدا به معنى اللّفظ، فمثلا في قوله تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [الأحقاف: 15] يقول: «مجازه: شددني إليك، ومنه قولهم: وزعني الحلم عن السّفاه، أي: منعني، ومنه الوزعة: الّذين يدفعون الخصوم والنّاس عن القضاة والأمراء» ثم يستشهد بالبيت: على حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... فَقُلْتُ ألمّا تصح والشّيب وازع «4» وأما أبو زكريّا الفرّاء المتوفّى سنة 207 هـ، فكان يستعين بتفسيرات السّلف، مضيفا له ما أدّى إليه اجتهاده اللغويّ، وكذا الزّجّاج المتوفّى سنة 311 هـ «5» . لقد استلهم الفرّاء الحسّ اللّغويّ محكّما ذوقه وعقله كما راعى السّياق العامّ في الآية ولذا نجده يفضّل قراءة تحقّق التجانس بين الكلمات المتجاورات على غيرها «6» . ثالثا- الاتّجاه البيانيّ «7» : وبذور هذا الاتجاه نجدها في تفسير ابن عبّاس المبثوث في ثنايا التفسير الأثريّ، ومن

_ (1) «معجم الأدباء» 19/ 158. (2) راجع «خطوات التفسير البياني» ص 44، 45 وقد ذكر الدكتور رجب البيومي أسبابا أخرى ومبررات لرفض هذه القصة. [.....] (3) «فتاوى ابن تيمية» كتاب الإيمان ص 88. (4) «مجاز القرآن» 2/ 92، 93. (5) راجع البغوي الفراء ص 238. (6) راجع البغوي الفراء ص 239، 240 (بتصرف وإيجاز) . (7) بعض المؤلفين في تاريخ التفسير يضعون اتجاها ثالثا بدلا من هذا الاتجاه يطلقون عليه «الاتجاه النقدي» ، وبعضهم يسلك هذا الاتجاه ضمن الاتجاه الأثري. انظر: «التفسير ورجاله» : ابن عاشور ص 26.

أمثلة ذلك: ما رواه ابن جرير في تفسير قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ... لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266] أن عمر- رضي الله عنه- سأل النّاس عن هذه الآية، فما وجد أحدا يشفيه، حتّى قال ابن عباس، وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إني أجد في نفسي منها شيئا، فتلفّت إليه، فقال: تحوّل هاهنا لم تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ، فقال: أيودُّ أحدُكُم أنْ يعمل عمره بعَمَلِ أهْل الخير وأهل السّعادة حتّى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فَنِيَ عمره واقترب أجله، خَتَم ذلك بعَمَلٍ من عمل أهل الشقاء، فأفسده كلّه فحرقه أحوج ما كان إليه «1» . «وهو من باب الاستعارة التمثيلية، وقد ألمع إليه ابن عبّاس بقوله المقارب: هذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ ... إلخ، وهل قال البلاغيّون فيما بعد غير ذلك؟!» «2» . ونهج تلاميذ ابن عبّاس نهجه، وكان أكثرهم نتاجا في هذا الاتجاه «مجاهدا» «3» ، وأما تأصيل هذا الاتجاه فقد كان على يد «أبي عبيدة» صاحب «مجاز القرآن» ، ويعدّ صاحب الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. «وفضل هذا الكتاب في الدراسات البلاغيّة: أنه حين تعرّض للنصوص القرآنية أشار إلى ما تدلّ عليه من حقيقة أو مثل أو تشبيه أو كناية وما يتضمّن من ذكر أو حذف أو تقديم أو تأخير، فوضع بذلك اللّبنة الأولى في صرح الدراسات البلاغيّة للقرآن ... وإذا كان عبد القاهر أظهر من نادى من البلغاء بأن يوضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النّحو، وهو ما سمّي بقضية النّظم فإن بذور قضيّته هذه كانت تكمن في مجاز «أبي عبيدة» حيث رأى في زمنه السّابق ما رآه صاحب «الدّلائل» في زمنه اللاحق، فكان بذلك الرائد الأوّل لعلم المعاني عند من يلتمسون الجذور الضّاربة في الأعماق «4» . وقد رتّب «أبو عبيدة» كتابه وفق ترتيب السّور القرآنية في المصحف، ومن هنا صار من اليسير أن يرجع الدّارس إلى ما ذكر أبو عبيدة في توجيه الآيات الكريمة من مثل قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] حيث قال: إنّها كناية

_ (1) «تفسير ابن جرير» 3/ 47. (2) راجع: «خطوات التفسير البياني» ص 21 وفيه شواهد أخرى. (3) راجع الأمثلة التي ذكرها الدكتور رجب البيومي في «خطوات التفسير البياني» ص 34 وما بعدها. (4) «خطوات التفسير البياني» ص 46، 47.

وتشبيه «1» . ومن مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 109] حيث أتبع الآية بتحليل بيانيّ وعدّها من مجاز التمثيل حين قال: «ومجاز الآية: مجاز التمثيل لأن ما بنوه على التقوى أثبت أساسا من البناء الذي بنوه على الكفر والنفاق فهو على شفا جرف، وهو ما يجرف من الأودية فلا يثبت البناء عليه «2» . تلك هي الخطوة الأولى خطاها أبو عبيدة في التفسير البيانيّ للقرآن الكريم، وإن وجّهت إليه كثير من النقود والمطاعن من علماء كبار أمثال الفرّاء والأصمعيّ والطبريّ «3» ... ثم تلت هذه الخطوة خطوات الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما ...

_ (1) راجع: «مجاز القرآن» 1/ 73. (2) «مجاز القرآن» 1/ 269، وانظر: «خطوات التفسير البياني» ص 51، 52. (3) راجع: «خطوات التفسير البياني» ص 58 وما بعدها.

المبحث الثالث الكلام على تفسير الثعالبي

المبحث الثّالث الكلام على تفسير الثّعالبيّ أوّلا: المصادر الّتي استقى منها أبو زيد الثّعالبيّ في «الجواهر الحسان» بادىء ذي بدء أقول: إنه لا يستطيع أحد من الناس أن يزعم أنه يستطيع أن يأتي بأفضل مما أتى به أئمة هذه الأمة، فالخلف عيال على السّلف، ولولا أن الله حفظ بهم الدين، لما كان هذا حال المسلمين، ولعبدوا الله تعالى بمذاهب باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، فلله درهم، وعليه شكرهم. [الطويل] أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع وليس هذا من باب تحجير الواسع، أو تضييق رحمة الله فلم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على عصر دون عصر، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مفرّقا في الأمة، موجودا لمن التمسه، وكم ترك الأول للآخر!! إلا أن اللاحق- ولا مفر- ينقل عن السابق، وهكذا دواليك، سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ، ولن تجد لسنّة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. من هنا كان للثعالبي أن يعتمد على كلام من سبقوه، فهم سلفه، وهو خلفهم، وهم شيوخه، وهو تلميذهم، فمن مكثر عنه، ومن مقلّ. ولا شك أن للرحلة التي ارتحلها الثعالبي في طلب العلم أثرا بالغا في تحصيل دواوين أولئك الأعلام خاصة كتب المشرقيين منهم، فجمع حصيلة وافرة عزّ اقتناؤها، وأسفارا عظيمة ندر اقتناصها. ولقد تنوعت مصادر الثعالبي، وتشكلت على اختلاف العلوم التي يحتاج إليها المفسر والتفسير، وهذه قائمة بأهم المصادر في كل علم على حدة: أوّلا: مصادره من كتب التّفسير: اعتمد الثعالبي- رحمه الله- على عدة مصادر مهمة في التفسير، كان أهمها: 1- تفسير ابن عطية المسمى «المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» : وهو الأصل الذي اعتمده المصنّف، فاختصره، وزاد عليه. ومؤلف «المحرر» هو:

عبد الحق بن غالب بن عبد الرحيم. وقيل: عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عبد الله بن تمام بن عطية الغرناطي صاحب التفسير الإمام أبو محمد الحافظ القاضي. قال ابن الزبير: كان فقيها جليلا عارفا بالأحكام والحديث والتفسير، نحويا لغويا أديبا بارعا شارعا مفيدا ضابطا نسيبا فاضلا، من بيت علم وجلالة، غاية في توقد الذهن، وحسن الفهم، وجلالة التصرف. روى عن: أبيه الحافظ أبي بكر، وأبي علي الغساني، والصفدي، وعنه: ابن مضار، وأبو القاسم بن حبيش، وجماعة. وولي قضاء «المرية» يتوخى الحق والعدل. وألف تفسير القرآن العظيم، وهو أصدق شاهد له بإمامته في العربية وغيرها، وخرج له برنامجا. ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وتوفي بلورقة في خامس عشر رمضان سنة ثنتين. وقيل: إحدى. وقيل: ست وأربعين وخمسمائة. وذكره في «قلائد العقيان» ، ووصفه بالبراعة في الأدب والنظم والنثر. ولقد نوّه أبو حيان في مقدمة تفسيره بالزمخشري، وابن عطية باعتبارهما علمين من أعلام التفسير، وإمامين من كبار أئمته، ووصفهما بأنهما أجل من صنّف في علم التفسير، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه، والتحرير، ثم أثنى أبو حيان في هذه المقدمة كذلك على كتابيهما في التفسير ثناء، ورفع من شأنهما، وأشار إلى أنه قام في تفسيره بانتقاد هذين الكتابين والتعقيب عليهما، وذلك حيث يقول: «ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين، وأنارا، وتنزّلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسان من العين، والذهب الإبريز من العين، ويتيمة الدر من اللآلي، وليلة القدر من الليالي، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما، وثنوا أعنّة الاعتناء إليهما، وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز، ومسرح للتخيل فيهما والتمييز، ثنيت إليهما عنان الانتقاد، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد أنهما في التفسير الغاية التي لا تدرك، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك، وعرضتهما على محكّ النظر، وأوريت فيهما نار الفكر، حتى خلصت دسيسهما، وبرز نفيسهما، وسيرى ذلك من هو للنظر أهل، واجتمع فيه إنصاف وعقل» . والمقصود ذكر فضل تفسير ابن عطية، وبيان أهميته. ولقد نص الثعالبي نفسه في مقدمته على أنه قد اعتمد تفسير ابن عطية، فقال: «

4 -"مفاتيح الغيب" أو التفسير الكبير، للإمام الرازي:

فقد ضمنته (يعني: تفسيره) بحمد الله المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزدته فوائد جمّة ... إلخ» . 2- «مختصر تفسير الطّبريّ» لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد اللخمي، النحوي. 3- مختصر «البحر المحيط» لأبي حيّان، اختصره الصفاقسي، وسمّاه: «المجيد في إعراب القرآن المجيد» : يقول محمد بن مخلوف في «شجرة النور الزكية» واصفا كتاب «المجيد» : «وهو من أجلّ كتب الأعاريب، وأكثرها فائدة» . ويقول حاجي خليفة في «كشف الظنون» (بعد أن عرّف بعلم إعراب القرآن وذكر بعض من صنف فيه) : «وأبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي المتوفى 562 هـ، وكتابه أوضحها، وهو في عشر مجلدات، وأبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري النحوي، المتوفى سنة 616 هـ، وكتابه أشهرها، وسماه «التبيان» . أوله: «الحمد لله ... » ، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الصفاقسي، المتوفى سنة 742 هـ، وكتابه أحسن منه، وهو في مجلدات سماه «المجيد في إعراب القرآن المجيد» . وقد ذكره في مقدمته، فقال: «وما نقلته من الإعراب عن غير ابن عطية، فمن الصفاقسي مختصر أبي حيان ... إلخ» . 4- «مفاتيح الغيب» أو التفسير الكبير، للإمام الرّازيّ: وهو من أجلّ التفاسير، وإن كان أطال في الاستدلال وردّ الشبه إطالة كادت تغطي على كونه كتاب تفسير. ولسنا نميل مع أبي حيان في قوله فيه: «فيه كل شيء إلا التفسير» ، فإنه- رحمه الله- مع الاستطراد إلى ذكر الأدلة والبراهين، قد وفّى التفسير حقّه. وبالجملة: فالكتاب أشبه ما يكون بموسوعة في علم الكلام، واللغة، والأصول، والآثار، وفي العلوم الكونية، والطبيعية، وغير ذلك من فنون العلم. هذا، ولم ينصّ الثعالبي في مقدمته على أنه استقى من «مفاتيح الغيب» ، إلا أنه نقل منه في ثنايا تفسيره، فأكثر من النقل، فيقول: قال الفخر، ثم يذكر كلامه. 5- «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر بن العربيّ: وقد أكثر الثّعالبيّ- رحمه الله- من النقل عنه، وهذا واضح من خلال استقراء آيات الأحكام، وتناوله لها.

ثانيا: كتب غريب القرآن والحديث:

وهذا الكتاب لا يتعرض لسور القرآن كلها، ولكنه يتعرض لما فيها من آيات الأحكام فقط، وطريقته في ذلك أن يذكر السّورة، ثم يذكر عدد ما فيها من آيات الأحكام، ثم يأخذ في شرحها آية آية ... قائلا: الآية الأولى وفيها خمس مسائل «مثلا» ، والآية الثانية وفيها سبع مسائل «مثلا» وهكذا، حتى يفرغ من آيات الأحكام الموجودة في السورة. وهذا الكتاب يعتبر مرجعا مهما للتفسير الفقهي عند المالكية وذلك لأن مؤلفه مالكي تأثر بمذهبه، فظهرت عليه في تفسيره روح التعصّب له، والدفاع عنه، غير أنه لم يشتط في تعصبه إلى الدرجة التي يتغاضى فيها عن كل زلّة علمية تصدر من مجتهد مالكي، ولم يبلغ به التعسّف إلى الحد الذي يجعله يفنّد كلام مخالفه إذا كان وجيها ومقبولا، والذي يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الإنصاف لمخالفيه أحيانا، كما يلمس منه روح التعصب المذهبي التي تستولي على صاحبها، فتجعله أحيانا كثيرة يرمي مخالفه، وإن كان إماما له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة، تارة بالتصريح، وتارة بالتّلويح. ويظهر لنا أن الرجل كان يستعمل عقله الحر، مع تسلط روح التعصب عليه، فأحيانا يتغلب العقل على التعصب، فيصدر حكمه عادلا لا تكدره شائبة التعصب، وأحيانا- وهو الغالب- تتغلب العصبية المذهبية على العقل، فيصدر حكمه مشوبا بالتعسّف، بعيدا عن الإنصاف. وهذا الكتاب أيضا لم ينص المصنف على أنه اعتمد عليه- في مقدمته، بل ذكر النقل عنه في ثنايا التفسير. ثانيا: كتب غريب «1» القرآن والحديث: وقد اعتمد الثعالبي على كتابين في غريب ألفاظ الكتاب العزيز: أولهما: لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، والثاني: وهو مختصر غريب القرآن للحافظ زين الدين العراقي.

_ (1) قال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي الغريب من الكلام انما هو الغامض البعيد من الفهم كما أن الغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل والغريب من الكلام يقال به على وجهين. أحدهما أن يراد به أنه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد، ومعاناة فكره والوجه الأخر أن يراد به كلام من بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربناها انتهى. وقال ابن الأثير في «النهاية» : وقد عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا، حتى قال له علي رضي الله تعالى عنه وقد سمعه يخاطب وقد بني نهد: يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره، فقال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فكان عليه الصلاة والسلام يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم بما يفهمونه، فكأن الله تعالى قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره، وكان

ثالثا: المصادر التي اعتمد عليها من كتب السنة:

كما اعتمد في غريب السّنة على كتاب أبي عبيد بن سلام الهرويّ. ثالثا: المصادر الّتي اعتمد عليها من كتب السّنّة: 1- صحيح الإمام البخاري. 2- صحيح الإمام مسلم. 3- سنن أبي داود. 4- سنن الترمذي. 5- حلية الأبرار «أو» الأذكار، للأمام النووي. 6- سلاح المؤمن، لتقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن همام المصري الشافعي. 7- مصابيح السنة، للبغوي. 8- الموطأ، للإمام مالك. رابعا: كتب الترغيب والترهيب والرقائق: اعتمد الثعالبي في هذا الفنّ على كتابين هما: 1- التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، للإمام القرطبي.

_ أصحابه يعرفون أكثر ما يقوله، وما جهلوه سألوه عنه، فيوضحه لهم. واستمر عصره إلى حين وفاته- عليه الصلاة والسلام- وجاء عصر الصحابة جاريا على هذا النمط، فكان اللسان العربي عندهم صحيحا لا يتداخله الخلل إلى أن فتحت الأمصار، وخالط العرب غير جنسهم، فامتزجت الألسن، ونشأ بينهم الأولاد، فتعلموا من اللسان العربي ما لا بد لهم في الخطاب، وتركوا ما عداه، وتمادت الأيام إلى أن انقرض عصر الصحابة، وجاء التابعون فسلكوا سبيلهم، فما انقضى زمانهم إلا واللسان العربي قد استحال أعجميا، فلما أعضل الداء ألهم الله سبحانه وتعالى جماعة من أهل المعارف إن صرفوا إلى هذا الشأن طرفا من عنايتهم، فشرعوا فيه حراسة لهذا العلم الشريف. فقيل: إن أول من جمع في هذا الفن شيئا أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المتوفى سنة 210 عشر ومائتين، فجمع كتابا صغيرا، ولم تكن قلته لجهله بغيره، وإنما ذلك لأمرين: أحدهما: أن كل مبتدئ [مبتدأ] بشيء لم يسبق إليه يكون قليلا، ثم يكثر. والثاني: أن الناس كان فيهم يومئذ بقية، وعندهم معرفة، فلم يكن الجهل قد عمّ. [.....]

خامسا: كتب في الأحكام الفقهية والأصولية:

2- العاقبة، للإمام عبد الحق الأشبيلي. وهذان الكتابان نص عليهما في مقدمته، إلا أنه اعتمد على كتب أخرى في ذلك الفن، مثل: 3- الرقائق، لابن المبارك. 4- بهجة المجالس وأنس المجالس، لأبي عمر بن عبد البر. 5- رياضة المتعلمين، للأصفهاني. خامسا: كتب في الأحكام الفقهية والأصوليّة: 1- المدونة، لسحنون بن سعيد. 2- مختصر ابن الحاجب الفرعي. 3- الإلمام في أحاديث الأحكام، لابن دقيق العيد. 4- البيان والتحصيل، لابن رشد. 5- مختصر ابن الحاجب، المسمى ب «المنتهى» . سادسا: كتب الخصائص والشمائل: اعتمد الثعالبي في «الجواهر الحسان» في هذا الفن على كتاب القاضي عياض، والمسمى ب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» . وكذلك كتاب «الآيات والمعجزات» لابن القطّان. سابعا: كتب في التربية وتهذيب النفوس: نعت الإمام الثعالبي ب «الإمام، الورع، الزاهد، العارف بالله» ، وهذا الرجل كان يتبرك به، ويكثر من الثناء عليه. ولهذا عنى في تفسيره بإيراد آثار الصالحين، والتزود من أخبارهم، فأورد عن بعض كتب أهل العلم المصنفة في ذلك، وكان منها: 1- «بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها» وهو شرح مختصر صحيح البخاري، المسمى «جمع النهاية في بدء الخير والغاية» ،

4 - شرح ابن الفاكهاني على أربعين النووي.

للإمام أبي محمد بن أبي جمرة الأندلسي. وقد ذكره المصنف في مقدمته، فقال: « ... » . 2- «إحياء علوم الدين» ، لأبي حامد الغزالي. وهو أشهر من أن يذكر، وأعرف من أن يعرف. وقد نقل منه المصنف، فأكثر من النقل. واعتمد أيضا على مختصره لمحمد بن علي بن جعفر البلالي. وقد حكى الثعالبي عن هذا المصنف، فقال: « ... وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ، ورويتُ عنه كتابه هذا» . وذلك في تفسيره لآيات الصيام من سورة البقرة. 3- «جواهر القرآن» ، لأبي حامد الغزالي. وهو أليق بالتفسير، إلا أنه ذكر فيه أنه ينقسم إلى علوم، وأعمال، والأعمال ظاهرة وباطنة، والباطنة إلى تزكية وتخلية، فهي أربعة أقسام، علوم وأعمال ظاهرة وباطنة، مذمومة ومحمودة، وكل قسم يرجع إلى عشرة أصول، فيشتمل على زبدة القرآن. 4- شرح ابن الفاكهاني على أربعين النووي. ثامنا: في الأسماء والصّفات: ذكر الثعالبي في ثنايا كلامه نقله عن كتابين في «أسماء الله تعالى» ، وهما: 1- شرح أسماء الله الحسنى، للإمام الرازي. 2- غاية المغنم في أسماء الله الأعظم. لابن الدريهم الموصلي. تاسعا: ومن كتب التّاريخ: ذكر الثعالبي أثناء تفسيره نقولا عن أحد الكتب التي عنيت بسير الخلفاء، وهو كتاب: - الاكتفاء في أخبار الخلفاء، لعبد الملكِ بْنُ محمَّدِ بْنِ أبي القَاسِم بْن الكرديوس. عاشرا: كتب أخرى منثورة: 1- لطائف المنن، لابن عطاء الله.

ثانيا: منهج الإمام الثعالبي في تفسيره

2- الأنواء، للزجاج. 3- الإفصاح، لشبيب بن إبراهيم. 4- الكوكبِ الدُّرِّيِّ، لأبي العباس أحمد بن سَعْد التجيبي. 5- الكلم الفارقية. 6- التّشوّف، ليوسف بن يحيى التادلي. 7- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر بن عبد البر. 8- مختصر المدارك، للقضاعي. 9- تاريخ بغداد، لأبي بكر بن الخطيب. وغير ذلك مما هو منثور في تفسيره لكتاب الله تعالى. ثانيا: منهج الإمام الثّعالبيّ في تفسيره بين يدي المنهج: ذكر السيوطي في «الإتقان» شروطا يجب توافرها فيمن أقبل على كتاب ربّه بنيّة تفسيره، وكشف معانيه، فحكى عن بعض العلماء قوله: اختلف الناس في تفسير القرآن، هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن وإن كان عالما، أديبا، متسعا في معرفة الأدلة والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج إليها، وهي خمسة عشر علما ... ثم ذكرها- رحمه الله-، وهي: اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، والقراءات، وأصول الدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وعلم الفقه، والأحاديث والآثار لتفصيل المجمل، وتوضيح المبهم، وهكذا، ثم علم الملكة (أو الموهبة) . وزاد غير السيوطي علوما أخرى، وأيّا ما يكن الأمر، فقد ذكر أيضا في «التحبير في علم التفسير» عن العلماء أنه: «من أراد تفسير الكتاب العزيز، طلبه أولا من القرآن، فإن ما أجمل في مكان قد فسر في مكان آخر، فإن أعياه ذلك طلبه في السّنّة فإنها شارحة للقرآن، وموضحة له ... » وساق كلام الشافعي.

أولا: جمعه بين التفسير بالمأثور والرأي:

والمقصود أن الإمام الثعالبي- رحمه الله- قد أتى بحظّ وافر من هذه الشروط التي ذكرها أهل العلم حدودا ومراسم لمن أقبل على تفسير الكتاب العزيز. فهو قد فسر كتاب الله بعضه ببعض، وفسره بما فسره من أنزل عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبما فسره الصحابة والتابعون، كما استخدم اللغة، وشرح الغريب، وتعرض لتصريف بعض الكلمات، وأكثر من المسائل الإعرابية، ثم هو بعد ذلك يذكر مسائل في أصول الدين، وأصول الفقه، وفروعه، وأسباب النزول، وإيراده بعض الإسرائيليات، واحتجاجه بالقراءات المتواترة، وذكره الشاذ منها، على ما سيتضح مما يلي. العناصر التي بنى عليها الثعالبي مادّة تفسيره: 1- جمعه بين التفسير بالمأثور من كتاب وسنّة، والتفسير بالرأي. 2- تعرضه لمسائل في أصول الدين. 3- مسائل أصول الفقه في تفسيره. 4- تعرضه لآيات الأحكام، وذكره للاختلافات الفقهية. 5- احتجاجه باللغة، والمسائل النحوية، والتصريفية، وغيرها. 6- ذكره لأسباب النزول، ومكّيّ القرآن ومدنيّه. 7- ذكره للقراءات الواردة في الآية. 8- احتجاجه بالشعر واستشهاده به. 9- موقفه من الإسرائيليات. وإليك- أيها القارئ الكريم- تفصيل ذلك: أولا: جمعه بين التفسير بالمأثور والرّأي: من المشهور عند أهل العلم أن خير ما فسر به كتاب الله تعالى، تفسير بعضه ببعض، أو بما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال السيوطي: فإن ما أجمل في مكان، قد فسر في مكان آخر، فإن أعياه ذلك، طلبه في السّنّة فإنها شارحة للقرآن، وموضحة له «1» . وأما تفسيره كتاب الله بعضه ببعض، فمنه (مثلا) في قوله تعالى:

_ (1) «التحبير في علم التفسير» (323) .

ثانيا: تعرضه لمسائل في أصول الدين:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها ... [البقرة: 36] ، يتعرض لمعنى «أزلّهما» ، فيقول: مأخوذ من الزلل، ثم يحكي اختلافهم في كيفية هذا الإزلال، فيقول: وقال جمهور العلماء: أغواهما مشافهةً بدليل قوله تعالى: وَقاسَمَهُما [الأعراف: 21] . وفي الآية التالية، وهي قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37] يحكي عن الحسن أنها قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ... الآية وهي من [الأعراف: 23] . وأما تفسيره بالحديث، فهذا كثير جدا، وفيه (مثلا) في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ... الآية [الأنعام: 82] يقول: والظُّلْم في هذا الموضع: الشِّرْك تظاهرت بذلك الأحاديث الصحيحة. وفي تفسير قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... الآية [الأنفال: 60] قال: وفي صحيحِ مُسْلِمْ: «أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» . وأما آثار السّلف من الصحابة والتابعين، فقد حشا بها تفسيره، فهم خير القرون وأعلمها، فإن سألت عن العربية فهم أرباب الفصاحة فيها، وإن سألت عن علمهم بالأحكام، فهم مؤصّلوها، والبحور التي لا تكدرها الدّلاء، وإن سألت عن أسباب النزول، ومعرفتهم بها، فليس المخبر كالمعاين، وليس من رأى كمن سمع، فمن بينهم من كان يعاين نزول الوحي، ومنهم من نزل بسببه آي الكتاب، وتوبة رب الأرباب. وقد رأينا الثعالبي- رحمه الله- يزيّن صحيفته بالنقل عنهم، والأمثلة تملأ الكتاب، ومنها مثلا: في تفسير قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ... السورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «ما أراه إلا حضور أجلي» ، قال الثعالبي: وتأوله عمر والعباس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فصدقهما. قال: ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره. وفي سورة القدر في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يقول: قَال الشعبيُّ وغيرُه: المعْنَى: إنا ابتدأْنا إنزالَ هذا القرآن. ثانيا: تعرّضه لمسائل في أصول الدين: فقد تعرض لذكر معتقده في مسائل منها، مثل «تكليف ما لا يطاق» ، عند تفسيره لقوله تعالى: فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: 31] فقال الثعالبي: «وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليفُ ما لا يطاقُ، ويتقرَّر جوازه لأنه سبحانه عَلِمَ أنهم لا

ثالثا: مسائل أصول الفقه في تفسيره:

يعلمون. وقال المحقِّقون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليفِ، إِنما هو على جهة التقرير والتوقيف» . ثم عاد وذكر المسألة عينها عند تفسير قوله تعالى: رَبَّنا لاَ تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ... الآية «286» من سورة البقرة، وحكى مذهب أبي الحسن الأشعري. ومنها أيضا: مسألة كلام الله تعالى، فتحدث عن مذهب أهل السّنة فيه، عند قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ ... الآية [البقرة: 33] ، فقال: «وهذا هو قول أهل السنة، والحقّ أن كلام اللَّه (عزَّ وجلَّ) صفة من صفات ذاته يستحيل عليها النّقص ... إلخ» . ومنها: تعرّضه لمسألة الكسب عند تفسير قوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... الآية [البقرة: 95] . ومنها: مسألة رؤية الله تعالى، وهذه قد تعرض لها الثعالبي بالذكر عند قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ، فأشار إلى أن مذهب أهل السّنة امتناع ذلك في الدنيا، وأنه من طريق السمع ورد، ثم عاد فرد على الزمخشري، عند تفسير الآية (143) من سورة «الأعراف» . ومنها: مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقد ذكرها عند تفسير قوله تعالى: وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا [البقرة: 128] وحكى إجماع الأمة على عصْمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة، وخلافهم في غير ذلك من الصغائر. وحكاية الإجماع إنما نقلها من مختصر الطبري. ثالثا: مسائل أصول الفقه في تفسيره: ولم يتوسّع الثعالبي في ذكر مصادر اعتمد عليها في المسائل الأصولية غير ما ذكره من مختصر ابن الحاجب. ومن المسائل التي أوردها كلامه على «النسخ» لغة واصطلاحا، وذلك عند قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ... [البقرة: 106] ، فنقل كلام ابن الحاجب، ثم قال: انتهى من مختصره الكبير، ثم تعرض لجواز النسخ عقلا، وأن البداء لا يجوز على الله تعالى، وبين أن المنسوخ هو الحُكْم الثابتُ نفسُه، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت فيما يستقبل. كما أنه تعرض لمسألة التقبيح والتحسين، وأنهما في الأحكام من جهة الشرع، لا

رابعا: تعرضه لآيات الأحكام، وذكره للاختلافات الفقهية:

بصفة نفسية. ومنها: كلامه على تخصيص العموم، وأن العامَّ المخصَّص حُجَّةٌ في غَيْر محلِّ التخصيص، ونقل عن الرازي قوله: وقد ثَبَتَ في أصول الفقْهِ أنه إذا وقع التعارُضُ بَيْن الإجمال والتَّخْصِيص، كان رَفْع الإجمال أولى لأنَّ العامَّ المخصَّص حُجَّةٌ في غَيْر محلِّ التخصيص، والمُجْمَلُ لا يكونُ حُجَّةً أصلا. ثم قال الثعالبي: وهو حسن. رابعا: تعرضه لآيات الأحكام، وذكره للاختلافات الفقهية: قدمنا أن الثعالبي- رحمه الله- نقل من أحكام القاضي ابن العربي، ولم لا فالرجل مذهبه مالكي مثله، ولا غرو، فكان بدهيا أن ينقل ما يخص آيات الأحكام، ويذكر خلاف أهل العلم فيها. ومن ذلك: آية الوضوء والطهارة، وهي الآية السادسة من سورة المائدة، فنجد الثعالبي يقول: قال ابن العربي في أحكامه ... ثم حكى كلامه، ونقل المسائل الفقهية منه، ومنها: قوله: واختلف العلماءُ هل تدخُلُ المرافِقُ في الغُسْلِ أم لا ... واختلفَ في رَدِّ اليدَيْنِ في مَسْح الرَّأْسِ هل هو فرض أو سنة؟ ... ومنها: آية قصر الصلاة، في قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101] . فقال: قال مالك، والشافعيُّ، وأحمدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وابنُ رَاهَوَيْهِ: تُقْصَرُ الصلاةُ في أربعةِ بُرُدٍ، وهي ثمانيةٌ وأربعون ميلاً، وحُجَّتهم: أحاديثُ رُوِيَتْ في ذلك عن ابن عمر، وابن عباس. وقال الحسنُ، والزُّهْريُّ: تُقْصَرُ في مسيرةِ يَوْمَيْنِ. وروي هذا أيضاً عن مالكٍ، وروي عنه: تُقْصَر في مسافة يوم وليلة. ثم قال: وهذه الأقوالُ الثلاثةُ تتقارَبُ في المعنى، والجمهورُ على جواز القصر في السّفر المباح ... إلخ. ومنها: تعرضه لشهادة القاذف إذا تاب، وذلك في تفسير سورة النور، عند قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [النور: 4- 5] . وحكى عن الجمهور قبول شهادته إذا تاب. قال: ثم اختلفوا في صورة توبته: فقيل: بأن يُكَذِّبَ نَفْسَه، وإلاَّ لم تُقْبَلُ، وقالت فرقةٌ منها مالك: توبته أن يَصْلُحَ وتَحْسُنَ حالُه، وإنْ لم يرجع عن قوله بتكذيب. واختلف فقهاءُ المالكيَّةِ متى تسقط شهادة القاذفِ، فقال ابن الماجشون:

خامسا: احتجاجه باللغة والمسائل النحوية، والتصريفية وغيرها:

بنفس قَذَفِهِ، وقال ابن القاسم وغيره: لا تَسْقُطُ حتى يُجْلَدَ، فإن مَنَعَ من جلده مانع عفو أو غيره لم تُرَدَّ شهادَتُه، ... إلخ كلامه» . وفي اللّعان يقول: وتحريم اللعان أَبَدِيٌّ باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك. ويلاحظ على الثعالبي أنه لم يتوسّع في الاحتجاج للمسائل الفقهية، كما صنع القرطبي- مثلا- ومن قبله ابن العربي، ولعلّ السّبب في ذلك هو أنه لم يخصص تفسيره لنقل الأحكام، وإلا لكان كتاب فقه لا تفسير، وهو قد نص في مقدمته على أنه مختصر، فقال: «فإني جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر ... إلخ» . خامسا: احتجاجه باللّغة والمسائل النحوية، والتصريفية وغيرها: وقد ذكرنا آنفا أنه ينقل من الغريبين لأبي عبيد الهروي، ويفسر الألفاظ التي ترد مشكلة، فإذا كانت ذات دلالة شرعية نص عليها، كما وجدناه ينقل المسائل النحوية معتمدا على كلام الصفاقسي في اختصاره من أبي حيان. فمنها: تفسيره للفظ «القسيس» في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً [المائدة: 82] ، فنراه يقول: قال الفَخْر: القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارى، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ، بلغة الروم ... » . ويقول في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ... الآية [آل عمران: 156] قال ابن عطية: الرِّجْس: كلُّ مكروهٍ ذميمٍ، وقد يقال للعذابِ والرجْزِ: العذابُ لا غَيْر، والرِّكْس: العَذِرَةُ لا غير، والرجس يقال للأمرين. ويقول في قوله تعالى: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة: 247] قال أبو عبيد الهروي: أي: انبساطا وتوسُّعاً في العلْم، وطولاً وتماماً في الجسم ... وفي قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة: 260] يقول: يقال: صُرْتُ الشَّيْءَ أصُورُهُ، بمعنى: قطعته، ويقال أيضا: صرت الشيء، بمعنى: أملته ... إلخ» . وأما ذكره للمسائل النحوية، فكثير جدا، فمثلا في قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً ... [طه: 129] ينقل عن الصفاقسي قوله: «ولزاما» إمَّا مصدرٌ، وإمَّا بمعنى ملزم. وأجاز أبو البقاء أنْ يكون جمع لاَزِم، كَقَائِمٍ وقيام. وفي قوله تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء: 65] .

سادسا: ذكره لأسباب النزول، ومكي القرآن ومدنية:

نقل عن الصفاقسي قوله: وقولهم: «لَقَدْ عَلِمْتَ» جواب قَسَمٍ محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال، أي: قائلين: لقد علمت. وفي أصل الكلمة يقول عند قوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً ... [الأعراف: 38] : و «اداركوا» معناه: تلاحقوا. أصله: تداركوا أدغم، فجلبت ألف الوصل. ويذكر بعض لغات العرب، فيقول عند تفسير قوله تعالى: قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ... [يوسف: 36] : قيل فيه: إنه سمى العنب خمرا بالمئال. وقيل: هي لغةُ أزدِ عُمَان، يسمُّون العِنَبَ خمرا. سادسا: ذكره لأسباب النّزول، ومكّيّ القرآن ومدنية: وهذا الفنّ شريف عزيز، فبه يستطيع المفسر أن يحسن الوصول إلى المعنى من الآية، فيسهل فهمها بمعرفة الملابسات التي أحاطت بنزولها. وقد ذكر الثعالبي أسباب نزول بعض الآيات، فمثلا: في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] يقول: «خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر مِفْتَاحِ الكَعْبَةِ حين أخذه من عُثْمَانَ بْنِ طَلْحة، ومن ابن عَمِّه شَيْبَة، فطلبه العَبَّاس بْنُ عَبْدِ المطَّلب لِيُضِيفَ السَّدَانَةَ إلى السّقاية، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبةَ، وكَسَرَ ما كَانَ فيها من الأوثانِ، وأخْرَجَ مَقَامَ إبراهيمَ، وَنَزَلَ عليه جِبْرِيلُ بهذه الآية. قال عمر بنُ الخَطَّاب: فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأُ هذه الآيةَ، وما كُنْتُ سَمْعْتُهَا قَبْلُ مِنْهُ، فَدَعَا عُثْمَانَ وشَيْبَةَ، فَقَالَ لَهُمَا: خُذَاهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لاَ يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلاَّ ظالم..» . وفي قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... [النساء: 128] يقول: واختلف في سَبَبِ نزولِ الآية، فقال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ: «نزلَتْ في النبيِّ- عليه السلام- وسودة بنت زمعة ... » ثم حكى أقوالا أخرى. وفي قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... [الإسراء: 85] يقول: روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضُهم لبعْض: سَلُوا محمداً عن الرُّوحِ، فإِن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ... فسألوه، فنزلَتِ الآية. وقيل: إن الآية مكِّية، والسائلون هم قريش بإشارة اليهود. وأما ما ذكره لمكّي القرآن ومدنيّه، فكان يذكر في أوائل السور كونها مكية أو مدنية،

سابعا: ذكره للقراءات الواردة في الآية:

فمثلا في سورة الحجرات يقول: وهي مدنية بإجماع، ويقول في «ق» : وهي مكية بإجماع، وفي سورة الأنفال: مدنية كلها، قال مجاهد: إلا آية واحدة، وهي قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية. وفي سورة هود: «مكية إلا نحو ثلاث آيات ... » وهكذا. سابعا: ذكره للقراءات الواردة في الآية: وبداية فإن للقراءات الواردة في كتاب الله (تعالى) أثرا كبيرا في إثراء التفاسير بالمعاني المختلفة المتنوعة، مع اشتراط ما اشترطه أهل هذا الفنّ من ضوابط للقراءة المقبولة، واختلاف هذه القراءات له فوائد جمّة: منها: جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسان واحد يوحد بينها، وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم، والذي انتظم كثيرا من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحجّ، وأسواق العرب المشهورة، فكان القرشيون يستملحون ما شاءوا، ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوب وحدب، ثم يصقلونه ويهذبونه، ويدخلونه في دائرة لغتهم المرنة، التي أذعن جميع العرب لها بالزعامة، وعقدوا لها راية الإمامة. وعلى هذه السياسة الرشيدة نزل القرآن على سبعة أحرف يصطفي ما شاء من لغات القبائل العربية، على نمط سياسة القرشيين، بل أوفق. ومن هنا صحّ أن يقال: إنه نزل بلغة قريش لأن لغات العرب جمعاء تمثلت في لسان القرشيين بهذا المعنى، وكانت هذه حكمة إلهية سامية فإن وحدة اللسان العامّ من أهمّ العوامل في وحدة الأمة، خصوصا أول عهد بالتوثب والنهوض. ومنها: بيان حكم من الأحكام، كقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء: 12] قرأ سعدُ بْنُ أبي وَقَّاص: «وَلَهُ أَخٌ أَوْ أخت من أمّ» بزيادة لفظ: «من أمّ» ، فتبين بها أن المراد بالإخوة في هذا الحكم الإخوة للأم دون الأشقاء، ومن كانوا لأب، وهذا أمر مجمع عليه. ومثل ذلك قوله سبحانه في كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: 89] ، وجاء في قراءة: «أو تحرير رقبة مؤمنة» بزيادة لفظ «مؤمنة» فتبين بها اشتراط الإيمان في الرقيق الذي يعتق كفارة يمين.

وهذا يؤيد مذهب الشافعي، ومن نحا نحوه في وجوب توافر ذلك الشرط. ومنها: الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين، كقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] قرىء بالتخفيف والتشديد في حرف الطاء من كلمة «يطهرن» ، ولا ريب أنّ صيغة التشديد تفيد وجوب المبالغة في طهر النساء من الحيض لأن زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، أما قراءة التخفيف، فلا تفيد هذه المبالغة، ومجموع القراءتين يحكم بأمرين: أحدهما: أن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر وذلك بانقطاع الحيض. وثانيهما: أنها لا يقربها زوجها أيضا إلّا إن بالغت في الطهر، وذلك بالاغتسال، فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء، وهو مذهب الشافعي، ومن وافقه أيضا. ومنها: الدلالة على حكمين شرعيين، ولكن في حالين مختلفين كقوله تعالى في بيان الوضوء: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] قرىء بنصب لفظ «أرجلكم» ، وبجرها، فالنصب يفيد طلب غسلها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ: «وجوهكم» المنصوب، وهو مغسول، والجرّ يفيد طلب مسحها لأن العطف حينئذ يكون على لفظ «رءوسكم» المجرور، وهو ممسوح. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم: أن المسح يكون للابس الخف، وأنّ الغسل يجب على من لم يلبس الخف. ومنها: دفع توهّم ما ليس مرادا: كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] وقرىء: «فامضوا إلى ذكر الله» ، فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة، ولكنّ القراءة الثانية رفعت هذا التوهم لأن المضيّ ليس من مدلوله السرعة. ومنها: بيان لفظ مبهم على البعض: نحو قوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] وقرىء: «كالصوف المنفوش» ، فبينت القراءة الثانية أنّ العهن هو الصوف. ومنها: تجلية عقيدة ضلّ فيها بعض الناس: نحو قوله تعالى في وصفه الجنة وأهلها: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان: 20] جاءت القراءة بضم الميم، وسكون اللام في لفظ: «وملكا كبيرا» ، وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم، وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه، فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية

المؤمنين لله- تعالى- في الآخرة لأنه- سبحانه- هو الملك وحده في تلك الدار: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] . والخلاصة: أن تنوّع القراءات، يقوم مقام تعدّد الآيات وذلك ضرب من ضروب البلاغة، يبتدىء من جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإعجاز. أضف إلى ذلك ما في تنوّع القراءات من البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضادّ، ولا إلى تهافت وتخاذل، بل القرآن كله على تنوّع قراءاته، يصدّق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير، وهدف واحد من سموّ الهداية والتعليم، وذلك- من غير شك- يفيد تعدّد الإعجاز بتعدّد القراءات والحروف. ومعنى هذا: أن القرآن يعجز إذا قرىء بهذه القراءة، ويعجز أيضا إذا قرىء بهذه القراءة الثانية، ويعجز أيضا إذا قرىء بهذه القراءة الثالثة، وهلمّ جرّا. ومن هنا تتعدّد المعجزات بتعدّد تلك الوجوه والحروف! ولا ريب أن ذلك أدلّ على صدق محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه أعظم في اشتمال القرآن على مناح جمة في الإعجاز وفي البيان، على كل حرف ووجه، وبكل لهجة ولسان: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 42] . ولقد كان الثعالبي- رحمه الله- يكثر من إيراد القراءات متواترة وشاذة، وكان معتمده الأول على تفسير ابن عطية، فكان ينقل منه مواضع القراءات ووجوهها. ومن أمثلة نقله للقراءات: 1- في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184] قال: قرأ باقي السبعة غيْرَ نافعٍ وابنِ عامر: «فدية» بالتنوين، «طعام مسكين» بالإفراد. قال: «وهي قراءة حسنة ... » . 2- في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الحج: 36] قال: وقرأ ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم: «صَوَافِنَ» جمع: صَافِنَة، وهي التي رُفِعَتْ إحدى يديها بالعقل لئَلاَّ تضطرب، ومنه في الخيل: الصَّافِناتُ الْجِيادُ [ص: 31] . 3- وفي قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] قال: وقرأ

ثامنا: احتجاجه بالشعر:

حمزة وغيره: «وَأَرْجُلِكُمْ» بالخفض، وقرأ نافع وغيره بالنَّصْب، والعاملُ «اغسلوا» . ومن قرأ بالخفْضِ، جعل العامل أقرب العاملين. وجمهور الصحابة والتابعِينَ على أنَّ الفَرْضَ في الرجْلَيْن الغسل، وأن المسح لا يجزىء ... ثم قال: قال ابن العربِيِّ في «القَبَس» : ومَنْ قرأ «وَأَرْجُلِكُمْ» بالخَفْض، فإنه أراد المَسْح على الخُفَّيْن، وهو أحد التأويلات في الآية. انتهى. 4- ثم يحتج ببعض القراءات الشّاذّة على تعضيد المعنى، مثل ما ذكره عند قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... الآية [التوبة: 128] قال: وقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يقتضي مدحا لنسبه صلى الله عليه وسلم، وأنه من صميمِ العَرَبِ وشَرَفِها، وقرأ عبد اللَّه بن قُسَيْطٍ المَكِّيُّ «مِنْ أَنْفَسِكُمْ» - بفتح الفاء- من النفاسة، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثامنا: احتجاجه بالشّعر: الشعر ديوان العرب ففيه تاريخهم، وآثارهم، وبه يفتخرون، ويمتدحون، ويرغبون، ويرهبون، ولم لا وهم قوم الفصاحة والبيان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» . وقد مضى سلف الأمة من المفسرين على الاحتجاج بأشعار العرب، وما قصة نافع بن الأزرق مع ابن عباس ببعيدة عن ذلك. وقد ذكرت أقوال كثيرة عن ابن عباس تدل على جواز الاحتجاج بالشعر في تفسير الكتاب العزيز، منها: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه. ومن سؤالات نافع ونجدة بن عويمر أنهما قالا: أخبرنا عن قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [المعارج: 37] ، قال: العزون: الحلق الرقاق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: [الوافر] فجاءوا يهرعون إليه حتّى ... يكونوا حول منبره عزينا وهكذا كانت إجابات ابن عباس، قال أبو عبيد في فضائله: حدثنا هشيم عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه كان يسأل عن القرآن، فينشد فيه الشعر. ومن هنا وجدنا الإمام الثعالبي يستشهد بأشعار العرب، فمن ذلك:

تاسعا: موقفه من الإسرائيليات:

1- احتجاجه لقراءة ابن كثير آتَيْتُمْ [البقرة: 233] بمعنى فعلتم- بقول زُهَيْرٌ: [الطويل] وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل 2- واحتجاجه لمعاني بعض الألفاظ، مثل قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً [النساء: 85] . فقال: مُّقِيتاً: معناه: قديراً ومنه قولُ الزُّبَيْر بْنِ عبدِ المُطَّلِبِ: [الوافر] وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عنه ... وكنت على إساءته مقيتا ومنه: احتجاجه على أن من معنى «الجهالة» أن يتعمد الأمر فيركبه، مع عدم مضادة للعلم قال: فمنها قولُ الشَّاعر: [الوافر] أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا 3- ومنه احتجاجه على المسائل النحوية، فمثلا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر: 9] يقول نقلا عن الصفاقسي: و «الإيمان» منصوب بفعل مُقَدَّرٍ، أي: واعتقدوا الإيمان، فهو من عطف الجمل كقوله: [الرجز] علفتها تبنا وماء باردا ... ...... وهذا بالإضافة إلى شعر الزّهد والرقائق الذي ضمنه تفسيره، والذي يقرؤه القارئ الكريم، فيستشعر عذوبته ورقّته، وحسن اختياره ومكانه. تاسعا: موقفه من الإسرائيليّات: بادىء ذي بدء، فإن الجنس البشري مرّ عليه قرون عديدة، وأزمان بعيدة، حملت في طيّاتها أخبارا، وأحوالا، وتارة أهوالا، فأخبر بها السّلف الخلف، والمتقدم المتأخر. وإن هذه الأمة المباركة هي الآخرة في تلك السلسلة المديدة من عمر البشرية، فكان لها زبدة الأخبار، والرصيد الأكبر من تواريخ الأمم والشعوب، فحظيت بالعبر والعظات، والسعيد من وعظ بغيره. ولأن أهل الكتاب كانوا سابقين علينا، فقد روي لنا، ورووا هم من أخبارهم وأخبار السابقين، وفي هذا يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: « ... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» . فكان ما أخبرونا به على ثلاثة أقسام:

1- قسم صدقهم فيه الوحي، فنصدقهم فيه. 2- قسم أكذبهم فيه الوحي، فنكذبهم فيه. 3- قسم سكت عنه، فنسكت عنه، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم. ولكن ما المقصود ب «الإسرائيليات» ؟!! الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل، والنسبة في مثل هذا تكون لعجز المركب الإضافي لا لصدره، وإسرائيل هو: يعقوب- عليه السلام- أي: عبد الله، وبنو إسرائيل هم: أبناء يعقوب، ومن تناسلوا منهم فيما بعد، إلى عهد موسى، ومن جاء بعده من الأنبياء، حتى عهد عيسى- عليه السلام- وحتى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد عرفوا- «باليهود» ، أو «بيهود» من قديم الزمان، أما من آمنوا بعيسى: فقد أصبحوا يطلق عليهم اسم «النصارى» ، وأما من آمن بخاتم الأنبياء: فقد أصبح في عداد المسلمين، ويعرفون بمسلمي أهل الكتاب» . وقد أكثر الله من خطابهم ببني إسرائيل في القرآن الكريم تذكيرا لهم بأبوة هذا النبي الصالح، حتى يتأسوا به، ويتخلقوا بأخلاقه، ويتركوا ما كانوا عليه من نكران نعم الله عليهم، وعلى آبائهم، وما كانوا يصفون به من الجحود، والغدر، واللؤم، والخيانة وكذلك ذكرهم الله- سبحانه- باسم اليهود في غير ما آية. وأشهر كتب اليهود هي: التوراة، وقد ذكرها الله في قوله تعالى: الم اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمران: 1- 4] . وقال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ... [المائدة: 44] والمراد بها: التوراة التي نزلت من عند الله قبل التحريف والتبديل، أما التوراة المحرفة المبدلة، فهي بمعزل عن كونها كلها هداية، وكونها نورا، ولا سيما بعد نزول القرآن الكريم، الذي هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية السابقة، فما وافقه فهو حق، وما خالفه فهو باطل. ومن كتبهم أيضا: الزبور، وأسفار الأنبياء، الذين جاءوا بعد موسى- عليه السلام- وتسمى التوراة، وما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها (بالعهد القديم) . وكان لليهود بجانب التوراة المكتوبة التلمود، وهي التوراة الشفهية، وهو مجموعة

قواعد ووصايا وشرائع دينية وأدبية، ومدنية، وشروح، وتفاسير، وتعاليم، وروايات كانت تتناقل وتدرس شفهيا من حين إلى آخر ... وقد اتسع نطاق الدرس والتعليم فيه إلى درجة عظيمة جدّا، حتى صار من الصعب حفظه في الذاكرة، ولأجل دوام المطالعة، والمداولة، وحفظا للأقوال والنصوص، والآراء الأصلية المتعددة والترتيبات، والعادات الحديثة، وخوفا من نسيانها وفقدانها، مع مرور الزمن، وخصوصا وقت الاضطهادات، والاضطرابات، قد دوّنها الحاخامون بالكتابة سياجا للتوراة، وقبلت كسنّة من سيدنا موسى- عليه السلام-. ومن التوراة وشروحها، والأسفار وما اشتملت عليه، والتلمود وشروحه، والأساطير والخرافات، والأباطيل التي افتروها، أو تناقلوها عن غيرهم: كانت معارف اليهود وثقافتهم، وهذه كلها كانت المنابع الأصلية للإسرائيليات التي زخرت بها بعض كتب التفسير، والتاريخ والقصص والمواعظ، وهذه المنابع إن كان فيها حق، ففيها باطل كثير، وإن كان فيها صدق، ففيها كذب صراح، وإن كان فيها سمين ففيها غثّ كثير، فمن ثم انجرّ ذلك إلى الإسرائيليات، وقد يتوسع بعض الباحثين في الإسرائيليات، فيجعلها شاملة لما كان من معارف اليهود، وما كان من معارف النصارى التي تدور حول الأناجيل وشروحها، والرسل وسيرهم، ونحو ذلك، وإنما سميت إسرائيليات لأن الغالب والكثير منها إنما هو من ثقافة بني إسرائيل، أو من كتبهم ومعارفهم، أو من أساطيرهم وأباطيلهم. والحق: أن ما في كتب التفسير من المسيحيات، أو من النصرانيات هو شيء قليل بالنسبة إلى ما فيها من الإسرائيليات، ولا يكاد يذكر بجانبها، وليس لها من الآثار السيئة ما للإسرائيليات إذ معظمها في الأخلاق، والمواعظ، وتهذيب النفوس، وترقيق القلوب «1» . والملاحظ أن الثعالبي- رحمه الله- كغيره من التفاسير- ذكر بعض الإسرائيليات، ولكنه يعقب ما يذكره بما يفيد عدم صحته، أو على الأقل بما يفيد عدم القطع بصحته. ومن ذلك في قوله تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 190] . فالثعالبي يقول: ... وروي في قصص ذلك أن الشيطانَ أشار عَلَى حواء أن تُسَمِّيَ هذا المولودَ عَبْدَ الحَارث، وهو اسْمُ إبليسَ، وقال لها: إِن لم تفعلي قتلته، فزعموا أنهما

_ (1) ينظر: «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» ، د. محمد محمد أبو شهبة، ط. مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة 1404 هـ، ص 21 فما بعدها.

أطاعاه ... ثم ذكر القصة وقال: قلت: وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقف بعد على صحة ما روي من هذه القصص، ولو صحّ لوجب تأويله ... قال: وعلى كلِّ حالٍ: الواجبُ التوقُّفْ والتنزيهُ لِمَنْ اجتباه اللَّه، وحُسْنُ التأويل ما أمكن، وقد قال ابنُ العربيِّ في توهينِ هذا القَوْل وتزييفِهِ: وهذا القولُ ونحوه مذكُورٌ في ضعيف الحديثِ في الترمذيِّ وغيره، وفي الإِسرائيليات التي لَيْسَ لها ثباتٌ، ولا يعوِّل عليها مَنْ له قلب ... إلخ» . ومنه أيضا عند تفسير قوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ [النمل: 20] . يقول: وأكثَرَ بَعضِ النَّاسِ في قصَصها بما رأيتُ اختصاره لعدم صحته. ونراه ينتقد ما يروى من آثار إذا خالفت الشّرع، أو ما لا يليق أن ينسب إلى الوحي. فمثلا عند تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52]- يذكر حديث الغرانيق، ثم يحكي عن أئمة المالكية مثل القاضي عياض، وأبي بكر بن العلاء إنكارهم لهذه الرواية، وأمثالها، ثم قال: قال أبو بكر البَزَّارُ: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره ... » وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذا. ومنه أيضا ما ذكره في قصّة بني إسرائيل لما سألوا عيسى ابن مريم مائدة من السماء [المائدة: 113- 115] ، ثم قال: وأكثَرَ الناسُ في قصص المائدةِ ممَّا رأَيْتُ اختصاره لعدم سنده. وعلى أية حال، فإن الملاحظ على الثعالبي- رحمه الله- ندرة إيراده للإسرائيليات جدا، فإن أورد بعض ذلك نبّه عليه كما تقدم.

وصف النسخ المعتمد عليها في كتاب تفسير"الثعالبي" المسمى بجواهر الحسان في تفسير القرآن

وصف النسخ المعتمد عليها في كتاب تفسير «الثعالبي» المسمى بجواهر الحسان في تفسير القرآن اعتمدنا في تحقيق الكتاب على أربع نسخ خطية. ووصفها على النحو التالي: النسخة الأولى: المحفوظة بدار الكتب المصرية/ تحت رقم (453) طلعت، تقع في (313) ورقة، وسطرتها 28 سطرا ورمزنا لها بالرمز (أ) . النسخة الثانية: المحفوظة بدار الكتب المصرية، تبدأ من الكهف إلى آخر القرآن، تقع تحت رقم (5) تفسير، الجزء الثاني فقط، ورمزنا لها بالرمز (ب) . النسخة الثالثة: المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (1157) تفسير، تقع في (216) ورقة، سطرتها (33) سطرا وهي من مريم إلى آخر القرآن، ورمزنا لها بالرمز (ج) . النسخة الرابعة: المحفوظة بدار الكتب المصرية، وهي من أول الزمر إلى آخر القرآن، وتحت رقم (47) تفسير م، وتقع في (248) ورقة، ومسطرتها (19) سطرا، ورمزنا لها بالرمز (د) ، هذا، وكان من النسخ المطبوعة المعتمد عليها طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. وقد رمزنا لها بالرمز (ط) . عملنا في الكتاب قمنا في تحقيق الكتاب بما يلي: أولا: المقابلة وإثبات ما كان صوابا في النص ومخالفه في هامش الكتاب، وقمنا بضبط ما أشكل من الكتاب. ثانيا: عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها. ثالثا: تخريج الأحاديث النبوية والآثار. رابعا: ترجمة للأعلام الوارد أسمائهم بالكتاب.

خامسا: شرح غريب النص. معتمدين في ذلك على كتب المعاجم. سادسا: التعليق على بعض المسائل الفقهية. سابعا: التعليق على بعض المسائل النحوية المشار إليها في النص. ثامنا: توثيق للقراءات الواردة في الكتاب، وبيان ما أبهمه المصنف منها. تاسعا: توثيق لبعض المصادر التي اعتمد عليها المصنف. عاشرا: وضع مقدمة للكتاب وترجمة لمؤلفه. وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين

الورقة قبل الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية الورقة الأخيرة

ورقة أولى من نسخة أخرى وهي صعبة القراءة جدا ورقة ثانية

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] الجزء الأول من تفسير الثعالبي بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً يَقُولُ العبدُ الفقيرُ إِلى الله تعالى المعترف بذنبه، الراجي رحمة ربّه، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، لطف الله به في الدّارين وبسائر المؤمنين. الحمد لله ربّ العالمين، وصلوات ربّنا وسلامه على سَيِّدِنَا محمَّد خاتَمِ النبيِّينَ، وَعَلى آله وصحبه السادة المكرمين، والحمد لله الذي منّ علينا بالإيمان، وشرّفنا بتلاوة القرآن، فأشرقت علينا بحمد الله أنواره، وبدت لذوي المعارف عند التلاوة أسراره، وفاضت على العارفين عند التدبّر والتأمّل بحاره، فسبحان من أنزل على عبده الكتاب، وجعله لأهل الفهم المتمسكين به من أعظم الأسباب كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] . أمّا بعد، أيّها الأخ، أشرق الله قلبي وقلبك بأنوار اليقين، وجعلني وإيّاك من أوليائه المتّقين، الذين شرّفهم بنزل قدسه، وأوحشهم من الخليقة بأنسه، وخصّهم من معرفته، ومشاهدة عجائب ملكوته، وآثار قدرته، بما ملأ قلوبهم حبره، وولّه عقولهم في عظمته حيره، فجعلوا همّهم به واحدا، ولم يروا في الدارين غيره، فهم بمشاهدة كماله وجلاله يتنعّمون وبين آثار قدرته وعجائب عظمته يتردّدون، وبالانقطاع إليه والتوكّل عليه يتعزّزون، لهجين بصادق قوله: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91] فإنّي جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر ما أرجو أن يقر الله به عيني وعينك في الدارين فقد ضمّنته بحمد الله المهمّ مما اشتمل عليه تفسير ابن عطيّة «1» ، وزدتّه فوائد جمّه، من غيره من كتب الأئمّة، وثقات أعلام هذه الأمّة، حسبما رأيته أو روّيته عن الأثبات، وذلك قريب من مائة تأليف، وما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين، ومعدود في

_ (1) عبد الحق بن غالب بن عطية الغرناطي، كان فقيها جليلا، عارفا بالأحكام، والحديث، والتفسير، نحويا، لغويا، أديبا، روى عنه ابن مضاء وغيره، له «تفسير القرآن العظيم» مات سنة 541 هـ. ينظر: «طبقات المفسرين» - للسيوطي- ص 60، 61 «بغية الوعاة» (2/ 73، 74) ، «طبقات المفسرين» للداوودي (1/ 265) .

المحقّقين، وكلّ من نقلت عنه من المفسّرين شيئا فمن تأليفه نقلت، وعلى لفظ صاحبه عوّلت، ولم أنقل شيئا من ذلك بالمعنى خوف الوقوع في الزّلل، وإنما هي عبارات وألفاظ لمن أغزوها إليه، وما انفردت بنقله عن الطبريّ «1» ، فمن اختصار الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد اللّخميّ النحويّ لتفسير الطبريّ- نقلت لأنه اعتنى بتهذيبه، وقد أطنب أبو بكر بن الخطيب في حسن الثناء على الطبري ومدح تفسيره، وأثنى عليه غاية نسأل الله تعالى أن يعاملنا وإياهم برحمته، وكلّ ما في آخره انتهى، فليس هو من كلام ابن عطيّة، بل ذلك مما انفردت بنقله عن غيره، ومن أشكل عليه لفظ في هذا المختصر، فليراجع الأمّهات المنقول منها، فليصلحه منها، ولا يصلحه برأيه وبديهة عقله فيقع في الزّلل من حيث لا يشعر، وجعلت علامة التاء لنفسي بدلا من «قلت» ومن شاء كتبها «قلت» ، وأمّا العين، فلابن عطيّة، وما نقلته من الإعراب عن غير ابن عطية فمن الصّفاقسيّ «2» مختصر أبي حيّان «3» غالبا، وجعلت الصّاد علامة عليه، وربّما نقلت عن غيره معزّوا لمن عنه نقلت، وكلّ ما نقلته عن أبي حيّان، فإنما نقلي له بواسطة الصّفاقسيّ غالبا، قال الصّفاقسيّ: وجعلت علامة ما زدتّه على أبي حيّان م. وما يتّفق لي إن أمكن، فعلامته «قلت» ، وبالجملة فحيث أطلق فالكلام لأبي

_ (1) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام العلم صاحب التفسير المشهور، مولده سنة 224، أخذ الفقه عن الزعفراني والربيع المرادي، وذكر الفرغاني عند عد مصنفاته كتاب: لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مذهبه الذي اختاره وجوّده واحتج له، وهو ثلاثة وثمانون كتابا. مات سنة 310. انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 100) ، «تاريخ بغداد» (2/ 162) ، «تذكرة الحفاظ» (2/ 610) . (2) هكذا بصاد ثم فاء كما ذكره المؤلف وفي الكتب بالسين ثم فاء، وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، القيسي، السفاقسي، أبو إسحاق، برهان الدين: فقيه مالكي. تفقه في «بجاية» ، وحج فأخذ عن علماء «مصر» و «الشام» . وأفتى ودرّس سنين. له مصنفات منها «المجيد في إعراب القرآن المجيد» ويسمى «إعراب القرآن» ، و «شرح ابن الحاجب» في أصول الفقه. ينظر: «الأعلام» (1/ 63) ، و «الدرر الكامنة» (1/ 55) ، و «النجوم الزاهرة» (10/ 98) . (3) محمد بن يوسف بن علي بن حيان بن يوسف، الشيخ الإمام العلامة، الحافظ، المفسر النحوي، اللغوي، أثير الدين، أبو حيان الأندلسي، الجياني، الغرناطي، ثم المصري. ولد في 652 هـ. قرأ العربية على رضي الدين القسنطيني، وبهاء الدين بن النحاس، وغيرهم، سمع نحوا من أربعمائة شيخ، وكان ظاهريا، فانتمى إلى الشافعية، له مصنفات منها: «البحر المحيط في التفسير» و «النهر في البحر» ، و «شرح التسهيل» ، و «ارتشاف الضرب» . سمع منه الأئمة العلماء، وأضر قبل موته بقليل، توفي بالقاهرة في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة. ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (3/ 67) ، «الأعلام» (8/ 26) ، «طبقات السبكي» (6/ 31) «الدرر الكامنة» (4/ 302) .

حيّان، وما نقلته من الأحاديث الصّحاح والحسان عن غير البخاريّ ومسلم وأبي داود والتّرمذيّ في باب الأذكار والدّعوات- فأكثره من «النّوويّ» «1» و «سلاح المؤمن» ، وفي الترغيب والترهيب وأحوال الآخرة فمعظمه من «التذكرة» للقرطبي «2» ، و «العاقبة» لعبد الحقّ، وربّما زدتّ زيادات كثيرة من «مصابيح البغويّ» «3» وغيره كما ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- كلّ ذلك معزوّ لمحالّه، وبالجملة فكتابي هذا محشوّ بنفائس الحكم، وجواهر السّنن الصحيحة والحسان المأثورة عن سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال أبو عمر بن عبد البر «4» في كتاب «التّقصّي» «5» : وأولى الأمور بمن نصح نفسه، وألهم رشده- معرفة

_ (1) يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام، شيخ الإسلام محيي الدين، أبو زكريا الحزامي النووي، ولد سنة 631، قرأ القرآن ببلده، وختم وقد ناهز الاحتلام، وكان محققا في علمه وفنونه، مدققا في علمه وشؤونه، حافظا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه، واستنباط فقهه.. في كثير من المناقب يطول ذكرها صنف «المنهاج في شرح مسلم» ، و «المجموع» و «الأذكار» وغيرها. مات سنة 677. انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (2/ 153) ، «طبقات السبكي» (5/ 165) ، «النجوم الزاهرة» (7/ 278) . (2) محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح، الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي، أبو عبد الله، القرطبي: من كبار المفسرين، صالح متعبد من أهل «قرطبة» . رحل إلى الشرق واستقر بمنية ابن خصيب (في شمالي أسيوط، بمصر) وتوفي فيها. من كتبه «الجامع لأحكام القرآن» يعرف بتفسير القرطبي، و «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» . وكان ورعا متعبدا، طارحا للتكلف، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية. ينظر: «الأعلام» (5/ 322) ، «الديباج» (317) . (3) الحسين بن مسعود بن محمد، العلامة محيي السنة، أبو محمد البغوي، يعرف بالفراء أحد الأئمة، تفقه على القاضي الحسين، وكان دينا، عالما، عاملا على طريقة السلف، قال الذهبي: كان إماما في التفسير، إماما في الحديث، إماما في الفقه. بورك له في تصانيفه ورزق القبول لحسن قصده وصدق نيته. ومن تصانيفه: «التهذيب» ، و «شرح المختصر» ، وتفسيره «معالم التنزيل» . وغيرها. مات سنة 516. انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 281) ، «وفيات الأعيان» (1/ 402) ، «تذكرة الحفاظ» (4/ 1258) ، و «الأعلام» (2/ 284) ، «شذرات الذهب» (4/ 48) ، «النجوم الزاهرة» (5/ 224) . (4) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، القرطبي، المالكي، أبو عمر: من كبار حفّاظ الحديث، مؤرخ أديب، بحاثة، يقال له: حافظ المغرب، ولد بقرطبة سنة 368 هـ، وتوفي بشاطبة سنة 463 هـ، من تصانيفه: «الدرر في اختصار المغازي والسير» و «الاستيعاب» و «جامع بيان العلم وفضله» و «المدخل» من القراءات، و «بهجة المجالس وأنس المجالس» و «الاستذكار من شرح مذاهب علماء الأمصار» و «الإنباه على قبائل الرواة» و «الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف» . ينظر: «الأعلام» (8/ 240) ، «وفيات الأعيان» (2/ 348) ، «بغية الملتمس» (474) . (5) «تجريد التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» ، أو «التقصي لحديث الموطأ وشيوخ الإمام مالك» ، ص 9.

وسميته ب"الجواهر الحسان في تفسير القرآن"

السنن التي هي البيان لمجمل القرآن بها يوصل إلى مراد الله تعالى من عباده فيما تعبّدهم به من شرائع دينه الذي به الابتلاء، وعليه الجزاء، في دار الخلود والبقاء، التي لها يسعى الألبّاء العقلاء، والعلماء الحكماء، فمن منّ الله عليه بحفظ السّنن والقرآن، فقد جعل بيده لواء الإيمان، فإن فقه وفهم، واستعمل ما علم- دعي في ملكوت السموات عظيما، ونال فضلا جسيما- انتهى، والله أسأل أن يجعل هذا السعي خالصاً لوَجْهِهِ، وعملاً صالحاً يقرِّبنا إلى مرضاته، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العظيم. وسمّيته ب «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» أسأل الله أن ينفع به كلّ من حصّله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا عدد ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين. وها أنا- إن شاء الله- أشرع في المقصود وألتقط من كلام ابن عطيّة- رحمه الله- ما ستقف عليه من النّبذ الحسنة المختارة ما تقرّ به العين، وإذا نقلت شيئا من غيره، عزوته لصاحبه كما تقدّم. قال ع «1» - رحمه الله- بعد كلام في أثناء خطبته: ولما أردتّ أن أختار لنفسي وأنظر في علم أعدّ أنواره لظلم رمسي، سبرت العلوم بالتنويع والتقسيم، وعلمت أنّ شرف العلم على قدر شرف المعلوم فوجدتّ أمتنها حبالا، وأرسخها جبالا، وأجملها آثارا وأسطّعها أنوارا- علم كتاب الله جلّت قدرته، وتقدّست أسماؤه، الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] الذي استقلّ بالسّنّة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى، وتخليصا للنّيّات، ونهيا عن الباطل، وحضّا على الصالحات إذ ليس من علوم الدنيا فيختلّ حامله من منازلها صيدا، ويمشي في التلطّف لها رويدا، ورجوت أنّ الله تعالى يحرّم على النّار فكرا عمّرته أكثر عمره معانيه، ونفسا ميّزت براعة رصفه ومبانيه، ثم قال: قال اللَّه تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] قال المفسّرون: أي: علم معانيه، والعمل بها، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قيّدوا العلم بالكتب» «2» ففزعت إلى تعليق ما

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 34- 36) . (2) ورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس.

يتنخّل لي في المناظرة من علم التفسير، قال: ولنقدّم بين يدي القول في التفسير أشياء قد قدّم

_ حديث أنس بن مالك: أخرجه ابن شاهين في «الناسخ والمنسوخ» (ص 274- بتحقيقنا) والخطيب في «تاريخ بغداد» (10/ 46) ، وفي «تقييد العلم» (ص- 70) وفي «الجامع لأخلاق الراوي» (1/ 228) ، رقم (440) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 86) ، رقم (94) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 306) ، كلهم من طريق عبد الحميد بن سليمان، عن ابن المثنى، عن عمه ثمامة بن أنس، عن أنس بن مالك مرفوعا. وقال الخطيب في «التقييد» : تفرد برواية هذا الحديث عبد الحميد بن سليمان الخزاعي المدني أخو فليح عن عبد الله بن المثنى مرفوعا، وغيره يرويه موقوفا على أنس، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح تفرد بروايته مرفوعا عبد الحميد، قال يحيى بن معين وأبو داود: ليس بثقة. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث. قال: ووهم ابن المثنى في رفعه، والصواب: عن ثمامة، عن أنس أنه كان يقول ذلك لبنيه، ولا يرفعه. اه. وعبد الحميد بن سليمان قال الحافظ في «التقريب» (1/ 468) : ضعيف. وقال العسكري كما في «المقاصد» (ص 55) : ما أحسبه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسب عبد الحميد وهم فيه، وإنه من قول أنس فقد روى عبد الله بن المثنى عن ثمامة قال: كان أنس يقول لبنيه: يا بني قيدوا العلم بالكتاب. اه. وللحديث طريق آخر مرفوع. أخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/ 228) والقضاعي في «مسند الشهاب» (637) كلاهما من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن إسماعيل بن إبراهيم ابن أخي موسى بن عقبة، عن الزهري، عن أنس مرفوعا به. وإسماعيل بن أبي أويس، قال الحافظ في «التقريب» (1/ 71) : صدوق، أخطأ في أحاديث من حفظه. وقد ورد هذا الحديث موقوفا على أنس كما أشار إليه بعضهم كما تقدم. والموقوف أخرجه الدارمي (1/ 126- 127) ، باب: من رخص في كتابه العلم، وأبو خيثمة في «العلم» رقم (120) ، والطبراني في «الكبير» (1/ 246) ، رقم (700) ، والحاكم (1/ 106) ، والخطيب في «تقييد العلم» ص (96) ، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/ 16) ، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (ص- 368) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 316) ، كلهم من طريق عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن ثمامة، عن أنس موقوفا. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 155) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ، ورجاله رجال الصحيح، وعبد الله بن المثنى قال الحافظ في «هدي الساري» (ص- 436) : وثقه العجلي والترمذي، واختلف فيه قول الدارقطني، وقال ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم صالح، وقال النسائي: ليس بالقوي وقال الساجي: فيه ضعف، ولم يكن من أهل الحديث، وروى مناكير، وقال العقيلي: لا يتابع على أكثر حديثه. قلت: لم أر البخاري احتج به إلا في روايته عن عمه ثمامة، فعنده عنه أحاديث، وأخرج له من روايته عن ثابت عن أنس حديثا توبع فيه عنده، وهو في فضائل القرآن، وأخرج له أيضا في اللباس عن مسلم بن إبراهيم عنه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في النهي عن القزع بمتابعة نافع وغيره عن ابن عمر، وروى له الترمذي وابن ماجه. وقال في «التقريب» (1/ 445) : صدوق كثير الغلط. [.....]

أكثرها المفسّرون، وأشياء ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم مجتمعة لذهنه.

_ حديث عبد الله بن عمرو: أخرجه الحاكم (1/ 106) ، والخطيب في «تقييد العلم» (ص 69) ، والطبراني في «الأوسط» (1/ 469) رقم (852) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 87) ، رقم (96) كلهم من طريق عبد الله بن المؤمل، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو قال: قلت يا رسول الله: أقيد العلم؟ قال: نعم، قلت: وما تقييده؟ قال: الكتابة. وضعفه الحاكم، وقال الذهبي: ابن المؤمل ضعيف. تنبيه: وقع في «المعجم الأوسط» عبد الله بن المؤمل، عن عطاء، ولم يذكر ابن جريج. وقد اضطرب عبد الله بن المؤمل في إسناد هذا الحديث، فرواه كما تقدم، ورواه مرة، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو، أخرجه الخطيب في «تقييد العلم» (ص- 68) ، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (ص 364) ، وأخرجه الخطيب أيضا في «الجامع لأخلاق الراوي» (1/ 228) ، رقم (439) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 86) رقم (95) كلهم من طريق سريج بن النعمان عنه به. وقد ضعف ابن الجوزي هذا الطريق والذي قبله، فقال: هذه الطرق كلها لا تصح، أما الطريقان الأولان ففيهما عبد الله بن المؤمل قال أحمد: أحاديثه مناكير. وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم بن حبان: لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. اه. واضطرب فيه ابن المؤمل مرة ثالثة، فرواه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. أخرجه الخطيب البغدادي في «تقييد العلم» (ص- 69) ، وقد توبع ابن المؤمل على هذا، تابعه ابن أبي ذئب: أخرجه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (ص 364) ، والخطيب في «تقييد العلم» (ص- 69) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 87) ، رقم (97) ، كلهم من طريق إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به. ونقل ابن الجوزي، عن الدارقطني قوله: تفرد به إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب. وقال ابن الجوزي: فيه إسماعيل بن يحيى، قال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالبواطيل، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات وما لا أصل له عن الأثبات، لا يحل الرواية عنه بحال، وقال الدارقطني: كذاب متروك. حديث ابن عباس: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/ 792) من طريق حفص بن عمر بن أبي العطاف، عن أبي الزناد، عن الأعرج. عن ابن عباس مرفوعا. وقال ابن عدي: وحفص بن عمر حديثه منكر. والحديث من هذه الطرق يحتمل التحسين، وله شواهد موقوفة عن عمر بن الخطاب، وابن عباس. أثر عمر: أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 49) ، والدارمي (1/ 127) ، والخطيب في «تقييد العلم» (ص 88) ، والحاكم (1/ 106) من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن عبد الملك بن أبي سفيان، عن عمه عمرو بن أبي سفيان، عن عمر، فذكره. وصححه الحاكم. أثر ابن عباس: أخرجه الخطيب في «تقييد العلم» ص (92) من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير. قال:

باب في فضل القرآن

باب في فضل القرآن «1» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّها ستكون فتن كقطع اللّيل المظلم، قيل: فما النّجاة منها، يا رسول الله؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو فصل ليس بالهزل، من تركه تجبّرا، قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذّكر الحكيم، والصّراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعّب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، من علم علمه سبق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن اعتصم به، فقد هدي إلى صراط مستقيم» «2» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد علم الأوّلين والآخرين، فليثوّر القرآن» «3» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الّذي يتعاهد القرآن، ويشتدّ عليه له أجران، والّذي يقرؤه وهو خفيف عليه مع السّفرة الكرام البررة» «4» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «اتلوا هذا القرآن،

_ قال ابن عباس: قيدوا العلم بالكتاب. وسنده ضعيف فرواية عكرمة بن عمار عن يحيى مضطربة. (1) هذا الباب يوجد في «المحرر الوجيز» (1/ 36) هكذا: باب: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، وعن نبهة العلماء، في فضل القرآن المجيد، وصورة الاعتصام به. (2) أخرجه الترمذي (5/ 172) ، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضائل القرآن، حديث (2906) ، والدارمي (2/ 435) ، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، كلاهما من طريق الحسين بن علي الجعفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث، عن علي به. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 337) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، والدارمي، والترمذي، ومحمد بن نصر، وابن الأنباري في «المصاحف» . (3) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (1/ 548) رقم (2454) ، وعزاه إلى الديلمي، عن أنس مرفوعا، وقد ورد هذا الحديث عن ابن مسعود لكن موقوفا، فأخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 146) ، رقم (8665) من طريق زهير، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود، وذكره الهيثمي في «المجمع» (7/ 168) ، وقال: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني أيضا (9/ 146) ، رقم (8666) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن عبد الله قال: «من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين» وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 280) ، رقم (814) ، والفريابي في «فضائل القرآن» (ص- 197) ، رقم (78) ، وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 36) رقم (80) . وابن أبي شيبة (10/ 485) ، رقم (10067) كلهم من طريق سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود قال: «إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين» . (4) أخرجه البخاري (8/ 560) ، كتاب التفسير، باب سورة «عبس» ، حديث (4937) ، ومسلم (1/ 550) ،

فإنّ الله يأجركم بالحرف منه عشر حسنات أما إنّي لا أقول «آلم» حرف، ولكن الألف حرف، واللّام حرف، والميم حرف» «1» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من شفيع أفضل عند الله من القرآن، لا نبيّ ولا ملك» «2» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل عبادة أمّتي القرآن» «3» ، وحدّث أنس بن

_ كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل الماهر بالقرآن، حديث (798/ 244) ، وأبو داود (1/ 460) ، كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، حديث (1454) ، والترمذي (5/ 171) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل قارئ القرآن، حديث (2904) ، والنسائي في «التفسير» (2/ 492) ، رقم (666) ، وابن ماجة (2/ 1242) ، كتاب «الأدب» ، باب ثواب القرآن، حديث (3779) ، وأحمد (6/ 48، 110، 192، 239) ، وعبد الرزاق (2/ 491) ، رقم (4194) ، وابن أبي شيبة (10/ 490) ، رقم (10085) ، والدارمي (2/ 444) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب فضل من يقرأ القرآن ويشتد عليه، والطيالسي (2/ 2- منحة) ، رقم (1184) ، والبيهقي (2/ 395) ، كتاب «الصلاة» ، وفي «شعب الإيمان» (4/ 537) ، رقم (1822) ، وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص- 5) ، رقم (6) ، والفريابي في «الفضائل» (ص- 114) ، وابن الضريس في «فضائل القرآن» (ص 39) ، رقم (29) ، وابن حبان (3/ 44) ، رقم (767) ، من طرق، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام الأنصاري، عن عائشة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (1) أخرجه الترمذي (5/ 175) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر، حديث (2910) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 216) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 548) ، رقم (1831) كلهم من طريق الضحاك بن عثمان، عن أيوب بن موسى قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، وميم حرف» . وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، سمعت قتيبة يقول: بلغني أن محمد بن كعب القرظي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ... » اه. قلت: الذي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كعب والد محمد، وينظر «الإصابة» (6/ 346) . (2) ذكره الغزالي في «الإحياء» (1/ 273) . وقال الحافظ العراقي في «تخريجه» : رواه عبد الملك بن حبيب من رواية سعيد بن سليم مرسلا. اه. وينظر: «كشف الخفاء» (1/ 20) . (3) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 354) ، رقم (2022) من طريق سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي، عن النعمان بن بشير مرفوعا. وقد ورد بلفظ: «أفضل العبادة قراءة القرآن» . ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (1/ 511) ، رقم (2263) ، وعزاه إلى ابن قانع، عن أسير بن جابر، وإلى السجزي في «الإبانة» ، عن أنس. وأسير بن جابر في صحبته نظر، قاله ابن الأثير كما في «فيض القدير» (2/ 44) . والحديث ذكره الغزالي في «الإحياء» (1/ 273) ، وقال الحافظ العراقي: أخرجه أبو نعيم في «فضائل القرآن» من حديث النعمان بن بشير، وأنس، وإسنادهما ضعيف.

مالك «1» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من قرأ مائة آية، كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية، لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ ثلاثمائة آية، لم يحاجّه القرآن» «2» ، قال الشيخ يحيى بن شرف النوويّ «3» : اعلم أنّ قراءة القرآن آكد الأذكار، وأفضلها فينبغي المداومة عليها فلا يخلو عنها يوما وليلة، ويحصل له أصل القراءة بقراءة الآيات القليلة، والمطلوب القراءة بالتدبّر والخشوع والخضوع، وقد روّينا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ عن أنسٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من قرأ خمسين آية، لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية، كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية، لم يحاجّه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية، كتب له قنطار من الأجر» ، وفي رواية: «من قرأ أربعين آية بدل: «خمسين» ، وفي رواية: «عشرين «4» آية» وفي رواية عن أبي هريرة «5» عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عشر آيات لم يكتب

_ (1) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار- واسمه تيم الله- بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج بن حارثة. أبو حمزة. الأنصاري. الخزرجي. النجاري من بني عدي بن النجار. خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي سنة 90 وقيل غير ذلك. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (258/ 1/ 151) ، «الإصابة» (1/ 71) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 31) ، «الاستيعاب» (1/ 109) ، «الثقات» (3/ 4) ، «سير أعلام النبلاء» (3/ 395) ، «الجرح والتعديل» (2/ 1036) ، «الأعلام» (2/ 24) ، «العبر» (1/ 107) ، «تهذيب الكمال» (1/ 122) ، «تقريب التهذيب» (1/ 14) ، «الوافي بالوفيات» (9/ 411) ، «تاريخ الثقات» (73) . (2) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (679) . (3) ينظر: «الأذكار» ص 133، بتصرف. (4) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (679) . [.....] (5) أبو هريرة بن عامر بن عبد ذي الشّرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب. الدوسي. وقيل في نسبه غير ذلك. واختلف في اسمه اختلافا كثيرا. ذكره ابن حجر في «الإصابة» وقد عدد من أقوالهم في اسمه الشيء الكثير. قال ابن الأثير: أبو هريرة- الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم حديثا عنه، وهو دوسي. وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا لم يختلف في اسم آخر مثله ولا ما يقاربه.. وقيل: رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كمه هرة فقال: «يا أبا هريرة» . وفاته: قيل توفي سنة (57) ، وله (78 سنة) ، قيل: مات ب «العقيق» ، وحمل إلى المدينة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 318) ، «الإصابة» (7/ 199) ، «الاستيعاب» (1768) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 209) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1655) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 262) ، «الكنى والأسماء» (1/ 60) ، «المغني» (298) ، «الكاشف» (3/ 385) ، «الأنساب» (5/ 402) ، «تنقيح المقال» (3/ 38) ، «معرفة الثقات» (22756) ، «تاريخ الثقات» (2061) .

من الغافلين» «1» ، وجاء في الباب أحاديث كثيرة بنحو هذا. انتهى من «الحلية» . وروى ابن عبّاس «2» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أشراف أمّتي حملة القرآن» «3» ، وروى أنَسُ بنُ مالكٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «القرآن شافع مشفّع وما حل مصدّق، ومن شفع له القرآن نجا، ومن محل به القرآن يوم القيامة، كبّه الله لوجهه في النّار» «4» ، وأحقّ من شفع

_ (1) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (ص 188) ، رقم (702) ، و «الحاكم» (1/ 555) ، كلاهما من طريق محمد بن إبراهيم الصوري، عن مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرِّجاه. ووافقه الذهبي. قلت: ومؤمل بن إسماعيل. وثقه ابن معين وإسحاق بن راهويه. وقال ابن سعد: ثقة كثير الغلط. وقال الدارقطني: كثير الخطأ. وقال الساجي: صدوق كثير الخطأ، وله أوهام يطول ذكرها. وقال أبو حاتم: صدوق شديد السنة، كثير الخطأ. وقال البخاري: منكر الحديث. وقد لخص الحافظ هذه الأقوال في «التقريب» فقال: صدوق إلا أنه سىء الحفظ. ينظر: «الجرح والتعديل» (8/ 374) ، و «التقريب» (2/ 555) و «التهذيب» (10/ 380- 381) . (2) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس. القرشي. الهاشمي. ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمه: أم الفضل لبابة بنت الحارث. الهلالية. ولد وبنو هاشم بالشّعب قبل الهجرة بثلاث، وقيل: بخمس. كان يسمى «البحر» لسعة علمه، ويسمى «حبر الأمة» ، ويسمى «ترجمان القرآن» ، وهو من صغار الصحابة توفي النبي صلى الله عليه وسلم وله على أرجح الأقوال ثلاث عشرة سنة. توفي ب «الطائف» سنة 68 وله (71 أو 72 أو 74) . ينظر ترجمته في: «الإصابة» (4/ 90) ، «أسد الغابة» (3/ 290) ، «الاستيعاب» (3/ 933) ، «تجريد أسماء الصحابة (1/ 320) ، «التاريخ الكبير» (3/ 3، 5) «الجرح والتعديل» (5/ 116) ، «العبر» (1/ 41) ، «الأعلام» (4/ 95) ، «شذرات الذهب» (1/ 75) «صفوة الصفوة» (1/ 746) . (3) أخرجه السهمي في «تاريخ جرجان» (ص- 494) ، والطبراني في «الكبير» (12/ 125) ، رقم (12612) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 556) ، رقم (2703) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 124) ، كلهم من طريق سعد بن سعيد الجرجاني: ثنا نهشل بن عبد الله، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعا. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 164) ، وقال: وفيه سعد بن سعيد الجرجاني، وهو ضعيف. والحديث ضعفه المنذري في «الترغيب» (919) . (4) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب «فضائل القرآن» كما في «تخريج الكشاف» للزيلعي (2/ 187، 188) من طريق حجاج عن ابن جريج قال: حدثت عن أنس، فذكره وقال الزيلعي: وفيه انقطاع، وحجاج ضعيف.

له القرآن أهله وحملته، وأولى من محل به من عدل عنه، وضيّعه، وقال قوم من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تر يا رسول الله ثابت بن قيس «1» لم تزل داره البارحة يزهر فيها وحولها أمثال المصابيح؟! فقال لهم: فلعلّه قرأ سورة البقرة، فسئل ثابت بن قيس فقال: نعم، قرأت سورة البقرة» «2» ، وفي هذا المعنى حديث صحيح عن أسيد بن حضير «3» في تنزّل

_ وللحديث شواهد من حديث جابر وابن مسعود. حديث جابر: أخرجه ابن حبان (1793- موارد) ، والبزار (1/ 78- كشف) ، رقم (122) ، كلاهما من طريق أبي كريب محمد بن العلاء: ثنا عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القرآن شافع مشفع، وما حل مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار» . وصححه ابن حبان. وقال البزار: لا نعلم أحدا يرويه عن جابر إلّا من هذا الوجه وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 174) ، وقال: ورجال حديث جابر المرفوع ثقات. حديث ابن مسعود: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 108) ، والطبراني في «الكبير» (10/ 244) ، رقم (10450) ، كلاهما من طريق هشام بن عمار: ثنا الربيع بن بدر، عن الأعمش، عن شقيق أبي وائل، عن ابن مسعود مرفوعا. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الأعمش، تفرد به عنه الربيع. (1) ثابت بن قيس بن الشماس بن زهير بن مالك. أبو عبد الرحمن وأبو محمد. الأنصاريّ الخزرجي. خطيب الأنصار. قال ابن الأثير: كان ثابت خطيب الأنصار، وخطيب النبي صلى الله عليه وسلم كما كان حسان شاعره.. شهد أحدا وما بعدها، وقتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر شهيدا. روى عنه أنس بن مالك وأولاده. ينظر ترجمته في: «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 64) ، «الاستيعاب» (1/ 200) ، «الاستبصار» (1/ 117) ، «الإصابة» (1/ 203) ، «أسد الغابة» (1/ 275) ، «الثقات» (3/ 43) ، «تقريب التهذيب» (1/ 116) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 12) ، «تهذيب الكمال» (1/ 368) ، «الكاشف» (1/ 171) ، «التاريخ الكبير» (5/ 167) ، «الجرح والتعديل» (2/ 456) ، «سير أعلام النبلاء» (1/ 308) . (2) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب: «فضائل القرآن» كما في «تفسير ابن كثير» (1/ 33) ، قال حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه، فذكروا الحديث. وقال ابن كثير: وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاما، ثم هو مرسل. (3) هو: أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل.. قيل كنيته: أبو حضير، أبو عمرو، أبو عيسى، أبو يحيى، أبو عتيك. الأنصاري. الأشهلي الأوسي، شهد العقبة الثانية، وكان نقيبا لبني عبد الأشهل. اختلف في شهوده بدرا، وشهد أحدا وكان ممن ثبت يومها، وجرح حينئذ سبع جراحات، قال ابن إسحاق: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن

الملائكة في الظّلّة لصوته بقراءة سورة البقرة «1» . قلت: وفي رواية سورة الكهف. وهذا الحديث خرّجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنّسائيّ. انتهى. وقال عقبة بن عامر «2» : «عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، فقال: عليكم بالقرآن» «3» ، وقال عبد اللَّه بن عمرو بن العَاصِي «4» : أنَّ من أشراط السّاعة أن يبسط

_ عائشة قالت: «ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وعباد بن بشير. توفي سنة (20) ، وقيل 21، وقيل: في إمارة عمر. ينظر ترجمته في: «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 21) ، «الثقات» (3/ 6) ، «أسد الغابة» (1/ 111) ، «الإصابة» (1/ 48) ، «الإكمال» (2/ 482) ، «الاستيعاب» (1/ 92) ، «تهذيب الكمال» (1/ 113) . (1) أخرجه البخاري (8/ 680) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب: نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، حديث (5018) . (2) هو: عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودعة بن عدي بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة ... الجهني، أبو حماد. وقيل: أبو لبيد. وأبو عمرو. قال ابن الأثير في «الأسد» : روى عنه من الصحابة: ابن عباس، وأبو عباس، وأبو أيوب، وأبو أمامة، وغيرهم. ومن التابعين: أبو الخير، وعلي بن رباح أبو قبيل، وسعيد بن المسيب وغيرهم. شهد «صفين» مع معاوية، وشهد فتوح الشام، وهو كان البريد إلى عمر بفتح «دمشق» ، وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن. توفي بمصر، وكان واليا عليها سنة (58 هـ.) ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 53) ، «الإصابة» (4/ 250) ، «الثقات» (3/ 280) ، «الطبقات الكبرى» (2/ 376) ، «التاريخ الكبير» (6/ 340) ، «التاريخ الصغير» (2/ 123) ، «الرياض المستطابة» (220) ، «الأعلام» (2/ 240) ، «العبر» (1/ 62) ، «الإكمال» (6/ 88) ، «سير أعلام النبلاء» (2/ 467) ، «طبقات الحفاظ» (10) «تذكرة الحفاظ» (1/ 42) ، «روضات الجنات» (8/ 38) ، «الجرح والتعديل» (6/ 313) ، «تهذيب الكمال» (2/ 945) ، «تقريب التهذيب» (2/ 27) . (3) أخرجه الطبراني في «الكبير» (19/ 296) ، رقم (658) . (4) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.. أبو محمد. وقيل: أبو عبد الرحمن. القرشي. السهمي. أسلم قبل أبيه، وكان من فضلاء الصحابة عالما بالقرآن، وقرأ الكتب المتقدمة، وكان من أشهر حفاظهم، وأخباره كثيرة لا يتسع المقام للحديث عنه. وفاته: قيل: توفي سنة (63) وقيل غير ذلك. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 349) ، «الإصابة» (4/ 111) ، «الثقات» (3/ 211) ، «الاستيعاب» (3/ 256) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 326) ، «الجرح والتعديل» (5/ 116) ، «تقريب التهذيب» (1/ 436) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 337) ، «تهذيب الكمال» (2/ 716) ، «شذرات الذهب» (1/ 62) ، «النجوم الزاهرة» (20) ، «الوافي بالوفيات» (17/ 380) . [.....]

القول، ويخزن الفعل، ويرفع الأشرار، ويوضع الأخيار، وأن تقرأ المثناة على رءوس النّاس، لا تغيّر، قيل: وما المثناة «1» ؟ قال: ما استكتب من غير كتاب الله، قيل له: فكيف بما جاء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أخذتموه عمّن تأمنونه على نفسه ودينه فاعقلوه، وعليكم بالقرآن فتعلّموه، وعلّموه أبناءكم فإنّكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظا لمن عقل «2» وقال رجل لعبد الله بن مسعود «3» : أوصني، فقال: إذا سمعت الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك فإنّه خير يأمر به، أو شرّ ينهى عنه «4» ، وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أحسن النّاس قراءة أو صوتا بالقرآن فقال: «الّذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى» «5» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا بالقرآن قبل أن يجيء قوم يقيمونه كما يقام القدح «6» ، ويضيّعون معانيه، يتعجّلون أجره، ولا

_ (1) قال العلامة ابن الأثير: وقيل: إن المثناة هي أن أحبار بني إسرائيل بعد موسى- عليه السلام- وضعوا كتابا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله، فهو المثناة، فكأن ابن عمرو كره الأخذ عن أهل الكتاب، وقد كانت عنده كتب وقعت إليه يوم اليرموك منهم، فقال هذا لمعرفته بما فيها. قال الجوهري: «المثناة» هي التي تسمى بالفارسية دوبتي، وهو الغناء. ينظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 225- 226) . (2) أخرجه الدارمي (1/ 123) ، باب: من لم ير كتابة الحديث. (3) هو: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمع بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن الحرث بن تيم بن سعد بن هذيل أبو عبد الرحمن الهذلي. حليف بني زهرة. قال له النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام «إنك غلام معلم» وقال هو: لقد رأيتني سادس ستة، وما على الأرض مسلم غيرنا، وكان يقول أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة. توفي سنة: 32، وقيل: 33، وقيل: توفي بالمدينة، وقيل: بالكوفة، والأول أرجح. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 484) ، «الإصابة» (4/ 129) ، «الثقات» (3/ 208) ، «الاستبصار» (65، 139) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 334) ، «الأعلام» (4/ 137) ، «التاريخ الصغير» (1/ 60) ، «الجرح والتعديل» (5/ 149) ، «العبر» (1/ 25) ، «حلية الأولياء» (1/ 375) ، «سير أعلام النبلاء» (1/ 461) . (4) أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 231) رقم (864) وابن المبارك في «الزهد» (ص 12) رقم (36) وسعيد بن منصور رقم (50) وابن أبي حاتم في «تفسيره» كما في «تفسير ابن كثير» (2/ 2) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 130) . وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 195) ولكن عن ابن عباس وأظنه خطأ من الطابع أو الناسخ وزاد نسبته إلى أبي عبيد في «فضائله» والبيهقي في «شعب الإيمان» . (5) أخرجه عبد الرزاق (2/ 488) رقم (4185) عن طاوس مرسلا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 173) من حديث ابن عمر وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: وفيه حميد بن حماد بن حوار وثقه ابن حبان وقال: ربما أخطأ وبقية رجاله رجال الصحيح. (6) القدح: السهم قبل أن ينصّل ويراش. ينظر: «لسان العرب» (3542) .

يتأجّلونه» «1» ، وروي أنّ أهل اليمن، لمّا قدموا أيام أبي بكر الصديق «2» رضي الله عنه سمعوا القرآن فجعلوا يبكون، فقال أبو بكر: «هكذا كنّا، ثمّ قست القلوب» «3» ، وروي أن عمر بن الخطاب «4» رضي الله عنه قرأ مرة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور: 7، 8] فأنّ أنّة عيد منها عشرين يوما «5» ، قال القرطبي في «التّذكرة» «6» : وما تقرّب

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 280) ، كتاب: «الصلاة» ، باب: ما يجزىء الأمي والأعجمي من القراءة، حديث (830) ، وأحمد (3/ 397) ، والفريابي في «فضائل القرآن» (ص 244) ، رقم (174) ، والآجري في «أخلاق أهل القرآن» (ص 92) ، رقم (28) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 575- 576) ، رقم (2399) ، كلهم من طريق حميد الأعرج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا. وأخرجه أحمد (3/ 357) ، وأبو يعلى (4/ 140) ، رقم (2197) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، (5/ 576- 577) ، رقم (2400) من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به. وقد روي هذا الحديث عن ابن المنكدر مرسلا. أخرجه عبد الرزاق (3/ 382) رقم (6034) ، وابن أبي شيبة (10/ 480) ، رقم (10053) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 575) ، رقم (2398) ، عن ابن المنكدر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. (2) هو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي.. القرشي. التيمي أبو بكر الصديق بن أبي قحافة، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر. هو صحابي شهير غني عن التعريف، وقد جاءت ترجمته في مصادر يصعب حصرها في مثل هذا الموضع. توفي يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة (13) وله (63 سنة) . ينظر ترجمته في: «الاستيعاب» (293) ، «أسد الغابة» (6/ 37) ، «الإصابة» (4/ 101) ، «المغني» (286) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 152) ، «الكنى والأسماء» (1/ 6) ، «بقي بن مخلد» (30) ، «الزهد لوكيع» (99) ، «تاريخ الثقات» (1906) ، «معرفة الثقات» (2092) ، «الأعلام» (4/ 102) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1589) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 43) ، «تقريب التهذيب» (2/ 401) ، «تذكرة الحفاظ» (1/ 2) ، «شرف أصحاب الحديث» (35، 90) ، «أصحاب بدر» (41) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 358) ، «تاريخ الإسلام» (2/ 97) «الرياض المستطابة» (140) ، «صفة الصفوة» (1/ 235) . (3) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 33- 34) من طريق الأعمش عن أبي صالح به وذكره الهندي في «كنز العمال» (4097) وعزاه لأبي نعيم. (4) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي.. أبو حفص. القرشي. العدوي. أمير المؤمنين. الفاروق. ولد بعد «الفجار الأعظم» بأربع سنين قبل المبعث النبوي بثلاثين سنة، وقيل: يرون ذلك. طعن يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة (23) ، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة (24) على أرجح الأقوال. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 145) ، «الإصابة» (4/ 275) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 397) ، «الاستيعاب» (3/ 1144) ، «الجرح والتعديل» (6/ 105) ، «تقريب التهذيب» (2/ 540) ، «تهذيب التهذيب» (7/ 438) ، «الكاشف» (309) ، «تاريخ جرجان» (730) . (5) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) وعزاه إلى أبي عبيد في «فضائله» . (6) ينظر: «التذكرة» (1/ 126) .

المتقرّبون إلى الله تعالى بشيء مثل القرآن قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الرّبّ تبارك وتعالى: من شغله قراءة القرآن عَنْ مَسْأَلتي، أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائلين» رواه الترمذي. انتهى. قلت: ولفظ الترمذيّ عن أبي سعيد «1» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الرّبّ عزّ وجلّ: «من شغله القرآن وذكري عَنْ مَسْأَلتي، أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائلين» ، و «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ «2» .

_ (1) هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج.. أبو سعيد الخدري، الأنصاري. قال ابن الأثير: كان من الحفاظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المكثرين ومن العلماء الفضلاء العقلاء. روى عن أبي سعيد قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله، إنه عبل العظام. فردني. توفي سنة «74 هـ.» . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 143) ، «الإصابة» (7/ 84) ، «الاستيعاب» (2/ 1671) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 172) ، «الأنساب» (5/ 6) ، «الإكمال» (3/ 296) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1609) ، «تقريب التهذيب» (2/ 428) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 184) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب (25) ، حديث (2926) ، والدارمي (2/ 441) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب فضل كلام الله على سائر الكلام، وابن نصر في «قيام الليل» (ص 71) ، والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 49) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 106) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 238) ، كلهم من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. والحديث أعله العقيلي في «الضعفاء» بمحمد بن الحسن وقال: لا يتابع عليه. وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 82) ، رقم (1738) : سألت أبي عن حديث رواه محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن عمرو بن قيس، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «من شغله القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ثواب السائلين» قال أبي: هذا حديث منكر، ومحمد بن الحسن ليس بالقوي اه. فأعل العقيلي وأبو حاتم هذا الحديث بمحمد بن الحسن. قلت: قال البيهقي: تابعه الحكم بن بشير، ومحمد بن مروان، عن عمرو بن قيس لتنحصر علة الحديث في ضعف وتدليس عطية العوفي. وللحديث شاهد من حديث عمر بن الخطاب: أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 93) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 413) ، رقم (572) ، كلاهما من طريق صفوان بن أبي الصهباء، عن بكير بن عتيق، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده مرفوعا به، ومن طريق صفوان أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 166) ، وقال: قال ابن حبان: هذا موضوع ما رواه إلا صفوان بهذا الإسناد، فأما صفوان، فيروي عن الأثبات ما لا أصل له من حديث الثقات، ولا يجوز الاحتجاج بما انفرد به. [.....]

وعن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لم يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح «1» . انتهى. وعماد الأمر التدبّر والتفهّم، فقلّة القراءة مع التفهّم أفضل من كثرتها من غير تفهّم، وهذا الذي عليه المحقّقون، وهو الذي يدلّ عليه القرآن، وصحيح الآثار، ولولا الإطالة، لأتينا من ذلك بما يثلج له الصدر، وقد ذكر بعض شراح «الرسالة» «2» في الذي يقرأ القرآن من غير تأمّل ولا تفهّم، هل له أجر أم لا؟ قولان، وهذا الخلاف، والله أعلم، في غير المتعلّم، والقول بعدم الأجر على ضعفه هو ظاهر ما حكاه عياض «3» في «المدارك» عن

_ وللحديث شاهد آخر من حديث حذيفة: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 313) ، عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد، ثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته قبل أن يسألني» . وقال أبو نعيم: غريب، تفرد به أبو مسلم. وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 413- 414) ، رقم (573) ، من طريق يزيد بن خمير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى قال: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلتي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ما أعطي السائلين» . (1) أخرجه الترمذي (5/ 198) ، كتاب «القراءات» ، باب (13) ، حديث (2949) ، وأبو داود (1/ 443) ، كتاب «الصلاة» ، باب تحزيب القرآن، حديث (1394) ، وابن ماجة (1/ 428) ، كتاب «الصلاة» ، باب في كم يستحب يختم القرآن، حديث (1347) ، والدارمي (1/ 350) ، كتاب «الصلاة» ، باب في كم يختم القرآن، وأحمد (2/ 195) ، وابن حبان (3/ 35) ، رقم (758) ، كلهم من طريق قتادة، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان. (2) هي «الرسالة القشيرية» في التصوف، للإمام أبي القاسم عبد الكريم ابن هوازن القشيري، الأستاذ الشافعي، المتوفى سنة 465 هـ، عن تسعة وثمانين عاما، وهي على أربعة وخمسين بابا، وثلاثة فصول، وقد شرحها القاضي زكريا بن محمد الأنصاري ت 910، في مجلد مع المتن، سماه «إحكام الدلالة على تحرير الرسالة» . ومن شروحها «الدلالة على فوائد الرسالة» للشيخ الفقيه سديد الدين أبي محمد عبد المعطي بن محمود بن عبد العلي اللخمي. وشرحها- أيضا- المولى علي القاري في مجلدين. ينظر: «كشف الظنون» (883) . (3) هو أبو الفضل عياض- بكسر العين- بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى اليحصبي- بضم الصاد- المالكي، سبتي الدار والميلاد، أندلسي الأصل، ولد سنة 476 هـ، ورحل إلى «الأندلس» ، وأخذ عن علمائها كأبي الوليد بن رشد، وأبي علي الغساني، وغيرهما، ثم عاد إلى «سبتة» وتولى بها التدريس والقضاء، وصار إمام وقته في الحديث، والتفسير، والفقه، والأصول، كما كان عالما بالنحو واللغة ومن أشهر مؤلفاته: كتاب «التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة» ، وكتاب «ترتيب المدارك في طبقات أصحاب مالك» . توفي سنة 544 هـ. ينظر: «ترتيب المدارك» (1/ 18) ، «الفكر السامي» (3/ 58) وما بعدها، «شجرة النور» ص 140.

الشّبليّ في قصّته مع الإمام المقرئ. وبالجملة فالتدبّر والتفهّم هو الذي يحصل معه الإنابة والخشوع، وكل خير، ونقل الباجيّ «1» في «سنن الصّالحين» عن محمد بن كعب القرظيّ «2» قال: لأن أقرأ في ليلي حتّى أصبح ب «إذا زلزلت» ، وبالقارعة لا أزيد عليهما وأتردّد فيهما وأتفكّر أحبّ إليّ من أن أهذّ القرآن ليلي هذّا، أو قال: أنثره نثرا «3» ، ونحوه عن مجاهد «4» وغيره، وعن ابن عبّاس قال: «ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه «5» . انتهى. قال ابن أبي جمرة «6» : والمرغّب فيه التدبّر في القراءة، وإن قلّت، وهو خير من كثرة

_ (1) القاضي أبو الوليد: هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي، أصلهم من «بطليوس» ، ثم انتقلوا إلى باجة أعني «باجة» الأندلس، أخذ بالأندلس عن ابن الأصبغ، وابن محمد المكي، وابن شاكر، وغيرهم، ورحل سنة 426، فأقام بالحجاز مع أبي ذر الهروي ثلاثة أعوام، ثم ارتحل إلى «بغداد» ، فدرس الفقه، وسمع الحديث ثم دخل «الشام» ثم «الموصل» . له مؤلفات عديدة منها: كتاب «السراج في علم الحجاج» ، وكتاب «مسائل الخلاف» ، وكتاب «شرح المدونة» ، وكتاب «المقتبس» من علم مالك، وكتاب «المهذب في اختصار المدونة» ، وكتاب «اختلاف الموطأ» ، وكتاب «إحكام الفصول في أحكام الوصول» ، وكتاب «المنتقى في شرح الموطأ» ، وهو اختصار لكتاب «الاستيفاء» ، وتوفي سنة 494 هـ، وقيل سنة 474. ينظر: «الديباج» ص 120 وما بعدها، و «شجرة النور» ص 121. (2) محمد بن كعب القرظي المدني، ثم الكوفي أحد العلماء. قال ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. وقال ابن سعد: كان ثقة ورعا كثير الحديث. قيل: مات سنة تسع عشرة ومائة. وقيل: سنة عشرين. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 452) «تهذيب التهذيب» (9/ 420) ، «تقريب التهذيب» (2/ 203) ، «الكاشف» (3/ 92) ، «الثقات» (5/ 351) ، «طبقات ابن سعد» (5/ 370، 371) . (3) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (3/ 214- 215) . (4) مجاهد بن جبر، مولى السائب بن أبي السائب، أبو الحجّاج المكي، المقرئ، الإمام، المفسّر، روى عن ابن عباس وقرأ عليه. قال مجاهد: عرضت على ابن عباس ثلاثين مرة. روى عن الصحابة. وثقه ابن معين وأبو زرعة. ولد سنة 21 هـ، وتوفي ب «مكة» وهو ساجد سنة 102 هـ، وقيل: غير ذلك. ينظر: «الخلاصة» (3/ 10) (6854) ، «صفة الصفوة» (2/ 208- 211) ، و «ميزان الاعتدال» (3/ 439- 440) . (5) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (8/ 201) رقم (22544) وعزاه لابن أبي الدنيا في «التفكر» . (6) عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة، الأزدي، الأندلسي، أبو محمد: من العلماء بالحديث، مالكي. أصله من «الأندلس» ، ووفاته ب «مصر» ، من كتبه «جمع النهاية» اختصر به صحيح البخاري، ويعرف بمختصر ابن أبي جمرة، و «بهجة النفوس» في شرح جمع النهاية، و «المرائي الحسان» في الحديث، و «الرؤيا» . ينظر: «الأعلام» (4/ 89) ، «البداية والنهاية» (13/ 346) .

القراءة بلا تدبّر وفائدة التدبّر هو أن تعرف معنى ما تتلوه من الآي «1» . انتهى. وقال الحسن بن أبي الحسن «2» : إنّكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملا تركبونه، فتقطعون به المراحل، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل إليهم من ربّهم، فكانوا يتدبّرونه بالليل، وينفذونه بالنهار، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أنزل عليهم القرآن ليعملوا به فاتّخذوا درسه عملا، إنّ أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يسقط منه حرفا، وقد أسقط العمل به. قال ع «3» : قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 22] وقال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ، أي: علم معانيه، والعمل به، والقيام بحقوقه ثقيل، فمال الناس إلى الميسّر، وتركوا الثقيل، وهو المطلوب منهم، وقيل ليوسف بن أسباط «4» : بأي شيء تدعو، إذا ختمت القرآن؟ فقال: أستغفر الله من تلاوتي لأنّي إذا ختمته، ثم تركت ما فيه من الأعمال، خشيت المقت، فأعدل إلى الاستغفار والتسبيح، وقرأ رجل القرآن على بعض العلماء، قال: فلما ختمته، أردت الرجوع من أوّله، فقال لي: اتخذت القراءة عليّ عملا، اذهب فاقرأه على الله تعالى في ليلك، وانظر ماذا يفهمك منه، قال الغزّاليّ في كتاب «التفكّر» : وأما طريق الفكر الذي تطلب به العلوم التي تثمر اجتلاب أحوال محمودة، أو التنزّه عن صفات مذمومة، فلا يوجد فيه أنفع من تلاوة القرآن بالفكر فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال، وفيه شفاء للعالمين، وفيه ما يورث الخوف، والرجاء، والصبر، والشكر، والمحبة، والشوق، وسائر الأحوال المحمودة، وفيه ما يزجر

_ (1) «بهجة النفوس» لابن أبي جمرة (4/ 76) . (2) الحسن بن أبي الحسن البصري، مولى أم سلمة، والربيع بنت النضر، أو زيد بن ثابت، أبو سعيد الإمام، أحد أئمة الهدى والسنة. قال ابن سعد: كان عالما جامعا رفيعا ثقة مأمونا عابدا، ناسكا، كثير العلم فصيحا جميلا، وسيما، ما أرسله فليس بحجة، وكان الحسن شجاعا من أشجع أهل زمانه. قال ابن علية: مات سنة عشر ومائة. قيل: ولد سنة إحدى وعشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر. قال أبو زرعة: كل شيء قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له أصلا ثابتا خلا أربعة أحاديث. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (1/ 210) ، «تهذيب الكمال» (1/ 255) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 263) و «تقريب التهذيب» (1/ 165) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (1/ 210) ، «الكاشف» (1/ 220) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 39) . (4) أحد الزهاد والعباد، وكان له اليد الطولى في المواعظ والحكم. روى عن الثوري وزائدة بن قدامة وغيرهما. وروى عنه المسيب بن واضح، وعبد الله بن خبيق. نزل الثغور مرابطا. قال شعيب بن حرب: ما أقدم على يوسف بن أسباط أحدا. وقد وثقه ابن معين. ينظر ترجمته في: «حلية الأولياء» (8/ 237) ، «سير أعلام النبلاء» (9/ 169) . [.....]

باب في فضل تفسير القرآن وإعرابه

عن سائر الصفات المذمومة، فينبغي أن يقرأه العبد، ويردّد الآية الّتي هو محتاج إلى التفكّر فيها مرة بعد أخرى، ولو ليلة كاملة، فقراءة آية بتفكّر وفهم خير من ختمة من غير تدبّر وفهم فإن تحت كل كلمة منه أسرارا لا تنحصر، ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب بعد صدق المعاملة وكذلك حكم مطالعة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي عليه السلام جوامع الكلم، فكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة، لو تأمله العالم حقّ تأمله، لم ينقطع فيه نظره طول عمره، وشرح آحاد الآيات والأخبار يطول، وانظر قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ روح القدس نفث في روعي «1» أحبب من أحببت، فإنّك مفارقه، وعش ما شئت فإنّك ميّت، واعمل ما شئت، فإنّك مجزيّ به» فإن هذه الكلمات جامعة لحكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأملين، ولو وقفوا على معانيها، وغلبت على قلوبهم غلبة يقين، لاستغرقتهم، ولحالت بينهم، وبين التلفّت إلى الدنيا بالكلية. انتهى من «الإحياء» . باب في فضل تفسير القرآن وإعرابه قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه «2» ، فإنّ الله تعالى يحبّ أن يعرب» . قال أبو العالية «3» في تفسير قوله عز وجلّ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً

_ (1) الرّوع: القلب والعقل، ووقع ذلك في روعي، أي نفسي وخلدي وبالي. ينظر: «لسان العرب» 1778. (2) أخرجه أبو يعلى (11/ 436) ، رقم (6560) ، والحاكم (2/ 439) ، وابن أبي شيبة (10/ 456) ، رقم (9961) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 77- 78) كلهم من طريق عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد على مذهب جماعة من أئمتنا. وتعقبه الذهبي بقوله: بل أجمع على ضعفه. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 167) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه عبد الله بن سعيد المقبري، وهو متروك. والحديث ذكره السيوطي في «الجامع الصغير» (1/ 558- فيض) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي في «شعب الإيمان» ورمز له بالضعف، ووافقه المناوي. وذكره أيضا الألباني في «السلسلة الضعيفة» .. رقم (1345) وقال: ضعيف جدا. (3) رفيع- بضم أوله مصغرا- ابن مهران الرياحي- بكسر المهملة- مولاهم، أبو العالية البصري، مخضرم، إمام من الأئمة، صلى خلف عمر، دخل على أبي بكر، روى عن أبي، وعلي، وحذيفة، وعلى خلق. وعنه قتادة، وثابت، وداود بن أبي هند بصريون وخلق. قال عاصم الأحول: كان إذا اجتمع عليه أكثر من أربعة قام وتركهم. قال مغيرة: أول من أذّن بما وراء النهر أبو العالية. قال أبو خلدة: مات سنة

[البقرة: 269] قال: الحكمة: الفهم في القرآن «1» ، وقال قتادة «2» : الحكمة: القرآن، والفقه فيه «3» . وقال غيره: الحكمة: تفسير القرآن «4» . وقال الشعبي «5» : رحل مسروق «6» إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي يفسّرها رحل إلى الشام، فتجهز، ورحل إليه حتى علم تفسيرها، وذكر علي بن أبي طالب «7» رضي الله عنه ...

_ تسعين، وهو الصحيح. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (1/ 330) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 284) ، «تقريب التهذيب» (1/ 252) و «الكاشف» (1/ 312) . (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 90) (6179) ، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 40) . (2) قتادة بن دعامة السّدوسي، أبو الخطّاب البصري الأكمه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس. قال ابن المسيّب: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة. وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. وقال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد. قال حماد بن زيد: توفي سنة سبع عشرة ومائة، وقد احتج به أرباب الصحاح. ينظر: «طبقات ابن سعد» (9/ 156) ، «معرفة الثقات» (1513) ، «سير الأعلام» (5/ 269) ، «الثقات» (5/ 322) ، «تراجم الأحبار» (3/ 264) ، «الحلية» (2/ 333) ، «لسان الميزان» (7/ 341) ، «ميزان الاعتدال» (3/ 385) ، «تهذيب الكمال» (2/ 1121) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 350) . (3) الطبري (3/ 89) (6177) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 616) ، وعزاه لعبد بن حميد، وذكره ابن عطية الأندلسي في تفسيره (1/ 40) . (4) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 40) . (5) عامر بن شراحيل الحميري، الشعبي، أبو عمرو الكوفي، الإمام العلم، روى عن كثير من الصحابة، وروى عنه ابن سيرين والأعمش، وكان فقيها. قال الشعبي: «ما كتبت سوداء في بيضاء» . توفي سنة 103 هـ. ينظر: «الخلاصة» (2/ 22) (3263) ابن سعد (6/ 171- 178) ، و «المعارف» (ص 449- 451) ، و «الحلية» (4/ 310- 338) . (6) مسروق بن الأجدع الهمداني، أبو عائشة الكوفي، الإمام القدوة. عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وطائفة. وعنه: زوجته قمير، وأبو وائل، والشعبي، وخلق. قال أبو إسحاق: حج مسروق فما نام إلا ساجدا على وجهه، وقال ابن المديني: صلى خلف أبي بكر، وقال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله. قال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وستين. ينظر: «طبقات ابن سعد» (4/ 113) ، «سير الأعلام» (4/ 63) ، «تاريخ بغداد» (13/ 232) ، «معرفة الثقات» (1709) ، «تراجم الأحبار» (3/ 330) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1320) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 110) (205) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (3/ 21) . (7) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.. أبو الحسن. القرشي. الهاشمي. ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم.

جابر بن عبد الله «1» ، فوصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك، تصف جابرا بالعلم، وأنت أنت، فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» [القصص: 85] ، وقال إياس بن معاوية «3» : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة «4» لا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعلم التفسير كرجل جاءهم بمصباح فيقرءوا ما في الكتاب «5» ، وقال ابن عبّاس: الذي يقرأ، ولا يفسر كالأعرابيّ الذي يهذّ «6» الشّعر «7» ، وقال مجاهد: أحبّ الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل الله «8» ، وقال الحسن:

_ ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، رابع الخلفاء الراشدين، وزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووالد الحسن والحسين، وهو غني عن التعريف، فاضت بذكره كتب التواريخ والسير، قتل في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة (40) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 91) ، «الإصابة» (4/ 269) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 392) ، «الاستبصار» (390) ، «تاريخ الخلفاء» (166) ، «الطبقات الكبرى» (9/ 137) ، «التاريخ الصغير» (1/ 435) ، «الجرح والتعديل» (6/ 191) ، «حلية الأولياء» (2/ 87) ، «تهذيب الكمال» (2/ 971) ، «تهذيب التهذيب» (7/ 334) . (1) هو: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عبد الله. وقيل: أبو عبد الرحمن الأنصاري السلمي شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صبي، ومن فضائله قال: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسا وعشرين مرة. يعني بقوله: ليلة البعير أنه باع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا، واشترط ظهره إلى المدينة، وكان في غزوة لهم. توفي سنة 740 وقيل 77 وكان عمره: 94 سنة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 307) ، «الإصابة» (1/ 222) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 73) ، «الاستيعاب» (1/ 219) ، «الطبقات الكبرى» (3/ 561) ، «الاستبصار» (151) ، «التاريخ الكبير» (2/ 207) ، «التاريخ الصغير» (1/ 21، 115) ، «الجرح والتعديل» (2/ 2019) ، «تهذيب الكمال» (1/ 179) . (2) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 40) . [.....] (3) إياس بن معاوية بن قرة المزني، أبو وائلة البصري، القاضي. عن أبيه، وأنس، وابن المسيب. وعنه الأعمش، وأيوب، والحمادان. وثقه ابن سعد وابن معين. قال إياس: من عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقه. وقال: كل ديانة أسست على غير ورع فهي هباء. قال خليفة: مات ب «واسط» سنة اثنتين وعشرين ومائة. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (1/ 108) ، «تهذيب التهذيب» (1/ 390) ، «تقريب التهذيب» (1/ 87) ، و «الكاشف» (1/ 144) ، «طبقات ابن سعد» (7/ 234) . (4) الرّوعة: الفزعة. ينظر: «لسان العرب» 1777. (5) ابن عطية (1/ 40) . (6) الهذّ: سرعة القراءة، ومنه: هذّ القرآن يهذّه هذّا. ينظر: «لسان العرب» 4643. (7) ينظر: «المحرر الوجيز» لابن عطية الأندلسي (1/ 40) . (8) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 40) .

فصل فيما قيل في الكلام في تفسير القرآن والجرأة عليه ومراتب المفسرين

والله ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن يعلم فيمن أنزلت، وما يعني بها «1» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه الرّجل كلّ الفقه حتّى يرى للقرآن وجوها كثيرة» «2» . فصل فيما قيل في الكلام في تفسير القرآن والجرأة عليه ومراتب المفسّرين روي عَن عائشَة «3» رضي الله عنها أنَّها قَالَتْ: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسّر من كتاب الله تعالى إلّا آيا بعدد علّمهنّ إيّاه جبريل عليه السّلام» . قال ع «4» : ومعنى هذا الحديث في مغيّبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى، ومن جملة مغيّباته ما لم يعلم الله به عباده كوقت قيام الساعة ونحوها، ومنها ما يستقرأ من ألفاظه كعدد النفخات في الصور وكرتبة خلق السموات والأرض. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تكلّم في القرآن برأيه، فأصاب، فقد أخطأ» «5» ، ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله، فيتسوّر عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء أو اقتضته قوانين العلوم كالنحو، والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويّون لغته، والنحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كلّ واحد باجتهاده المبنيّ على قوانين علم ونظر فإن هذا القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرّد رأيه، وكان جلّة من السلف كسعيد بن المسيّب «6» ، وعامر الشّعبيّ، وغيرهما يعظّمون تفسير القرآن، ويتوقّفون

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 40) . (2) ينظر: «إتحاف السادة المتقين» (4/ 527) . (3) عائشة بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي. أم عبد الله. أم المؤمنين- رضي الله عنها- القرشية. التيمية. أمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية. ولدت بعد البعثة بأربع سنين أو خمسة. توفيت سنة (58) في ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان عند الأكثر، وقيل: سنة (57) ودفنت بالبقيع. ينظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 188) ، «الإصابة» (8/ 139) ، «أعلام النساء» (3/ 9) ، «الاستيعاب» (4/ 1881) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 286) ، «التاريخ الصغير» (1/ 102) ، «طبقات ابن سعد» (8/ 39) ، «حلية الأولياء» (2/ 43) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1689) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 433) ، «تقريب التهذيب» (2/ 606) ، «الكاشف» (3/ 476) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (3/ 387) ، «السمط الثمين» (33) ، «شذرات الذهب» (1/ 61) ، «طبقات الشيرازي» (47) ، «العبر» (1/ 62) ، «بقي بن مخلد» (4) ، «النجوم الزاهرة» (1/ 150) ، «معجم طبقات الحفاظ» (105) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 41) . (5) سيأتي تخريجه. (6) سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن مخزوم المخزومي، أبو محمد المدني،

عنه تورّعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدّمهم، وكان جلّة من السلف كثير عددهم يفسّرونه، وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عن جميعهم. ت: وخرج أبو عيسى التّرمذيّ في «جامعه» عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم، فليتبوّأ مقعده من النَّارِ» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح «1» ، وخرّج أيضا عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اتّقوا الحديث عنّي إلّا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار، ومن قال في القرآن برأيه، فليتبوّأ مقعده من النَّارِ» ، قال/ أبو عيسى: هذا حديث حسن «2» ، وخرّج عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه، فأصاب، فقد أخطأ» «3» ، قال

_ الأعور، رأس علماء التابعين، وفردهم، وفاضلهم وفقيههم. ولد سنة خمس عشرة. قال ابن عمر: هو والله أحد المقتدين به. قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه. وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح. قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: سنة أربع. ينظر: «الخلاصة» (1/ 390) ، «طبقات خليفة» ت (2096) ، «تاريخ البخاري» (3/ 510) ، «تاريخ الإسلام» (4/ 4) ، «العبر» (1/ 110) ، «سير أعلام النبلاء» (4/ 217) . (1) أخرجه الترمذي (5/ 199) ، كتاب «التفسير» ، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث (2950) ، وأحمد (1/ 233) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (1/ 35) ، وفي «شرح السنة» (1/ 211- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق سفيان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وقال الترمذي: حسن صحيح. قلت: وعبد الأعلى هو ابن عامر الثعلبي. قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، ربما دفع الحديث وربما وقفه. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال النسائي: ليس بقوي، ويكتب حديثه. وقال أحمد: ضعيف الحديث. ينظر: «ميزان الاعتدال» (2/ 530) ، و «تهذيب التهذيب» (6/ 94) . [.....] (2) أخرجه الترمذي (5/ 199) ، كتاب «التفسير» ، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث (2951) ، وأحمد (1/ 293) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 210) من طريق عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن اه. ومداره على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وقد مرت ترجمته. (3) أخرجه الترمذي (5/ 200) ، كتاب «تفسير القرآن» ، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث (2952) ، وأبو داود (2/ 344) ، كتاب «العلم» ، باب الكلام في كتاب الله بغير علم، حديث (3652) ، وأبو يعلى (3/ 90) ، رقم (1520) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 31) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب من قال في القرآن بغير علم، حديث (8086) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (1/ 35) ، وفي «شرح السنة» (1/ 211- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق سهيل أخو حزم، عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم.

أبو عيسى: هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شدّدوا في هذا في أنّ يفسر القرآن بغير علم. وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن، فليبس الظّنّ بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم، وقد روي عنهم ما يدلّ على ما قلنا: إنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم حدثنا الحسين بن مهديّ البصريّ «1» ، حدثنا عبد الرّزّاق «2» عن معمر «3» عن قتادة قال: ما في القرآن آية، إلا وقد سمعت فيها بشيء وحدثنا ابن أبي عمر «4» ، حدثنا سفيان بن عيينة «5» عن

_ (1) الحسين بن مهدي الأبلي- بالضم- أبو سعيد البصري. عن عبد الرزاق وعبيد الله بن موسى. وعنه الترمذي وابن ماجه قال أبو حاتم: صدوق. مات سنة سبع وأربعين ومائتين. ينظر: «الخلاصة» (1/ 232) ، «تهذيب الكمال» (1/ 295) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 372) ، «تقريب التهذيب» (1/ 180) . (2) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، أبو بكر الصنعاني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ. قال أحمد: من سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع. وقال ابن عدي: رحل إليه أئمة المسلمين وثقاتهم، ولم نر بحديثه بأسا، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع. وقال أحمد: لم أسمع منه شيئا، لكنه رجل يعجبه أخبار الناس. مات سنة (211) هـ. عن 85 سنة. ينظر: «تاريخ البخاري الكبير» (6/ 130) ، «الجرح والتعديل» (6/ 204) ، «ميزان الاعتدال» (2/ 609) ، «لسان الميزان» (7/ 287) ، «سير الأعلام» (9/ 563) ، «الثقات» (8/ 412) ، «تهذيب الكمال» (2/ 829) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 310) ، «خلاصة التهذيب» (2/ 161) ، «البداية والنهاية» (10/ 265) . (3) معمر بن راشد الأزدي، مولى مولاهم، عبد السلام بن عبد القدوس، أبو عروة البصري ثم اليماني، أحد الأعلام. عن الزهري، وهمام بن منبه، وقتادة، وخلق. وعنه: أيوب، والثوري، وابن المبارك، وخلق. قال العجلي: ثقة صالح. قال النسائي: ثقة مأمون. وضعفه ابن معين في ثابت. توفي سنة (153) هـ. ينظر: «نسيم الرياض» (1/ 74) ، «تراجم الأحبار» (3/ 255) ، «تذكرة الحفاظ» (1/ 178) ، «طبقات ابن سعد» (3/ 397) ، «تاريخ الإسلام» (6/ 394) ، «لسان الميزان» (7/ 394) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1355) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 243) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (3/ 47) ، «الكاشف» (3/ 164) . (4) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، أبو عبد الله الحافظ، نزيل مكة. عن فضيل بن عياض، وأبي معاوية وخلق. وعنه مسلم، والترمذي وابن ماجة وهلال بن العلاء. وثقه ابن حبان. وقال أبو حاتم: صدوق، حدث بحديث موضوع. عن ابن عيينة. قال البخاري: مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 468) ، «الكاشف» (3/ 107) ، «تهذيب التهذيب» (9/ 518) . (5) سفيان بن عيينة بن أبي عمر بن الهلالي، مولاهم أبو محمد الأعور الكوفي، أحد أئمة الإسلام. روى عن عمرو بن دينار والزّهري، وزيد بن أسلم وغيرهم، كان حديثه نحو سبعة آلاف. قال ابن وهب: ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة. وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، ولد سنة (107) هـ، وتوفي سنة (198) هـ.

الأعمش «1» ، قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود، لم أحتج إلى أن أسأل ابن عبّاس عن كثير من القرآن مما سألت. انتهى ما نقلته من الترمذي «2» . ثم قال ع «3» : فأما صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم، فعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو تجرد للأمر وكمّله وتتبّعه العلماء عليه كمجاهد، وسعيد بن جبير «4» ، وغيرهما، والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن عليّ بن أبي طالب، وقال ابن عبّاس: ما أخذت من تفسير القرآن، فعن علي بن أبي طالب، وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عبّاس، ويحضّ على الأخذ عنه، وكان عبد الله بن مسعود يقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ، فقّهه في الدّين، وعلّمه التّأويل» «5» ، وحسبك بهذه

_ ينظر: «الخلاصة» (1/ 397) ، (2590) ، «الحلية» (7/ 270- 318) ، و «المعارف» ص (506- 507) ، «الوفيات» (2/ 391- 393) . (1) سليمان بن مهران الكاهلي، مولاهم، أبو محمد الكوفي الأعمش، أحد الأعلام الحفاظ والقراء. قال ابن المديني: له نحو ألف وثلاثمائة حديث. وقال ابن عيينة: كان أقرأهم وأحفظهم وأعلمهم. وقال عمرو بن علي: كان يسمى «المصحف» لصدقه. وقال العجلي، ثقة ثبت، يقال: ظهر له أربعة آلاف حديث، ولم يكن له كتاب، وكان فصيحا وقال النسائي: ثقة ثبت. وعدّه من المدلّسين. قال أبو نعيم: مات سنة ثمان وأربعين ومائة، عن أربع وثمانين سنة. ينظر: «الثقات» (4/ 302) ، «تهذيب التهذيب» (4/ 222) ، «تقريب التهذيب» (1/ 331) ، «تاريخ البخاري الكبير» (4/ 37) ، «الجرح والتعديل» (4/ 63) ، «سير الأعلام» (5/ 226) . (2) ينظر: «سنن الترمذي» (5/ 200) ، كتاب «التفسير» . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 41) . (4) سعيد بن جبير الوالبي، مولاهم الكوفي الفقيه، أحد الأعلام. قال اللالكائي: ثقة إمام حجة. قال عبد الملك بن أبي سليمان: كان يختم كل ليلتين. قال ميمون بن مهران: مات سعيد وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. قتل سنة خمس وتسعين كهلا قتله الحجاج فما أمهل بعده. قال خلف بن خليفة عن أبيه: شهدت مقتل ابن جبير فلما بان الرأس قال: لا إله إلا الله لا إله إلا الله، فلما قالها الثالثة لم يتمها- رضي الله عنه. ينظر: «تهذيب الكمال» (1/ 479) ، «تهذيب التهذيب» (4/ 11) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (1/ 374) ، «الكاشف» (1/ 356) ، «الثقات» (4/ 275) ، «تاريخ البخاري الكبير» (3/ 461) ، «الحلية» (4/ 272) . (5) أخرجه البخاري (1/ 294) ، كتاب «الوضوء» ، باب وضع الماء عند الخلاء، حديث (143) ، ومسلم (4/ 1927) ، كتاب «فضائل الصحابة» ، باب فضائل عبد الله بن عباس، حديث (138/ 2477) ، وأحمد (1/ 327) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 51- 52) ، كتاب «المناقب» ، باب عبد الله بن العباس، حديث (8177) ، وأبو يعلى (4/ 427) ، رقم (2553) ، وابن حبان (15/ 529) ، رقم (7053) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 104) ، رقم (11204) ، كلهم من طريق هاشم بن القاسم: ثنا

الدعوات، ويتلوه عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب «1» ، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاصي. وكل ما أخذ عن الصحابة، فحسن متقدّم، ومن المبرّزين في التابعين الحسن بن أبي

_ ورقاء بن عمر اليشكري، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس به. وأخرجه البخاري (1/ 204) ، كتاب «العلم» ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم علمه الكتاب» ، حديث (75) ، و (7/ 126) كتاب «فضائل الصحابة» ، باب ذكر ابن عباس (رضي الله عنهما) حديث (3756) ، و (13/ 259) ، كتاب «الاعتصام» ، حديث (7270) ، والترمذي (5/ 680) ، كتاب «المناقب» ، باب مناقب عبد الله بن عباس، حديث (3824) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 52) ، كتاب «المناقب» ، حديث (8179) ، وابن ماجة (1/ 58) ، المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث (166) ، وأحمد (1/ 214، 359) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 518) ، وابن حبان (15/ 530) ، رقم (7054) ، والطبراني في «الكبير» (10/ 293) ، رقم (10588) ، كلهم من طريق خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه أحمد (1/ 269) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 213) ، رقم (11531) ، كلاهما من طريق سليمان بن بلال، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وأخرجه أحمد (1/ 266، 314، 328، 335) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 493- 494) ، وابن حبان (15/ 531) ، رقم (7055) ، والطبراني في الكبير (10587، 10614) ، كلهم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وأخرجه الترمذي (5/ 679- 680) ، كتاب «المناقب» ، باب مناقب عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) ، حديث (3823) ، من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الحكمة مرتين. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عطاء، وقد رواه عكرمة، عن ابن عباس. [.....] (1) هو: أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. أبو المنذر، أبو الطفيل سيد القراء، سيد المسلمين، الأنصاري، النجاري، الخزرجي، المعاوي. كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرا والمشاهد. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ليهنئك العلم يا أبا المنذر» وقال له: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك» . وكان عمر (رضي الله عنه) يسميه: سيد المسلمين. وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأول من كتب في آخر الكتاب: وكتبه فلان بن فلان. روى عنه من الصحابة: عمر، وكان يسأله عن النوازل، ويتحاكم إليه في المعضلات- وأبو أيوب، وعبادة بن الصامت، وسهل بن سعد، وأبو موسى، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وسليمان بن صرد وغيرهم. مات سنة: 22 في خلافة عمر، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان. تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (ت 33) ، «الإصابة» (1/ 16) ، «الثقات» (3/ 5) ، «تقريب التهذيب» (1/ 48) ، «تاريخ ابن معين» (1564) ، «سير أعلام النبلاء» (1/ 389) .

الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعلقمة «1» ، وقد قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهّم ووقوف عند كل آية، ويتلوهم عكرمة «2» ، والضّحّاك بن مزاحم «3» ، وإن كان لم يلق ابن عباس، وإنما أخذ عن ابن جبير، وأما السّدّي «4» - رحمه الله تعالى- فكان عامر الشعبيّ يطعن عليه، وعلى أبي صالح «5» لأنه كان يراهما مقصّرين في النظر، ثم حمل تفسير كتاب الله عزّ وجلّ عدول كلّ خلف، وألّف الناس فيه كعبد الرّزّاق، والمفضّل، وعلي بن أبي طلحة، والبخاري، وغيرهم، ثم إنّ محمد بن جرير الطبريّ- رحمه الله-

_ (1) علقمة بن قيس بن عبد الله بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النّخع النّخعي، أبو شبل الكوفي، أحد الأعلام، مخضرم عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وطائفة. وعنه إبراهيم النّخعي، والشّعبي، وسلمة بن كهيل وخلق. قال إبراهيم: كان يقرأ في خمس. وقال ابن المديني: أعلم الناس بابن مسعود علقمة والأسود. قال ابن سعد: مات سنة اثنتين وستين وقال أبو نعيم: سنة إحدى وستين. قيل: عن تسعين سنة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 241) ، «تهذيب التهذيب» (7/ 275) ، «تقريب التهذيب» (2/ 30) ، «الكاشف» (2/ 277) ، «طبقات ابن سعد» (7/ 34، 209) ، (2) عكرمة البريري، مولى ابن العباس، أبو عبد الله، أحد الأئمة الأعلام. روى عن مولاه، وعائشة، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة. قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة، رموه بغير نوع من البدعة. ثقة بريء مما يرميه الناس به. وثّقه أحمد والنسائي. توفي سنة 105 هـ. ينظر: «الخلاصة» (2/ 240) (4928) ، «ابن سعد» (5/ 212- 216) ، «الوفيات» (3/ 265- 266) و «الدوادي» (1/ 380- 381) . (3) الضحاك بن مزاحم الهلالي، مولاهم الخرساني، يكنى أبا القاسم. روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي سعيد، وغيرهم، وروى عنه عبد الرحمن بن عوسجة وغيره. قال ابن حبّان: في جميع ما روى نظر، إنما اشتهر بالتفسير. توفي سنة 105 هـ. ينظر: «الخلاصة» (2/ 5) (3146) ، «ابن سعد» (6/ 210- 211) ، «صفة الصفوة» (4/ 150) ، «المعارف» ص (457- 458) . (4) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي مولى قريش، أبو محمد الكوفي، رمي بالتشيع. عن أنس، وابن عباس، وباذان. وعنه أسباط بن نصر، وإسرائيل، والحسن بن صالح. قال ابن عدي: مستقيم الحديث صدوق. قال خليفة: توفي سنة سبع وعشرين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 90) ، «تهذيب التهذيب» (1/ 313) ، «تقريب التهذيب» (1/ 71، 72) ، «الكاشف» (1/ 125) ، «الثقات» (4/ 20) ، «ميزان الاعتدال» (1/ 236) . (5) ذكوان المدني، أبو صالح السّمّان، روى عن سعد، وأبي الدّرداء، وعائشة، وأبي هريرة، وخلق. وروى عنه بنوه سهيل، وعبد الله، وصالح، وعطاء بن أبي رباح، وسمع منه الأعمش ألف حديث. قال أحمد: ثقة ثقة، شهد الدّار. قال محمد بن عمر الواقدي: توفي سنة 101 هـ. ينظر: «الخلاصة» (1/ 311) (1973) ، «ابن سعد» (5/ 222 و 6/ 158) و «تهذيب التهذيب» (3/ 219- 220) ، و «مرآة الجنان» (1/ 211) .

جمع على الناس أشتات التفسير، وقرّب البعيد وشفى في الإسناد. ومن المبرّزين في المتأخّرين أبو إسحاق الزّجّاج «1» ، وأبو عليّ الفارسيّ «2» فإن كلامهما منخول، وأما أبو بكر النّقّاش «3» ، وأبو جعفر النّحّاس «4» - رحمهما الله-، فكثيرا ما استدرك الناس عليهما، وعلى سننهما مكّيّ بن أبي طالب «5» - رحمه الله-، وأبو العباس المهدويّ «6» - رحمه الله- متقن التأليف، وكلّهم مجتهد مأجور- رحمهم الله- ونضّر وجوههم.

_ (1) هو: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، كان يخرط الزّجاج، ثم مال إلى النحو فلزم المبرد. صنف: «معاني القرآن وإعرابه» و «الاشتقاق» و «فعلت وأفعلت» وغيرها. توفي (311 هـ) . ينظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» (6/ 89) ، و «النجوم الزاهرة» (3/ 208) ، و «بغية الوعاة» (1/ 411) . (2) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي، النحوي المشهور، أخذ النحو عن أبي إسحاق الزجاج، ثم عن أبي بكر بن السري، وأخذ عنه كتاب سيبويه، وانتهت إليه رياسة علم النحو، مات الفارسي سنة 377 هـ. ينظر: «غاية النهاية» (1/ 207) ، «طبقات الزبيدي» ص 120. (3) محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون الموصلي. ولد سنة (266) هـ. وهو إمام أهل العراق في القراءات والتفسير، بلا مدافع. وقد قرأ على ابن أبي مهران، وهارون بن موسى الأخفش، وجماعة. وروى عن أبي مسلم الكجي، ومطين، وآخرين. وروى عنه الدارقطني، وابن شاهين وجماعة. ورحل وطوف من مصر إلى ماوراء النهر. وقد صنف في التفسير، وسماه «شفاء الصدور» . قال هبة الله اللالكائي: تفسير النقاش، إشقاء الصدور، ليس شفاء الصدور. توفي في شوال سنة (351) هـ. ينظر: «الأعلام» (6/ 81) ، و «وفيات الأعيان» (1/ 489) . (4) أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري، أبو جعفر النحاس: مفسر، أديب، مولده ب «مصر» ، ووفاته ب «مصر» أيضا سنة (338) هـ، كان من نظراء نفطويه، وابن الأنباري، زار «العراق» ، واجتمع بعلمائه، من مصنفاته: «تفسير القرآن» ، و «إعراب القرآن» ، و «ناسخ القرآن ومنسوخه» ، و «شرح المعلقات السبع» . ينظر: «الأعلام» (1/ 208) ، «البداية والنهاية» (11/ 222) ، «إنباه الرواة» (1/ 101) . (5) أبو محمد، مكي بن أبي طالب القيسي، النحوي المقرئ، كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية كثير التآليف. صنف: «الكشف عن وجوه القراءات» ، و «مشكل إعراب القرآن» ، و «الموجز في القراءات» وغيرها. توفي (437 هـ) . تنظر ترجمته في: «وفيات الأعيان» (5/ 274) ، و «بغية الوعاة» (2/ 298) ، و «شذرات الذهب» (3/ 260) . (6) أحمد بن عمار، أبو العباس المهدوي، أستاذ مشهور، قرأ على محمد بن سفيان، وقرأ عليه غانم بن الوليد، وموسى بن سليمان اللخمي، له: «التفسير المشهور» مات سنة 440 هـ.

فصل

فصل واختلف الناس في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه» . ثم قال ع «1» بعد كلام: والذي مال إليه كثير من أهل العلم كأبي عبيد «2» وغيره، أنّ معنى الحديث أنّه أنزل على سبع/ لغات لسبع قبائل، ثم اختلفوا في تعيينهم، وأنا ألخّص الغرض جهدي بحول الله، فأصل ذلك وقاعدته قريش، ثم بنو سعد بن بكر «3» لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرشيّ، واسترضع في بني سعد، ونشأ فيهم، ثم ترعرع وشب، وهو يخالط في اللسان كنانة وهذيلا وخزاعة وأسدا وضبّة وألفافها لقربهم من مكة، وتكرارهم عليها، ثم بعد هذه تميما وقيسا ومن انضاف إليهم وسط جزيرة العرب، فلما بعثه الله تعالى، ويسّر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة، وهي التي قسّمها على سبعة لها السبعة الأحرف، وهي اختلافاتها في العبارة، قال ثابت بن قاسم: لو قلنا: من هذه الأحرف لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبّة وألفافها «4» ، ومنها لقيس، - لكان قد أتى على قبائل مضر في مراتب سبعة تستوعب اللغات التي نزل بها القرآن، وهذا نحو ما ذكرناه، وهذه الجملة هي التي

_ ينظر: «بغية الوعاة» (1/ 351) ، ط. دار المعارف، و «غاية النهاية» (1/ 92) . (1) انظر «المحرر الوجيز» (1/ 54) . [.....] (2) القاسم بن سلام أبو عبيد البغدادي، أحد أئمة الإسلام فقها، ولغة وأدبا، أخذ العلم عن الشافعي، والقراءات عن الكسائي وغيره. قال ابن الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويصنف ثلثه. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: عرضت كتاب «الغريب» لأبي عبيد على أبي فاستحسنه، وقال: جزاه الله خيرا. توفي سنة (224) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 67) ، «طبقات ابن سعد» (7/ 355) ، و «إنباه الرواة» (3/ 12) ، و «طبقات الشافعية» للأسنوي ص 11، «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 30) ، «طبقات الفقهاء» للعبادي ص 25. (3) بنو سعد بن بكر: هم بطن من هوازن، من قيس عيلان، أصلهم من العدنانية. وهم بنو سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان. وهم أصحاب غنم، وهم حضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بعثوا سنة تسع للهجرة ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه مشهور. ومن أوديتهم: قرن الحبال، ومن مياههم: تقتد. ينظر: «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (ص 481) ، و «نهاية الأرب» للنويري (2/ 335) ، و «معجم قبائل العرب» لكحالة (513) . (4) اللفيف: القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدا. وجاءوا ألفافا، أي لفيفا. ينظر: «لسان العرب» (4054) .

انتهت إليها الفصاحة وسلمت لغاتها من الدّخل «1» ، ويسرها الله لذلك ليظهر آية نهيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز ونجد وتهامة، فلم تطرقها الأمم. فأما اليمن، وهو جنوبيّ الجزيرة، فأفسدت كلام عربه خلطة الحبشة والهنود على أنّ أبا عبيد القاسم بن سلّام، وأبا العبّاس المبرّد «2» قد ذكرا أنّ عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلغاتها. قال ع «3» : وذلك عندي إنما هو فيما استعملته عرب الحجاز من لغة اليمن كالعرم «4» والفتّاح فأما ما انفردوا به كالزّخيخ «5» والقلّوب «6» ، فليس في كتاب الله منه شيء، وأما ما والى العراق من جزيرة العرب وهي بلاد ربيعة وشرقيّ الجزيرة، فأفسدت لغتها مخالطة الفرس والنّبط ونصارى الحيرة وغير ذلك، وأما الذي يلي الشام، وهو شماليّ الجزيرة، وهي بلاد آل جفنة وغيرهم، فأفسدها مخالطة الرّوم، وكثير من بني إسرائيل، وأما غربيّ الجزيرة، فهي جبال تسكن بعضها هذيل وغيرهم، وأكثرها غير معمور، فبقيت القبائل المذكورة سليمة اللغات، لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم. ويقوى هذا المنزع أنه لما اتسع نطاق الإسلام وداخلت الأمم العرب، وتجرّد أهل المصرين البصرة، والكوفة لحفظ لسان العرب، وكتب لغتها، لم يأخذوا إلا من هذه

_ (1) الدّخل: العيب والغش والفساد. ينظر «لسان العرب» (1342) . (2) محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، أبو العباس المبرد، إمام العربية ب «بغداد» في زمانه، أخذ عن المازني، وأبي حاتم السجستاني، له كتاب «الكامل» ، و «المقتضب» ، و «إعراب القرآن» مات سنة 285 هـ. ينظر: «بغية الوعاة» (1/ 269) ، و «أخبار النحويين البصريين» - لأبي السعيد الصيرفي- ص 105 ط. الاعتصام. (3) «المحرر الوجيز» (1/ 46) . (4) قيل: العرم: اسم الوادي (يعني الذي كان به سبأ) . وقيل: اسم الخلد الذي نقب السدّ حتى فتح وسال ماؤه، فغرق ديارهم وأهلك بساتينهم. وقيل: العرم: المسنّاة. قال ابن الأعرابي: العرم والبرّ من أسماء الفأرة ... وقيل: العرم: المطر الشديد. وخصه بعضهم بالفأر الذكر، وهو الجراد أيضا. ينظر: «عمدة الحفاظ» ، للسمين الحلبي أحمد بن يوسف ت 756 هـ، (3/ 78) ، و «تفسير غريب القرآن» ، ابن قتيبة الدينوري ص 355. (5) الزّخيخ: النار، يمانية، وقيل: هي شدة بريق الجمر والحرّ والحرير لأن الحرير يبرق من الثياب. ينظر: «لسان العرب» 1820. (6) القلّيب، والقلّوب، والقلّوب، والقلوب، والقلاب: الذئب، يمانية. ينظر: «لسان العرب» 3715.

القبائل الوسيطة المذكورة، ومن كان معها، وتجنّبوا اليمن والعراق والشام، فلم يكتب عنهم حرف واحد، وكذلك تجنّبوا حواضر الحجاز مكّة، والمدينة، والطائف لأنّ السّبي والتجّار من الأمم كثروا فيها، فأفسدوا اللغة، وكانت هذه الحواضر في مدة النبيّ صلى الله عليه وسلم سليمة لقلّة المخالطة، فمعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» ، أي: فيه عبارات سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح، والأوجز في اللفظة ألا ترى أنّ: «فطر» معناها عند غير قريش ابتداء خلق الشيء وعمله، فجاءت في القرآن، فلم تتجه لابن عبّاس حتى اختصم إليه أعرابيّان في بئر، فقال أحدهما/ أنا فطرتها، قال ابن عبّاس: ففهمت حينئذ موقع قوله سبحانه: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] «1» ، وقال أيضا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي جدن تقول لزوجها: تعال، أفاتحك، أي: أحاكمك «2» ، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النحل: 47] ، فوقف به فتى، فقال: إن أبي يتخوّفني حقّي، فقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النحل: 47] أي: على تنقّص لهم «3» ، وكذلك اتفق لقطبة بن مالك «4» إذ سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر «5» إلى غير هذا من الأمثلة، فأباح الله تعالى لنبيه عليه السلام هذه الحروف

_ (1) أخرجه البيهقي في «الشعب» (2/ 258) (1682) ، وذكره السيوطي في «الدر» في سورة فاطر (5/ 458) ، وعزاه لأبي عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الشعب» . (2) أخرجه الطبري في سورة الأعراف (6/ 4) (14867) ، وذكره السيوطي في «الدر» (3/ 191) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «الوقف والابتداء» ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (3) الطبري (7/ 581) (21618) بنحوه. وذكره السيوطي في «الدر» (4/ 223) ، وعزاه لابن جرير. (4) قطبة بن مالك الثعلبي. صحابي له أحاديث. وعنه ابن أخيه زياد بن علاقة فقط. ينظر: «الخلاصة» (2/ 354) ، «تهذيب التهذيب» (8/ 389) (673) ، «تاريخ البخاري الكبير» (7/ 191) ، «الثقات» (3/ 347) ، «أسماء الصحابة الرواة» ت (226) . (5) أخرجه مسلم (2/ 414- نووي/ دار الحديث) ، كتاب «الصلاة» ، باب القراءة في الصبح، حديث (165- 167/ 457) ، والترمذي (2/ 108- 109) ، كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في القراءة في صلاة الصبح، حديث (306) ، والنسائي (2/ 157) ، كتاب «الافتتاح» ، باب القراءة في الصبح بقاف، حديث (950) ، وابن ماجه (1/ 268) ، كتاب «الصلاة» ، باب القراءة في صلاة الفجر، حديث (816) ، وأحمد. [.....]

فصل في ذكر الألفاظ التي في القرآن مما للغات العجم بها تعلق

السبعة، وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز، وجودة الرّصف «1» ، ولم تقع الإباحة في قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات، جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا، لذهب إعجاز القرآن، وكان معرّضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله، وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليوسّع بها على أمته، فقرأ مرة لأبيّ بما عارضه به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا، وفي صحيح البخاريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتّى انتهى إلى سبعة أحرف» «2» . فصل في ذكر الألفاظ الّتي في القرآن ممّا للغات العجم بها تعلّق اختلف الناس في هذه المسألة «3» ، ...

_ (4/ 322) ، والحميدي (825) ، وابن خزيمة (527، 1591) ، كلهم من طريق زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (1) الرّصف: ضم الشيء بعضه إلى بعض ونظمه. ينظر: «لسان العرب» (1656) . (2) أخرجه البخاري (8/ 639) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث (4991) ، ومسلم (1/ 561) ، كتاب «صلاة المسافرين» ، باب بيان أن القرآن على سبعة حروف، حديث (272/ 819) ، من حديث ابن عباس. (3) ذهب أكثر أهل العلم، ومنهم الإمام الشافعي، وابن جرير، وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر، وأبو الحسين بن فارس إلى عدم وقوع لفظ أعجمي في كتاب الله تعالى. واستدلوا بقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: 2] ، وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت: 44] ، وقد شدد الشافعي النكير على القائل بعكس ذلك. وقال أبو عبيدة: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن «كذا» بالنبطية فقد أكبر القول. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري- رحمه الله-: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن إنها بالفارسية والحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد. وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها. وذهب آخرون من العلماء إلى وقوعه فيه، وأجابوا عن قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيّا، والقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية، وعن قوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بأن المعنى من السياق: «أكلام أعجمي ومخاطب عربي!» كما استدلوا

فقال أبو عبيدة «1» وغيره: إنّ في كتاب الله تعالى من كلّ لغة، وذهب الطبريّ وغيره إلى أن القرآن ليس فيه لفظة إلا وهي عربية صريحة، وأن الأمثلة والحروف التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها توارد اللغتين، فتكلّمت العرب والفرس أو الحبشة بلفظ واحد وذلك مثل قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل: 6] قال ابن عبّاس: نشأ بلغة الحبشة: قام من الليل «2» ، ومنه قوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] ، قال أبو موسى الأشعريّ «3» : كفلان: ضعفان من الأجر بلسان ...

_ باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو «إبراهيم» ، و «سليمان» ، و «داود» للعلمية والعجمة. ورد هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست محل خلاف، فالكلام في غيرها موجّه بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس. وقد اختار السيوطي مذهب القائلين بالوقوع، واستدل له بما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل قال: في القرآن من كل لسان. وروي مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه. وكان في ذلك إشارة إلى أن كتاب الله حوى علوم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا للعرب. وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو. وثمة مذهب يجمع بين القولين، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، فقد قال: والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: أعجمية فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون. وللتاج السبكي نظم لهذه الكلمات الأعجمية، وقد زاد عليه كل من الحافظ ابن حجر والسيوطي. ينظر: «الإتقان في علوم القرآن» (2/ 125- 129) ، و «التحبير في علم التفسير» (200- 202) ، وكلاهما للحافظ السيوطي. (1) معمر بن المثنى التيمي البصري، أبو عبيدة النحوي: من أئمة العلم بالأدب واللغة، ولد في 110 هـ. قال الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه، كان إباضيا شعوبيا، من حفاظ الحديث، لما مات لم يحضر جنازته أحد، لشدة نقده معاصريه توفي 209 هـ، له مؤلفات منها: «مجاز القرآن» ، «الشوارد» ، «الزرع» . ينظر: «وفيات» (2/ 105) ، «المشرق» (15/ 600) ، «تذكرة الحفاظ» (1/ 338) ، «بغية الوعاة» (395) ، «السيرافي» (67) ، «الأعلام» (7/ 272) . (2) ينظر: «الطبري» (1/ 31) (2) ، والبيهقي في «سننه» (3/ 20) ، وذكره السيوطي في «الدر» (6/ 443) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن نصر، وابن المنذر، والبيهقي في «سننه» . (3) هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حصار بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عذب بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر.. أبو موسى الأشعري. صحابي مشهور، كان حسن الصوت.

باب تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية

الحبشة «1» ، وكذلك قال ابن عبّاس في القسورة: إنّه الأسد بلغة الحبشة «2» ، إلى غير هذا من الأمثلة. قال ع «3» : والذي أقوله إنّ القاعدة والعقيدة هي أنّ القرآن بلسان عربيّ مبين، وليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب، فلا تفهمها إلا من لسان آخر، فأما هذه الألفاظ وما جرى مجراها، فإنه قد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وسفر إلى الشام وأرض الحبشة، فعلقت العرب بهذا كلّه ألفاظا أعجمية، غيّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربيّ الصحيح الصريح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحدّ نزل بها القرآن، فإن جهلها عربيّ ما، فكجهله الصريح مما في لغة غيره كما لم يعرف ابن عبّاس معنى «فاطر» إلى غير ذلك، فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب، وعرّبتها، فهي عربية بهذا الوجه، وما ذهب إليه الطبريّ من أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة، فذلك بعيد، بل إحداهما أصل، والأخرى فرع في الأكثر لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذّا. باب تفسير أسماء القرآن وذكر السّورة والآية هو القرآن، وهو الكتاب، وهو الفرقان، وهو الذّكر، فالقرآن: مصدر من قولك: قرأ الرّجل، إذا تلا، يقرأ قرآنا وقراءة. / وقال قتادة: القرآن: معناه التأليف، قرأ الرجل إذا جمع وألّف قولا، وبهذا فسر قتادة قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 17] أي: تأليفه «4» ، والقول الأول

_ بالقرآن، وله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة توفي سنة 42 أو 44 وله نيف وستين سنة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 306) ، «الإصابة» (4/ 119) ، «الاستيعاب» (4/ 1762) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 206) ، «الأنساب» (1/ 266) ، «الكنى والأسماء» (1/ 57) ، «تذكرة الحفاظ» (1/ 23) . (1) ينظر: الطبري (1/ 31) (1) ، وقد ذكره السيوطي في «الدر» (6/ 261) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (1/ 31) (4) ، وذكره السيوطي في «الدر» (6/ 461) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 51) . (4) أخرجه الطبري (1/ 68) (119) ، وذكره السيوطي في «الدر» (6/ 468) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.

أقوى أن القرآن مصدر من قرأ إذا تلا، ومنه قول حسّان بن ثابت «1» يرثي عثمان بن عفّان «2» رضي الله عنه: [البسيط] ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا «3» أي: وقراءة. وأما الكتاب، فهو مصدر من كتب، إذا جمع ومنه قيل: كتيبة لاجتماعها ومنه قول الشاعر: [البسيط] ............... ..... ... ... واكتبها بأسيار «4»

_ (1) هو: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار.. أبو الوليد، وأبو المضرب، وأبو الحسام، وأبو عبد الرحمن الأنصاري. الخزرجي. النجاري. شاعر النبي صلى الله عليه وسلم. وهو صحابي شهير، وقد جاء في الصحيحين عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم» أو «هاجهم، وجبريل معك» . وفاته: قيل: توفي قبل الأربعين وقيل غير ذلك. ينظر ترجمته في: «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 129) ، «الاستيعاب» (1/ 341) ، «أسد الغابة» (2/ 5) ، «الإصابة» (2/ 8) ، «الثقات» (3/ 71) ، «تقريب التهذيب» (1/ 161) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 247) ، «تهذيب الكمال» (1/ 248) ، «الجرح والتعديل» (3/ 1026) ، «شذرات الذهب» (1/ 41) . [.....] (2) هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. أبو عبد الله وأبو عمرو. القرشي. الأموي. ذو النورين. أمير المؤمنين. ولد بعد عام الفيل بست سنين. وهو ثالث الخلفاء الراشدين ومجهز جيش العسرة، وهو الذي تستحي منه ملائكة الرحمن، وهو المقتول ظلما، غني عن التعريف، كتبت في سيرته الكتب، وتغير وجه التاريخ بمقتله، والله سبحانه نسأل العودة إلى أصل الإسلام الصافي قبل الممات بفضله آمين. توفي يوم 22 ذي الحجة سنة 35 وقيل: غير ذلك. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 584) ، «الإصابة» (4/ 223) ، «الزهد» لوكيع (521) ، «التبصرة والتذكرة» (1/ 131) ، «التعديل والتجريح» (1043) ، «بقي بن مخلد» (28) . (3) وهو في «ديوانه» ص 216، و «لسان العرب» (عنن) ، و (ضحا) ، و «الدر المصون» (1/ 466) ، والذهبي في «التاريخ» كما في «خزانة الأدب» (9/ 418) ، ونسبه البغدادي لأوس بن مغراء، وكذلك في المقاصد النحوية (4/ 17) ، ولكثير بن عبد الله النهشلي في «الدرر» (5/ 214) ، وبلا نسبة في «إصلاح المنطق» ص 290. وللبيت رواية أخرى لصدره، وهي: هذا سراقة للقرآن يدرسه. وقوله: «ضحّوا» ... البيت أي: ذبحوه كالأضحية وذلك أنهم قتلوه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة. والشّمط: بياض الشعر من الرأس يخالط سواده. وكأنه قال: بأشمط ظاهر الخير. (4) هذا جزء من عجز بيت، وهو: لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على بعيرك............

أي: اجمعها. وأما الفرقان، فهو أيضا مصدر لأنه فرق بين الحقّ والباطل، والمؤمن والكافر فرقانا وفرقانا. وأما الذّكر فسمي بذلك لأنه ذكر به الناس آخرتهم وإلاههم، وما كانوا في غفلة عنه، فهو ذكر لهم، وقيل: سمي بذلك، لأن فيه ذكر الأمم الماضية، والأنبياء، وقيل: سمي بذلك لأنه ذكر وشرف لمحمّد صلى الله عليه وسلم وقومه وسائر العلماء به. وأما السّورة، فإن قريشا كلّها ومن جاورها من قبائل العرب كهذيل، وسعد بن بكر، وكنانة يقولون: سورة بغير همز، وتميم كلها وغيرهم يهمزون. فأما من همز، فهي عنده كالبقيّة من الشيء، والقطعة منه التي هي سؤر وسؤرة من أسأر، إذا أبقى ومنه سؤر الشراب. وأما من لا يهمز، فمنهم من يراها من المعنى المتقدّم إلا أنها سهلت همزتها، ومنهم من يراها مشبهة بسورة البناء، أي: القطعة منه لأن كل بناء فإنما بني قطعة بعد قطعة، فكل قطعة منها سورة، فكان سور القرآن هي قطعة بعد قطعة حتى كمل منها القرآن، ويقال أيضا للرتبة الرفيعة من المجد والملك: سورة ومنه قول النابغة الذبيانيّ «1» للنعمان بن المنذر «2» [الطويل] :

_ والبيت منسوب لسالم بن دارة الفزاري في «الكامل» (988) ، و «خزانة الأدب» (5/ 531) ، وفيها «على قلوصك» ، «شرح ديوان الحماسة» للتبريزي (1/ 205) ، وبلا نسبة في «اللسان» (كتب) ، و «تاج العروس» (4/ 103) . وللبيت رواية أخرى كما في «شرح ديوان الحماسة» ، وهي: وإن خلوت به في الأرض وحدكما ... فاحفظ قلوصك واكتبها بأسيار وقصة البيت أن بني فزارة كانت ترمى بغشيان الإبل، فهجاهم سالم بقصيدة مطلعها: يا صاحبيّ ألمّا بي على الدار ... بين الهشوم وشطي ذات أمّار. (1) زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني، الغطفاني المضري أبو أمامة، شاعر جاهلي. وكان الأعشى وحسان والخنساء ممن يعرض شعره على النابغة، كان أحسن شعراء العرب ديباجة، عاش عمرا طويلا. توفي في (18) ق هـ. ينظر: «شرح شواهد المغني» (29) ، «معاهد التنصيص» (1/ 233) ، «الأغاني» (11/ 3) ، و «جمهرة» (52426) ، و «نهاية الأرب» (3/ 59) ، و «الشعر والشعراء» (38) ، «الأعلام» (3/ 54) . (2) النعمان الثالث بن المنذر الرابع بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي، أبو قابوس، من أشهر ملوك «الحيرة» في الجاهلية. كان داهية مقداما. وهو ممدوح النابغة الذبياني، وحسان بن ثابت، وحاتم الطائي. وهو صاحب إيفاد العرب على كسرى، وباني مدينة «النعمانية» على ضفة دجلة اليمنى، وصاحب يومي البؤس والنعيم. توفي سنة (15) قبل الهجرة.

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب «1» فكأن الرتبة انبنت حتى كملت. وأما الآية، فهي العلامة في كلام العرب، ولما كانت الجملة التامة من القرآن علامة على صدق الآتي بها، وعلى عجز المتحدّى بها، سميت آية، هذا قول بعضهم، وقيل: سميت آية لما كانت جملة وجماعة كلام كما تقول العرب: جئنا بآيتنا، أي: بجماعتنا، وقيل: لما كانت علامة للفصل بين ما قبلها وما بعدها، سمّيت آية. ت: وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب ... » الحديث «2» ، و «آية الإيمان حبّ الأنصار «3» ، وآية ما بيننا وبين المنافقين شهود العشاء» يقوّي القول الأول، والله أعلم، وهذا هو الراجح في مختصر الطبريّ، قال: والآية العلامة، وذلك أظهر في العربية والقرآن، وأصحّ القول أن آيات القرآن علامات للإيمان، وطاعة الله تعالى، ودلالات على وحدانيته وإرسال رسله، وعلى البعث والنشور، وأمور الآخرة، وغير ذلك ممّا تضمّنته علوم القرآن. انتهى.

_ انظر: «حمزة الأصفهاني» (73- 74) ، «الصحاح» (2/ 340) ، «ابن خلدون» (2/ 265) ، «الأعلام» (8/ 43) . (1) البيت في ديوانه (28) ، «ديوان المعاني» (1/ 16) ، و «المصون» (154) ، و «البحر المحيط» (1/ 242) ، و «تفسير القرطبي» (1/ 65) ، و «الدر المصون» (1/ 153) ، «اللسان» (سور) (3/ 2148) . والمعنى: أعطاك رفعة وشرفا ومنزلة، وجمعها (سور) ، أي: رفع. (2) أخرجه البخاري (1/ 111) ، كتاب «الإيمان» ، باب علامة المنافق، حديث (33) ، و (5/ 341- 342) ، كتاب «الشهادات» ، باب من أمر بإنجاز الوعد، حديث (2682) ، (5/ 441) ، كتاب «الأدب» ، باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، حديث (6095) ، ومسلم (1/ 78) ، كتاب «الإيمان» ، باب بيان خصال المنافق، حديث (95/ 107) ، والترمذي (5/ 19) ، كتاب «الإيمان» ، باب ما جاء في علامة المنافق، حديث (2631) ، والنسائي (8/ 117) ، كتاب «الإيمان» ، باب علامة المنافق، وأحمد (2/ 357، 397، 536) ، وأبو عوانة (1/ 20، 21) ، وأبو يعلى (11/ 406) ، رقم (6533) ، وابن الجوزي في «مشيخته» (ص 59) من طرق، عن أبي هريرة به. (3) أخرجه البخاري (7/ 141) ، كتاب «مناقب الأنصار» ، باب حب الأنصار من الإيمان، حديث (3784) ، ومسلم (1/ 85) ، كتاب «الإيمان» ، باب الدليل على أن حب الأنصار من الإيمان، حديث (74/ 128) ، والنسائي (8/ 116) ، كتاب «الإيمان» : باب علامة الإيمان، وأبو يعلى (7/ 190- 191) ، رقم (4175) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 240- بتحقيقنا) ، من حديث أنس مرفوعا.

باب في الاستعاذة

باب في الاستعاذة قال الله عزّ وجلّ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] معناه: إذا أردت أن تقرأ، فأوقع الماضي موقع المستقبل لثبوته، وأجمع العلماء على أنّ قول القارئ: أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ليس بآية من كتاب الله، وأجمعوا على استحسان ذلك، والتزامه عند كل قراءة في غير صلاة. واختلفوا في التعوّذ في الصلاة فابن سيرين «1» والنّخعيّ «2» وقوم يتعوّذون في كل ركعة، ويمتثلون أمر الله سبحانه بالاستعاذة على العموم في كل قراءة، وأبو حنيفة «3»

_ (1) محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر البصري، إمام وقته. عن مولاه أنس، وزيد بن ثابت، وعمران بن حصين، وأبي هريرة، وعائشة، وطائفة من كبار التابعين. وعنه الشعبي، وثابت، وقتادة، وأيوب، ومالك بن دينار، وسليمان التّيمي، وخالد الحذّاء، والأوزاعي وخلق كثير. قال أحمد: لم يسمع من ابن عباس. وقال خالد الحذّاء: كل شيء يقول يثبت عن ابن عباس إنما سمعه من عكرمة أيام المختار. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا، عاليا، رفيعا، فقيها، إماما، كثير العلم. وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين في السوق فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى. وقال بكر المزني: والله ما أدركنا من هو أورع منه. وروي أنه اشترى بيتا، فأشرف فيه على ثمانين ألف دينار، فعرض في قلبه منه شيء فتركه. قال حماد بن زيد: مات سنة عشر ومائة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 412) ، «تهذيب التهذيب» (9/ 214) ، «الكاشف» (3/ 51) ، «تاريخ البخاري الكبير» (1/ 90) ، «الوافي بالوفيات» (3/ 146) . (2) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه يرسل كثيرا عن علقمة، وهمام بن الحارث، والأسود بن يزيد، وأبي عبيدة بن عبد الله، ومسروق، وخلق. وعنه الحكم، ومنصور، والأعمش، وابن عون، وزبيد وخلق. وكان لا يتكلم إلا إذا سئل. قال مغيرة: كنا نهاب إبراهيم كما يهاب الأمير. وقال الأعمش. كان إبراهيم يتوقى الشهرة، ولا يجلس إلى الأسطوانة. وقيل: إنه لم يسمع من عائشة. قال أبو نعيم: مات سنة ست وتسعين. وقال عمرو بن عليّ: سنة خمس آخر السنة. وولد سنة خمسين، وقيل سنة سبع وأربعين. ينظر: «الخلاصة» (1/ 59، 60) ، «تاريخ البخاري الكبير» (1/ 335) ، «الجرح والتعديل» (2/ 146) ، «الثقات» (6/ 25) ، «لسان الميزان» (1/ 126) . (3) النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، الكوفي، أبو حنيفة: إمام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. قيل: أصله من أبناء فارس. ولد ونشأ بالكوفة. كان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه. ثم انقطع للتدريس والإفتاء، وامتنع عن القضاء ورعا، كان قوي الحجة، ومن أحسن الناس منطقا، كريما في أخلاقه. وقال الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة، ولد سنة (80) هـ، وتوفي سنة (150) هـ. انظر: «تاريخ بغداد» (13/ 323) ، «النجوم الزاهرة» (2/ 12) ، «الأعلام» (8/ 36) .

والشافعيّ «1» يتعوّذان/ في الركعة الأولى من الصلاة، ويريان قراءة الصلاة كلّها كقراءة واحدة، ومالك- رحمه الله- لا يرى التعوّذ في الصلاة المفروضة، ويراه في قيام رمضان، ولم يحفظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه تعوّذ في صلاة. وأما لفظ الاستعاذة، فالذي عليه جمهور الناس هو لفظ كتاب الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، وأما المقرءون، فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله، وفي الجهة الأخرى كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد من الشّيطان المريد، ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقول: إنه لا يجوز، ومعنى الاستعاذة الاستجارة والتحيّز إلى الشيء على وجه الامتناع به من المكروه. وأما الشيطان، فاختلف في اشتقاقه «2» ، فقال الحذّاق: هو فيعال من شطن، إذا بعد

_ (1) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم. وشافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، وأسلم أبوه السائب يوم «بدر» فإنه كان صاحب راية بني هاشم، وكانت ولادة الشافعي بقرية من الشام يقال لها «غزة» . قاله ابن خلكان وابن عبد البر. وقال صاحب التنقيب: ب «منى» من مكة، وقال ابن بكار: ب «عسقلان» ، وقال الزوزني: ب «اليمن» ، والأول أشهر، وكان ذلك في سنة خمسين ومائة، وهي السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة (رحمه الله) حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثم سلمه أبوه للتفقه إلى مسلم بن خالد مفتي مكة، فأذن له في الإفتاء. وهو ابن خمسة عشر سنة، فرحل إلى الإمام مالك بن أنس ب «المدينة» ، فلازمه حتى توفي مالك (رحمه الله) ثم قدم «بغداد» سنة خمسة وتسعين ومائة، وأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها، وأخذوا عنه العلم ثم خرج إلى «مكة» حاجا، ثم عاد إلى «بغداد» سنة ثمان وتسعين ومائة، فأقام بها شهرين أو أقل، فلما قتل الإمام موسى الكاظم خرج إلى «مصر» ، فلم يزل بها ناشرا للعلم، وصنف بها الكتب الجديدة، وانتقل إلى رحمة الله (تعالى) يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بالقرافة بعد العصر في يومه. ينظر: «ابن هداية الله» ص 11، «سير أعلام النبلاء» (10/ 1) ، «التاريخ الكبير» (1/ 42) ، «طبقات الحفاظ» (ص 152) ، «تذكرة الحفاظ» (1/ 361) . [.....] (2) اختلف أهل العربية في اشتقاق «الشيطان» ، فقال جمهورهم: هو مشتق من «شطن يشطن» أي: بعد لأنه بعيد من رحمة الله تعالى، وأنشدوا: [الوافر] نأت بسعاد عنك نوى شطوف ... فبانت والفؤاد بها رهين وقال أمية بن أبي الصلت: [الخفيف] أيّما شاطن عصاه عكاه ... ثمّ يلقى في السّجن والأكبال وحكى شيخ النحاة سيبويه: «تشيطن» أي فعل فعل الشياطين، فهذا كله يدل على أنه من شطن لثبوت النون وسقوط الألف في تصاريف الكلمة، ووزنه على هذا «فيعال» . وقيل: هو مشتق من «شاط يشيط» أي: هاج واحترق. ولا شك أن هذا المعنى موجود فيه، فأخذوا.

تفسير فاتحة الكتاب

لأنه بعد عن الخير والرحمة، وأما الرجيم، فهو فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح، ومعناه: أنه رجم باللعنة والمقت وعدم الرحمة. تفسير فاتحة الكتاب بحول الله تعالى وقوّته [سورة الفاتحة (1) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) باب في تفسير: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ روي أن رجلا قال بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تعس الشّيطان» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك فإنّه يتعاظم عنده ولكن قل: بسم الله الرّحمن الرّحيم، فإنّه يصغر حتّى يصير أقلّ من الذّباب» «1» ، والبسملة تسعة عشر حرفا، قال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أنّ ملائكة النار الذين قال الله فيهم: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] إنما ترتب عددهم على حروف: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لكلّ حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فمن هناك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا «2» . قال ع «3» : وهذا من ملح التفسير، وليس من متين العلم. ت: ولا يخفى عليك لين ما بلغ هؤلاء، ولقد أغنى الله تعالى بصحيح

_ - بذلك أنه مشتق من هذه المادة، لكن لم يسمع من تصاريفه إلا ثابت النون محذوف الألف، كما تقدم. ووزنه على هذا «فعلان» . ويترتب على القولين: صرفه وعدم صرفه إذا سمى به، وأما إذا لم يسم به فإنه منصرف البتة لأن من شرط امتناع فعلان الصفة ألا يؤنث بالتاء، وهذا يؤنث بها، قالوا: شيطانة. ينظر: «الدر المصون» ، للسمين الحلبي (1/ 48- 49) . بتصرف. (1) أخرجه أبو داود (2/ 714) ، كتاب «الأدب» ، باب (77) ، حديث (4982) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 142) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا عثرت دابته، حديث (10388) ، كلاهما من طريق خالد الحذاء، عن أبي تميمة، عن أبي المليح، عن رجل قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرجه الحاكم (4/ 292) من طريق يزيد بن زريع: ثنا خالد الحذاء، عن أبي تميمة، عن رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ورديف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يسمه يزيد بن زريع، عن خالد سماه غيره أسامة بن مالك والد أبي المليح بن أسامة. ووافقه الذهبي، وزاد: «ورواه محمد بن حمدان، عن خالد، عن أبي تميمة، عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه. اه. والطريق الذي أشار إليه الذهبي: أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 142) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا عثرت به دابته، حديث (10389) ، من طريق أحمد بن عبدة، عن محمد بن حمدان به. وأخرجه أحمد (5/ 59) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 401- بتحقيقنا) ، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم الأحول، عن أبي تميمة الهجيمي، عمن كان رديفه. (2) الضّلاعة: القوة وشدة الأضلاع، والضليع: العظيم الخلق الشديد، يقال: ضليع بيّن الضّلاعة. ينظر: «لسان العرب» (2599) . (3) «المحرر الوجيز» (1/ 61) .

الأحاديث وحسنها عن موضوعات الورّاقين، فجزى الله نقاد الأمة عنا خيرا. وما جاء من الأثر عن جابر وأبي هريرة مما يقتضي بظاهره أن البسملة آية من الفاتحة يرده صحيح الأحاديث كحديث أنس، وأبي بن كعب، وحديث: «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي» «1» ونحوها، ولم يحفظ قطّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء بعده أنهم يبسملون في الصلاة «2» .

_ (1) أخرجه مالك (1/ 84) ، كتاب «الصلاة» ، باب القراءة خلف الإمام، الحديث (39) ، وأحمد (2/ 285) ، ومسلم (1/ 297) ، كتاب «الصلاة» ، باب وجوب قراءة الفاتحة، الحديث (39 و 40) ، وأبو داود (1/ 512- 513- 514) ، كتاب «الصلاة» ، باب من ترك قراءة الفاتحة، الحديث (821) ، والترمذي (2/ 25) ، كتاب «الصلاة» ، باب لا صلاة إلا بالفاتحة، الحديث (247) ، والنسائي (2/ 135- 136) ، كتاب «الصلاة» ، باب ترك قراءة البسملة في الفاتحة، والبخاري في «جزء القراءة» (ص 4) ، وابن ماجة (2/ 1243) ، كتاب «الأدب» ، باب ثواب القرآن، حديث (3784) ، والدارقطني (1/ 312) وابن خزيمة (1/ 253) ، والبيهقي (2/ 39) عن أبي هريرة. ولفظ مالك عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام» قال: فقلت: يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام، قال: فغمز ذراعي، ثم قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرءوا، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله تعالى: حمدني عبدي» الحديث. (2) ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم إلى ترك الجهر بالتسمية، بل يسرّ بها، منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، وهو قول إبراهيم النّخعي، وبه قال مالك، والثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وذهب قوم إلى أنه يجهر بالتسمية للفاتحة والسورة جميعا، وبه قال من الصحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو الزبير، وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإليه ذهب الشافعي. وروى في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر يبدءون وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة ب «الحمد لله رب العالمين» معناه: أنهم كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه: أنهم كانوا لا يقرءون «بسم الله الرحمن الرحيم» . وكان الشافعي يرى أن يبدأ «ببسم الله الرحمن الرحيم» وأن يجهر بها إذا جهر بالقراءة. قال العلامة أحمد شاكر: ومن فقه أبي عيسى الترمذي أن عقد الخلاف في البابين (180، 181) بين الجهر بالبسملة وترك الجهر بها، ولم يعقد بين أصل قراءتها وتركها. أما أئمة القراءات، فإنهم جميعا اتفقوا على قراءة البسملة في ابتداء قراءة كل سورة، سواء الفاتحة أو غيرها من السور سوى «براءة» ولم يرد عن واحد منهم أبدا إجازة ابتداء القراءة بدون التسمية. قال ابن الجزري في «طيبته» . بسمل بين السّورتين (ب) س (ن) صف ... (د) م (ش) ق (ر) جا وصل (ف) شا وعن خلف (العاشر) فاسكت فصل ... والخلف (ك) م (حما) (ج) لا (الأزرق) إلى أن قال: وفي ابتداء السورة كلّ بسملا. وقال صاحب «الشاطبية» : ولا بد منها (أي البسملة) في ابتدائك سورة.

ع «1» : والباء في بِسْمِ اللَّهِ متعلّقة عند نحاة البصرة باسم تقديره: ابتدائي مستقر أو ثابت باسم الله، وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره: ابتدأت باسم الله، واسم: أصله سمو بكسر السين، أو سمو بضمها، وهو عند البصريين مشتقّ من السّمو «2» . ت: وهو العلو والارتفاع.

_ - والحرف الأول في كلمة من البيتين يرمز لقارىء أو راو، فالبسملة آية في كل سورة عند الأكثرين، وهؤلاء هم أهل الرواية المنقولة بالسماع والتلقي شيخا عن شيخ في التلاوة والأداء، وقد اتفقوا جميعا على قراءتها أول الفاتحة، وإن وصلت بغيرها، وجميع المصاحف التي كتبها الخليفة الثالث عثمان وأقرها الصحابة دون ما عداها كتبت فيها البسملة في أول كل سورة، سوى «براءة» ، وأن الصحابة (رضوان الله عليهم) حين جمعوا القرآن في المصاحف جردوه من كل شيء غيره، فلم يأذنوا بكتابة أسماء السور ولا أعداد الآي ولا «آمين» ، ومنعوا أن يجرؤ أحد على كتابة ما ليس في كتاب الله في المصاحف، حرصا منهم على الحفاظ عليه، فهل يعقل مع هذا كله أن يكتبوا مائة وثلاث عشرة بسملة زيادة على ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا يدل دلالة قاطعة منقولة بالتواتر العمل المؤيد بالكتابة المتواترة على أنها آية من القرآن في كل موضع كتابة فيه؟!! تنظر المسألة في: «الأم» للشافعي (1/ 213) ، «شرح المهذب» (3/ 288) ، «حلية العلماء ومعرفة مذاهب الفقهاء» (2/ 102) ، «فتح الوهاب» للشيخ زكريا (1/ 40) ، «الحاوي» للماوردي (2/ 104) ، «روضة الطالبين» (1/ 347) ، «بدائع الصنائع» (1/ 203) ، «المبسوط» (1/ 15) ، «الهداية» (1/ 48) ، «شرح فتح القدير» (1/ 253، 254) ، «الاختيار» (1/ 51) ، «الحجة على أهل المدينة» (1/ 96) ، «الكافي» لابن عبد البر ص (40) ، «المغني» لابن قدامة (2/ 151) ، «كشاف القناع» (1/ 335) ، «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (2/ 48) ، «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 96- 97) ، «نيل الأوطار» (2/ 222- 232) ، «فتح العلام» ص (195) ، «سبل السلام» (1/ 241) ، «شرح البهجة» (1/ 308- 309) ، «الجمل على المنهج» (1/ 345) ، «مختلف الرواية» ص (412) ، «الأوسط» (3/ 119- 123) . (1) «المحرر الوجيز» (1/ 61) . (2) اشتقاق الاسم عند المحققين من النحويين من السمو، وهو الارتفاع، ومحل مرتفع فهو ظاهر. والاسم يظهر المسمى عند السامع فاشتق من السمو لذلك، وقد قيل: إنما اشتق الاسم من السمو لكون الكلام على ثلاثة أقسام. وضع لكل قسم عبارة، وكان الاسم المقدم فأعطي أرفع العبارات، وكان الحرف المتأخر إذ لا معنى له في ذاته، فأعطي أحط العبارات، وكان الفعل واسطة بينهما فتوسط اسمه. وذهب قوم إلى أن اشتقاق الاسم من السمة، وهي العلامة، والاسم جعل دلالة على المسمى، وهذا تبطله صناعة العربية إذ لو كان مشتقا من السمة لقيل في تصغيره: وسيم، ولا يقال ذلك إنما يقال في تصغيره سميّ، وكذلك في جمعه أسماء برد لام الفعل. والتكبير والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها، فصح أن اشتقاقه من السمو. ينظر: «العلوم المستودعة في السبع المثاني» (ج 2) ، و «الصاوي على الخريدة» (6- 7) .

قال ص «1» : والاسم: هو الدالّ بالوضع. على موجود في العيان إن كان محسوسا، وفي الأذهان إن كان معقولا من غير تعرّض ببنيته للزمان، ومدلوله هو المسمّى «2» ، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلا على المعنى، فهي أمور ثلاثة متباينة، فإذا أسندت حكما إلى لفظ اسم، فتارة يكون حقيقة نحو: زيد اسم ابنك، وتارة يكون مجازا وهو حيث يطلق الاسم، ويراد به المسمّى كقوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78] ، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الأعلى: 1] ، وتأول السّهيليّ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ على إقحام الاسم، أي: سبح ربك، وإنما ذكر الاسم حتى لا يخلو التسبيح من/ اللفظ باللسان لأن الذكر بالقلب متعلّقه المسمى، والذكر باللسان متعلقه اللفظ، وتأول قوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً [يوسف: 40] بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على الحقيقة فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها. انتهى. وقال الكوفيّون: أصل اسم وسم من السّمة، وهي العلامة لأن الاسم علامة لمن وضع له، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسمائه تعالى وأكثرها استعمالا، وهو المتقدّم لسائرها في الأغلب، وإنما تجيء الأخر أوصافا، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلّا يشكل بخط «اللّات» ، وقيل: طرحت تخفيفا.

_ (1) ينظر: «المجيد في إعراب القرآن المجيد» لإبراهيم بن محمد الصفاقسيّ ص (41) . (2) في حقيقة الاسم عند المتكلمين خلاف مشهور، فذهب الأشعرية إلى أنه عين المسمى. وذهبت المعتزلة إلى أنه غير المسمى، وقالت الأشعرية وطائفة من المتكلمين: إن الكلام في الاسم والمسمى يعرفك حقيقة صفات معبودك، فتصل بذلك إلى تصحيح توحيدك، فإذا لم ينظر الإنسان ويستدل فكيف يصل إلى المعرفة التي كلفها؟! لكن منع الشافعي رضي الله عنه، وابن حبل، وأكثر الفقهاء، والمحدثين (رضي الله عنهم) طريق الكلام في الاسم والمسمى. حتى قال الشافعي: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له. وعلى كل، فطريق المتكلمين غير طريق الفقهاء والمحدثين فإن الفقهاء والمحدثين أخذوا الأمور بالتسليم والنقل، والمتكلمون ركبوا إلى النقل طريق النظر بالعقل، فأقاموا صناعة غير معهودة في السلف، وقالوا: نفتح بها طريق النظر إذ السلف كانوا لقرب عهدهم بالنبوة ولاشتغال أفكارهم بالنظر في ملكوت السماء والأرض مستغنين عن هذه الصناعة إذ كانت الأدلة راسخة في قلوبهم، وطرق الاستدلال نيرة في عقولهم، فلما ذهب ذلك الجيل الجليل وفترت الدواعي، وفشت البدع بسوء النظر، وجب أن يحرّ طريق النظر، وتنهج مسلك العبر، وتبين الأدلة الصحيحة من الفاسدة، وتصان عقائد الخلق عن تشويش المبتدعة والمارقة، فتكلموا بما لم يعهد من السلف الكلام فيه، فمن العلماء من يؤثره ويراه عين الصواب، ومنهم من يجتنبه ويجعله عين الضلال، ومنهم من يتوقف فيه، ومنهم من يرتضي منه أسلوبا دون غيره من الأساليب. انظر: «العلوم المستودعة في السبع المثاني» 19 خ.

والرّحمن «1» : صفة مبالغة من الرحمة، معناها: أنه انتهى إلى غاية الرحمة، وهي صفة تختصّ بالله تعالى، ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من فاعل لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك، والرحمن النهاية في الرحمة «2» .

_ (1) ينظر: «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» للإمام القرطبي، (1/ 61: 92) . (2) قال الشيخ أبو حيان: «وكان القياس الترقي كما تقول: عالم نحرير، وشجاع باسل، لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها، ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها وما لطف، واختاره الزمخشري» . ينظر: «البحر المحيط» (1/ 128) . [.....]

قال ابن عبّاس وغيره: إنها مكية «1» ويؤيد هذا أن في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] ، والحجر مكية بإجماع، وفي حديث أبي بن كعب أنّها السبع المثاني «2» . ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة بغير: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وروي عن عطاء بن يسار «3» وغيره ...

_ (1) ذكره السمرقندي في «تفسيره» (1/ 78) ، وابن كثير (1/ 8) عن ابن عباس، وقتادة، وأبي العالية. والسيوطي في «الدر» (1/ 19- 20) عن علي وقتادة. وقال الحافظ في «الفتح» (8/ 9) : إن الفاتحة مكية، وهو قول الجمهور. (2) أخرجه الترمذي (5/ 297) ، كتاب «تفسير القرآن» ، باب سورة الحجر، حديث (3125) ، (5/ 155) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، حديث (2875) ، والنسائي (2/ 139) ، كتاب «الافتتاح» ، باب تأويل قول الله (عز وجل) : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، حديث (914) ، وفي «التفسير» (1/ 523- 524) ، رقم (225) ، والطبري في «تفسيره» (9/ 142) ، وأحمد (2/ 412- 413) ، والدارمي (2/ 446) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 114) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص 86) ، رقم (165) ، وأبو يعلى (11/ 367- 368) ، رقم (6482) ، وابن خزيمة (1/ 252) ، رقم (500، 501) ، وابن حبان (3/ 53) ، رقم (775- الإحسان) ، والحاكم (1/ 557) ، والبيهقي (2/ 375- 376) ، كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه ابن خزيمة وابن حبان. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 21) وزاد نسبته إلى أبي عبيد، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبي ذر الهروي في «فضائل القرآن» . (3) عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني، أحد الأعلام. عن مولاته ميمونة، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي ذرّ وخلق. وعنه أبو سلمة، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو جعفر الباقر، وعمرو بن دينار، وخلق. قال النسائي: ثقة. قال الهيثم بن عديّ: توفي سنة سبع وتسعين. وقال عمرو بن علي: سنة.

أنها مدنية «1» ، وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب، واختلف، هل يقال لها أم الكتاب؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن، وأجازه ابن عبّاس وغيره «2» . وفي تسميتها ب «أمّ الكتاب» حديث رواه أبو هريرة «3» ، واختلف هل يقال لها: «أمّ القرآن» ؟ فكره ذلك ابن سيرين «4» ، وجوزه جمهور العلماء. وسميت «المثاني» لأنها تثنّى في كل ركعة «5» وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة. وأما فضل هذه السورة، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حديث أبيّ بن كعب أنّها لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الفرقان مثلها «6» ، وروي أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل وكذلك يجيء عدل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وعدل: إِذا زُلْزِلَتِ [الزلزلة: 1] وغيره.

_ - ثلاث ومائة. ينظر: «تهذيب الكمال» (2/ 938) ، و «تهذيب التهذيب» (7/ 317) ، و «تقريب التهذيب» (2/ 23) ، و «سير الأعلام» (4/ 448) . (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 37) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 45) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 20) ، وعزاه لوكيع في «تفسيره» . كلهم عن مجاهد. وابن كثير (1/ 8) عن أبي هريرة، ومجاهد، وعطاء بن يسار، والزهري. وقال ابن كثير: والأولى أشبه «أي أنها مكية» ، لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي والله تعالى أعلم. (2) أخرجه البخاري معلقا (8/ 6) . وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 46) ، وابن كثير (1/ 8) . وقال الحافظ في «الفتح» (8/ 6) : ويأتي في تفسير «الحجر» حديث أبي هريرة مرفوعا: «أم القرآن هي السبع المثاني» ولا فرق بين تسميتها بأم القرآن، وأم الكتاب، ولعل الذي كره ذلك وقف عند لفظ «الأم» . (3) أخرجه الترمذي (5/ 297) ، كتاب «التفسير» ، باب ومن سورة الحجر، حديث (3124) ، وأبو داود (1/ 461) ، كتاب «الصلاة» ، باب فاتحة الكتاب، حديث (1457) من طريق ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب والسبع المثاني» . وأخرجه البخاري (8/ 232) بلفظ: «أم القرآن هي السبع، والقرآن العظيم» . وأخرجه البغوي في «شرح السنة» (3/ 13- بتحقيقنا) ، وقال: هذا حديث صحيح، وأراد بأم القرآن فاتحة الكتاب، وسميت بأم القرآن لأنها أصل القرآن، وأم كل شيء أصله، وسميت مكة أم القرى كأنها أصلها ومعظمها، وقيل: سميت أم القرآن، لأنها تتقدم القرآن، وكل من تقدم شيئا فقد أمه» . (4) ينظر: الماوردي في «تفسيره» (1/ 46) ، وابن كثير (1/ 8) ، والحافظ في «الفتح» (8/ 6) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 20) ، وعزاه لابن ضريس في «فضائل القرآن» . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 103) طبعة أحمد شاكر. (6) تقدم تخريجه قريبا.

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 إلى 3]

ت: ونحو حديث أبيّ حديث أبي سعيد بن المعلّى «1» إذ قال له صلّى الله عليه وسلم: «ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السّبع المثاني، والقرآن العظيم الّذي أوتيته» . رواه البخاري، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة. انتهى من «سلاح المؤمن» تأليف الشيخ المحدّث أبي الفتح تقي الدّين محمّد بن علي بن همام «2» - رحمه الله-. [سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 3] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) الحَمْدُ: معناه الثناء الكاملُ، والألف واللام فيه لاِستغراقِ الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر لأنَّ الشكر إنما يكون على فِعْلٍ جميل يسدى إِلى الشاكر، والحمد المجرَّد هو ثناء بصفات المحمود. قال ص «3» : وهل الحمدُ بمعنى الشكْر أو الحمدُ أَعمُّ، أو الشكر ثناءٌ على اللَّه بأفعاله، والحمد ثناء عليه بأوصافه؟ ثلاثةُ أقوال. انتهى. قال الطبريُّ «4» : الحمدُ لِلَّهِ: ثناءٌ أثنى به على نفسه تعالى، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه فكأنه قال: قولوا: الحمد للَّه/، وعلى هذا يجيء: قولوا: إِيَّاكَ، واهْدِنَا.

_ (1) أبو سعيد بن المعلّى بن لوذان بن حبيب بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن مالك بن زيد مناة الأنصاري، اسمه رافع، له أحاديث، انفرد له البخاري بحديث. وعنه حفص بن عاصم. قال الزيادي: مات سنة ثلاث وسبعين. ينظر: «الخلاصة» (3/ 219) ، و «تهذيب التهذيب» (12/ 107) ، و «التاريخ الكبير» (9/ 34) . (2) «سلاح المؤمن» لتقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن علي بن همام، المصري، الشافعي، المتوفى سنة خمس وأربعين وسبعمائة. اشتهر في حياته بالغرناطي. أوله: الحمد لله المنعم على خلقه بجميع آلائه. إلخ، بوبه على واحد وعشرين بابا، وقد اختصره الذهبي محمد بن أحمد الحافظ المتوفى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ينظر: «كشف الظنون» (2/ 994، 995) . (3) «المجيد» ص 50. (4) «تفسير الطبري» (1/ 139- 140) ، وقد استدل أبو جعفر على حذف ما تعرفه العرب في أحاديثها بقول الشاعر: [الوافر] واعلم أنني سأكون رمسا ... إذا سار النواعج لا يسير فقال السائلون لمن حفرتم؟ ... فقال المخبرون لهم: وزير ثم قال: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميت وزير، فأسقط الميت إذ كان قد أتى من الكلام بما دل على ذلك ... » . [.....]

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 4 إلى 5]

قال: وهذا من حذف العربِ ما يدلُّ ظاهر الكلام عليه، وهو كثيرٌ. والرب في اللغة: المعبودُ، والسيدُ المالكُ، والقائمُ بالأمور المُصْلِحُ لما يفسد منها، فالرب على الإِطلاق هو ربُّ الأرباب على كل جهة، وهو اللَّه تعالى. والعَالَمُونَ: جمع عَالَمٍ، وهو كل موجود سوى اللَّه تعالى، يقال لجملته: عَالَمٌ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عَالَمٌ، عَالَمٌ، وبحسب ذلك يجمع على العَالَمِينَ، ومن حيثُ عالَمُ الزمانِ متبدِّلٌ في زمان آخر، حَسُنَ جمعها، ولفظة العالَمِ جمع لا واحد له من لفظه، وهو مأخوذ من العَلَمِ والعلامة لأنه يدل على موجده كذا قال الزَّجَّاج «1» ، قال أبو حَيَّان «2» : الألف واللام في العَالَمِينَ لِلاستغراقِ، وهو جمع سلامة، مفرده عَالَمٌ، اسم جمع، وقياسه ألا يجمع، وشذَّ جمعه أيضاً جمع سلامة لأنه ليس بعَلَمٍ ولا صفةٍ. م: وذهب ابنُ مالك «3» في «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» إلى أن «عَالَمِين» اسم جمعٍ لمن يعقل، وليس جمع عالمٍ لأن العَالَمَ عامٌّ، و «عالَمِينَ» خاصٌّ، قلت: وفيه نظر. انتهى. وقد تقدّم القول في الرحمن الرحيم. [سورة الفاتحة (1) : الآيات 4 الى 5] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ: الدِّينُ في كلام العربِ على أنحاء، وهو هنا الجزاءُ يوم الدين، أي: يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها قاله ابن عباس «4» وغيره مَدِينِينَ: محاسَبِينَ «5» ، وحكى أهل اللغة: دِنْتُهُ بِفِعْلِهِ دَيْناً بفتح الدال، ودينا بكسرها: جزيته

_ (1) «معاني القرآن وإعرابه» لأبي إسحاق الزجاج (1/ 46) . (2) «البحر المحيط» (1/ 132) ، وينظر «المجيد» ص (53) . (3) محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجيّاني، أبو عبد الله، جمال الدين، أحد الأئمة في علوم العربية. ولد في حيان ب «الأندلس» سنة 600 هـ. وانتقل إلى دمشق، فتوفي فيها سنة (672) هـ. من كتبه: «الألفية» وهو أشهرها في النحو، و «تسهيل الفوائد» في النحو أيضا، وكذلك «الكافية الشافية» أرجوزة في نحو ثلاثة آلاف بيت، و «إيجاز التعريف» في الصرف، و «العروض» . ينظر: «الأعلام» (6/ 233) ، «بغية الوعاة» (53) ، «آداب اللغة» (3/ 140) ، و «طبقات السبكي» (5/ 28) . (4) أخرجه ابن جرير (9/ 292) (25889) ، وذكره السيوطي في «الدر» (5/ 65) عن ابن عباس، والقرطبي (1/ 125) . (5) أخرجه ابن جرير (10/ 491) برقم (29383) ، عن قتادة، و (10/ 491) رقم (29384) ، عن السدي. وذكره السيوطي في «الدر» (5/ 519) ، والقرطبي (1/ 125) .

ومنه قول الشاعر: [الكامل] واعلم يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ ... واعلم بِأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ «1» إِيَّاكَ نَعْبُدُ: نطق المؤمن به إِقرار بالربوبية، وتذلُّل وتحقيق لعبادة اللَّه وقدَّم «إِيَّاكَ» على الفعل اهتماما، وشأن العرب تقديم الأَهَمِّ، واختلف النحويُّون في «إِياك» «2» ، فقال الخليلُ «3» : «إيَّا» : اسم مضمر أضيف إِلى ما بعده للبيان لا للتعريف، وحكى عن العرب: «إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّينَ، فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابِّ» ، وقال المبرِّد: إِيَّا: اسمٌ مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كَيْسَانَ «4» عن بعض الكوفيِّين أنَّ «إِيَّاكَ» بكماله اسم

_ (1) ينظر: «مجاز القرآن» (1/ 23) ، «الكامل» (1/ 426) ، «إعراب ثلاثين سورة» لابن خالويه (241) ، «الجمهرة» (2/ 306) ، «الخزانة» (4/ 230) ، «جمهرة الأمثال» للعسكري (169) ، «المخصص» (17/ 155) ، «تفسير الطبري» (1/ 155) ، «القرطبي» (1/ 101) ، «الدر المصون» (1/ 72) ، «اللسان والتاج» (دين) . (2) اختلف النحويون في «ايا» هل هو من قبيل الأسماء الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهور على أنه مضمر، وقال الزجاج: هو اسم ظاهر. وقال ابن درستويه. إنه بين الظاهر والمضمر. وقال الكوفيون: مجموع «ايا» ولواحقها هو الضمير. والقائلون بأنه ضمير اختلفوا فيه على أربعة أقوال: أحدها: أنه كله ضمير. والثاني: أن «ايا» وحده ضميره، وما بعده اسم مضاف إليه يبين ما يراد به من تكلم، وغيبة، وخطاب. والثالث: أن «ايا» عماد، وما بعده هو الضمير، وشذت إضافته إلى الظاهر في قولهم: «إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وايا الشواب» بإضافة «ايا» إلى الشواب. وهذا يؤيد قول من جعل الكاف والهاء والياء في محل جر إذا قلت: إياك، إياه، إياي. ينظر: «الدر المصون» (1/ 73) ، و «همع الهوامع» (1/ 61) ، و «الكتاب» (2/ 355) ، و «شرح الكافية» (2/ 12) ، و «سر صناعة الإعراب» (1/ 311) ، و «شرح المفصل» (3/ 98) ، و «الإنصاف» (2/ 695) . (3) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم، الفراهيدي، الأزدي، اليحمدي، أبو عبد الرحمن، ولد سنة (100) هـ. في البصرة. من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وهو أستاذ سيبويه النحوي، عاش فقيرا صابرا. قال النضر بن شميل: ما رأى الراءون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه. فكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة فدخل المسجد وهو يعمل فكره فصدمته سارية وهو غافل، فكانت سبب موته سنة (170) هـ. ب «البصرة» . من كتبه «العين» ، و «معاني الحروف» ، و «العروض» ، و «النغم» . ينظر: «وفيات الأعيان» (1/ 172) ، «إنباه الرواة» (1/ 341) ، «نزهة الجليس» (1/ 80) ، «الأعلام» (2/ 314) . (4) محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو الحسن المعروف ب «ابن كيسان» : عالم بالعربية من أهل «بغداد» ، أخذ عن المبرد وثعلب، من كتبه «المهذب» في النحو، «غريب الحديث» ، «معاني القرآن» ، «المختار في علل النحو» توفي من (299) هـ. ينظر: «إرشاد الأريب» (6/ 280) ، «معجم المطبوعات» (229) . «نزهة الألباء» (301) ، «شذرات الذهب» (2/ 232) ، «كشف الظنون» (1703) ، «مصابيح الكتاب» ، «الأعلام» (5/ 308) .

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 6 إلى 7]

مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغيَّر آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكاف والهاء والياء هو الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها، ولا تكون إِلا متصلات، فإذا تقدَّمت الأفعال جعل «إِيَّا» عماداً لها، فيقال: إِيَّاكَ، وإِيَّاهُ، وإِيَّايَ، فإِذا تأخرت، اتصلت بالأفعال، واستغني عن «إيّا» . ونَعْبُدُ: معناه: نقيم الشرع والأوامر مع تذلُّل واستكانةٍ، والطريقْ المذلَّل يقال له معبَّدٌ، وكذلك البعير. ونَسْتَعِينُ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرّ من الأصنام. [سورة الفاتحة (1) : الآيات 6 الى 7] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) وقوله تعالى: اهْدِنَا: رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغ الأمر كلها، فإِذا كانت من الأعلى، فهي أَمْرٌ. والهِدَايَةُ في اللغة: الإرشادُ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسِّرون بغير لفظ الإِرشاد وكلها إِذا تأملت راجِعةٌ إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خَلْقِ الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5] ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور: 46] ، وإِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ [الأنعام: 125] الآية، قال أبو المعالي «1» : فهذه الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد «2» . 8 أوقد جاء الهدى بمعنى الدعاء كقوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] أي: داع/ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .

_ (1) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد، العلامة إمام الحرمين، أبو المعالي بن أبي محمد الجويني، ولد سنة (419) ، وتفقه على والده، وقعد للتدريس بعده، وحصل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الأسفراييني الإسكاف، وصار إماما، حضر درسه الأكابر، وتفقه به جماعة من الأئمة. قال السمعاني: كان إمام الأئمة على الإطلاق، ومن تصانيفه: النهاية والغياثي والإرشاد، وغيرهما. مات سنة (478) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 255) ، «طبقات السبكي» (3/ 249) ، «وفيات الأعيان» (2/ 341) ، و «الأنساب» (3/ 430) ، «شذرات الذهب» (3/ 358) ، «النجوم الزاهرة» (5/ 121) ، و «معجم البلدان» (2/ 193) . (2) ينظر: ص 486.

وقد جاء الهدى بمعنى الإِلهام من ذلك قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] . قال المفسِّرون: ألهم الحيواناتِ كلَّها إِلى منافعها. وقد جاء الهدى بمعنى البيان من ذلك قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] قال المفسِّرون: معناه: بيَّنَّا لهم. قال أبو المعالي «1» : معناه: دعوناهُمْ، وقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [الليل: 12] ، أي: علينا أنْ نبيِّن. وفي هذا كله معنى الإِرشاد. قال أبو المعالي: وقد ترد الهدايةُ، والمراد بها إِرشاد المؤمنين إِلى مسالك الجِنَانِ والطرقِ المفضيةِ إِلَيْهَا كقوله تعالى في صفة المجاهدين: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 4- 5] ومنه قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] ، معناه: فاسلكوهم إِليها. قال ع «2» : وهذه الهدايةُ بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضدُّ الضلالِ، وهي الواقعة في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ على صحيح التأويلات، وذلك بيِّن من لفظ «الصِّرَاط» والصراط في اللغة: الطريقُ الواضِحُ ومن ذلك قول جَرِيرٍ «3» : [الوافر] أَمِيرُ المُؤْمِنيِنَ على صِرَاطٍ ... إِذَا اعوج المَوَارِدُ مستقيم «4»

_ (1) ينظر: «الإرشاد» ص (190) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 73) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 73) . (3) جرير بن عطية بن حذيفة الخطفى بن بدر الكلبي، اليربوعي، من تميم أشعر أهل عصره، ولد سنة (28) هـ. ومات سنة 110 هـ. في «اليمامة» . وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم، وكان هجاءا مرّا، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وكان عفيفا، وهو من أغزل الناس شعرا. ينظر: «الأعلام» (2/ 19) ، «وفيات الأعيان» (1/ 102) ، «الشعر والشعراء» (179) ، و «خزانة الأدب» (1/ 36) . [.....] (4) البيت في مدح هشام بن عبد الملك، ينظر: ديوانه (507) ، «شرح الديوان» لمحمد بن حبيب (1/ 218) ، «المحتسب» (1/ 43) ، «مجاز القرآن» (1/ 24) ، «تفسير الطبري» (1/ 56) ، «تفسير القرطبي» (1/ 103) ، «اللسان» (سرط) ، «الجمهرة» (2/ 330) ، «الدر المصون» (1/ 78) . والموارد: الطرق، واحدها موردة.

واختلف المفسِّرون في المعنى الذي استعير له «الصِّراط» في هذا الموضع: فقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: الصراط المستقيم هنا القرآنُ «1» ، وقال جابرٌ: هو الإِسلام، يعني الحنيفيَّة «2» . وقال محمَّد بن الحنفيَّة «3» : هو دينُ اللَّه الذي لا يَقْبَلُ مِن العِبَادِ غيره «4» . وقال أبو العالية: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بَكْر وعمر، أي: الصراط المستقيم طريق محمد صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر «5» ، وهذا قويٌّ في المعنى، إلاَّ أنَّ تسمية أشخاصهم طريقاً فيه تجوُّز، ويجتمع من هذه الأقوال كلِّها أنَّ الدعوة هي أنْ يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام وهو حالُ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه. وهذا الدعاء إِنما أمر به المؤمنون، وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قوله: اهْدِنَا فيما هو حاصل عندهم: التثبيتُ والدوام، وفيما ليس بحاصل، إِما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإرشاد إليه، فكلّ

_ (1) أخرجه ابن جرير (1/ 173) (176) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 59) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 41) ، عن علي مرفوعا، وابن كثير (1/ 27) ، عن علي موقوفا عليه. وقال أحمد شاكر في تحقيقه للطبري: والإسناد إلى علي بن أبي طالب فيه انهيار. (2) أخرجه ابن جرير (178) ، وصححه الحاكم (2/ 259) ، ووافقه الذهبي. وذكره الماوردي في تفسيره (1/ 59) ، والبغوي (1/ 41) ، وابن كثير (1/ 27) ، قال: صحيح، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 40) وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير، والمحاملي في «أماليه» ، والحاكم. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. (3) محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد، الإمام المعروف ب «ابن الحنفية» أمه خولة بنت جعفر الحنفية، نسب إليها. عن أبيه، وعثمان، وغيرهما. وعنه بنوه: إبراهيم، وعبد الله، والحسن، وعمرو بن دينار، وخلق. قال إبراهيم بن الجنيد: لا نعلم أحدا أسند عن علي أكثر ولا أصح مما أسند محمد بن الحنفية. قال أبو نعيم: مات سنة ثمانين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 440) ، و «تهذيب التهذيب» (9/ 354) ، و «الكاشف» (3/ 80) ، و «الثقات» (5/ 347) . (4) ذكره الماوردي في «تفسيره» (ص 59) ، وابن كثير (ص 27) ، وقال: صحيح. (5) أخرجه ابن جرير (1/ 105) برقم (184) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 59) ، والبغوي (1/ 41) ، وابن كثير (1/ ص 27، 28) ، وقال: صحيح. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 41) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جريج، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن عساكر. ورواه الحاكم في «المستدرك» ، عن ابن عباس، وقال: صحيح. ووافقه الذهبي.

داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته واختلف في المشار إِليهم بأنه سبحانه أنعم عليهم، وقول ابن عبَّاس، وجمهور من المفسِّرين: أنه أراد صراط النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالِحِين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ... الآية [النساء: 66] إلى قوله: رَفِيقاً «1» . وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، اعلم أنَّ حكم كل مضافٍ إلى معرفة أنْ يكون معرفة، وإنما تنكَّرت «غَيْرٌ» و «مِثْلٌ» «2» مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إِذا قلْتَ: رأيتُ غَيْرَكَ، فكلُّ شيء سوى المخاطَبِ، فهو غيره وكذلك إِنْ قُلْتَ: رأيْتُ مثْلَكَ، فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة. والْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: اليهودُ، والضالُّون: النصارى قاله ابن مسعود، وابن عَبَّاس، مجاهد، والسُّدِّيُّ، وابن زيد «3» . وروى ذلك عديّ بن حاتم «4» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «5» ، وذلك بيِّن من كتاب اللَّه لأنَّ ذِكْرَ

_ (1) أخرجه ابن جرير (1/ 106) برقم (188) ، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للطبري (1/ 178) (188) : في إسناده ضعف. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 75) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 42) . (2) هذا يكون في الإضافة المحضة المعنوية لا الإضافة غير المحضة اللفظية. (3) أخرجه الطبري (1/ 111- 114) بأرقام (200- 201- 202- 205- 214- 219) عن ابن زيد، ومجاهد، عن ابن عباس، وابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم. وذكره ابن عطية الأندلسي في تفسيره (1/ 77) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 42- 43) . وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني روى عن أبيه، وعن وكيع وابن وهب، وقتيبة، وخلق. ضعّفه أحمد، وابن المديني، والنسائي، وغيرهم. توفي سنة (182) هـ. ينظر: «الخلاصة» (2/ 133) (4094) ، «الجرح والتعديل» (2/ 232- 233) ، و «المغني» (2/ 380) . (4) هو: عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعلب بن عمرو بن عوث بن طيّ ... وقيل في نسبه غير ذلك، أبو الطريف. وقيل: أبو وهب، الطائي. وهو ابن حاتم الطائي الذي يضرب بكرمه وجوده المثل، وكان هو أيضا كريما جوادا، وقد أسلم بعد أن كان نصرانيا. وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وثبت هو وقومه بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلم وردت كثير من العرب، فجاء إلى أبي بكر بصدقة قومه. وأخباره في الكلام كثيرة، وسيرته بين الصحابة شهيرة. توفي سنة (67) وقيل غير ذلك. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 8) ، «الإصابة» (4/ 228) ، «الثقات» (1/ 316) ، «الاستيعاب» (1057) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 376) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 322) ، «التاريخ الكبير» (7/ 43) ، «التاريخ الصغير» (1/ 148) ، «الجرح والتعديل» (7/ 2) . (5) أخرجه الترمذي (5/ 204) ، كتاب «تفسير القرآن» ، باب ومن سورة فاتحة الكتاب، حديث (2954) . -

(القول في"آمين")

8 ب غضَبِ اللَّه على اليهود متكرِّر فيه كقوله: وَباؤُ بِغَضَبٍ/ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 112] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ... الآية [المائدة: 60] وغضب اللَّه تعالى، عبارة عن إظهاره عليهم محناً وعقوباتٍ وذِلَّةً، ونحو ذلك ممَّا يدلُّ على أنه قد أبعدهم عن رحمته بُعْداً مؤكَّداً مبالغاً فيه، والنصارى كان محقِّقوهم على شِرْعَةٍ قبل ورود شرعِ محمَّد صلّى الله عليه وسلم، فلما ورد، ضلُّوا، وأما غير متحقِّقيهم، فضلالتهم متقرِّرة منذ تفرَّقت أقوالهم في عيسى عليه السلام، وقد قال اللَّه تعالى فيهم: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] . وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبْعُ آيات العالمين آية، الرحيم آية، الدين آية، نستعين آية، المستقيم آية، أنعمت عليهم آية، ولا الضالين آية، وقد ذكرنا عند تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيفٌ. (القَوْلُ فِي «آمِينَ» ) روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا «آمِينَ» ، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ فِي السَّماءِ تَقُولُ: «آميِنَ» ، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ، غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه» «1» .

_ - وأحمد (4/ 378- 379) ، وابن حبان (1715- موارد) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 99- 100) ، رقم (237) ، والطبري في «تفسيره» (1/ 193- شاكر) ، رقم (208) والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 340) ، كلهم من طريق سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي بن حاتم به مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إِلا من حديث سماك بن حرب، وروى شعبة، عن سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي بن حاتم، عن النبي صلّى الله عليه وسلم الحديث بطوله. وصححه ابن حبان. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 43) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وقد ورد هذا الحديث مرسلا. أخرجه سعيد بن منصور (179) ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: «المغضوب عليهم: اليهود، والنصارى هم الضالون» . وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 43) ، وزاد نسبته إلى سفيان بن عيينة في «تفسيره» . وللحديث طرق أخرى ضعيفة أخرجها الطبري في «تفسيره» (1/ 193) . وللحديث أيضا شاهد من حديث أبي ذر، أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (1/ 30) . وحسنه الحافظ في «الفتح» (8/ 9) فقال: وأخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر. (1) أخرجه مالك (1/ 88) ، كتاب «الصلاة» ، باب التأمين خلف الإمام، الحديث (47) ، وأحمد (2/ 440) ، والبخاري (2/ 266) ، كتاب «الأذان» ، باب جهر المأموم بالتأمين، الحديث (782) ، ومسلم-

ت: وخرج مسلم وأبو داود والنسائيُّ من طريق أبي موسى رضي اللَّه عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ ليُؤمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا: «آمِينَ» ، يُجِبْكُمُ اللَّهُ ... » الحديثَ «1» . انتهى. ومعنى «آمِينَ» عند أكثر أهل العلم: اللَّهُمَّ، استجب، أو أجبْ «2» يَا رَبِّ. ومقتضى الآثار أنَّ كل داع ينبغي له في آخر دعائه أنْ يقول: «آمِينَ» ، وكذلك كل

_ - (1/ 310) ، كتاب «الصلاة» ، باب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير، الحديث (87/ 415) ، وأبو داود (1/ 575) ، كتاب «الصلاة» ، باب التأمين وراء الإمام، الحديث (935) ، والنسائي (2/ 144) ، كتاب «الافتتاح» ، باب الأمر بالتأمين خلف الإمام، من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة به بزيادة: «فإنه من وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تقدم من ذنبه» . وأخرجه عبد الرزاق (2/ 97) ، كتاب «الصلاة» ، باب آمين، الحديث (2644) بزيادة، فقال: ثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فقولوا: آمين، فإن الملائكة يقولون: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» . وأخرجه أحمد (2/ 233) ، والنسائي (2/ 144) ، كتاب «الافتتاح» ، باب جهر الإمام بآمين، من طريق معمر به. [.....] (1) أخرجه مسلم (2/ 283: 286- الأبي) ، كتاب «الصلاة» ، باب التشهد في الصلاة، حديث (62/ 404) ، وأبو داود (1/ 319- 320) ، كتاب «الصلاة» ، باب التشهد، حديث (972) ، والنسائي (2/ 196) ، كتاب «التطبيق» ، باب قوله، ربنا لك الحمد، حديث (1064) . وابن ماجة (1/ 276) ، كتاب «الصلاة» ، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، حديث (847) ، وأحمد (4/ 393، 394، 401، 405، 415) ، وابن خزيمة (1584، 1593) ، والبيهقي (2/ 96) ، كلهم من طريق حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا. (2) «آمين» ليست من القرآن إجماعا، ومعناها: استجب، فهي اسم فعل مبني على الفتح. وقيل: ليس اسم فعل، بل هو من أسماء الباري تعالى، والتقدير: يا آمين، وقد ضعف أبو البقاء هذا القول بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يبنى على الضم لأنه منادى مفرد معرفة. والثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية. وفي «آمين» لغتان: المد والقصر، تقول العرب: آمين، وأمين، قال الشاعر: [الطويل] تباعد عنّي فطحلّ إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وقال المجنون: [البسيط] يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (1/ 54) ، و «الوسيط» (1/ 70) ، و «الدر المصون» (1/ 86) ، و «الزاهر» (1/ 161) ، و «غرائب النيسابوري» (1/ 75) ، وابن كثير (1/ 31) .

قارئ للحمدِ في غير صلاة، وأما في الصلاة، فيقولها المأموم والفَذُّ، وفي الإمام في الجهر اختلاف «1» . واختلف في معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ» ، فقيل: في الإجابة، وقيل: في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجَّح أنَّ المعنى: فمن وافق في الوقْتِ مع خلوصِ النيةِ والإِقبالِ على الرغبة إِلى اللَّه بقلْبٍ سليمٍ فالإِجابة تتبع حينئذ لأِنَّ من هذه حاله، فهو على الصراط المستقيم. وفي «صحيح مُسْلِمٍ» وغيره عن أبي هريرة قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللَّهُ: أثنى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهدنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» «2» انتهى، وعند مالك: «فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي» . وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ «3» عن نافعٍ «4» عن ابن عُمَرَ «5» قال: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلم: «من

_ (1) ذهب جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الجهر بالتأمين، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، قال عطاء: كنت أسمع الأئمة- وذكر ابن الزّبير ومن بعده- يقولون: آمين، ويقول من خلفه: آمين، حتى إنّ للمسجد للجّة. ينظر: «شرح السنة» (2/ 208) . (2) تقدم تخريجه. (3) أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد حفاظ الحديث وضابطيه المتقنين. ولد سنة (392) ، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر ابن الصباغ، وشهرته في الحديث تغني عن الإطناب. قال ابن ماكولا: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله. وقال الشيرازي: كان أبو بكر يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. مات (463) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 240) ، «طبقات السبكي» (3/ 12) ، «وفيات الأعيان» (1/ 76) . (4) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو سهيل المدني عن ابن عمر، وأنس. وعنه ابن أخيه مالك بن أنس، والزهري. وثقه أبو حاتم وغيره. قال الواقدي: هلك في إمارة أبي العباس. ينظر: «تاريخ الإسلام» (5/ 307) ، «الثقات» (5/ 471) ، «تراجم الأحبار» (4/ 139) ، «تاريخ أسماء الثقات» (1473) ، «سير الأعلام» (5/ 283) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1404) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 409) (737) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (3/ 89) ، «الكاشف» (3/ 197) . (5) عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن-

كَانَ لَهُ إِمَامٌ، فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» انتهى من «تَارِيخِ بَغْدَاد» ولم يذكر في سنده مَطْعَناً. وقال ابن العربيِّ «1» في «أحكامه» «2» : والصحيحُ عندي وجوبُ قراءتها على المأمومِ فيما أسر فيه، وتحريمها فيما جهر فيه، إذا سمع/ الإِمام لِمَا عليه من وجوب الإِنصاتِ 9 أوالاستماع، فإِنْ بَعُدَ عن الإِمام، فهو بمنزلة صلاة السرِّ. انتهى. نجز تفسير سورة الحَمْدِ، والحَمْدُ للَّه بجميع محامده كلِّها ما علمْتُ منها، وما لم أعلم.

_ - عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. أبو عبد الرحمن. القرشي، العدوي. ولد سنة: (3) من البعثة النبوية توفي سنة: (84) . ينظر ترجمته في: «الإصابة» (4/ 107) ، «أسد الغابة» (3/ 340) ، «الثقات» (3/ 209) ، «شذرات الذهب» (2/ 15) ، «الجرح والتعديل» (5/ 107) ، «سير أعلام النبلاء» (3/ 203) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 325) ، «تقريب التهذيب» (1/ 435) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 328) . (1) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي، ولد (468) هـ.، من حفاظ الحديث بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، صنف كتبا في الحديث، والفقه، والأصول، والتفسير، والأدب، والتاريخ، وولي قضاء إشبيلية، من مؤلفاته «أحكام القرآن» و «المحصول» ، و «الناسخ والمنسوخ» ، وغيرها كثير، توفي (543) هـ. ينظر: «طبقات الحفاظ» للسيوطي، «وفيات» (1/ 489) ، «نفح الطيب» (1/ 340) ، «قضاة الأندلس» (105) ، «جذوة الاقتباس» (2160) ، «الأعلام» (6/ 230) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 5) .

تفسير سورة البقرة

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما تفسير سورة البقرة «1» هذه السورة مدنيّة نزلت في مدد شتّى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

_ (1) هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسان. وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها. وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات. ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم. وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية وأساليب الكتب التشريعية وأساليب التذكير والموعظة. يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده، وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن، فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقعا على نفوسهم، فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] الآيات. فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة، وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي، وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين- ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفي المشركين الصرحاء، والمنافقين، لف الفريقان لفا واحدا، فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم، ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت من أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر، فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا، وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنّه على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى، وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدي القرآن، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل-

وهي: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ

_ - العلم، ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر، وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل وبيان أخطائهم لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم في تعلق الحياة وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96] ومحاولة العمل بالسحر وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] إلخ، وأذى النبي بموجبة الكلام لا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] . ثم قرن اليهود والنصارى والمشركين في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ- إلى قوله- وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 105- 112] ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى، وادعاء كل فريق أنه هو المحق وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ- إلى- يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 112] ثم خص المشركين بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وسمحوا بذلك في خرابه، وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام. والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة، ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وإن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177] وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم، وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما. ثم عاد إلى محاجة المشركين بآثار صنعة الله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [البقرة: 164] إلخ ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل، وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: 204] . ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177] ثم تفصيلا: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة والمعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع، والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء والعدة والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان. وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية، وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذليلا وفذلكة: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: 284] الآيات. وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سيقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا-

[البقرة: 281] ، ويقال لسورة البقرة: «فسطاط القرآن» ، وذلك لعظمها وبهائها، وما تضمّنت من الأحكام والمواعظ، وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر مثلا، وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل، وأعطيت طه والطّواسين «1» من ألواح موسى «2» ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش» «3» . ت: وها أنا إن شاء الله أذكر أصل الحديث بكماله لما اشتمل عليه من الفوائد العظيمة. خرّج الحاكم أبو عبد الله «4» في «المستدرك على الصحيحين»

_ - لنشاط القارئ والسامع كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع- من تمجيد الله وصفاته اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة: 255] ورحمته، وسماحة الإسلام، وضرب أمثال أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة: 19] واستحضار نظائر وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ [البقرة: 74] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [البقرة: 243] ، وعلم، وحكمة، ومعاني الإيمان والإسلام، وتثبيت المسلمين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ [البقرة: 153] والكمالات الأصلية، والمزايا التحسينية، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة: 177] وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217] والنظر والاستدلال، ونظام المحاجة، وأخبار الأمم الماضية والرسل وتفاضلهم، واختلاف الشرائع. ينظر: «التحرير» (1/ 203- 206) . (1) وهي السور المبدوءة ب «طس» أو «طسم» . [.....] (2) «موسى» اسم عبراني معرب عن «موشى» ، «مو» بالعبرانية: الماء، و «شى» الشجر، سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر. وهو اسم نبي بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، وهو علم أعجمي لا يقضى عليه بالاشتقاق، وإنما يشتق «موسى الحديد» . ينظر: «التبيان» (1/ 63) . وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل. «الكامل» لابن الأثير (1/ 169) . (3) أخرجه الحاكم (1/ 561) ، (2/ 259) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 485) ، رقم (2478) ، كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار به مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: عبيد الله، قال أحمد: تركوا حديثه. (4) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم، الضبي، الطهماني، الحافظ أبو عبد الله، الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب «المستدرك» ، وغيره من الكتب المشهورة، كان مولده سنة (321) ، ورحل في طلب الحديث، وسمع الكثير على شيوخ يزيدون على ألفين، وتفقه على أبي علي بن أبي هريرة وأبي الوليد النيسابوري وأبي سهل الصعلوكي وغيرهم، أخذ عنه أبو بكر البيهقي وصنف المصنفات الكثيرة. مات سنة (405) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 193) ، «لسان الميزان» (5/ 232) .

عن معقل بن يسار «1» رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعملوا بالقرآن أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كي ما يخبرونكم، وآمنوا بالتّوراة والإنجيل والزّبور وما أوتي النّبيّون من ربّهم، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان، فإنّه شافع مشفّع، وما حل» مصدّق، وإنّي أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل وأعطيت طه والطّواسين والحواميم «3» من الواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش» «4» ، ما حل بالمهملة، أي: ساع، وقيل: خصم. انتهى من «السّلاح» . وفي الحديث الصحيح، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنّهما غيايتان «5» ، بينهما شرق، أو غمامتان سوداوان، أو كأنّهما ظلّة من طير صوافّ تجادلان عن صاحبهما» «6» . ت: أصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهليّ «7» رضي اللَّه عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه

_ (1) معقل بن يسار المزني، أبو علي، بايع تحت الشجرة. له أربعة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، ومسلم بحديثين وعنه عمران بن حصين. مات في خلافة معاوية. ينظر: «الخلاصة» (3/ 45) ، و «تهذيب التهذيب» (10/ 235) ، و «الثقات» (3/ 392) . (2) أي: خصم مجادل مصدق. وقيل: ساع مصدق، من قولهم: محل بفلان، إذا سعي به إلى السلطان، يعني أن من اتبعه وعمل بما فيه، فإنه شافع له مقبول الشفاعة، ومصدق عليه فيما يرفع من مساويه إذا ترك العمل به. ينظر: «النهاية» (4/ 303) . (3) يعني السور المبدوءة ب «حم» . (4) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 578) كتاب «معرفة الصحابة» باب معقل بن يسار وسكت عنه هو والذهبي. (5) الغياية: السحابة المنفردة، أو هي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه. ينظر: «النهاية» (3/ 403) ، و «لسان العرب» (3332) . (6) سيأتي تخريجه. (7) هو: صدي بن عجلان بن الحارث وقيل: عجلان بن وهب ... أبو أمامة. الباهلي. السهمي. سكن «مصر» ثم انتقل منها فسكن «حمص» من الشام، ومات بها، وكان من المكثرين في الرواية، وأكثر حديثه عند الشاميين. وقال ابن الأثير في موضع آخر. روى عنه سليم بن عامر الجنائزي، والقاسم أبو عبد الرحمن، وأبو غالب حزور، وشرحبيل بن مسلم، ومحمد بن زياد، وغيرهم. توفي سنة (81) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 16) ، (6/ 16) ، «الإصابة» (7/ 9) ، «الاستيعاب» (4/ 1602) «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 148) ، «بقي بن مخلد» (17) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 415) .

اقرءوا الزّهراوين البقرة وآل عمران فإنّهما يأتيان كأنّهما غمامتان، أو كأنّهما غيايتان، أو كأنّهما فرقان «1» من طير صوّاف يحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» ، قال معاوية «2» : بلغني أنّ البطلة: السّحرة «3» ، فقوله صلّى الله عليه وسلم: «غمامتان» ، يعني: سحابتين بيضاوين، والغيايتان بالغين المعجمة. أبو عبيد: الغياية كلّ شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، وهو مثل السحابة، وفرقان بكسر الفاء، أي: جماعتان. انتهى من «السلاح» . وروى أبو هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «لكلّ شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة فيها آية هي سيّدة آي القرآن، هي آية الكرسيّ» «4» ، وفي «البخاريّ» أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من قرأ

_ (1) الفرقان: القطعتان. ينظر: «النهاية» (3/ 440) . (2) هو: معاوية بن صخر (أبي سفيان) بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن. القرشي. الأموي. أمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، قيل: ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل: بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، والقول الأول أشهر على الصحيح من الأقوال. وهو خال المؤمنين، وكاتب النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الذي طالب بدم عثمان، فكان من الحروب بينه وبين عليّ ما كان، وإسلامه وحروبه وإمارته شهيرة جدّا، ولا يتسع المقام للحديث عنه. توفي في رجب سنة (60) هـ. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 209) ، «الإصابة» (6/ 112) ، «الاستيعاب» (3/ 1416) ، «الاستبصار» (40، 67) ، «الكاشف» (3/ 157) ، «الأعلام» (7/ 261) ، «شذرات الذهب» (1/ 418) ، «العبر» (1/ 549) ، «العقد الثمين» (7/ 227) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 207) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1344) ، «التاريخ الكبير» (7/ 326) . (3) أخرجه مسلم (1/ 553) ، كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، حديث (252) ، وأحمد (5/ 249) ، والطبراني في «الكبير» (8/ 139) ، رقم (7544) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 395) ، كتاب «الصلاة» ، باب المعاهدة على قراءة القرآن، وفي «شعب الإيمان» (2/ 451) ، رقم (2372) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 19- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام أنه سمع أبا أمامة، فذكره. وللحديث شاهد من حديث النواس بن سمعان الكلابي: أخرجه مسلم (1/ 553) كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، حديث (253) ، والترمذي (5/ 160) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في سورة آل عمران، حديث (2883) . والبيهقي في «شعب الإيمان» (2373) ، عن النواس بن سمعان بنحو حديث أبي أمامة. (4) أخرجه الترمذي (5/ 157) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، حديث (2878) ، وعبد الرزاق (3/ 376- 377) ، رقم (6019) ، والحميدي (2/ 437) ، رقم (994) ، والحاكم (1/ 560- 561) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 452) ، رقم (2375) ، وابن عدي في «الكامل» (2/ 637) . كلهم من طريق حكيم بن جبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. -[.....]

بالآيتين مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ/ فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ» «1» وروى أبو هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: 9 ب

_ - وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه اه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه والشيخان لم يخرجا عن حكيم لوهن في رواياته، وإنما تركاه لغلوه في التشيع. ووافقه الذهبي. قلت: والشيخان لم يتركا حكيم لتشيعه فقط، إنما لضعفه أيضا. فقال الحافظ في «التقريب» (1468) : ضعيف، رمي بالتشيع، ولأول الحديث شاهد من حديث سهل بن سعد: أخرجه أبو يعلى (13/ 547) ، رقم (7554) ، وابن حبان (1727- موارد) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 6) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/ 101) ، والطبراني في «الكبير» (6/ 163) ، رقم (5864) كلهم من طريق خالد بن سعيد المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به. وخالد بن سعيد، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال: وفي فضل سورة البقرة رواية أحسن من هذا الإسناد وأصلح. والنسائي في «الكبرى» (5/ 14) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب الآيتان من سورة البقرة، حديث (8020) ، والحميدي (1/ 215) ، رقم (452) ، وعبد الرزاق (3/ 377) ، رقم (6021) ، وابن خزيمة (2/ 180) ، رقم (1141) ، كلهم من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن أبي مسعود به مرفوعا. وعند بعضهم: قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود في الطواف فسألته عنه، فحدثني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... ، وذكر الحديث وللحديث طرق أخرى واختلاف فيها تكلم عليها الحافظ علي بن عمر الدارقطني في كتابه القيم «العلل الواردة في الأحاديث النبوية» (6/ 171- 174) . (1) أخرجه البخاري (8/ 672) ، كتاب «فضائل القرآن» : باب فضل سورة البقرة، حديث (5009) ، ومسلم (1/ 555) ، كتاب «صلاة المسافرين» : باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (255/ 807) ، وأبو داود (1/ 444) ، كتاب «الصلاة» ، باب تحزيب القرآن، حديث (1397) ، والترمذي (5/ 159) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في آخر سورة البقرة، حديث (2881) ، والنسائي في «الكبرى» ، (5/ 9) كتاب «فضائل القرآن» ، باب سورة كذا وسورة كذا، حديث (8003) ، و (5/ 14) ، باب الآيتان من آخر سورة البقرة، حديث (8018) ، وأحمد (4/ 121، 122) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص 105- 106) ، رقم (233) ، وعبد الرزاق (3/ 377) ، رقم (6020) ، والدارمي (1/ 288) ، وسعيد بن منصور (475) ، وابن الضريس في «فضائل القرآن» (ص- 83) ، رقم (161) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 204- 205) رقم (550، 552) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» ، (3/ 20) ، كتاب «الصلاة» ، باب كم يكفي الرجل قراءة القرآن في ليله، وفي «شعب الأيمان» (2/ 462) ، رقم (2405، 2406) ، كلهم من طريق منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنت أحدّث عن أبي مسعود حديثا فلقيته وهو يطوف بالبيت، فسألته، فحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلت: والذي حدث عبد الرحمن بن يزيد بهذا الحديث هو علقمة بلا شك فأخرجه البخاري (8/ 712) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب في كم يقرأ القرآن، حديث (5051) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 1 إلى 3]

«البيت الّذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان» «1» . ت: وعن ابن عبّاس قال: بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه، فقال له: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك فاتحة الكتاب، وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته» رواه مسلم، والنسائيّ «2» ، والنقيض بالنون والقاف: هو الصوت انتهى من «السلاح» . وعدد آي سورة البقرة مائتان، وخمس وثمانون آية، وقيل: وستّ وثمانون آية، وقيل: وسبع وثمانون. [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) قوله تعالى: الم: اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين «3» فقال

_ (1) الحديث بهذا اللفظ عن عبد الله بن المغفل ذكره الهيثمي في «معجم الزوائد» (6/ 315) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه عدي بن الفضل، وهو ضعيف. أما الحديث الذي ورد عن أبي هريرة في هذا المعنى، فأخرجه مسلم (1/ 539) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» . (2) أخرجه مسلم (1/ 554) ، كتاب: «الإيمان» ، باب: في ذكر سدرة المنتهى، حديث (254/ 806) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 15) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب «الآيتان من آخر سورة البقرة» ، حديث (8021) ، والبغوي في «شرح السنة» (2/ 23- بتحقيقنا) ، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. (3) إنه مما علم باستقراء كتاب الله تعالى أن تسعا وعشرين سورة من القرآن الكريم قد افتتحت بحروف مقطعة، من جنس كلام العرب. وبداية، فإن هذه الحروف لم ينقل عن العرب دلالات لها، ولو كانت لها دلالات لتواتر النقل عليها، ولنقل ذلك علماء الصحابة وأئمتهم، وهذا الأمر- أعني افتتاح السور بها- لهو في حد ذاته نوع من التحدي للقيام بالكشف عن أسرارها والتفكر فيها. ولما لم يذكر عن الغرب لها دلالات فقد كان للعلماء بشأنها موقفان: أولهما: ذهب الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من أهل الحديث إلى أنها سر الله في القرآن، وهي من المتشابه. وثانيهما: وهو ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم: أنه يجب أن يتكلم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها. وقد كان لابن عباس ترجمان القرآن النصيب الأوفر من الأقوال في هذه الأحرف. وجاء المفسرون من بعده، فاتسعوا في تحديد معاني هذه الفواتح، فقد ذكروا منها: أنها: -

الشَّعْبِيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وجماعةٌ من المحدِّثين: هي سر اللَّه في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد اللَّه بعلمه، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن يؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت «1» ، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرَّج عليها، واختلفوا في ذلك على اثنَيْ عَشَرَ قولاً. فقال عليٌّ، وابن عَبَّاس رضي اللَّه عنهما: الحروف المقطَّعة في القرآن: هي اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها «2» . وقال ابن عبَّاس أيضًا: هي أسماء اللَّه أقسم بها «3» ، وقال أيضًا: هي حروف تدلُّ على: أَنَا اللَّهُ أعلم، أنا الله أرى «4» ، وقال قوم:

_ - 1- اسم الله الأعظم. 2- قسم أقسم الله به وهو من أسمائه. 3- أسماء للسور التي وردت فيها. 4- اسم من أسماء القرآن. 5- فواتح يفتح الله بها القرآن. 6- لكل كتاب سر، وسر القرآن فواتحه. 7- حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر. 8- حروف هجاء موضوع. 9- حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة. 10- ابتدئت بذلك السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين. 11- علامات لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاب يفتتح بالحروف المقطعة. 12- حروف من حساب الجمل. ينظر: «البرهان» (1/ 169) ، و «جامع البيان» (1/ 205) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 81) ، و «مفاتيح الغيب» (2/ 3) ، و «البحر المحيط» (1/ 154) . (1) ذكره السمرقندي في تفسيره (1/ 87) ، والبغوي (1/ 44) ، وابن عطية الأندلسي (1/ 82) ، والقرطبي (1/ 133- 134) . (2) أخرجه ابن جرير (1/ 119) ، (233) مختصرا. وذكره السمرقندي في «تفسيره» (1/ 87) ، عن علي بلفظ «وهو اسم من أسماء الله تعالى» . وابن عطية في «تفسيره» (1/ 82) ، وابن كثير (1/ 36) ، القرطبي (1/ 134) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، بلفظ «اسم الله أعظم» ، وعزاه لابن جريج وابن أبي حاتم. (3) أخرجه ابن جرير (1/ 119) (236) ، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 82) ، والبغوي (1/ 44) ، بلفظ «أنها أقسام» عن ابن عباس، والماوردي في «تفسيره» (1/ 64) وابن كثير (1/ 36) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، وعزاه لابن مردويه. (4) أخرجه ابن جرير (1/ 119) برقم (239) بلفظ: «أنا الله أعلم» . وفي (6/ 525) برقم (17534) ، -

هي حسابُ أَبِي جَاد «1» لتدلَّ على مدَّة ملّة محمّد صلّى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حُيَيِّ بن أَخْطب «2» ، وهو قول أبي العالية وغيره «3» . ت: وإِليه مال السُّهَيْلِيُّ «4» في «الرَّوْضِ الأُنُفِ» ، فانظره. قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: الاسمُ من «ذَلِكَ» : الذال، والألف، واللام لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب. واختلف في «ذَلِكَ» هنا فقيل: هو بمعنى «هَذَا» ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضرٍ تعلَّق به بعضُ غَيْبَةٍ، وقيل: هو على بابه، إِشارةً إِلى غائب. واختلفوا في ذلك الغائب فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل غير ذلك انظره.

_ - بلفظ: «أنا الله أرى» . والسيوطي في «الدر» (1/ 54) ، بلفظ: «أنا الله أعلم» ، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس. وفي (3/ 534) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ، وابن النجار في «تاريخه» ، وذكره القرطبي (1/ 135) ، وابن كثير (1/ 36) ، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 82) . (1) وأبو جاد: الكلمة الأولى من الكلمات الثماني التي تجمع حروف الهجاء العربية. ويقال: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لقي أعرابيّا فسأله: هل تحسن القراءة؟ فقال: نعم، قال: فاقرأ أم القرآن، فقال الأعرابي: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟!، فضربه عمر، وأسلمه إلى الكتّاب، فمكث حينا ثم هرب، ولما رجع إلى أهله أنشدهم [الوافر] : أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أسطر متتابعات وخطوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصا وقريشيات وما أنا والكتابة والتهجي ... وما حظ البنين مع البنات ينظر: «المعجم الكبير» (1/ 22، 23) . (2) حييّ بن أخطب النضري: جاهلي، من الأشداء العتاة. كان ينعت ب «سيد الحاضر والبادي» . أدرك الإسلام، وآذى المسلمين فأسروه يوم «قريظة» . ثم قتلوه. ينظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 148- 149) ، «تهذيب الأسماء» (1/ 171) ، و «الأعلام» (2/ 292) . (3) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 82) والسيوطي في «الدر» (1/ 56) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....] (4) عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السهيلي: حافظ، عالم باللغة والسير، ضرير. ولد في «مالقة» ، وعمي وعمره (17 سنة) . ونبغ فاتصل خبره بصاحب «مراكش» فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنّف كتبه، من كتبه «الروض الأنف» في شرح «السيرة النبوية» لابن هشام، وغيرها من الكتب في التفسير. ولد سنة (508 هـ.) ، وتوفي سنة (581 هـ.) . انظر: «وفيات الأعيان» (1/ 28) ، «نكت الهميان» (187) ، «زاد المسافر» (96) «الأعلام» (3/ 313) .

ولا رَيْبَ فِيهِ: معناه: لا شكّ فيه، وهُدىً: معناه إِرشادٌ وبيانٌ، وقوله: لِلْمُتَّقِينَ: اللفظ مأخوذ من «وقى» ، والمعنى: الذين يَتَّقُونَ اللَّه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، كان ذلك وقايةً بينهم وبين عذابه. قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. يُؤْمِنُونَ: معناه يُصَدِّقون، وقوله: بِالْغَيْبِ قالت طائفةٌ: معناه: يُصَدِّقون، إِذا غَابُوا وَخَلَوْا، لا كالمنافقين الَّذين يؤمنون إذَا حضروا، ويكْفُرُونَ إِذا غابوا، وقال آخرون: معناه: يصدِّقون بما غاب عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ، وقوله: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ معناه: يظهرونها ويثبتونها كما يقال: أُقِيمَتِ السُّوقُ. ت: وقال أبو عبد اللَّه النَّحْوِيُّ في اختصاره لتفسيرِ الطَّبَرِيِّ: إِقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإِقبال عليها. انتهى. قال ص «1» : يقيمون الصلاةَ من التقويمِ ومنه: أَقَمْتُ العُودَ، أو الإِْدَامَةِ ومنه: قامتِ السُّوقُ، أو التشميرِ والنهوضِ ومنه: قام بالأمر. انتهى. وقوله تعالى/: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ: الرزْقُ «2» عند أهل السنة ما صحّ الانتفاع 10 أ

_ (1) «المجيد» ص 84. (2) اختلف العلماء في تعريف الرزق في عرف الشرع، فقال أبو الحسين البصري من المعتزلة: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال. فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص. واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقا. وقال الأشاعرة: الحرام قد يكون رزقا، وحجتهم من وجهين: الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظا ونصيبا، فوجب أن يكون رزقا له. الثاني: أنه تعالى قال: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا. وقد احتج المعتزلة بالكتاب، والسنة، والمعنى: أما الكتاب فعدة وجوه: أحدها: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] مدحهم الله تعالى على الإنفاق مما رزقهم، فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وهذا باطل بالاتفاق. ثانيها: قالوا: لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله سبحانه: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [المنافقون: 10] ، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه، بل يجب عليه-

[سورة البقرة (2) : الآيات 4 إلى 7]

به، حلالا كان أو حراما، ويُنْفِقُونَ: معناه هنا: يؤْتُونَ ما ألزمهُمُ الشرعُ من زكاةٍ، وما ندبهم إِلَيْهِ من غير ذلك. [سورة البقرة (2) : الآيات 4 الى 7] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: اختلف المتأوِّلون من المراد بهذه الآية والتي قبلها، فقال قوم: الآيتان جميعاً في جميع المؤمنينَ، وقال آخرون: هما في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتاب، وقال آخرون: الآية الأولى في مُؤْمِنِي العربِ، والثانيةُ في مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام «1» وفيه نزلت.

_ - رده فدل ذلك على أن الحرام لا يكون رزقا. ثالثها: استدلوا بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59] . فبين سبحانه أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله فثبت أن الحرام لا يكون رزقا. وأما السنة، فما رواه أبو الحسين البصري بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة، فقال له: يا رسول الله! إن الله كتب علي الشقوة، فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي، فائذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال عليه السلام «لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت، أي عدو الله: لقد رزقك الله رزقا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا» وأما المعنى، فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان الكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضا من العباد، وكذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقا أيضا، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا لأن قوله عليه السلام: «فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه» صريح في أن الرزق قد يكون حراما. وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ. والله أعلم. ينظر: «الفخر الرازي» (2/ 28، 29) . (1) هو: عبد الله بن سلام بن الحارث.. من ذرية يوسف (عليه السلام) . أبو يوسف، حليف النوافل من الخزرج «الإسرائيلي» ، الأنصاري. -

وقوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: يعني القرآن، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يعني: الكتب السالفة، ويُوقِنُونَ معناه: يعلَمُونَ عِلْماً متمكِّناً في نفوسهم، واليقين أعلى درجات العلم. وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ إِشارة إِلى المذكورين، والهدى هنا: الإِرشاد، والفلاحُ: الظَّفَر بالبغية، وإدراك الأمل. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ... إلى عَظِيمٌ: اختلف فيمن نزلَتْ هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامَّة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها، فقال قوم: هي فيمن سبق في علْمِ اللَّه، أنه لا يؤمِنُ، وقال ابن عَبَّاسٍ: نزَلَتْ في حُيَيٍّ بْنِ أَخْطَبَ، وأَبِي ياسِرِ بنِ أَخْطَبَ، وكعب بن الأَشْرَفِ «1» ، ونظرائهم «2» . والقولُ الأول هو المعتمد عليه. وقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ معناه: معتدلٌ عندهم، والإِنذار: إعلام بتخويف، هذا حدُّه، وقوله تعالى: خَتَمَ: مأخوذ من الخَتْم، وهو الطبعُ، والخاتَمُ: الطابَعُ قال في مختصر الطبريِّ: والصحيح أن هذا الطبع حقيقة «3»

_ - قال ابن الأثير في «الأسد» : كان إسلامه لما قدم النبي المدينة مهاجرا. روى عنه ابناه يوسف، ومحمد، وأنس بن مالك، وزرارة بن أوفى، وكان قد ذكر قبل ذلك أنه كان اسمه في الجاهلية «الحصين» ، فسماه رسول الله حين أسلم عبد الله. توفي سنة (43) هـ. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 264) ، «الإصابة» (4/ 80) ، «الثقات» (3/ 228) ، «نقعة الصديان» (245) ، «عنوان النجابة» (124) ، «شذرات الذهب» (1/ 40) ، «تقريب التهذيب» (1/ 422) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 249) . (1) كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، شاعر جاهلي. كانت أمه من «بني النضير» فدان باليهودية. وكان سيدا في أخواله. أدرك الإسلام ولم يسلم، وأكثر من هجوم النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وتحريض القبائل عليهم وإيذائهم، والتشبيب بنسائهم، وخرج إلى مكة بعد وقعة «بدر» فندب قتلى قريش فيها، وحض على الأخذ بثأرهم، وعاد إلى المدينة. وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتله، فانطلق إليه خمسة من الأنصار فقتلوه في ظاهر حصنه سنة (3 هـ.) وحملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة. ينظر: «الروض الأنف» (2/ 123) ، «إمتاع الأسماع» (1/ 107) ، «ابن الأثير» (2/ 53) ، «الطبري» (3/ 2) ، «الأعلام» (5/ 225) . (2) الطبري (1/ 141) برقم (295) وذكره السمرقندي (1/ 91- 92) ، وابن عطية الأندلسي (1/ 87) ، والماوردي (1/ 72) ، والقرطبي (1/ 160) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 65) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وذكره ابن كثير (1/ 45) . (3) قال ابن فارس في «فقه اللغة» : الحقيقة من قولنا: حقّ الشيء إذا وجب. واشتقاقه من الشيء المحقق، -

لا أنه مجاز «1» فقد جاء عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ العَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً، نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ، وَنَزَعَ واستغفر، صُقِلَ «2» قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ، زَادَتْ حتى تَغَلَّقَ قلبه، فذلك

_ وهو المحكم يقال: ثوب محقّق النّسج: أي محكمه. فالحقيقة: الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة، ولا تمثيل، ولا تقديم فيه، ولا تأخير كقول القائل: أحمد الله على نعمه وإحسانه. وهذا أكثر الكلام، وأكثر آي القرآن وشعر العرب على هذا. وينظر: «البحر المحيط» للزركشي (2/ 152) ، «سلاسل الذهب» له ص (182) ، «التمهيد» للأسنوي ص (185) ، «نهاية السول» له (2/ 145) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 327) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري» (ص 46) . (1) المجاز مأخوذ من جاز يجوز إذا استنّ ماضيا، تقول: جاز بنا فلان، وجاز علينا فارس هذا هو الأصل. ثم تقول: يجوز أن تفعل كذا: أي ينفذ ولا يرد ولا يمنع. وتقول: عندنا دراهم وضح وازنة، وأخرى تجوز جواز الوازنة: أي: إن هذه وإن لم تكن وازنة فهي تجوز مجازها وجوازها لقربها منها. فهذا تأويل قولنا: «مجاز» يعني: أن الكلام الحقيقي يمضي لسننه لا يعترض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه، إلا أن فيه من تشبيه واستعارة وكفّ ما ليس في الأوّل وذلك كقولنا: عطاء فلان مزن واكف. فهذا تشبيه، وقد جاز مجاز قوله: عطاؤه كثير واف. ومن هذا قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16] . فهذا استعارة. وقال ابن جني في «الخصائص» : الحقيقية ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك، وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة: وهي الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن عدمت الثلاثة تعيّنت الحقيقة فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم في الفرس: «هو بحر» ، فالمعاني الثلاثة موجودة فيه. ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (2/ 158) ، «سلاسل الذهب» له ص (190) ، «التمهيد» للأسنوي ص (185) ، «نهاية السول» له (2/ 145) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 354) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص (47) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي، (1/ 221) ، «المستصفى» للغزالي (1/ 341) ، «حاشية البناني» (1/ 304) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 273) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (2/ 152) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص (387) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 399) ، «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 14، 2/ 405) ، «الإحكام في أصول الأحكام» (4/ 437) ، «التحرير» لابن الهمام ص (160) ، «تيسير التحرير لأمير بادشاه» (1/ 73، 2/ 3) ، «كشف الأسرار» للنسفي (1/ 226) ، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (1/ 138) ، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1/ 72) ، «حاشية نسمات الأسحار» لابن عابدين ص (98) ، «شرح مختصر المنار» للكوراني ص (59) ، «الوجيز» للكراماستي ص (8) ، «ميزان الأصول» للسمرقندي (1/ 527) ، «تقريب الوصول» لابن جزي ص (73) ، «إرشاد الفحول» للشوكاني ص (22) ، «نشر البنود» للشنقيطي (1/ 124) ، «الكوكب المنير» للفتوحي ص (39- 56) ، «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (2/ 2) . (2) الصّقل: الجلاء. ينظر: «لسان العرب» (2473) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 8 إلى 12]

الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ» «1» [المطففين: 14] » انتهى. والغِشَاوَةُ: الغطاء المغشي الساتر، وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: معناه: لِمخالفتِكَ يا محمَّد، وكفرهم بالله، وعَظِيمٌ: معناه بالإضافة إلى عذاب دونه. [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 12] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ... إِلَى وَما يَشْعُرُونَ: هذه الآية نزلت في المنافقين، وسَمَّى اللَّهُ تعالى يوم القيامة اليَوْمَ الآخِرَ لأنه لا ليل بعده، ولا يقالُ يوم إِلا لما تقدَّمه ليل، واختلف المتأوِّلون في قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ، فقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى يُخَادِعُون رسول اللَّه «2» ، فأضافَ الأمرَ إلى اللَّه تجوُّزاً لتعلُّق رسوله به، ومخادعتُهم هي تحيُّلهم في أن يُفْشِيَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون إليهم أسرارهم. ع «3» : تقول: خادَعْتُ الرجُلَ بمعنى: أعملْتُ التحيُّل عليه، فَخَدَعْتُهُ، بمعنى: تمَّت عليه الحيلة، ونفذ فيه المرادُ، وقال جماعةٌ: بل يخادعون اللَّهَ والمؤمنين بإِظهارهم من الإِيمان خلافَ ما أبطنوا من الكفر، وإِنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب، وَما يَشْعُرُونَ بذلك، معناه: وما يعلمون علْمَ تفطُّن وتَهَدٍّ، وهي لفظة مأخوذة من

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 297) ، والترمذي (5/ 434) ، كتاب «تفسير القرآن» ، باب ومن سورة ويل للمطففين، حديث (3334) ، والنسائي في «التفسير» (2/ 505) ، رقم (678) ، وفي «الكبرى» (6/ 110) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يفعل من بلي بذنب وما يقول، حديث (10251) ، وابن ماجه (2/ 1418) ، كتاب «الزهد» باب ذكر الذنوب، حديث (4244) ، والطبري في «تفسيره» (30/ 62) ، والحاكم (2/ 517) ، وابن حبان (3/ 210) ، رقم (930) ، و (1771- موارد) ، كلهم من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 539) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (2) ذكره ابن عطية (1/ 90) ، والقرطبي (1/ 170) . [.....] (3) «المحرر الوجيز» (1/ 90) .

الشِّعَار كأن الشيء المتفطَّن له شعار للنَّفْس، وقولهم: لَيْتَ شِعْرِي: معناه: ليت فطنتي تُدْرِكُ. واختلف، ما الذي نَفَى/ اللَّه عنهم أنْ يشعروا له؟ فقالت طائفة: وما يَشْعُرُونَ أنَّ ضرَرَ تلْكَ المخادَعَةِ راجعٌ عليهم لخلودهم في النَّار، وقال آخرون: وما يَشْعُرُونَ أنَّ اللَّه يكشف لك سرّهم ومخادعتهم في قولهم: آمَنَّا. قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أي: في عقائدهم فسادٌ «1» ، وهم المنافقون، وذلك إما أن يكون شكًّا، وإما جحدًا بسبب حسدهم مع علمهم بصحَّة ما يجحدون، وقال قوم: المَرَضُ غمّهم بظهوره صلّى الله عليه وسلم، فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً، قيل: هو دعاءٌ عليهم، وقيل: هو خبر أنَّ اللَّه قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحْيِ، ويظهر من البراهين. ت: لما تكلَّم ع: على تفسير قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح: 6] . قال «2» : كُلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عزَّ وجلَّ، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء لأَنَّ اللَّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته، وهي في قبضته، ومن هذا: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] ، وهي كلها أحكام تامَّة تضمنها خبره تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، أي: مؤلم، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: بالكفر وموالاةِ الكفرةِ ولقول المنافقين: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ثلاثُ تأويلاتٍ: أحدها: جحد أنهم يفسدون، وهذا استمرار منهم على النِّفاق. والثاني: أنّ يقروا بموالاة الكُفَّار ويدَّعون أنها صلاحٌ من حيث هم قرابةٌ توصل. والثالث: أنهم يصلحون بين الكفار والمؤمنين.

_ (1) وفي تفسير «المرض» قال ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وقتادة، وجميع المفسرين: أي شك ونفاق. وقال الزجاج: المرض في القلب: كل ما خرج به الإنسان من الصحة في الدين. ينظر: «الوسيط» (1/ 87) ، «صحيفة ابن أبي طلحة» (ص 78) ، و «معاني الزجاج» (1/ 86) ، ونسبه إلى أبي عبيدة، و «غريب القرآن» (ص 41) ، و «الدر المنثور» (1/ 30) عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والربيع، وينظر: «مجاز القرآن» (1/ 32) ، و «الزاهر» (1/ 586) . (2) «المحرر الوجيز» (3/ 73) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 13 إلى 16]

و «أَلاَ» : استفتاحُ كلامٍ، و «لكن» : حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا: لا يَشْعُرُونَ أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد: لا يشعرون أن الله يفضحهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 13 الى 16] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ... الآية: المعنى: صدِّقوا بمحمَّد وشرعه كما صدَّقَ المهاجرون والمحقِّقون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين خَفَّت عقولهم، والسفه: الخفَّة والرقَّة الداعيةُ إِلى الخفة، يقال: ثوب سَفِيهٌ، إِذا كان رقيقًا هَلْهَلَ النَّسْجِ، وهذا القول إِنما كانوا يقولونه في خفاء، فَأَطْلَعَ اللَّه عليه نبيَّه عليه السلام، والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقَّة الحلوم وفساد البصائرِ إِنما هو في حيِّزهم وصفةٌ لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء لِلرَّيْنِ الَّذي على قلوبهم. وقوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية: هذه كانت حالَ المنافقين: إِظهارُ الإيمان للمؤمنين، وإِظهار الكفر في خلواتهم، وكان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم يعرض عنهم، ويَدَعُهُمْ في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدَّثَ الناسُ عنه أنه يقتُلُ أصحابه حَسْبَمَا وقع في قِصَّة عبد اللَّه بن أُبَيٍّ ابْنِ سَلُول «1» ، قال مَالِكٌ: النِّفَاقُ في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الزندقةُ اليَوْمَ، واختلف المفسِّرون في المراد بشياطينهم، فقال ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما: هم رؤساء الكفر «2» ، وقيل: الكُهَّان، قال البخاريُّ: قال مجاهدٌ: إِلى شَياطِينِهِمْ، أي: أصحابهم من المنافقين والمشركين «3» . قال ص «4» : شياطينهم: جمع شيطانٍ، وهو كل متمرّد من الجنّ والإنس

_ (1) عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد الخزرجي، أبو الحباب، المشهور ب «ابن سلول» ، وسلول جدته لأبيه، من «خزاعة» ، رأس المنافقين في الإسلام، من أهل المدينة. كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم. كان كلما نزلت بالمسلمين نازلة شمت بهم، وكلما سمع بسيئة نشرها. لما مات تقدّم النبي صلّى الله عليه وسلم فصلّى عليه ولم يكن ذلك من رأي «عمر» فنزلت: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: 84] . ينظر: «الأعلام» (4/ 65) ، «طبقات ابن سعد» (3/ 90) ، «جمهرة الأنساب» (335) . (2) أخرجه الطبري (1/ 163) برقم (349) ، وذكره القرطبي (1/ 179) . (3) أخرجه الطبري (1/ 164) برقم (355) ، وذكره البغوي في «التفسير» (1/ 51) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 70) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وذكره ابن كثير (1/ 51) . (4) «المجيد في إعراب القرآن المجيد» (ص 118) .

والدوابِّ. قاله ابن عبَّاس، وأنثاه شيطانة. انتهى. ت: ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة، وقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ» . رواه أبو داود «1» ، وفيه عنه صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ له يوم القيامة لسانان 11 أمن نَارٍ» . انتهى. / من سنن أبي داود «2» . اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ: اختلف المفسِّرون في هذا الاستهزاء، فقال جمهور العلماء: هي تسمية العُقُوبة باسم الذَّنْب، والعربُ تستعمل ذلك كثيرًا، وقال قوم: إن اللَّه سبحانه يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البَشَر هُزْءٌ روي أنَّ النَّارَ تجمد كما تَجْمُدُ الإِهالة «3» ، فيمشون عليها، ويظنون أنها منجاة، فتخسف بهم، وما روي أن أبواب النَّار تفتح لهم، فيذهبون إِلى الخروج، نحا هذا المنحى ابنُ عَبَّاس والحسن. ت: وقوله تعالى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد: 13] يقوِّي هذا المنحى، وهكذا نص عليه في اختصار الطبريِّ. انتهى. وقيل: استهزاؤه بهم هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية، ويَمُدُّهُمْ، أي: يزيدهم في الطغيان، وقال مجاهد: معناه: يملي لهم «4» ، والطغيان الغلوّ وتعدّي الحدّ

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 684) ، كتاب «الأدب» ، باب في ذي الوجهين، حديث (4872) ، من طريق أبي الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعا بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري (10/ 489) ، كتاب «الأدب» ، باب ما قيل في ذي الوجهين، حديث (6058) ، ومسلم (4/ 1958) ، كتاب «فضائل الصحابة» ، باب خيار الناس، حديث (199/ 2526) ، بلفظ: «تجدون من شر الناس ... » الحديث. (2) أخرجه أبو داود (2/ 684- 685) ، كتاب «الأدب» ، باب في ذي الوجهين، حديث (4873) ، والدارمي (2/ 314) ، كتاب «الرقاق» ، باب ما قيل في ذي الوجهين، والبخاري في «الأدب المفرد» (188) ، وابن حبان (1979- موارد) ، والطيالسي (2/ 59- منحة) ، رقم (6175) ، وابن أبي شيبة (8/ 558) رقم (5515) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 523- بتحقيقنا) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 229) ، رقم (4881) ، كلهم من طريق شريك بن عبد الله، عن الركين، عن نعيم بن حنظلة، عن عمار بن ياسر مرفوعا، وصححه ابن حبان. وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (3/ 137) : وسنده حسن. (3) الإهالة: الدّهن. ينظر: «عمدة الحفاظ» (1/ 153) . (4) أخرجه الطبري (1/ 168) برقم (364) عن ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم. وبرقم (365) عن مجاهد، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 70) عن ابن مسعود.

[سورة البقرة (2) : الآيات 17 إلى 20]

كما يقال: طغى الماء، وطغت النّار ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردَّدون حيرةً، والعَمَهُ الحَيْرَةُ من جهة النّظر، والعامة الذي كأنه لا يبصر. [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ... إلى قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ: قال الفَخْر «1» : اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفْسِهِ لأن الغرض من المَثَل تشبيه الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ، والغائب بالشاهدِ، فيتأكَّد الوقوفُ على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل وذلك هو النهاية في الإِيضاح ألا ترى أنَّ الترغيب والترهيب إِذا وقع مجرَّداً عن ضرب مَثَلٍ، لم يتأكَّد وقوعه في القلب كتأكُّده مع ضرب المثل، ولهذا أكثر اللَّه تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه الأمثالَ، قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] انتهى. والمَثَل والمِثْل والمَثِيلُ واحدٌ، معناه: الشبيه، قاله أهل اللغة. واسْتَوْقَدَ: قيل: معناه أوقد. واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد ناراً فقالت فرقةٌ: هي فيمن كان آمن، ثم كفر بالنفاقِ، فإِيمانه بمنزلة النار أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها، وذهابِ النور، وقالت فرقةٌ، منهم قتادة: نطقهم ب «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» والقُرْآنِ كإِضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها «2» ، قال جمهورُ النحاة: جواب «لَمَّا» : «ذَهَبَ» ويعود الضمير من نورهم على «الذي» ، وعلى هذا القولِ يتمُّ تمثيل المنافق بالمستوقِدِ لأنَّ بقاء المستوقِدِ في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الخلاف المتقدِّم. وقال قومٌ «3» : جوابُ «لَمَّا» مضمرٌ، وهو «طُفِئَتْ» ، فالضمير في «نُورِهِمْ» على هذا

_ (1) «مفاتيح الغيب» (2/ 66) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 100) . (3) ومن هؤلاء أبو القاسم الزمخشري، فقد قال عن جواب «لما» . «محذوف ... كأن قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في-[.....]

للمنافقين، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكونُ في الآخرة، وهو قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ ... الآيةَ [الحديد: 13] وهذا القول غير قويٍّ. والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم: الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإِذا فهم، فهو الأخرس، وقيل: الأبكم والأخرس واحدٌ، ووصفهم بهذه الصفات إِذْ أعمالهم من الخطإ وعدم الإِجابة كأعمال من هذه صفته. و «صُمٌّ» : رفع على خبر الابتداء، إما على تقدير تكرير «أُولَئِكَ» ، أو إِضمارهم. وقوله تعالى: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ قيل: معناه: لا يؤمنون بوجْهٍ، وهذا إنما يصح أنْ لو كانت الآية في معيَّنينِ، وقيل: معناه: فهم لا يرجعونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيحُ. أَوْ كَصَيِّبٍ: «أَوْ» : للتخيير، معناه مثِّلوهم بهذا أو بهذا، والصَّيِّبُ المطر من: 11 ب صَابَ يَصُوبُ، إِذا/ انحط من عُلْو إِلى سفل. وظُلُماتٌ: بالجمع: إِشارة إِلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، ومن حيث تتراكب وتتزيد جُمِعَتْ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفوس بخلاف السحاب والمطر، إذا انجلى دجنه، فإنه سارٌّ جميل. واختلف العلماء في «الرَّعْدِ» ، فقال ابن عباس ومجاهد وشَهْرُ بن حَوْشَبٍ «1» وغيرهم: هو مَلَكٌ يزجرُ السحابَ بهذا الصوتِ المسموعِ كلَّما خالفتْ سحابةٌ، صاح بها، فإِذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعقُ، واسم هذا الملك: الرّعد «2» .

_ - إحياء النار..» وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، وجعل جملة قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ مستأنفة أو بدلا من جملة التمثيل. وقد رد عليه أبو حيان- كما ذكر السمين عنه- بوجهين: أحدهما: أن هذا تقدير مع وجود ما يغني عنه، فلا حاجة إليه إذ التقديرات إنما تكون عند الضرورات. والثاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية. ينظر: «الكشاف» (1/ 73) ، و «البحر المحيط» (1/ 213) ، و «الدر المصون» (1/ 132) . (1) شهر بن حوشب الأشعري، فقيه قارئ، من رجال الحديث. شامي الأصل، سكن «العراق» ، وكان يتزيّا بزي الجند، ويسمع الغناء بالآلات. وولي بيت المال مدة، وهو متروك الحديث. وكان ظريفا، قال له رجل: إني أحبك، فقال: ولم لا تحبني وأنا أخوك في كتاب الله، ووزيرك على دين الله، ومؤنتي على غيرك. ينظر: «الأعلام» (3/ 178) ، «تهذيب التهذيب» (4/ 369) ، و «التاج» (1/ 214) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 102) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 53) ، والقرطبي (1/ 187) .

وقيل: الرَّعْدُ مَلَكٌ، وهذا الصوت تسبيحُهُ. وقيل: الرعد: اسم الصوْتِ المسموعِ قاله عليُّ بن أبي طالب «1» . وأكثر العلماء على أن الرعد ملكٌ، وذلك صوته يسبِّح ويزجرُ السحابَ. واختلفوا في البَرْقِ. فقال علي بن أبي طالب وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هُوَ مِخْرَاقُ حَدِيدٍ بِيَدِ المَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ» وهذا أصحُّ ما روي فيه «2» . وقال ابن عبَّاس: هو سَوط نور بيد المَلَكِ يزجي به السحَابَ «3» ، وروي عنه: أنَّ البرق ملك يتراءى «4» . واختلف المتأوّلون في المقصد بهذا المثل، وكيف تترتب أحوالُ المنافقينَ المُوَازِنَةُ لما في المَثَل من الظلماتِ والرعْدِ والبرقِ والصواعِقِ. فقال جمهور المفسِّرين: مَثَّلَ اللَّه تعالى القُرْآنَ بالصَّيِّبِ، فما فيه من الإشكال عليهم والعمى هو الظلماتُ، وما فيه من الوعيدِ والزجْرِ هو الرعْدُ، وما فيه من النُّور والحُجَج الباهرة هو البَرْقُ، وتخوُّفهم ورَوْعُهُمْ وحَذَرُهم هو جَعْلُ أصابعهم في آذانهم، وفَضْحُ نفاقهم، واشتهارُ كفرهم، وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها من الجهادِ والزكاةِ ونحوه هي الصواعقُ، وهذا كله صحيحٌ بيِّن. وقال ابنُ مسعود: إِن المنافقين في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانُوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن، فضرب اللَّه المثل لهم «5» ، وهذا وفاقٌ لقول الجمهور. ومُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ معناه: بعقابهم، يقال: أحاط السلطان بفلانٍ، إِذا أخذه أخذًا حاصرًا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: 42] .

_ (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 53) ، وابن عطية (1/ 102) ، والقرطبي (1/ 187) . (2) أخرجه البيهقي في «سننه» (3/ 363) ، كتاب «صلاة الاستسقاء» ، باب ما جاء في الرعد، عن علي موقوفا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 96) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب «المطر» ، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» . (3) ذكره الماوردي في «التفسير» (1/ 82) ، والبغوي (1/ 53) ، والقرطبي (1/ 187) . (4) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 102) ، والقرطبي (1/ 188) . (5) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 103) .

ويَكادُ فعل ينفي المعنى مع إِيجابه، ويوجبه مع النفي «1» ، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخَطْفُ: الانتزاعُ بسرعة، ومعنى يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البَرْقَ في المثل الزجْرَ والوعيدَ، قال: يكاد ذلك يصيبهم. و «كُلَّمَا» : ظرفٌ، والعامل فيه «مَشَوْا» ، و «قَامُوا» معناه: ثَبَتُوا، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عَبَّاس وغيره: كلَّما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحججُ، أنسوا ومشوا معه، فإذا نَزَلَ من القرآن ما يعمهون فيه، ويضلون به، أو يكلَّفونه، قاموا، أي: ثَبَتُوا على نفاقهم. وروي عن ابن مسعودٍ أنَّ معنى الآية: كلَّما صلُحَتْ أحوالهم في زروعهم ومواشِيهِمْ، وتوالَتْ عليهم النّعم، قالوا: دين محمَّد دِينٌ مبارَكٌ، وإِذا نزلت بهم مصيبةٌ أَو أصابتهم شدَّة، سَخِطُوه وثَبَتُوا في نفاقهم «2» . ووحَّد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع. 12 أوقوله سبحانه: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لفظه العمومُ، ومعناه عند/ المتكلِّمين: فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، وقديرٌ بمعنى قَادِرٍ، وفيه مبالغةٌ، وخَصَّ هنا سبحانه صفتَهُ الَّتي هي القدرةُ- بالذِّكُر لأنه قد تقدَّم ذكر فعلٍ مضمَّنه الوعيدُ والإِخافةُ، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك.

_ (1) وزعم جماعة منهم ابن جني وأبو البقاء وابن عطية أنّ نفيها إثبات وإثباتها نفي، حتى ألغز بعضهم فيها فقال: [الطويل] أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة ... جرت في لساني جرهم وثمود إذا نفيت- والله أعلم- أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود وحكوا عن ذي الرمة أنه لمّا أنشد قوله: [الطويل] إذا غيّر النأي المحبّين لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح عيب عليه لأنه قال: لم يكد يبرح فيكون قد برح، فغيّره إلى قوله: «لم يزل» أو ما هو بمعناه، والذي غرّ هؤلاء قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] قالوا: فهي هنا منفيّة وخبرها مثبت في المعنى، لأن الذبح وقع لقوله: فَذَبَحُوها. والجواب عن هذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي: ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر. والثاني: أنه عبّر بنفي مقاربة الفعل عن شدّة تعنّتهم وعسرهم في الفعل. وأمّا ما حكوه عن ذي الرّمّة فقد غلّط الجمهور ذا الرّمة في رجوعه عن قوله وقالوا: هو أبلغ وأحسن ممّا غيّره إليه. ينظر: «الدر المصون» (1/ 140) . (2) ينظر: ابن عطية (1/ 104) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 24]

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 24] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... الآيَةَ: «يَا» : حرفُ نداءٍ، وفيه تنبيهٌ، و «أَيُّ» هو المنادى، قال مجاهد: يا أَيُّهَا النَّاسُ حيث وقع في القرآن مكّيّ، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مدنيٌّ «1» . قال ع «2» : قد تقدَّم في أول السورة أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدنيّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ. وأما قوله في: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فصحيح. اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: معناه: وحِّدوه، وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم إِذ كانت العرب مقرة بأن اللَّه خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجةً عليهم، ولعل في هذه الآية قال فيها كثيرٌ من المفسِّرين: هي بمعنى إيجاب التقوى، وليست من اللَّه تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع، وفي «مختصر الطَّبَرِيِّ» : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عن مجاهد، أي: لعلَّكم تطيعون «3» ، والتقوَى التوقِّي من عذاب اللَّه بعبادته، وهي من الوقاية، وأما «لَعَلَّ» هنا، فهي بمعنى «كَيْ» أو «لامِ كَيْ» ، أي: لتتقوا، أوْ لكَيْ تتقوا، وليست هنا من اللَّه تعالى بمعنى الترجِّي، وإنما هي بمعنى كَيْ، وقد تجيء بمعنى «كَيْ» في اللغة قال الشاعر: [الطويل] وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ موثق «4»

_ (1) ينظر المصدر السابق، والقرطبي (1/ 194) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 105) . (3) أخرجه الطبري (1/ 196) برقم (474) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 74) ، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ. (4) وبعده: فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الملا متألّق وهما بلا نسبة في «تفسير الطبري» (1/ 364) ، و «القرطبي» (1/ 227، 12/ 282) ، و «زاد المسير» (1/ 48) ، و «الدر المصون» (1/ 47) ، و «الحماسة البصرية» (1/ 56) . والشاهد فيه «لعل» : استعملها-[.....]

انتهى. قال ع «1» : وقال سيبويه «2» : ورؤساءُ اللِّسَان: هي على بابها، والترجِّي والتوقُّع إنما هو في حيز البشر، أي: إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجَوْتُمْ لأنفسكم التقوى، و «لَعَلَّ» : متعلِّقة بقوله: «اعبدوا» ، ويتجه تعلُّقها ب «خَلَقَكُمْ» أي: لَمَّا وُلِدَ كلُّ مولود على الفطرة، فهو إِن تأمله متأمِّل، توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و «تَتَّقُونَ» : مأخوذ من الوقاية، وجعل بمعنى «صَيَّرَ» في هذه الآية لتعدِّيها إِلى مفعولين، و «فِرَاشاً» معناه: تفترشونها، و «السَّمَاء» قيل: هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل: هو جمعٌ، واحده سَمَاوَة، وكلُّ ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ يريد السحاب، سمي بذلك تجوُّزاً لَمَّا كان يلي السماء، وقد سَمَّوُا المطر سماءً للمجاورة ومنه قول الشاعر: [الوافر] إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا «3» فتجوز أيضاً في «رَعَيْنَاهُ» . وواحد الأنداد نِدٌّ، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأوّلون من المخطاب بهذه الآية، فقالتْ جماعة من المفسِّرين: المخاطَبُ جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يريد العلم الخاصَّ في أنه تعالى خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق، وقيل: المراد كفَّار بني إسرائيل، فالمعنى: وأنتم تعلَمُون من الكتب التي عندكم أنّ الله لا

_ - الشاعر هنا مجردة من الشك بمعنى «لام كي» . يقول: كفوا الحروب لنكف، ولو كانت «لعل» هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق. ينظر: «أمالي ابن الشجري» (1: 71) ، والملا: الصحراء، والأرض الواسعة. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 105) . (2) عمرو بن عثمان بن قنير الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب «سيبويه» : إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو. ولد في إحدى قرى «شيراز» ، وقدم «البصرة» ، فلزم الخليل بن أحمد، ففاقه، وصنف كتابه المسمى «كتاب سيبويه» في النحو. لم يصنع قبله ولا بعده مثله، ناظر الكسائي وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم. كان أنيقا جميلا، توفي شابا، ولد سنة (148 هـ.) وتوفي سنة (180 هـ.) . ينظر: «ابن خلكان» (1: 385) ، «البداية والنهاية» (10: 176) ، «الأعلام» (5/ 81) . (3) البيت لمعود الحكماء. انظر: «تأويل مشكل القرآن» (135) ، الأصبهاني (214) ، الصاحبي (63) ، «معجم الشعراء» (391) ، «المفضليات» (359) ، «الصناعتين» (212) ، «معجم مقاييس اللغة» (3/ 98) ، «العمدة» (1/ 237) ، وفيه النسبة لجرير بن عطية، «معاهد التنصيص» (2/ 260) . والشاهد فيه: الاستخدام، وهو أن يراد بلفظ له معنيان: أحدهما، ثم يراد بضمير الآخر، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما، ثم يراد بالآخر الآخر، فالأول كما في البيت هنا، فإنه أراد بالسماء الغيث، وبالضمير الراجع إليه من «رعيناه» النبت.

ندَّ له، وقال ابنْ فُورَكَ «1» : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ، أي: في شكٍّ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: الضمير في «مِثْلِهِ» عند الجمهور: عائد على القرآن «2» ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، أي: مَنْ شهدكم وحضركم من عون ونصير قاله ابنُ عَبَّاس «3» : إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أي: فيما قلتم من أنَّكم تقدرون على معارضته. ويؤيِّد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى: / 12 ب لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] ، وفي قوله جل وعلا: وَلَنْ تَفْعَلُوا إِثَارةٌ لِهِمَمِهِمْ، وتحريكٌ لنفوسهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن. وقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ: أمر بالإيمانِ وطاعةِ اللَّه، قال الفَخْر «4» ولما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلم وإِذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، واتقاءُ النار يوجب ترك العناد فأقيم قوله: فَاتَّقُوا النَّارَ مُقَامَ قوله: «واتركوا العِنَادَ» ، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة وذلك يدلُّ على قوتها، نجَّانا اللَّه منها برحمته الواسعة. وقرَنَ اللَّه سبحانه النَّاسَ بالحجارة لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناماً يعبدونها قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] فإحدى الآيتين مفسِّرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوع ما منعوا، انتهى.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 106) . وابن فورك هو: محمد بن الحسين بن فورك، أبو بكر الأصفهاني، المتكلم، الأصولي، الأديب، النحوي، الواعظ، أخذ طريقة أبي الحسن الأشعري، عن أبي الحسين الباهلي وغيره، أحيى الله تعالى به أنواعا من العلوم، وبلغت مصنفاته الشيء الكثير، وجرت له مناظرات عظيمة. مات سنة (406) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 190) ، «طبقات السبكي» (3/ 52) ، «تبيين كذب المفتري» ص (232) . «الأعلام» (6/ 313) ، «مرآة الجنان» (3/ 17) ، «النجوم الزاهرة» (4/ 240) . (2) وقال قوم آخرون: إن معنى قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: من مثل محمد من البشر لأن محمدا بشر مثلكم، يعني لأنه لم يكن قرأ الكتب ولا درس، فأتوا بسورة فيها حق من مثل محمد، كما جاء بذلك صلّى الله عليه وسلم. ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 374) ، و «بحر العلوم» للسمرقندي (1/ 102) . (3) أخرجه الطبري (1/ 202) برقم (496) ، وذكره ابن عطية (1/ 107) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 77) ، وعزاه لابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم. (4) ينظر: «مفاتيح الغيب» (2/ 112) .

[سورة البقرة (2) : آية 25]

[سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... الآية. بَشِّرِ: مأخوذ من البَشَرَةِ لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثرٌ في بَشَرة الوجه، والأغلب استعمال البِشَارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيَّدة به كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] ومتى أطلق لفظ البِشَارة، فإِنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ردٌّ على من يقول: إِن لفظة الإِيمان بمجرَّدها تقتضي الطاعاتِ لأنه لو كان كذلك، ما أعادها، وجَنَّاتٍ جمع جَنَّة، وهي بستان الشجرِ والنخلِ، وبستانُ الكَرْم، يقال له الفِرْدَوسُ، وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أَنَّ ثِيَابَ الجَنَّةِ تَشَقَّقُ عَنْهَا ثَمَرُ الجَنَّةِ» «1» ، وروى التِّرْمِذِيُّ عن أبي هريرةَ عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن «2» . انتهى من «التَّذْكِرَةِ» «3» . ت: وفي الباب عن ابن عبَّاس، وجرِيرِ بن عبد اللَّهِ، وغيرهما: وسمِّيتِ الجنةُ جنَّةً لأنها تجنُّ من دخلها «4» أي: تستره، ومنه المِجَنُّ، وَالْجَنَنُ، وجنّة اللّيل. ومِنْ تَحْتِهَا معناه من تحت الأشجار التي يتضمَّنها ذِكْر الجنة. ت: ومن أعظم البِشَارات أنَّ هذه الأمة هم ثلثا أهْلِ الجنَّة، وقد خرَّج أبو بكر بن أبي شيبة «5» عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ ثُلُثَا أهل الجنّة، إنّ أهل

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الترمذي (4/ 671- 672) ، كتاب «صفة الجنة» ، باب ما جاء في صفة شجرة الجنة، حديث (2525) ، وأبو يعلى (11/ 57) ، رقم (6195) ، وابن حبان (2624- موارد) ، وأبو نعيم في «صفة الجنة» (3/ 240) ، رقم (400) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 108) ، كلهم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حسن غريب. وصححه ابن حبان. (3) «التذكرة» ، تحقيق الدكتور السيد الجميلي، ص (607) ، وفيها قول الترمذي: حديث حسن غريب. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 108) . (5) عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبس (بموحدة) ، مولاهم، أبو بكر بن أبي شيبة، الكوفي الحافظ. أحد الأعلام، وصاحب «المصنف» . عن شريك، وهشيم، وابن المبارك، وجرير بن-

الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، وَإِنَّ أُمَّتِي مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ صَفًّا» «1» ، وخرَّج ابن ماجه والترمذيُّ عن بُرَيْدة بن حُصَيْب «2» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أَهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن «3» .

_ - عبد الحميد، وابن عيينة، وخلق. وعنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو زرعة، وعثمان بن خرّزاذ، وأحمد بن علي المروزي، وخلق. قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه. وقال الخطيب: كان متقنا حافظا، صنف التفسير وغيره. وقال نفطويه: اجتمع في مجلسه نحو ثلاثين ألفا. قال البخاري: مات سنة خمس وثلاثين ومائتين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 94) ، و «تهذيب التهذيب» (6/ 2) ، و «الجرح والتعديل» (5/ 737) . [.....] (1) أخرجه ابن أبي شيبة (11/ 470) . (2) هو: بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح بن عدي بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر ... أبو عبد الله. وقيل: أبو سهل. وقيل: أبو ساسان. وقيل أبو الحصيب. الأسلمي. قال ابن الأثير في «الأسد» : أسلم حين مر به النبي صلّى الله عليه وسلم مهاجرا هو ومن معه، وكانوا نحو ثمانين بيتا، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فصلوا خلفه، وأقام بأرض قومه ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد «أحد» ، فشهد معه مشاهده، وشهد الحديبية وبيعة الرضوان تحت الشجرة. وكان من ساكني «المدينة» ثم تحول إلى «البصرة» ، وابتنى بها دارا، ثم خرج منها غازيا إلى «خراسان» فأقام ب «مرو» حتى مات ودفن بها، وبقي ولده بها. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 209) ، «الإصابة» (1/ 151) ، «الثقات» (3/ 29) ، «الجرح والتعديل» (2/ 424) ، «سير أعلام النبلاء» (2/ 469) ، «الجمع بين رجال الصحيحين» (1/ 61) ، «مشاهير علماء الأمصار» (60) ، «تقريب التهذيب» (1/ 96) . (3) أخرجه الترمذي (4/ 683) ، كتاب «صفة الجنة» ، باب ما جاء في صف أهل الجنة، حديث (2546) ، وأحمد (5/ 347) ، كلاهما من طريق ضرار بن مرة، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي هذا الحديث عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا، ومنهم من قال: عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. اهـ. قلت: أما الطريق المرسل والذي أشار إليه الترمذي، فأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 548) ، رقم (1572) من طريق سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا. وأخرجه ابن ماجه (2/ 1433- 1434) ، كتاب «الزهد» ، باب صفة أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، حديث (4289) ، والدارمي (2/ 337) ، كتاب «الرقاق» ، باب في صفوف أهل الجنة، والحاكم (1/ 82) من طرق عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه مرفوعا. وعند الدارمي: عن علقمة، عن سليمان قال: أراه عن أبيه. وللحديث شاهد من حديث أبي موسى. ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 73) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه القاسم بن غصن، وهو ضعيف. -

انتهى من «التذْكرة» «1» للقرطبيِّ. والْأَنْهارُ: المياه في مجاريها المتطاولة الواسعَةِ مأخوذةٌ من أنْهَرْتُ، أي: وسّعت ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ» «2» . ومعناه: ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهْرِ، ونسب الجري إِلى النهر، وإِنما يجري الماء تجوّزا كما قال سبحانه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد إِنما تجري على سطْح أرض الجنة منضبطةً. وقولهم: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ: إِشارة إِلى الجنس، أي: هذا من الجنس الذي 13 أرزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل/ أن يكون تعجباً منهم، وهو قولُ ابنِ عَبَّاس «3» ، ويحتمل أن يكون خَبَراً من بعضهم لبعْضٍ قاله جماعة من المفسِّرين، وقال الحسنُ، ومجاهدٌ: يرزقُونَ الثمرةَ، ثم يرزقُونَ بعْدَها مثْلَ صورتها، والطَّعْم مختلفٌ، فهم يتعجَّبون لذلك، ويخبر بعضهم بعضاً «4» ، وقال ابن عبَّاس: ليس في الجنة شيْءٌ ممّا في الدنيا سوى

_ - وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 215) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه القاسم بن غصن، عن موسى الجهني، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منهم ثمانون صفا» قالا: هذا خطأ إنما هو موسى الجهني، عن الشعبي، عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسل. قالا: والخطأ من القاسم. قلت: ما حال القاسم؟؟! قالا: ليس بقوي. (1) ينظر: «التذكرة» (2/ 506) . (2) أخرجه أحمد (3/ 463- 464) ، والبخاري (9/ 672) ، كتاب «الذبائح والصيد» ، باب إذا أصاب القوم غنيمة ... ، حديث (5543) ، ومسلم (3/ 1558) ، كتاب «الأضاحي» ، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، حديث (20/ 1968) ، وأبو داود (3/ 247) ، كتاب «الأضاحي» ، باب في الذبيحة بالمروة، حديث (2821) ، والترمذي (4/ 81) ، كتاب «الأحكام والفوائد» ، باب ما جاء في الزكاة بالقصب وغيره، حديث (1491) ، والنسائي (7/ 226) ، كتاب «الضحايا» ، باب في الذبح بالسن، وابن ماجة (2/ 1061) ، كتاب «الذبائح» ، باب ما يذكى به، حديث (3178) . والدارمي (2/ 84) ، كتاب «الأضاحي» ، باب: في البهيمة إذا ندت، وعبد الرزاق (4/ 465- 466) ، رقم (8481) ، والطيالسي (963) ، وابن الجارود (895) ، والحميدي (1/ 199) ، رقم (410) ، وابن حبان (5856- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 183) ، والطبراني في «الكبير» (4/ 321) ، رقم (4380، 4381، 4382، 4383، 4384) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 18- بتحقيقنا) ، من طريق عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله، إنا نلقى العدو غدا، وليس معنا مدى، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا ما لم يكن سنّا، أو ظفرا، وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» . (3) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 109) ، والماوردي (1/ 86) ، وابن كثير (1/ 62) . (4) أخرجه الطبري (1/ 209) برقم (528) ، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 41) ، وذكره البغوي في «التفسير» -

الأسماءِ، وأما الذوات فمتباينة «1» ، وقال بعض المتأوِّلين: المعنى أنهم يرون الثمر، فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذا الذي رزقْنَا مِنْ قبل في الدنيا، وقال قومٌ: إن ثمر الجنة إِذا قطف منه شيء، خرج في الحين في موضعه مثله، فهذا إِشارة إِلى الخارج في موضع المجني. وقوله تعالى: مُتَشابِهاً قال ابن عباس وغيره: معناه يشبه بعضه بعضاً في المنظر، ويختلف في الطعم «2» ، وأَزْواجٌ: جمع زوج، ويقال في المرأة: زوجة، والأول أشهر، ومُطَهَّرَةٌ: أبلغ من طَاهِرَة، أي: مُطَهَّرة من الحَيْض، والبُزَاق، وسائر أقذار الآدميَّات، والخلودُ: الدوامُ، وخرَّج ابن ماجة عن أسامة بن زيد «3» قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ لأَِصْحَابِهِ: «أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الجَنَّةَ لاَ خَطَرَ «4» لَهَا هِيَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، نور

_ - (1/ 56) ، وابن عطية الأندلسي (1/ 109) ، والماوردي (1/ 86) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 83) ، وعزاه لوكيع، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وذكره ابن كثير (1/ 63) . (1) أخرجه الطبري (1/ 210) برقم (535) ، وذكره السمرقندي (1/ 104) ، والبغوي في التفسير (1/ 56) ، وابن عطية الأندلسي (1/ 109) ، والماوردي (1/ 86) ، والقرطبي (1/ 206) ، وابن كثير (1/ 63) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 82) ، وعزاه لمسدد، وهناد في «الزهد» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» . (2) أخرجه الطبري (1/ 209) برقم (524) ، وذكره البغوي في التفسير (1/ 56) ، وابن عطية (1/ 109) ، والماوردي (1/ 86) ، وابن كثير (1/ 63) . (3) أسامة بن زيد بن شراحيل بن عبد العزى بن زيد بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر، أبو يزيد، وأبو خارجة، وأبو محمد، وأبو زيد الحب بن الحب الكلبي. أمه: أم أيمن حاضنة النبي صلّى الله عليه وسلم. ولد في الإسلام، ومناقبه كثيرة، وأحاديثه شهيرة، وكان سكن «المزة» من عمل «دمشق» ، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى «المدينة» فمات بها ب «الجرف» . روى ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن أسامة بن زيد لأحب إليّ (أو من أحب الناس إليّ) ، وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا» . قيل: توفي في آخر خلافة معاوية، وقيل: مات سنة (54) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 79) ، «الإصابة» (1/ 29) ، «الاستيعاب» (1/ 75) ، «الاستبصار» (34) ، «الكاشف» (1/ 104) ، «صفة الصفوة» (1/ 521) ، «بقي بن مخلد» (33) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 13) ، «التاريخ الكبير» (2/ 20) ، «التاريخ لابن معين» (3/ 22) . (4) قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا خطر لها» أي لا عوض لها ولا مثل. والخطر بالتحريك- في الأصل: الرّهن وما يخاطر عليه. ومثل الشيء، وعدله، ولا يقال إلا في الشيء الذي له قدر ومزيّة. ينظر: «النهاية» (2/ 46) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 29]

يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامِ أَبَدٍ فِي حَبْرةٍ «1» وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ» ، قَالُوا: نَحْنُ المُشَمِّرُونَ لَهَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ» «2» انتهى من «التذْكرَةِ» «3» . وقوله: لا خَطَرَ لها بفتح الطاء: قيل: معناه: لا عِوَضَ لها. [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها: لما كان الجليلُ القدْرِ في الشاهد لا يمنعه من الخَوْضِ في نازل القوْلِ إِلا الحَيَاء من ذلكَ، رَدَّ اللَّه بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا على القائلين كيف يضرب الله مثلا

_ (1) الحبرة: النّعمة وسعة العيش، وكذلك الحبور. ينظر: «النهاية» (1/ 327) . [.....] (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1448- 1449) ، كتاب «الزهد» ، باب صفة الجنة، حديث (4332) ، وابن حبان (2620- موارد) ، والطبراني في «الكبير» (1/ 162- 163) ، رقم (388) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 304) ، وأبو نعيم في «صفة الجنة» ، رقم (24) ، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص 233) ، رقم (391) ، كلهم من طريق الضحاك المعافري، عن سليمان بن موسى، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد مرفوعا. وقال البوصيري في «الزوائد» : في إسناده مقال، والضحاك المعافري ذكره ابن حبان في «الثقات» اهـ. قال الحافظ في «التقريب» (1/ 374) : الضحاك المعافري مقبول. اهـ. يعني عند المتابعة، وإلا فهو لين كما ذكره هو في مقدمة «التقريب» . والحديث ذكره الهندي في «كنز العمال» (14/ 461) ، وعزاه إلى ابن ماجة، وأبي يعلى، والنسائي، وابن حبان، وأبي بكر بن أبي داود في «البعث» ، والروياني، والرامهرمزي، والطبراني، والبيهقي في «البعث» ، وسعيد بن منصور، عن أسامة بن زيد. تنبيه: عزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (1/ 59) إلى ابن ماجة فقط، ولم يعزه للنسائي في «الصغرى» ، ولا في «الكبرى» ، وأظن أن عزوه للنسائي خطأ من المتقي الهندي. (3) ينظر: «التذكرة» (596) .

بالذُّبَابِ ونحوه. واختلف في قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، هل هو من قول الكافرين أو خبرٌ من اللَّه تعالى؟ ولا خلاف أن قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ من قول اللَّه تعالى، والفسْقُ: الخروجُ عن الشيء، يقال: فَسَقَتِ الفَأْرَةُ، إِذا خرجَتْ من جحرها، والرُّطَبَةُ، إِذا خرجَتْ من قِشْرها، والفِسْقُ في عرف استعمال الشرْعِ: الخروجُ من طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ بكُفْر أو عصيان. قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ: النَّقْضُ: ردُّ ما أبرم على أوله غير مبرمٍ، والعهدُ: في هذه الآية: التقدُّم في الشيء، والوَصَاةُ به، وظاهرٌ مما قبل وبعد أنه في جميع الكُفَّار. ع «1» : وكل عهد جائزٌ بيْنَ المسلمين، فنقضه لا يحلُّ بهذه الآية، والخاسر الذي نَقَصَ نفسه حظَّها من الفلاحِ والفوزِ، والخسرانُ النقْصُ، كان في ميزانٍ أو غيره. قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ: هو تقريرٌ وتوبيخٌ، أي: كيف تَكْفُرون، ونعمه عليكم وقدرته هذه، والواو في قوله: وَكُنْتُمْ واو الحال. واختلف في قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ... الآية. فقال ابن عبَّاس، وابن مسعود، ومجاهد: المعنى: كنتم أمواتاً معدومِينَ قبل أن تخلقوا دارسين كما يقال للشيء الدَّارِسِ: ميِّت، ثم خلقكم وأخرجكم إِلى الدنيا، فأحياكم، ثم يميتكم/ الموتَ المعهُودَ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة «2» ، وهذا التأويل هو 13 ب أولى ما قيل لأنه هو الذي لا محيد للكفار عن الإِقرار به، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائد على اللَّه تعالى، أي: إلى ثوابه أو عقابه، وخَلَقَ: معناه: اخترع، وأوجد بعد العدم، ولَكُمْ: معناه: لِلاِعتبار ويَدُلُّ عليه ما قبله وما بعده من نَصْب العِبَرِ: الإِحياء والإِماتة والاستواء إلى السماء وتسويتِها. وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: «ثُمَّ» هنا: لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 113) . (2) أخرجه الطبري (1/ 222- 223) برقم (576- 580) بنحوه، عن ابن عباس، ومجاهد. وذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 114) ، والماوردي (1/ 90) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 89) ، والقرطبي (1/ 213) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 30 إلى 32]

في نفسه، واسْتَوى: قال قومٌ: معناه: علا دون كَيْفٍ، ولا تحديدٍ، هذا اختيار الطبريِّ، والتقديرُ: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كَيْسَان: معناه: قصد إلى السماء. ع «1» : أي: بخلقه، واختراعه، والقاعدةُ في هذه الآية ونحوها منع النّقْلَة وحلولِ الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان. وفَسَوَّاهُنَّ: قيل: جعلهن سواءً، وقيل: سوى سطوحَهُنَّ بالإملاس، وقال الثعلبيُّ «2» : فَسَوَّاهُنَّ، أي: خلقهن. انتهى. وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المُؤْمِنِ» ، وفي «النازعات» . [سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 32] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً: «إِذْ» ليست بزائدةٍ عند الجمهور، وإِنما هي معلَّقة بفعل مقدَّر، تقديره: واذكر إِذ قال، وإِضافةُ «رَبٍّ» إِلى محمد صلّى الله عليه وسلم، ومخاطبتُهُ بالكاف- تشريفٌ منه سبحانه لنبيِّه، وإِظهار لاِختصاصه به، و «الملائكةُ» : واحدها ملَكٌ، والهاء في «ملائكة» لتأنيث الجُموعِ غير حقيقيٍّ، وقيل: هي للمبالغة كعلّامة ونسّابة، والأول أبين. وجاعِلٌ في هذه الآية بمعنى خَالِقٍ، وقال الحسن وقتادة: جاعلٌ بمعنى فاعل «3» ، وقال ابن سابط «4» عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ الأَرْضَ هُنَا هِيَ مَكَّةُ لأَنَّ الأَرْضَ دحيت

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 115) . (2) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق النيسابوري الثعلبي. كان إماما كبيرا، حافظا للغة بارعا في العربية، روى عن أبي طاهر بن خزيمة، وأبي محمد المخلدي. أخذ عنه الواحدي. له: «العرائس في قصص الأنبياء» وكتاب «ربيع المذكرين» . توفي (427 هـ.) . ينظر ترجمته في: «بغية الوعاة» (1/ 356) ، و «النجوم الزاهرة» (4/ 283) ، و «طبقات المفسرين» للداوودي (1/ 66) . (3) أخرجه الطبري (1/ 235) برقم (597) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 93) ، عن الحسن، وعزاه لابن جرير. (4) عبد الرحمن بن سابط القرشي، الجمحي، المكي، عن عمر، ومعاذ مرسلا، وعن عائشة بواسطة، في-

مِنْ تَحْتِهَا وَلأنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ قَبْرَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ بين المقام والرّكن» «1» . وخَلِيفَةً: معناه: من يخلف. قال ابن عبَّاس: كانت الجن قبل بني آدم في الأرض، فأفسدوا، وسَفَكُوا الدماء، فبعث اللَّه إِليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم، وألْحَقَ فَلَّهُمْ «2» ، بجزائرِ البحار، ورؤوسِ الجبالِ، وجعل آدم وذريته خليفةً «3» ، وقال ابن مسعود: إنما معناه: خليفةٌ مني في الحُكْمِ «4» . وقوله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ... الآيةَ: قد علمنا قطعًا أن الملائكة لا تعلم الغيْبَ، ولا تسبق القول، وذلك عَامٌّ في جميع الملائكة، لأن قوله تعالى: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء: 27] خرج على جهة المدح لهم، قال القاضي ابن الطَّيِّب «5» : فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطَيْن إِلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة نبأٌ ومقدِّمة. قال ابن زيد وغيره: إن اللَّه تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكونُ من ذريته قومٌ يفسدونَ، ويسفكون الدماء «6» فقالوا لذلك هذه المقالةَ: إِما على طريق التعجُّب من استخلاف الله

_ - مسلم فرد حديث، وسعد، وجابر، وعنه علقمة بن مرثد، وابن جريج، والليث، وخلق. وثقه ابن معين وقال: لم يسمع من أبي أمامة، والدارقطني، قال ابن سعد: مات بمكة سنة ثماني عشرة ومائة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 133) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 180) ، «الثقات» (7/ 69) . (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 448- شاكر) ، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» (1/ 70) من طريق عطاء عن ابن سابط به مرفوعا. وقال ابن كثير: وهذا مرسل، وفي سنده ضعف. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 95) ، وزاد نسبته إلى ابن عساكر. (2) الفلّ: المنهزمون. ينظر: «لسان العرب» (3466) . (3) أخرجه الطبري (1/ 236) برقم (601) ، وصححه الحاكم (2/ 261) ، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 93) . (4) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 116) ، والماوردي (1/ 95) . (5) محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر: قاض من كبار علماء الكلام انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، ولد في «البصرة» سنة (338) هـ.، وسكن «بغداد» فتوفي فيها سنة (403. هـ.) ، كان جيد الاستنباط، سريع الجواب. من تصانيفه: «إعجاز القرآن» ، و «الإنصاف» ، و «مناقب الأئمة» ، و «دقائق الكلام» ، و «الملل والنحل» ، و «هداية المرشدين» ، وغير ذلك. ينظر: «الأعلام» (6/ 176) ، «وفيات الأعيان» (1/ 481) ، «قضاة الأندلس» (37- 40) ، «تاريخ بغداد» (5/ 379) . [.....] (6) أخرجه الطبري (1/ 244) برقم (614- 615- 616) ، عن ابن زيد، وابن إسحاق، وابن جريج، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 94) ، عن ابن زيد، وعزاه لابن جرير.

من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفُهُ اللَّهُ في أرضه وينعم علَيْه بذلك، وإِما على طريق الاِستعظامِ والإِكبار للفصلَيْن جميعاً الاستخلاف، والعصيان. 14 أوقال أحمد بن يَحْيَى/ ثَعْلَبٌ «1» وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأَتْ، وعلمت ما كان من إفساد الجِنِّ، وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها ... «2» الآية على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة يا ربَّنَا على طريقة من تقدَّم من الجِنِّ أم لا؟ وقال آخرون: كان اللَّه تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرضِ خلْقاً يفسدون، ويسفكون الدماء، فلما قال لهم سبحانه بعد ذلك: إِنِّي جاعِلٌ قالوا: رَبَّنَا، أَتَجْعَلُ فِيها ... الآيةَ على جهة الاسترشاد والاستعلام، هل هذا الخليفةُ هو الذي كان أعلمهم به سبحانه قبل، أو غيره؟ ونحو هذا في «مختصر الطبريِّ» ، قال: وقولهم: أَتَجْعَلُ فِيها ليس بإنكار لفعله عز وجلّ وحكمه، بل استخبارٌ، هل يكون الأمر هكذا، وقد وجَّهه بعضهم بأنهم استعظموا الإِفسادَ وسفْكَ الدماء فكأنهم سألوا عن وجه الحكمة في ذلك إذ علموا أنه عز وجل لا يفعل إِلا حكمة. انتهى. ت: والعقيدة أن الملائكة معصومون، فلا يقع منهم ما يوجب نقصانًا من رتبتهم، وشريف منزلتهم- صلوات اللَّه وسلامُهُ على جميعهم- والسفك صبُّ الدَّمِ، هذا عُرْفُه، وقولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ. قال بعض المتأوّلين: هو على جهة الاستفهام كأنهم أرادوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ... الآيةَ، أم نتغير عن هذه الحال؟ قال ع «3» : وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحْضِ في قولهم: أَتَجْعَلُ. وقال آخرون: معناه: التمدُّح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسُفُ: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] ، وهذا يحسن مع التعجُّب والاستعظام لأن يستخلف الله

_ (1) هو: أبو العباس أحمد بن يحيى بن يسار، وقيل: سيار الشيباني، المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة. صنف: «المصون في النحو» ، و «معاني القرآن» ، و «ما تلحن فيه العامة» ، و «الفصيح» وغيرها. توفي (291 هـ) . ينظر ترجمته في: «وفيات الأعيان» (1/ 30) ، و «بغية الوعاة» (1/ 296) ، و «غاية النهاية» (1/ 148) . (2) ينظر: ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 117) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 118) .

من يعصيه في قولهم: أَتَجْعَلُ، وعلى هذا أدَّبهم بقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، ومعنى: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ: ننزِّهك عما لا يليق بصفاتك، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود: تسبيحُ الملائكةِ صلاتهم للَّه سبحانه «1» ، وقال قتادةُ: تسبيحهم قولهم: «سبحانَ اللَّهِ» على عرفه «2» في اللغة، وبِحَمْدِكَ: معناه نَصِلُ التسبيح بالحمدِ، ويحتمل أن يكون قولهم: بِحَمْدِكَ اعتراضا بين الكلامين كأنهم قالوا: ونحن نسبِّح ونقدِّس، وأنت المحمود في الهداية إِلى ذلك، وخرَّج مسلم في صحيحه عن أبي ذَرٍّ «3» قال: قال لِي رسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ إِنَّ أَحَبَّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى: «سبحان الله وَبِحَمْدِهِ» ، وفي رواية: «سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلَّم، أَيُّ الكَلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصطفى اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» «4» وفي صحيحَي البخاريِّ ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله العظيم» «5» وهذا الحديث

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 248) برقم (619) ، وذكره البغوي (1/ 60) ، وابن عطية الأندلسي (1/ 118) ، والقرطبي (1/ 236) ، وابن كثير (1/ 71) . (2) أخرجه الطبري (1/ 248) برقم (620) ، وعبد الرزاق في التفسير (1/ 42) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 95) . (3) قيل هو: جندب بن جنادة بن سكن. وقيل: عبد الله، وقيل: اسمه: برير وقيل بالتصغير، والاختلاف في أبيه كذلك، وشهرته: أبو ذر الغفاري. قلت: كان من كبار الصحابة وفضلائهم ومشاهيرهم وزهادهم، قديم الإسلام، قويّا في الحق، صادق اللهجة. ولا يتسع المقام للحديث عنه، وقد ألفت في سيرته المؤلفات الكثيرة. توفي ب «الربذة» سنة (31 أو 32) . تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 357) ، «الإصابة» (7/ 60) ، «بقي بن مخلد» (15) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 164) ، «حلية الأولياء» (1/ 127) ، «تهذيب الكمال» (1603) ، «تقريب التهذيب» (2/ 420) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 90) ، «الزهد» لوكيع (33) ، «شذرات الذهب» (1/ 31) . (4) أخرجه مسلم (4/ 2093- 2094) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب فضل سبحان الله وبحمده، حديث (84، 85/ 2731) ، من طريق عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر به. (5) أخرجه البخاري (11/ 210) ، كتاب «الدعوات» ، باب فضل التسبيح، حديث (6406) ، و (11/ 575) ، كتاب «الأيمان والنذور» ، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى، حديث (6682) ، و (13/ 547) ، كتاب «التوحيد» ، باب قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، حديث (7563) ، ومسلم (4/ 2072) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب فضل التهليل، والتسبيح، والدعاء، حديث (31/ 2694) ، والترمذي (5/ 512) ، كتاب «الدعوات» ، باب (60) ، حديث (3467) ، وابن ماجة (2/ 1251) ، كتاب «الأدب» ، باب فضل التسبيح، حديث (3806) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 207- 208) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يثقل الميزان، حديث (10666) ، وأحمد (2/ 232) ، وأبو يعلى (10/ 483) ، رقم (6096) ، وابن حبان (3/ 112- 113) ، رقم (831) ، (3/-

به ختم البخاريُّ رحمه اللَّه. انتهى. وَنُقَدِّسُ لَكَ: قال الضَّحَّاك وغيره: معناه: نُطَهِّرُ أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك، والتقديسُ: التطهير بلا خلافٍ «1» ، ومنه الأرض المقدَّسة، أي: المطهَّرة، وقال آخرون: وَنُقَدِّسُ لَكَ: معناه: نقدِّسك، أي: نعظِّمك ونطهِّر ذكرك ممَّا لا يليقُ به، قاله مجاهد وغيره «2» . وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. قال ابن عبَّاس: كان إِبليس- لعنه اللَّه- قد أُعْجِبَ بنفسه، ودخله الكِبْرُ لما جعله الله 14 ب خَازِنَ السماء الدنيا/، واعتقد أن ذلك لمزيَّة له، فلما قالت الملائكة: ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك، وهي لا تعلم أنَّ في نفْسِ إِبليسَ خلافَ ذلك، قال اللَّه سبحانه: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني ما في نفس إِبْلِيسَ «3» . وقال قتادة: لما قالتِ الملائكةُ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وقد علم اللَّه أنَّ في مَنْ يستخلفُ في الأرض أنبياءَ وفضلاءَ وأهلَ طاعةٍ، قال لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، يعني: أفعالَ الفضلاء «4» .

_ - 121- 122) ، رقم (841) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 499) ، وفي «شعب الإيمان» (1/ 420) ، رقم (591) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 81- بتحقيقنا) ، وابن الجوزي في «مشيخته» (ص 87) ، كلهم من طريق محمد بن فضيل، ثنا عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. (1) أخرجه الطبري (1/ 249) برقم (625) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 95) ، عن ابن عباس، وذكره ابن كثير (1/ 71) . (2) أخرجه الطبري (1/ 249) برقم (623) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 95) ، وابن كثير (1/ 71) . (3) أخرجه الطبري (1/ 249) برقم (626) ، وقال أحمد شاكر: بشر بن عمارة ضعيف، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 2/ 81) : تعرف وتنكر. وقال النسائي في «الضعفاء» ص 6: ضعيف. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن حبان في كتاب: «المجروحين» (ص 125) رقم، (132) : كان يخطىء حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، ولم يكن يعلم الحديث ولا صناعته، وأما شيخه أبو روق فهو عطية بن الحارث الهمداني، وهو ثقة، وقال أحمد والنسائي: «لا بأس به» ، وقد أشار ابن كثير إليه بالانقطاع لأجل اختلافهم في سماع الضحاك بن مزاحم الهلالي من ابن عباس وقد رجح أحمد شاكر في «شرح المسند» (2262) سماعه منه، ثم قال: وكفى ببشر بن عمارة ضعفا في الإسناد إلى نكارة السياق الذي رواه وغرابته. اهـ. (4) أخرجه الطبري (1/ 250) برقم (639) ، وقال أحمد شاكر: ذكره ابن كثير (1/ 130) ، و «الدر المنثور» (1/ 46) ، و «الشوكاني» (1/ 50) . [.....]

وقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها: معناه: عرَّف، وتعليم آدم هنا عند قومٍ إِلهامُ علمه ضرورةً، وقال قوم: بل تعليمٌ بقولٍ إما بواسطة مَلَكٍ، أو بتكليمٍ قبل هبوطه الأرضَ، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خَاصَّته. ت: قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة: تعليمه سبحانه لآِدم الأسماء كلَّها، إِنما كان بالعلْم اللدنيِّ بلا واسطة. انتهى من كتابه الذي شرح فيه بعض أحاديث البخاريِّ، وكل ما أنقله عنه، فمنه، واختلف المتأوِّلون في قوله: الْأَسْماءَ: فقال جمهور الأُمَّة: علَّمه التسميات، وقال قومٌ: عرض عليه الأشخاص، والأول أبين ولفظة عَلَّمَ تعطي ذلك. ثم اختلف الجمهورُ في أيِّ الأسماء علَّمه، فقال ابن عبَّاسٍ، وقتادة، ومجاهدٌ: علَّمه اسم كلِّ شيء من جميع المخلوقات دقيقها، وجليلها «1» ، وقال الطبريُّ «2» : علَّمه أسماء ذريته، والملائكة ورجَّحه بقوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ وقال أكثر العلماء: عَلَّمه تعالى منافعَ كلِّ شيء، ولما يصلَح. وقيل غير هذا. واختلف المتأوِّلون، هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟. وأَنْبِئُونِي: معناه: أخبروني، والنبأ: الخبر، وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليفُ ما لا يطاقُ «3» ، ويتقرَّر جوازه لأنه سبحانه عَلِمَ أنهم لا يعلمون.

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 252) برقم (646- 647- 648- 649- 656) ، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 42- 43) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 100- 101) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 485) . (3) حاصل ما في شرح «المواقف» ، أشار إليه «الخالي» هو أن ما لا يطاق على ثلاث مراتب: الأولى: ما يمكن في نفسه لكن يمتنع من العبد لعلم الله (تعالى) بعدم وقوعه، كإيمان أبي لهب، وهي المرتبة الأولى من مراتب ما لا يطاق فإن هذا مقدور للمكلف بالنظر إلى ذاته، وممتنع له بالنظر إلى علم الله (تعالى) بعدم وقوعه، ومعنى كونه مقدورا أنه يجوز تعلق القدرة الحادثة أي قدرة المكلف به لا أنه متعلق القدرة بالفعل لأن القدرة الحادثة لا تتعلق بمثل هذا الفعل لأن القدرة الحادثة عندنا مع الفعل لا قبله، فلا يتصور تعلقه بما لم يقع. ثم إن التكليف بهذا المحال جائز وواقع اتفاقا، ولا خلاف فيه للمعتزلة. الثانية: ما يمكن في نفسه لكن يمتنع من العبد عادة، كخلق الأجسام، وحمل الجبل، والطيران إلى-

وقال المحقِّقون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليفِ، إِنما هو على جهة التقرير والتوقيف. وقوله تعالى: هؤُلاءِ ظاهره حضورُ أشخاصٍ، وذلك عند العرض على الملائكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ أن الاسم هو المسمى كما ذهب إِليه مَكِّيٌّ والمَهْدَوِيُّ. والذي يظهر أن اللَّه تعالى علَّم آدم الأسماء، وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلَّمها آدم، ثم إِن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا. وَهَؤُلاءِ: مبنيٌّ على الكسر، وكُنْتُمْ في موضع الجزمِ بالشرْطِ، والجواب عند سيبويه: فيما قبله، وعند المبرِّد: محذوفٌ تقديره: إِن كنتمْ صادِقِينَ، فَأَنْبِئوني، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود وناس من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: معنى الآية: إِنْ كنتم صادِقِينَ في أنَّ الخليفةَ يُفْسِدُ ويسفك «1» . ت: وفي النفس من هذا القول شيءٌ، والملائكة منزَّهون معصومون كما تقدَّم، والصواب ما تقدَّم من التفسير عند قوله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيها ... الآية.

_ - السماء. وهذه المرتبة الوسطى من مراتب ما لا يطاق، والتكليف بهذا جائز عندنا وإن لم يقع، كما دل عليه الاستقراء، وقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] وما يتوهم من ظاهر بعض الآيات أنه تكليف بهذا المحال، كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] فهو للتعجيز لا للتكليف، ومنعت المعتزلة جواز التكليف لكونه قبيحا منه تعالى عقلا عندهم كما في الشاهد فإن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمنى المشي إلى أقصى البلاد، عد سفيها، وقبح ذلك في بداهة العقول. والجواب: أنه لا يقبح منه تعالى شيء، ولا يجب عليه، إذ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، والمفهوم من كلام صاحب «التوضيح» أن مذهب الماتريدية هنا كمذهب المعتزلة إلا أن عدم جوازه عند الماتريدية بناء على أنه لا يليق من حكمته وفضله. وعند المعتزلة بناء على أن الأصلح واجب على الله (تعالى) . الثالثة: ما يمكن في نفسه ولكن يمتنع لنفس مفهومه، كجمع الضدين، وقلب الحقائق. وهي المرتبة القصوى من مراتب ما لا يطاق، والتكليف به لا يقع ولا يجوز بالاتفاق، أما أنه لا يقع قط فلأنه لم يوجد بالاستقراء، وأما أنه لا يجوز فلأن جواز التكليف فرع تصوره، ولا يمكن تصوره. وفي شرح «المواقف» أن بعضا منا قالوا بوقوع تصوره، فما ذكره صاحب «المواقف» من أن جواز التكليف بالممتنع لذاته فرع تصوره يشعر بأن هؤلاء يجوزونه. ينظر: «نشر الطوالع» (295- 297) ، و «البرهان» (1/ 102) ، و «المنخول» (ص 22) ، و «المحصول» (1/ 2/ 357) ، والمتصفي» (1/ 74) . (1) أخرجه الطبري (1/ 255) برقم (672) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 101) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 33 إلى 34]

وقال آخرون: إِن كنتم صادِقِينَ في أنِّي إِن استخلفتكم، سبَّحتم بحَمْدِي، وقدَّستم لي. وقال/ قوم: معناه: إن كنتم صادقين في جوابِ السؤال، عالمين بالأسماء. 15 أوسُبْحانَكَ: معناه تنزيهاً لك وتبرئةً أنْ يعلم أحدٌ من علمك إِلا ما علمته، والعَلِيمُ: معناه: العَالِمُ، ويزيد عليه معنى من المبالغةِ والتكثيرِ في المعلوماتِ، والحكيمُ: معناه: الحاكِمُ وبينهما مزية المبالغةِ، وقيل: معناه: المُحْكِمُ، وقال قوم: الحَكِيمُ المانعُ من الفساد، ومنه حَكَمَةُ الفرسِ مانعته. [سورة البقرة (2) : الآيات 33 الى 34] قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وقوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: أَنْبِئْهُمْ: معناه: أخبرهم، والضمير في «أَنْبِئْهُمْ» عائدٌ على الملائكة بإجماعٍ، والضميرُ في «أَسْمَائِهِمْ» مختلَفٌ فيه حَسَبَ الاختلاف في الأسماء التي علَّمها آدم، قال بعض العلماء: إنَّ في قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ نبوءةً لآدم عليه السلام إِذ أمره اللَّه سبحانه أن ينبىء الملائكة بما ليس عندهم من علم اللَّه عز وجَلَّ. وقوله تعالى: أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: معناه: ما غاب عنكم لأنَّ اللَّه تعالى لا يغيبُ عنه شيء، الكلُّ معلوم له. واختلف في قوله تعالى: مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فقال طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع، «وإِذْ» من قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ معطوفةٌ على «إذِ» المتقدِّمة، وقولُ «1» اللَّه تعالى

_ (1) كلام الله تعالى صفة أزلية قديمة قائمة بذاته (تعالى) ، منافية للسكوت والآفة- كما في الخرس- ليست من جنس الأصوات والحروف. بل بها آمر ناه. يدل عليها بالعبارات أو الكتابة أو الإشارة. فتلك الصفة واحدة في ذاتها، وإن اختلفت العبارات الدالة عليها، كما إذا ذكر الله بألسنة مختلفة، فالصفة: هي الأمر القائم بالغير، فهو جنس في التعريف أو كالجنس، بناء على الخلاف في المفهومات الاصطلاحية: هل هي حدود أو رسوم. الأول: مبني على أنها وإن كان أمرا اصطلاحيا طارئا على المعنى اللغوي للكلام إذ الكلام في اللغة القول. يقال: أتى بكلام طيب، أي قول، إلا أنه ليست وراء ما اصطلح عليه المصطلح أمر آخر. فذلك-

وخطابه للملائكةِ متقرِّر قديم في الأَزَلِ بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته.

_ - الذي ذكر في تعريف تلك الصفة هو ذاتياتها بحسب الاصطلاح. والثاني: مبني على أن لها قبل المعنى الاصطلاحي معنى وضع الواضع اللفظ ليدل عليه، فذلك المعنى ثان بعد أول، فهو عارض والتعريف بالعوارض رسم. وجزم البعض من المحققين بأنها رسوم لأن الاطلاع على ذاتيات تلك الصفات غير ممكن. والحد ما تركب من الذاتيات: الجنس، والفصل. وحيث إن الذاتيات لم يطلع عليها فلا تكون إلا رسوما لأنها بخواص هذه الصفات فقط لأن الخواص مأخوذة في تعريف الصفات حيث أخذ في تعريف صفة الكلام أنها تتعلق دلالة ... وفي تعريف صفة القدرة أنها تتعلق تعلق تأثير. وعلى كل ف «صفة» يشمل الصفة القديمة والحادثة. «قديمة» : فصل أو كالفصل- مخرج لغير الصفة القديمة، وهو الصفة الحادثة. ثم الأقوال في القديم والأزلي ثلاثة: الأول: القديم هو الذي لا ابتداء لوجوده. والأزلي: ما لا أول له، عدميا كان أو وجوديا. فكل قديم أزلي ولا عكس. الثاني: القديم هو القائم بنفسه الذي لا أول لوجوده. والأزلي: ما لا أول له عدميا كان أو وجوديا، قائما بنفسه أو غيره. الثالث: القديم والأزلي: ما لا أول له، عدميا كان أو وجوديا، قائما بنفسه أولا. فعلى الأول: الصفات السلبية لا توصف بالقدم، وتوصف بالأزلية، بخلاف ذات الله تعالى والصفات الثبوتية فإنها توصف بالقدم والأزلية. وعلى الثاني: الصفات مطلقا لا توصف بالقدم، وتوصف بالأزلية، بخلاف ذاته تعالى فإنها توصف بكل منهما. وعلى الثالث: كل من الذات والصفات مطلقا يوصف بالقدم والأزلية. فالقديم في التعريف صحيح على الرأي الأول والثالث، بخلافه على الثاني «قائمة بذاته» . وللقيام معنيان: قيام: بمعنى التبعية في التحيز كما في العرض بالنسبة لجوهره. وليس قيام صفة الله بذاته على هذا النحو إذ لا تحيز للذات حتى تتبعها الصفة فيه. وقيام: بمعنى آخر هو اختصاص الناعت بالمنعوت. وهو المراد بقيام الصفة بذاته تعالى. «ليس بحرف ولا صوت» : لأنه معنى نفسي، وتلك أعراض مشروط حدوث بعضها بانقضاء البعض إذ امتناع التكلم بالحرف الثاني بدون انقضاء الحرف الأول بدهي خلافا للحنابلة، والحشوية، والكرامية القائلين بأن كلامه منتظم من كلمات قائمة بذاته تعالى. قديم عند الحنابلة، حادث عند الكرامية. «منافية للسكوت والآفة» : السكوت عدم التكلم مع القدرة عليه. والآفة: عدم مطاوعة الآلة، إما بحسب الفطرة كما في الخرس، أو من جهة ضعفها كما في الطفولية. ولقائل أن يقول: هذا إنما يصدق على الكلام اللفظي دون النفسي إذ السكوت والخرس إنما ينافيان التلفظ. ويجاب بأن المراد ب «السكوت والآفة» : الباطنيان، بأن لا يريد في نفسه الكلام، أو لا يقدر عليه، ويتلخص في أنه كما أن الكلام لفظي ونفسي، كذلك ضده، وهو السكوت والخرس: لفظي وباطني، -

ت: ما ذكره- رحمه اللَّه- هو عقيدةُ أهل السنة، وها أنا أنقل من كلام الأئمة، إن شاء اللَّه، ما يتبيَّن به كلامه، ويزيده وضوحاً، قال ابن رُشْدٍ: قوله صلّى الله عليه وسلم: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خلق» «1» لا يفهم منه أن لله عز وجلّ كلمات غير تامّات لأن

_ - والمراد الثاني منهما حيث أريد بالكلام الكلام النفسي، فالله منزه عن الاتصاف بالخرس والآفة. «هو بها آمر ناه» : فهو صفة واحدة تتكثر بحسب التعلقات. فالكلام باعتبار تعلقه بشيء خبر، وبآخر أمر أو نهي. وبهذا يخرج العلم والقدرة. وهكذا سائر الصفات الوجودية غير الكلام لأنه لا أمر ولا نهي بواحدة منها. وغير الأشاعرة يقولون: الكلام هو اللفظ المنتظم من الحروف والأصوات، وينفون الصفة النفسية وهم في ذلك قد انقسموا إلى قسمين: القسم الأول: كلامه ألفاظ قائمة بذاته، وهي قديمة، وهم بعض الحنابلة، أو حادثة، وهم الكرامية. والقسم الثاني: يقول: كلام الله ألفاظ قائمة بالغير. وهم المعتزلة. فالحنابلة يعرفونه: بأنه المؤلف من الكلمات القديمة القائمة بذاته تعالى. والكرامية يعرفونه: بأنه هو المؤلف من الكلمات الحادثة القائمة بذاته تعالى. وحيث إن المعتزلة لم يعرفوه بالصفة النفسية، فليس عندهم سوى الألفاظ وهي حادثة لأنها مرتبة، ويستحيل قيام الحادث بالقديم. فهم يقولون: إن كلامه ألفاظ قائمة بغيره، فهم يتجوزون بمتكلم عن موجد وخالق للكلام. وعليه فالمعتزلة لا يثبتون كلاما لله لا نفسيا، كما أثبته الأشاعرة. ولا لفظيا حادثا كما قالت الكرامية، بل يثبتون كلاما لا على أنه متصف به، بل على أنه مخلوق قائم بغيره. فالكلام عند المعتزلة هو المؤلف من الكلمات المسموعة الحادثة القائمة بغير الذات. فقد خالفوا جميع الفرق. ينظر: تحقيق «صفة الكلام» لشيخنا حافظ مهدي ص 52- 54. (1) أخرجه مالك (2/ 978) ، كتاب «الاستئذان» ، باب ما يؤمر به من الكلام في السفر، حديث (34) ، ومسلم (4/ 2080- 2081) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، حديث (54/ 2708) ، والترمذي (5/ 496) ، كتاب «الدعوات» ، باب ما يقول إذا نزل منزلا، حديث (3437) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 144) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا نزل منزلا، حديث (10364) ، وأحمد (6/ 377) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ، رقم (533) ، وابن خزيمة (4/ 150- 151) ، رقم (2567) ، وابن حبان (6/ 418) ، رقم (2700) ، والبيهقي (5/ 253) ، كتاب «الحج» ، باب ما يقول إذا نزل منزلا، كلهم من طريق يعقوب بن عبد الله الأشج، عن بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من نزل منزلا فليقل ... » فذكرت الحديث. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال: وروى مالك بن أنس هذا الحديث أنه بلغه، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، فذكر نحو هذا الحديث. وروى ابن عجلان هذا الحديث عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، ويقول: عن سعيد بن المسيب، عن خولة. -

كلماته هي قوله، وكلامه هو صفةٌ من صفات ذاتِهِ يستحيلُ عليها النقص، وفي الحديث بيان واضح على أن كلماته عز وجل غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بمخلوقٍ، وهذا هو قول أهل السنة، والحقّ أن كلام اللَّه عزَّ وجلَّ صفة من صفات ذاته قديمٌ غيرُ مخلوقٍ لأن الكلام هو، المعنى القائِمُ في النفسِ، والنطقُ به عبارةٌ عنه قال اللَّه عزَّ وجلَّ: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [المجادلة: 8] فأخبر أن القول معنًى يقوم في النفْسِ، وتقول: في نَفْسِي كَلاَمٌ، أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهومُ من كلامه، وأما الذي تسمعه منه، فهو عبارة عنه وكذلك كلام الله عز وجلّ القديمُ الذي هو صفة من صفاتِ ذاته هو المفهوم من قراءة القارئ لا نَفْسُ قراءته التي تسمعها لأنَّ نفس قراءته التي تسمعها مُحْدَثَةٌ، لم تكن حتى قرأ بها، فكانت، وهذا كله بيِّن إلا لمن أعمى اللَّه بصيرته. انتهى بلفظه من «البَيَانِ» . وقال الغَزَّالِيُّ «1» بعد كلامٍ له نحو ما تقدَّم لابن رشد: وكما عقل قيامُ طلبِ التعلُّم وإرادته بذات الوالدِ قبل أن يخلق ولده حتى إذا خلق ولده، وعقل، وخلق اللَّه سبحانه له علْماً بما في قلْب أبيه من الطَّلَب، صار مأموراً بذلك الطلب الذي قام بذاتِ أبيه، ودام وجوده إِلى وقت معرفة ولده، فليعقل قيام الطلب الذي دلَّ عليه قوله عزَّ وجلَّ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ/ [طه: 12] بذات اللَّه تعالى، ومصير موسى عليه السلام سامعا لذلك الكلام

_ - وحديث الليث أصح من رواية ابن عجلان. اهـ. وهذا توضيح وشرح لكلام الترمذي رحمه الله: أما رواية مالك، فهي في «الموطأ» (2/ 978) ، عن الثقة عنده، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج به. أما رواية محمد بن عجلان، فأخرجها ابن ماجة (2/ 1174) ، كتاب «الطب» ، باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه، حديث (3547) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 144) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا نزل منزلا، حديث (10395) ، كلاهما من طريق محمد بن عجلان، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك، عن خولة بنت حكيم به. وقد ورد هذا الحديث، عن سعيد بن المسيب مرسلا. أخرجه عبد الرزاق (9260) ، والنسائي (6/ 144- الكبرى) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا نزل منزلا، كلاهما من طريق ابن عجلان، عن يعقوب بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب مرسلا. (1) محمد بن محمد بن محمد، حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي، ولد سنة (450) ، أخذ عن الإمام، ولازمه، حتى صار أنظر أهل زمانه وجلس للإقراء في حياة إمامه وصنف «الإحياء» المشهور، و «البسيط» ، وهو كالمختصر للنهاية، وله «الوجيز» ، و «المستصفى» ، وغيرها. توفي سنة (505) . انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 293) ، «وفيات الأعيان» (3/ 353) ، «الأعلام» (7/ 247) ، و «اللباب» (2/ 170) ، و «شذرات الذهب» (4/ 10) ، و «النجوم الزاهرة» (5/ 203) ، «العبر» (4/ 10) .

مخاطَباً به بعد وجوده إذ خلقت له معرفة بذلك الطلبِ، ومعرفةُ بذلك الكلامِ القديمِ. انتهى بلفظه من «الإحياء» . وقوله: لِلْمَلائِكَةِ عمومٌ فيهم، والسجودُ في كلام العرب: الخضوعُ والتذلُّل، وغايته وضعه الوجْه بالأرض، والجمهور على أنَّ سجود الملائكة لآدم إيماءٌ وخضوعٌ، ولا تدفع الآية أنْ يكونوا بلغوا غاية السجود، وقوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] لا دليل فيه لأن الجاثي على ركبتيه واقعٌ، واختُلِفَ في حال السجودِ لآدم. فقال ابن عَبَّاسٍ: تعبَّدهم اللَّه بالسجود لآدم، والعبادةُ في ذلك للَّهِ «1» ، وقالَ عليُّ بْنُ أبي طَالِبِ، وابنُ مَسْعُودٍ، وابن عبَّاس أيضاً: كان سجودَ تحيَّة كسجود أبوَيْ يوسُفَ عليه السلام له، لا سجودَ عبادة «2» ، وقال الشَّعبيُّ: إنما كان آدم كالقِبْلة «3» ، ومعنى لِآدَمَ: إلى آدَمَ. ع «4» : وفي هذه الوجوهِ كلِّها كرامةٌ لآدم عليه السلام. وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ نصبٌ على الاستثناءِ المتَّصِلِ لأنه من الملائكة على قوله الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازناً ومَلَكاً على سماء الدنيا والأرض، واسمه عزازيل قال ابن عباس «5» . وقال ابن زيد والحسن: هو أبو الجِنِّ كما آدمُ أبو البشر، ولم يكُ قطُّ ملَكاً «6» ، وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضا، قال: واسمه الحارث «7» .

_ (1) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 124) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 102) بنحوه. (2) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 124) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 102) ، بنحوه عن ابن عباس. (3) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 124) . [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 124) . (5) أخرجه البيهقي في «الشعب» (1/ 170) برقم (146- 147) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 102- 103) ، وعزا أحدهما لابن أبي الدنيا في «مكايد الشيطان» ، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب: «الأضداد» ، والبيهقي في «الشعب» ، والثاني عزاه لوكيع، وابن المنذر، والبيهقي. (6) أخرجه الطبري (1/ 264) رقم (701) ، عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 124) ، والقرطبي (1/ 251) . (7) أخرجه الطبري (1/ 265) برقم (704) ، عن السدي، وذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 124) ، والقرطبي (1/ 251) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 103) ، عن السدي، بلفظ «كان اسم إبليس الحرث» .

وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ: كان من الْجِنِّ الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكةُ فسَبَوْهُ صغيراً، وتعبَّد مع الملائكة، وخُوطِبَ معها، وحكاه الطبريّ عن ابن مسعود «1» . والاستثناء على هذا الأقوال منقطعٌ واحتجَّ بعض أصحاب هذا القول بأن اللَّه تعالى قال في صفة الملائكة: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] ورجَّح الطبريُّ قَوْلَ من قال: إن إِبليسَ كان من الملائكَةِ، وقال «2» : ليس في خلقه مِنْ نارٍ، ولا في تركيبِ الشَّهْوَةِ والنسلِ فيه حينَ غُضِبَ عليه ما يدْفَعُ أنه كان من الملائكة، وقوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] يتخرَّج على أنه عمل عملهم، فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جِنًّا لاستتارها قال اللَّه تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] وقال الأعشى في ذكر سليمانَ عليه السلام: [الطويل] وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ المَلاَئِكِ تِسْعَةً ... قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلونَ بِلاَ أَجْرِ «3» أو على أن يكون نسبه إلى الجَنَّةِ كما ينسب إلى البَصْرَةِ بِصْرِيَّ. قال عِيَاضٌ: ومما يذكرونه قصَّةُ إبليس، وأنه كان من الملائكة، ورئيساً فيهم، ومن خُزَّان الجَنَّة إلى ما حكَوْه، وهذا لم يتفقْ عليه، بل الأكثر ينفون ذلك، وأنه أبو الجن. انتهى من «الشِّفا» «4» . وإِبْلِيسُ: لا ينصرفُ لأنه اسم أعجميٌّ قال الزَّجَّاج: ووزنه فِعْلِيلُ، وقال ابن عبَّاس وغيره: هو مشتقٌّ من أُبْلِسَ، إِذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل «5» ، ولم

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 263) برقم (698) ، وذكره القرطبي (1/ 251) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 508) . (3) البيت للأعشى وقبله: ولو كان شيء خالدا أو معمّرا ... لكان سليمان البريء من الدّهر براه إلهي واصطفاه عباده ... وملّكه ما بين ثريا إلى مصر ينظر: «ملحق ديوانه» (243) ، و «اللسان» (جنن) ، و «تفسير الطبري» (1/ 506) ، و «القرطبي» (1/ 295) ، و «البحر المحيط» (1/ 304) ، و «الدر المصون» (1/ 186) ، و «روح المعاني» (1/ 230) وقال: وكون الملائكة لا يستكبرون- وهو قد استكبر- لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم- وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا- وفي «عقيدة أبي المعين النسفي» ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله (تعالى) الصفات الملكية، وألبسه ثياب الصفات الشيطانية، فعصى عند ذلك، والملك ما دام ملكا لا يعصي. (4) ينظر: «الشفا» ص (858) . (5) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 125) .

تصرفه هذه الفرقةُ لشذوذه وقلَّته، ومنه قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] أيْ: يائسون من الخير، مبعدون منه فيما يرون، وأَبى: معناه: امتنَعَ من فعْلِ ما أمر به، وَاسْتَكْبَرَ: دخل في الكبرياءِ، والإبَاءَةُ مقدَّمة على الاِستكبارِ في ظهورهما عليه، والاستكبارُ والأَنَفَة مقدَّمة في معتقده، وروى ابْنُ القاسم «1» عن مَالكٍ أنه قال: بَلَغَنِي أنَّ أوَّلَ معْصيَةٍ كانت الحسدُ، والكِبْرُ، والشُّحُّ، حسد إِبليسُ آدم، وتكبَّر، وشحّ آدم/ في أكله 16 أمن شجرة قد نُهِيَ عن قربها «2» . ت: إِطلاق الشحِّ على آدم فيه ما لا يخفى عليك، والواجب اعتقاد تنزيه الأنبياء عن كل ما يحُطُّ من رتبتهم، وقد قال اللَّه تعالى في حق آدَمَ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] . وقوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ: قالت فِرقَةٌ: معناه: وصار من الكافرين، وردَّه ابن فُورَكَ، وقال جمهور المتأوِّلين: معنى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، أيْ: في علْمِ اللَّهِ تعالى، وقال أبو العالية: معناه: من العاصين «3» ، وذهب الطبريُّ إِلى أن اللَّه تعالى أراد بقصة إبْلِيسَ تقريعَ أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوءته، ومع تقدُّم نعم اللَّه عليهم، وعلى أسلافهم. ت: ولفظ الطبريِّ «4» : وفي هذا تقريعٌ لليهود إذ أبوا الإسلام مع علمهم بنبوءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من التوراة والكُتُبِ حَسَداً له، ولبني إِسماعيل كما امتنع إِبليسُ من السجود حَسَداً لآدَم وتكبُّراً عن الحق وقبولِهِ، فاليهود نظراء إِبْليسَ في كُفْرهم وكِبْرهم وحَسَدهم وتَرْكِهِمْ الانقيادَ لأمر اللَّه تعالى. انتهى من «مختصر الطبريِّ» لأبي عبد اللَّه اللَّخْمِيِّ النحْويِّ. واختلف، هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً؟ على قولَيْن بين أهل السنة، ولا خلاف أنه

_ (1) عبد الرحمن بن القاسم العتقي: جمع بين الزهد والعلم، وتفقه بمالك ونظرائه، وصحب مالكا عشرين سنة، وعاش بعده اثنتي عشرة سنة، مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومات ب «مصر» سنة إحدى وتسعين ومائة. ينظر: «الطبقات» للشيرازي (150) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 125) . (3) أخرجه الطبري (1/ 266) برقم (705) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 510) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 35 إلى 36]

كان عالماً باللَّه قبل كفره، ولا خلاف أن اللَّه تعالى أخرج إبليس عند كفره، وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسْكُنْ. [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 36] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) قوله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ: اسْكُنْ: معناه: لاَزِمِ الإقامةَ، ولفظه لفظ الأمر، ومعناه الإِذن، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، هل هي جنةُ الخُلْدِ، أو جنةٌ أخرى. ت: والأول هو مذهب أهل السنة والجماعة. وَكُلا مِنْها، أي: من الجنةِ، والرغَد: العيشَ الدارَّ الهنيَّ، و «حَيْثُ» مبنيةٌ على الضمِّ. وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ: معناه لا تقرباها بأكْلٍ، والهاءُ في «هَذِهِ» بدلٌ من الياء، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرةٍ معيَّنة واحدة، واختلف في هذه الشجرة، ما هي؟ فقال ابن عَبَّاس، وابن مسعود: هي الكَرْم «1» ، وقيل: هي شجرة التِّين «2» ، وقيل: السنبلة «3» وقيل غير ذلك. وقوله: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ: الظالمُ في اللغة: الذي يضع الشيء في غير موضعه، والظلم في أحكام الشرع على مراتب: أعلاها الشِّرْكُ، ثم ظُلْمُ المعاصي وهي مراتب، وفَأَزَلَّهُمَا: مأخوذ من الزَّلَلِ، وهو في الآية مجازٌ لأنه في الرأْي والنَّظر، وإنما حقيقة الزَّلَلِ في القَدَمِ، وقرأ حمزة «4» : «فأَزَالَهُمَا» مأخوذ من الزوال، ولا خلاف بين

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 269- 270) برقم (730) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 107) . [.....] (2) أخرجه الطبري (1/ 270) برقم (740) عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم بلفظ «التينة» وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 170) بلفظ: «التين» ، والشوكاني في «تفسيره» (1/ 130) . (3) أخرجه الطبري (1/ 269) عن عدد من الصحابة والتابعين، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 107) ، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ. (4) ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 388) ، و «الحجة للقراء السبعة» (2/ 14) ، و «طيبة النشر» (4/ 18) ، و «العنوان» (69) ، و «إعراب القراءات السبع وعللها» (1/ 81) ، و «حجة القراءات» (94) ، و «شرح شعلة» (261) ، و «معاني القراءات» للأزهري (1/ 147) ، وقد قرأ بها الحسن وأبو رجاء. ينظر: «البحر المحيط» (1/ 313) ، و «القرطبي» (1/ 213) .

العلماء أن إبليس اللعينَ هو متولِّي إغواء آدم- عليه السلام-، واختلف في الكيفيَّة. فقال ابن عباس، وابن مسعود، وجمهور العلماء: أغواهما مشافهةً «1» بدليل قوله تعالى: وَقاسَمَهُما [الأعراف: 21] والمقاسمة ظاهرها المشافهةُ. وقالت طائفةٌ: إن إبليس لم يدخُلِ الجنةَ بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانِهِ، وسُلْطَانه، ووَسَاوِسِهِ التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ/» «2» . ت: وإلى هذا القوْلِ نَحَا المَازِرِيُّ «3» في بعض أجوبته، ومن ابتلي بشيء من

_ - وحمزة هو: حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التيمي الزيات. أحد القراء السبعة. كان عالما بالقراءات. انعقد الإجماع على تلقي قراءته بالقبول. قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر. ينظر: «الأعلام» (2/ 277) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 27) ، «وفيات الأعيان» (1/ 167) . (1) أخرجه الطبري (1/ 272) رقم (741) ، عن ابن عباس، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 108) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وذكره الشوكاني في «تفسيره» (1/ 131) ، كلاهما عن ابن عباس. (2) أخرجه البخاري (4/ 326) ، كتاب «الاعتكاف» ، باب هل يخرج المعتكف، حديث (2035) ، وباب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، حديث (2038) ، وباب هل يدرأ المعتكف عن نفسه، حديث (2039) ، و (6/ 242- 243) ، كتاب «فرض الخمس» ، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم حديث (3101) ، و (6/ 387- 388) ، كتاب «بدء الخلق» ، باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3281) ، و (10/ 613- 614) ، كتاب «الأدب» باب التكبير والتسبيح عند التعجب، حديث (6219) ، و (13/ 169) ، كتاب «الأحكام» ، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء، حديث (7171) ، ومسلم (4/ 1712) ، كتاب «السلام» ، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة ... ، حديث (25/ 2175) ، وأبو داود (1/ 749) ، كتاب «الصيام» ، باب المعتكف يدخل البيت لحاجته، حديث (2470، 2471) ، وابن ماجة (1/ 565- 566) ، كتاب «الصيام» ، باب في المعتكف يزوره أهله في المسجد، حديث (1779) ، وأحمد (6/ 337) ، وعبد الرزاق (8065) ، وابن خزيمة (3/ 349) ، رقم (2233، 2234) ، وابن حبان (3671) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 29- 30) ، والبيهقي (4/ 321) ، كتاب «الصيام» ، باب المعتكف يخرج إلى باب المسجد، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 397- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري، عن علي بن الحسين، عن صفية بنت حيي به. (3) المازري: هو محمد بن علي بن عمر التميمي، المازري، يعرف ب «الإمام» ، ويكنى بأبي عبد الله، أصله، من «مازر» مدينة في جزيرة «صقلية» ، خاتمة العلماء المحققين والأئمة الأعلام المجتهدين، الحافظ النظار، كان واسع الباع في العلم والاطلاع مع حدة في الذهن ورسوخ تام حتى بلغ درجة الاجتهاد، أخذ عن أبي الحسن اللخمي وغيره وعنه أخذ ما لا يعد، منهم: أبو محمد عبد السلام، وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم، وله مؤلفات منها: «شرح التلقين» ليس للمالكية كتاب مثله، و «شرح البرهان» -

وسوسة هذا اللعينِ فأعظم الأدوية له الثقَةُ باللَّه، والتعوُّذ به، والإعراض عن هذا اللعين، وعدمُ الالتفاتِ إليه، ما أمكن قال ابن عطاءِ اللَّه «1» في «لَطَائِفِ المِنَنِ» : كان بي وسواسٌ في الوضوءِ، فقال لي الشيخُ أبو العبَّاس المُرْسِيُّ «2» : إن كنت لا تترك هذه الوسوسةَ لا تَعْدُ تَأْتِينَا، فَشَقَّ ذلك علَيَّ، وقطع اللَّه الوسواسَ عني، وكان الشيخ أبو العباس يُلَقِّنُ للوسواسِ: سُبْحَانَ المَلِكِ الخَلاَّقِ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 16، 17] انتهى. قال عِيَاضٌ: في «الشِّفا» «3» وأما قصة آدم عليه السلام، وقوله تعالى: فَأَكَلا مِنْها [طه: 121] بعد قوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ، وقوله تعالى: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الأعراف: 22] وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] أي: جهل، وقيل: أخطأ، فإن اللَّه تعالى قد أخبر بعذره بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] قال ابن عبَّاس: نسي عداوة إِبليس، وما عهد اللَّه إِليه من ذلك «4» بقوله: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ... [طه: 117] الآيَة، وقيل: نسي ذلك بما أظهر لهما، وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنساناً لأنه عهد إِليه فنسي «5» ، وقيل: لم يقصد المخالفة استحلالا لها، ولكنهما اغترا بِحَلِفِ إِبليس لهما: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] وتوهَّما أن أحداً لا يحلف

_ - لأبي المعالي الجويني المسمى «إيضاح المحصول من برهان الأصول» . ولد سنة (443) هـ، وتوفي سنة (536 هـ.) ينظر: «شجرة النور» ص (127) ، «الديباج» (ص 279) . (1) أحمد بن محمد بن عبد الكريم، أبو الفضل تاج الدين، ابن عطاء الله الإسكندري: متصوف شاذلي، من العلماء، كان من أشد خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية. له تصانيف منها: «الحكم العطائية» في التصوف، و «تاج العروس» في الوصايا والعظات، و «لطائف المنن في مناقب المرسي وأبي الحسن» توفي ب «القاهرة» . وينسب إليه كتاب «مفتاح الفلاح» ، وليس من تآليفه. ينظر: «الأعلام» (1/ 221 و 222) ، «الدرر الكامنة» (1/ 273) ، «كشف الظنون» (675) . (2) أحمد بن عمر المرسي، أبو العباس، شهاب الدين: فقيه متصوف، من أهل الإسكندرية، أصله من «مرسية» من «الأندلس» . ينظر: «الأعلام» (1/ 186) ، «النجوم الزاهرة» (7/ 371) . (3) ينظر: «الشفا» ص (822، 823) . (4) ذكره الماوردي في «التفسير» (3/ 430) بنحوه، والقرطبي (6/ 4291) . (5) أخرجه الطبري (8/ 465) برقم (24380) ، والحاكم (2/ 380- 381) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في «الدر» (4/ 553) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في «الصغير» وابن منده في «التوحيد» ، والحاكم.

باللَّه حانِثاً، وقد روي عذر آدم مثل هذا في بعض الآثار، وقال ابن جُبَيْر: حلف باللَّه لهما حتى غَرَّهُمَا، والمؤمن يخدع، وقد قيل: نسي، ولم ينو المخالفَةَ فلذلك قال تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] أَيْ: قَصْداً للمخالفةِ وأكثر المفسرين «1» على أن العزمَ هنا الحزمُ والصبرُ، وقال ابن فُورَكَ وغيره: إِنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوءة، ودليل ذلك قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه: 121، 122] فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل: بل أكلها، وهو متأوِّل، وهو لا يعلم أنَّها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي اللَّه تعالى عن شجرة مخصوصةٍ، لا على الجنْسِ، ولهذا قيل: إنما كانت التوبةُ من ترك التحفُّظ، لا من المخالفة، وقيل: تأول أن اللَّه تعالى لم ينهه عنها نَهْيَ تحريمٍ. انتهى بلفظه فجزاه اللَّه خيرًا، ولقد جعل اللَّه في شِفَاهُ شِفَاءً. والضمير في عَنْها يعود على الجنة، وهنا محذوفٌ يدلُّ عليه الظاهر تقديره: فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ. وقوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ: قيل: معناه: مِنْ نعمة الجنَّةِ إلى شقاء الدنيا، وقيل: من رفعة المنزلةِ إلى سُفْل مكانة الذنب. ت: وفي هذا القول ما فيه، بل الصوابُ ما أشار إليه صاحب «التَّنْوِيرِ» بأن إخراج آدَم لم يكن إهانة له، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرام آدم وجعله في الأرض خليفةً، هو وأخيارَ ذرّيته، قائمين فيها بما يجبُ للَّه من عبادتِهِ، والهبوطُ النزولُ من عُلْو إلى سُفْل، واختلف من المخاطَبُ بالهبوط. فقال السُّدِّيُّ/ وغيره: آدم، وحَوَّاء، وإِبليس، والحيّة التي أدخلت إبليس في فمها، 17 أوقال «2» الحسن: آدم، وحواء والوسوسة «3» . وبَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ جملةٌ في موضع الحال، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، أيْ: موضع استقرار، وقيل: المراد الاستقرار في القبور، والمتاع: ما يستمتع به من

_ (1) قال السمين الحلبي: «قال قتادة: صبرا، وقال غيره: حزما. وهذه غلطة. والأولى في تفسيرها: ولم نجد له تصميما على ما همّ به. وقال شمر: العزم والعزيمة: ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله. ينظر: «عمدة الحفاظ» (3/ 87) . [.....] (2) أخرجه الطبري (1/ 278) برقم (760) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 110) عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وذكره ابن كثير (1/ 206) ، والماوردي (1/ 107) والشوكاني في «تفسيره» (1/ 131) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 129) ، والقرطبي (1/ 272) .

أكل، ولُبْس، وحَدِيثٍ، وأنس، وغيرِ ذلك. واختلف في «الحِينِ» هنا. فقالت فرقةٌ: إلى المَوْتِ، وهذا قولُ من يقول: المستقرُّ هو المُقام في الدنيا، وقالت فرقة: إِلى حِينٍ: إلى يومِ القيامةِ، وهذا هو قول من يقول: المستَقَرُّ هو في القبور، والحِينُ المدَّة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان «1» والالتزامات سَنَةٌ قال اللَّه تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: 25] وقيل: أقصرها ستَّةُ أشهر لأن من النخل ما يطعم في كلِّ ستة أشهر. وفي قوله تعالى: إِلى حِينٍ فائدةٌ لآدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها، ومنتقلٌ إِلى الجنة التي وعد بالرجوع إِليها، وهي لغير آدم دالَّة على المعاد، وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سَرَنْدِيبَ «2» ، وأن حواء نزلَتْ بِجُدَّةَ «3» ، وأن الحية نزلت بأصبهان «4» ،

_ (1) الأيمان لغة: جمع يمين، وهو القوة، وفي الصحاح: اليمين: القسم، والجمع: الأيمن، والأيمان. انظر: «الصحاح» (6/ 2221) ، «المصباح المنير» (2/ 1057) ، و «المغرب» (2/ 399) ، «لسان العرب» (3/ 462) ، «القاموس المحيط» (4/ 281) . واصطلاحا: عرفه الحنفية بأنه: عقد قوي به عزم الحالف على فعل شيء أو تركه. وعرفه الشافعية بأنه: تحقيق غير ثابت ماضيا كان أو مستقبلا، نفيا أو إثباتا، ممكنا أو ممتنعا، صادقة أو كاذبة، على العلم بالحال أو الجهل به. وعرفه المالكية بأنه: تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته. وعرفه الحنابلة بأنه: توكيد حكم (أي: محلوف عليه) ، بذكر معظم، أو هو: المحلوف به على وجه مخصوص. ينظر: «تبيين الحقائق» (3/ 107) ، «شرح فتح القدير» (4/ 2) ، «مغني المحتاج» (4/ 320) ، «المحلى على المنهاج» (4/ 370) ، «حاشية الدسوقي» (2/ 112) ، «شرح منتهى الإرادات» (3/ 419) . (2) سرنديب جزيرة عظيمة بأقصى بلاد الهند. يقال: ثمانون فرسخا في مثلها، فيها الجبل الذي هبط عليه آدم- عليه السلام- يقال له: الرهون، وهو ذاهب في السماء يراه البحريون من مسافة أيام كثيرة. وفيه أثر آدم وقبره، وهي قدم واحدة مغموسة في الحجر طولها نحو سبعين ذراعا. ينظر: «مراصد الاطلاع» (2/ 710) . (3) جدّة بالتشديد: بلد على ساحل بحر اليمن، هو فرضة «مكة» . ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 318) . (4) أصبهان منهم من يفتح الهمزة وهو الأكثر الأشهر، وكسرها آخرون. أصبهان: لفظ معرّب من سباهان بمعنى الجيش، فيكون معناه على حذف المضاف مدينة «الجيش» : مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها. وأصبهان: اسم للإقليم بأسره. ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 87) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 37 إلى 38]

وقيل: بِمَيْسَانَ «1» ، وأن إبليسَ نزل عند الأُبُلَّةِ «2» . [سورة البقرة (2) : الآيات 37 الى 38] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ: المعنى: فقال الكلماتِ، فتابَ اللَّه علَيْه عنْد ذلك، وقرأ ابن كثير «3» «آدَمَ» بالنصب «مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ» بالرفع، واختلف المتأوِّلون في الكلماتِ، فقال الحسنُ بن أبي الحسن: هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ... «4» الآية [الأعراف: 23] ، وقالت طائفة: إِنَّ آدم رأى مكتوباً على ساق العرش: محمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ، فتشفَّع به، فهي الكلماتُ «5» ، وسئل بعض سَلَفِ المسلمين عمَّا ينبغي أن يقوله المُذْنِبُ، فقال: يقول ما قاله أبواه: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] وما قاله موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] وما قال يونس: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] وتَابَ عَلَيْهِ: معناه: راجعٌ به، والتوبةُ، من اللَّه تعالى الرجوعُ على عبده بالرحمةِ والتوفيقِ، والتوبةُ من العبد الرجوعُ عن المعصيةِ، والندمُ على الذنب، مع تركه فيما يستأنف. ت: يعني: مع العزم على تركه فيما يستقبل، وإنما خص اللَّه تعالى آدم بالذكْرِ في التلقِّي، والتوبة، وحواءُ مشارِكَةٌ له في ذلك بإجماع لأنه المخاطَبُ في أول القصَّة، فكملت القصة بذكُره وحْدَه وأيضاً: فَلأَنَّ المرأة حُرْمَةٌ ومستورةٌ، فأراد اللَّه تعالَى السِّتْر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ [طه: 121] وبنية التَّوَّاب للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: هُوَ التَّوَّابُ تأكيدٌ فائدتُهُ أنَّ التوبة على العبد إنما هي

_ (1) «ميسان» : كورة واسعة كثيرة القرى والنخل، بين «البصرة» و «واسط» قصبتها «ميسان» . ينظر: «مراصد الاطلاع» (3/ 1343) . (2) «الأبلّة» : بلدة على شاطىء دجلة «البصرة» العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة «البصرة» . ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 18) . (3) عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد: أحد القرّاء السبعة. كان قاضي الجماعة ب «مكة» . وكانت حرفته العطارة. ويسمون العطار «داريّا» . فعرف ب «الداري» . وهو فارسي الأصل، ولد سنة (45 هـ.) ب «مكة» وتوفي سنة (120 هـ.) بها أيضا. ينظر: «وفيات الأعيان» (1: 250) ، «الأعلام» (4/ 115) . (4) أخرجه الطبري (1/ 281) برقم (778) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 118) ، وعزاه لعبد بن حميد، وذكره ابن كثير (1/ 81) . (5) ينظر: القرطبي (1/ 276) .

نعمة من اللَّه تعالى، لا من العبد وحده لئلاَّ يعجب التائبُ، بل الواجب عليه شكر اللَّه تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علَّق بكل أمر منهما حكمًا غير حكم الآخر، فعلَّق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى. ت: وهذه الآية تبين أن هبوط آدم كان هبوط تَكْرِمَةٍ لما ينشأ عن ذلك من أنواع الخيرات، وفنون العبادات. 17 ب وجَمِيعاً: حالٌ من الضمير/ في «اهبطوا» ، واختلف في المقصود بهذا الخطاب. فقيل: آدم، وحواء، وإبليس، وذريَّتهم، وقيل: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في آدم وحواء لأن إبليس لا يأتيه هُدًى، والأول أصح لأن إبليس مخاطَبٌ بالإيمان بإجماع «1» . «وإِنْ» في قوله: فَإِمَّا هي للشرط، دخلت «مَا» عليها مؤكِّدة ليصح دخول النون المشدَّدة، واختلف في معنى قوله: هُدىً فقيل: بيان وإرشاد، والصواب أن يقال: بيان ودعاءٌ، وقالت فرقة: الهُدَى الرسُلُ، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر هو فَمَنْ بعده.

_ (1) يطلق الإجماع في اللّغة، على معنيين: أحدهما: العزم، يقال: أجمعت المسير والأمر، وأجمعت عليه أي: عزمت. ثانيهما: الاتّفاق، ومنه يقال: أجمع القوم على كذا، إذا اتّفقوا، قال في «القاموس» : الإجماع: الاتّفاق، والعزم على الأمر. عرّفه الرازيّ في «المحصول» والإجماع اصطلاحا بأنه: عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلم على أمر من الأمور. وعرّفه الآمديّ بقوله: عبارة عن اتّفاق جملة أهل الحلّ والعقد من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على واقعة من الوقائع. وعرّفه النّظّام من المعتزلة بقوله: هو كلّ قول قامت حجّته حتّى قول الواحد. وعرّفه سراج الدين الأرمويّ في «التحصيل» بقوله: هو اتّفاق المسلمين المجتهدين في أحكام الشّرع على أمر ما من اعتقاد، أو قول، أو فعل. ويمكن أن يعرّف بأنّه اتفاق المجتهدين من هذه الأمّة بعد وفاة محمّد صلّى الله عليه وسلم في عصر على أمر شرعيّ. ينظر: «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 670) ، «البحر المحيط» للزركشي (4/ 435) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (1/ 179) ، «سلاسل الذهب» للزركشي ص (337) ، «التمهيد» للأسنوي ص (451) ، «نهاية السول» له (3/ 237) ، «زوائد الأصول» له ص (362) ، «منهاج العقول» (2/ 377) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 39 إلى 41]

وقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ: شرطٌ، جوابه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، قال سيبوَيْهِ: والشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ. وقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: يحتمل فيما بين أيديهم من الدنيا، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم منها، ويحتمل: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يوم القيامة، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه. ت: وهذا هو الظاهر، وعليه اقتصر في اختصار الطبريِّ، ولفظه عن ابن زيد: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، أي: لا خوف عليهم أمامهم «1» ، قال: وليس شيء أعظم في صدر من يموت مما بعد الموتِ فأمَّنهم سبحانه منه، وسلّاهم عن الدنيا. انتهى. [سورة البقرة (2) : الآيات 39 الى 41] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: لما كانت لفظة الكُفْرِ يشترك فيها كفر النعمِ، وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلودٌ، بيَّن سبحانه أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ... والآياتُ هنا يحتمل أن يريد بها المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ، والصُّحْبَةُ الاقتران بالشيْءِ في حالةٍ مَّا زمنا. قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ: إسْرَائِيلَ: هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ- عليهم السلام- وإِسْرَا: هو بالعبرانية عبد، وإِيلُ: اسم اللَّه تعالى، فمعناه عَبْدُ اللَّهِ، والذِّكْرُ في كلام العَرَبِ على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضدّ النسيان، والنعمة هنا اسم «2» جنس، فهي مفردة بمعنى الجَمْعِ، قال ابن عَبَّاس، وجمهور العلماء: الخِطَابُ لجميع بني إسرائيل في مدَّة النبيِّ صلّى الله عليه وسلم.

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 285) برقم (796) . (2) الجنس: هو جملة الشيء ومجموع أفراده، وهو أعم من النوع، وقد استعمل النحاة هذا التعبير في مجال الدلالة على الشيوع والعمومية في النوع الواحد. وقد أطلق النحاة هذا اللفظ في مجال تقسيم العلم وذكر أنواعه، فقالوا: العلم: علم شخص أو جنس. واستعملوه أيضا في اسم الجنس الذي قسموه إلى ثلاثة أقسام: 1- اسم جنس جمعي. 2- اسم جنس إفرادي. 3- اسم جنس آحادي. «معجم المصطلحات النحوية والصرفية» ، د. محمد سمير نجيب اللبدي، (ص 55- 56) . [.....]

وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ: أمر وجوابه، وهذا العهد في قول جمهور العلماءِ عامٌّ «1» في جميع أوامره سبحانه ونواهيه ووصاياه لهم، فيدخل في ذلك ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلم الذي في التوراة، والرهبةُ يتضمَّن الأمر بها معنى التهديد، وأسند الترمذيُّ الحَكِيمُ «2» في «نَوَادِرِ الأصول» له عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «قَالَ رَبُّكُمْ سُبْحَانَهُ: لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، فَمَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا، أَخَفْتُهُ فِي الآخِرَةِ» «3» . انتهى من «التذكرة» للقرطبيّ، ورواه ابن المبارك «4» في

_ (1) عرفه أبو الحسين البصريّ في «المعتمد» بقوله: «هو اللّفظ المستغرق لما يصلح له» . وزاد الإمام الرّازي على هذا التّعريف في «المحصول» : « ... بوضع واحد» ، وعليه جرى البيضاويّ في «منهاجه» . وعرّفه إمام الحرمين الجوينيّ في «الورقات» بقوله: «العام: ما عمّ شيئين فصاعدا» . وإلى ذلك أيضا ذهب الإمام الغزّاليّ حيث عرّفه بأنّه: «اللّفظ الواحد الدّالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا» . ويرى سيف الدّين الآمديّ أنّ العامّ هو: «اللّفظ الواحد الدّالّ على قسمين فصاعدا مطلقا معا» . واختار ابن الحاجب: «أن العامّ ما دلّ على مسميّات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة» . ينظر: «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 3418) ، و «البحر المحيط» للزركشي (3/ 5) ، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (2/ 185) ، و «سلاسل الذهب» للزركشي (ص 219) ، و «التمهيد» للإسنوي (ص 297) ، و «نهاية السول» له (2/ 312) ، و «زوائد الأصول» له (ص 248) ، و «منهاج العقول» للبدخشي: (2/ 75) ، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (ص 69) ، و «التحصيل من المحصول» للأرموي: (1/ 343) ، و «المنخول» للغزالي (ص 138) ، و «المستصفى» له (2/ 32) ، و «حاشية البناني» (1/ 392) ، و «الإبهاج» لابن السبكي (2/ 82) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (2/ 254) ، و «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (ص 326) ، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 505) ، و «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 189) ، و «إحكام الفصول في أحكام الأصول» للباجي (ص 230) . (2) محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، الحكيم الترمذي: باحث صوفي، عالم بالحديث وأصول الدين من أهل «ترمذ» نفي منها بسبب تصنيفه كتابا خالف فيه ما عليه أهلها، فشهدوا عليه بالكفر. وقيل: اتهم باتباع طريقة الصوفية في الإشارات ودعوى الكشف. وقيل: فضّل الولاية على النبوة، ورد بعض العلماء هذه التهمة عنه. أما كتبه، فمنها: «نوادر الأصول في أحاديث الرسول» ، و «الفروق» . ينظر: «الأعلام» (6/ 272) ، «مفتاح السعادة» (2/ 170) ، «طبقات السبكي» (2/ 20) ، «الرسالة المستطرفة» (43) . (3) أخرجه ابن حبان (2494- موارد) ، والبزار (4/ 74- «كشف» ) ، حديث (3233) . (4) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة الأعلام وشيوخ الإسلام. روى عن حميد، وإسماعيل، وغيرهم. كتب عن أربعة آلاف شيخ وروى عن ألف، عالم المشرق والمغرب، وكان ثقة، ولد سنة (118 هـ.) ، وتوفي سنة (181 هـ.) . ينظر: «الخلاصة» (2/ 93) (3767) ، و «الحلية» (8/ 162- 190) ، و «الوفيات» (3/ 32- 34) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 42 إلى 43]

«رَقَائِقِهِ» من طريق الحسن البصريِّ، وفيه: قَالَ اللَّهُ: «وَعِزَّتِي، لاَ أَجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ فَإذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَإذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» «1» . انتهى، ورواه أيضاً الترمذيُّ الحكيمُ في كتاب «خَتْمِ الأَوْلِيَاءِ» قال صاحب «الكَلِمِ الفَارِقِيَّةِ، والحِكَمِ الحقيقيَّة» : «بقدر ما يدخل القلب من التعظيم والحرمة/ 18 أتنبعث الجوارح في الطاعة والخدمة» . انتهى. وآمِنُوا: معناه: صدّقوا، ومُصَدِّقاً نصبٌ على الحال من الضمير في أَنْزَلْتُ، وبِما أَنْزَلْتُ كناية عن القرآن، ولِما مَعَكُمْ، يعني: التوراةَ. وقوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ هذا من مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمها واحدٌ، وَحُذِّرُوا البدارَ إلى الكفر به إِذ على الأول كِفْلٌ من فعل المقتدى به، ونصب «أَوَّلَ» على خبر «كَانَ» . ع «2» : وقد كان كَفَر قبلهم كفار قريشٍ، وإِنما معناه من أهل الكتاب إِذ هم منظورٌ إِليهم في مثل هذا، واختلف في الضمير في «به» ، فقيل: يعود على محمّد صلّى الله عليه وسلم، وقيل: على القرآن، وقيل: على التوراة، واختلف في الثمن الذي نُهُوا أن يشتروه بالآياتِ. فقالتْ طائفةٌ: إن الأحبار كانوا يُعلِّمُونَ دينَهم بالأجرة، فَنُهُوا عن ذلك، وفي كتبهم: «عَلِّمْ مَجَّاناً كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّاناً» ، أي: باطلاً بغير أجرة. وقيل: كانت للأخبار مأكلة يأكلونها على العِلْمِ. وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رُشاً على تغييرِ صفَةِ محمَّد صلّى الله عليه وسلم في التوراة، فنُهُوا عن ذلك. وقال قوم: معنى الآية: ولا تشتروا بأوامري، ونواهِيَّ، وآياتي ثمناً قليلاً، يعني: الدنيا ومدَّتها والعيش الذي هو نزْرٌ «3» لا خَطَر له، وقد تقدَّم نظير قوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، وبيْنَ «اتقون» ، و «ارهبون» فرق إن الرهبة مقرونٌ بها وعيدٌ بالغ. [سورة البقرة (2) : الآيات 42 الى 43] وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 50، 51) رقم (157) عن الحسن مرسلا. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 134) . (3) النّزر: القليل التّافه. ينظر: «لسان العرب» (4393) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 44 إلى 46]

وقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، أي: لا تخلطوا، قال أبو العاليةِ: قالت اليهود: محمَّد نبيٌّ مبعوثٌ، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وقولهم: إلى غيرنا باطلٌ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، أي: أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم «1» ، وفي هذهِ الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من وقع فيه، مع العلم به، وأنه أعصى من الجاهل، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملةٌ في موضع الحال. قال ص «2» : وَتَكْتُمُوا مجزومٌ معطوف على تَلْبِسُوا، والمعنى النهْيُ عن كلٍّ من الفعلين. انتهى. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: معناه: أظهروا هيئَتَها، وأديموها بشروطها، والزكاة في هذه الآية هي المفروضة، وهي مأخوذة من النماء، وقيل: من التطهير. وقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: قيل: إنما خص الركوع بالذِّكْر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوعٌ. ت: وفي هذا القول نظرٌ، وقد قال تعالى في «مَرْيم» : اسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] ، وقالت فرقة: إنما قال: مَعَ لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتضِ شهود الجماعة، فأمرهم بقوله: مَعَ شهود الجماعة. ت: وهذا القول هو الذي عوَّل عليه ع: في قصَّة مرْيَمَ «3» - عليها السلام-، والركوع الانحناء بالشخص. [سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) وقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ خرج مخرج الاستفهامِ، ومعناه التوبيخُ، و «البِرُّ» يجمع وجوه الخيرِ والطاعاتِ، وتَنْسَوْنَ معناه تتركون أنفسكم. قال ابنُ عَبَّاس: كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلِّديهم باتباع التوراة، وكانوا هم

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 294) برقم (829) بلفظ «كتموا بعث محمد صلّى الله عليه وسلم» . وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 135) . (2) «المجيد» ص 230. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 434) .

يخالفونها في جحدهم منها صفة محمّد صلّى الله عليه وسلم «1» . وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدَهُمْ أحد من العرب في اتّباع محمّد صلّى الله عليه وسلم، دلُّوه على ذلك، وهم لا يفعلونه. ت: وخرَّج الحافظُ أبو نُعَيْمٍ أحمد بن عبد اللَّه الأصبهانيُّ «2» في كتاب «رِيَاضَةِ المُتَعَلِّمِينَ» قال: حدَّثنا أبو بكر بن خَلاَّد «3» ، حدَّثنا الحارث بن أبي أُسَامَةَ «4» ، حدثنا أبو النَّضْرِ «5» /، حدثنا محمَّد بن عبد اللَّه بن علي بن زيْدٍ عن أنس بن مالك- رضي اللَّه 18 أعنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: الخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب أفلا يعقلون» «6» . انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 296) برقم (840) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 126) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، أبو نعيم: حافظ، مؤرخ، من الثقات في الحفظ والرواية. ولد ومات في «أصبهان» . من تصانيفه «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» ، و «معرفة الصحابة» . ينظر: «الأعلام» (1/ 157) ، «ابن خلكان» (1/ 26) ، «ميزان الاعتدال» (1/ 52) ، «طبقات الشافعية» (3/ 7) . (3) محمد بن خلاد بن كثير الباهلي، أبو بكر البصري. عن ابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وابن فضيل، وطبقتهم. وعنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وزكريا خياط السنة. قال ابن حبان في «الثقات» : مات سنة تسع وثلاثين ومائتين. ينظر: «خلاصة تذهيب تهذيب الكمال» (2/ 401) ، «تهذيب التهذيب» (9/ 152) ، «الثقات» (9/ 86) . (4) اسم أبي أسامة: داهر: ونعت الحارث بأنه الحافظ، الصّدوق، العالم، مسند العراق، أبو محمد التّميمي، مولاهم البغدادي الخصيب، صاحب «المسند» المشهور، ولم يرتّبه على الصّحابة، ولا على الأبواب. ولد في سنة ستّ وثمانين ومئة. ذكره ابن حبان في «الثقات» . وقال الدارقطني: صدوق. توفي الحارث يوم «عرفة» سنة اثنين وثمانين ومئتين. ينظر: «سير أعلام النبلاء» (13/ 388- 390) . [.....] (5) هاشم بن القاسم الليثي، أبو النضر الخراساني، قيصر، الحافظ. عن شعبة، وابن أبي ذئب، وحريز بن عثمان، وخلق. وعنه أحمد، وإسحاق، ويحيى، وابن المديني، وخلق. قال العجلي: ثقة، صاحب سنة. كان أهل «بغداد» يفتخرون به. قال مطين: مات سنة سبع ومائتين. ينظر: «خلاصة تهذيب التهذيب» (3/ 110) ، و «تهذيب التهذيب» (11/ 18) ، و «الكاشف» (3/ 217) ، و «الجرح والتعديل» (6/ 446) . (6) أخرجه أحمد (3/ 120، 180، 231، 239) ، وابن المبارك في «الزهد» (819) ، وأبو يعلى (7/ 69) ، رقم (3992) ، من طريق حماد عن علي بن زيد، عن أنس به. -

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ: قال مقاتل «1» : معناه: على طلب الآخرة، وقيل: استعينوا بالصبر على الطاعات، وعن الشهوات على نيلِ رضوانِ اللَّه سبحانه، وبالصلاةِ على نيل رضوانِ اللَّه، وحطِّ الذنوب، وعلى مصائب الدهْر أيضاً ومنه الحديثُ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذَا حَزَبَهُ «2» أَمْرٌ، فَزِعَ إلَى الصَّلاَةِ» «3» ، ومنْهُ ما روي أنَّ عبد اللَّه بن عباس نُعِيَ له أخوه قُثَمُ «4» وهو في سفر، فاسترجع، وتنحى عن الطريق، وصلى، ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ «5» ، وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوْمُ «6» ، ومنه قيل لرمضانَ شهْرُ الصبْرِ، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكْرِ لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهواتِ، ويزهِّد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنْكَرِ، وتُخشِّع، ويقرأُ فيها القرآن الذي يذكِّر بالآخرة، وقال قومٌ: الصبر على بابه، والصلاة الدعاءُ، وتجيء الآية على هذا القولِ مشْبِهةً لقوله تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا

_ وأخرجه أبو يعلي (7/ 180) ، رقم (4160) ، وابن حبان. (35- موارد) من طريق مالك بن دينار، عن أنس به. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 172) ، من طريق سليمان التيمي، عن أنس به. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 64) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبزار، وابن أبي داود في «البعث» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (1) مقاتل بن سليمان الأزدي، أبو الحسن الخراساني، المفسر عن الضحاك، ومجاهد. وعنه ابن عيينة، وعلي بن الجعد. قال الشافعي: الناس عيال عليه في التفسير. قال ابن المبارك: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة. وقال الحربي: لم يسمع من مجاهد شيئا. وقال أبو حنيفة: مشبّه. وكذّبه وكيع. قال ابن حبان: كان يأخذ عن اليهود علم الكتاب، وكان مشبّها يكذب. قيل: مات سنة خمسين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 53- 54) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 285) . (2) أي إذا نزل به منهم أو أصابه غمّ. ينظر: «النهاية» (1/ 377) . (3) أخرجه أحمد (5/ 388) ، وأبو داود (1/ 420- 421) كتاب «الصلاة» ، باب وقت قيام النبي صلّى الله عليه وسلم من الليل، حديث (1319) ، من حديث حذيفة. (4) قثم (بضم أوله، وفتح المثلاثة) ابن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، صحابي، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، واستشهد في غزو «سمرقند» وقبره بها. ينظر: «الخلاصة» (2/ 359) ، «تهذيب الكمال» (2/ 1124) ، «تهذيب التهذيب» (8/ 361) ، «تقريب التهذيب» (2/ 123) . (5) أخرجه الطبري (1/ 299) برقم (852) ، وقال أحمد شاكر: «إسناده صحيح» وأخرجه البيهقي في «الشعب» (7/ 114) برقم (9682) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 131) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «الشعب» . (6) أخرجه البيهقي في «الشعب» (7/ 113) برقم (9680) .

وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال: 45] لأن الثبات هو الصبر، وذكر اللَّه هو الدعاءُ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَةَ «1» عن ثابتٍ البُنَانِيِّ «2» عن صِلَةَ بْنِ أشْيَمِ «3» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ صلى صَلاَةً، لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاه» «4» وأسند ابن المبارك عن عقبة بن عامر الجُهَنِيِّ قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ صلى صَلاَةً غَيْرَ سَاهٍ، وَلاَ لاَهٍ، كُفِّرَ عَنْهُ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ شَيْءٍ» «5» . انتهي. وهذان الحديثان يُبَيِّنَانِ ما جاء في «صحيح البخاريِّ» عن عثمانَ حيثُ توضَّأَ ثلاثًا ثلاثاً، ثم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا، ثُمَّ صلى ركعتين لا

_ (1) حمّاد بن سلمة بن دينار الرّبعي، أو التّميمي، أو القرشي، مولاهم، أبو سلمة البصري، أحد الأعلام. عن ثابت، وسماك، وسلمة بن كهيل، وابن أبي مليكة، وقتادة، وحميد، وخلق. وعنه ابن جريح، وابن إسحاق شيخاه، وشعبة، ومالك، وحبّان بن هلال، والقعنبيّ، وأمم. قال القطان: إذا رأيت الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام. وقال ابن المبارك: ما رأيت أشبه بمسالك الأول من حماد. وقال وهيب بن خالد: كان حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا. قال حماد: من طلب العلم لغير الله مكر به. توفي سنة سبع وستين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 252) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 11) ، و «الثقات» (6/ 216) . (2) ثابت بن أسلم البناني، مولاهم، أبو محمد البصري، أحد الأعلام. قال ابن المديني: له نحو مائتين وخمسين حديثا. وقال حماد بن زيد: ما رأيت أعبد من ثابت. وقال شعبة: كان يختم في كل يوم وليلة ويصوم الدهر. وثقه النسائي، وأحمد، والعجلي. قال ابن عليّة: مات سنة سبع وعشرين ومائة عن ست وثمانين سنة. ينظر: «طبقات ابن سعد» (1/ 478 و 7/ 231) ، «الوافي بالوفيات» (10/ 461) ، «الحلية» (2/ 318) ، «سير الأعلام» (5/ 220) ، «تذكرة الحفاظ» (125) ، «لسان الميزان» (7/ 187) ، «ميزان الاعتدال» (1/ 362) ، «تهذيب الكمال» (1/ 170) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (1/ 147) . (3) الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء، العدوي، البصري، زوج العالمة معاذة العدوية. حدث عنه: أهله معاذة، والحسن، وحميد بن هلال، وثابت البناني، وغيرهم. ينظر: «سير الأعلام» (3/ 497) . (4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 402) رقم (1143) ، وابن شاهين في «الصحابة» كما في «الإصابة» (3/ 260) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن صلة بن أشيم به مرسلا. (5) أخرجه ابن المبارك (ص 402- 403) ، رقم (1145) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 326- 327) ، رقم (902) من طريق ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن ربيعة بن قيس، عن عقبة بن عامر مرفوعا. وأخرجه الطبراني (17/ 327) ، رقم (903) ، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن رجل، عن ربيعة بن قيس، عن عقبة بن عامر به. وذكره الهيثمي في «المجمع» (2/ 278) ، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» بإسنادين في أحدهما ابن لهيعة، وفيه كلام. [.....]

يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «1» . انتهى. والضمير في قوله تعالى: وَإِنَّها قيل: يعود على الصلاة، وقيل: على العبادة التي تضمنها بالمعنى ذكر الصبْرِ والصلاة. قال ص «2» : «وإنَّهَا» الضمير للصلاة، وهو القاعدة في أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. انتهى. ثم ذكر أبو حَيَّان «3» وجوهاً أُخَرَ نحو ما تقدَّم. وكَبِيرَةٌ: معناه: ثقيلةٌ شاقَّة، والخَاشِعُونَ: المتواضعون المخبتُونَ، والخشوعُ هيئة في النفْسِ يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع. ويَظُنُّونَ في هذه الآية، قال الجمهور: معناه: يوقنُونَ، والظنُّ في كلام العرب قاعدته الشَّكُّ مع ميلٍ إلى أحد معتقديه، وقد يقع موقع اليقين، لكنه لا يقع فيما قد خرج إلى الحِسِّ لا تقول العرب في رجل مَرْئِيٍّ أظن هذا إنسانًا، وإنَّمَا تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس كهذه الآية وكقوله تعالى: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: 53] . قال ص «4» : قلتُ: وما ذكره ابن عَطيَّةَ هو معنى ما ذكره الزّجّاج «5» في معانيه 19 أعن بعْض أهل العلْمِ أنَّ الظنَّ يقع في معنى العلْمِ الذي لم تشاهدْه/، وإِنْ كان قد قامت في نفسك حقيقتُهُ، قال: وهذا مذهبٌ إلا أن أهل اللغة لم يذكروه، قال: وسمعته من أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي «6» ،

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 259) ، كتاب «الوضوء» ، باب الوضوء ثلاثا، الحديث (159) ، (160) ، (164) ، (1934) ، (6433) ، ومسلم (1/ 205) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة الوضوء وكماله، الحديث (4/ 226) ، وأبو داود (1/ 78- 81) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم، الحديث (106) ، (110) ، وابن ماجة (1/ 105) ، كتاب «الطهارة» ، باب ثواب الطهور، الحديث (285) ، والنسائي (1/ 64) ، كتاب «الطهارة» ، باب المضمضة والاستنشاق، وباب بأي اليدين يتمضمض، والبيهقي (1/ 49) ، كتاب «الطهارة» ، باب سنة التكرار في المضمضة والاستنشاق، والدارقطني (1/ 83) ، كتاب «الطهارة» ، باب وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (2) «المجيد» ص 233. (3) ينظر: «البحر المحيط» (1/ 341) . (4) «المجيد» (235) . (5) ينظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (1/ 126) . (6) أبو إسحاق: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم بن بابك الجهضمي الأزدي: مولى آل جرير بن حازم. أصله من «البصرة» ، وبها نشأ، واستوطن «بغداد» وتفقه بابن-

[سورة البقرة (2) : الآيات 47 إلى 48]

رواه عن زيد بن أسْلَمَ «1» . انتهى. والمُلاَقَاةُ هي لِلثوابِ أو العقابِ، ويصحُّ أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواتر الحديث. وراجِعُونَ: قيل: معناه: بالموْتِ، وقيل: بالحشرِ والخروجِ إلى الحساب والعرضِ، ويقوِّي هذا القوْل الآيةُ المتقدِّمة قوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: قد تكرَّر هذا النداءُ والتذكيرُ بالنعمة، وفائدةُ ذلك أن الخطاب الأول يصحُّ أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرِّر إنما هو للكافرين بدلالة ما بعده وأيضاً: فإن فيه تقويةَ التوقيف، وتأكيدَ الحضِّ على أيَادِي اللَّه سبحانه، وحُسْن خطابهم بقوله سبحانه: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيلٌ لهم، وفي الكلام اتساعٌ، قال قتادة وغيره: المعنى: على عَالَمِ زمانِهِمُ الذي كانتْ فيه النبوءةُ المتكرِّرة، لأن الله تعالى يقول لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2» [آل عمران: 110] . وَاتَّقُوا يَوْماً، أي: عذابَ يوم، أو هولَ يومٍ ويصح أن يكون يوماً نصبه على

_ - المعدّل، وكان يقول: أفخر على الناس برجلين ب «البصرة» : ابن المعدل: يعلّمني الفقه، وابن المديني: يعلمني الحديث. ينظر: «الديباج المذهب» (1/ 283- 284) . (1) زيد بن أسلم العدوي، مولاهم، المدني، أحد الأعلام. عن أبيه، وابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبي هريرة، وقال ابن معين: لم يسمع منه، ولا من جابر، وعنه بنوه، وداود بن قيس، ومعمر وروح بن القاسم. قال مالك: كان زيد يحدّث من تلقاء نفسه، فإذا قام فلا يتجرىء عليه أحد. وثقه أحمد، ويعقوب بن شيبة. مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 349) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 395) ، «الكاشف» (1/ 136) ، «تاريخ البخاري الكبير» (3/ 387) ، «تاريخ البخاري الصغير» (1/ 137) ، «الجرح والتعديل» (3/ 2509) ، «ميزان الاعتدال» (2/ 98) ، «الثقات» (6/ 246) . (2) أخرجه الطبري (1/ 303) برقم (869) بلفظ «فضلهم على عالم ذلك الزمان» وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 133) بلفظ «فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، ولكل زمان عالم» وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد.

[سورة البقرة (2) : آية 49]

الظرف «1» ، ولا تَجْزِي: معناه: لا تغني، وقال السُّدِّيُّ: معناه: لا تقضي ويقوِّيه قوله: شَيْئاً، وفي الكلام حذفٌ، التقدير: لا تجزي فيه، وفي مختصر الطبريِّ: أي: واتقوا يوماً لا تقضي نفْسٌ عن نفس شيئاً، ولا تغني غَنَاءً، وأَحَدُنَا اليومَ قد يقضي عن قريبه دَيْناً، وأما في الآخرة، فيسر المرء أن يترتَّب له على قريبه حقٌّ لأنَّ القضاء هناك من الحسنات والسيئات كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. انتهى. والشَّفَاعَةُ: مأخوذة من الشَّفْع، وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شَفْعٌ وسبب هذه الآية أنَّ بني إسرائيل قالوا: «نَحْنُ أبناءُ أنبياء الله، وسيشفع لنا أبناؤنا» ، وهذا إنما هو في حق الكافرين للإجماع، وتواترِ الأحاديث بالشفاعة في المؤمنين. وقوله تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ: قال أبو العالية: العَدْلُ: الفدية. قال ع «2» : عدل الشيْءِ هو الذي يساويه قيمةً وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، والعِدْلُ بكسر العين: هو الذي يساوي الشيء من جنسه، وفي جرمه، والضمير في قوله: وَلا هُمْ عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآيةُ، ويحتمل أن يعود على النفسينِ المتقدِّمِ ذكرُهما لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنْسِ، وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإِن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلَّص إِلاَّ بأن يشفع له، أو ينصر، أو يفتدى. ت: أو يمنّ عليه إلا أنَّ الكافرَ ليس هو بأهلٍ لإنْ يمنّ عليه. [سورة البقرة (2) : آية 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: أي: خلَّصناكم، وَآل: أصْلُهُ أَهْل قلبت الهاء أَلِفاً ولذلك رَدَّها التصغيرُ إلى الأصل، فقيل: أُهَيْل، وآلُ الرجل قرابته، وشيعته، وأتباعه، وفرعونُ: اسمٌ لكلِّ من ملك من العَمَالِقَةِ بمصر، وفرعون موسى، قيل:

_ (1) ويكون المفعول حينئذ محذوفا، وتقديره: واتقوا العذاب في يوم صفته كيت وكيت. وقد منع أبو البقاء كونه ظرفا، قال: لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة. والجواب عنه- كما يقول السمين الحلبي-: أن الأمر بالحذر من الأسباب المؤدية إلى العذاب في يوم القيامة. ينظر: «الدر المصون» (1/ 214) ، «التبيان في إعراب القرآن» لأبي البقاء العكبري، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الشام للتراث، بيروت لبنان، (1/ 60) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 139) .

اسمه مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّان، وقال ابْن إِسحاق: اسمه الوليدُ بْنُ مُصْعب، وروي أنه كان من أهل إِصْطَخْر «1» وَرَدَ مِصْرَ، فاتفق له فيها المُلْك، وكان أصل كون بني إِسرائيل بمصر نزولَ إسرائيل بها زمَنَ ابنه يُوسُفَ عليهما السلام. ويَسُومُونَكُمْ: معناه: يأخذونكم به، ويُلْزمُونَكم إياه، والجملة في موضعِ نصبٍ على الحال، أي: سائمين/ لكم سُوءَ العذاب، وسوءُ العذاب أشدُّه وأصعبه، وكان فرعون 19 ب على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجَتْ من بيت المقْدِس، فأحرقت بيوتَ مِصْرَ، فأولت له رؤياه أنَّ مولوداً من بني إسرائيل ينشأ، فيخرب مُلْكَ فرعون على يَدَيْهِ، وقال ابن إسْحَاق، وابن عبَّاس، وغيرهما: إن الكهنة والمنجِّمين قالُوا لفرعون: قد أظلك زمانُ مولودٍ من بني إسرائيل يخرب مُلْكَك «2» . ويُذَبِّحُونَ بدلٌ من: «يَسُومُونَ» ، وَفِي ذلِكُمْ: إشارةٌ إلى جملة الأمر، وبَلاءٌ معناه: امتحان واختبار، ويكون البلاء في الخير والشر. وحكى الطبريُّ وغيره في كيفية نجاتهم أن موسى- عليه السلام- أوحي إلَيْه أن يسري من مصر ببني إِسرائيل، فأمرهم موسى أن يستعيروا الحُلِيَّ والمتاعَ من القِبْطِ «3» ، وأحل اللَّه ذلك لبني إسرائيل، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون رَأْيِ موسى- عليه السلام- وهو الأشبه به، فسرى بهم موسى من أول الليْلِ، فأعلم بهم فرعون، فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الدِّيَكَةُ، فلم يَصِحْ تلك الليلة بمصر دِيكٌ حتى أصبح، وأمات اللَّه تلك الليلةَ كثيراً من أبناء القِبطِ، فاشتغلوا بالدَّفْنِ، وخرجوا في الأتباع مشرِّقين، وذهب موسى عليه السلام إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت عدة بني إِسرائيل نيِّفاً على ستِّمائة ألف، وكانت عِدَّة فرعون أَلْفَ ألْفٍ ومِائَتَي ألْفٍ، وحكي غير هذا مما اختصرته لقلَّة ثبوته، فلما لحق فرعَوْنُ موسى، ظن بنو إِسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يُوشَعُ بْنُ نُونٍ لموسى: أين أُمِرْتَ؟ فقال: هكذا، وأشار إلى البحر، فركض يُوشَعُ فرسه حتى بلغ الغَمْرَ «4» ، ثم رجع، فقال لموسى: أين أُمِرْتَ؟ فو الله: ما كَذَبْتَ، ولا كُذِبْتَ، فأشار إِلى البحر، وأوحى الله تعالى

_ (1) إصطخر: بلدة بفارس، يقال: إن كور «فارس» ، الخمسة، أكبرها وأصلها كورة «إصطخر» ، ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 87) . (2) أخرجه الطبري (1/ 311) برقم (893) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 133) ، وعزاه لابن جرير. (3) القبط: جيل بمصر. وقيل: هم أهل مصر. ينظر: «لسان العرب» (3514) ، و «النهاية» (4/ 6) . [.....] (4) غمر البحر: معظمه، والغمر: الماء الكثير، وقيل: الكثير المغرّق. ينظر: «لسان العرب» (3293، 3294) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 50 إلى 54]

إليه أنِ اضرب بعصاك البَحْرَ، وأوحى اللَّه إلى البحر أن انفرِقْ لموسى إذا ضربك، فبات البَحْرُ تلك الليلة يضطرب، فحينَ أصبَحَ، ضرَبَ موسى البحر، وكناه أبا خالد، فانفلَقَ، وكان ذلك في يوم عاشوراء. [سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 54] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وقوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ... الآية: فَرَقْنا: معناه: جعلْنَاه فِرَقاً، ومعنى بِكُمُ أي: بسببكم، والبحر هو بحر القُلْزُمِ «1» ولم يفرق البحر عَرْضاً من ضفَّة إلى ضفَّة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق يُقَرِّبُ موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرةٍ بسبب جبالٍ وأوغار حائلة، وقيل: انفرق البحْرُ عَرْضاً على اثني عَشَرَ طَريِقاً طريق لكلِّ سبط، فلما دخلوها، قالَتْ كل طائفة: غَرِقَ أصحابنا، وجَزِعُوا، فقال موسى- عليه السلام-: اللهمَّ، أَعِنِّي على أخلاقهِمُ السَّيئة، فأوْحَى اللَّه إِلَيْه أَنْ أدِرْ عصَاك على البَحْر، فأدارها، فصار في الماء فتوحٌ كالطَّاق «2» ، يرى بعضهم بعضًا، وجازوا وجبريلُ في ساقتهم على مَاذِيَانةٍ «3» يحث بني إسرائيل، ويقول لآلِ فرْعَوْنَ: مَهْلاً حتى يلحق آخركم أوَّلَكُم، فلما وصل فرعونُ إلى البحر، أراد الدخول، فنفر فرسُهُ، فتعرَّض له جبريلُ بالرَّمَكَة «4» ، فأتبعها الفرَسُ، ودخَل آلُ فرعَوْن، وميكائلُ يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائلُ في ساقتهم على الضّفَّة وحده، انطبق البحر عليهم، فغرقوا.

_ (1) بحر القلزم: شعبة من بحر الهند، أوّله من بلاد البربر والسودان والحبش من جهة الجنوب، ومن جهة الشمال «عدن» وبلاد العرب حتى يقطع آخره عند «القلزم» ، وهي مدينة صغيرة على أرض مصر. ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 166) . (2) هو ما عطف وجعل كالقوس من الأبنية. ينظر: «لسان العرب» (2725) ، و «المعجم الوسيط» (577) . (3) قيل: إن الماذيان هو النهر الكبير، وهذه الكلمة ليست بعربية، قال ابن الأثير: وهي سواديّة. ينظر: «النهاية» (4/ 313) .، «اللسان» (4164) (حزن) . (4) الرّمكة: الفرس والبرذونة التي تتخذ للنسل، معرّب، والجمع رمك. ينظر: «لسان العرب» (1733) .

وتَنْظُرُونَ: قيل: معناه بأبصاركم لقُرْبِ بعضهم من بعضٍ، وقيل: ببصائركم للاعتبار لأنهم كانوا في شُغُلٍ. قال الطبريُّ: وفي أخبار القرآن على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلم بهذه المغيَّبات التي لم تكُنْ من علم العَرَب، ولا وقعتْ إلا في خفيِّ علْمِ بني إسرائيل دليلٌ واضحٌ عند بني إسرائيل، وقائم/ عليهم بنبوءة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. 20 أوموسى: اسم أَعْجميٌّ، قال ابن إِسحاقَ: هو مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهرَ بْنِ قَاهَثَ بْنِ لاَوى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الخليل صلّى الله عليه وسلم «1» . وخص الليالي بالذكْرِ في قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِذ الليلة أقدم من اليوم، وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخُ، قال النقَّاش: وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم لأنه لو ذكر الأيام، لأَمْكَن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نصَّ على الليالي، اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلةً بأيامها. قال ع «2» : حدثني أبي- رضي الله عنه- قال: سمعتُ الشيخَ الزاهد الإِمام الواعظَ أبا الفضل بْنَ الجوهَرِيِّ- رحمه اللَّه- يعظُ النَّاسَ بهذا المعنى في الخلوة باللَّه سبحانه، والدنوِّ منه في الصلاة، ونحوه، وأنَّ ذلك يشغل عن كل طعامٍ وشرابٍ، ويقول: أين حال موسى في القرب من اللَّه، ووصالِ ثمانين من الدهْرِ من قوله، حين سار إلى الخَضِرِ لفتاه في بعض يوم: آتِنا غَداءَنا [الكهف: 62] . ت: وأيضاً في الأثر أنَّ موسى لم يصبه، أو لم يشك ما شكاه من النَّصَب حتى جاوز الموضع الذي وعد فيه لقاء الخَضِرِ عليهما السلام. قال ع «3» : وكل المفسِّرين على أن الأربعين كلَّها ميعاد. وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي: إلهاً، والضمير في بَعْدِهِ يعود على موسى، وقيل: على انطلاقه للتكليمِ إذ المواعدة تقتضيه، وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما خرج ببني إسرائيل من مصْرَ، قال لهم: إن اللَّه تعالى سينجِّيكم من آل فرعَوْنَ، وينفلكم حُلِيَّهُمْ، ويروى أن استعارتهم للحُلِيِّ كانت بغير إذن موسى- عليه

_ (1) ينظر: «النكت والعيون» (1/ 120) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 142) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 142) .

السلام- وهو الأشبه به، ويؤيِّده ما في سورة طه في قولهم لموسى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً [طه: 87] ، فظاهرُهُ أنهم أخبروه بما لم يتقدَّم له به شعورٌ، ثم قال لهم موسى: إنه سينزل اللَّه عليَّ كتابًا فيه التحليلُ والتحريمُ والهدى لكم، فلما جازوا البحر، طلبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلةً، فعدوا عشرين يوماً بعشرين ليلة، وقالوا: هذه أربعون من الدهر، وقد أَخْلَفَنَا المَوْعِدَ، وبدا تعنُّتهم وخلافُهم، وكان السامريُّ رجلاً من بني إسرائيل يسمى موسى بْنَ ظفر، ويقال: إِنه ابْنُ خالِ موسى، وقيل: لم يكن من بني إسرائيل، بل كان غريباً فيهم، والأول أصحُّ، وكان قد عرف جبريلَ عليه السلام وقت عبورهم، قالت طائفة: أنكَرَ هَيْئَتَهُ، فعرف أنه ملَكٌ، وقالت طائفة: كانت أم السامريِّ ولدته عام الذبْحِ، فجعلته في غَارٍ وأطبقت عليه، فكان جبريل عليه السلام يَغْذُوهُ بأصبع نفسه، فيجد في أصبع لَبَناً وفي أصبع عَسَلاً، وفي أصبع سَمْناً، فلما رآه وقت جواز البحْرِ، عرفه، فأخذ من تحت حافرِ فرسه قبضةَ ترابٍ، وألقى في روعِهِ أنه لن يلقيها على شيء، ويقول له: كن كذا إلا كان، فَلَمَّا خرج موسى لميعاده، قال هارون لبنِي إسرائيل: إِن ذلك الحُلِيَّ والمتاعَ الذي استعرتم من القِبْط لا يحلُّ لكم، فَجِيئوا به حتى تأكله النار التي كانت العادةُ أن تنزل على القرابين. وقيل: بل أوقد لهم ناراً، وأمرهم بطرح جميعِ ذلك فيها، فجعلوا يطرحون. وقيل: بل أمرهم أن يضعوه في حُفْرة دُون نار حتى يجيء موسى، وروي، وهو الأصحُّ الأكثر أنه ألقى الناسُ الحُلِيَّ في حفرة، أو نحوِها، وجاء السامريُّ، / فطرح القبضة، وقال: كن عجلاً. وقيل: إن السامريَّ كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك. وقيل: بل كانت بنو إسرائيل قد مرَّت مع موسى على قوم يعبدون البَقَرَ. ت: والذي في القرآن: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138] ، قيل: كانت على صور البقر، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] ، فوعاها السامريُّ، وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلَّت منهم طائفةٌ يعبدونه، فاعتزلهم هارونُ بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده، فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه، إن شاء اللَّه تعالى، ثم أوحى اللَّه إِليه أنه لن يتوب على بني إِسرائيل حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلَتْ بنو إِسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح مَنْ عَبَدَ منهم، ومن لم يَعْبُد، وألقى اللَّه عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضاً، يقتل الأب ابنه،

[سورة البقرة (2) : الآيات 55 إلى 57]

والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتْلُ، وبلغ سبعين ألفاً، عفا اللَّه عنهم، وجعل من مات شهيداً، وتاب على البقية فذلك قوله سبحانه: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ وقال بعض المفسِّرين: وقف الذين عبدوا العجْلَ صفًّا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح، فقتلوهم، وقالت طائفة: جلس الذين عبدوا بالأفْنِيَةِ، وخرج يُوشَعُ بنُ نُونٍ ينادي: ملعونٌ مَن حَلَّ حُبْوَتَهُ «1» ، وجعل الذين لم يعبدوه يقتلونهم، وموسى صلّى الله عليه وسلم في خلالِ ذلك يدعو لقومه، ويَرْغَبُ في العفو عنهم، وإِنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال لأنهم لم يغيِّروا المُنْكَرَ حين عُبِدَ العِجْلُ. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحالِ، والعفو تغطيةُ الأثر، وإِذهابُ الحالِ الأول من الذنب أو غيره. ت: ومنه الحديثُ: «فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تعفي أَثَرَهَا» . قال ع «2» : ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذَّنْبِ، والكتابُ هنا هو التوراةُ بإجماع، واختلف في الفُرْقَانِ هنا، فقال الزجَّاج وغيره: هو التوراة أيضاً كرر المعنى لاختلاف اللفظ، وقال آخرون: الكتاب التوراةُ، والفرقانُ سائر الآيات التي أوتي موسى عليه السلام لأنها فَرَقَتْ بين الحق والباطل، واختلف هل بقي العجْلُ مِنْ ذَهَب؟ فقال ذلك الجمهور، وقال الحسن بن أبي الحسن: صار لحماً ودماً، والأول أصحُّ. ت: وقوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ عن أبي العالية: إلى خالقكم «3» مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الخَلْقَ، أي: خلقهم، فالبريئة: فَعِيلَةٌ بمعنى مفعولة. انتهى من «مختصر أبي عبد الله اللّخميّ النحوي للطبريّ» . [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 57] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى: يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف

_ (1) الحبوة والحبوة: الثوب الذي يحتبى به، والاحتباء هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها. ينظر: «لسان العرب» (765) . (2) «المحرر الوجيز» (1/ 144) . (3) السيوطي في «الدر» (1/ 136) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

في وقت اختيارهمْ. فحكى أكثر المفسِّرين أن ذلك بعد عبادة العجل، فاختارهم ليستغفِروا لبني إسرائيل، وحكى النقَّاش وغيره أنه اختارهم حين خَرَجَ من البحْرِ، وطلب بالميعاد، والأول أصح. وقصة السبعين أنَّ موسى عليه السلام، لما رجع من تكليم اللَّه تعالى، ووجد العجْلَ قد عُبِدَ، قالتْ له طائفة ممَّن لم يعبد العجلَ: نحن لم نكْفُرْ، ونحن أصحابك، ولكنْ أسمعْنَا كلام ربِّك، فأوحى اللَّه إِليه أن اختَرْ منهم سَبْعِينَ، فلم يجد إلا ستِّين، فأوحى إليه أن اختر من الشباب عَشَرةً، ففعل، فأصبحوا شيوخاً، وكان قد اختار ستَّةً من كلِّ سبط، فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحُّوا فيمن يتأخَّر، فأُوحِيَ إِليه أنَّ من تأخّر له أجر من 21 أمضى، فتأخَّر يوشَعُ بْنُ نُونٍ، وكَالُوثُ بْنُ يُوفَنَّا، وذهب موسى عليه السلام/ بالسبْعين، بعد أن أمرهم أن يتجنَّبوا النساء ثلاثاً، ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجَبَلَ، فألقي عليهم الغمام، قال النَّقَّاش: غشيتهم سحابة، وحِيلَ بينهم وبين موسى بالنور، فوقعوا سجوداً، قال السُّدِّيُّ وغيره: وَسَمِعوا كلامَ اللَّهِ يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطتْ أذهانهم، ورَغِبُوا أن يكون موسى يسمع ويعبِّر لهم، ففعل، فلما فرغوا، وخرجوا، بدَّلت منهم طائفةٌ ما سمعت من كلام اللَّهِ، فذلك قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة: 75] واضطرب إيمانهم، وامتحنهم اللَّه تعالى بذلك، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، ولم يطلبوا من الرؤية محالاً أما إِنه عند أهل السُّنَّة «1» ممتنعٌ في الدنيا من طريق السمع،

_ (1) اتفقت كلمة الأشاعرة على جواز رؤيته (تعالى) عقلا في الدنيا والآخرة، بمعنى أنه تعالى يجوز أن ينكشف لعباده المؤمنين من غير ارتسام صورة، ولا اتصال شعاع، ولا حصول في جهة ومقابلة. واستدلوا على ذلك بأدلة نقلية وأدلة عقلية، فلنذكر الأدلة النقلية لأنها الأصل في هذا الباب، وهي أكثر من أن تحصى، والمعتمد منها عند أهل السنة قوله تعالى حكاية عن سيدنا موسى- عليه السلام- في ميقات المناجاة: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] . تنطق الآية الكريمة بمسألة تتعلق بالذات الأقدس، وهي مسألة الرؤية، ولم يحدد النطق الكريم الحكم فيها، بل ترك لذوي العقول البحث. فكان القول بجوازها ووقوعها، وكان القول باستحالتها وعدم وقوعها، ولم يكن لصاحب كل قول من الآية الكريمة ما يعتمد عليه صريحا، بل كل مستند له هو الركون إلى اللغة تارة، واللجوء إلى الدليل العقلي أخرى. غير أن أهل السنة نظروا إلى ظروف الآية وما سيقت لأجله، فكانت عضدا قويا ركنوا إليه. -

فأخذتهم حينئذ الصاعقةُ، فاحترقوا وماتوا موْتَ همودٍ يعتبر به الغير، وقال قتادة: ماتوا،

_ - فالآية الكريمة تقول: لقد وعى موسى- عليه السلام- لمناجاتنا، ورفعناه إلى هذا المستوي واتصل بالأفق الأعلى، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا، وشهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله بأقوى الأدلة والبراهين، وأنزله هذه المنزلة، ووقف في ساحة جلاله وحظائر قدسه ومساقط أنوار جماله وذاق حلاوة خطابه. أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس ليجمع بين حلاوة الكلام وجمال الرؤية، ويؤيد أن الحامل لموسى- عليه السلام- على طلب الرؤية عوامل الشوق ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «جاء موسى- عليه السلام- ومعه السبعون رجلا، وصعد موسى الجبل، وبقي السبعون في أسفل الجبل، فكلم الله موسى، وكتب له في الألواح كتابا، وقربه نجيّا، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، نعم طلبها بعامل الشوق، وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، ولم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف، حيث جعل النظر مسببا عن الرؤية، والحال أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته، فهي متأخرة عنها إذ الغرض رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ: مكني من رؤيتك، فأنظر إليك، وأراك، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم. نعم أقدم موسى على طلب النظر إلى الذات الأقدس، وانتظر ما يكون من أمر الله، وقد وقع عليه عمود من الغمام، وتغشى الجبل جلال الرب وسمع النطق الكريم لَنْ تَرانِي عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة الرأس، ولو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى واصطفاء الله له، لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من مطالعة الذات الأقدس، بل المتبادر إلى الذهن «لن تقوى على رؤيتي وأنت على ما أنت عليه، لتوقفها على استعداد في الرائي، ولم يوجد في موسى- عليه السلام- وقت الطلب يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في «نوادر الأصول» عن ابن عباس «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية فقال: قال الله تعالى: «يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسامهم» . كذلك يدل على أن التأبيد المستفاد من قوله تعالى: لَنْ تَرانِي إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، وفيه يقول: «يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى: رب أن أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا» وقد نبّه جل شأنه بقوله: لَنْ تَرانِي على وجود المانع، وهو الضعف عن تحملها، حيث أراه ضعف من هو أقوى منه وتفتته عند ما تجلى عليه الرب وغشيه ذو الجلال والإكرام. فكان الجبل وتماسكه وعاد الجبل متقوص الأركان متداخل الأجزاء سقيم القوام، وكان موسى فاقد الحياة لطلبه هذه المرئية من الانكشاف، وهو باق على حاله. أفاق موسى واسترد حياته، وقال: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] أنزهك من أن أسألك شيئا بغير إذنك تبت عن الإقدام وأنا أول المؤمنين بأن لا يراك أحد في هذه النشأة، وليس كما يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان، فكان موسى يعلم امتناعها وقد طلبها وهي ممتنعة. بل تاب من طلب الرؤية بغير إذن، وكيف لا يتوب وهو الرب صاحب الجبروت، وهو موسى المصطفى الكليم. وقد قيل قديما: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) - إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في غيبة عن أدلة الجواز، لكن دفعهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب، قد يأتيها الخصم بمنع إمكان المطلوب لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع، فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقلية والعقلية، -

وذهبت أرواحهم، ثم رُدُّوا لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود، جعل موسى

_ - وكان سلوكهم بهذا الطريق كافيا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي، وتفصيل ذلك مذكور في كتب العقائد. وكذلك اتفقت كلمة الأشاعرة على وقوع رؤيته (تعالى) في الآخرة، واستدلوا على ذلك بالكتاب، والسنة، والإجماع: أما دلالة الكتاب: فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22- 23] فالآية صريحة في أن وجوه المؤمنين المخلصين يوم القيامة متهللة من عظيم المسرة، يشاهد عليها نضرة النعيم. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أن تراه مستغرقة في مطالعة جماله، بحيث تغفل عما سواه ففي حديث جابر، وقد رواه ابن ماجة: «فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحجب عنهم» والحجاب من قبلهم لا من قبله (عز وجل) ، فهذا يدل على أن المراد من النظر حقيقته، وهو الرؤية. ووجه الاحتجاج في الآية الكريمة: أن النظر في الآية جاء موصولا بإلى، وكل ما كان كذلك فهو بمعنى الرؤية، فالنظر في الآية بمعنى الرؤية. أما الصغرى، فدليلها الآية، وأما الكبرى، فيستدل لها بشهادة النقل عن أئمة اللغة وتتبع موارد الاستعمال، فقد نقل عن أهل اللغة أن للنظر معان عدة يتميز بعضها عن بعض بواسطة التعدية فقد جاء النظر بمعنى الانتظار متعديا بنفسه قال الله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] أي: انتظرونا، وقول الشاعر: [الوافر] وإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب أي ينتظره. وجاء بمعنى التفكر ويستعمل ب «في» يقال: نظرت في الأمر الفلاني، أي تفكرت فيه: وجاء بمعنى الرأفة والتعطف، ويتعدى باللام، يقال: نظر الأمير لفلان، أي رأف به وتعطف. وجاء بمعنى الرؤية، ويستعمل ب «إلى» قال الشاعر: [الطويل] نظرت إلى من أحسن الله وجهه ... فيا نظرة كادت على رامق تقضي ومثل ذلك النظر في الآية إذ جاء موصولا ب «إلى» ، فيجب حمله على الرؤية، فتكون واقعة في ذلك اليوم، وهو المطلوب. ولا يعكر أن النظر المستعمل ب «إلى» يأتي بمعنى آخر غير الرؤية كالتأخير كما في قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] . لأن لفظة «إلى» في الآية ليست صلة للنظر، بل لبيان المدة. وقد اعترضت المعتزلة هذا الدليل، فمنعت صغراه (النظر في الآية موصول بإلى) قالوا: لا نسلم أن النظر في الآية موصول ب «إلى» لأنها ليست حرفا، بل هي اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء، ومفعول به للنظر، يشهد لذلك ما قيل عن أهل اللغة أن الآلاء واحدها آلى، وأيلى، وألو، وألى، وإلى. قال الأعشى: أبيض لا يرهبه النزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إليّ أي نعمة أو بمعنى «عند» يؤيده قول الشاعر: فهل لكم فيما إلى فإنني ... طبيب بما أعيى النطاس حذيما أي فيما عند. -[.....]

يناشد ربَّه فيهم، ويقول: أيْ ربِّ، كيف أرجع إِلى بني إِسرائيل دونهم، فيَهْلِكُون، ولا يؤمنون بي أبداً، وقد خرجوا، وهم الأخيار. قال ع «1» : يعني: هم بحال الخير وقْتَ الخروج، وقال قومٌ: بل ظن موسى أنَّ السبعين، إِنما عوقبوا بِسَبَبِ عبادة العجْلِ، فذلك قوله: أَتُهْلِكُنا [الأعراف: 155] ، يعني السبعين: بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الأعراف: 155] يعني: عَبَدَةَ العجلِ، وقال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه بقولهم لموسى: أَرِنَا [النساء: 153] وليس ذلك من مقدورِ موسى عليه السلام. قال ع «2» : ومن قال: إن السبعين سَمِعُوا ما سمع موسى، فقد أخطأ، وأذهب فضيلةَ موسى، واختصاصه بالتكليم. وجَهْرَةً: مصدر في موضع الحالِ «3» ، والجهرُ العلانيةُ، ومنه الجهر ضد السر،

_ - ومعنى الآية على الأول: منتظرة نعمة ربها، وعلى الثاني: عند ربها منتظرة نعمته. أجاب أهل السنة عند المنع: أولا: لو أريد من النظر في الآية انتظار النعمة لما خص بإسناده إلى الوجوه التي هي محل الأعين- بالباصرة، ولم يكن للتعدية بالظرف معنى فإن المؤمنين في دار الدنيا منتظرون نعمته تعالى، وكذلك الكفار. ثانيا: أن جعل «إلى» بمعنى النعمة في هذا المقام يخالف المعقول لأن الانتظار يعد من الآلام كيف وقد قيل: إنه الموت الأحمر؟! ويخالف المنقول أيضا إذ روي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى جناته وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجه الله غدوة وعشية» ثم قرأ (عليه الصلاة والسلام) : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22- 23] والله ما نسخها منذ أنزلها. ثالثا: إن الانتظار أمارة الغم وعدم الاطمئنان، وقد قيل كما سبق أنه الموت الأحمر، وهذا يخالف ما سيقت لأجله الآية من التبشير للمؤمنين بالإنعام وحسن الحال وفراغ البال، وذلك إنما يكون برؤيته تعالى، فإنها من أجلّ النعم والكرامات المستتبعة لنضارة الوجوه. وما يقوله المعتزلة من أن ترتب الغم على الانتظار أمر عادي يجوز تخلفه في الآخرة حيث إنها دار خوارق العادات، على أنه إنما يكون غما إذا لم يكن مقطوعا بما يترتب عليه من حصول النعم كيف وهو وعد من لا يخلف وعده، فمدفوع بأن هذا خروج عن السنن الكونية فقد جرت عادة الله (تعالى) أن يبشر خلقه وينذرهم بما يعلمونه لذة وعذابا بحسب العادة، ولذا لم يقع التبشير بالنار والإنذار بالجنة مع إمكان أن يخلق الله اللذة في النار والعذاب والألم في الجنة. ينظر: الرؤية لشيخنا عبد الفضيل طلبة ص 40 وما بعدها. (1) «المحرر الوجيز» (1/ 147) . (2) السابق. (3) قوله تعالى: جَهْرَةً فيه قولان:

وجَهَرَ الرَّجُلُ الأَمْرَ: كشفه، وفي «مختصر الطبريِّ» عن ابن عبَّاس: جَهْرَةً: قال علانيةً «1» ، وعن الربيع: جَهْرَةً: عياناً «2» . انتهى. وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: أجاب اللَّه تعالى فيهم رغبةَ موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمودِ، أو الموت ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإثارة، ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أي: على هذه النعمة، والترجِّي إِنَّمَا هو في حق البَشَر. وذكر المفسِّرون في تظليل الغمامِ أنَّ بني إِسرائيل، لما كان من أمرهم ما كان من القتل، وبقي منهم من بقي، حصلوا في فحص «3» التِّيه بَيْن مصْر والشَّام، فأُمِرُوا بقتال الجَبَّارين، فَعَصَوْا، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] فدعا موسى عليهم، فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحْص أربعين سَنَةً يتيهون في مقدارِ خَمْسَة فراسِخَ أو ستَّةٍ، روي أنهم كانوا يمشون النهار كلَّه، وينزلون للمبيت، فيصبحون حيثُ كانوا بكرةَ أَمْسِ، فندم موسى على دعائه عليهم، فقيل له: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: 26] .

_ - أحدهما: أنها مصدر وفيها حينئذ قولان: أحدهما: أنّ ناصبها محذوف، وهو من لفظها، تقديره: جهرتم جهرة، نقله أبو البقاء. والثاني: أنها مصدر من نوع الفعل فتنتصب انتصاب القرفصاء من قولك: «قعد القرفصاء» ، «واشتمل الصمّاء» ، فإنها نوع من الرؤية، وبه بدأ الزمخشري. والثاني: أنها مصدر واقع موقع الحال، وفيها حينئذ أربعة أقوال: أحدهما: أنه حال من فاعل «نرى» أي: ذوي جهرة، قاله الزمخشري. والثاني: أنّها حال من فاعل «قلتم» ، أي: قلتم ذلك مجاهرين، قاله أبو البقاء، وقال بعضهم: فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي: قلتم جهرة لن نؤمن لك، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير، بل أتى بمفعول القول ثم بالحال من فاعله، فهو نظير: «ضربت هندا قائما» . والثالث: أنّها حال من اسم الله تعالى، أي: نراه ظاهرا غير مستور. والرابع: أنّها حال من فاعل «نؤمن» نقله ابن عطية، ولا معنى له، والصحيح من هذه الأقوال الستة الثاني. ينظر: «الدر المصون» (1/ 229) . (1) أخرجه الطبري (1/ 338) برقم (948) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 136) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (1/ 339) برقم (949) . (3) الفحص: ما استوى من الأرض. وفي حديث كعب: «إن الله بارك في الشام، وخص بالتقديس من فحص الأردن إلى رفح» والفحص- هنا- ما بسط من نهر الأردن، وكشف من نواحيه. ينظر: «لسان العرب» (3356) .

وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التِّيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين خرجوا من فحْصِ التيه، وقاتلوا الجَبَّارين، وإذ كان جميعُهم في التيه، قالوا لموسى: من لنا بالطعامِ؟ قال: اللَّه، فأنزل اللَّه عليهم المَنَّ والسلوى، قالوا: مَنْ لنا من حَرِّ الشمس؟ فظلَّل عليهم الغمامَ، قالوا: بِمَ نستصْبِحُ بالليل، فضَرَبَ لهم عمودَ نُورٍ في وَسَطَ مَحَلَّتهم، وذكر مكِّيٌّ عمود نار، قالوا: من لنا بالماء؟ / فأمر موسى بضرب الحَجَرِ، قالوا: من لنا 21 ب باللباس، فَأُعْطُوا ألاَّ يبلى لهم ثوبٌ، ولا يَخْلَقَ، ولا يَدْرَنَ، وأن تنمو صِغَارُهَا حَسَب نُمُوِّ الصبيانِ، والمَنُّ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ هذا قول فرقةٍ، وقيل: هو عسل، وقيل: شراب حُلْوٌ، وقيل: الذي ينزل اليوْمَ على الشجَر، وروي أنَّ المَنَّ كان ينزل عليهم من طُلُوع الفَجْر إلى طُلُوع الشمس كالثلج، فيأخذ منه الرجُلُ ما يكفيه ليومه، فإِنِ ادَّخَرَ، فسد عليه إِلا في يوم الجمعة فإِنهم كانوا يدَّخرون ليوم السبْتِ، فلا يفسد عليهم لأن يوم السبت يومُ عبادةٍ. والسلوى طيرٌ بإِجماع المفسّرين، فقيل: هو السّمانى. وقيل: طائر مثل السّمانى. وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجَنُوب. ص «1» : قال ابن عطيَّة: وغلط الهُذَلِيُّ «2» في إِطلاقه السلوى على العَسَلِ حيث قال: [الطويل] وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ عَهْداً لأنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السلوى إِذَا مَا نَشُورُهَا «3» ت «4» : قد نقل صاحبُ المختصر أنه يطلق على العَسَلِ لغةً فلا وجه

_ (1) «المجيد» ص (259) . (2) خويلد بن خالد بن محرّث، أبو ذؤيب، من بني هذيل بن مدركة، من «مضر» : شاعر فحل، مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وسكن «المدينة» ، واشترك في الغزو والفتوح. وعاش إلى أيام عثمان. قال البغدادي: هو أشعر هذيل من غير مدافعة. وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة وفاته، فأدركه وهو مسجّى، وشهد دفنه. ينظر: «الأغاني» (6/ 56) ، «الشعر والشعراء» (252) ، و «خزانة البغدادي» (1/ 203) ، و «الأعلام» (2/ 325) . (3) البيت لأبي ذؤيب، وأنشده ابن منظور في «اللسان» لخالد بن زهير ينظر: «ديوان الهذليين» (1/ 158) ، و «اللسان» (سلا) ، و «البحر المحيط» (1/ 364) ، و «القرطبي» (1/ 407) ، و «الدر المصون» (1/ 230) ، و «روح المعاني» (1/ 264) . (4) لا زال الكلام للصفاقسي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 58 إلى 60]

لتغليظه لأنَّ إِجماع المفسِّرين لا يمنع من إِطلاقِهِ لغةً بمعنى آخر في غير الآية. انتهى. وقوله تعالى: كُلُوا ... الآية: معناه: وقلنا: كلوا، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه، والطَّيِّبَاتُ، هنا جَمَعَتِ الحلال واللذيذ. ص «1» : وقوله: وَما ظَلَمُونا: قدَّر ابن عطية قبل هذه الجملةِ محذوفًا، أي: فَعَصوْا، وما ظَلَمُونا، وقدَّر غيره: فظَلَمُوا، ومَا ظَلَمُونَا، ولا حاجَة إِلى ذلك لأن ما تقدَّم عنهم من القبائِح يُغْنِي عنه. انتهى. ت: وقول أبي حَيَّان: «لا حاجة إلى هذا التقدير ... » إِلى آخره: يُرَدُّ بأن المحذوفاتِ في الكلام الفصيحِ هذا شأنها لا بد من دليل في اللفظ يدلُّ عليها إلا أنه يختلف ذلك في الوضوحِ والخفاءِ، فأما حذف ما لا دليل عليه، فإنه لا يجوز. [سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 60] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ. الْقَرْيَةَ: المدينةُ سمِّيت بذلك لأنها تَقَرَّتْ، أي: اجتمعت ومنه: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ، أي: جمعته، والإِشارة بهذه إِلى بيت المقدس في قول الجمهور. وقيل: إلى أريحا، وهي قريبٌ من بيت المَقْدِس، قال عمر بن شبّة «2» : كانت

_ (1) «المجيد» (ص 259) . (2) عمر بن شبّة- واسمه زيد- بن عبيدة بن ريطة النميري، البصري، أبو زيد، شاعر، راوية، مؤرخ، حافظ للحديث، من أهل «البصرة» . توفي ب «سمراء» سنة (262) هـ، له تصانيف، منها: «كتاب الكتاب» ، و «النسب» ، و «أخبار بني نمير» ، و «أخبار المدينة» جزء منه، و «تاريخ البصرة» ، و «أمراء الكوفة» ، و «أمراء البصرة» ، و «أمراء المدينة» ، و «أمراء مكة» ، و «كتاب السلطان» ، و «مقتل عثمان» ، و «السقيفة» ، و «جمهرة أشعار العرب» ، و «الشعر والشعراء» ، و «الأغاني» . ينظر: «الأعلام» (5/ 47- 48) ، و «تهذيب التهذيب» (7/ 460) ، و «الوفيات» (1/ 378) . [.....]

قاعدةً، ومسْكنَ ملوكٍ، ولما خرج ذريةُ بني إِسرائيل من التِّيه، أُمِرُوا بدخول القرية المشار إِلَيْها، وأما الشيوخ، فماتوا فيه، وروي أن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التِّيه، وحكى الزجَّاج «1» عن بعضهم أنهما لم يكونا في التِّيه لأنه عَذَابٌ، والأول أكْثَرُ. ت: لكن ظاهر قوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: 25] يقوِّي ما حكاهُ الزجَّاج، وهكذا قال الإمام الفخر» . انتهى. وفَكُلُوا: إِباحة، وتقدَّم معنى الرَّغَد، وهي أرض مباركة عظيمة الغلّة، فلذلك قال: رَغَداً. والْبابَ: قال مجاهد: هو باب في مدينة بَيْت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطّة «3» ، وسُجَّداً: قال ابن عبَّاس: معناه: ركوعاً «4» ، وقيل: متواضعين خضوعاً، والسجودُ يعم هذا كلَّه، وحِطَّة: فِعْلَةٌ من حَطَّ يَحُطُّ، ورفعه على خبر ابتداء «5» كأنهم قالوا: سؤالُنَا حِطَّة لذنُوبِنَا، قال عكرمة و، غيره: أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: «لا إِله إِلاَّ اللَّهُ» لتحطَّ بها ذنوبُهُمْ «6» ، وقال ابن عَبَّاس: قيل/ لهم: استغفروا، وقولوا ما يحطُّ ذنوبكم «7» . ت: قال أحمد بن نصرٍ «8» الدَّاوُودِيُّ في «تفسيره» : «وروي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم سار

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (2/ 165) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (11/ 159) . (3) أخرجه الطبري (1/ 339) برقم (1004) . (4) أخرجه الطبري (1/ 339) برقم (1008) ، والحاكم (2/ 262) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 138) ، وعزاه لوكيع، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم. (5) قال الزجاج: ولو قرىء «حطة» كان وجهها في العربية، كأنهم قيل لهم: قولوا: احطط عنا ذنوبنا حطة. معاني القرآن (1/ 139) . وقد فات الزجاج أن إبراهيم بن أبي عبلة قرأها بالنصب، كما في «المحرر الوجيز» (1/ 150) ، و «البحر المحيط» (1/ 384) ، و «الدر المصون» (1/ 232) ، و «الشواذ» لابن خالويه (ص 13) . (6) أخرجه الطبري (1/ 340) برقم (1016) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 138) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. كلاهما عن عكرمة. وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 47) ، بلفظ: «لا إله إلّا الله» . (7) أخرجه الطبري (1/ 341) برقم (1017) ، بلفظ: «أمروا أن يستغفروا» . (8) أحمد بن نصر، أبو حفص الداودي، فقيه مالكي. له كتاب «الأموال» في أحكام أموال المغانم والأراضي التي يتغلب عليها المسلمون. ينظر: «الأعلام» (1/ 264) .

مَعَ أَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: قُولُوا: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، إِنَّهَا للْحِطَّةُ الَّتِي عُرِضَتْ على بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقُولُوهَا» انتهى. وحكي عن ابن مَسْعود وغيره أنهم أمروا بالسُّجود، وأن يقولوا: حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يزْحفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، ويَقُولُونَ: حِنْطَةٌ حَبَّةٌ حَمْرَاءُ فِي شَعْرَةٍ، ويروى غير هذا من الألفاظ. وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ عِدَةٌ: المعنى: إِذا غُفِرَتِ الخطايا بدخولكم وقولِكُمْ، زِيدَ بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أُمِرَ، وقال: لا إله إلا اللَّه، فقيل: هم المراد ب الْمُحْسِنِينَ هنا. وقوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ... الآية. روي أنهم لما جاءوا الباب، دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي الحديث: أنهم دَخَلوا يَزْحَفُونَ على أَسْتَاهِهِمْ، وبدَّلوا، فقالوا: حَبَّة في شَعْرَة، وقيل: قالوا: حِنْطَة حبَّة حمراء في شَعْرة، وقيل: شعيرة، وحكى الطبريُّ أنهم قالوا: «هَطِّي شَمْقَاثَا أَزْبَه» وتفسيره ما تقدَّم وفي اختصار الطبريِّ، وعن مجاهد قال: أمر موسى قومَهُ أنْ يدخلوا الباب سُجَّداً، ويقولُوا: حِطَّة، وطؤطئ لهم البابُ ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حِنْطَة «1» . وذكر عزَّ وجلَّ فعل سلفهم تنبيها أنّ تكذيبهم لمحمّد صلّى الله عليه وسلم جَارٍ على طريق سلَفهم في خلافهم على أنبيائهم، واستخفافهم بهم، واستهزائهم بأمر ربِّهم. انتهى. والرِّجْز العَذَابُ، قال ابن زيد وغيره: فبعث اللَّه على الذينَ بدَّلوا الطاعونَ، فأذهب منهم سبْعِينَ أَلْفاً، وقال ابن عبَّاس «2» : أمات اللَّه منهم في ساعةٍ واحدةٍ نيِّفاً على عشرينَ ألفا. واسْتَسْقى: معناه: طلب السُّقْيَا، وَعُرْفُ «استفعل» طلَبُ الشيءِ، وقد جاء في غير ذلك كقوله تعالى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: 6] ، وكان هذا الاستسقاءُ في فحْصِ التيه، فأمره اللَّه تعالى بضرب الحَجَر آيةً منه، وكان الحَجَرُ من جبل الطور على قدر رأس

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 344) برقم (1028) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 139) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (1/ 345) برقم (1041) بنحوه. وذكره الماوردي في «التفسير» (1/ 127) بنحوه.

الشاة، يلقى في كِسْر جُوَالِقَ «1» ، ويرحل به، فإذا نزلُوا وضع في وَسَط محلَّتهم، وضربه موسى، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحَجَر لكنَّهم كانوا يجدُونه في كلِّ مرحلة في منزلته من المرحَلَة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجراً مربَّعاً منْفَصِلاً تطَّرد من كلِّ جهة منه ثلاثُ عُيُونٍ، إِذا ضربه موسى، وإِذا استغنَوْا عن الماءِ، ورحَلُوا، جفَّت العيون، وفي الكلام حذفٌ تقديره: فضربه، فانفجرت، والانفجار: انصداع شيء عن شَيْء ومنه: الفَجْر، والانبجاس في الماء أقلُّ من الانفجار. وأُناسٍ: اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا: كلُّ سِبْطٍ لأن الأسباط في بني إِسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرِّية الاثْنَيْ عَشَرَ أولادُ يعقُوبَ عليه السلام. وقوله سبحانه: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ ... الآية. ت: رُوِّينَا من طريق أنس، بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ ليرضى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» رواه مُسْلِمٌ، والترمذيُّ، والنسائِيُّ «2» . انتهى. والمَشْرَبُ: موضع الشُّرْب، وكان لكلِّ سبطٍ عَيْنٌ من تلك العيون، لا يتعداها. وَلا تَعْثَوْا: معناه: ولا تُفْرِطُوا في الْفَسَادِ. ص «3» : مُفْسِدِينَ: حالٌ مؤكِّدة لأن: «لاَ تَعْثَوْا» : معناه: / لا تفسدوا. 22 ب انتهى.

_ (1) الجوالق والجوالق: وعاء من الأوعية معروف معرب. ينظر: «لسان العرب» (662) . (2) أخرجه مسلم (4/ 2095) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، حديث (89/ 2734) ، والترمذي (4/ 265) ، كتاب «الأطعمة» ، باب ما جاء في الحمد على الطعام إذا فرغ منه، حديث (1816) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 202) كتاب «الدعاء بعد الأكل» ، باب ثواب الحمد لله، حديث (6899) ، وأحمد (3/ 100، 117) ، وأخرجه أيضا الترمذي في «الشمائل» ، رقم (195) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 65- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا نعرفه إلا من حديث زكريا بن أبي زائدة. (3) «المجيد» (ص 271) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 61 إلى 64]

[سورة البقرة (2) : الآيات 61 الى 64] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ... الآيةَ: كان هذا القول منهم في التيه حينَ ملُّوا المَنَّ والسلوى، وتذكَّروا عيشهم الأول بمصْرَ، قال ابنُ عَبَّاس وأكثر المفسِّرين: الفُومُ: الحِنْطَة «1» ، وقال قتادة، وعطاء: الفوم: جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز «2» ، وقال الضحَّاك: الفوم: الثُّوم، وهي قراءة عبد اللَّه بن مسعود، وروي ذلك عن ابن عبَّاس «3» ، والثاء تُبْدَلُ من الفاءِ كما قالوا: مَغَاثِيرُ ومَغَافِير «4» . ت: قال أحمد بن نصر الدَّاوُوديُّ: وهذا القولُ أشبه لما ذكر معه، أي: من العَدَسِ والبَصَلِ. انتهى. وأَدْنى: قال عليُّ بن سليمان الأخْفَشُ «5» . مأخوذٌ من الدّنيء البيّن الدناءة بمعنى:

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 352) برقم (1076) قال أحمد شاكر: «ابن كريب» ضعيف، وقد بين القول في ضعفه في «شرح المسند» (2571) . وأبوه كريب بن أبي مسلم «تابعي ثقة» . اهـ. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 141) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....] (2) أخرجه الطبري (1/ 351) برقم (1071) عن قتادة. (3) ذكره السيوطي في «الدر» (1/ 141) عن ابن عباس بنحوه، وعزاه لابن أبي حاتم. وذكره في موضع آخر عن ابن عباس بلفظ «قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن مسعود هذا أحدها: «من بقلها وقثائها وثومها» وعزاه في هذا الموضوع لابن أبي داود. (4) المغافير: صمغ شبيه بالناطف ينضحه العرفط والرمث. الواحد مغفور ومغثور. ينظر: «لسان العرب» (3275) . (5) علي بن سليمان بن الفضل، أبو المحاسن، المعروف ب «الأخفش الأصغر» : نحوي، من العلماء. من أهل بغداد، أقام ب «مصر» سنة (287- 300 هـ.) ، وخرج إلى «حلب» ، ثم عاد إلى «بغداد» ، وتوفي بها وهو ابن 80 سنة. له تصانيف، منها: «شرح سيبويه» ، و «الأنواء» ، و «المهذب» ، وكان ابن الرومي مكثرا من هجوه. توفي سنة (315 هـ.) . انظر: «بغية الوعاة» (338) ، و «وفيات الأعيان» (1: 332) ، و «الأعلام» (4/ 291) .

الأَخَسِّ، إلا أنه خُفِّفَت همزته، وقال غيره: هو مأخوذ من الدُّون، أي: الأحط فأصله أَدْوَن، ومعنى الآية: أَتَسْتَبْدِلُونَ البَقْلَ، والْقِثَّاءَ، والفُومَ، وَالعَدَسَ، والبَصَلَ الَّتي هى أدنى بالمَنِّ والسلْوَى الذي هو خيرٌ. وجمهور النَّاس يقرءون «مِصْراً» بالتنوين «1» ، قال مجاهدٌ وغيره: أراد مِصْراً من الأمصار غير معيَّن «2» ، واستدلُّوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهَرَتْ به الرواياتُ أنهم سكنوا الشَّام بعد التيه، وقالت طائفة: أراد مِصْرَ فِرْعَونَ بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أنَّ اللَّه أورَثَ بني إسْرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، قال في «مختصر الطبريِّ» : وعلى أن المراد مصْر التي خرجُوا منها، فالمعنى: إنَّ الذي تطلُبُونَ كان في البَلَد الَّذي كان فيه عذابُكُم، واستعبادكم، وأسْركم، ثمَّ قال: والأظهر أنهم مُذْ خرجوا من مصْر، لم يرجعوا إليها، واللَّه أعلم. انتهى. وقوله تعالى: فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم، ووَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «3» معناه: الزموها كما قالت العرب: ضربة لازب، وَباؤُ بِغَضَبٍ: معناه: مروا متحمِّلين له، قال الطبري: باءوا به، أي: رجعوا به، واحتملوه، ولا بد أن يوصل بَاءَ بخير أو بشرٍّ. انتهى. وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأشارة ب ذلِكَ إلى ضرب الذلَّة وما بعدهُ، وقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ تعظيم

_ (1) وقرأ «مصر» بغير تنوين في هذه الآية الأعمش، كما في مختصر الشواذ لابن خالويه (ص 14) . كما قرأ بها طلحة بن مصرف والحسن وأبان بن تغلب، وقيل: هي كذلك في مصحف أبي بن كعب ومصحف عبد الله وبعض مصحاف عثمان. كما في «البحر المحيط» (1/ 396- 397) ، و «الدر المصون» (1/ 241) . (2) أخرجه الطبري (1/ 354) برقم (1085) بلفظ: «مصرا من الأمصار، زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر» اهـ. (3) قوله تعالى: الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ يعني: فقر النفس. قال السمين الحلبي: والمراد بها هنا الجزية والصغار. «عمدة الحفاظ» (2/ 239) . وقال الحسن وقتادة: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ هي أنهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال عطاء بن السائب: هي الكستينج (لبس اليهود) وزي اليهودية، والْمَسْكَنَةُ: زي الفقر، فترى المثرى منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية، ولا يوجد يهودي غني النفس. ينظر: «الوسيط» (1/ 147) ، و «الطبري» (2/ 137) ، و «البغوي» (1/ 66) ، و «ابن كثير» (1/ 102) ، و «الدر المنثور» (1/ 73) .

للشنعة «1» ، والذَّنْب، ولم يجرم نبيٌّ قطُّ ما يوجبُ قتله، وإنما التسليطُ عليهم بالقَتْل كرامةٌ لهم، وزيادةٌ لهم في منازلهم صلى اللَّه عليهمْ كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَلُ في سبيلِ اللَّهِ من المؤمنين، والباء في «بِمَا» باء السبب. ويَعْتَدُونَ: معناه: يتجاوزون الحُدُود، والاعتداء هو تجاوُزُ الحدِّ. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ ... الآية. اختلف في المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا في هذه الآية. فقالت فرقة: الذين آمنوا هم المؤمنون حقّا بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم، وقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون فيهم بمعنى مَنْ ثَبَتَ ودَامَ، وفي سائر الفرق: بمعنى: مَنْ دخَلَ فيه، وقال السُّدِّيُّ: هم أهل الحنيفيَّة ممَّن لم يلحق محمّدا صلّى الله عليه وسلم، والذين هَادُوا، ومن عطف عليهم كذلك ممَّن لم يلحق محمّدا صلّى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهودُ، وسُمُّوا بذلك لقولهم: هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] ، أي: تبنا، وَالنَّصارى لفظةٌ مشتقَّة من/ النَّصْرِ. قال ص «2» : وَالصَّابِئِينَ: قرأ الأكثر بالهمز صَبَأَ النَّجْمُ، والسِّنُّ، إِذا خرج، أي: خَرَجُوا من دينٍ مشهورٍ إِلى غيره، وقرأ نافع «3» بغير همز، فيحتمل أن يكون من المهموز المُسَهَّل، فيكون بمعنى الأول، ويحتمل أن يكون مِنْ صَبَا غيْرَ مهموزٍ، أي: مَالَ ومنه: [الهزج] إلى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي ... وهند مثلها يصبي «4» انتهى. قال ع «5» : والصّابئ في اللغة: من خرج من دين إلى دين. وأما المشار إليهم في قوله تعالى: وَالصَّابِئِينَ فقال السديُّ: هم فرقة من أهل

_ (1) الشّنعة: الاسم من الشناعة، وشنع الأمر أو الشيء شناعة وشنعا وشنعا وشنوعا: قبح. ينظر: «لسان العرب» (2339) . (2) «المجيد» (ص 280) . (3) ينظر: «السبعة» (157) ، و «الحجة للقراء السبعة» (2/ 94) ، و «حجة القراءات» (100) ، و «شرح شعلة» (265) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 396) . (4) البيت لزيد بن ضبة، وهي في «اللسان» صبا. (5) «المحرر الوجيز» (1/ 157) .

الكتاب «1» ، وقال مجاهد: هم قوم لا دِينَ لهم «2» ، وقال ابنُ جْرَيْج «3» : هم قوم تركب دينهم بين اليهوديَّة والمجوسيَّة «4» ، وقال ابنُ زَيْد: هم قومٌ يقولون لا إله إلا اللَّه، وليس لهم عمل ولا كتابٌ كانوا بجزيرةِ المَوْصِلِ «5» ، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن، وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكةَ، ويصلُّون الخمْسَ إلى القبلة، ويقرءون الزَّبُور رَآهُمْ زيادُ بن أبي سفيان «6» ، فأراد وضع الجزْيَة عنْهم حتَّى عُرِّفَ أنهم يعبدون الملائكَةَ «7» . وقوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ... الآية: الطُّورَ: اسم الجبلِ الَّذي نُوجِيَ موسى عليه السلام عليه. قاله ابنُ عبَّاس «8» ، وقال مجاهدٌ وغيره: الطُّورَ: اسمٌ لكلِّ جبلٍ «9» ، وقصص هذه الآية أنَّ موسى عليه السلام، لما جاء إلى بني إسرائيل من عنْد اللَّه تعالى بالألواح، فيها التوراة، قال لهم: خُذُوهَا، والتزموها، فقَالُوا: لا، إِلاَّ أنْ يكلَّمنا اللَّهُ بهَا كما كلَّمك، فصُعِقُوا، ثم أُحْيُوا، فقال لهم: خُذُوها، فقالوا: لاَ، فأمر اللَّه الملائكَةَ، فاقتلعت جَبَلاً من جبالِ فِلَسْطِينَ «10» طولُه فَرْسَخٌ في مثله، وكذلك كان

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 361) برقم (1112) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 146) ، وعزاه لوكيع. (2) أخرجه الطبري (1/ 360) برقم (1101) بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 47) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 145) ، وعزاه لوكيع، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....] (3) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكي، الفقيه، أحد الأعلام. عن ابن أبي مليكة، وعكرمة مرسلا، وعن طاوس مسألة، ومجاهد، ونافع، وخلق، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري أكبر منه، والأوزاعي، والسفيانان، وخلق. قال أبو نعيم: مات سنة خمسين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 12) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 402) ، «تهذيب الكمال» (2/ 178) ، «الكاشف» (2/ 210) ، «الثقات» (7/ 93) . (4) أخرجه الطبري (1/ 360) برقم (1107) . (5) أخرجه الطبري (1/ 360) برقم (1108) . (6) زياد بن أبيه، وأبيه أبو سفيان، أمير من الدهاة، القادة الفاتحين، الولاة من أهل «الطائف» أدرك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم في عهد أبي بكر، ولد في (اهـ.) قال الشعبي: ما رأيت أحدا أخطب من زياد، توفي في (53 هـ.) ينظر: «ميزان الاعتدال» (1: 355) ، «الأعلام» (3/ 53) . (7) أخرجه الطبري (1/ 361) برقم (1109) ، (1110) عن الحسن وقتادة. (8) أخرجه الطبري (1/ 366- 367) برقم (1125) . (9) أخرجه الطبري (1/ 366) برقم (1118) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 146) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (10) فلسطين: آخر كور «الشام» من ناحية «مصر» ، قصبتها «بيت المقدس» ، ومن مشهور مدنها «عسقلان» ، -

[سورة البقرة (2) : الآيات 65 إلى 66]

عسْكَرهم، فجعل عليهم مثْلَ الظُّلَّة، وأخرج اللَّه تعالى البَحْرَ من ورائهم، وأضرم نَاراً من بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم: خذوها، وعليكُم الميثَاقُ، ولا تضيِّعوها، وإِلا سقط علَيْكم الجبَلُ، وأغرقكم البَحْر، وأحرقتكم النارُ، فَسَجَدُوا توبةً للَّه سبحانه، وأخذوا التوراةَ بالميثاقِ، قال الطبريُّ عن بعض العلماء: لو أخذوها أوَّلَ مرَّة، لم يكُنْ عليهم ميثاقٌ، وكانت سجدتهم على شِقٍّ لأنهم كانوا يرقبون الجَبَل خوْفاً، فلما رحمهم اللَّه سبحانه، قالوا: لا سجدَةَ أفضلُ من سَجْدة تقبَّلها اللَّه، ورَحِمَ بها، فأَمَرُّوا سجودَهم على شِقٍّ واحدٍ. قال ع «1» : والذي لا يصحُّ سواه أن اللَّه تعالى اخترع وقْتَ سجودهم الإِيمان في قلوبهم، لا أنهم آمنوا كُرْهاً، وقلوبهم غيرُ مطمئنة، قال: وقد اختصرْتُ ما سرد في قصصِ هذه الآية، وقصدت أَصَحَّهُ الذي تقتضيه ألفاظُ الآية، وخلط بعْضُ الناس صَعْقَةَ هذه القصَّة بصَعْقة السبعين. وبِقُوَّةٍ: قال ابن عباس: معناه: بجِدٍّ واجتهاد «2» . وقال ابن زيد: معناه: بتصديق وتحقيق «3» . وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ، أي: تدبُّروه واحْفَظُوا أوامره ووعيدَهُ، ولا تنسوه، ولا تضيِّعوه. وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ... الآية: تولَّى: أصله الإِعراض والإِدبار عن الشيء بالجِسْمِ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمورِ، والأديانِ، والمعتقداتِ اتِّساعاً ومجازاً، وتَوَلِّيهِمْ من بعد ذلك: إما بالمعاصِي، فكان فضل اللَّه بالتوبة والإِمهال إِلَيْها، وإما أن يكون تَوَلِّيهم بالكُفْر، فلم يعاجلْهم سبحانه بالهَلاَكِ لِيَكُونَ من ذرِّيَّتهم من يؤمن. [سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

_ - و «الرملة» ، و «غزة» ، و «أرسوف» ، و «قيسارية» ، و «نابلس» ، و «أريحا» ، و «عمان» و «يافا» ، و «بيت جبرين» ، وهي أول أجناد «الشام» ، أولها من ناحية الغرب «رفح» وآخرها «اللجون» من ناحية الغور. ينظر: «مراصد الاطلاع» (3/ 1042) . (1) «المحرر الوجيز» (1/ 159) . (2) أخرجه الطبري (1/ 367) برقم (1131) عن السدي، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 146) وعزاه لابن جرير. (3) أخرجه الطبري (1/ 368) برقم (1132) بلفظ: «خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق وبحق» .

وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ... الآية: علمتمْ: معناه: عرفتم، والسَّبْتُ مأْخوذٌ من السُّبُوت الَّذِي هو الراحةُ والدَّعَة، وإِما من السبت، وهو القَطْع لأن الأشياء فيه سَبَتَتْ وتمَّت خِلْقَتُها، وقصَّة اعتدائهم فيه/ أن الله عز وجلّ أمر 23 ب موسى عليه السلام بيَوْمِ الجُمُعَةِ، وعرَّفه فَضْلَه، كما أمر به سائر الأنبياءِ صلواتُ اللَّه عَلَيْهِمْ، فذكر موسى ذلك لبني إِسرائيل عن اللَّه سبحانه، وأمرهم بالتشرُّع فيه، فأبوا وتعدَّوْه إلى يوم السَّبْت، فأوحى اللَّه إلى موسى أنْ دَعْهم، وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم بأنْ أمرهم بترك العَمَل فيه، وحرَّم عليهم صَيْدَ الحِيتَانِ، وشدَّد عليهم المِحْنَة بأن كانت الحِيتَانُ تأتي يوم السبْتِ حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل حتى تخرج خراطيمُهَا من الماء، وذلك إِما بإِلهامٍ من اللَّه تعالى، أو بأمر لا يعلَّل، وإما بأن ألهمها معنى الأَمَنَةِ التي في اليومِ، مع تكراره كما فَهِمَ حمام مَكَّة الأَمَنَةَ، وكان أمر بني إِسرائيل بِأَيْلَةَ «1» على البحْر، فَإِذا ذهب السَّبْت، ذهبت الحيتان، فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقُوا على ذلك زماناً حتى اشْتَهَوُا الحُوتَ، فعَمَدَ رجُلٌ يوم السبْتِ، فربط حوتاً بخزمة «2» ، وضرب له وَتِداً بالساحل، فلما ذهب السَّبْتُ، جاء، فأخذه، فسَمِع قومٌ بفعْلِهِ، فصنعوا مثْلَ ما صنع. وقيل: بل حفر رجُلٌ في غير السَّبْت حَفِيراً يخرج إِلَيْه البحر، فإِذا كان يوم السبت، خرج الحوت، وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفير، وبقي الحوت، فجاء بعد السبت، فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادره يوم السبت علانيةً، وباعوه في الأسواقِ، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إِسرائيل فرقةٌ نهَتْ عن ذلك، فنجَتْ من العقوبة، وكانت منهم فرقةٌ لم تَعْصِ، ولم تَنْهَ، فقيل: نجت مع الناهين، وقيل: هلَكَتْ مع العاصين. وكُونُوا: لفظةُ أمر، وهو أمر التكوينِ كقوله تعالى لكُلِّ شَيْءٍ: كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] قال ابن الحاجب «3»

_ (1) أيلة: مدينة على ساحل بحر «القلزم» مما يلي «الشام» . قيل: هي آخر الحجاز وأول «الشام» . وهي مدينة اليهود، الذين اعتدوا في السبت. ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 138) . (2) الخزم: شجر له ليف تتخذ من لحائه الحبال، الواحدة خزمة. ينظر: «لسان العرب» (1153) . [.....] (3) عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو، جمال الدين ابن الحاجب: فقيه مالكي، من كبار-

في مختصره الكَبِيرِ المسمى ب «منتهى الوُصُولِ» «1» : صيغةُ: افعل، وما في معناها قد صَحَّ إِطلاقها بإزاء خمسةَ عَشَرَ محملاً. الوجوبُ: أَقِمِ الصَّلاةَ [الإسراء: 78] والنَّدْبُ: فَكاتِبُوهُمْ [النور: 33] . والإِرشادُ: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة: 282] والإِباحةُ: فَاصْطادُوا [المائدة: 2] . والتأديب: «كُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . والامتنانُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام: 142] . والإِكرامُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [ق: 34] والتَّهديد: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] والإِنذار: تَمَتَّعُوا [إبراهيم: 30] والتسخيرُ: كُونُوا قِرَدَةً [الأعراف: 166] والإِهانة: كُونُوا حِجارَةً [الإسراء: 50] والتَّسويةُ: فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا [الطور: 16] والدعاءُ: اغْفِرْ لَنا [آل عمران: 147] والتمنِّي: [الطويل] : ... أَلاَ انجلي ... «2» وكمالُ القدرة: كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] . انتهى. وزاد غيره كونها للتعجيزِ، أعني: صيغةَ «افعل» . قال ابن الحاجِبِ: وقد اتفق على أنها مجازٌ فيما عَدَا الوُجُوبَ والنَّدْبَ والإِباحةَ والتهديدَ، ثم الجمهورُ على أنها حقيقةٌ في الوجوب «3» . انتهى.

_ - العلماء بالعربية، كردي الأصل. ولد في «أسنا» (من صعيد مصر) ونشأ في «القاهرة» ، وسكن «دمشق» ، وكان أبوه حاجبا، فعرف به، له تصانيف كثيرة منها: «الكافية» في النحو، و «الشافية» في الصرف. ولد سنة (570 هـ.) ، وتوفي سنة (646 هـ.) . ينظر: «وفيات» (1: 314) ، «الطالع السعيد» (188) ، «مفتاح السعادة» (1: 117) ، «غاية النهاية» (1: 508) ، «الأعلام» (4/ 211) . (1) ينظر: «البرهان» (1/ 212) ، «المحصول» (1/ 2/ 62) ، «الأحكام» للآمدي (1/ 122) ، «المستصفى» (1/ 420) ، «التمهيد» للأسنوي (269) ، «المنخول» (105) ، «شرح العضد» (2/ 79) ، «شرح الكوكب» (2/ 41) ، «المعتمد» (1/ 57) ، «التبصرة» (27) ، «كشف الأسرار» (1/ 107) ، «حاشية البناني» (1/ 316) ، «فواتح الرحموت» (1/ 372) ، «تيسير التحرير» (1/ 351) ، «أصول السرخسي» (1/ 15) ، «الوصول إلى الأصول» (1/ 133) ، «تقريب الوصول» (93) ، «ميزان الأصول» (1/ 217) . (2) البيت لامرىء القيس في ديوانه ص (18) و «الأزهية» ص (271) و «خزانة الأدب» (2/ 326، 327) و «سرّ صناعة الإعراب» (2/ 513) ، و «لسان العرب» (11/ 361) (شلل) و «المقاصد النحويّة» (4/ 317) وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (4/ 93) و «جواهر الأدب» ص (78) و «رصف المباني» ص (79) و «شرح الأشموني» (2/ 493) . (3) ولطلب الفعل صيغ مختلفة نوردها فيما يلي:

وخاسِئِينَ: معناه: مُبْعَدِينَ أذلاَّء صاغِرِينَ كما يقال للكَلْب، وللمطْرُود: اخسأ، وروي في قصصهم أنَّ اللَّه تعالى مسخ العاصِينَ قردَةً في الليل، فأصبح الناجون

_ - 1- فعل الأمر: وذلك بصيغته المعروفة مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [الحج: 78] . 2- صيغة المضارع المقترن ب «لام الأمر» مثل قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] . ومثل: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29] . ومثل: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق: 7] . 3- صيغة المصدر القائم مقام فعل الأمر: مثل قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [المائدة: 89] . ومثل قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4] . 4- جملة خبرية يراد بها الطلب: مثل قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] . إذ ليس المراد من هذا النّصّ الإخبار عن حصول الإرضاع من الوالدات لأولادهن، وإنما المراد هو أمر الوالدات بإرضاع أولادهن، وطلب إيجاده منهن. ومثل قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] . فإن الظاهر من هذه الآية أنها للخبر، وإنما المراد بها أمر المؤمنين ألا يمكّنوا الكافرين من التّجبّر عليهم، والتّكبّر بأية صفة كانت. ومثل قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشّيخان: «لا تنكح البكر حتّى تستأذن» . وقد اتّفق الأصوليون على أنّ صيغة الأمر تستعمل في مدلولات كثيرة، لكن لا تدلّ على واحد من هذه المدلولات بعينه إلا بقرينة، وهذه المدلولات هي كما ذكرها المصنف رحمه الله. وقد اختلفت آراء العلماء في تعداد هذه الصّيغ زيادة، ونقصا، وسبب ذلك تداخل هذه الصّيغ مع بعضها، واختلاف وجهات النّظر في المعنى، وفي القرينة الّتي تحدّد وجه الاستعمال. واتّسعت دائرة الاختلاف بين العلماء والأصوليين فيما يدلّ عليه الأمر حقيقة حيث إنّ دوران الأمر على أوجه كثيرة- كما سبق- لا يدلّ على أنّه حقيقة في كلّ منها. فإذا ورد أمر من الأوامر في القرآن الكريم، أو في السّنّة النّبويّة، فهل يعتبر هذا الأمر دالّا على الوجوب؟ أم النّدب؟ أم الإباحة؟ أم لمعنى آخر؟ إن خصوصيّة التّعجيز، والتّحقير، والتّسخير ... وغير هذه المعاني غير مستفاد من مجرّد صيغة الأمر، بل إنّما تفهم هذه المعاني من القرائن، وعليه فلا خلاف في أنّ صيغة الأمر ليست حقيقيّة في جميع الوجوه السّابقة. وللعلماء آراء متعدّدة في دلالة الصيغة على الوجوب، أو على الندب، أو على غيرهما، فقد اتفق العلماء على أن صيغة الأمر لا تدلّ على أي معنى من المعاني المتقدمة إلا بقرينة، كما قلنا سابقا. وقد اختلفوا فيما إذا تجرّدت هذه الصّيغة عن القرينة، فهل تدل على الوجوب؟ أم على النّدب؟ أم على الإباحة؟ المذهب الأوّل: وهو لجمهور العلماء حيث ذهبوا إلى أن صيغة «افعل» تدلّ على الوجوب حقيقة، -

إلى مساجِدِهِمْ، ومجتمعاتِهِمْ، فلم يروا أحداً من الهالكينَ، فقالوا: إِن للنَّاس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبوابَ لما كانت مغْلَقة باللَّيْل، فوجدوهم قردَةً يعرفون الرجُلَ والمرأة. وقيل: إن الناجينَ كانُوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القريَةَ بجِدَارٍ تَبَرِّياً منهم، فأصبحوا، ولم تفتحْ مدينةُ الهالكين، فتسوَّروا عليهم الجدارَ، فإِذَا هم قردةٌ يثبُ بعضهم 24 أعلى بعض/. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وثبت أنَّ المُسُوخَ لا تنسل، ولا تأكل، ولا تشرَبُ، ولا تعيشُ أكثَرَ من ثلاثة أيام «1» ، ووقع في كتاب مسلم عنه صلّى الله عليه وسلم «أنّ أمّة من الأمم فقدت، وأراها

_ - مجازا فيما سواه، أي: في النّدب والإباحة، وسائر المعاني المستعملة فيها الصيغة، وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن الحاجب في «المختصر» ، والبيضاويّ في «المنهاج» . المذهب الثّاني: ويعزى لأبي هاشم الجبّائي، وهو وجه عند الشافعية حيث ذهبوا إلى أن صيغة الأمر حقيقة في الندب، مجاز فيما سواه. المذهب الثّالث: يرى أن صيغة الأمر حقيقة في الإباحة، وهو التخيير بين الفعل والتّرك، فهي لا تدلّ إلا على الجواز حقيقة لأنه هو المتيقن، فعند خلوّه عن القرينة يكون حقيقته في الإباحة، مجازا فيما سواها. المذهب الرّابع: ويعزى للماتريديّ حيث يرى أن صيغة الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطّلب لأن كلا من الوجوب والندب طلب، ويزاد قيد الجزم في جانب الوجوب لأنه الطلب الجازم، والندب غير جازم. المذهب الخامس: وفيه تكون صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب والنّدب اشتراكا لفظيّا. المذهب السّادس: يرى أن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، والنّدب، والإباحة. المذهب السّابع: يرى أن صيغة الأمر حقيقة في القدر المشترك بين هذه الأنواع الثلاثة، وهو الإذن. نصّ عليه أبو عمرو بن الحاجب. المذهب الثّامن: وإليه ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، والآمديّ حيث كانوا يتوقّفون عن القول بأن الصيغة تدلّ على الوجوب، أو على الندب لأن الصيغة استعملت في الوجوب تارة، وفي النّدب أخرى، فقالوا بالتوقّف. قال الآمديّ: ومنهم من توقّف، وهو مذهب الأشعري (رحمه الله تعالى) ومن تبعه من أصحابه كالقاضي أبي بكر، والغزالي، وغيرهما، وهو الأصح. المذهب التّاسع: يرى أن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، والندب، والإباحة، والإرشاد، والتهديد. وقيل: صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، والنّدب، والتحريم، والكراهة، والإباحة فهي مشتركة بين الأحكام الخمسة، ووجهة دلالة الصيغة على التحريم والكراهة فإنها تستعمل في التّهديد، وهو يستلزم ترك الفعل المهدّد عليه، وهو إما محرم، أو مكروه. ينظر: «الإحكام» للآمدي (2/ 9) ، و «التيسير شرح التحرير» (2/ 49) . (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 147) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 إلى 73]

الفأر» ، وظاهر هذا أنَّ المسوخ تنسل، فإن كان أراد هذا، فهو ظنّ منه صلّى الله عليه وسلم في أمر لا مَدْخَلَ له في التبليغِ، ثم أوحي إِلَيْه بعد ذلك أنَّ المسوخ لا تنسل ونظير ما قلناه نزوله صلّى الله عليه وسلم على مياهِ بَدْرٍ وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: إذا أخبرتكم عنِ اللَّهِ تعالى، فهو كما أخبرتكم، وإذا أخبرتكم برأْيِي في أمور الدنيا، فإنما أنا بشر مثلكم، والضمير في فَجَعَلْناها يَحتَمِلُ عوده على المسخة والعقوبة، ويحتمل علَى الأُمَّة الَّتِي مُسِخَتْ، ويحتمل على القِرَدَةِ، ويحتمل على القرية إِذ معنى الكلام يقتضيها، والنَّكال: الزجر بالعقاب، ولِما بَيْنَ يَدَيْها. قال السُّدِّيُّ: ما بين يَدَيِ المسخة مَا قَبْلَهَا من ذنوب القَوْم، وما خَلْفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب «1» ، وقال غيره: ما بين يدَيْها من حضرها من الناجين، وما خلفها، أي: لمن يجيءُ بعدها «2» ، وقال ابن عبَّاس: لما بين يديها وما خلْفَها من القرى «3» . وَمَوْعِظَةً: من الاتعاظ، والازدجار، ولِلْمُتَّقِينَ: معناه: الذين نَهَوْا وَنَجَوْا، وقالتْ فرقةٌ: معناه: لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، واللفظ يَعُمُّ كُلَّ مُتَّقٍ من كلِّ أُمَّةٍ. [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 73] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ... الآية: المراد تذكيرهم بنقْضِ سلفهم للميثاقِ، وسبب هذه القصَّة على ما روي أن رجلاً من بني إسرائيل أَسَنّ، وكان له مالٌ، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل: أخوه، وقيل: ابنا عمه، وقيل: ورثةٌ غيْرُ معيَّنين، فقتله ليرثه، وألقاه في سبط آخر غير سبطه ليأخذ ديته، ويلطّخهم بدمه.

_ (1) ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 161) ، والماوردي (1/ 136) . (2) ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 161) . (3) ذكره ابن عطية (1/ 161) ، وقد رجح هذا الخبر الذي رواه ابن عباس.

وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاهُ إِلى باب إِحدى القريتَيْن، وهي التي لم يُقْتَلْ فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً، فتعلَّق بالسبط، أوْ بسكَّان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء «1» حتى دخلوا في السِّلاح، فقال أهل النهى، منهم: أَنَقْتَتِلُ ورسُولُ اللَّهِ معنا، فذهبوا إلى موسى عليه السلام، فقصُّوا علَيْهِ القصَّة، وسألوهُ البيانَ، فأوحى اللَّه تعالى إِليه أن يذبحوا بقرةً، فيُضْرَبُ القتيل ببعضها، فيحيى ويُخْبِرُ بقاتله، فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فكان جوابهم أنْ قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً وهذا القول منهم ظاهره فسادُ اعتقادٍ مِمَّنْ قاله، ولا يصحُّ إيمان من يقول لِنبيٍّ قد ظهرتْ معجزته، وقال: إن اللَّه يأمرُ بكذا: أنتخذُنَا هُزُواً، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أنَّ ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء، وقول موسى عليه السلام: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحدهما: الاستعاذةُ من الجهل في أن يخبر عن اللَّه تعالى مستهزئاً. والآخر: من الجهل كما جهلوا في قولهم. 24 ب وقوله تعالى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ/ ... الآيةَ: هذا تعنيتٌ منهم، وقلَّةُ طواعية، ولو امتثلوا الأمر، فاستعرضوا بقرةً فذبحُوها، لَقَضَوْا ما أمروا به، ولكن شدَّدوا، فشَدَّدَ اللَّهُ علَيْهم قاله ابن عَبَّاسٍ وغيره «2» . والفارض: المسنَّة الهَرِمَة، والبِكْر من البقر: التي لم تلدْ من الصغر، ورفعت «عَوَانٌ» على خبر ابتداءِ مضمرٍ، تقديره: هي عَوَانٌ، والعَوَانُ التي قد وَلَدَتْ مرَّةً بعد مرّة. قال م: قال الجَوْهَرِيُّ «3» : والعَوَانُ: النَّصَفُ في سِنِّها من كل شيْء، والجمعُ عون. انتهى.

_ (1) اللّحاء- ممدود-: الملاحاة كالسّباب، ولاحى الرّجل وملاحاة ولحاء: شاتمه. ولاحيته ملاحاة ولحاء: إذا نازعته. ينظر: «لسان العرب» (4015) . (2) أخرجه الطبري (1/ 389) برقم (1239) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 151) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. كلاهما عن ابن عباس. (3) إسماعيل بن حماد الجوهري، كان من أعاجيب الزمان ذكاء، وفطنة، وعلما، كان إماما في اللغة والأدب، قرأ على ابن علي الفارسي، والسيرافي. له: «الصحاح» ، و «مقدمة في النحو» ، مات سنة 393 هـ. ينظر: «البغية» (1/ 446، 447) . [.....]

ت: قال الشيخُ زين الدين عبد الرحيم بن حُسَيْنٍ العَراقيُّ «1» في نظمه لغريب القُرآن جمع أبي حيان: [الرجز] معنى «عَوَانٌ» نَصَفٌ بَيْنَ الصِّغَرْ ... وَبَيْنَ مَا قَدْ بَلَغَتْ سِنَّ الْكِبَرْ وكل ما نقلته عن العِرَاقِيِّ منظوماً، فمن أرجوزته هذه. وقوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ تجديدٌ للأمر، وتأكيدٌ وتنبيهٌ على ترك التعنُّت، فما تركوه. قال ابنُ زَيْد: وجمهورُ الناسِ في قوله: صَفْراءُ أنَّها كانت كلُّها صفراء، وفي «مختصر الطبريِّ» : فاقِعٌ لَوْنُها أي: صافٍ لونُها. انتهى. والفقوعُ مختصٌّ بالصفرة كما خُصَّ أحمر بقانئ، وأسْوَدُ بحالِك، وأبْيَضُ بناصِع، وأخْضَرُ بناضِرٍ، قال ابن عبَّاس وغيره: الصفرة تسر النفْسَ، وسأَلُوا بعد هذا كلِّه عن ما هي سؤال متحيِّرين، قد أحسُّوا مقْتَ المعصية «2» . وفي استثنائهمْ في هذا السؤالِ الأخيرِ إنابةٌ مَّا، وانقيادٌ، ودليلُ ندمٍ وحِرْصٌ على موافقة الأمر. ورُوِيَ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «لَوْلاَ مَا استثنوا، مَا اهتدوا إليها أبدا» «3» .

_ (1) عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم، محدث الديار المصرية، ذو التصانيف المفيدة، زين الدين أبو الفضل، العراقي الأصل، الكردي. ولد سنة (725) ، أحب الحديث، وسمع كثيرا، وولع بتخريج أحاديث «الإحياء» ، ورافق الزيلعي الحنفي، وكان مفرط الذكاء، أكثر الرحلة والسماع، أخذ عنه الهيثمي، وغيره كابن حجر وبرهان الدين الحلبي، صنف «ألفية الحديث» وعمل نكتا على ابن الصلاح، وشرع في تكملة شرح الترمذي تذييلا على ابن سيد الناس. ت (806) . ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (4/ 29) ، «الضوء اللامع» (4/ 171) ، «إنباء الغمر» (5/ 170) . (2) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 163) . (3) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 223) ، رقم (727) ، والبزار (3/ 40- كشف) ، رقم (2188) ، وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (1/ 111) ، كلهم من طريق عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن بني إسرائيل قالوا: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة: 70] لما أعطوا، ولكن استثنوا» وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في «المجمع» (6/ 319) : رواه البزار، وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات. وقال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 150) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. وللحديث شاهد مرسل عن عكرمة. ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 150) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور، والفريابي، وابن المنذر.

وقوله: لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، أي: غير مذللة بالعمل والرياضة، وتُثِيرُ الْأَرْضَ معناه: بالحراثة، وهي عند قوم جملةٌ في موضعِ رفعٍ على صفة البقرة، أي: لا ذلول مثيرة، وقال قوم: «تُثِيرُ» فعلٌ مستأنفٌ والمعنى إيجاب الحرث، وأنها كانت تحرُثُ، ولا تسقي، ومُسَلَّمَةٌ: بناء مبالغة من السلامة قال ابن عبَّاس وغيره: معناه: من العيوب «1» ، وقال مجاهد: معناه: من الشّيات والألوان «2» ، وقيل: من العمل «3» . ولا شِيَةَ فِيها، أي: لا خلاف في لونها هي صفراء كلُّها قاله ابن زيد وغيره، والمُوَشَّى المختلِطُ الألوان، ومنه: وَشْيُ الثَّوْب: تزينه بالألوان، والثَّوْرُ الأَشْيَهُ الذي فيه بلقة يقال: فرس أَبْلَقُ، وكبش أَخْرَجُ، وتَيْسٌ أَبْرَق، وكَلْبٌ أبقع، وثور أشبه كل ذلك بمعنى البلقة. وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شدَّدوا، فشدَّد اللَّه عليهم، ودينُ اللَّه يُسْر، والتعمُّق في سؤال الأنبياء مذمومٌ، وقصَّة وجود هذه البقرة على ما روي أنَّ رجلاً من بني إِسرائيل ولد له ابنٌ، وكانت له عِجْلَةٌ، فأرسلها في غيضة «4» ، وقال: اللهم، إني قد استودعتُكَ هذه العِجْلَةَ لهذا الصبيِّ، ومات الرجُلُ، فلما كبر الصبيُّ، قالت له أمه: إِن أباك كان قد استودع اللَّه عِجْلَةً لكَ، فاذهب، فخذْها، فلما رأَتْه البقَرَة، جاءت إلَيْه حتى أخذ بقرنَيْها، وكانت مستوحشةً، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصِّفَة التي أمروا بها، فلمَّا وجدت البقرة، ساموا صاحبها، فاشتطّ عليهم، فأتوا به موسى 25 أعليه السلام وقالوا له: إِن هذا اشتطَّ علينا، فقال لهم موسى: أرضُوهُ في مِلْكِه. / فاشتروها منه بوزنها مرّة قاله عبيدة السّلمانيّ «5» ،

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 394- 395) برقم (1262- 1263- 1264) ، عن قتادة وأبي العالية، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 152) عن أبي العالية، وعزاه لابن جرير. (2) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 194) . (3) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 164) . (4) الغيضة: الأجمة، وهي مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر. ينظر: «لسان العرب» (3327) . (5) أخرجه الطبري (1/ 398) برقم (1290) عن عبيدة السلماني من طريق محمد بن سيرين. كما أخرجه عبد الرزاق في التفسير (1/ 49) . وهو عبيدة بن عمرو السّلماني، قبيلة من «مراد» . مات النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في الطريق. عن علي، وابن مسعود. وعنه الشعبي، والنخعي، وابن سيرين. قال ابن عيينة: كان يوازي شريحا في القضاء والعلم. قال أبو مسهر: مات سنة اثنتين وسبعين. وقال الترمذي: سنة ثلاث. ينظر: «الخلاصة» (2/ 207) ، «طبقات ابن سعد» (6/ 93) ، «سير أعلام النبلاء» (4/ 40) ، «العبر» (1/ 79) ، و «التقريب» (1/ 547) .

وقيل: بوزنها مرتَيْنِ «1» . وقيل: بوزنها عشْرَ مرَّات «2» ، وقال مجاهد: كانت لرجل يبَرُّ أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير «3» . والْآنَ: مبنيٌّ على الفتح «4» ، معناه: هذا الوقت، وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وجِئْتَ بِالْحَقِّ: معناه عن من جعلهم عُصَاةً: بيَّنْتَ لنا غاية البيانِ، وهذه الآية تعطي أن الذَّبْح أصل في البقر، وإن نحرت أَجْزَأَ. وقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ: عبارة عن تثبُّطهم في ذَبْحِها، وقلَّة مبادرتهم إلى أمر اللَّه تعالى، وقال محمَّد بن كَعْب القُرَظِيُّ: كان ذلك منهم لغلاء البقرة «5» ، وقيل: كان

_ (1) ذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 164) ، ولم يذكر له سندا. (2) أخرجه الطبري (1/ 398) برقم (1282) عن السدي. (3) أخرجه الطبري (1/ 398) برقم (1284) بلفظ: «كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له، فباعها بملء جلدها ذهبا» . عن مجاهد. اهـ. (4) واختلف في علّة بنائه، فقال الزجاج: «لأنّه تضمّن معنى الإشارة لأنّ معنى أفعل الآن أي: هذا الوقت» . وقيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لفظ واحد، من حيث إنه لا يثنّى ولا يجمع ولا يصغّر. وقيل: لأنه تضمّن معنى حرف التعريف وهو الألف واللام كأمس، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ولم يعهد معرّف بأل إلّا معربا، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في «الذي» و «التي» وبابهما، ويعزى هذا للفارسي. وهو مردود بأنّ التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتى بمثل لفظه. وهو لازم للظرفيّة ولا يتصرّف غالبا، وقد وقع مبتدأ في قوله- عليه السلام-: «فهو يهوي في قعرها الآن حين انتهى» فالآن مبتدأ، وبني على الفتح لما تقدّم، و «حين» خبره، بني لإضافته إلى غير متمكّن، ومجرورا في قوله: أإلى الآن لا يبين ارعواء ... وادعى بعضهم إعرابه مستدلا بقوله: كأنّهما ملآن لم يتغيّرا ... وقد مرّ للدارين من بعدنا عصر يريد: «من الآن» فجرّه بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر. وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماض، وأن أصله آن بمعنى حان فدخلت عليه أل زائدة واستصحب بناؤه على الفتح، وجعله مثل قولهم: «ما رأيته مذ شبّ إلى دبّ» وقوله عليه السلام: «وأنهاكم عن قيل وقال» ، وردّ عليه بأنّ أل لا تدخل على المنقول من فعل ماض، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره، وعنه قول آخر أنّ أصله «أوان» فحذفت الألف ثم قلبت الواو ألفا، فعلى هذا ألفه عن واو، وقد أدخله الراغب في باب «أين» فتكون ألفه عن ياء، والصواب الأول. ينظر: «الدر المصون» (1/ 260، 261) . (5) أخرجه الطبري (1/ 397) برقم (1279) بلفظ: «من كثرة قيمتها» قال العلامة أحمد شاكر: «وفيه أبو معشر بن عبد الرحمن السندي المدني، وهو ضعيف» .، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 152) ، وعزاه لابن جرير، وذكره الشوكاني في «تفسيره» (1/ 163) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 74 إلى 75]

ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل «1» . وفَادَّارَأْتُمْ: معناه: تدافعتم قتل القتيل، وفِيها، أي: في النَّفْس. وقوله تعالى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها : آية من اللَّه تعالى على يدَيْ موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيلَ، فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره لأن ابن عباس ذكر أنَّ أمر القتيل وقع قَبْل جواز البَحْر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنَةً. وقوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى ... الآيةَ: في هذه الآية حض على العبرة، ودلالةٌ على البعث في الآخرة، وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل حينئذ، حكي لمحمّد صلّى الله عليه وسلم، ليعتبر به إلى يوم القيامة. وذهب الطبريُّ إلى أنها خطاب لمعاصري محمّد صلّى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، وروي أن هذا القتيل لما حَيِيَ، وأخبر بقاتله، عاد ميتا كما كان. [سورة البقرة (2) : الآيات 74 الى 75] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وقوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ... الآية: أي: صلبت وجفَّت، وهي عبارة عن خلوِّها من الإنابة والإذعان لآيات اللَّه تعالى، قال قتادة وغيره: المراد قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم، وما ركبوه بعد ذلك «2» ، و «أَوْ» : لا يصحُّ أن تكون هنا للشكِّ، فقيل: هي بمعنى «الواو» ، وقيل: للإضراب، وقيل: للإبهام، وقيل غير ذلك «3» .

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 399) برقم (1292) عن وهب بن منبه كان يقول: «إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى «أتتخذونا هزوا» لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها» ، وذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 165) ، والقرطبي (1/ 387) ، عن وهب بن منبه. [.....] (2) ذكره ابن عطية الأندلسي في تفسيره (1/ 166) عن أبي العالية وقتادة. (3) في «أو» خمسة أقوال: أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى أنّ النّاظرين في حال هؤلاء منهم من يشبّههم بحال المستوقد الذي هذه صفته، ومنهم من يشبّههم بأصحاب صيّب هذه صفته. الثاني: أنها للإبهام، أي: إن الله أبهم على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.

وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ ... الآية: معذرةٌ للحجارة، وتفضيلٌ لها على قلوبهم، قال قتادة: عذر اللَّه تعالى الحجارة، ولم يعذِر شقيَّ بني آدم «1» . ت: وروى البَزَّار عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ العَيْنِ، وَقَسَاوَةُ القَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا» «2» . انتهى من «الكوكب الدّرّيّ» لأبي

_ - الثالث: أنها للشّكّ، بمعنى أن الناظر يشكّ في تشبيههم. الرابع: أنها للإباحة. الخامس: أنها للتخيير، أي: أبيح للناس أن يشبّهوهم بكذا أو بكذا، وخيّروا في ذلك. وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين: أحدهما: كونها بمعنى الواو، وأنشدوا: [البسيط] جاء الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربّه موسى على قدر والثاني: كونها بمعنى بل، وأنشدوا: [الطويل] بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح أي: بل أنت. ينظر: «الدر المصون» (1/ 134- 135) . (1) أخرجه الطبري (1/ 408) برقم (1323) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 156) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (2) أخرجه البزار (3230- كشف) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 125) من طريق هانىء بن المتوكل عن عبد الله بن سليمان عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعا. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ففيه هانىء بن المتوكل. قال ابن حبان: كثرت المناكير في روايته، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن الجوزي: وعبد الله بن سليمان مجهول. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 229) ، وقال: رواه البزار، وفيه هانىء بن المتوكل، وهو ضعيف. وتعقب السيوطي ابن الجوزي في «اللآلئ» (2/ 312) بما لا طائل تحته، فقال: أورده في «الميزان» في ترجمة هانىء، وقال: حديث منكر. اهـ. والحديث ذكره الحافظ في «اللسان» (6/ 186- 187) وقال: أورده البزار في مسنده، وقال: عبد الله بن سليمان روى أحاديث لم يتابع عليها. وأما هانىء فقال ابن القطان: لا يعرف حاله. كذا قال. وقال أبو حاتم الرازي: أدركته ولم أكتب عنه. اهـ. وللحديث طريق آخر: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 1099) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/ 246) ، (2/ 323) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 125) كلهم من طريق سليمان بن عمرو النخعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعا. وقال ابن عدي: هذا الحديث وضعه سليمان على إسحاق. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أبو داود النخعي، قال أحمد ويحيى: كان يضع الأحاديث، قال ابن عدي: وضع هذا على إسحاق. وللحديث طريق ثالث: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 175) من طريق الحسن بن عثمان: ثنا أبو سعيد المازني، ثنا-

العباس أحمد بن سَعْد التُّجِيبِيِّ، قال الغَزَّاليُّ في «المِنْهَاج» : واعلم أن أول الذنب قسوةٌ، وآخره، والعياذ باللَّه، شؤمٌ وشِقْوَةٌ، وسوادُ القلْب يكون من الذنوب، وعلامةُ سواد القلب ألاَّ تجد للذنوب مفزعاً، ولا للطاعات موقعاً، ولا للموعظة منجعاً. انتهى. وقيل في هبوط الحجارة: تفيُّؤ ظلالها، وقيل: إن اللَّه تعالى يخلُقُ في بعض الأحجار خشيةً وحياةً، يهبط بها من عُلْوٍ تواضعاً، وقال مجاهد: ما تردى حجرٌ من رأسِ جبلٍ، ولا تَفَجَّرَ نهر من حَجَر، ولا خَرَج ماء منه، إلا من خشية الله عز وجلّ نزل بذلك القرآن «1» ، وقال مثله ابْنُ جُرَيْجٍ «2» . وقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... الآية: الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار 25 ب الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطابِ التقرير/ على أمر فيه بُعْد إذ قد سلف لأسلاف هؤلاء اليهودِ أفاعيلُ سوءٍ، وهؤلاء على ذلك السَّنَن. وتحريفُ الشيء: إِمالته من حالٍ إلى حال، وذهب ابن عبَّاس إلى أن تحريفهم وتبديلهم إِنما هو بالتأويل، ولفْظُ التوراة باق «3» ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدَّلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأنَّ ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن اللَّه تعالى ضَمِنَ حفظه. قلْتُ: وعن ابن إسحاق أن المراد ب «الفريقِ» هنا طائفةٌ من السبعين الذين سمعوا كلامَ اللَّه مع موسى. انتهى من «مختصر الطبريِّ» وهذا يحتاج إلى سند صحيح.

_ - حجاج بن منهال عن صالح المري عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا. وقال أبو نعيم: تفرد برفعه متصلا عن صالح حجاج. وهذا الشاهد ذكره السيوطي في «اللآلئ» (2/ 313) ، ولم يتكلم عليه. وقال ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (2/ 301) قلت: فيه مضعفون. اهـ. يقصد رحمه الله صالح المري ويزيد الرقاشي. وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 407) رقم (10783) عن محمد بن واسع من قوله. (1) أخرجه الطبري (1/ 408) برقم (1321) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 156) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (2) أخرجه الطبري (1/ 408) برقم (1326) ، وذكره القرطبي (1/ 395) . (3) ذكره ابن عطية (1/ 168) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 76 إلى 78]

[سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 78] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) وقوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ... الآية: المعنى: وهم أيضاً، إذا لُقُوا يفعلون هذا، فكيف يُطْمَع في إيمانهم، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنَفاً فيه كشف سرائرهم ورد في التفسير أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ «1» المَدِينَةِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ» ، فقال كَعْبُ بن الأشْرَفِ وأشباهه: اذهبوا وتحسَّسوا أخبارَ من آمَنَ بمحمَّد، وقولوا لهم: آمنا، واكفروا إِذا رجعتم، فنزلتْ هذه الآية، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في المنافقين من اليهود «2» ، وروي عنه أيضاً أنها نزلَتْ في قومٍ من اليهود، قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبيٌّ، ولكن ليس إلَيْنا، وإنما هو إليكم خاصّة، فلما دخلوا، قال بعضهم: لم تُقِرُّونَ بنبوءته «3» ، وقال أبو العالية وقتادةُ: إِن بعض اليهود تكلَّم بما في التوراة من صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال لهم كفرةُ الأحبار: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: عرَّفكم من صفة محمَّد صلّى الله عليه وسلم «4» . ولِيُحَاجُّوكُمْ: من الحجة، وعِنْدَ رَبِّكُمْ: معناه: في الآخرة. وقول تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ: قيل: هو من قول الأحبار لَلأتباعِ، وقيل: هو خطابٌ من اللَّه تعالى للمؤمنين، أي: أفلا تعقلون أن بني إِسرائيل لا يؤمنون، وهم بهذه الأحوال. وأُمِّيُّونَ هنا: عبارةٌ عن عامَّة اليهود، وجهلتهم، أي: أنهم لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضَّلاَل، والأُمِّيُّ في اللغة: الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتابٍ نُسِبَ إلى الأُمِّ إِما لأنه بحالِ أمِّه من عَدَمِ الكتب، لا بحال أبيه إذ النساء ليس من شغلهن الكَتْبُ قاله الطبريُّ وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها، لم ينتقل عنها. والْكِتابَ: التوراة.

_ (1) قصبة البلد: مدينته، وقيل: معظمه، والقصبة: جوف الحصن، يبنى فيه بناء هو أوسطه، والقصبة: القرية. وقصبة القرية: وسطها. ينظر: «لسان العرب» (3641) . (2) أخرجه الطبري (1/ 413) برقم (1339) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 157) ، وعزاه لابن جرير. وذكره ابن عطية الأندلسي في «التفسير» (1/ 168) . (3) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 168) . (4) ذكره السيوطي في «الدر» (1/ 158) ، وعزاه لعبد بن حميد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 79 إلى 82]

والأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، واختلف في معنى أَمانِيَّ، فقالت طائفة: هي هاهنا من: تمنَّى الرجل، إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكْتُب ولا يقرأ، وإنما يقول بظنِّه شيئاً سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب. وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قول الشاعر: [الطويل] تمنى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لاقى حِمَامَ المَقْادِرِ «1» فمعنى الآية: أنهم لا يَعْلَمُون الكتاب إِلاَّ سماع شيْءٍ يتلى، لا عِلْمَ لهم بصحَّته. وقال الطبريُّ: هي من تَمَنَّى الرجُلِ، إذا حدَّث بحديث مختلَقٍ كذبٍ، أي: لا يعلمون الكتاب إِلا سماعَ أشياء مختلَقَةٍ من أحبارهم، يظنُّونها من الكتاب. ص «2» : وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ: «إن» : نافية بمعنى «ما» . انتهى. [سورة البقرة (2) : الآيات 79 الى 82] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... الآية. 26 أقال الخليلُ: «الوَيْلُ» : شِدَّةُ الشر، وهو مصدر، / لا فِعْلَ له، ويجمع على وَيْلاَتٍ، والأحسن فيه إِذا انفصل: الرفْعُ لأنه يقتضي الوقُوعَ، ويصحُّ النصب على معنى الدُّعَاء، أي: ألزمه اللَّه وَيْلاً، ووَيْلٌ ووَيْحٌ ووَيْسٌ تتقاربُ في المعنى، وقد فرق بينها قوم. وروى سفيانُ، وعطاءُ بنُ يَسارٍ أن الوَيْلَ في هذه الآية وادٍ يجري بفناءِ جهنَّم من صديد أهل النار «3» .

_ (1) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (1/ 169) و «البحر المحيط» (1/ 436) ، و «الدر المصون» (1/ 269) . [.....] (2) «المجيد» ص 308. (3) أخرجه الطبري (1/ 423) برقم (1399) بلفظ «واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لا نماعت من شدة حره» ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 159) ، وعزاه لابن مبارك في «الزهد» ، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» .

وروى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنه وادٍ في جهنَّم بيْن جبَلَيْنِ يَهْوِي فيه الهاوِي أربعِينَ خَرِيفاً» «1» . وروى عثمانُ بن عفّان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أنه جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ النَّار» «2» ، والذين يكْتُبُونَ: هم الأحبار والرؤساء. وبِأَيْدِيهِمْ قال ابن السَّرَّاج «3» : هي كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، والذي بدّلوه هو صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم ليستديمُوا رياستهم ومكاسبهم، وذكر السُّدِّيُّ أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدّلون فيها صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم ويبيعونَهَا من الأَعراب، ويبثُّونها في أتباعهم، ويقولون هي من عبد اللَّه «4» ، والثَّمَنُ: قيل: عَرَضُ الدنيا، وقيل: الرُّشَا والمآكل التي كانت لهم، ويَكْسِبُونَ معناه: من المعاصي، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثَّمَن. وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ... الآية: روى ابن زَيْد وغيره أنَّ سببها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ، ثمّ تخلفونا أنتم،

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 320) كتاب «تفسير القرآن» ، باب سورة الأنبياء، حديث (3164) ، وأحمد (3/ 75) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» رقم (924) ، وأبو يعلى (2/ 523) رقم (1383) ، وابن حبان (2610- موارد) ، والطبري (29/ 155) ، والحاكم (4/ 596) ، ونعيم بن حماد في «زوائده» على «الزهد» لابن المبارك رقم (334) ، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص 271) رقم (464) من طرق عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي قلت: وسنده ضعيف لضعف دراج كما هو معروف، وبعضهم يقبل حديثه عن أبي الهيثم. قال الحافظ في «التقريب» (1/ 235) : دراج صدوق في حديثه عن أبي الهيثم، ضعيف. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 159) ، وزاد نسبته إلى هناد، وابن أبي الدنيا في «صفة النار» ، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 422) عن عثمان. (3) محمد بن السري بن سهل، أبو بكر: أحد أئمة الأدب والعربية. من أهل «بغداد» ، كان يلثغ بالراء فيجعلها غينا. ويقال: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. مات شابا. وكان عارفا بالموسيقى. من كتبه: «الأصول» في النحو، و «شرح كتاب سيبويه» ، و «الشعر والشعراء» ، و «الخط والهجاء» ، و «المواصلات والمذكرات في الأخبار» . توفي في سنة 316 هـ. ينظر: «بغية الوعاة» (44) ، و «طبقات النحويين واللغويين» (122) ، و «نزهة الألباء» (313) ، و «الأعلام» (6/ 136) . (4) أخرجه الطبري (1/ 422) برقم (1391) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 660) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 83 إلى 85]

فَقَالَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لاَ نَخْلُفُكُمْ» فنزلَتْ هذه الآية «1» . قال أهل التفسير: العهد في هذه الآية: الميثاقُ والموعد، و «بلى» رد بعد النفْيِ بمنزلة «نَعَمْ» بعد الإِيجاب «2» ، وقالت طائفة: السيئة هنا الشرك كقوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90] والخَطِيئاتُ: كبائر الذنوب، قال الحسن بن أبي الحسن، والسُّدِّيُّ: كل ما توعد اللَّه عليه بالنار، فهي الخطيئة المحيطَةُ «3» ، والخلودُ في هذه الآية على الإِطلاق والتأبيد في الكُفَّار، ومستعار بمعنى الطُّول في العُصَاة، وإِن علم انقطاعه. قال محمَّد بن عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في مختصره للطبريِّ: أجمعتِ الأمَّة على تخليد مَنْ مات كافراً، وتظاهرت الرواياتُ الصحيحةُ عن الرسول صلّى الله عليه وسلم والسلفِ الصالح، بأن عصاة أهل التوحيد لا يخلَّدون في النار، ونطق القرآن ب إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 116] لكن من خاف على لَحْمه ودَمِه، اجتنب كل ما جاء فيه الوعيدُ، ولم يتجاسَرْ على المعاصي اتكالا على ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان السلف وخيار الأمة يخافُون سلْب الإِيمان على أنفسهم، ويخافون النفاقَ عليها، وقد تظاهرتْ بذلك عنهم الأخبار. انتهى. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا ... الآية: يدلُّ هذا التقسيم على أن قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ... الآية في الكفار، لا في العصاة ويدل على ذلك أيضاً قوله: وَأَحاطَتْ لأن العاصي مؤمنٌ، فلم تحط به خطيئاته ويدل على ذلك أيضاً أن الردَّ كان على كُفَّارٍ ادَّعَوْا أنَّ النَّارَ لا تَمَسُّهم إلا أياماً معدودةً، فهم المراد بالخلود، والله أعلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 85] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 426) برقم (1462) . وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 163) ، وعزاه لابن جرير. (2) ينظر: «مغني اللبيب» ص 113، ص 346، ص 348. (3) أخرجه الطبري (1/ 430) برقم (1438) عن الحسن، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 164) ، وعزاه لوكيع.

وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: أخذ اللَّه سبحانه الميثاق عليهم على لسان موسى- عليه السلام- وغيره من أنبيائهم، وأخْذ الميثاق قولٌ، فالمعنى: قلنا لهم: لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... الآية، قال سيبوَيْهِ: «لا تعبدون: متلق لقسم» والمعنى: وإذ استحلفناهم، واللَّهِ/ لا تعبدونَ إلاَّ اللَّه، وفي الإحسان تدخل أنواع برّ 26 ب الوالدين كلُّها، واليُتْم في بَنِي آدمَ: فَقْدُ الأب، وفي البهائم فقد الأمّ، وقال صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ» ، وقيل: هو الذي له بُلْغَةٌ، والآية تتضمَّن الرأفة باليتامى، وحيطة أموالهم، والحضّ على الصدقة، والمواساة، وتفقُّد المساكين. وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً: أمر عطف على ما تضمَّنه لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وما بعده، وقرأ حمزة والكسَائِيُّ «1» : «حَسَناً» بفتح الحاء والسين، قال الأخفش «2» : وهما بمعنى واحدٍ، وقال الزجَّاج «3» وغيره: بل المعنى في القراءة الثانية، وقولوا «قَوْلاً حَسَناً» بفتح الحاء والسين، أو قولاً ذا حُسْن بضم الحاء وسكون السين في الأولى قال ابن عبَّاس: معنى الكلام قولُوا للنَّاس: لا إله إلا اللَّه، ومُرُوهم بها «4» ، وقال ابن جُرَيْجٍ: قولوا لهم حُسْناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمَّد صلّى الله عليه وسلم «5» ، وقال سفيان الثّوريّ «6» :

_ (1) ينظر: «العنوان» ، (70) ، و «حجة القراءات» (103) ، و «الحجة» (2/ 126) ، و «شرح الطيبة» (4/ 44) ، و «شرح شعلة» (267) ، و «إتحاف» (1/ 401) ، و «معاني القراءات» للأزهري (1/ 160) . والكسائي هو: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي: إمام في اللغة والنحو والقراءة. من تصانيفه: «معاني القرآن» ، و «المصادر» ، و «الحروف» ، و «القراءات» ، و «النوادر» ، و «المتشابه في القرآن» ، و «ما يلحن فيه العوام» . توفي ب «الري» في «العراق» سنة 189 هـ. ينظر: «ابن خلكان» (1/ 330) ، «تاريخ بغداد» (11/ 403) ، «الأعلام» (4/ 283) . (2) «معاني القرآن» (1/ 308) ، و «المحتسب» (2/ 363) . (3) «معاني القرآن» (1/ 164) . (4) أخرجه الطبري (1/ 432) برقم (1450) من طريق سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 165) ، وعزاه لابن جرير. (5) ذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 173) عن ابن جريج. [.....] (6) سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة على الصحيح، وقيل: من ثور همدان، الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، كان من الفضلاء، وكان لا يسمع شيئا إلّا حفظه، كان متقنا ضابطا زاهدا ورعا. ولد سنة سبع وسبعين، وتوفي ب «البصرة» سنة 161 هـ. -

معناه: مروهم بالمَعْروف، وانهوهم عن المُنْكَر «1» ، وقال أبو العالية: قولوا لهم الطيبَ من القول، وحاورُوهم بأحسن ما تُحِبُّونَ أن تحاوروا به «2» ، وهذا حضٌّ على مكارم الأخلاق، وزكاتُهم هي التي كانوا يَضعُونها، وتنزل النار على ما تقبّل منها، دون ما لم يتقبل. 27 أوقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ... الآية: خطابٌ لمعاصري النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أسند إليهم تولّي أسلافهم إِذ هم كلُّهم بتلك السبيل، قال نحوه ابنُ عَبَّاس وغيره «3» . والمراد بالقليلِ المستثنى جميعُ مؤمنيهم قديماً من أسلافهم، وحديثاً كابن سَلاَمٍ وغيره، والقِلَّة على هذا هي في عدد الأشخاصِ، ويحتمل أن تكون القِلَّة في الإِيمان، والأول أقوى. ص «4» : إِلَّا قَلِيلًا: منصوب على الاستثناء، وهو الأفصح لأنه استثناءٌ من موجب، وروي عن أبي عَمرو «5» : «إلاَّ قَلِيلٌ» بالرفع، ووجَّهه ابن عطية على بدل قليل من ضمير: «تَوَلَّيتُمْ» على أن معنى «تَوَلَّيْتُم» النفي، أي: لم يف بالميثاق إلا قليل، ورد بمنع النحويِّين البدل من الموجب لأن البدل يحل محلَّ المبدل منه، فلو قلْت: قام إلا زيد، لم يجز لأن «إِلاَّ» لا تدخل في الموجب، وتأويله الإِيجاب بالنفْي يلزم في كل موجب باعتبار نفي ضده أو نقيضه فيجوز إِذَنْ: «قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْدٌ» على تأويل: «لَمْ يَجْلِسُوا إِلاَّ زَيْدٌ» ولم تبن العَرَب على ذلك كلامها، وإِنما أجازوا: «قام القَوْمُ إِلاَّ زَيْدٌ» بالرفع على الصفة، وقد عقد سيبوَيْه «6» لذلك بابا في كتابه. انتهى. ودِماءَكُمْ: جمع دَمٍ، وهو اسمٌ منقوصٌ. أصله «دَمَيٌ» وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ

_ - ينظر: «الخلاصة» (1/ 396) (2584) ، «ابن سعد» (6/ 257- 260) ، و «الحلية» (6/ 356- 493) ، و (7/ 3- 141) . (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 173) عن سفيان الثوري. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 173) عن أبي العالية. (3) أخرجه الطبري (1/ 438) برقم (1465) بلفظ: «أي تركتم ذلك كله» ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 165) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) «المجيد» ص 319. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 173) ، و «البحر المحيط» (1/ 455) ، و «الدر المصون» (1/ 280) ، و «حاشية الشيخ زادة على البيضاوي» (1/ 345) . وهو زيان (وقيل غير ذلك) أبو عمرو بن العلاء، البصري، أحد القراء السبعة، قرأ على سعيد بن جبير، وشيبة بن نصاح، وعاصم بن أبي النجود، روى القراءة عنه عرضا وسماعا حسين بن علي الجعفي، وخارجة بن مصعب، مات سنة 154 هـ. ينظر: «غاية النهاية» (1/ 288) ، و «طبقات الزبيدي» (ص 35) . (6) ينظر: «الكتاب» (2/ 330- 331) .

: معناه: ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغْي، وكذلك حكم كلّ جماعة تخاطب بهذا اللفظ في القول. وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ، أي: خَلفَاً بعد سَلَف، أن هذا الميثاق أخذ عليكم، وقوله: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قيل: الخطابُ يُرادُ به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود، أي: حُضور أخْذ الميثاق والإِقرار. وقيل: المراد: من كان في مدة محمّد صلّى الله عليه وسلم والمعنى: وأنتم شهداء، أي: بيِّنةَ أن الميثاق أخذ على أسلافكم، فمنْ بعدهم منْكُمْ. وقوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ... الآية: هؤُلاءِ دالَّةٌ على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردًّا إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام: / يا هؤلاء، فحذف 27 ب حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبوَيْه «1» ، مع المبهمات. وقال الأستاذ الأَجَلُّ أبو الحسن بن أحمد «2» ...

_ (1) إلى مذهب سيبويه والبصريين أشار ابن مالك بقوله: [الرجز] وذاك في اسم الجنس والمشار له ... قلّ، ومن يمنعه فانصر عاذله أي: ذاك التعرّي من حرف النداء يكون مع اسم الجنس، واسم الإشارة- كما في الآية- قليلا، وهو مذهب الكوفيين، وأما من منع الحذف معهما- وهم البصريون وسيبويه- فهم محجوجون بما روي من أشعار العرب مما لا يمكن ردّه، فمما ورد في اسم الإشارة قوله: [الطويل] إذا هملت عيني لها قال صاحبي ... بمثلك- هذا- لوعة وغرام وقوله: [البسيط] إنّ الألى وصفوا قومي لهم فبهم ... هذا- اعتصم، تلق من عاداك مخذولا وقوله: [الخفيف] ذا، أرعواء، فليس بعد اشتعال الر ... رأس شيبا إلى الصّبا من سبيل وجعل منه قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ- هؤُلاءِ- تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 85] . واعلم أن هذا الحذف مع اسم الجنس واسم الإشارة مقيس مطرد عند الكوفيين، وأما مذهب البصريين وسيبويه فشاذ أو ضرورة كما أشار المصنف إليه بمنع سيبويه الحذف. (2) قال أبو حيان: وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا «غرناطة» ، يعرف بابن الباذش، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد مؤلف كتاب «الإقناع» في القراءات، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على كتاب «الجمل» و «الإيضاح» ، ومسائل من «كتاب سيبويه» . وقال السيوطي: وفي «تاريخ غرناطة» : أوحد في زمانه إتقانا ومعرفة، وتفرّدا بعلم العربيّة، ومشاركة في غيرها. حسن الخطّ، كبير الفضل، مشاركا في الحديث، عالما بأسماء رجاله ونقلته، مع الدين والفضل-

28 أشيخنا «1» : هؤُلاءِ: رفع بالابتداء، وأَنْتُمْ: خبر، وتَقْتُلُونَ، حال بها تَمَّ المعنى، وهي المقصود. ص «2» : قال الشيخ أبو حَيَّان: ما نقله ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن البَادْش من جعله هؤُلاءِ مبتدأ، وأَنْتُمْ خبر مقدَّم، لا أدري ما العلَّة في ذلك، وفي عدوله عن جعل أَنْتُمْ مبتدأ، وهؤُلاءِ الخبر، إلى عكسه. انتهى. ت: قيل: العلة في ذلك دخولُ هاء التنبيه عليه لاختصاصها بأول الكلام ويدلُّ على ذلك قولهم: «هَأَنَذَا قَائِماً» ، ولم يقولوا: «أَنَا هَذَا قَائِماً» ، قال معناه ابنُ هِشَامٍ «3» ، ف «قَائِماً» ، في المثال المتقدِّم نصب على الحال. انتهى. وهذه الآية خطابٌ لقُرَيْظة، والنضير، وبني قَيْنُقَاع، وذلك أن النَّضِيرَ وقُرَيْظة حَالَفَت الأوسَ، وبني قَيْنُقَاع حالفتِ الخزرج، فكانوا إِذا وقعتِ الحربُ بين بني قَيْلَة، ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها، فقتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة، وهم قد خالَفُوها بالقتَالِ، والإِخراج. والديارُ: مباني الإِقامة، وقال الخليلُ: «مَحَلَّةِ القَوْمِ: دَارُهُمْ» . ومعنى تَظاهَرُونَ: تتعاونون، والْعُدْوانِ: تجاوز الحدود، والظلم.

_ - والزّهد والانقباض عن أهل الدنيا، قرأ على نعم الخلف وغيره. وحدّث عن القاضي عياض وغيره، وأمّ بجامع «غرناطة» . وصنّف: شرح «كتاب سيبويه» ، و «المقتضب» وشرح «أصول ابن السّراج» ، وشرح «الإيضاح» ، وشرح «الجمل» ، وشرح «الكافي» للنحاس. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ينظر: «البحر المحيط» (1/ 458) ، و «بغية الوعاة» (2/ 142- 143) . (1) هذا من كلام ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 174) . (2) «المجيد» ص 322. (3) عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام، من أئمة العربية، قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر ب «مصر» عالم بالعربية يقال له: «ابن هشام» ، أنحى من سيبويه. من تصانيفه: «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب- ط» و «عمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب» ، و «الجامع الصغير» ، و «الجامع الكبير» ، وغيرها، وتوفي سنة 567 هـ. ب «مصر» . ينظر: «الأعلام» (4/ 147) ، «الدرر الكامنة» (2/ 308) ، «النجوم الزاهرة» (10/ 336) . [.....]

وقرأ حمزة «1» : «أسرى تفدوهم» ، وأُسارى: جمع أَسِيرٍ، مأخوذ من الأَسْر، وهو الشَّدُّ، ثم كثر استعماله حتى لزم، وإن لم يكنْ ثَمَّ رَبْطٌ ولا شَدٌّ، وأَسِيرٌ: فَعِيلِ: بمعنى مفعول، وتُفادُوهُمْ: معناه في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً، وقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: يقال: فدى، إِذا أعطى مالاً، وأخذ رجلاً، وفادى، إِذا أعطى رجلاً، وأخذ رجُلاً فتُفْدُوهم: معناه بالمالِ، وتُفَادُوهم، أي: مفادات الأسير بالأسير. انتهى. ت: وفي الحديث من قوْل العَبَّاس رضي اللَّه عنه: «فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وعَقِيلاً» ، وظاهره لا فَرْق بينهما. وقوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ... الآية: والذي آمنوا به فداءُ الأسارى، والذي كَفَرُوا به قتْلُ بعضهم بعضاً، وإِخراجُهُمْ من ديارهم، وهذا توبيخٌ لهم وبيانٌ لقبح فعلهم، والخِزْيُ: الفضيحة، والعقوبة، فقيل: خزيهم: ضرْبُ الجزية عليهم غابَر الدهر، وقيل: قتل قريظة، وإِجلاءُ النضير، وقيل: الخزْيُ الذي تتوعَّد به الأمة من الناس هو غلبة العدوّ. والدُّنْيا: مأخوذةٌ من دَنَا يدْنُو، وأصل الياء فيها واوٌ، ولكن أبدلتْ فرقاً بين الأسماء والصفات، وأَشَدِّ الْعَذابِ: الخلودُ في جهنم. وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ نافعٌ، وابن كَثِير «2» بياءٍ على ذِكْر الغائب، فالخطاب بالآية لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم والآية واعظةٌ لهم بالمعنى، إذ اللَّه تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص. وقرأ الباقون بتاء على الخطاب لمن تقدَّم ذكره في الآية قبل هذا وهو قوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ ... الآية، وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم فقد رُوِيَ أنَّ عمر بن الخَطَّاب- رضي اللَّه عنه- قال: «إِنَّ بنِي إِسرائيل قد مضَوْا، وأنتم الذين تُعْنَوْنَ بهذا، يا أمة محمّد يريد هذا، وما يجري مجراه «3» /.

_ (1) وقرأ الجماعة غير حمزة «أسارى» ، وقرأ هو أسرى، وقرىء «أسارى» بفتح الهمزة. ينظر: «الحجة للقراء السبعة» (2/ 143) ، و «حجة القراءات» (104) ، و «العنوان» (70) ، و «إتحاف» (1/ 402) ، و «شرح الطيبة» (4/ 45) ، و «شرح شعلة» (268) ، و «البحر المحيط» (1/ 459) . (2) ينظر: «حجة القراءات» (105) ، وشرح «طيبة النشر» ، (4/ 40) ، وشرح «شعلة» (266) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 403) . (3) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 176) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 86 إلى 88]

[سورة البقرة (2) : الآيات 86 الى 88] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ... الآية: جعل اللَّه ترك الآخرةِ، وأخْذَ الدنيا عوضاً عنها، مع قدرتهم على التمسُّك بالآخرة- بمنزلة من أخذها، ثم باعها بالدنيا، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ، في الآخرة، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ لا في الدنيا، ولا في الآخرة. ص «1» : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: «اللام» في «لَقَدْ» : يحتمل أن تكون توكيداً، ويحتمل أن تكون جواب قسم، وموسى هو المفعول الأول، والكتاب الثانِي، وعكس السّهيليّ. ومَرْيَمَ: معناه في السُّرْيانية: الخَادَم، وسميت به أمُّ عيسى، فصار علما عليها. انتهى. والْكِتابَ: التوراةُ. وَقَفَّيْنا: مأخوذ من القَفَا تقول: قَفَيْتُ فُلاَناً بِفُلاَنٍ، إِذا جئْتَ به من قبل قَفَاه، ومنه: قَفَا يَقْفُو، إِذا اتبع، وكلُّ رسول جاء بعد موسى، فإِنما جاء بإِثبات التوراة، والأمر بلزومها إلى عيسَى- عليهم السلام-. والْبَيِّناتِ: الحججُ التي أعطاها اللَّه عيسى. وقيل: هي آياته من إحياء، وإبراء، وخَلْق طَيْرٍ، وقيل: هي الإِنجيل، والآية تعم ذلك. وَأَيَّدْناهُ: معناه: قويْناه، والأَيْدُ القوة. قال ابن عبَّاس: رُوح القدس: هو الاسم الذي كان يُحْيِي به الموتى «2» ، وقال ابن زِيْد: هو الإِنجيل كما سمَّى اللَّه تعالَى القرآن رُوحاً «3» ، وقال السُّدِّيُّ، والضّحّاك،

_ (1) «المجيد» (ص 331) . (2) أخرجه الطبري (1/ 449) برقم (1494) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 167) . (3) أخرجه الطبري (1/ 449) برقم (1493) عن ابن زيد.

والربيع، وقتادة: بِرُوحِ الْقُدُسِ: جبريلُ- عليه السلام «1» - وهذا أصحُّ الأقوال، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم لِحَسَّان: «اهج قُرَيْشاً، وَرُوحُ القُدُسِ مَعكَ» «2» ومرةً قال له: «وجبريل معك» ، وفَكُلَّما: ظرف والعامل فيه: اسْتَكْبَرْتُمْ، وظاهر الكلامِ الاستفهامُ، ومعناه التوبيخُ روي أن بني إِسرائيل كانوا يقتلون في اليومِ ثلاثمائة نبيٍّ، ثم تقوم سوقُهم آخر النهار، وروي سبعين نبيًّا، ثم تقومُ سوق بَقْلِهِمْ آخر النهار. والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحقٍّ، وهو في هذه الآية من ذلك لأنهم إنما كانوا يَهْوَوْنَ الشهوات، ومعنى: قُلُوبُنا غُلْفٌ، أي: عليها غشاوات، فهي لا تفقه، قاله ابن عبَّاس. ثم بيَّن تعالى سبب نُفُورهم عن الإِيمان إِنما هو أنهم لُعِنُوا بما تقدَّم من كفرِهِم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنْبِ بذنْب أعظم منه، واللعن: الإبعاد والطرد. وفَقَلِيلًا: نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: فإِيماناً قَلِيلاً مَّا يؤمنون، والضمير في «يؤمنون» لحاضري محمّد صلّى الله عليه وسلم منْهُمْ ومَا في قوله: مَّا يُؤْمِنُونَ زائدةٌ موكّدة «3» .

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 448) بأرقام (1488- 1489- 1490- 1491) عن قتادة، والسدي، والضحاك، والربيع. (2) أخرجه البخاري (6/ 351) كتاب «بدء الخلق» ، باب ذكر الملائكة، حديث (3213) ، (7/ 480) كتاب «المغازي» ، باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلم من الأحزاب، حديث (4123، 4124) ، (10/ 562) كتاب «الأدب» ، باب هجاء المشركين، حديث (6153) ، ومسلم (4/ 1933) كتاب «فضائل الصحابة» ، باب فضائل حسابن بن ثابت، حديث (153/ 2486) ، وأحمد (4/ 299، 302) ، وابن حبان (7146) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 298) ، والبيهقي (10/ 237) ، والطبراني في «الكبير» (3588، 3589، 3590) كلهم من طريق عدي بن ثابت عن البراء بن عازب به. (3) قال السمين الحلبي: في نصب «قليلا» ستة أوجه: أحدها وهو الأظهر: أنه نعت لمصدر محذوف أي: فإيمانا قليلا يؤمنون. الثاني: أنه حال من ضمير ذلك المصدر المحذوف أي: فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلّته، وقد تقدّم أنه مذهب سيبويه وتقدّم تقريره. الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزمانا قليلا يؤمنون، وهو كقوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ. الرابع: أنه على إسقاط الخافض والأصل: فبقليل يؤمنون، فلمّا حذف حرف الجرّ انتصب، ويعزى لأبي عبيدة. الخامس: أن يكون حالا من فاعل «يؤمنون» ، أي فجمعا قليلا يؤمنون أي المؤمن فيهم قليل، قال معناه ابن عباس وقتادة. إلا أن المهدوي قال: «ذهب قتادة إلى أنّ المعنى: فقليل منهم من يؤمن» ، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع «قليل» . قلت: لا يلزم الرفع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لما تقدّم من أنّ نصبه على الحال واف بهذا المعنى. و «ما» على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد. -

[سورة البقرة (2) : الآيات 89 إلى 91]

[سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 91] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... الآية الكتاب: القرآن، ومُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ: يعني التوراة، ويَسْتَفْتِحُونَ معناه أن بني إِسرائيل كانوا قبل مَبْعَثِ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما علموا عنْدَهُمْ من صفته، وذكر وقته، وظنُّوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوْسَ والخَزْرجَ، فغلبتهم العَرَبُ، قالوا لهم: لو قد خرج النبيُّ الذي أظلَّ وقتُهُ، لقاتلْنَاكُم معه، واستنصرنا عليكم به، ويَسْتَفْتِحُونَ: معناه يستنصرون، قال أحمد بن نصر الداوديّ: ومنه: «عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالفَتْحِ» ، أي: بالنصر. انتهى. وروى أبو بكر/ محمد بن حُسَيْنٍ الاْجُرِّيُّ «1» عن ابن عبَّاس، قال: كانت يهود خيبر

_ - السادس: أن تكون «ما» نافية أي: فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا، ومثله: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [النمل: 62] ، وهذا قوي من جهة المعنى، وإنما يضعف شيئا من جهة تقدّم ما في حيّزها عليها، قاله أبو البقاء، وإليه ذهب ابن الأنباري، إلا أنّ تقديم ما في حيزها عليها لم يجزه البصريون، وأجازه الكوفيون. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون «ما» مصدرية، لأن «قليلا» يبقى بلا ناصب» . يعني أنّك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، ويكون المصدر مرفوعا ب «قليلا» على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17] فإنّ «ما» هناك يجوز أن تكون مصدرية لأنّ «قليلا» منصوب ب كان. وقال الزمخشري: «ويجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم» . قال أبو حيان: «وما ذهب إليه من أنّ «قليلا» يراد به النفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب» ، أعني قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة: 88] لأنّ «قليلا» انتصب بالفعل المثبت فصار نظير «قمت قليلا» أي: قمت قياما قليلا، ولا يذهب ذاهب إلى أنّك إذا أتيت بفعل مثبت وجعلت «قليلا» منصوبا نعتا لمصدر ذلك الفعل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكليّة، وإنما الذي نقل النحويون: أنّه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: «أقلّ رجل يقول ذلك، وقلّما يقوم زيد» ، وإذا تقرّر هذا فحمل القلة على النفي المحض هنا ليس بصحيح» انتهى. قلت: ما قاله أبو القاسم الزمخشري- رحمه الله- من أنّ معنى التقليل هنا النفي قد قال به الواحديّ قبله، فإنه قال: «أي: لا قليلا ولا كثيرا، كما تقول: قلّما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلا» . ينظر: «الدر المصون» (1/ 297) . (1) محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر الآجري: فقيه شافعي، محدث، نسبته إلى «آجر» (من قرى-

يُقَاتِلُونَ غَطَفَانَ، فكُلَّمَا التقوا، هزمت اليهودَ، فَعَاذَ اليهودُ يوماً بالدعاء، فقالوا: اللهم، إِنا نسألكَ بحَقِّ محمَّدٍ النبيِّ الأُمِّيِّ الذي وعدتَّنَا أن تخرجَهُ لَنَا في آخر الزمان إِلاَّ نَصَرْتَنا علَيْهم، فكانوا إِذا التقوا، دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم كَفَرُوا به، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، والاستفتاحُ: الاستنصار، ووقع ليهود المدينة نحو هذا مع الأنصار قُبَيْل الإِسلام «1» . انتهى من تأليف حسن بن عليِّ بن عبد المَلْكِ الرّهونيِّ المعروفِ بابْنِ القَطَّان، وهو كتابٌ نفيسٌ جِدًّا ألَّفه في معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلم وآيات نبوءته. وروي أن قريظة والنضير وجميعَ يَهُودِ الحجازِ في ذلك الوقْتِ كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبيِّ المنتظر، كانت نقلتهم إلى الحجاز، وسُكْناهم به، فإِنهم كانوا علموا صُقع «2» المَبْعَث، وما عرفوا هو محمّد صلّى الله عليه وسلم وشرعه ويظهر في هذه الآية العنادُ منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة وفَلَعْنَةُ اللَّهِ إبعاده لهم، وخزيهم لذلك. وبئس: أصله «بَئِسَ» ، سُهِّلت الهمزة، ونقلت حركتها إلى الباء، و «مَا» عند سيبويه «3» : فَاعِلَةٌ ب «بِئْسَ» والتقدير: بِئْسَ الذي اشتروا به أنفسُهُمْ.

_ - «بغداد» ) ولد فيها، وحدث ب «بغداد» قبل سنة 330، ثم انتقل إلى «مكة» ، فتنسك وتوفي فيها 360 هـ، له تصانيف كثيرة، منها: «أخبار عمر بن عبد العزيز» ، و «أخلاق حملة القرآن» . ينظر: «الأعلام» (6/ 97) ، «وفيات الأعيان» (1: 488) ، و «الرسالة المستطرفة» (32) ، و «صفة الصفوة» (2/ 265) ، و «النجوم الزاهرة» (4/ 60) . (1) أخرجه الحاكم (2/ 263) وقال الذهبي: عبد الملك متروك هالك. (2) الصّقع: ناحية الأرض والبيت ... وفلان من أهل هذا الصقع، أي من أهل هذه الناحية. ينظر: «لسان العرب» (2472) . [.....] (3) ذهب الفراء إلى أنها مع «بئس» شيء واحد ركّب تركيب «حبّذا» ، نقله ابن عطية، ونقل عنه المهدوي أنه يجوّز أن تكون «ما» مع بئس بمنزلة كلّما، فظاهر هذين النقلين أنها لا محلّ لها. وذهب الجمهور إلى أنّ لها محلا، ثم اختلفوا: محلّها رفع أو نصب؟ فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز والجملة بعدها في محلّ نصب صفة لها، وفاعل بئس مضمر تفسّره «ما» ، والمخصوص بالذمّ هو قوله: «أن يكفروا» لأنه في تأويل مصدر، والتقدير: بئس هو شيئا اشتروا به كفرهم، وفيه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذمّ محذوفا، و «اشتروا» صفة له في محلّ رفع تقديره: بئس شيئا شيء أو كفر اشتروا به، كقوله: [الطويل] لنعم الفتى أضحى بأكناف حائل أي: فتى أضحى، و «أن يكفروا» بدل من ذلك المحذوف، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي إلى أنّ «ما» منصوبة المحلّ أيضا، لكنه قدّر بعدها «ما» أخرى موصولة بمعنى الذي، وجعل الجملة من قوله: «اشتروا» صلتها، و «ما» هذه الموصولة هي المخصوص بالذمّ، والتقدير: بئس-

واشْتَرَوْا: بمعنى: باعوا. وبِما أَنْزَلَ اللَّهُ، يعني به القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل أن يراد الجميع من توراة، وإِنجيل، وقرآن لأن الكفر بالبعض يستلزمُ الكفر بالكلِّ، ومِنْ فَضْلِهِ، يعني: من النبوءة والرسالة، ومَنْ يَشاءُ، يعني به محمّدا صلّى الله عليه وسلم لأنهم حَسَدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، ويدخل في المعنى عيسى صلّى الله عليه وسلم لأنهم كفروا به بَغْياً، واللَّه قد تفضَّل عليه. وفَباؤُ: معناه: مَضَوْا متحمِّلين لما يذكر أنهم بَاءُوا به. وقال البخاريّ: قال قتادة: فَباؤُ: معناه: انقلبوا «1» . انتهى.

_ - شيئا الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محلّ ل «اشتروا» على هذا، ويكون «أن يكفروا» على هذا القول خبرا لمبتدأ محذوف كما تقدّم، فتلخّص في الجملة الواقعة بعد «ما» على القول بنصبها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها صفة لها فتكون في محلّ نصب أو صلة ل «ما» المحذوفة فلا محلّ لها أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محلّ رفع. وذهب سيبويه إلى أنّ موضعها رفع على أنّها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذمّ على هذا محذوف أي شيء اشتروا به أنفسهم، وعزي هذا القول أيضا للكسائي. وذهب الفراء والكسائي أيضا إلى أنّ «ما» موصولة بمعنى الذي والجملة بعدها صلتها، ونقله ابن عطية عن سيبويه، وهو أحد قولي الفارسي، والتقدير: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، فأن يكفروا هو المخصوص بالذمّ. قال أبو حيان: «وما نقله ابن عطية عن سيبويه وهم عليه» . ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي أيضا أن «ما» يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: بئس اشتراؤهم، فتكون «ما» وما في حيّزها في محلّ رفع. قال ابن عطية: «وهذا معترض بأنّ «بئس» لا تدخل على اسم معيّن يتعرّف بالإضافة للضمير» . قال أبو حيان: «وهذا لا يلزم إلا إذا نصّ أنه مرفوع بئس، أمّا إذا جعله المخصوص بالذمّ وجعل فاعل «بئس» مضمرا والتمييز محذوف لفهم المعنى، والتقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم فلا يلزم الاعتراض» . قلت: وبهذا- أعني بجعل فاعل بئس مضمرا فيها- جوّز أبو البقاء في «ما» أن تكون مصدرية، فإنه قال: «والرابع أن تكون مصدرية أي: بئس شراؤهم، وفاعل بئس على هذا مضمر لأنّ المصدر هاهنا مخصوص ليس بجنس» يعني فلا يكون فاعلا، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في «به» على «ما» والمصدرية لا يعود عليها، لأنها حرف عند الجمهور، وتقدير أدلّة كلّ فريق مذكور في المطوّلات. فهذه نهاية القول في «بئسما» و «نعمّا» والله أعلم. ينظر: «الدر المصون» (1/ 299- 300) ، و «الكتاب» (1/ 476) . (1) علقه البخاري في «صحيحه» (8/ 11) كتاب «التفسير» وقال الحافظ في «الفتح» (8/ 12) : وصله عبد بن حميد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 92 إلى 95]

وبِغَضَبٍ معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم على غَضَبٍ متقدِّم من اللَّه تعالى عليهم، قيل: لعبادتهم العِجْلَ. وقيل: لكفرهم بعيسى- عليه السلام- فالمعنى: على غَضَبٍ قد باءَ به أسلافهم، حظُّ هؤلاءِ منْهُ وافرٌ بسبب رضاهم بتلك الأفعال، وتصويبهم لها. ومُهِينٌ: مأخوذ من «الهَوَانِ» ، وهو الخلود في النَّار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين، إنما عذابه كعذابِ الذي يقام عليه الحدُّ، لا هوان فيه، بل هو تطهيرٌ له. وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، يعني لليهود: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمّد صلّى الله عليه وسلم، وهو القرآن، قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنون: التوراةَ، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ قال قتادة: أي: بما بعده «1» ، قال الفَرَّاء «2» . أي: بما سواه «3» ، ويعني به: القرآن، ووصف تعالى القرآن بأنه الحق ومُصَدِّقاً: حالٌ مؤكِّدة عند سيبَوَيْهِ. وقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ردٌّ من اللَّه تعالى عليهم، وتكذيب لهم في ذلك، واحتجاج عليهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 95] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ: بِالْبَيِّناتِ: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وسائر الآيات، وخُذُوا ما/ آتَيْناكُمْ: يعني: التوراة والشرع بِقُوَّةٍ، أي: 29 ب

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 463) برقم (1559) ، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 179) . (2) هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان، الديلمي، إمام العربية، أبو زكريا، المعروف ب «الفراء» ، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، كان يميل إلى الاعتزال، من تصانيفه: «معاني القرآن» و «المذكر والمؤنث» ، و «الحدود» في الإعراب وغيرها. توفي (207 هـ.) . ينظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» (14/ 149) ، و «بغية الوعاة» (2/ 333) ، و «النجوم الزاهرة» (2/ 85) . (3) ينظر: «معاني الفراء» (1/ 60) ، و «الطبري» (2/ 348) ، و «الوسيط» (1/ 174) ، و «بحر العلوم» (1/ 137) .

بعزمٍ، ونشاطٍ. وجِدٍّ. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ: أي: حبَّ العجْلِ، والمعنى: جُعِلَتْ قلوبهم تَشْربه، وهذا تشبيهٌ ومجازٌ عبارة عن تمكُّن أمر العِجْل في قلوبهم. وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ يحتمل أن تكون باء السببِ، ويحتمل أن تكون بمعنى «مَعَ» . وقوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أمر لمحمّد صلّى الله عليه وسلم أن يوبِّخهم لأنَّه بئس هذه الأشياء التي فَعَلْتُمْ، وأمركم بها إِيمانُكُم الذي زعمتُمْ في قولكم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ... الآية: أمر لمحمّد صلّى الله عليه وسلم أنْ يوبِّخهم، والمعنى: إِن كان لكم نعيمُهَا وحُظْوَتُهَا، وخيرها، فذلك يقتضي حرْصَكُم على الوصُول إِليها، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، والدَّارُ: اسمُ «كان» ، و «خالصة» : خبرها ومِنْ دُونِ النَّاسِ يحتملُ أن يراد ب «النَّاس» : محمّد صلّى الله عليه وسلم، ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم، وهذه آية بيّنة أعطاها الله رسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلم لأن اليهود قالَتْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، وشبه ذلك من القول، فأمر اللَّه نبيَّه أن يدعوهم إلى تمنِّي الموت، وأن يعلمهم أنه من تمنَّاه منهم مات، ففعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم ذلك، فعلموا صدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عن تمنِّيه فَرَقاً من اللَّه لِقبحِ أفعالهم ومعرفتهم بكذبِهم، وحرصاً منهم على الحَيَاة، وقيل: إِن اللَّه تعالى منعهم من التمنِّي، وقصرهم على الإِمساك عنه لتظهر الآية لنبيّه صلّى الله عليه وسلم. ت: قال عِيَاضٌ «1» : ومن الوجوه البَيِّنة في إِعجاز القُرْآن آيٌ وردتْ بتعجيز قومٍ في قضايا «2» ، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فَعَلُوا ولا قَدَرُوا على ذلك كقوله تعالى لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً «3» ... الآية: قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج «4» في هذه الآية: أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة لأنهُ قال لهم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم، وعن النبيِّ صلى الله

_ (1) ينظر: «الشفا» (ص 382- 383) . (2) قضايا: جمع قضية، وهي الحادثة الواقعة في حكم قضاء الله (تعالى) وقدره. (3) خالصة: خاصة بكم. (4) «معاني القرآن» (1/ 176) .

تعالى عليه وسلم «والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ» «1» ، يعني: يموتُ مكانه، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ «2» : من أَعجب أمرهم أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه «3» ، ولا يجيب إليه، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم. انتهى من «الشّفا» . والمراد بقوله: فَتَمَنَّوُا: أريدوهُ بقلوبكم، واسْألوهُ، هذا قَوْلُ جماعة من المفسِّرين، وقال ابن عبَّاس: المراد به السؤالُ فقطْ، وإِن لم يكن بالقَلْب «4» ، ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنَّونه أبداً، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إِلى الأيدي إِذ الأَكْثَرُ من كسب «5» العبد الخير والشرَّ، إِنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.

_ (1) ينظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 182) ، الغصة: ما تقف في الحلق، فتمنع النفس حتى تهلكه، وغص بريقه: وقع الموت به سريعا. وقد ورد هذا موقوفا على ابن عباس، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم وينظر: «الدر المنثور» (1/ 173) . (2) عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر، أبو محمد، الأموي، المعروف بالأصيلي: عالم بالحديث، والفقه. من أهل «أصيلة» (في «المغرب» ) أصله من كورة «شبدونة» ولد فيها سنة 324 هـ، ورحل به أبوه إلى «أصيلا» من بلاد العدوة، فنشأ فيها، ويقال: ولد في «أصيلا» . رحل في طلب العلم، فطاف في «الأندلس» والمشرق، ودخل «بغداد» سنة 351 هـ، وعاد إلى «الأندلس» في آخر أيام المستنصر، فمات ب «قرطبة» ، له كتاب «الدلائل على أمهات المسائل» في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة. ينظر: «الأعلام» (4/ 63) ، و «جذوة المقتبس» (239) . (3) يقدم عليه أي: على تمني الموت. ولا يجيب إليه: أي إلى تمنيه، إذا قيل له: تمنه. (4) ذكره السيوطي في «الدر» (1/ 172) بلفظ: «فاسألوا الموت» ، وعزاه لابن جرير. وذكره ابن عطية الأندلسي في «التفسير» (1/ 181) بلفظ: «السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب» . قاله ابن عباس. [.....] (5) الكسب أصله في اللغة: الجمع، قاله الجوهري: وهو طلب الرزق، يقال: كسبت شيئا واكتسبته بمعنى، وكسبت أهلي خيرا، وكسبت الرجل مالا فكسب، وهذا مما جاء على فعلته ففعل. والكواسب: الجوارح، وتكسب: تكلف الكسب، والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه: أحدها: عقد القلب وعزمه، كقوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] أي بما عزمتم عليه وقصدتموه. الوجه الثاني: من الكسب: كسب المال من التجارة، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة: 267] . فالأول للتجار، والثاني للزراع. الوجه الثالث: من الكسب: السعي والعمل، كقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] وقوله: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 39] وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [الأنعام: 70] فهذا كله للعمل، واختلف الناس في الكسب والاكتساب، هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟ -

[سورة البقرة (2) : الآيات 96 إلى 97]

وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: ظاهره الخبر، ومضمَّنه الوعيدُ لأن اللَّه سبحانه عليمٌ بالظالمينَ، وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد. [سورة البقرة (2) : الآيات 96 الى 97] وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

_ - فقالت طائفة: معناهما واحد. قال أبو الحسن علي بن أحمد: وهو الصحيح عند أهل اللغة لا فرق بينهما، وقال ذو الرمة: [البسيط] ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب. وقال الآخرون: الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، ولا يقال: يكتسب، قال الحطيئة: [البسيط] ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر قلت: والاكتساب: افتعال، وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا، وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء، ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أو في سعي. وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا ما لها فيه اجتهاد واهتمام. والقائلون بالكسب اختلفوا في حقيقته، فقالت المعتزلة: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا، وليس للرب منع فيه، ولا هو خالق فعله، ولا مكونه، ولا مريد له. وقالت الأشعرية: هو مقارنة قدرة العبد لفعله الاختياري في محل واحد هو العبد، بمعنى أنه متى خلق الله القدرة التي هي العرض مقارنة لذلك الفعل، كان ذلك الفعل اختياريا ومكسوبا للعبد بدون أن يكون لقدرته فيه مدخل أصلا، وإن لم يخلق الله تلك القدرة المقارنة للفعل، بل خلق الفعل في العبد فقط، كان ذلك الفعل اضطراريا، ولم يكن مكسوبا للعبد. وهذا الفريق صرح بأن العبد مجبور في الباطن مختار في الظاهر، فهو عنده مجبور في صورة مختار. ولا يخفى أن هذا المذهب ومذهب الجبرية واحد معنى، فيلزم على كل من المذهبين ما يلزم على الآخر، والتستر بقالب الاختيار، وصورته الظاهرية، المخالفة للواقع لا يفيد. وقال العلامة الأمير: الكسب هو صرف إرادة العبد إلى الفعل، وهو أمر اعتباري، لا يحتاج لخلق وإيجاد، وبيان ذلك: أن العبد إذا توجهت إرادته لفعل من أفعاله كالصلاة، أوجد الله (تعالى) في العبد شيئين مقترنين أحدهما فعله بالمعنى الحاصل بالمصدر أي حركاته وسكناته. والثاني قدرته المتعلقة بفعله تعلق مقارنة، وتعلقه المذكور هو فعله بالمعنى المصدري، فالسبب هو توجه إرادة العبد، والمسبب شيئان وجوديان أوجدهما المولى تعالى مقترنين وهما فعل العبد وقدرته، فلا يناسب حينئذ جعل أحدهما علة أو شرطا لآخر، وإنما السبب أو الشرط في إيجاد المؤثر لهما إرادة العبد، لكنه عادي لا عقلي. فإذا قصد العبد فعل الخير خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الخير، وخلق الخير معها. وإن قصد فعل الشر خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الشر، وخلق الشر معها. فكان هو المفوت لقدرة فعل الخير لقصده فعل الشر فيستحق الذم. ينظر: «أفعال العباد» لشيخنا عبد الرحمن إبراهيم ص 51- 54.

وقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ... الآية: وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم، وأن لا خير لهم عند اللَّه تعالى. وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: قيل: المعنى: / وأحرصُ من الذين أشركوا 30 ألأن مشركِي العَرَبِ لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، والضمير في أَحَدُهُمْ يعودُ في هذا القول على اليهودِ، وقيل: إِن الكلام تَمَّ في حياةٍ، ثم استؤنف الإِخبار عن طائفة من المشركين أنهم يودُّ أحدهم لو يُعمَّر ألف سنَةٍ، والزحزحة الإبعاد والتنحية، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وعيدٌ. وقوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... الآيةَ: أجمع أهل التفْسير أن اليهود قالتْ: جبريلُ عدوُّنا، واختلف في كيفيَّة ذلك، فقيل: إن يهود فدك «1» قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «نَسْأَلُكَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ عَرَفْتَهَا، اتبعناك، فَسَأَلُوهُ عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ، فَقَالَ: لُحُومُ الإِبِلِ، وأَلْبَانُهَا، وَسَأَلُوهُ عَنِ الشَّبَهِ فِي الوَلَدِ، فَقَالَ: أَيُّ مَاءٍ عَلاَ، كَانَ لَهُ الشَّبَهُ، وَسَأَلُوهُ عَنْ نَوْمِهِ، فَقَالَ: تَنَامُ عَيْنِي، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي، وَسَأَلُوهُ عَنْ مَنْ يَجِيئُهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَقَالَ: جِبْرِيلُ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ، قَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا لأنَّهُ مَلَكُ الحَرْبِ، وَالشَّدَائِدِ، وَالجَدْبِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَجِيئُكَ مِيكَائِيلُ مَلَكُ الرَّحْمَةِ، وَالخِصْب، والأَمْطَار، لاتَّبَعْنَاكَ» . وَفِي جِبْرِيلَ لغاتٌ: جِبْرِيلُ «2» بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، وجبريل، بفتح الجيم

_ (1) بالتحريك، وآخره كاف: قرية ب «الحجاز» ، بينها وبين «المدينة» يومان. وقيل: ثلاثة، أفاءها الله (تعالى) على رسوله (عليه السلام) صلحا. فيها عين فوّارة ونخل. ينظر: «مراصد الاطلاع» (3/ 1020) (2) قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص: «جبريل» بكسر الجيم والراء، جعلوا (جبريل) اسما واحدا على وزن (قطمير) ، وحجتهم قول الشاعر: وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء وقرأ حمزة والكسائي: «جبرئيل» بفتح الجيم والراء مهموزا، قال الشاعر: شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة ... مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها وحجتهم ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جبرئيل وميكائيل» كقولك عبد الله وعبد الرحمن، (جبر) هو العبد، و (إيل) هو الله، فأضيف (جبر) إليه وبني فقيل (جبرئيل) . وقرأ ابن كثير «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء مثل (سمويل) وهو اسم طائر. قال عبد الله بن كثير: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام فأقرأني «جبريل» فأنا لا أقرأ إلا كذلك. وقرأ يحيى عن أبي بكر: «جبرئل» على وزن (جبرعل) وهذه لغة تميم وقيس. ينظر: «العنوان في القراءات السبع» (71) ، و «حجة القراءات» (107) ، و «الحجة» (2/ 163) ، و «شرح طيبة النشر» (4/ 50) ، و «شرح شعلة» (270) ، و «معاني القراءات» للأزهري (1/ 167) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 98 إلى 104]

وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه أنه قال: رأيْتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في النَّوْمِ وهو يَقُرَأُ: جَبْرِيلَ وَمِيكَالَ، فلا أزال أقرأها أبداً كذلك. ت: يعني، واللَّه أعلم: مع اعتماده على روايتها، قال الثعلبيُّ: والصحيح المشهورُ عن ابْن كَثِيرٍ ما تقدَّم من فتح الجيم، لا ما حُكِيَ عنه في الرؤْيَا من كَسْرها. انتهى. وذكر ابن عبَّاس وغيره أنَّ جِبْر، ومِيك، وإِسْرَاف هي كلُّها بالأعجميَّة بمعنى عَبْد وممْلُوك، وإِيلُ: اللَّهُ «1» . وقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ الضمير في «إِنَّهُ» عائد على اللَّه تعالى، وفي «نَزَّلَهُ» عائدٌ على «جِبْرِيل» ، أي: بالقرآن، وسائر الوحْي، وقيل: الضمير في «إنَّهُ» عائدٌ على جبريل، وفي «نَزَّلَهُ» عائد على القرآن، وخص القلب بالذِّكْر لأنه موضع العقْل والعلْم، وتلقِّي المعارف. وبِإِذْنِ اللَّهِ: معناه: بعلْمه وتمكينه إِياه من هذه المنزلة، ومُصَدِّقاً: حال من ضمير القرآن في «نزّله» ، ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ: ما تقدَّمه من كتب اللَّه تعالى، وَهُدىً، أي: إرشاد. [سورة البقرة (2) : الآيات 98 الى 104] مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 183) .

وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ... الآيةَ: وعيدٌ وذمٌّ لمعادِي جبريلَ، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوةَ اللَّهِ لهم، وعطف جبريل وميكائل على الملائكة، وقد كان ذكْر الملائكة عمَّهما تشريفاً لهما وقيل: خُصَّا لأن اليهود ذكروهما، ونزلَتِ الآية بسببهما فذكرا لئلا تقول اليهود: إِنا لم نُعَادِ اللَّه، وجميعَ ملائكتِهِ، وعداوة العبد الله هي مَعْصِيَتُهُ، وترْكُ طاعته، ومعاداةُ أوليائه، وعداوةُ اللَّه للعبْدِ تعذيبُهُ وإظهار أثر العداوة عليه. وقوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً ... الآيةَ: قال سيبوَيْه «1» : «الواو للعطف، دخلت عليها ألف الاستفهام» ، والنبذ: الطَّرْح، ومنه المنبوذ، والعَهْد الذي نبَذُوه: هو ما أُخِذَ عليهم في التوراة من أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو محمّد صلّى الله عليه وسلم ومُصَدِّقٌ: نعْتٌ لرسولٍ، وكتابُ اللَّه: القُرْآن، وقيل: التوراة لأن مخالفتها نبذ لها، ووَراءَ ظُهُورِهِمْ مَثَلٌ لأن ما يجعل ظهريًّا، فقد زال النظَر إِلَيْه جملةً، والعرب تقول: جَعَلَ هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه. وكَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ: تشبيهٌ بمن لا يَعْلَم/ فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على 30 ب عِلْمٍ. وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ ... الآية: يعني اليهود، وتَتْلُوا: قال عطاءٌ: معناه: تقرأ «2» ، وقال ابن عبَّاس: تَتْلُوا: تتبع «3» ، وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي: على عهد مُلْكِ سليمانَ، وقال الطبريّ: اتَّبَعُوا: بمعنى: فضلّوا، وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي: على شرعه ونبوءته، والَّذي تلته الشياطينُ، قيل: إِنهم كانوا يلقون إِلى الكهنة الكَلِمَةَ من الحَقِّ معها المائةُ من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سُلَيْمَانُ، ودفَنَه تحْت كرسيِّه، فلما مات، أخرجته الشياطينُ، وقالت: إن ذلك كان علم سليمان.

_ (1) اختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال فقال الأخفش: إن الهمزة للاستفهام والواو زائدة، وهذا على رأيه في جواز زيادتها. وقال الكسائي: هي «أو» العاطفة التي بمعنى بل، وإنما حركت الواو ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة. وقال البصريون هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف، والزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئا يعطف عليه ما بعده، لذلك قدره هنا: أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا. ينظر: «الدر المصون» (1/ 316) ، و «الكتاب» (3/ 189) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 185) بلفظ: «تقرأ من التلاوة» عن عطاء. (3) أخرجه الطبري (1/ 492) برقم (1658) ، وقال العلامة أحمد شاكر: ووقع في المطبوعة «العبقري» وهو تصحيف، وتصحيحه كالآتي: الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي- ضعيف قال أبو زرعة «لا يصدق» ، وهو مترجم في «لسان الميزان» ، و «ابن أبي حاتم» (1/ 2/ 61- 62) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 185) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 183) ، وعزاه لابن جرير.

وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لما ذَكَر سليمانَ- عليه السلام- في الأنبياء، قال بعضُ اليهود: انظروا إلى محمَّد يذكر سليمانَ في الأنبياء، وما كان إِلا ساحراً. وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئةٌ من اللَّه تعالى لسليمان- عليه السلام. والسِّحْرُ والعمل به كفْرٌ، ويقتلُ السَّاحر عند مالك كُفْراً، ولا يستتابُ كالزنديقِ، وقال الشافعيُّ: يسأل عن سِحْره، فإِن كان كُفراً، استتيب منه، فإِن تاب، وإِلا قتل، وقال مالكٌ فيمَنْ يعقدُ الرجَالَ عن النساءِ: يعاقَبُ، ولا يُقْتَلُ، والناس المعلَّمون: أتباعُ الشياطين من بني إِسرائيل، وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ: «مَا» عطْفٌ على السِّحْر، فهي مفعولةٌ، وهذا على القول بأن اللَّه تعالى أنزل السِّحْرَ على الملكَيْن ليكفر به من اتبعه، ويؤمن به من تركه، أو على قول مجاهد وغيره أنَّ اللَّه تعالى أنزل على الملكَيْن الشيْءَ الذي يفرق به بين المرء وزوجه، دون السِّحْر، أو «1» على القول أن اللَّه تعالى أنزل السحر عليهما ليُعْلَم على جهة التحذير منه، والنهْيِ عنه. قال ع «2» : والتعليمُ على هذا القول، إِنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل: «إِنَّمَا» عطف على «ما» في قوله: مَا تَتْلُوا، وقيل: «ما» نافية، ردٌّ على قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وذلك أنَّ اليهود قالُوا: إن اللَّه تعالى أنزل جبريلَ وميكَائلَ بالسِّحْر، فنفى اللَّه ذلك. ت: قال عِيَاضٌ: والقِرَاءَةُ بكسر اللام من الملكَيْن شاذَّة «3» ، وبَابِل: قُطْر من الأرض، وهَارُوتُ ومَارُوتُ: بدل من الملكَيْن، وما يذكر في قصتهما مع الزُّهرةِ كُلُّه ضعيفٌ وكذا قال: ع «4» ت: قال عياض «5» : وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسِّرون في قصَّة

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 499) برقم (1680) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 183) ، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 186) . (2) «المحرر الوجيز» (1/ 186) . (3) وقرأ بها الحسن بن علي وابن عباس، كما في مختصر الشواذ ص 16 وقرأ بها أيضا أبو الأسود الدؤلي، والضحاك، وابن أبزى. ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 186) ، و «البحر المحيط» (1/ 497) ، و «الدر المصون» (1/ 321) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 187) . (5) ينظر: «الشفا» (ص 853- 855) .

هَارُوت ومَارُوت. وما رُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ- رضي اللَّه عنهما- في خَبَرِهما، وابتلائهما، فاعلم- أكرمك اللَّه- أن هذه الأخبار لم يُرْو منها سقيمٌ ولا صحيحٌ عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلم، وليس «1» هو شَيْئاً يؤخذ بقياسٍ، والذي منه في القرآن، اختلف المفسِّرون في معناه، وأنكَرَ ما قال بعضهم فيه كثيرٌ من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود، وافترائهم «2» كما نصَّه اللَّه أول الآيات. انتهى. انظره. وقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ ... الآية: ذكر ابْنُ الأعرابيِّ «3» في «اليَاقُوتَةِ» أنَّ يُعَلِّمانِ بمعنى «يُعْلِمَانِ «4» ، ويشعران» كما قال كعب بن زهير «5» : [الطويل]

_ (1) وليس هو أي ما تضمنته قصتهما. يؤخذ بقياس: يستنبط بقياس أي ليس مما يجري فيه القياس على غيره، مما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة فلا ينبغي الخوض فيه نفيا أو إثباتا. قال في «نسيم الرياض» : وهذا الذي ذكره من أنه لم يرد فيه حديث ضعيف، ولا صحيح ردوه- كما نقله السيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» - بأنه ورد من طرق كثيرة منها ما في مسند أحمد، عن ابن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعا ورواه ابن حبان، والبيهقي، وابن جرير وابن حميد في «مسنده» ، وابن أبي الدنيا وغيرهم من طرق عديدة. وقال ابن حجر في «شرح البخاري» : إن له طرقا تفيد العلم بصحته. وكذا في حواشي البرهان الحلبي، وذكره مسندا عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه سمعه صلّى الله عليه وسلم يقول: «لما أهبط الله (تعالى) آدم إلى الأرض، قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها! وقالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم. فقال الله تعالى: هلما بملكين يهبطان الأرض. قالوا: ربنا هاروت وماروت. فأهبطا، فتمثلت لهما الزهرة امرأة حسنة من البشر فراوداها عن نفسها، فقالت: لا، والله، حتى تتكلما بهذه الكلمة من الشرك، فأبيا. فذهبت وأتت بابن جار لها تحمله، فراوداها. فقالت: لا، حتى تقتلا هذا الصبي فقالا: لا. ثم راوداها مرة أخرى، فأتت بقدح خمر، فقالت: لا، حتى تشرباه. فشربا وسكرا، فتكلما بكلمة الكفر، وقتلا الصبي، فخيرهما الله (تعالى) بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا: «فعلقا بين السماء والأرض» . قال الخفاجي: وقد جمع السيوطي طرق هذا الحديث في تأليف مستقل، فبلغت نيفا وعشرين طريقا. [.....] (2) هذه الأخبار التي ذكرها بعض المفسرين منقولة من كتب اليهود في الإسرائيليات وافترائهم وكذبهم على أنبياء الله تعالى وملائكته. (3) محمد بن زياد، المعروف ب «ابن الأعرابي» ، راوية، ناسب، علامة باللغة، ولد 150 هـ من أهل «الكوفة» ، كان أحول، لم ير أحد في علم الشعر أغزر منه. له تصانيف منها: «أسماء الخيل وفرسانها» ، و «الأنواء» و «الفاضل» و «البشر» وغيرها. وتوفي 231 هـ. ينظر: «وفيات الأعيان» (1/ 492) ، و «تاريخ بغداد» (5/ 282) ، و «المقتبس» (6/ 3- 9) ، و «نزهة الألباء» (207) ، و «الأعلام» (6/ 131) . (4) وهي قراءة طلحة بن مصرف، كما في «مختصر الشواذ» (ص 16) ، و «البحر المحيط» (1/ 498) ، و «الدر المصون» (1/ 322) . (5) كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني، أبو المصرب. شاهر عالي الطبقة من أهل «نجد» ، له «ديوان-

تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ «1» وحَمَلَ هذه الآية على أن الملكين إِنما نزلا يُعْلِمَانِ بالسَّحْر، وينهَيَان عنه، وقال الجمهورُ: بل التعليمُ على عرفه. 31 أص «2» : وقوله تعالى: مِنْ أَحَدٍ: «مِنْ» هنا زائدةٌ مع المفعول لتأكيد/ استغراق الجنْس لأن أحداً من ألفاظ العموم. انتهى. ويُفَرِّقُونَ: معناه فرقةَ العِصْمَة، وقيل: معناه يُؤْخِّذُونَ «3» الرجُلَ عن المرأة حتى لا يَقْدِرَ على وطْئها، فهي أيضا فرقة، وبِإِذْنِ اللَّهِ: معناه: بعلمه، وتمكينه، ويَضُرُّهُمْ: معناه: في الآخرة، والضميرُ في علموا عائدٌ على بني إِسرائيل، وقال: اشْتَراهُ لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أنْ يعُلَّمُوا، والخَلاَقُ: النصيب والحظُّ وهو هنا بمعنى الجاه والقَدْرِ، واللامُ في قوله: «لَمَن» للقسمِ المؤذنة بأنَّ الكلام قَسَمٌ لا شرط. م: وَلَبِئْسَ مَا: أبو البقاء «4» : جواب قسم محذوف، والمخصوص بالذم

_ شعر» كان ممن اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبي صلّى الله عليه وسلم وأقام يشبب بنساء المسلمين، فهدر النبي دمه، فجاءه «كعب» مستأمنا، وقد أسلم، وأنشده لاميته المشهورة التي مطلعها: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول» فعفا عنه النبي صلّى الله عليه وسلم وخلع عليه بردته. وهو من أعرق الناس في الشعر. ينظر: «الأعلام» (5/ 226) . (1) البيت في ملحق ديوانه (258) ، و «أمالي المرتضى» (2/ 77) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 187) ، و «تفسير القرطبي» (2/ 54) ، و «الدر المصون» (322) . ويروى ملفقا من بيتين لأسيد بن أبي إياس الهذلي في «شرح أشعار الهذليين» (2/ 627) وبلا نسبة في «شرح الأشموني» (1/ 158) و «شرح شذور الذهب» (ص 468) و «مغني اللبيب» (ص 2/ 594) . والشاهد فيه استعمال الفعل «تعلّم» بمعنى «اعلم» ، فنصب به مفعولين بواسطة «أنّ» المصدريّة المؤكّدة، وهذا هو الأكثر في تعدّي هذا الفعل. (2) «المجيد» (ص 361) . (3) التأخيذ: حبس السواحر أزواجهن عن غيرهن من النساء. والتأخيذ- أيضا-: أن تحتال المرأة بحيل في منع زوجها من جماع غيرها، يقال: لفلانة أخذة تؤخذ بها الرجال عن النساء. ينظر: «لسان العرب» (36) . (4) «التبيان» (1/ 101) وأبو البقاء هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين، الإمام محبّ الدين، أبو البقاء العكبريّ، البغداديّ الضّرير، النحويّ، الحنبليّ، صاحب الإعراب. قال القفطي: أصله من «عكبرا» ، وقرأ بالرّوايات على أبي الحسن البطائحيّ، وتفقّه بالقاضي أبي يعلى الفرّاء، ولازمه حتى برع في المذهب والخلاف والأصول، وقرأ العربيّة على يحيى بن نجاح وابن الخشّاب حتى حاز قصب السّبق، وصار فيها من الرّؤساء المتقدّمين، وقصده الناس من الأقطار، وأقرأ النّحو، واللّغة، والمذهب، والخلاف، والفرائض، والحساب. ينظر: «بغية الوعاة» (2/ 38، 39) .

محذوف، أي: السحر أو الكفر، والضمير في «بِهِ» عائدٌ على السحر، أو الكفر. انتهى. وشَرَوْا: معناه: باعوا، والضمير في «يَعْلَمُونَ» عائدٌ على بني إسرائيل اتفاقا، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا: يعني: الذين اشْتَرُوا السِّحْرَ، وجوابُ: «لَوْ» : لَمَثُوبَةٌ، والمثوبةُ عند الجمهور: بمعنى الثواب. وقوله سبحانه: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يحتمل نفْيَ العلْمِ عنهم، ويحتمل: لو كانوا يعلمون عِلْماً ينفع. وقرأ جمهورُ النَّاس «1» : راعِنا من المراعاة بمعنى: فَاعِلْنَا، أي: ارعنا نَرْعَكَ، وفي هذا جَفَاءٌ أنْ يُخَاطِب به أحدٌ نبيِّهُ، وقد حضَّ اللَّه تعالى على خَفْض الصوت عنده، وتعزيرِهِ وتوقيرِهِ، وقالتْ طائفةٌ: هي لغةٌ للعرب، فكانت اليهودُ تصرفها إلى الرُّعُونَة يظهرون أنهم يريدون المراعاة، ويُبْطِنُون أنهم يريدونَ الرُّعُونَة التي هي الجَهْلُ، فنهى اللَّه المؤمنين عن هذا القول سَدًّا للذريعةِ «2» لئلاَّ يتطرق منه اليهود إِلى المحظور، وانْظُرْنا: معناه: انتظرنا، وأمهل علَيْنا، ويحتمل أن يكون المعنى: تفقَّدنا من النَّظَر، والظاهرُ عنْدي استدعاءُ نظر العَيْن المقترِنِ بتدبُّر الحال، ولما نهى اللَّه تعالى في هذه الآية، وأمر، حض بَعْدُ على السمع الذي في ضمنه الطاعةِ، وأَعلَمَ أنَّ لمن خالف أمره، فكفر- عذاباً أليماً، وهو المؤلم، وَاسْمَعُوا: معطوفٌ على قُولُوا، لا على معمولها.

_ (1) وفي مصحف عبد الله وقراءته، وقراءة أبي: «راعونا» على إسناد الفعل لضمير الجمع، وذكر أيضا أن في مصحف عبد الله (ارعونا) خاطبوه بذلك إكبارا وتعظيما إذ أقاموه مقام الجمع، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن محيصن: «راعنا» بالتنوين جعله صفة لمصدر محذوف، أي: قولا راعنا، وهو على سبيل النسب كلابن، وتامر. ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 189) ، و «البحر المحيط» (1/ 508) ، و «الدر المصون» (1/ 332) ، و «مختصر الشواذ» (ص 16) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 411) . (2) وسدّ الذّرائع: هي التّوصّل بما هو مصلحة إلى مفسدة، كما يرى الشاطبي، أو وسيلة وطريقة إلى الشيء، عن شمس الدين ابن القيم، فالشاطبي يقتصر على الذّرائع سدّا، وابن القيم يشملها سدّا وفتحا. فسدّ الذرائع وسيلة مباحة يتوصّل بها إلى ممنوع مشتمل على مفسدة. قال الباجيّ: ذهب مالك إلى المنع من سدّ الذّرائع، وهي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصّل بها إلى فعل المحظور، مثل: أن يبيع السّلعة بمائة إلى أجل، ويشتريها بخمسين نقدا، فهذا قد توصل إلى خمسين بذكر السلعة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 105 إلى 106]

[سورة البقرة (2) : الآيات 105 الى 106] مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) وقوله سبحانه: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... الآية: يتناول لفظُ الآيةِ كلَّ خير، والرحمةُ في هذه الآية عامَّة لجميعِ أنواعها، وقال قومٌ: الرحمة القرآن. وقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ... الآية: النَّسْخُ في كلام العرب، على وجهين: أحدهما: النَّقْل كنقل كتابٍ من آخر، وهذا لا مدْخَل له في هذه الآية، وورد في كتاب اللَّه تعالى في قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] . الثاني: الإِزالةُ، وهو الذي في هذه الآية، وهو منقسمٌ في اللغة على ضَرْبَيْنِ: أحدهما: يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ. والآخر: لا يثبت كقولهم: نَسَخَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ. وورد النسخ في الشَّرْع حسب هذَيْن الضربَيْن وحَدُّ «النَّاسِخ» عنْد حُذَّاق أهل السنة: الْخِطَابُ الدالُّ على ارتفاع الحُكْمِ الثَّابتِ بالخطابِ المتقدِّمِ على وجْهٍ لولاه لكان ثَابِتاً، مع تراخيه عنه. ت: قال ابن الحاجِبِ: والنَسْخُ لغةً: الإِزالة، وفي الاصطلاح: رفع الحُكْمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر «1» . انتهى من «مختصره الكبير» .

_ (1) ينظر: «البرهان» لإمام الحرمين (2/ 1293) ، «البحر المحيط» للزركشي (4/ 63) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 15) ، «سلاسل الذهب» للزركشي (ص 290) ، «التمهيد» للأسنوي (ص 435) ، «نهاية السول» له (2/ 548) ، «زوائد الأصول» له (ص 308) ، «منهاج العقول» للبدخشي (2/ 224) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (ص 87) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (2/ 7) ، «المنخول» للغزالي (ص 288) ، «المستصفى» له (1/ 107) ، «حاشية البناني» (2/ 74) ، «الإبهاج» لابن السبكي (2/ 226) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (3/ 129) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 106) ، «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 363) ، «إحكام الفصول في أحكام الأصول» للباجي (ص 389) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (4/ 463) ، «أعلام الموقعين» لابن القيم (1/ 29) ، «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (3/ 49) ، «ميزان الأصول» للسمرقندي (2/ 621، 981) ، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (2/ 185) ، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (2/ 34) ، «شرح المنار» لابن ملك (ص 91) ، «الموافقات» للشاطبي (3/-

والنسْخُ جائز على اللَّه تعالى عقلاً لأنه لا يلزم عنه محالٌ «1» ، ولا تتغيرُ صفة من صفاته تعالى/، وليست الأوامر متعلِّقة بالإِرادة، فيلزم من النسْخ أنَّ الإِرادة تغيَّرت، ولا 31 ب النسخ لطروء علْم، بل اللَّه تعالى يعلم إلى أيِّ وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه له بالثاني، والبَدَاءُ لا يجوزُ على اللَّه تعالى لأنه لا يكون إلا لطروءِ علْمٍ أو لتغيُّر إِرادة وذلك محالٌ في جهة اللَّه تعالى، وجعلت اليهود النسْخَ والبَدَاءَ واحداً، فلم يجوِّزوه، فضَلُّوا. والمنسوخُ عند أئمتنا: الحُكْم الثابتُ نفسُه، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت فيما يستقبلُ، والذي قادهم إلى ذلك مذهَبُهم في أنّ الأوامر مرادة، وأن

_ - 102) ، «تقريب الوصول» لابن جزيّ (ص 125) ، «شرح مختصر المنار» للكوراني (ص 91) ، «نشر البنود» للشنقيطي (2/ 280) ، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (ص 462) . وينظر: «تهذيب اللغة» (7/ 181) ، «لسان العرب» (6/ 4407) ، «تاج العروس» (2/ 282) ، «معيار العقول في علم الأصول» لابن المرتضى (1/ 172) ، «كشف الأسرار» (3/ 154) ، «حواشي المنار» (708) ، «العدة» (3/ 778) ، «الحدود» للباجي (ص 49) ، «اللمع» (ص 30) ، «الوصول» لابن برهان (2/ 7) ، «روضة الناظر» (26) ، «الرسالة» للشافعي (128) ، «المغني» للخبازي (250) ، «المسودة» (195) ، «شرح تنقيح الفصول» (301) ، «تقريب الوصول» (125) ، «المنتهى» لابن الحاجب (113) . (1) أجمع أهل الشرائع طرّا من المسلمين والنصارى واليهود على جوازه عقلا، وخالف في ذلك الشمعونية من اليهود متمسكين بشبه واهية. احتج الجمهور بدليل عقلي حاصله: أن المخالف لا يخلو حاله من أحد أمرين: أما إن يكون ممن يوافق على أن الله (تعالى) هو الفاعل المختار، له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض. وإما أن يكون ممن يعتبر المصلحة في أفعاله (تعالى) ، فإن كان الأول، فليس في العقل ما يمنع من أن يأمر الله بشيء في وقت وينهى عنه في وقت آخر، كأمره بالصوم في اليوم الأخير من رمضان، ونهيه عنه في اليوم الأول من شوال. وإن كان الثاني، فلا يمتنع أن يعلم الله أن في الفعل مصلحة في وقت، فيأمر به، وأن في الفعل مضرة في وقت آخر، فينهى عنه فإن المصلحة مما تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. أما اختلافها بالأشخاص فإنا نرى الغنى مصلحة لبعض الناس، والفقر مفسدة له، بينما نرى الفقر مصلحة للبعض الآخر، والغنى مفسدة له يدلنا على ذلك قول الرسول الأمين فيما يرويه عن رب العالمين: «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا الفقر، ولو أغنيته لأفسده. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده» وأما اختلافها بحسب الأحوال والأزمان، فإنا نرى الشدة والغلظة نافعة في زمان دون زمان، لا ينفع فيه إلا المداراة والمساهلة. ومثل ذلك المريض يكون تناول الدواء مفيدا له حين مرضه، فيأمره الطبيب بتناوله، ويكون مضرا له بعد سلامته، فينهاه الطبيب عنه حينئذ، أو كالغذاء الجيد لا تتحمله معدة المريض الضعيف، فينهى عنه. فإذا شفي من مرضه وسلمت معدته واحتاج إلى ما يعيد قوته، حتم عليه الطبيب تناول ما كان يمنعه عنه. واعتبر ذلك في تربية الطفل يعطى من الغذاء الخفيف ما يناسبه حتى إذا شب زيد له من متين الغذاء بمقداره. ومنع من رضاع أمه إذ كان ذلك لا يناسب بعد كبره. ينظر: «النسخ» لشيخنا إمام إبراهيم عيسى ص 20. [.....]

الحُسْن صفةٌ نفسيَّةٌ للحَسَنِ، ومراد اللَّه تعالى حَسَنٌ «1» ، وقد قامت الأدلَّة على أنَّ الأوامر لا

_ (1) لا قبح عقلا وشرعا في شيء من الأشياء من حيث كونه مخلوقا لله (تعالى) ، سواء كانت أفعال العباد أو لا لأن مالك الأمور كلها يفعل ما يشاء. وأما أفعال العباد من حيث كونها مكسوبة للعباد، فقد تتصف بالحسن والقبح الشرعيين. هذا عند الأشاعرة، وأما المعتزلة فقد قالوا: القبيح قبيح في نفسه، فيقبح من الله (تعالى) كما يقبح منا، وكذا الحسن، وقد يدركان بالعقل، فوقع الاختلاف بين الفريقين في أن العقل هل له حكم في حسن الأفعال وقبحها أم لا. بل الحاكم بهما الشرع فقط؟! وتفصيل المقام على ما في شرح «المواقف» : أن العلماء قد ذكروا أن الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان: الأول: كون الفعل صفة كمال كالعلم، وكونه صفة نقصان كالجهل، ولا نزاع بين الفريقين في أن الحسن والقبح بهذا المعنى يدركان بالعقل فإن العقل يحتم بأن العلم حسن، والجهل قبيح، ولا يتوقف على حكم الشرع بالحسن والقبح فيهما. والمعنى الثاني: كون الفعل ملائما للغرض أو منافرا له، فما وافق الغرض كان حسنا، وما خالفه كان قبيحا، وما خلا منهما لا يكون حسنا ولا قبيحا. وقد يعبر عن الحسن والقبح بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، والقبيح: ما فيه مفسدة، وما خلا عنهما لا يكون حسنا ولا قبيحا. ولا نزاع في أن الحسن والقبح بهذا المعنى أيضا عقليان، أي يدركان بالعقل، لكن هذا المعنى يختلف بالاعتبار فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه وموافق لغرضهم، ومفسدة لأوليائه ومخالف لغرضهم، والمعنى الثالث: كون الفعل متعلق المدح عاجلا والثواب آجلا، وكونه متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا. وهذا المعنى الثالث هو محل النزاع، فالحسن والقبح بهذا المعنى عند الأشعري شرعي وذلك لأنهما لا يكونان لذات الفعل، وليس للفعل صفة لأجلها يكون الفعل حسنا وقبيحا بهذا المعنى الثالث حتى يدرك العقل ما به الحسن والقبح، ويحكم بالحسن والقبح، بل كل ما أمر الشارع به فهو حسن، وكل ما نهى الشارع عنه قبيح، حتى لو عكس الأمر لانعكس الحال. وقالت المعتزلة: للفعل في نفسه (أي مع قطع النظر عن الشرع) جهة محسنة مقتضية لاستحقاق فاعله مدحا وثوابا أو مقبحة مقتضية لاستحقاق فاعله ذما وعقابا. ثم إن تلك الجهة المقتضية لهما هو ذات الفعل عند جمهور المتقدمين منهم، وصفة حقيقة زائدة على ذات الفعل عند بعض المتقدمين منهم. وقال الجبائي منهم: ليس حسن الأفعال وقبحها لذواتها ولا لصفات حقيقية لها، بل لوجوه واعتبارات وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطم اليتيم للتأديب. ثم إن المعتزلة قالوا: إن من الحسن والقبح ما يدركه العقل ضرورة من غير نظر واستدلال، كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار. ومنهما ما يدركه العقل بالنظر والاستدلال، كقبح الصدق الضار، وحسن الكذب النافع. ومنهما ما لا يدركه العقل لا بالضرورة ولا بالاستدلال، كحسن صوم آخر رمضان، وقبح صوم أول شوال، لكن إذا ورد به الشرع، وعلم أن ثمة جهة محسنة ومقبحة، فإدراكه الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه. وللماتريدية موافقة للمعتزلة في أن حسن بعض أفعال العباد وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له، ويعرفان عقلا كما يعرفان شرعا. ينظر: «نشر الطوالع» (ص 278- 280) ، «البحر المحيط» للزركشي (1/ 143، 168) ، «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 87) ، «سلاسل الذهب» للزركشي (97) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (1/ 76) ، «التمهيد» للأسنوي (61- 62) ، «نهاية السول» له (1/ 88) ، «زوائد الأصول» له (195) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 670) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (7) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 175- 180) ، «المنخول» للغزالي (8) ، «المستصفى» له (1/ 55) ، «حاشية البناني» (1/-

ترتبطُ بالإِرادة، وعلى أن الحُسْن والقُبْح في الأحكام، إِنما هو من جهة الشرع، لا بصفة نفسيَّة، والتخصيصُ من العموم يوهم أنه نسْخ، وليس «1» به لأن المخصَّص لم يتناولْه العمومُ قطُّ، ولو تناوله العموم، لكان نسخاً، والنسخ لا يجوز في الأخبار «2» ، وإِنما هو

_ - 64) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 61، 138) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (1/ 87- 88) ، «تخريج الفروع» (244) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 77- 81) ، «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 327) ، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1/ 173) ، «نسمات الأسحار» لابن عابدين (45) ، «شرح المنار» لابن ملك (35) ، «ميزان الأصول» للسمرقندي (1/ 150- 151) ، «الكوكب المنير» للفتوحي (95) . (1) معلوم أن التخصيص والنسخ يشتركان في أن كل واحد منهما بيان ما لم يرد باللفظ، إلا أنهما يفترقان في أمور، وهي أن التخصيص يبين أن العام لم يتناول المخصوص، والنسخ يرفع بعد الثبوت وأن التخصيص لا يرد إلا على العام، والنسخ يرد عليه وعلى غيره. وأنه يجب أن يكون متصلا، والنسخ لا يكون إلا متراخيا. وأنه لا يجوز إلى أن لا يبقى شيء، والنسخ يجوز. وأنه قد يكون بأدلة السمع وغيرها، والنسخ لا يجوز إلا بالسمع. وأنه يكون معلوما ومجهولا. والنسخ لا يكون إلا معلوما. وأنه لا يخرج المخصوص منه من كونه معمولا به في مستقبل الزمان، والنسخ يخرج المنسوخ عن ذلك. وأنه يرد في الأخبار والأحكام، والنسخ لا يرد إلا في الأحكام. وأن دليل الخصوص يقبل التعليل ودليل النسخ لا يقبله. ينظر: «النسخ» لشيخنا إمام إبراهيم عيسى ص 91. (2) تنوعت آراء الأصوليين في موضوع النسخ، فمنهم من ذهب إلى أن النسخ كما يكون في الأوامر والنواهي يكون في الأخبار. وينسب لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسدي حيث قالا: «قد يدخل النسخ على الأمر والنهي وعلى جميع الأخبار» ولم يفصلا، وتابعهما على هذا القول جماعة. قال أبو جعفر: «وهذا القول عظيم جدا يئول إلى الكفر» لأن قائلا لو قال: «قام فلان» ثم قال: «لم يقم» ثم قال: «نسخته» لكان كاذبا. وبعضهم ذهب إلى أن أمر الناسخ والمنسوخ موكول إلى الإمام، فله أن ينسخ ما شاء. وهذا القول أعظم لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله (تعالى) إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن، فلما ارتفع هذا بموت النبي صلّى الله عليه وسلم ارتفع النسخ. ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي، وأما الأخبار فيفصل فيها بين ما فيه حكم، فيجوز النسخ فيه، وبين ما لا حكم فيه، فلا يجوز. ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي خاصة. وهذا المذهب حكاه هبة الله بن سلامة عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة بن عمار. وهناك مذهب خامس، عليه أئمة العلماء، وهو أن النسخ إنما يكون في المتعبدات لأن لله (عز وجل) أن يتعبد خلقه بما شاء إلى أي وقت شاء، ثم يتعبدهم بغير ذلك، فيكون النسخ في الأوامر والنواهي وما كان في معناهما مثل قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور: 3] وقوله تعالى في سورة يوسف- عليه السلام-: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [يوسف: 47] فالأولى مثال للخبر الذي بمعنى النهي لأن المعنى. لا تنكحوا زانية ولا مشركة. -

مختصٌّ بالأوامر والنواهي، ورد بعض المعترضين الأمر خبراً بأن قال: أليس معناه وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أنْ تَفْعَلُوا كذا، فهذا خبر، والجوابُ أن يقال: إِن في ضمن المعنَى: إِلاَّ أنْ أنْسَخَهُ عنْكُم، وأرفعه، فكما تضمَّن لفظ الأمر ذلك الإِخبار كذلك تضمَّن هذا الاستثناءُ، وصور النسخ تختلفُ، فقد ينسخ الأثقل إِلى الأَخَفِّ، وبالعكس، وقد ينسخ المثلُ بمثلهِ ثِقَلاً وخِفَّةً، وقد ينسخ الشيء لا إِلى بدل، وقد تُنْسَخُ التلاوة دون الحُكْم، وبالعكس، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نَسْخ أحدهما دون الآخر، ونسْخُ القرآن بالقرآن، وينسخ خبر الواحدِ بخبر الواحدِ وهذا كله مُتَّفَقٌ عليه، وحُذَّاق الأئمَّة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجودٌ في قوله- عليه السلام- «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «1» ، وهو ظاهر مسائل مالك.

_ - والثانية مثال للخبر الذي بمعنى الأمر لأن المعنى «ازرعوا» وهذا المذهب عزي إلى الضحاك بن مزاحم. ينظر: «النسخ» لشيخنا إمام عيسى. (ص 18- 19) . (1) أخرجه أبو داود (3/ 290) كتاب «الوصايا» ، باب الوصية للوارث، حديث (2870) ، والترمذي (4/ 433) كتاب «الوصايا» ، باب لا وصية لوارث، حديث (2120) ، وابن ماجه (2/ 905) كتاب «الوصايا» ، باب لا وصية لوارث، حديث (2713) ، وأحمد (5/ 267) ، والطيالسي (2/ 117- منحة) رقم (2407) ، وسعيد بن منصور (427) ، والدولابي في «الكنى» (1/ 64) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/ 227) ، والبيهقي (6/ 264) كتاب «الوصايا» ، باب نسخ الوصية للوالدين، كلهم من إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلي. قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إنّ الله (تبارك وتعالى) قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى» رقم (949) من طريق الوليد بن مسلم قال: ثنا ابن جابر، ثنا سليم بن عامر، سمعت أبا أمامة، فذكر الحديث. وفي الباب عن جماعة من الصحابة وهم: عمرو بن خارجة، وأنس بن مالك، وابن عباس، وجابر، وعلي، وعبد الله بن عمرو، ومعقل بن يسار، وزيد بن أرقم، والبراء، ومجاهد مرسلا. حديث خارجة: أخرجه الترمذي (4/ 434) كتاب «الوصايا» ، باب لا وصية لوارث، حديث (2121) ، والنسائي (6/ 247) ، كتاب «الوصايا» ، باب إبطال الوصية للوارث وابن ماجة (2/ 905) كتاب «الوصايا» ، باب لا وصية لوارث، وأحمد (4/ 186، 187) ، والدارمي (2/ 419) كتاب «الوصايا» ، باب الوصية للوارث، والطيالسي (1317) ، وأبو يعلى (3/ 78) رقم (1508) ، والبيهقي (6/ 264) كتاب «الوصايا» ، باب نسخ الوصية للوالدين، كلهم من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة أن النبي صلّى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها، وإن لعابها يسيل بين كتفي، فسمعته يقول: «إن الله (عز وجل) أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» . قال الترمذي: حسن صحيح. وللحديث طريق آخر. -

ت: ويعني بالسنةِ الناسخة للقرآن الخَبَرَ المتواترَ القطعيّ، وقد أشار إلى أن هذا

_ - أخرجه الدارقطني (4/ 152) كتاب الوصايا، حديث (10) ، والبيهقي (6/ 264) كتاب «الوصايا» ، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين، عن طريق زياد بن عبد الله عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن عمرو بن خارجة مرفوعا بلفظ: «لا وصية لوارث، إلا أن يجيز الورثة» . وضعف البيهقي سنده: وأخرجه الطبراني في «الكبير» (4/ 202) رقم (4140) من طريق عبد الملك بن قدامة الجمحي عن أبيه عن خارجة بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوم الفتح وأنا عند ناقته: «ليس لوارث وصية، قد أعطى الله (عز وجل) كل ذي حق حقه، وللعاهر الحجر» . وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه ابن معين، وضعفه الناس. اهـ. قلت: ووثقه أيضا يعقوب بن سفيان فقال في «المعرفة والتاريخ» (1/ 435) : «مديني ثقة» . لكن عبد الملك هذا ضعفه الجمهور: قال البخاري في «الضعفاء» (220) : يعرف وينكر. وقال أبو زرعة الرازي: منكر الحديث «سؤالات البرذعي» (ص 356) . وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث «علل الحديث» (2435) . وقال النسائي: مدني ليس بالقوي «الضعفاء والمتروكين» (403) . وقال الدارقطني: مدني يترك «سؤالات البرقاني» (301) . حديث أنس: أخرجه ابن ماجه (2/ 906) كتاب «الوصايا» باب لا وصية لوارث، حديث (2714) ، والدارقطني (4/ 70) كتاب «الفرائض» ، حديث (8) ، والبيهقي (6/ 264- 265) كتاب «الوصايا» ، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين. من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبي سعيد عن أنس به. قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 368) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. حديث ابن عباس: أخرجه الدارقطني (4/ 97) كتاب الفرائض، حديث (89) ، والبيهقي (6/ 263) كتاب «الوصايا» ، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين. من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. قال البيهقي: عطاء: هو الخراساني، لم يدرك ابن عباس ولم يره. قاله أبو داود وغيره. وأخرجه البيهقي (6/ 263- 264) من طريق يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس. قال الحافظ في «التلخيص» (3/ 92) : حديث حسن. حديث جابر: أخرجه الدارقطني (4/ 97) كتاب «الفرائض» ، حديث (90) من طريق فضل بن سهل: ثنى إسحاق بن إبراهيم الهروي، ثنا سفيان عن عمرو عن جابر به. قال الدارقطني: الصواب مرسل. قال أبو الطيب آبادي في «التعليق المغني» (4/ 97) : إسحاق بن إبراهيم الهروي، ثم البغدادي، أبو موسى، وثقه ابن معين وغيره، وقال عبد الله بن علي بن المديني: سمعت أبي يقول: أبو موسى الهروي روى عن سفيان عن عمرو عن جابر: «لا وصية ... الحديث» . كأنه سفيان عن عمرو مرسلا، «كذا في الميزان» اهـ.

الحديث مُتَوَاتِرٌ، ذكره عند تفسير قوله تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: 180] ،

_ - وللحديث طريق آخر: أخرجه الدارقطني (4/ 152) كتاب «الوصايا» ، حديث (12) من طريق نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث، ولا إقرار بدين» . حديث علي: أخرجه الدارقطني (4/ 97) كتاب الفرائض، حديث (91) ، من طريق يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الدين قبل الوصية، ولا وصية لوارث» . ومن طريق يحيى أخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/ 190) ويحيى بن أبي أنيسة. قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، وليس بذاك. وقال النسائي: متروك الحديث. وأسند ذلك ابن عدي في «الكامل» عنهم. حديث عبد الله بن عمرو: أخرجه الدارقطني (4/ 98) كتاب «الفرائض» ، حديث (93) ، وابن عدي في «الكامل» (2/ 817) من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر: «لا وصية لوارث، إلا أن يجيز الورثة» . حديث معقل بن يسار: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (5/ 211) من طريق علي بن الحسن بن يعمر: ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال معقل بن يسار: كنا بمنى وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب ولعاب ناقته بين كتفي، ففهمت من كلامه قال: «لا وصية لوارث» . قال ابن عدي: هذا الحديث باطل بهذا الإسناد. حديث زيد بن أرقم والبراء: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 350) من طريق موسى بن عثمان الحضرمي عن أبي إسحاق عن البراء وزيد بن أرقم قالا: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم غدير «خم» ونحن نرفع غصن الشجرة عن رأسه فقال: «إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهلي، لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، ولعن الله من تولى غير مواليه. الولد للفراش وللعاهر الحجر. ليس لوارث وصية» . قال ابن عدي: موسى بن عثمان: حديثه ليس بمحفوظ. وقال أبو حاتم: متروك. ينظر: «اللسان» (6/ 125) ، و «الميزان» (4/ 214) . مرسل مجاهد: أخرجه البيهقي (6/ 264) كتاب «الوصايا» ، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين، من طريق الشافعي عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد به.

واختلف القُرَّاء في قراءة قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «نَنْسَأْهَا» بنون مفتوحةٍ، وأخرى ساكنة، وسين مفتوحة، وألف بعدها مهموزةٍ، وهذا بمعنى التأخير، وأما قراءة نافعٍ والجمهورِ: «نُنْسِهَا» من النسيان «1» ، وقرأَتْ ذلك فرقةٌ إِلاَّ أنها همزت بعد السين «2» ، فهذه بمعنى التأخير والنِّسْيَان في كلام العربِ يجيء في الأغلب ضدَّ الذكر، وقد يجيء بمعنى التَّرْك، فالمعاني الثلاثة مقولَةٌ في هذه القراءات، فما كان منها يترتَّب في لفظةَ النسيان الذي هو ضدُّ الذكْر، فمعنى الآية به: ما ننسَخْ/ من آيةٍ أو نقدِّر نسيانَكَ لها، فإنّا 32 أنأتي بخيرٍ منها لكُمْ أو مثلها في المنفعة، وما كان على معنى الترك، أو على معنى التأخيرِ، فيترتَّب فيه معانٍ، انظرها، إِنْ شئْتَ فإِنِّي آثرت الاختصار. ع «3» : والصحيح أن نسيان النبيّ صلّى الله عليه وسلم لِمَا أراد اللَّه أن يَنْسَاهُ، ولم يرد أن يثبته قرآناً- جائزٌ، فأما النِّسْيَان الذي هو آفة في البشر، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلم معصومٌ منْه قبل التبليغ، وبعد التبليغ، ما لم يحفظْه أحد من أصْحابه، وأما بعد أن يحفظ، فجائز علَيْه ما يجوز على البشر لأنه صلّى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ، وأدَّى الأمانة ومنه الحديثُ، حِينَ أَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ: «أَفِي القَوْمِ أُبَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي؟ قَالَ: حَسِبْتُ أنّها رفعت فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: لَمْ تُرْفَعْ، وَلَكِنِّي نُسِّيتُهَا» «4» . وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ: معناه: التقرير، ومعنى الآية، أن اللَّه تعالى ينسخ ما شاء، ويثبت ما شاء، ويفعل في أحكامه ما شاء، هو قدير على ذلك، وعلى كلِّ شيء، وهذا لإِنْكَارِ اليَهُودِ النَّسْخَ، وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ عمومٌ، معناه الخصوصُ، إِذ لا تدخل فيه الصفاتُ القديمةُ بدليل العقل، ولا المحالاتُ لأنها ليستْ بأشياء، والشيء في كلام العرب: الموجود، وقَدِيرٌ: اسم فاعل على المبالغةِ، قال القُشَيْرِيُّ «5» : وإِن من علم

_ (1) ينظر: «السبعة» (168) ، و «الكشف» (1/ 257) ، و «حجة القراءات» (109) ، و «العنوان» (71) ، و «الحجة» (2/ 180) ، و «شرح الطيبة» (4/ 54، 55) ، و «شرح شعلة» (272) ، و «معاني القراءات» (1/ 169) ، و «إتحاف» (1/ 411) . (2) وقد ذكر أبو حيان في البحر اثنتي عشرة قراءة لهذه اللفظة. ينظر: «البحر المحيط» (1/ 513) . (3) «المحرر الوجيز» (1/ 194) . (4) أخرجه أحمد (3/ 407) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 72) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح. (5) عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد، أبو القاسم القشيري، النيسابوري، أخذ عن أبي علي الدقاق، وأبي عبد الرحمن السلمي، ودرس الفقه على أبي بكر الطوسي، وقرأ الكلام على ابن فورك، وأبي إسحاق الأسفراييني، قال ابن السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه في كماله وبراعته. صنف التفسير الكبير، والرسالة. ولد سنة 376، ومات سنة 465.

[سورة البقرة (2) : الآيات 107 إلى 108]

أن مولاه قديرٌ على ما يريد، قَطَعَ رجاءه عن الأغيار كما قال تعالى عن إِبراهيم- عليه السلام-: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم: 37] قال أهل الإِشارة: معناه: سهلت طريقهم إِليك، وقطَعْت رجاءهم عن سواك، ثم قال: لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، [إبراهيم: 37] أي: شغلتهم بخدمتك، وأنت أولى بهم، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] ، أي: إِذا احتاجوا شيئاً، فذلل عبادك لهم، وأوصل بكرمك رعايتهم إليهم فإِنك على ذلك قديرٌ، وإِن من لزم بابه أوصل إليه محابَّه، وكفاه أسبابه، وذلل لهُ كلَّ صعب، وأورده كلَّ سهل عذبٍ من غير قطعِ شُقَّة، ولا تحمل مشقة انتهى من «التحبير» . [سورة البقرة (2) : الآيات 107 الى 108] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآيةَ: المُلْك السلطانُ، ونفوذُ الأمرِ، والإِرادةِ، وجَمْع الضمير في لَكُمْ دالٌ على أن المراد بخطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم خطابُ أمته. وقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ... الآيةَ: قال أبو العالية: إِن هذه الآية نزلَتْ حين قال بعض الصحابة للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَيْتَ ذُنُوبَنَا جَرَتْ مجرى ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم: «قَدْ أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْراً مِمَّا أعطى بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، وتَلاَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 110] ، وقال ابنُ عَبَّاس: سَبَبُهَا أنَّ رافع بن حريملة اليهوديّ سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلم تفجيرَ عُيونٍ، وغير ذلك «1» ، وقيل غير هذا، وما سئل موسى- عليه السلام- هو أَنْ يرى اللَّه جهرةً. وكنى عن الإِعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدّل، وضَلَّ: أخطأ (32 ب الطريق، والسواء مِنْ/ كل شيءٍ الوسَطُ، والمعظَمُ ومنه: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ

_ - انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 254) ، «طبقات السبكي» (3/ 243) ، «تاريخ بغداد» (11/ 83) ، «الأعلام» (4/ 180) . [.....] (1) أخرجه الطبريّ (1/ 530) برقم (1780) وقال أحمد شاكر في المطبوعة: «من قولهم» ، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام (2/ 197) اهـ. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 201) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، ولابن إسحاق.

[سورة البقرة (2) : الآيات 109 إلى 110]

[الصافات: 55] وقال حَسَّانُ بنُ ثابتٍ في رثاء النبيِّ صلّى الله عليه وسلم [الكامل] : يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِه ... بَعْدَ المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ «1» والسبيلُ: عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله تعالى لعباده. [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ... الآيةَ: قال ابنُ عَبَّاس: المراد ابنا أَخْطَبَ حُيَيٌّ وأَبُو يَاسِرً، أي: وأتباعهما «2» ، واختلف في سبب هذه الآيةِ، فقيل: إن حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ «3» ، وعمّار بن ياسر «4» أتيا بيت

_ (1) ينظر: «ديوانه» ص (66) ، و «لسان العرب» (14/ 412) (سوا) ، وبلا نسبة من «المقتضب» (2/ 274) ، و «السيرة مع الروض» (4/ 266) ، و «مجاز القرآن» (1/ 50) ، و «الكامل» (3/ 1369) . وينظر: «تفسير الطبري» (1/ 368) ، و «القرطبي» (2/ 70) ، «الدر المصون» (1/ 340) . (2) أخرجه الطبري (1/ 534) برقم (1791) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 201) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 196) . (3) حذيفة بن اليمان (واسم اليمان حسل، وقيل: حسيل) بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة فروة، ابن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض. أبو عبد الله العبسي، واليمان لقب: حسل والده. وقيل: لقب جروة بن الحارث. وقيل له ذلك لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن. من كبار الصحابة. صاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنافقين. روى عنه ابنه أبو عبيدة، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وقيس بن أبي حازم، وأبي وائل، وزيد بن وهب، وغيرهم. توفي سنة (36) بعد وفاة عثمان بأربعين ليلة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 468) ، «الإصابة» (1/ 332) ، «الثقات» (3/ 80) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 125) ، «الكاشف» (1/ 210) ، «العبر» (1/ 25) ، «الاستيعاب» (1/ 344) . (4) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم ... المذحجي أبو اليقظان. العنسي. حليف بني مخزوم. هو من السابقين الأولين إلى الإسلام ... وأمه سميّة، وهي أول من استشهد في سبيل الله (عز وجل) وأبوه وأمه من السابقين، وكان إسلام عمار بعد بضعة وثلاثين، وهو ممن عذب في الله. قال عمار: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها فقلت: ما تريد؟ فقال: ما تريد أنت؟ قلت: أريد أن أدخل على محمد وأسمع منه كلامه. فقال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا. وهو من مشاهير الصحابة رضي الله عنه. قتل مع علي ب «صفين» سنة (37) ، وله (93 سنة) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 129) ، «الإصابة» (4/ 373) ، «الثقات» (3/ 302) ، «الاستيعاب» -

المِدْرَاس «1» ، فأراد اليهودُ صرْفَهما عن دينهما، فثبتا عليه، ونزلت الآية، وقيل: إن هذه الآية تابعةٌ في المعنى لما تقدَّم من نَهْيِ اللَّه عزَّ وجلَّ عن متابعة أقوال اليهود في: راعِنا [البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودُّون أن ينزل على المؤمنين خيْرٌ، ويودُّون أن يردوهم كفاراً من بعد ما تبيَّن لهم الحق، وهو نبوءة محمّد صلّى الله عليه وسلم. ت: وقد جاءَتْ أحاديث صحيحةٌ في النهيِ عن الحسدِ، فمنْها حديثُ مالكٍ في الموطَّإ عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهُجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ» «2» وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن الزُّبَيْر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، حَالِقَتَا الدِّينِ، لاَ حَالِقَتَا الشَّعْرِ» «3» . انتهى من «التمهيد» .

_ - (3/ 1135) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 394) ، «التاريخ الصغير» (1/ 79) ، «الجرح والتعديل» (6/ 389) . (1) المدراس: البيت الذي يدرس فيه القرآن، وكذلك مدراس اليهود، وهو المقصود هنا. ينظر: «لسان العرب» (1360) . (2) أخرجه البخاري (10/ 496) في الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (6065) ، وباب الهجرة (7076) . ومسلم (4/ 1983- 1984) في البر والصلة، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر (23- 24/ 2559) وأبو داود (2/ 695) في الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم (4910) ، والترمذي (4/ 90) في البر والصلة، باب ما جاء في الحسد (1935) ، ومالك في الموطأ (2/ 907) في المهاجرة، باب ما جاء في حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة (14) . وأحمد (3/ 199، 201، 225، 277، 283) . والحميدي (1183) ، والطيالسي (2190) وعبد الرزاق (20222) ، وأبو يعلى (3261) والبيهقي (10/ 232) والبغوي في شرح السنة بتحقيقنا (6/ 490) برقم (3416) من طرق عن أنس. (3) أخرجه الترمذي (4/ 664) كتاب «صفة القيامة» ، باب (56) رقم (2510) ، وأحمد (1/ 165، 167) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 120) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد أن مولى الزبير حدثه أن الزبير بن العوام حدثه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال، فذكره. وقال الترمذي: هذا حديث قد اختلفوا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فروى بعضهم عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد، عن مولى الزبير عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن الزبير. اهـ. والطريق المرسل الذي أشار إليه الترمذي: أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 121) . وهذا الحديث أخرجه البزار (2/ 418، 419- كشف) رقم (2002) من طريق موسى بن خلف عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد مولى لآل الزبير عن ابن الزبير به. وقال البزار: هكذا رواه موسى بن خلف، ورواه هشام صاحب الدستوائي عن يحيى عن يعيش عن مولى للزبير عن الزبير. وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 33) : وإسناده جيد. قلت: وفيه نظر كما سيأتي فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 327) رقم (2500) : سئل أبو زرعة عن حديث رواه موسى بن خلف عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش مولى ابن الزبير عن الزبير أن النبي صلّى الله عليه وسلم-

والعَفْوُ: تركُ العُقُوبةِ، والصفْح: الإِعراض عن المُذْنِبِ كأنَّه يولي صفحة العُنُق، قال ابنُ عَبَّاس: هذه الآية منسوخةٌ بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [التوبة: 29] الآيةَ إلى قوله: صاغِرُونَ «1» . وقيل: بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «2» [التوبة: 5] ، وقال قوم: ليس هذا حدَّ المنسوخِ لأن هذا في نفْس الأمر كان التوقيفَ على مدَّته. ت: وينبغي للمؤمن أَن يتأدَّب بآداب هذه الآية، وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ على مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تَحْلُمُ على مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ» خرَّجه النسائيُّ «3» . انتهى من «الكوكب الدرِّيِّ» لأبي العبَّاس أحمد بن سعيد التُّجِيبِيِّ. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: مقتضاه في هذا الموضِعِ: وَعْدٌ للمؤمنين. وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ... الآية: قال الطبريُّ «4» : إِنما أمر اللَّه المؤمنين هنا بالصَّلاة والزَّكاة ليحطَّ ما تقدَّم من ميلهم إِلى قول اليهودِ: راعِنا [البقرة: 104] لأنَّ ذلك نَهْيٌ عن نوعه، وقوله: تَجِدُوهُ، أي: تجدوا ثوابه، وروى ابن المبارك في «رَقَائِقِهِ» بسنده قال: «جَاءَ رجل من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي لاَ أُحِبُّ المَوْتَ؟ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَقَدِّمْ مَالَكَ بَيْنَ يديك فإنّ

_ قال، فذكر الحديث، قال أبو زرعة: رواه علي بن المبارك، وشيبان، وحرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد بن هشام أن مولى لآل الزبير حدثه أن الزبير حدثه عن النبي صلّى الله عليه وسلم. قال أبو زرعة: الصحيح هذا، وحديث موسى بن خلف وهم. (1) أخرجه الطبري (1/ 536) برقم (1799) ، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 582) ، وذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 196) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 202) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» . وذكره الشوكاني في «تفسيره» (1/ 194) . (2) أخرجه الطبري (1/ 536) برقم (1799) عن ابن عباس، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 55) عن قتادة، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 582) عن ابن عباس، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 202) عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وذكره الشوكاني في «تفسيره» (1/ 194) . (3) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 192) من حديث عبادة بن الصامت، وقال: رواه البزار، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب. (4) «تفسير الطبري» (2/ 506) . [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 115]

المَرْءَ مَعَ مَالِهِ، إِنْ قَدَّمَهُ، أَحَبَّ أَنْ يلحقه، وإن خلفه، أحبّ التّخلّف» «1» . انتهى. 33 أوقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبرٌ في اللفظ، معناه الوعد والوعيد/. [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 115] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وقوله تعالى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، معناه: قال اليهودُ: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إِلا من كان نصارى، فجمع قولهم. ودلَّ تفريقُ نوعَيْهم على تفريقِ قولَيْهم، وهذا هو الإِيجازُ واللفُّ. وهُوداً: جمعُ هَائِدٍ «2» ، ومعناه: التائبُ الراجعُ، وكذَّبهم اللَّه تعالى، وجعل قولهم أمنيَّةً، وأمر نبيَّه- عليه السلام- بدعائهم إِلى إِظهار البُرْهان، وهو الدليلُ الذي يوقع اليقينَ، وقولهم: «لَنْ» نفي حسُنت بعده «بلى» إذ هي ردٌّ بالإيجاب في جواب النفي، حرف مرتجل لذلك، وأَسْلَمَ: معناه: استسلم، وخضَع، ودان، وخص الوجْهَ بالذكْر لكونه أشرف الأعضاء، وفيه يظهر أثر العِزِّ والذُّلِّ، وَهُوَ مُحْسِنٌ: جملة في موضعِ الحالِ. وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ ... الآية: معناه: أنه ادعى كلُّ فريقٍ أنه أحقُّ برحمةِ اللَّه من الآخر، وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم فتسابُّوا، وكَفَرَ اليهودُ بعيسى وبملَّته، وبالإِنجيلِ، وكَفَر النصارى بموسى وبالتَّوراة. ع «3» : وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها لأن الإِنجيلَ يتضمَّن صدْقَ موسى، وتقرير التَّوْراة، والتوراةَ تتضمَّن التبشير بعيسى، وكلاهما يتضمّن صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلم،

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 224) رقم (634) عن عبد الله بن عبيد به. (2) ينظر: «عمدة الحفاظ» (4/ 307) . (3) «المحرر الوجيز» (1/ 198) .

فعنفهم اللَّه تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلافُ ما قالوا. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ تنبيه لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم على ملازمة القُرْآن، والوقوف عند حدوده، والكتَابُ الذي يتلونه، قيل: هو التوراةُ والإِنجيل، فالألف واللام للْجِنْسِ، وقيل: التوراةِ لأن النصارى تمتثلُها. وقوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: كفار العَرَبِ لأنهم لا كتابَ لهم، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية، أي: فيثيب من كان على شيءٍ، ويعاقب من كان على غَيْر شيء، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ ... الآيةَ، أي: لا أحد أظلم من هؤلاء، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: المراد النصارَى الذين كانِوا يؤذون من يصلِّي ببَيْت المَقْدِسِ «1» ، وقال ابن زَيْد: المراد كُفَّار قريش حين صدّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المسجِدِ الحرامِ «2» ، وهذه الآية تتناوَلُ كلَّ من منع من مسجد إِلى يوم القيامة. وقوله سبحانه: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ... الايةَ: فمن جعل الآية في النصارى، روى أنَّه مَرَّ زمَنٌ بعْد ذلك لا يدخل نصرانيٌّ بيْتَ المَقْدِس إِلا أوجع ضرباً، قاله قتادةُ والسُّدِّيُّ «3» ، ومن جعلها في قريش، قال: كذلك نودي بأمر النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أَلاَّ يَحُجَّ مُشْرِكٌ، وَأَلاَّ يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ «4» وفَأَيْنَما «5» شرط، وتُوَلُّوا جزم به،

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 544) برقم (1822) بلفظ: «إنهم النصارى» ، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 199) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 204) ، وعزاه لابن جرير، ولفظه السيوطي: «هم النصارى» . (2) أخرجه الطبري (1/ 546) برقم (1828) وذكره ابن كثير (1/ 156) ورجح قول ابن زيد. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 199) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 107) ، ولفظه «نزلت في مشركي مكة، وأراد بالمساجد المسجد الحرام، منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية» ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 204) ، وعزاه لابن جرير. (3) أخرجه الطبري (1/ 547) برقم (1829) عن قتادة وبرقم (1831) عن السدي. وذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 199) عن قتادة والسدي. (4) أخرجه البخاري (3/ 483) ، كتاب «الحج» ، باب لا يطوف بالبيت عريان، الحديث (1622) ، ومسلم (2/ 982) ، كتاب «الحج» ، باب لا يحج البيت مشرك، الحديث (435/ 1347) واللفظ له، من حديث أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) ، في الحجّة التي أمره عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: «لا يحجّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عريان» . (5) «أين» هنا اسم شرط بمعنى «إن» و «ما» مزيدة عليها «وتولوا» مجزوم بها وزيادة «ما» ليست لازمة لها بدليل قوله: -

وفَثَمَّ: جوابه، ووَجْهُ اللَّهِ: معناه: الذي وجَّهنا إِلَيْه كما تقولُ: سافَرْتُ في وجه كذا، أي: في جهة كذا، ويتجه في بعض المواضِعِ من القرآن كهذه الآية أن يراد بالوجْهِ الجِهَةُ الَّتي فيها رضَاهُ، وعلَيْها ثوابُه كما تقول تصدَّقت لوجْهِ اللَّهِ، ويتَّجه في هذه الآية خاصَّة أن يراد بالوجه الجهةُ الَّتي وجهنا إليها في القبلة، واختلف في سبب نزولِ هذه الآية، 33 ب فقال ابنُ عُمَرَ: نزلَتْ هذه الآية في صلاة النافلةِ في السفَرِ، / حيث توجَّهت بالإِنسان دابَّته «1» ، وقال النَّخَعِيُّ: الآية عامَّة، أينما تولوا في متصرَّفاتكم ومساعِيكُمْ، فثَمَّ وجْه اللَّه، أي: موضع رضاه، وثوابه، وجهة رحمته الَّتي يوصِّل إِليها بالطاعة «2» ، وقال عبد اللَّه بن عامِرِ بنِ ربيعَةَ «3» : نَزَلَتْ فيمن اجتهد في القبلة «4» ، فأخطأ، ووَرَدَ في ذلكَ حديثٌ رواه عامرُ بن ربيعة، قال: «كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فتحرى قَوْمٌ القبلة،

_ - أين تضرب بنا العداة تجدنا ... وهي ظرف مكان، والناصب لها ما بعدها، وتكون اسم استفهام أيضا فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك «من» و «ما» وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة وهي مبنية على الفتح لتضمنه معنى حرف الشرط أو الاستفهام. ينظر «الدر المصون» (1/ 350) . (1) الطبري (1/ 550) (1839- 1840) وروي بإسنادين عن ابن عمر أولهما من طريق أبي كريب قال حدثنا ابن إدريس قال حدثنا عبد الملك عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وثانيهما من طريق أبي السائب قال حدثنا ابن فضيل عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. اهـ. وقال أحمد شاكر: «والحديث رواه أحمد أيضا (4714) عن يحيى القطان عن عبد الملك بن أبي سليمان بنحوه ورواه مسلم (1/ 195) من طريق يحيى وآخرين. وكذلك رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 4) بأسانيد من طريق عبد الملك» اهـ. وذكره البغوي في «التفسير» (1/ 108) وذكره ابن عطية (1/ 200) ، وابن كثير (1/ 158) والشوكاني في «التفسير» (1/ 197) . (2) أخرجه الطبري (1/ 551) برقم (1844) عن المثنى قال: حدثني الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: قلت للنخعي: إني كنت استيقظت- أو قال: أيقظت- شك الطبري- فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة؟ قال: مضت صلاتك، يقول الله (عز وجل) : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. اهـ. وذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 200) . (3) عبد الله بن عامر بن ربيعة بن مالك بن عامر.. حليف بني عدي بن كعب ثم حليف الخطاب والد عمرو. وهو من عنز بن وائل. أبو محمود. العنزي. الأصغر. العدوي. ولد على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل: ولد سنة 6، وتوفي سنة (85 هـ.) ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 287) ، «الإصابة» (4/ 89) ، «الثقات» (3/ 219) ، «الجرح والتعديل» (5/ 122) ، «بقي بن مخلد» (647) . (4) أخرجه الطبري (1/ 551) برقم (1845) ، وذكره ابن عطية (1/ 200) والشوكاني في «فتح القدير» (1/ 197) .

وأَعْلَمُوا عَلاَمَاتً، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أخطئوها، فعرّفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت هذه الآية» «1» .

_ (1) أخرجه أبو داود الطيالسي (ص- 156) ، الحديث (1145) ، والترمذي (2/ 176) ، كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، الحديث (345) ، وابن ماجة (1/ 326) ، كتاب «إقامة الصلاة» ، باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، الحديث (1020) ، والدارقطني (1/ 272) : كتاب «الصلاة» ، باب الاجتهاد في القبلة، الحديث (5) ، وأبو نعيم (1/ 179) ، والبيهقي (2/ 11) ، كتاب «الصلاة» ، باب استبيان الخطأ بعد الاجتهاد، وعبد بن حميد (ص- 130) ، رقم (316) ، والطبري في «تفسيره» (2/ 531) ، والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 31) ، من رواية الربيع بن السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه به، وقال الترمذي: (ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد، أبو الربيع السمان يضعف في الحديث) . وقال العقيلي: وأما حديث عامر بن ربيعة، فليس يروى من وجه يثبت متنه، وقد توبع أبو الربيع السمان. تابعه عمرو بن قيس عند الطيالسي، وسعد بن سعيد، عند عبد بن حميد لتنحصر علة الحديث في عاصم بن عبيد الله. وعاصم بن عبيد الله: قال الحافظ: ضعيف. ينظر: «التقريب» (1/ 385) . وقال العلامة أحمد شاكر في «تعليقه على الطبري» (2/ 531) ، حديث ضعيف. وقد وردت القصة من وجه آخر من حديث جابر بن عبد الله: أخرجه الحاكم (1/ 206) ، كتاب «الصلاة» ، والدارقطني (1/ 272) ، والبيهقي (2/ 10) ، من طريق داود بن عمرو، ثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر فأصابنا غيم ... » فذكره، قال الدارقطني: (كذا قال: عن محمد بن سالم وقال غيره: عن محمد بن يزيد، عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء، وهما ضعيفان) . وقال الحاكم: (رواته محتج بهم كلهم، غير محمد بن سالم، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح) . وأخرجه الدارقطني (1/ 272) ، والبيهقي (2/ 11) ، أيضا من طريق أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدت في كتاب أبي: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر (رضي الله عنهما) قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة ... » فذكر الحديث، وفيه: «فأتينا النبي صلّى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك، فسكت وأنزل الله (عز وجل) : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي حيث كنتم» . قال البيهقي: (وكذلك رواه الحسن بن علي بن شبيب العمري، ومحمد بن محمد بن سليمان الباغندي، عن أحمد بن عبيد الله، ولم نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا، وذلك لأن عاصم بن عبيد الله بن عمر العمري، ومحمد بن عبيد الله العزرمي، ومحمد بن سالم الكوفي، كلهم ضعفاء، والطريق إلى عبد الملك العزرمي غير واضح لما فيه من الوجادة وغيرها، وفي حديثه أيضا نزول الآية في ذلك، وصحيح عن عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن الآية إنما نزلت في التطوع خاصة، حيث توجه بك بعيرك) . [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 116 إلى 117]

وقيلَ: نزلت الآية حين صُدَّ رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلم عن البيت. وواسِعٌ: معناه مُتَّسِعُ الرحمة، عَلِيمٌ أين يضعها، وقيل: واسِعٌ: معناه هنا أنه يوسِّع على عباده في الحُكْم دينُهُ يُسْرٌ، عَلِيمٌ بالنيَّات التي هي ملاك العمل. [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ ... الآية: اختلف على مَنْ يعود ضميرُ «قَالُوا» ، فقيل: على النصارى، وهو الأشبه، وقيل: على اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ، وقيل: على كفرة العربِ لأنهم قالوا: الملائكة بنَاتُ اللَّه. ت: وقال أبو عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ: ويحتمل أن يعني بالآية كلُّ من تقدَّم ذكره من الكفرة، وقد تقدَّم ذكر اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، وهم المشركون، وكلُّهم قد ادعى للَّه ولداً، تعالى اللَّه عن قولهم. انتهى من «مختصر الطبريّ» . وسُبْحانَهُ: مصدر، معناه: تنزيهاً له وتبرئةً مما قالوا، والقُنُوتُ في اللغة: الطاعةُ، والقنوتُ: طول القيام، فمعنى الآية: إن المخلوقات تقنُتُ للَّه، أي: تخشع، وتطيع، والكفار قنوتُهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل: الكافر يسجد ظلُّه، وهو كاره، وبَدِيعُ: مصروف من مبدع، والمبدع: المخترع المنشئ، وخص السَّموات والأرضَ بالذكْر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جلّ وعلا. وقَضى: معناه: قدَّر، وقد يجيء بمعنى: أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنَيَانِ، والأمر: واحد الأمور، وليس هو هنا بمصدر أَمَرَ يَأْمُرُ، وتلخيص المعتَقَدِ في هذه الآية أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودِهَا، قادراً مع تأخُّر المقدورات، عالماً مع تأخُّر وقوع المعلوماتِ، فكلُّ ما في الآية ممَّا يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأموراتِ إِذ المحدَثَاتُ تجيء بعد أنْ لم تكنْ، وكل ما يستند إِلى اللَّه تعالى من قدرةٍ وعلمٍ وأمر، فهو قديمٌ لم يزَلْ، والمعنى الَّذي تقتضيه عبارةُ كُنْ هو قديمٌ قائمٌ بالذاتِ، والوضوح التامُّ في هذه المسألة [لا] يحتاج أكثر من هذا البَسْط. ت: وقد قدَّمنا ما يزيدُ هذا المعنى وضُوحاً عند قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: 34] ، فانظره.

[سورة البقرة (2) : الآيات 118 إلى 120]

[سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 120] وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ... الآية: قال الربيعُ والسُّدِّيَّ: هم كفار العرب «1» ، وقد طلب عبد اللَّه بن أمية وغيره من النبيّ صلّى الله عليه وسلم نحو هذا، وقال مجاهدٌ: هم النصارى «2» ، وقال ابن عباس: المراد من كان على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم من اليهود لأنَّ رافع بن حُرَيْمِلَةَ قال للنبيّ/ صلّى الله عليه وسلم: أسمعنا كلام الله «3» ، وقيل: الإشارة إلى 34 أجميع هذه الطوائف لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة، ولَوْلا تحضيضٌ بمعنى «هَلاَّ» ، والآية هنا العلامة الدالَّة، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم اليهودُ والنصارى في قول من جعل الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ كفَّارَ العرب، وهم اليهودُ في قول مَنْ جعل الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ النصارَى، وهم الأمم السالفة في قول من جعل الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ العربَ والنصارى واليهُودَ وتشابه القلوب هنا في طَلَب ما لا يصحّ أو في الكفر. وقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينةٌ أخرى أنَّ الكلام مدْحٌ لهم. وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً، أي: لمن آمن، ونذيراً لمن كفر، وقرأ نافع وحده «4» ولا تسأل، أي: لا تسأل عن شدَّة عذابهم كما تقول: فلانٌ لا تَسْأَلْ عَنْه، تعني أنه في نهاية تشهره من خيْرٍ أو شرٍّ. ت: وزاد في «مختصر الطبرِّي» ، قال: وتحتمل هذه القراءة معنى آخر، وهو،

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 560) برقم (1866) عن الربيع بلفظ: «هم كفار العرب» ، وبرقم (1867) عن السدي: «فهم العرب» اهـ. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 202) . (2) أخرجه الطبري (1/ 560) برقم (1862) ، (1863) من طريقين عن مجاهد. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 202) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (1/ 109) . (3) أخرجه الطبري (1/ 560) برقم (1864) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 202) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 208) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير وابن أبي حاتم. وذكره الشوكاني في «تفسيره» (1/ 199) . (4) ينظر: «السبعة» (169) ، و «الكشف» (1/ 262) ، و «حجة القراءات» (111) ، و «الحجة للقراء السبعة» (2/ 209) ، و «العنوان» (71) ، و «شرح طيبة النشر» (4/ 60) ، و «معاني القراءات» (1/ 170) ، و «شرح شعلة» (274) ، و «إتحاف» (1/ 414) .

واللَّه أعلم، أظهر، أي: ولا تسأل عنهم سؤالَ مكْتَرِثٍ «1» بما أصابهم، أو بما هم عليه من الكُفْر الذي يوردهم الجحيمَ نظيرَ قوله عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] ، وأما ما روي عن محمَّد بن كعب القُرَظِيِّ ومن وافقه من أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم سَأَلَ، مَا فَعَلَ أَبَوَايَ؟ فنَزَلَتِ الآيةُ في ذلك، فهو بعيدٌ، ولا يتصل أيضاً بمعنى مَا قبله. انتهى. وقرأ باقي السبعة: «وَلاَ تسأل» بضم التاء واللام. والْجَحِيمِ: إحدى طبقات النار. وقوله تعالى: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، أي: ما أنت عليه يا محمَّد من هدى اللَّه هو الهدَى الحقيقيُّ، لا ما يدعيه هؤلاء، ثم قال تعالى لنبيِّه: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فهذا شرط خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأمته معه داخلةٌ فيه. ت: والأدب أن يقال: خوطب به صلّى الله عليه وسلم والمراد أمّته لوجود عصمته صلّى الله عليه وسلم وكذلك الجواب في سائر ما أشبه هذا المعنى من الآيِ، وقد نبَّه- رحمه اللَّه- على هذا المعنى في نظيرتها كما سيأتي، وكان الأولى أن ينبِّه على ذلك هنا أيضاً، وقد أجاب عِيَاضٌ عن الآيِ الواردةِ في القرآن ممَّا يوهمُ ظاهره إِشكالاً، فقال- رحمه اللَّه-: اعلم، وفَّقنا اللَّه وإياك، أنه- عليه السلام- لا يصحُّ ولا يجوز علَيْه ألاَّ يبلغ، وأن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يتقوَّل «2» على اللَّه ما لا يجبُ أو يفترى عليه، أو يضل، أو يختم على قلبه «3» ، أو يطيع الكافرين، لكن اللَّه أمره بالمكاشفةِ والبيان «4» في البلاغ للمخالِفِينَ، وإن إِبلاغه، إِنْ لم يكُنْ بهذا البيان فكأنه ما بلَّغ، وطيَّب نفسه، وقوَّى قلبه بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «5» [المائدة: 67] كما قال لموسى وهارون- عليها السلام-: لاَ تَخافا [طه: 46] لتشتد بصائرهم «6» في الإبلاغ وإظهار دين الله، ويذهب

_ (1) يقال: ما أكترث به، أي ما أبالي، ولا يستعمل إلا في النفي، فإن ورد في إثبات فهو شاذ. ينظر: «لسان العرب» (3848) (كرث) . (2) أي: يكذب عليه ويفتري. (3) يختم على قلبه: يطبع عليه ما يمنعه عن قبول الحق. (4) بالمكاشفة والبيان: بكشفه له وتبيينه. (5) «ويعصمك من الناس» : أي يحميك ويصونك عنهم حتى لا يقدر أحد على شيء يضرك. (6) تشتد: تقوى، وتزيد شدة. بصائرهم: المقصود بهم موسى، وهارون، ومحمد. أي: يكونون على بصيرة ويقين في أمورهم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 121 إلى 124]

عنهمْ خَوْفُ العدوِّ المضعف لليقين، وأما قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ... [الحاقة: 44] الآية، وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [الإسراء: 75] ، فمعناه: أنّ هذا جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو صلّى الله عليه وسلم لا يفعله، وكذلك قوله تعالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 116] فالمراد غيره، كما قال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية [آل عمران: 149] وقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى: 24] ، ولَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وما أشبهه، فالمراد غيره، وأن هذا حال مَنْ أشرك، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلم لا يَجُوزُ عليه هذا، وقوله تعالَى: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: 1] ، فليس فيه أنه أطاعهم، واللَّه يَنْهَاهُ عما يشاء، ويأمره بما يشاء كما قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... [الأنعام: 52] الآية، وما كان طَرَدَهُمْ- عليه السلام- ولا كَانَ من الظالمين. انتهى من «الشِّفَا» «1» . ص «2» : وَلَئِنِ: هذه اللام هي الموطّئة والمؤذنة، وهي مشعرة بقسم مقدّر قبلها. انتهى. [سورة البقرة (2) : الآيات 121 الى 124] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ ... الآية: قال قتادة: المراد ب «الَّذِينَ» في هذا الموضع: من أسلم من أمّة النبيّ صلّى الله عليه وسلم، والكتابُ على هذا: التأويل القرآن «3» ، وقال ابنُ زَيْد: المراد مَنْ أسلم من بني إِسرائيل «4» ، والكتاب على هذا التأويل: التوراة، وآتَيْناهُمُ: معناه: أعطيناهم، ويَتْلُونَهُ: معناه: يتبعونه حقَّ اتباعه بامتثال الأمر والنهي، قال أحمد بن نَصْر الدَّاوُودِيُّ: وهذا قول ابن عباس، قال عِكْرِمَةُ: يقال: فلانٌ يتلو فلاناً، أي: يتبعه ومنه: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشمس: 2] أي: تبعها. انتهى.

_ (1) ينظر: «الشفا» (ص 717، 718) . (2) «المجيد» (ص 396) . (3) أخرجه الطبري (1/ 566) برقم (1880) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 204) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 210) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 204) . [.....]

وللَّه دَرُّ مَنِ اتبع كلامَ ربِّهِ، واقتفى سُنَّة نبيِّه، وإِن قلَّ عِلْمُهُ، قال القُضَاعِيُّ في اختصاره لِ «المدارك» : قال في ترجمة سُحْنُون «1» : كان سُحْنُون يقول: مَثَلُ العلْمِ القليلِ في الرجُلِ الصالحِ مَثَلُ العَيْنِ العَذْبَةِ في الأرض العَذْبة، يزرع علَيْها صاحبُها ما ينتفعُ به، ومَثَلُ العلْمِ الكثيرِ في الرجُلِ الطالحِ مَثَلُ العَيْن الخَرَّارة في السَّبِخَةِ تهرُّ الليلَ والنَّهارَ، ولا ينتفعُ بها. انتهى. وقيل: يَتْلُونَهُ: يقرءونه حقَّ قراءته، وهذا أيضاً يتضمَّن الاِتّباع والامتثال، وحَقَّ «2» : مصدرٌ، وهو بمعنَى أفْعل، والضمير في «بِهِ» عائدٌ على «الكتاب» ، وقيل: يعود على محمَّد صلّى الله عليه وسلم لأن مُتَّبِعِي التوراةِ يجدُونه فيها، فيؤمنون به، والضميرُ في يَكْفُرْ بِهِ يحتمل من العود ما ذكر في الأول. وقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: تقدّم بيان نظيرها، ومعنى: لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ: أنه ليستْ ثَمَّ، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحَدَّ، فيردّ، وأما الشفاعةُ التي هي في تعجيلِ الحسَابِ، فليستْ بنافعة لهؤلاءِ الكَفَرة. ت: ولم ينبِّه- رحمه اللَّه- على هذا في التي تقدَّمت أولَ السورة، وابْتَلى معناه: اختبر، وفي «مختَصَرِ الطَّبريِّ» : ابْتَلى، أي: اختبر، والاختبارُ من اللَّه عزَّ وجلَّ لعباده على علْمٍ منه سبحانه بباطِنِ أمرهم وظاهره، وإنما يبتليهم ليظهر منهم سابق علمه

_ (1) هو الإمام سحنون، أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي، القيرواني، الفقيه، الحافظ، العابد، الورع، المتفق على فضله وإمامته، اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، أخذ العلم عن أئمة من أهل المشرق والمغرب. وأخذ عنه من أئمة الرواة نحو سبعمائة، انتهت إليه الرياسة في العلم، وعليه المعول في المشكلات، وإليه الرحلة، ومدونته عليها الاعتماد في المذهب المالكي. ولد رحمه الله سنة 160 هـ. وتوفي سنة 240 هـ. وقبره ب «القيروان» . ينظر: «الديباج» (2/ 30) ، و «الشجرة الزكية» (ص 69) . (2) فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه نصب على المصدر، وأصله: «تلاوة حقا» ثم قدم الوصف وأضيف إلى المصدر، وصار نظير: «ضربت شديد الضرب» أي: ضربا شديدا، فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه. الثاني: أنه حال من فاعل يتلونه، أي: يتلونه محقين. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وقال ابن عطية: و «حق» مصدر، والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى أفعل، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى ضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: «رجل واحد أمه، ونسيج وحده» يعني أنه في قوة أفعل التفضيل بمعنى أحق التلاوة، وكأنه يرى أن إضافة أفعل غير محضة، ولا حاجة إلى تقدير عامل فيه، لأن ما قبله يطلبه. ينظر: «الدر المصون» (1/ 358) .

فيهم، وقد روي ذلك عن عليٍّ- رضي اللَّه عنه- في قوله عز وجَلَّ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: 31] فقال رضي اللَّه عنه: إِن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يزلْ عالماً بأخبارِهِمْ وخُبْرِهِمْ وما هُمْ عليه، وإن قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ، أي: حتى نسوقَكُم إِلى سابقِ علْمِي فيكم. انتهى، وهو كلام حسنٌ. وقد نبه ع: على هذا المعنى فيما يأتي، والعقيدةُ أنَّ علمه سبحانه قديمٌ، عَلِمَ كلَّ شيء قبْلَ كونه، فجرى على قَدَرِهِ لا يكون من عباده قولٌ ولا عملٌ إلا وقد قضاه، وسبق علمه به سبحانه لا إله إلا هو. وإِبْراهِيمَ: يقال: إِنَّ تفسيره بالعربيَّةِ أَبٌ رَحِيمٌ، واختلف أهل التأويل في «الكلمات» ، فقال ابن عَبَّاس: هي ثلاثُونَ سَهْماً هي الإسلام كلُّه، لم يتمَّه أحدٌ كاملاً إلا إبراهيمُ- عليه السلام- منْها في «براءة» : التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... الآية [التوبة: 112] ، وعشرة في «الأحزاب» : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... الآية [الأحزاب: 35] ، وعَشَرة في سَأَلَ سائِلٌ «1» [المعارج: 1] . ت: وقيل غير هذا. وفي «البخاريِّ» : أنه اختتن، وهو ابن ثمانينَ سنَةً بالقَدُومِ «2» ، قال الراوي: فأوحى اللَّه إليه إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً والإِمام القُدْوة. وإِنما سمِّيت هذه الخصالُ كلماتٍ لأنها/ اقترنتْ بها أوامر هي كلمات، وروي أن 35 أ

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 572) برقم (1909- 1910- 1911) ، والحاكم (2/ 552) ، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وصححه الذهبي. وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 111) ، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 205) ، وابن كثير (1/ 165) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 211) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، وابن عساكر، وذكره الشوكاني في «تفسيره» (1/ 204) . (2) أخرجه البخاري (6/ 447) كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حديث (3356) ، ومسلم (4/ 1839) كتاب «الفضائل» ، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلم، حديث (151/ 2370) ، وأحمد (2/ 418) ، والبيهقي (8/ 325) كتاب «الأشربة» ، باب السلطان يكره على الاختتان. كلهم من طريق أبي الزِّنَادِ عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اختتن إبراهيم على رأس ثمانين سنة، واختتن بالقدوم» . وللحديث طريق آخر عن أبي هريرة: أخرجه أبو يعلى (10/ 383- 384) رقم (5981) من طريق محمَّد بنِ عَمْرٍو عن أَبي سَلَمَةَ عن أبي هريرة به.

[سورة البقرة (2) : الآيات 125 إلى 126]

إبراهيم، لما أتمَّ هذه الكلماتِ أو أتمَّها اللَّه عليه، كتب اللَّه له البراءة من النَّار، فذلك قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] . وقول إبراهيم عليه السلام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هو على جهةِ الرغباءِ إلى اللَّه، أي: ومن ذريتي، يا ربِّ، فاجعل. وقوله تعالى: قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، أي: قال الله، والعهد فيما قال مجاهد: الإمامة «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 125 الى 126] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ، أي: الكعبة مَثابَةً «2» ، يحتملُ مِنْ ثَابَ إِذا رجع، ويحتمل أن تكون من الثواب، أي: يثابون هناك، وَأَمْناً للناسِ والطيرِ والوُحُوشِ إذ جعل اللَّه لها حرمةً في النفوس بحيث يَلْقَى الرجُلُ بها قاتِلَ أبيه، فلا يهيجه، وقَرَأَ جمهور الناس: «واتخذوا» ، بكسر الخاء على جهة الأمر لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، وقرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، «واتخذوا» «3» بفتح الخاء على جهة الخبر عن مَنِ اتخذه مِنْ متبعي إبراهيم- عليه السلام- ومقام إبراهيم في قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وغيرهما، وخرَّجه البُخَارِيُّ هو الحَجَر الذي ارتفع عليه إِبراهيم حينَ ضَعُف عن رفْع الحجارةِ الَّتي كان إِسماعيلُ يناوله إِياها في بنَاء البَيْت، وغَرِقَتْ قدماه فيه، ومُصَلًّى: موضع صلاة. ص «4» : مِنْ مَقامِ: مِنْ تبعيضيةٌ على الأظهر، أو بمعنى: «في» أو زائدة

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 578) برقم (1948) بلفظ: «لا يكون إمام ظالما» من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 206) ، كما ذكر المصنف. (2) قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ قيل: مكانا يثوبون إليه كل وقت على ممر الأيام وتكرر الأعوام، لا يملون منه. وقيل: مكانا يكسبون فيه الثواب. قال السمين: ولا شك أنه موجود فيه الأمران. ومنه: إن فلانا لمثابة ولمثابا، أي تأتيه الناس لمعروفه، ويرجعون إليه مرة أخرى. ينظر: «عمدة الحفاظ» (1/ 339) ، و «غريب القرآن» لابن قتيبة (63) . (3) ينظر: «حجة القراءات» (113) ، و «الحجة» (2/ 220) ، و «العنوان» (71) ، و «شرح الطيبة» (4/ 67) ، و «إتحاف» (1/ 417) . (4) «المجيد» (ص 402) .

على مذهب الأخفش، والمقامُ: مَفْعَلٌ من القيامِ، والمراد به هنا المكانُ، انتهى، يعني: المكانَ الذي فيه الحَجَر المسمى بالمقام. وقوله تعالى: وَعَهِدْنا: العَهْدُ في اللغة: على أقسام، هذا منها، الوصية بمعنى الأمر، وطَهِّرا: قيل: معناه: ابنياه وأسِّساه على طَهَارَةٍ ونيَّةِ طَهَارَةٍ، وقال مجاهدٌ: هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان «1» ، ولِلطَّائِفِينَ ظاهره: أهل الطوافِ، وَقَالَهُ عطاء وغيره «2» ، وقال ابن جُبَيْر: معناه: للغرباءِ الطارئِينَ على مكَّة «3» ، وَالْعاكِفِينَ: قال ابن جُبَيْر: هم أهل البلد المقيمُونَ «4» ، وقال عطاء: هم المجاورُونَ بمكَّة «5» ، وقال ابنُ عبَّاس: المصَلُّون «6» ، وقال غيره المعتكفُونَ، والعكُوف في اللغة: الملازمة. وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، أيْ: من الجبابرة والعدُوِّ المستأصل، وروي أن اللَّه تعالى، لما دعاه إِبراهيم، أمر جبريل، فاقتلع فِلَسْطِينَ، وقيل: بقعة من الأرْدُنِّ «7» ، فطاف بها حَوْلَ البيتِ سبْعاً، وأنزلها بِوَج «8» ، فسمِّيت الطَّائِفَ «9» بسبب الطواف. وقوله تعالى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ... الآية: قال أبيُّ بن كَعْب، وابن إسحاقَ، وغيرهما: هذا القَوْلُ من اللَّه عزَّ وجلَّ لإِبراهيم «10» ، وقال ابنُ عَبَّاس، وغيره:

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 588) برقم (2016) بلفظ: «من الأوثان» ، وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 208) . (2) أخرجه الطبري (1/ 588) برقم (2020) بلفظ: «إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين» . وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 208) . (3) أخرجه الطبري (1/ 588) برقم (2019) بلفظ: «من أتاه من غربة» ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 208) . (4) أخرجه الطبري (1/ 589) برقم (2023) ، وابن عطية الأندلسي في «التفسير» (1/ 208) . (5) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 208) . (6) أخرجه الطبري (1/ 589) برقم (2025) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 208) . [.....] (7) الأردن: كورة واسعة منها «الغور» ، و «طبريّة» ، و «صور» ، و «عكّا» ، وما بين ذلك. ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 54) . (8) بالفتح، ثم التشديد: واد موضع بالطائف به كانت غزاة النبي عليه السلام. ينظر: «مراصد الاطلاع» (3/ 1426) . (9) كانت تسمى قديما «وجّ» ، وسمّيت «الطائف» لما أطيف عليها الحائط وهي ناحية ذات نخيل وأعناب ومزارع وأودية، وهي على ظهر جبل غزوان. ينظر: «مراصد الاطلاع» (2/ 877) . (10) أخرجه الطبري (1/ 594) برقم (2035) عن أبي بن كعب، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 209) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 233) ، والشوكاني في «التفسير» (1/ 208) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 إلى 129]

هذا القول من إِبراهيم «1» . قال ع «2» : فكأنَّ إِبراهيم دعا للمؤمنين، وعلى الكافرين، وفي «مختصر الطبريِّ» : وقرأ بعضهم، «فأُمْتِعْهُ» بالجزم، والقَطْع على الدعاء «3» ، ورآه دعاءً من إِبراهيم، وروي ذلك عن أبي العالية، كان ابنُ عبَّاس يقول: ذلك قولُ إبراهيم، سأل ربَّه أنَّ من كَفَر به، فأمتعه قليلاً يقول: فارزقه قليلاً، ثم اضطره إِلى عذاب النارِ، أي: أَلْجِئْهُ. انتهى، وعلى هذِهِ القراءةِ يجيءُ قولُ ابن عبّاس، لا على قراءة الجمهور، وقَلِيلًا: معناه: مُدَّة العُمُر لأن متاع الدنيا قليلٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ... الآية: القواعدُ: جمع قاعدةٍ، وهي الأساس. ص «4» : القواعدُ، قال الكسائيُّ والفَرَّاء: هي الجُدُر، وقال أبو عُبَيْدة: هي الأساس. انتهى. واختلفوا في قصص البَيْت، فقيل: إِن آدم أمر بِبِنَائِهِ، ثم دثر، ودرس حتى دلَّ عليه

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 594) برقم (2037) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 233) ، والشوكاني في «التفسير» (1/ 208) . (2) «المحرر الوجيز» (1/ 209) . (3) وهي قراءة شاذة، كما في «المحتسب» (1/ 104) ، ونسبها لابن عباس- رضي الله عنهما- قال ابن جني: فيحتمل أمرين: أحدهما: - وهو الظاهر- أن يكون الفاعل في «قال» ضمير إبراهيم عليه السلام، أي قال إبراهيم أيضا: ومن كفر فأمتعه يا رب ثم اضطره يا رب ... وأما الآخر فهو أن يكون الفاعل في «قال» ضمير اسم الله تعالى أي: فأمتعه يا خالق، أو فأمتعه يا قادر، أو يا مالك، أو يا إله، يخاطب بذلك نفسه (عز وجل) ، فجرى هذا على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه، كقراءة من قرأ: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259] أي: أعلم يا إنسان. وكقول الأعشى: [البسيط] وهل تطيق وداعا أيها الرجل. (4) «المجيد» (ص 408) .

إبراهيم، فرفع قواعده، وقيل: إِن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر اللَّه، وقيل غير هذا. ع «1» : والذي يصحُّ من هذا كلِّه أن اللَّه سبحانه أمر إبراهيم برفع قواعد البيت، / 35 ب وجَائِزٌ قِدَمُهُ، وجَائز أن يكون ذلك ابتداءً، ولا يرجح شيء من ذلك إِلا بسند يقطع العُذْر. وَإِسْماعِيلُ: عطْفٌ على إِبْراهِيمُ، والتقديرُ: يقولاَنِ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أي: السميع لدعائنا، العليمُ بنيَّاتنا، وخصَّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما، وقولهما: اجْعَلْنا بمعنى: صيِّرنا مُسْلِمَيْن، وكذلك كانا، وإنما أرادا التثبيتَ والدوامَ، والإِسلام في هذا الموضعِ. الإِيمانُ والأعمالُ جميعاً، «ومِنْ» في قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا للتبعيض لأن اللَّه تعالى قد كان أعلمه أنَّ منهم ظالمين، والأُمَّة: الجماعةُ، وَأَرِنا قالتْ طائفةٌ: من رؤية البصَرِ، وقالت طائفةٌ: من رؤية القلبِ، وهذا لا يصحُّ، قال قتادة: المناسكُ معالم الحجِّ، واختلف في معنى طلبهم التوبةَ، وهم أنبياء معصومُونَ، فقالتْ طائفةٌ: طلبا التثْبيتَ والدوامَ، وقيل: أرادا من بعدهما مِنَ الذُّرِّيَّة، وقيل، وهو الأحسن إِنهما لما عرفا المناسكَ، وبنيا البيتَ، أرادا أن يسنا للناس أنَّ تلك المواطنَ مكانُ التنصُّل من الذنوبِ، وطلبِ التوبة. وقال الطبريُّ: إِنه ليس أحد من خلق اللَّه إِلا بينه وبين اللَّه معانٍ يحب أنْ تكون أحسن ممَّا هي، وأجمعت الأمة على عصْمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر الَّتي فيها رذيلةٌ، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومُونَ من الجميع «2» ، وأنّ قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنِّي لأَتُوبُ فِي اليَوْمِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ سَبْعِينَ

_ (1) «المحرر الوجيز» (1/ 210) . (2) وفي «شرح المواقف» : أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم عن تعمد الكذب في دعوى الرسالة وما يبلغونه من الله (تعالى) إلى الخلائق، وفي جواز صدور الكذب عنهم فيما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمة لدلالة المعجزة على صدقهم في تبليغ الأحكام. وجوز القاضي أبو بكر، وقال: إنما دلت المعجزة على صدقه فيما هو متذكر له عامد إليه، وأما ما كان من النسيان وفلتات اللسان، فلا دلالة للمعجزة على الصدق فيه، فلا يلزم من الكذب هناك نقص لدلالتها. وأما ما سوى الكذب في التبليغ، فهو إما كفر أو غيره من المعاصي، أما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم عنه قبل النبوة وبعدها. وجوز الشيعة إظهار الكفر وقاية لنفسه عند الهلاك، وذلك باطل لأنه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية لضعفهم وقلة موافقتهم وكثرة مخالفتهم عند دعوتهم أولا. وأيضا منقوض بدعوة إبراهيم وموسى (عليهما السلام) في زمن نمرود وفرعون مع شدة خوف الهلاك. وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر، وكل منهما إما أن يصدر عمدا أو سهوا، فالأقسام أربعة، وكل واحد منهما إما قبل البعثة أو بعدها،

مَرَّةً» ، إِنَّما هُوَ رُجُوعُهُ مِنْ حَالَةٍ إلى أَرْفَعَ مِنْهَا لِتَزَيُّدِ علومه، وإطلاعه على أمر ربه، فهو يتوب من منزلة إلى أعلى، والتوبةُ هنا لُغَوِيَّةٌ، وقوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... الآية: هذا هو الذي أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وبشرى عيسى» ، ومعنى مِنْهُمْ، أي: يعرفُوهُ، ويتحقَّقوا فضلَه، ويشفق عليهم، ويحرص. ت: وقد تواتَرَتْ أخبار نبيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم وبعثته في الكتب السالفة، وعَلِمَ بذلك الأحْبارُ، وأخبروا به، وبتعيين الزَّمَن الذي يبعث فيه. وقد روى البيهقيّ أحمد بن الحسين «1» ...

_ - فالأقسام ثمانية. أما صدور الكبائر عنهم عمدا، فمنعه الجمهور من محققي الأشاعرة والمعتزلة، وأما صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل، فجوزه الأكثرون، والمختار خلافه. وأما الصغائر عمدا فجوزه الجمهور خلافا للجبائي. وأما صدورها سهوا، فهو جائز باتفاق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه، إلا الصغائر التي تدل على الخسة ودناءة الهمة، كسرقة حبة أو لقمة فإنها لا تجوز أصلا، عمدا ولا سهوا. وهذا كله بعد الاتصاف بالنبوة. وأما قبلها فعند أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة (أقول: أي عمدا كان أو سهوا) وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب عنها لأن صدور الكبيرة يوجب النفرة ممن ارتكبها، والمنفور عنه لا يتبعه الناس، فتفوت مصلحة البعثة. وفي «شرح العقائد» : ومن المعتزلة من منع ما ينفر الطباع عن متابعتهم، سواء كان ذنبا لهم أو لا، كعهر الأمهات، أي كونهن زانيات، والفجور في الآباء ودنائتهم أو استرذالهم. كذا في شرح «المواقف» . وفي شرح «العقائد» : أنه الحق. ولعل ضميري الجمع في «دنائتهم، واسترذالهم» راجعان إلى الأنبياء، ولا يبعد رجوعهما إلى الآباء. وعند الروافض: لا يجوز صغيرة ولا كبيرة، لا عمدا ولا سهوا، ولا خطأ في التأويل قبل الوحي وبعده. والمفهوم من شرح «العقائد» : أن الشيعة كالروافض في هذا الحكم إلا أنهم جوزوا إظهار الكفر عند خوف الهلاك. تنبيه: العصمة عندنا على ما يقتضيه أصلنا من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء: ألا يخلق الله (تعالى) فيهم ذنبا. وهي عند الفلاسفة بناء على ما ذهبوا إليه من القول بإيجاب الفعل عند استعداد القوابل ملكة، أي صفة نفسانية راسخة تمنع صاحبها من الفجور، وتحصل هذه الصفة النفسانية ابتداء بالعلم بمعايب المعاصي ومناقب الطاعات، وتتأكد وتترسخ هذه الصفة في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر والنواهي، والاعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر وترك الأولى فإن الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا، أي غير راسخة ثم تصير ملكات، أي راسخة في محلها، كذا في شرح «المواقف» . ينظر: «نشر الطوالع» (338- 342) . (1) أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، الإمام الحافظ الكبير، أبو بكر البيهقي سمع الكثير ورحل وجمع وصنف، مولده سنة 384، تفقه على ناصر العمري، وأخذ علم الحديث عن أبي عبد الله الحاكم، وكان كثير التحقيق والإنصاف، قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منه إلا البيهقي، فإن له على الشافعي منه لتصانيفه في نصرة مذهبه، ومن تصانيفه: «السنن الكبير» ، و «السنن الصغير» ، -

وغيره عن طلحة بن عُبَيْد اللَّه «1» - رضي اللَّه عنه- قَالَ: «حَضَرْتُ سُوقَ بصرى، فَإِذَا رَاهِبٌ في صومعة، يقول: سَلُوا أَهْلَ هَذَا المَوْسِمِ، أفيهِمْ مَنْ هو مِنْ هذا الحَرَمِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا، فما تَشَاءُ؟ قَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: ومَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: أحمدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إلى نَخْلٍ وَسِبَاخٍ، إِذَا كَانَ، فَلاَ تُسْبَقَنَّ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، وَأَسْرَعْتُ اللَّحَاق بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتَ، هَلْ ظَهَرَ بَعْدِي أَمْرٌ؟ فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ الأُمِّيُّ قَدْ تَنَبَّأَ، وَتَبِعَهُ أبو بَكْرِ بْنُ أبِي قُحَافَةَ، فَمَشَيْتُ إلى أَبِي بَكْرٍ، وَأَدْخَلَنِي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمْتُ» «2» ، وقد روى العُذْرِيُّ وغيره عن أبي بكر- رضي اللَّه عنه- أنَّه قَالَ: «لقيتُ شيخاً باليمن، فقال لي: أنْتَ حَرَمِيٌّ، فقلت: نعم، فقال: وأحسبكَ قُرَشِيًّا، قلت: نعم، قال: بَقِيَتْ لِي فيكَ واحدةٌ، اكشف لي عن بَطْنك، قُلْتُ: لا أفعل، أو تخبرني لِمَ ذلك، قال: أجدُ في العلْمِ الصحيحِ أن نبيًّا يبعثُ في الحرمين يقارنه على أمره فتًى وكَهْل، أمَّا الفتى، فخوَّاض غمراتٍ، ودفَّاع مُعْضِلاَتٍ، وأما الكَهْل، فأبيضُ نحيفٌ على بطنه شَامَةٌ، وعلى فَخِذِهِ اليسرى علامةٌ، وما عليك أنْ تريني ما سألتُكَ عَنْه، فقد تكامَلَتْ فيك الصِّفَةُ، إِلا/ ما خَفِيَ علَيَّ؟ قال أبو بكر: فكَشَفْتُ له عَنْ بطني، فرأى شامَةً سوداء فوق سُرَّتي، فقالَ: أَنْتَ هو وربِّ الكعبة، إِني متقدِّم إِليك في أمْرٍ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قال: إِيَّاكَ، والمَيْلَ عن الهدى،

_ - و «دلائل النبوة» وغيرها. مات سنة 458. ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 220) ، «الأعلام» (1/ 113) . (1) هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ... أبو محمد القرشي. التيمي، أحد العشرة. يعرف ب «طلحة الخير» . قال ابن حجر في «الإصابة» هو أحد العشرة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشورى. روى عن النبي، وعنه: بنوه يحيى، وموسى، وعيسى، وقيس بن أبي حازم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والأحنف، ومالك بن أبي عامر، وغيرهم ... وكان عند وقعة بدر في تجارة في «الشام» ، فضرب له النبي بسهمه وأجره، وشهد «أحدا» ، وأبلى فيها بلاء حسنا، ووقى النبي بنفسه، واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه. توفي في جمادى الأولى سنة (36) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 85) ، «البداية والنهاية» (7/ 47) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 20) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 264) ، «شذرات الذهب» (1/ 42، 43، 59) ، «الإصابة» (3/ 290) ، «التعديل والتجريح» (421) ، «الاستبصار» (116، 134، 160) ، «التاريخ الصغير» (69، 75) ، «الرياض المستطابة» (135) ، «الرياض النضرة» (1/ 33) ، «تهذيب الكمال» (2/ 628) . [.....] (2) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 165- 166) عن طلحة بن عبيد الله.

وعليك بالتمسُّك بالطريقةِ الوسطى، وخَفِ اللَّه فيما خَوَّلَكَ، وأعطى، قال أبو بكر: فلمَّا ودعتُهُ، قال: أَتَحْمِلُ عنِّي إِلى ذلك النبيِّ أبياتاً، قلت: نعم، فأنشأ الشيخ يَقُولُ: [الطويل] أَلَمْ تَرَ أَنِّي قَدْ سَئِمْتُ مُعَاشِرِي ... وَنَفْسِي وَقَدْ أَصْبَحْتُ فِي الحَيِّ عَاهِنَا حَيِيتُ وَفِي الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ عِبْرَةٌ ... ثَلاَثَ مِئينَ بَعْدَ تِسْعِينَ آمِنَا وَقَدْ خَمَدَتْ مِنِّي شَرَارَةُ قُوَّتِي ... وَأُلْفِيتُ شَيْخاً لاَ أُطِيقُ الشِّوَاحِنَا وَأَنْتَ وَرَبِّ الَبْيتِ تَأْتِي مُحَمَّداً ... لِعَامِكَ هَذَا قَدْ أَقَامَ البَرَاهِنَا فَحَيِّ رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... على دِينِهِ أَحْيَا وَإِنْ كُنْتُ قَاطِنَا قال أبو بكر: فحفظْتُ شعره، وقدمت مكّة، وقد بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فجاءني صناديد «1» قُرَيْشٍ، وقالوا: يا أبا بكْرٍ، يتيمُ أَبِي طالِبٍ، يَزْعُم أنه نبيٌّ، قال: فجئت إلى منزل النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقرعْتُ علَيْه، فخرَجَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، فُقِدْتَ مِنْ مَنَازِلِ قَوْمِكَ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَآمِنْ بِاللَّهِ، فَقُلْتُ وَمَا دَلِيلُكَ؟ قَالَ: الشَّيْخُ الَّراهِبُ الَّذِي لَقِيتَهُ بِاليَمَنِ، قُلْتُ: وَكَمْ مِنْ شَيْخٍ لَقِيتُ! قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الشَّيْخَ الَّذِي أَفَادَكَ الأَبْيَاتَ، قُلْتُ: وَمَنْ أَخْبَرَكَ بِهَا؟ قَالَ: الرُّوحُ الأمِينُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي الأَنْبِيَاءَ قَبْلِي، قُلْتُ: مُدَّ يَمِينَكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فانصرفت وَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَشَدُّ مِنْ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَرَحاً بِإِسْلاَمِي» . انتهى من تأليف ابن القَطَّان في «الآيات والمعجزات» . ويَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، أي: آيات القرآن، والْكِتابَ: القرآن، قال قتادة: وَالْحِكْمَةَ السنة «2» ، وروى ابن وهْب «3» عن مالكٍ أن الْحِكْمَةَ: الفقْهُ في الدين «4» ، والفهم الذي هو سجيَّة ونور من الله تعالى.

_ (1) هم أشرافهم وعظماؤهم، واحدها صنديد. ينظر: «لسان العرب» (2507) . (2) أخرجه الطبري (1/ 607) برقم (2083) وذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 212) والسيوطي في «الدر» (1/ 255) ، وعزاه لعبد بن حميد، ابن جرير. وذكره ابن كثير (1/ 184) . (3) ابن وهب هو أبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي، مولاهم. روى عن علماء كثيرين منهم مالك، والليث، وابن أبي ذئب، والسفيانان. وقرأ على نافع بن أبي نعيم، تفقه بمالك، والليث، وابن أبي دينار، وأبي حازم، وغيرهم. له مصنفات كثيرة، منها: سماعه من مالك، وجامعه الكبير، وكان مولده سنة خمس ب «مصر» وتوفي يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائة. ينظر: «الديباج المذهب» (1/ 413) ، و «تذكرة الحفاظ» (1/ 277) ، و «البداية والنهاية» (10/ 240) . (4) أخرجه الطبري (1/ 607) برقم (2084) ، وذكره ابن عطية (1/ 212) ، وابن كثير (1/ 184) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 إلى 133]

ت: ونقل عِيَاضٌ في «مداركه» عن مالك أن الْحِكْمَةَ نورٌ يقذفه اللَّه في قلب العبد، وقال أيضاً: يقع في قلبي أنَّ الْحِكْمَةَ الفقْهُ في دين اللَّه، وأمر يدخلُه اللَّه القلُوبَ من رحمته وفَضْله، وقال أيضاً: الْحِكْمَةَ التفكُّر في أمر اللَّه، والاتِّباعُ له، والفقْه في الدِّين، والعمل به. انتهى. وقد أشار ع: إلى هذا عند قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ «1» [البقرة: 269] . ت: والظاهر أن المراد ب الْحِكْمَةَ هنا: ما قاله قتادة، فتأمَّله. وَيُزَكِّيهِمْ: معناه يطَهِّرهم، وينمِّيهم بالخَيْر، والْعَزِيزُ: الّذي يغلب، ويتم مراده، والْحَكِيمُ: المصيب مواقع الفعل، المحكم لها. [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 133] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) وقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ ... الآية: «من» : استفهام، والمعنى: ومن يزهد منها، ويربأ بنفسه عنها إِلا مَنْ سفه نفسه، والملَّة: الشريعة والطريقَةُ، وسَفِهَ من السَّفَه الَّذي معناه الرِّقَّة والْخِفَّة، واصطفى من الصَّفْوَة، معناه: تخيَّر الأصفى، ومعنى هذا الاِصطفاءِ أنه نبأه، واتَّخذه خليلاً. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ: قيل: المعنى أنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضافٍ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ كان هذا القول من اللَّه تعالى حين ابتلاه بالكوكبِ والقمرِ والشمس والإِسلامُ هنا على أتمِّ وجوهِهِ، والضميرُ في «بِهَا» عائدٌ على كلمته التي هي أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وقيلَ: على الملة، والأول أصوبُ لأنه أقرب مذكور. وَيَعْقُوبُ: قيل: عطْفٌ على إِبْراهِيمُ، وقيل: مقطوعٌ منفردٌ بقوله: يَا بَنِيَّ، والتقدير: ويعقوب قال: يا بنيّ/. 36 ب

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 364) .

واصْطَفى هنا: معناه: تخيَّر صفوةَ الأديان. وقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: إِيجاز بليغ، وذلك أنَّ المقصود من أمرهم بالإِسلام الدوامُ علَيْه، فأتى بلفظ موجَزٍ يقتضي المقصودَ، ويتضمَّن وعظاً وتذكيراً بالموت، وذلك أن المرء يتحقَّق أنه يموت، ولا يدري متى، فإِذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إِلاَّ وهو عليه، فقد توجَّه من وقت الأمر دائباً لازماً. وقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ هذا الخطابُ لليهودِ والنصارَى الذين انتحلوا الأنبياءَ- صلوات اللَّه عليهم- ونَسَبوهم إِلَى اليهوديَّة والنصرانية، فردَّ اللَّه عليهم وكذَّبهم، وأعلمهم أنهم كانُوا على الحنيفيَّة الإِسلامِ، وقال لهم على جهة التقريرِ والتوبيخ: أَشهدتُّمْ يعقوبَ بما أوصى، فتدَّعُونَ عنْ علْمٍ أَم لم تشهدوا، بل أنتم تفترُونَ، «وأم» «1» : للاستفهامِ في صدرِ الكلامِ، لغةٌ يمانيَةٌ، وحكى الطبريُّ أنَّ «أَمْ» يستفهم

_ (1) في «أم» هذه ثلاثة أقوال: أحدها: وهو المشهور أنها منقطعة، والمنقطعة تقدر ب «بل» وهمزة الاستفهام، وبعضهم يقدرها ببل وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال له، ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ، فيؤول معناه إلى النفي أي: بل أكنتم شهداء يعني لم تكونوا. الثاني: أنها بمعنى همزة الاستفهام وهو قول ابن عطية والطبري، لا أنهما اختلفا في محلها: فإن ابن عطية قال: وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وقال الطبري: إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره/. قال أبو حيان في قول ابن عطية: ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال، وقال في قول الطبري: وهذا أيضا قول غريب. الثالث: أنها متصلة وهو قول الزمخشري، قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك: وقيل الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية، فالآية منافية لقولهم فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء؟ قال أبو حيان: ولا أعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره لو قلت: «أم زيد» تريد: «أقام عمرو أم زيد» لم يجز، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دل عليه دليل كقولك: «بلى وعمرا» لمن قال: لم يضرب زيدا، وقوله- تعالى-: فَانْفَجَرَتْ [البقرة: 60] أي فضرب فانفجرت وندر حذفه مع أو كقوله: [الطويل] فهل لك أو من والد لك قبلنا ... ............... ........... أي: من أخ أو والد، ومع حتى كقوله: [الطويل] .

بها في وسط كلامٍ قد تقدَّمَ صدره، وهذا منه، وشُهَداءَ: جمع شاهدٍ، أي: حاضر، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدّمات الموت. ومِنْ بَعْدِي، أي: من بَعْدِ مَوْتِي، ودخل إِسماعيل في الآباء لأنه عَمَّ. وقد أطلق النبيُّ صلّى الله عليه وسلم على العَبَّاس اسم الأب، فقال: «هذا بقية آبائي» «1» ، وقال: «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي» الحَدِيثَ «2» ، وقال: «أَنَا ابن الذِّبِيحَيْنِ» «3» ، على القول الشهيرِ في أنَّ إِسحاق هو الذبيحُ. ت: وفي تشهيره نظَرٌ، بل الراجحُ أنه إِسماعيل على ما هو معلومٌ في موضعه، وسيأتي إِنْ شاء الله تعالى.

_ - فوا عجبا حتّى كليب تسبّني ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع أي: يسبني الناس حتى كليب على نظر فيه، وإنما الجائز حذف «أم» مع ما عطفت كقوله: [الطويل] دعاني إليها القلب إنّي لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها أي: أم في، وإنما جاز ذلك، لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دل عليها المعنى، ألا ترى إلى قوله: تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] كيف حذف، «والبرد» انتهى. ينظر: «الكتاب» (3/ 18) ، و «ابن يعيش» (8/ 18) ، و «المقتضب» (2/ 41) ، و «الأشموني» (3/ 116) ، و «البحر المحيط» (1/ 572) ، و «الدر المصون» (1/ 377- 378) . (1) أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 207) من حديث الحسن بن علي مرفوعا بلفظ: «احفظوني في العباس، فإنه بقية آبائي» . وقال: لا يروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في «المجمع» (9/ 272) : رواه الطبراني في «الصغير» ، و «الأوسط» ، وفيه جماعة لم أعرفهم. وأخرجه الطبراني في «الكبير» كما في «تخريج الكشاف» للزيلعي (1/ 90) عن ابن عباس بمثل حديث الحسن. وقد روي هذا الحديث مرسلا عن مجاهد: أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 382) كتاب «الفضائل» ، باب فضائل العباس، حديث (32212) ، وعبد الرزاق (2/ 132) كلاهما من طريق ابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا. (2) أخرجه ابن أبي شيبة (14/ 484) كتاب «المغازي» ، باب فتح مكة عن عكرمة مرسلا بلفظ: «ردوا عليّ أبي فإن عم الرجل صنو أبيه» . وذكره الهندي في «كنز العمال» (30195) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة. (3) الحديث لا أصل له بهذا اللفظ. قال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (3/ 177) : غريب، والخلاف في تعيين الذبيح، هل هو إسماعيل أم إسحاق منذ عهد الصحابة (رضي الله عنهم) ، والأحاديث التي وردت في تعيين أحدهما لا يصح منها شيء.

[سورة البقرة (2) : الآيات 134 إلى 138]

[سورة البقرة (2) : الآيات 134 الى 138] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) وقوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ... الآية، يعني بالأُمَّةِ الأنبياءَ المذكورينَ، والمخاطَبُ في هذه الآية اليهودُ والنصارى، وقولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا نظير قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] ، والحنيف في الدين: الذي مال عن الأديان المكروهة إِلى الحقِّ، ويجيء الحنيفُ في الدين بمعنى المستقيمِ على جميع طاعاتِ اللَّهِ. قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ... الآية: هذا الخطاب لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا: يعني القرآن، والْأَسْباطِ هم ولَدُ يعقوبَ، وهم: رُوبِيل، وشَمْعُون، ولاَوي، ويَهُوذَا، وريالُون، ويشحر، ودنية بنته، وأمهم ليا، ثم خَلَف على أختها رَاحِيل، فولَدَتْ له يوسُفَ، وبِنْ يَامِين، ووُلِدَ له من سُرِّيَّتَيْنِ: ذان، وتفثالا، وجاد، واشر. والسِّبْطُ في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسُمُّوا الأسباط لأنه كان من كل واحدٍ منهم سبط. ولا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أي: لا نؤمن ببعض، ونكفر ببعض كما تفعلون، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ، أيْ: فإن صَدَّقوا تصديقاً مثْلَ تصديقكم، فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا، أي: أعرضوا، يعني: اليهودَ والنصارى، فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ، أي: في مشاقَّةٍ ومخالفةٍ لَكَ، هم في شِقٍّ، وأنت في شِقٍّ، وقيل: شَاقَّ معناه: شَقَّ كل واحدٍ وصل ما بينَه وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إِياهم، ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قَتْل بني قَيْنُقَاعَ، وبني قريظة، وإِجلاء النَّضِير. وهذا الوَعْدُ وانتجازه من أعلام نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم. والسَّمِيعُ لقول كل قائل، والْعَلِيمُ بما ينفذه في عباده، وصِبْغَةَ اللَّهِ:

[سورة البقرة (2) : الآيات 139 إلى 141]

شريعتُهُ ودينُهُ وسنَّته، وفطْرته، قال كَثِيرٌ من المفسّرين/: وذلك أن النصارى لهم ماء 37 أيصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك. وقيل: سمي الدِّين صبغةً استعارةً من حيث تظهر أعْمَالُهُ وسِمَتُهُ على المتدِّين كما يظهر الصِّبْغ في الثَّوْب وغيره، ونصب الصِّبْغة على الإِغراء «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 139 الى 141] قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) وقوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ ... الآية: معنى الآية: قل يا محمَّد لهؤلاءِ اليهودِ والنصارى: أتحاجُّوننا في اللَّه، أي: أتجادلونَنَا في دِينِهِ، والقُرْب منه، والحُظْوة لديه سُبْحانه، والرب واحدٌ، وكلٌّ مجازًى بعمله، ثم وبَّخهم بقوله: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أي: ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدَّعون ما نَحْن أولى به منْكُمْ. وقوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ عطْفٌ على ألف الاستفهامِ المتقدِّمة، وهذه القراءة بالتاء من فوقُ قراءةُ ابن عامر، وحمزةَ، وغيرهما، وقرأ نافعٌ وغيره بالياء من أسفل «2» ، «وأَمْ» على هذه القراءةِ مقطوعةٌ، ووقفهم تعالى على موضعِ الإنقطاعِ في الحجّة لأنهم إن قالوا:

_ (1) وفي انتصاب «صبغة» أربعة أوجه: أحدها: أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، وقال: هو الذي ذكر سيبويه والقول ما قالت حذام انتهى. قوله واختلف حينئذ عن ماذا انتصب هذا المصدر؟ فقيل عن قوله: قُولُوا آمَنَّا [البقرة: 136] ، وقيل عن قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] ، وقيل عن قوله: فَقَدِ اهْتَدَوْا [البقرة: 137] . الثاني: أن انتصابها على الإغراء أي: الزموا صبغة الله. قال أبو حيان: وهذا ينافره آخر الآية، وهو قوله: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: 138] إلا أن يقدر هنا قول، وهو تقدير لا حاجة إليه، ولا دليل من الكلام عليه. الثالث: أنها بدل من «ملة» ، وهذا ضعيف إذ قد وقع الفصل بينهما بجمل كثيرة. الرابع: انتصابها بإضمار فعل أي: اتبعوا صبغة الله، ذكره أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة ليس زائدا، فإن الإغراء أيضا هو نصب بإضمار فعل. ينظر: «الدر المصون» (1/ 388) . (2) ينظر: «السبعة» (171) ، و «الحجة» (2/ 228) ، و «معاني القراءات» (1/ 180) ، و «العنوان» (72) ، و «حجة القراءات» (115) ، و «شرح الطيبة» (4/ 71) ، و «شرح شعلة» (278) ، و «إتحاف» (1/ 419) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 142 إلى 143]

إنَّ الأنبياء المذكُورين على اليهوديَّة والنصرانية، كَذَبوا لأنه قد عُلِمَ أن هذين الدينَيْن حَدَثَا بعدهم، وإِن قالوا: لم يكونوا على اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلُمُّوا إِلى دينهم إِذ تقرّون بالحق. وقوله تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ تقريرٌ على فساد دعواهم إذ لا جواب لمفطورٍ إلا أن اللَّه تعالى أعلم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً، أيْ: لا أحد أظلم منه، وإياهم أراد تعالى بكتمانِ الشهادةِ، قال مجاهد وغيره: فالذي كتموه هو ما في كتبِهِمْ مِنْ أنَّ الأنبياء على الحنيفيَّة، لا على ما ادعوه «1» ، وقال قتادةُ وغيره: هو ما عندهم من الأمر بتصديق النبيّ صلّى الله عليه وسلم «2» والأولُ أشبه بسياقِ الآيةِ، «ومِن» متعلِّقةٌ ب «عِنْده» ، ويحتمل أن تتعلق ب «كَتَمَ» . وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ ... الآيةَ: فيه وعيد وإِعلام أنه لا يترك أمرهم سدًى، والغافل: الذي لا يفطنُ للأمور إهْمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغُفْلِ، وهي التي لا مَعْلَمَ بها. وقوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ ... الآية: كرَّرها عن قرب لأنها تضمَّنت معنى التهْديدِ والتخويفِ، ولترداد ذكرهم أيضا في معنى غير الأول. [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... الآية: اختلف في تعْيينِ هؤلاء السفهاءِ، فقال ابن عبَّاس: هم الأحبارُ، وذلك أنهم جاءوا إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمَّد، ما ولاَّك عَنْ قبلتنا، ارجع إليها، ونؤمنْ بك «3» ، يريدُونَ فتنتَهُ، وقيل: اليهود والمنافقُونَ، وقالت فرقة: هم كفّار قريش.

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 217) عن مجاهد، والحسن، والربيع. [.....] (2) أخرجه الطبري (1/ 627) برقم (2142) من طريق معمر عن قتادة. وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 60) بنحوه. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 260) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. وذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 217) . (3) أخرجه الطبري (2/ 7) برقم (2167) ، وذكره ابن عطية (1/ 218) .

ووَلَّاهُمْ: معناه: صرفهم، ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ: إِشارة إِلى هداية اللَّه تعالى هذه الأمة إلى قبلة إِبراهيم، وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ، أيْ كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته، جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أي: عدولاً روي ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتظاهَرَتْ به عباراتُ المفسِّرين، والوَسَط: الخيارُ والأعلى من الشيء، وواسطة القلادةِ أنفَسُ حَجَر فيها ومنه قوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: 28] . وشُهَداءَ: جمع شاهدٍ، والمراد بالناسِ هنا في قول جماعة: جميع الجنس، وأن أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم تشهدُ يوم القيامة للأنبياءِ على أممهم بالتبليغِ، وروي في هذا المعنى حديثٌ صحيحٌ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم وروي عنه أنَّ أُمته تشهدُ لكُلِّ نبيٍّ نَاكَرَهُ قومه «1» . ت: وهذا الحديثُ خرَّجه البخاريُّ، وابن ماجة، وابن المبارك في «رقائقه» وغيرهم قائلا صلّى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... الآية. وكون الرسولِ شهيداً، قيل: معناه: بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: «عليكم» بمعنى «لَكُمْ» ، أي: يَشْهَدُ لَكُمْ بالإِيمان. وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ ... الآية: قال قتادةُ وغيره: القِبْلة هنا بيْتُ المَقْدِس «2» ، أي: إِلا فِتْنَةً لنعلَمَ من يتبعك مِنَ العربِ الذين لم يألفوا إِلا مسجد مكَّة أو من اليهود على ما قاله الضّحّاك الذين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إِنْ صَلَيْتَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، اتبعناك» ، فأمره اللَّه بالصَّلاة إِليه، امتحانا لهم، فلم يؤمنوا «3» . وقال ابنُ عَبَّاس: القبلة في الآيَةِ: الكعبةُ «4» ، وكُنْتَ عَلَيْها بمعنى: أَنْتَ عليها كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] ، بمعنى: أنتم. وَمَا جَعَلْنَاهَا وَصَرَّفْنَاكَ إلَيْهَا إلا فتنةً، وروي في ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما حُوِّل إِلى الكعبة، أكْثَرَ في ذلك اليهودُ والمنافقونَ، وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلتِ الآية، ومعنى: لِنَعْلَمَ، أي ليعلم رسولِي والمؤمنون به، والقاعدة نَفْيُ استقبال العلْمِ بعد أنْ

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 247) كتاب «التفسير» ، باب «ذرية من حملنا مع نوح» حديث (4712) ومسلم (1/ 184) كتاب «الإيمان» باب أدنى أهل الجنة منزلة حديث (327/ 194) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه الطبري (2/ 14) برقم (2206) عن السدي، وذكره ابن عطية (1/ 219) . وذكره الشوكاني (1/ 218) عن عطاء. (3) ذكره ابن عطية (1/ 219) . (4) ذكره ابن عطية (1/ 220) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 144 إلى 145]

لم يكن، ويَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارةٌ عن المرتدِّ، والرجوعُ على العَقِبِ أَسوأُ حالات الراجع. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ... الآية: الضمير في «كَانَتْ» راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة، حَسْبما تقدَّم من الخلاف في القبلة، «وكَبِيرَة» هنا معناه: شاقَّة صعبةٌ، تكبُرُ في الصدور، ولما حُوِّلَتِ القبلة، كان من قول اليهود: يا محمَّدُ، إن كانَتِ الأولى حقاً، فأنتَ الآنَ على باطلٍ، وإن كانتْ هذه حقًّا، فكنْتَ في الأولى على ضلالٍ، فَوَجَمَتْ نفوسُ بعْضِ المؤمنين، وأشْفَقُوا على مَنْ مات قبل التحويل من صلاتِهِمُ السالفة، فنزلَتْ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، أي: صلاتكم، قاله ابن عبَّاس وغيره «1» ، وسمَّى الصلاة إِيماناً لَمَّا كانَتْ صادرةً عن الإيمان ولأن الإِيمان هو القطب الذي عليه تدور الأعمال، فذكره إِذ هو الأصل، ولئلاَّ يندرج في اسم الصلاة صلاةُ المنافقين إِلى بيت المَقْدِسِ، فذكر المعنَى الَّذي هو ملاك الأمر، وأيْضاً سُمِّيتْ إِيماناً إِذ هي من شُعَب الإِيمان. ت: وفي العتبية من سماع ابن القاسم «2» ، قال مالكٌ: قال اللَّهُ تبارَكَ وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ قال: هي صلاة المؤمنين إلى بيت المَقْدِس، قال ابنُ رُشْد وعلى هذا القول أكثر أهل التفسير، وقد قيل: إن المعنى في ذلك، وما كان اللَّه ليضيعَ إِيمانكم بفَرْضِ الصلاة عليكم إلى بيْتِ المقدِسِ. انتهى من «البَيَان» . والرَّأْفَةُ: أعلى منازل الرحْمَة. [سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 145] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 20) برقم (2232) . وذكره ابن عطية (1/ 221) . (2) ابن القاسم هو: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، المعروف بابن القاسم، ولد ب «مصر» سنة 128 هـ. وقيل: سنة 132 هـ. وقيل غير ذلك، سافر إلى «المدينة» فصحب الإمام مالكا، وتفقه عليه، وروى عنه وعن الليث بن سعد، وعبد العزيز بن الماجشون، وغيرهم، وروى عنه أصبغ، وسحنون، وعيسى بن دينار، وغيرهم. ومن مؤلفاته: «كتاب المدونة» ، وهي التي أخذها عنه سحنون، وهي من أجل كتب الفقه المالكي، توفي ب «مصر» سنة 191 هـ. ينظر: «الديباج المذهب» (1/ 465) ، «شذرات الذهب» (1/ 329) ، «وفيات الأعيان» (3/ 362) .

وقوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... الآية: المقْصِد تقلُّب البصر، وأيضاً: فالوجه يتقلَّب بتقلُّب البصر، قال قتادة وغيره: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الدعاءِ إلى اللَّه تعالى أنْ يحوِّله إِلى قبلة مكَّة «1» ، ومعنى التقلُّب نحو السماء: أنَّ السماء جهةٌ قد تعوَّد العالَمُ منْها الرحمةَ كالمطر، والأنوار، والوَحْي، فهم يجعلون رغبتهم حيْثُ توالَتِ النعَمُ. قال ص: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ: يدلُّ على تقدير حالٍ، أي: قد نرى تقلُّب وجهك في السماءِ طالباً قبلةً غير التي أنت مستقبلها، فلنولينّك. انتهى. وتَرْضاها: معناه: تحبّها/، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يحبّ الكعبة والتحوّل عن بيت 38 أالمقدس لوجوه ثلاثة رُوِيَتْ: أحدها: لقول اليهودِ: «مَا عَلِمَ محمَّدٌ دينَهُ حتَّى اتبعنا» قاله مجاهد. الثاني «2» : ليصيب قبلة إِبراهيمَ- عليه السلام- قاله ابن عَبَّاس «3» . الثالث: ليستألف العربَ لمحبَّتها في الكعبة، قاله الربيعة والسُّدِّيُّ «4» . ع «5» : والميزابُ هو قبلة المدينةِ والشامِ، وهنالك قبلةُ أهل الأندلسِ بتأريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلةٌ من كل أُفُقٍ. وقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ ... الآية: أمر بالتحوُّل، ونسخ لقبلة الشام، وشَطْرَ: نصبٌ على الظرف، ومعناه: نحو، وتلقاء، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا: أمر

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 22) برقم (2235) ، (2236) عن قتادة من طريقين وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 62) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 221) . (2) أخرجه الطبري (2/ 23) برقم (2239) بنحوه. وذكره ابن عطية (1/ 221) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 269) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (3) أخرجه الطبري (2/ 23) برقم (2241) بنحوه. وذكره ابن عطية (1/ 221) . (4) أخرجه الطبري (2/ 22) برقم (2237) عن الربيع، وبرقم (2238) عن السدي. وذكره ابن عطية (1/ 22) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 222) ، والميزاب: المثعب، فارسي معرب، والجمع مآزيب إذا همز، وميازيب إذا لم يهمز. ينظر: «لسان العرب» (4823) (وزب) ، و «الوسيط» (407) .

للأمة ناسخٌ. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... الآية: المعنى: أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم أمام الأمم، وأن استقبالها هو الحقُّ الواجب على الجميع اتباعا لمحمَّد صلّى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وتضمَّنت الآيةُ الوعيد. وقوله جلَّت قدرته: وَلَئِنْ أَتَيْتَ ... الآية: أعلَمَ اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- حين قالَتْ له اليهودُ: راجِعْ بيْتَ المَقْدِسِ، ونؤمن بكَ أن ذلك مخادَعَةٌ منهم، وأنهم لا يتَّبعون له قِبْلَةً، يعني: جملتهم لأن البعض قد اتبع، كعبد اللَّه بن سَلاَمٍ وغيره، وأنهم لا يؤمنون بدينه، أي: فلا تُصْغِ إِليهم، والآية هنا العَلاَمَةُ. وقوله جلَّت عظمته: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ... لفظ خبرٍ يتضمَّن الأمر، أي: فلا تركنْ إِلى شيء من ذلك، وَما بَعْضُهُمْ ... الآية، قال ابن زيد وغيره: المعنى ليستِ اليهودُ متبعةً قبلة النصارى، ولا النصارى متبعةً قبلةَ اليهودِ، فهذا «1» إِعلام باختلافهم، وتدابرهم، وضلالهم، وقبلةُ النصارى مَشْرِقُ الشمْسِ، وقبلةُ اليهود بيْتُ المَقْدِسِ. وقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والمرادُ أمته، وما ورد من هذا النوع الّذي يوهم من النبيّ صلّى الله عليه وسلم ظُلْماً متوقّعاً، فهو محمولٌ على إِرادة أمته لعصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقَطْعاً أن ذلك لا يكُونُ منْه، وإِنما المرادُ مَنْ يمكنُ أنْ يَقَعَ ذلكَ منه، وخوطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم تعظيماً للأمر، قال الفَخْر «2» : ودلَّت هذه الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرهم لأن قوله: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يدلُّ على ذلك. انتهى، وهو حَسَنٌ. ص: وَلَئِنْ أَتَيْتَ: لام «لَئِنْ» مؤذنةٌ بقَسَمٍ مقدَّرٍ قبلها، ولهذا كان الجواب: له مَّا تَبِعُوا، ولو كان للشرط، لدخلت الفاء، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة جواب القسم عليه، ومن ثم جاء فعل الشرط ماضياً، لأنه إِذا حذف جوابه، وجب فعله لفظا. انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 27) برقم (2263) ، وذكره ابن عطية (1/ 223) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 270) عن السديّ. وذكره الشوكاني في «تفسيره» عن السديّ كذلك. [.....] (2) «التفسير الكبير» (4/ 116) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 146 إلى 147]

[سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 147] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ ... الآية: الضمير في يعرفونه عائدٌ على الحق في القبلة، والتحوُّل إلى الكعبة، قال ابن عبَّاس وغيره «1» ، وقال مجاهدٌ وغيره: هو عائدٌ على محمّد صلّى الله عليه وسلم، أي: يعرفون صدْقَه ونبوَّته «2» . ت: بل وصفاتِهِ. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ: الفريقُ: الجماعةُ، وخص، [لأن] منهم من أسلم ولم يكتم والإشارة بالحق إلى ما تقدَّم على الخلاف في ضمير يَعْرِفُونَهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ظاهرٌ في صحَّة الكفر عناداً. وقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، أي: هو الحق، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ: الخطاب للنبيّ/ صلّى الله عليه وسلم والمرادُ أمَّته، وامترى في الشيء، إِذا شك فيه ومنه: المراء، لأن 38 ب هذا يشك في قول هذا. [سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 151] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) وقوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ : الوجهةُ: من المواجهة كالقبلة، والمعنى: ولكلِّ صاحبِ ملَّة وجهةٌ هو مولِّيها نفْسَه، قاله ابن عبّاس وغيره «3» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 28) برقم (2267) عن ابن عباس، كما أخرج عدة آثار بهذا المعنى عن قتادة، والربيع، والسدي وغيرهم. والأثر ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 223) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 270) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 224) . (3) أخرجه الطبري (2/ 31) برقم (2280) عن الربيع وبرقم (2281) عن عطاء وبرقم (2283) عن ابن عباس. وذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 224) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 271) ، وعن ابن عباس، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقرأ ابن عامر «1» : «هُوَ مَولاَّهَا» ، أيْ: اللَّه مُوَلِّيها إياهم، ثم أمر تعالى عباده باستباق الخَيْرات، والبدارِ، إلى سبيل النجاة، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده أَن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الخَيْرِ فَلْيَنْتَهُزْهُ «2» ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي، متى يُغْلَقُ عَنْهُ» . انتهى. ثم وعظهم سبحانه بذكْر الحشر موعظةً تتضمَّن وعيداً وتحذيراً. ص: «أينما» ظرفٌ مضمَّن معنى الشرط في موضعِ خَبَرِ «كان» . انتهى. وقوله: أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يعني به البعْثَ من القبور. وقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ معناه: حيثُ كنْتَ، وأَنى توجَّهْتَ من مشارقِ الأرض، ومغاربِها، وكرَّرت هذه الآية تأكيداً من اللَّه سبحانه لأن موقع التحويلِ كان صَعْباً في نفوسهم جدًّا، فأكَّد الأمر ليرى الناسُ التهمُّم به، فيخفَّ عليهم وتسكُنَ نفوسُهم إليه. وقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ... الآية: المعنى: عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لذلك لئلاَّ يكون للناسِ عليكم حجةٌ، والمراد ب «النَّاس» العمومُ في اليهودِ والعربِ وغيرهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، أي: من المذكورين ممَّن تكلَّم في النازلة في قولهم: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة: 142] . وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ... الآية: [فيه] تحقيرٌ لشأنهم، وأمر باطراح أمرهم، ومراعاة أمره سبحانه، قال الفَخْر «3» : وهذه الآية تدلُّ على أن الواجب علَى المَرْء في كلِّ أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه خشيةَ ربه تعالى، وأن يعلم أنه ليس في أيدي الخَلْقِ شيء البتَّةَ وألاَّ يكون مشتغل القَلْب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم. انتهى.

_ (1) وحجته في هذه القراءة أنه: قدر له أن يتولاها، ولم يسند إلى فاعل بعينه، فيجوز أن يكون «هو» كناية عن الاسم الذي أضيفت إليه «كل» . وهو الفاعل، ويجوز أن يكون فاعل التولية «الله» ، و «هو» كناية عنه. والتقدير: ولكل ذي ملة قبلة الله موليها وجهه. ثم ردّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله. ينظر: «حجة القراءات» (117) ، و «الحجة للقراء السبعة» (2/ 230) ، و «العنوان» (72) ، و «شرح طيبة النشر» (4/ 74، 75) ، و «شرح شعلة» (278) ، و «معاني القراءات» (1/ 181) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 422) . (2) النهزة: الفرصة، وانتهزتها: اغتنمتها. ينظر: «النهاية» (5/ 135) . (3) «التفسير الكبير» (4/ 127) .

قال ص: إِلَّا الَّذِينَ استثناءٌ متَّصِلٌ، قاله ابن عباس وغيره، أي: لئلاَّ تكون حجةٌ من اليهود المعاندين القائلين ما ترك قبلتنا، وتوجَّه للكعبة إِلاَّ حبًّا لبلده، وقيل: منقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم فإِنهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبَه، وزعم أبو عُبَيْدة مَعْمَرُ بْنُ المثنى: إن «إِلاَّ» في الآية بمعنى «الواو» ، قال ومنه: [الوافر] : وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوه ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ «1» أي: والَّذين ظلموا، وَالفَرْقَدَان، ورُدَّ بأنَّ «إِلاَّ» بمعنى الواو ولا يقوم علَيْه دليلٌ. انتهى. وقوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أمر باستقبال القبْلَة، وهو شرطٌ في الفرض إِلاَّ في القتالِ حالة الالتحامِ، وفي النوافل إِلا في السفرِ الطويلِ للرَّاكب، والقدرةُ على اليقينِ في مصادفتها تَمْنَعُ من الاِجتهادِ، وعلى الاِجتهادِ تَمْنَعُ من التقليد. وقوله سبحانه: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عطْفٌ على قوله: «لَئِلاَّ» وقيل: هو في موضع رفع بالاِبتداء، والخبرُ مضمرٌ، تقديره: ولأتمَّ نعمتي عليكم، عرَّفتكم قبلتي، ونحوهُ، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ترجٍّ في حقِّ البشر، والكافُ في قوله: «كَمَا» ردٌّ على قوله: «وَلأُتِمَّ» ، أي: إِتماماً كما، وهذا أحسنُ الأقوال، أي: لأتم نعمتي عليكم في بيان سُنَّة إِبراهيم عليه السلام/ كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ إِجابة لدعوته في قوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] . 39 أ

_ (1) البيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص 178) و «الكتاب» (2/ 334) و «لسان العرب» (15/ 432) (ألا) و «الممتع في التصريف» (1/ 51) والحضرمي بن عامر في «تذكرة النحاة» (ص 90) و «حماسة البحتري» (ص 151) و «الحماسة البصرية» (2/ 418) و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 46) و «المؤتلف والمختلف» (ص 85) ولعمرو أو لحضرمي في «خزانة الأدب» (3/ 421) و «الدرر» (3/ 170) و «شرح شواهد المغني» (1/ 216) وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (8/ 180) و «أمالي المرتضى» (2/ 88) و «الإنصاف» (1/ 268) و «الجنى الداني» (ص 519) و «خزانة الأدب» (9/ 321، 322) و «رصف المباني» (ص 92) و «شرح الأشموني» (1/ 234) و «شرح المفصل» (2/ 89) و «العقد الفريد» (3/ 107، 133) و «فصل المقال» (ص 257) و «مغني اللبيب» (1/ 72) و «المقتضب» (4/ 409) و «همع الهوامع» (1/ 229) . واستشهد به على نعت «كلّ» بقوله: «إلّا الفرقدان» على تقدير «غير» . وفيه ردّ على المبرد الذي زعم أنّ الوصف ب «إلّا» لم يجىء إلّا فيما يجوز فيه البدل. ف «إلّا الفرقدان» صفة، ولا يمكن فيه البدل. (والفرقدان) نجمان قريبان من القطب، لا يفارق أحدهما الآخر.

[سورة البقرة (2) : الآيات 152 إلى 153]

وقيل: الكاف من «كمَا» رَدٌّ على «تَهْتَدُونَ» ، أي: اهتداء كما. قال الفَخْر «1» : وهنا تأويلٌ ثالثٌ، وهو أن الكاف متعلِّقة بما بعدها، أي: كما أرسلنا فيكم رسولاً، وأوليتكم هذه النعم، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ... الآيةَ. انتهى. ت: وهذا التأويل نقله الدَّاوُودِيُّ عن الفراء. انتهى، وهذه الآية خطاب لأمة محمّد صلّى الله عليه وسلم وآياتِنا يعني: القرآن، ويُزَكِّيكُمْ، أي: يطهركم من الكفر، وينمّيكم بالطاعة، والْكِتابَ: القرآن، والْحِكْمَةَ: ما يتلقّى عنه صلّى الله عليه وسلم من سنَّةٍ، وفقْهٍ، ودينٍ، وما لم تكونوا تعلمون قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب. [سورة البقرة (2) : الآيات 152 الى 153] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ... الآية: قال سعيد بن جُبَيْر: معنى الآية: اذكروني بالطاعةِ، أذكركم بالثواب «2» . ت: وفي تفسير أحمد بن نصر الداوديّ: وعن ابن جُبَيْر: اذكروني بطاعتِي، أذكرْكُمْ بمغفرتي «3» ، وروي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، فَقَدْ ذَكَر اللَّهَ، وإِنْ قلَّت صلاته، وصيامه، وتلاوته القُرآن، ومن عَصَى اللَّه، فقد نَسِيَ اللَّه، وإِن كَثُرَتْ صلاته، وصيامه، وتلاوته القرآن» «4» . انتهى.

_ (1) ينظر: «التفسير الكبير» (4/ 129) ، و «الدر المصون» (1/ 409- 411) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 226) . (3) أخرجه الطبري (2/ 40) برقم (2318) ، وذكره ابن عطية (1/ 226) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 273) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأخرجه ابن المبارك في كتاب «الزهد» باب ذكر الله تبارك وتعالى، (928) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 128) . (4) أخرجه الطبراني في «الكبير» (22/ 154) رقم (413) من طريق الهيثم بن جماز عن الحارث بن حسان، عن زاذان عن واقد مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم به مرفوعا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 261) ، وقال: وفيه الهيثم بن جماز، وهو متروك. وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (1/ 446) رقم (1924) ، وعزاه إلى الحسن بن سفيان، والطبراني، وابن عساكر عن واقد. وللحديث شاهد مرسل: أخرجه ابن المبارك (ص 17) رقم (70) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 452) رقم (687) ، وسعيد بن منصور رقم (230) عن خالد بن أبي عمران مرسلا. وزاد نسبته السيوطي في «الدر» (1/ 149) إلى ابن المنذر.

وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن أنس بن مالك، قال: مَا مِنْ بُقْعَةٍ يُذْكَرُ اللَّهُ عَلَيْهَا بصَلاةٍ أو بذكْرٍ إِلاَّ افتخرت على ما حَوْلَهَا من البِقَاعِ، واستبشَرَتْ بذكْر اللَّه إِلى منتهاها منْ سبعِ أرَضِينَ، وما مِنْ عَبْدٍ يقومُ يصلِّي إِلا تزخرفَتْ له الأرض «1» . قال ابنُ المُبَارك: وأخبرنا المسعوديُّ عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللَّهِ «2» ، قال: الذاكِرُ في الغافِلِينَ كالمقاتل خَلْف الفارِّين «3» . انتهى. وقال الربيعُ والسِّدّي: المعنى: اذكروني بالدعاءِ والتسبيحِ «4» ونحوه، وفي صحيح البخاريِّ ومسلمٍ وغيرهما عن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه-، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإِ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ منهم ... » «5» الحديث. انتهى.

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص (115) رقم (339) عن أنس بن مالك موقوفا. وأخرجه أبو يعلى (7/ 143) رقم (4110) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 81- 82) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. اهـ. وزاد نسبته المناوي في «فيض القدير» (5/ 475) إلى البيهقي في «شعب الإيمان» . (2) عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله، الكوفي، الزاهد. عن أبيه، وعائشة، وابن عباس. وعنه قتادة، وأبو الزبير، والزهري. وثقه أحمد وابن معين، ورماه ابن سعد بالإرجاء. قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 309) ، و «تهذيب التهذيب» (8/ 171) ، و «الكاشف» (2/ 358) ، و «تاريخ الثقات» (377) . [.....] (3) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 122) رقم (357) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 40) برقم (2319) ، (2320) ، وذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 226) . (5) أخرجه البخاري (13/ 395) كتاب «التوحيد» ، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، حديث (7405) ، ومسلم (4/ 2061) كتاب «الذكر والدعاء» ، باب الحث على ذكر الله (تعالى) ، حديث (21/ 2675) ، والترمذي (5/ 581) كتاب «الدعوات» ، باب في حسن الظن بالله (عز وجل) ، حديث (3603) ، وابن ماجة (2/ 1255- 1256) كتاب «الأدب» ، باب فضل العمل، حديث (3822) ، وأحمد (2/ 251، 413) ، وابن خزيمة في «التوحيد» (ص 7) ، وابن حبان (3/ 93) رقم (811) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 81- بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه مسلم (4/ 2061) كتاب «الذكر والدعاء» ، باب الحث على ذكر الله (تعالى) ، حديث-

[سورة البقرة (2) : الآيات 154 إلى 157]

وَاشْكُرُوا لِي، أي: نعمي وأيادِيَّ، وَلا تَكْفُرُونِ: أي: نعمي وأياديَّ. ت: وعن جابر قَالَ: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ على عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ وَقَدْ أدى شُكْرَهَا، فَإِنْ قالها الثانيةَ، جدَّد اللَّهُ لها ثوابَهَا، فَإن قالها الثالثةَ، غفر اللَّه له ذُنوبَه» رواه الحاكمُ في «المستَدْرَكِ» ، وقال: صحيح» . انتهى من «السِّلاح» . وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، أي: بمعونته وإنجاده. [سورة البقرة (2) : الآيات 154 الى 157] وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ ... الآية: سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأُحُدٍ من المؤمنين: مَاتَ فلانٌ، ماتَ فلانٌ، فكره اللَّه سبحانه أن تُحَطَّ منزلةُ الشهداءِ إِلى منزلة غيرهم، فنزلَتْ هذه الآية، وأيضاً: فإِن المؤمنين صَعْبٌ عليهم فراقُ إِخوانهم وقراباتِهِمْ، فنزلَتِ الآيةُ مسلِّية لهم، تعظِّم منزلة الشهداءِ، وتخبر عن حقيقةِ حالِهِمْ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم ويظهر ذلك من حديث أُمِّ حارثَةَ في السِّيَرِ. ت: وخرَّجه البخاريُّ في «صحيحه» عن أنسٍ، قال: «أُصِيبَ حارثةُ يوم بَدْر أصابه غَرْبُ «2» سَهْمٍ، وهو غلامٌ، فجاءَتْ أُمُّهُ إِلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله/، قد

_ - (2675) ، والبخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 85) ، وأحمد (2/ 516، 524) من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. (1) أخرجه الحاكم (1/ 507- 508) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 98) رقم (4402) من طريق عبد الرحمن بن قيس: نا محمد بن أبي حميد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح قال أبو زرعة: عبد الرحمن بن قيس كذاب. والحديث ذكره الذهبي في «الميزان» (2/ 583) ، وقال: منكر. اهـ. وعبد الرحمن بن قيس: قال الحافظ في «التقريب» (1/ 496) : متروك كذبه أبو زرعة وغيره. (2) أي لا يعرف راميه يقال: سهم غرب، بفتح الراء وسكونها، وبالإضافة، وغير الإضافة. وقيل: هو بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح إذا رماه فأصاب غيره. ينظر: «النهاية» (3/ 350- 351) .

عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ، وَأَحْتَسِب، وَإِن تَكُن الأخرى، ترى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: وَيْحَكِ، أَوَ هُبِلْتِ، أَو جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى ... » الحديثَ «1» . انتهى. ع «2» : والفرق بين الشهيدِ وغيرهِ إِنما هو الرِّزْقُ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم. ت: وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، ويرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ» . قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، زاد ابن ماجَة: «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ» «3» ، قال القرطبيُّ في «تذكرته» «4» : هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجة: «ستَّ خِصَالٍ» وهي في متن الحديث سَبْعٌ، وعلى ما في ابن ماجة: «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ» تكون ثمانياً، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد «5» بسنده عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ» انتهى. وخرّج الترمذيّ، والنسائيّ عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ» «6» انتهى.

_ (1) أخرجه البخاري (7/ 355) كتاب «المغازي» ، باب فضل من شهد بدرا، حديث (3982) ، (11/ 423) كتاب «الرقاق» باب صفة الجنة والنار، حديث (6550) من حديث أنس. (2) «المحرر الوجيز» (1/ 227) . (3) أخرجه الترمذي (4/ 187- 188) كتاب «فضائل الجهاد» ، باب في ثواب الشهيد، حديث (1663) ، وابن ماجة (2/ 935- 936) كتاب «الجهاد» ، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث (2799) كلاهما من طريق بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. (4) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 218) . (5) الإمام المحدّث الحافظ الفقيه المفتي، شيخ العراق، أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل، البغدادي الحنبليّ النّجّاد. ولد سنة ثلاث وخمسين ومئتين، سمع أبا داود السّجستاني، ارتحل إليه، وهو خاتمة أصحابه، وصنف ديوانا كبيرا في السنن، مات النّجّاد- رحمه الله تعالى- في ذي الحجّة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. ينظر: «سير أعلام النبلاء» (15/ 502- 504) . (6) أخرجه الترمذي (4/ 190) كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء في فضل المرابط، حديث (1668) ، والنسائي (6/ 36) كتاب «الجهاد» ، باب ما يجد الشهيد من الألم، حديث (3161) ، وابن ماجه (2/-

ع «1» : روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ» «2» ، وروي: «أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ» ، ورويَ: «أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ» ، إِلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ، أو للجميع في أوقات متغايرة. ت: وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب «الإِفصاح» أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب «التذكرة» : وهذا قول حَسَنٌ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع. انتهى. قال ع «3» : وجمهور العلماء على أنهم في الجَنَّة ويؤيّده قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم لأمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى» . وقال مجاهد: هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا «4» ، وفي «مختصر الطبريِّ» ، قال: ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أموات، وأعلم سبحانه أنه أحياء،

_ - 937) كتاب «الجهاد» ، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث (2802) ، والدارمي (2/ 205) كتاب «الجهاد» ، باب فضل الشهيد، وأحمد (2/ 297) ، والبيهقي (9/ 164) كتاب «السير» ، باب فضل الشهادة في سبيل الله (عز وجل) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 516- بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وللحديث شاهد من حديث أبي قتادة: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 297) وقال: رواه الطبراني، وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 142) من طريق إسحاق العنبري: ثنا يعلى بن عبيد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الثوري، تفرد به إسحاق عن يعلى. اهـ. وإسحاق العنبري: قال الذهبي في «المغني» (1/ 72) رقم (574) : قال الأزدي: لا تحل الرواية عنه كذاب. اهـ. وللحديث شاهد من حديث سنان بن سنة الأسلمي: أخرجه ابن ماجة (1/ 561) كتاب «الصيام» ، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، حديث (1765) ، والدارمي (2/ 95) . وقال البوصيري: إسناده صحيح. (1) «المحرر الوجيز» (1/ 227) . [.....] (2) أخرجه الترمذي (4/ 176) كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء في ثواب الشهداء، حديث (1641) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 227) . (4) أخرجه الطبري (2/ 42) برقم (2323) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 285) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين، بأنهم في البَرْزَخِ يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة على أنه قد ورد في الحديثِ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ» ، ومعنى: «يُعَلَّق» : يأكل ومنه قوله: ما ذقْتُ عَلاقاً، أي: مأكلاً، فقد عم المؤمنين بأنهم يرزقُونَ في البرزخ من رزق الجنة، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم، واللَّه أعلم. انتهى. وروى النسائيُّ أن رجلاً قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كفى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ على رَأْسِهِ فِتْنَةً» «1» . انتهى. ت: وحديثُ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ» خرَّجه مالك رحمه اللَّه. قال الدَّاووديُّ: وحديث مالكٍ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ لا يصحُّ في النقل. انتهى. قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» «2» : والأشبه قولُ من قال: كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ لموافقته لحديثِ «الموطَّإ» ، هذا/ وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ، ولم يذكر مطعناً في 40 أإسنادها. انتهى. ثم أعلمهم تعالى أن الدنيا دارُ بلاءٍ ومحنةٍ، ثم وعد على الصَّبْر، فقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: نمتحنكم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، أي: من الأعداء في الحروبِ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أي بالجوانحِ «3» ، والمصائبِ، وَالْأَنْفُسِ بالموت، والقَتْل، وَالثَّمَراتِ بالعَاهَاتِ، والمرادُ بشيءٍ من هذا وشيءٍ من هذا، واكتفى بالأول إِيجازاً، ثم وصف سبحانه الصابرين الَّذين بشَّرهم بقوله: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فجعل سبحانه هذه الكلماتِ ملجأً لذوي المصائبِ لما جمعتْ من المعاني المباركةِ من توحِيدِ اللَّهِ سبحانه، والإِقرار له بالعبودية، والبعثِ من القبور، واليقين

_ (1) أخرجه النسائي (4/ 99) كتاب «الجنائز» ، باب الشهيد، حديث (2053) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم به مرفوعا. وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي. (2) ينظر: «التمهيد» (11/ 64) . (3) الجائحة: الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة. ينظر: «لسان العرب» (719) (جوح) .

بأنَّ رجوع الأمر كلِّه إِليه كما هو له، قال الفَخْرُ «1» : قال أبو بَكْرٍ الوَرَّاق «2» : إِنَّا لِلَّهِ: إقرارٌ منَّا له بالمُلْكِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إِقرارٌ على أنفسنا بالهلاكِ. واعلم أن قوله: إِنَّا لِلَّهِ يدلُّ على كونه راضيًا بكلِّ ما نَزَلَ به، ووردَتْ أخبارٌ كثيرة في هذا الباب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فمنِ استرجع عند المصيبة، جَبَر اللَّه مصيبته، وأحْسَنَ عقباه، وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضَاهُ. انتهى. وروي: «أنّ مصباح رسول الله صلّى الله عليه وسلم انطفأ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فَقِيلَ: أَمُصِيبَةٌ هِيَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ كُلُّ مَا آذَى المُؤْمِنَ، فَهُوَ مُصِيبَةٌ» «3» . قال النوويُّ «4» : ورُوِّينَا في «كتاب ابن السُّنِّيِّ» «5» عن أبي هريرة، قال: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليسترجعْ أحدُكُمْ في كلِّ شيء، حتى في شِسْعِ «6» نَعْلِه فَإِنها من المصائِبِ» «7» . انتهى من «الحلية» .

_ (1) «التفسير الكبير» (4/ 140) . (2) الإمام المحدّث، أبو بكر، محمد بن إسماعيل بن العبّاس البغداديّ المستملي الورّاق. سمع أباه، والحسن بن الطّيّب، وعمر بن أبي غيلان، وأحمد بن الحسن الصّوفي، ومحمد بن محمد الباغندي، والبغوي. وعنه: الدّارقطني، والبرقاني، وأبو محمد الخلّال، وأحمد بن عمر القاضي، وأبو محمد الجوهري وعدّة. ولد سنة ثلاث وتسعين ومئتين، ومات في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. ينظر: «سير أعلام النبلاء» (16/ 388، 389) . (3) ينظر: «تفسير القرطبي» (2/ 175) . (4) «الأذكار» (ص 158) . (5) الإمام الحافظ الثقة الرّحال، أبو بكر، أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الهاشميّ الجعفريّ، مولاهم الدّينوري، المشهور ب «ابن السّنّي» ، ولد في حدود سنة ثمانين ومئتين. وهو الذي اختصر «سنن النّسائي» ، واقتصر على رواية المختصر، وسمّاه «المجتبى» ، وجمع وصنّف كتاب «يوم وليلة» . توفي آخر سنة أربع وستين وثلاثمائة. ينظر: «سير أعلام النبلاء» (16/ 255- 256) . (6) الشّسع: أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام: السّير الذي يعقد فيه الشّسع. ينظر: «النهاية» (2/ 472) . (7) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (346) ، وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (3/ 231) رقم (3351) ، وعزاه لمسدد.

وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ... الآية: نِعَمٌ من اللَّه تعالى على الصابرين المسترجعين، وصلوات اللَّه على عبده: عفْوُهُ، ورحمتُه، وبركته، وتشريفه إِياه في الدنيا والآخرة، وكرَّر الرحْمَة، وهي من أعظم أجزاء الصلاة، لمَّا اختلف اللَّفْظ تأكيداً منه تعالى وشهد لهم بالاهتداء. ت: وفي «صحيح البخاري» : وقال عُمَرُ: نِعْمَ العدلان، ونَعْمُ العِلاَوة «1» الَّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ، قالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ... إلى الْمُهْتَدُونَ «2» ، قال النوويُّ في «الحلية» «3» : ورُوِّينا في سنن ابن ماجة، والبيهقيِّ بإِسناد حَسَنٍ عن عمرو بن حزم «4» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلّا كساه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الكَرَامَةِ يَوْم القِيَامَةِ» «5» ، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ، والسنن الكَبيِرِ للبيهقيِّ عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عزى مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» إسناده ضعيف «6» ، وروّينا في

_ (1) العلاوة: ما عولي فوق الحمل وزيد عليه. ينظر: «النهاية» (3/ 295) ، و «الوسيط» (631) . [.....] (2) أخرجه البخاري (3/ 205) كتاب «الجنائز» ، باب الصبر عند الصدمة الأولى، عن عمر تعليقا. ووصله الحاكم (2/ 270) من طريق جرير عن منصور عن سعيد بن المسيب عن عمر به. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولا أعلم خلافا بين أئمتنا أن سعيد بن المسيب أدرك أيام عمر (رضي الله عنه) ، وإنما اختلفوا في سماعه منه. اهـ وله طريق آخر عن عمر بنحوه: ذكره الحافظ في «الفتح» (3/ 205) ، وعزاه إلى عبد بن حميد. (3) «الأذكار» (ص 180) . (4) عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري، الخزرجي، أبو الضحاك، المدني، شهد الخندق، وولي بعض أمور «اليمن» . له أحاديث. وعنه ابنه محمد، وزياد بن نعيم. قال المدائني: مات سنة إحدى وخمسين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 282- 283) ، و «تهذيب التهذيب» (8/ 20) ، و «الكاشف» (326) ، و «تقريب التهذيب» (2/ 68) . (5) أخرجه ابن ماجة (1/ 511) كتاب «الجنائز» باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، حديث (1601) ، والبيهقي (4/ 59) كتاب «الجنائز» ، باب ما يستحب من تعزية أهل الميت من طريق قيس أبي عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مرفوعا. وقال البوصيري: في إسناده قيس أبو عمارة، ذكره ابن حبان في «الثقات» ، وقال الذهبي في «الكاشف» : ثقة. وقال البخاري: فيه نظر، وباقي رجاله على شرط مسلم. (6) أخرجه الترمذي (3/ 385) كتاب «الجنائز» ، باب ما جاء في أجر من عزى مصابا، حديث (1073) ، وابن ماجة (1/ 511) كتاب «الجنائز» ، باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، حديث (1602) من طريق محمد بن سوقة عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث علي بن عاصم، ورواه بعضهم عن محمد بن سوقة بهذا الإسناد موقوفا اهـ. قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث «المصابيح» (1/ 86) : قلت: أخرجه الترمذي، وابن ماجه-

[سورة البقرة (2) : آية 158]

كتاب الترمذيِّ أيضاً عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عزى ثكلى، كُسِيَ بِرِدَاءٍ فِي الجَنَّةِ» . قال الترمذيُّ ليس إِسناده بالقَوِيِّ «1» . انتهى. [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ: الصَّفَا: جمع صَفَاةٍ، وهي الصَّخْرة العَظيمة، والمَرْوَة واحدةُ المَرْوِ، وهي الحجارة الصِّغَار الَّتي فيها لين، ومِنْ شَعائِرِ اللَّهِ معناه: معالمه، ومواضع عبادته، وقال مجاهدٌ: ذلك راجعٌ إِلى القول، أي: مما أشعركم اللَّه بفضله: مأخوذٌ من شَعَرْتُ، إِذا تحسّست «2» . وحَجَّ: معناه: قصد، وتكرّر، واعْتَمَرَ: زار وتكرّر مأخوذ من عمرت 40 ب الموضعَ، والجُنَاحُ: الإِثمُ، والمَيْلُ عن الحقِّ والطاعةِ، ومن اللفظةِ الجناح/ لأنه في شِقٍّ ومنه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61] ، ويَطَّوَّفَ: أصله يتطوَّف، فقوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ... الآيةَ: خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما، وقوله: فَلا جُناحَ ليس المقصودُ منه إباحة الطوافِ لمن شاءه لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيمُ، وإِنما المقصودُ رفْعُ ما وقع في نفوسِ قومٍ من العربِ من أنَّ الطوَافَ بينهما فيه حرجٌ، وإِعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غيرُ صوابٍ، وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله

_ من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم. ورجاله رجال «الصحيحين» إلا علي بن عاصم فإنه ضعيف عندهم. قال الترمذي بعد تخريجه: «لا نعرفه مرفوعا إلا عن علي بن عاصم» . ورواه بعضهم عن محمد بن سوقة شيخ علي بن عاصم موقوفا على عبد الله بن مسعود. وقال الترمذي أيضا: «أنكروه على علي بن عاصم، وعدوه من غلطه» . وقال أبو أحمد بن عدي: رواه جماعة متابعة لعلي بن عاصم، سرقه بعضهم منه، وأخطأ فيه بعضهم. وأخرجه ابن عدي من حديث أنس بلفظ: «من عزّى أخاه المسلم من مصيبته كساه الله حلّة» ، وسنده ضعيف. وأخرجه أبو الشيخ في «كتاب الثواب» من حديث جابر بمعناه، وأبو يعلى من حديث أبي برزة بلفظ آخر. وقد قلنا: إن الحديث إذا تعددت طرقه يقوى بعضها ببعض، وإذا قوي كيف يحسن أن يطلق عليه: إنه مخلتق؟! اهـ. (1) أخرجه الترمذي (3/ 378- 379) ، كتاب «الجنائز» ، باب آخر في فضل التعزية، حديث (1076) ، من حديث أبي برزة. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي. وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي. (2) ذكره ابن عطية (1/ 229) .

عنها-: «أنَّ ذَلِكَ فِي الأنْصارِ» . ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ «1» أنَّ السعْيَ بينهما فرضٌ لا يجزىء تاركه، إِلاَّ العودة، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «2» والدليلُ على ركنيَّته ما رُويَ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ

_ (1) من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة لما روى «الدارقطني» و «البيهقي» بإسناد حسن أنه صلّى الله عليه وسلم استقبل الناس في المسعى. وقال: «يا أيّها النّاس اسعوا فإنّ السّعي قد كتب عليكم» ، أي فرض، وأصل السعي: الإسراع، والمراد به هنا: مطلق المشي. ويشترط لصحة السعي شروط ستة: الأوّل: البدء بالصفا في الأوتار، وبالمروة في الأشفاع للاتباع مع خبر «خذوا عنّي مناسككم» ، وخبر «ابدءوا بما بدأ الله به» ، فلو خالف الساعي ذلك لم يصح. الثاني: كونه سبع مرات يقينا، للاتباع بحسب الذهاب من الصفا إلى المروة مرّة، والإياب من المروة إلى الصفا مرة أخرى، ولا بد أن تكون السبع متيقنة، فلو شك الساعي في العدد، فإن كان قبل الفراغ، بنى على الأقل وجوبا، وإن كان بعد الفراغ لم يؤثر. الثالث: أن يقطع الساعي المسافة بين الصفا والمروة في كل مرّة، فلو بقي منها شيء لم يكف. الرابع: أن يكون قطع المسافة من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن. نعم لو انحرف قليلا في سعيه عن محلّ السعي لم يضر، كما نصّ عليه الشافعيّ- رضي الله عنه-. الخامس: أن يكون بعد طواف الإفاضة أو طواف القدوم لأنه الوارد من فعله صلّى الله عليه وسلم، ونقل «الماوردي» الإجماع على ذلك. ومحلّ كونه يقع صحيحا بعد طواف القدوم إذا لم يكن الساعي قد وقف بعرفة بعد طواف القدوم، فلو وقف بها بعد طواف القدوم، وقبل السعي، لم يصح سعيه، إلا بعد طواف الإفاضة لدخول طواف الفرض، فلا يجوز أن يسعى بعد طواف نفل مع إمكانه بعد طواف الفرض. ومن فعل السعي بعد طواف القدوم لم تسنّ له إعادته بعد طواف الإفاضة، بل تكره إعادته لأنه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه لم يسعوا إلا بعد طواف القدوم. نعم تجب إعادة السعي على صبي ورقيق إذا كملا قبل الوقوف بعرفة، أو في أثنائه، كما تقدّم. السادس: عدم الصارف، فلو حصل السعي بقصد المسابقة مثلا لم يصح. ويندب في السعي أمور: منها: أن يخرج من باب الصفا عقب الفراغ من صلاة الطواف واستلام الحجر وتقبيله. ومنها: أن يرقى الذكر على الصفا والمروة قدر قامة فإنه صلّى الله عليه وسلم رقى على كلّ منهما- حتى رأى البيت. رواه مسلم. أما النساء والخناثى، فلا يسنّ لهم ذلك إلا إذا خلا المحلّ عن الرجال الأجانب. ومنها: الذكر الوارد عند كل منهما. ومنها: أن يكون متطهرا من الحدث والخبث، مستور العورة. ومنها: عدم الركوب إلا لعذر. ومنها: أن يهرول الذكر في وسط المسافة ذهابا وإيابا، وأما في أوّل المسافة وآخرها، فيمشي على حسب عادته، كما أن المرأة والخنثى لا يهرولان مطلقا. ومنها: اتصال السعي بالطواف، واتصال أشواط بعضها ببعض من غير تفريق. ومنها: أن يتحرز من إيذاء الغير وألا يشتغل بما يشغل القلب، كالنظر إلى الساعين. ويكره للساعي أن يقف في أثناء سعيه بلا عذر لحديث أو غيره، وأن يصلّي بعده ركعتين. (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 48) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 159 إلى 160]

اللَّهَ كَتَبَ عَلَيكُمُ السَّعْيَ، فاسعوا» ، صحَّحه الدارقطنيُّ «1» ويعضِّده المعنى، فإنه شعار، أي: معلم لا يخلو عنه الحجُّ والعمرة، فكان ركناً كالطواف. انتهى. وَمَنْ تَطَوَّعَ: أي: زاد بِرًّا بعد الواجبِ في جميع الأعمال، وقال بعضهم: معناه: من تطوَّع بحجٍّ أو عمرةٍ بعد حجَّةِ الفريضةِ، ومعنى شاكِرٌ، أي: يبذل الثوابَ والجزاءَ، عَلِيمٌ: بالنيات والأعمال لا يضيعُ معه لعاملٍ عمل. [سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 160] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلْنا ... الآيةَ: المراد ب «الذين» : أحبار اليهود «2» ، ورهبانُ النصارى الذين كتموا أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم وتتناول الآية بَعْدُ كلَّ من كتم علمًا من دين اللَّه يُحْتَاجُ إلى بَثِّهِ، وذلك مفسّر في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القيامة بلجام من النّار» «3» .

_ (1) أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان، البغدادي الدارقطني، الحافظ الكبير، ولد سنة 306، تفقه بأبي سعيد الإصطخري، صنف المصنفات المفيدة، منها السنن والعلل وغيرهما، قال الحاكم: صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، وإماما في النحو، والقراءة، وأشهد أنه لم يخلق على أديم الأرض مثله. مات سنة 385. انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 161) ، «تاريخ بغداد» (12/ 34) ، «وفيات الأعيان» (2/ 459) . (2) ينظر: «الطبري» (3/ 249) ، و «معاني الزجاج» (1/ 218) ، و «الدر المنثور» (1/ 162) ، عن مجاهد والسدي وقتادة، وابن كثير (1/ 200) عن أبي العالية، و «غرائب النيسابوري» (2/ 67) عن ابن عباس، و «أسباب النزول» للواحدي (ص 31) ، و «أسباب النزول» للسيوطي (ص 27) . (3) ورد من حديث أبي هريرة، وحديث عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة، وطلق بن علي. فأما حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود (2/ 345) في العلم، باب كراهية منع العلم (3658) ، والترمذي (5/ 29) في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم (2649) ، وابن ماجه (1/ 96) في «المقدمة» ، باب من سئل عن علم فكتمه (261) ، وأحمد في «المسند» (2/ 263، 305، 344، 353، 495) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (9/ 55) ، والطيالسي (2534) ، وأبو يعلى (11/ 268) ، برقم (6383) ، وابن حبان (95- موارد) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (432) ، من طريقين: حماد بن سلمة، وعمارة بن زاذان، وعن علي بن الحكم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: حديث حسن. وقال العقيلي في «الضعفاء» (1/ 74) ، إسناده صالح. وقال الذهبي في «الكبائر» (ص 122) : إسناده صحيح، رواه عطاء بن أبي هريرة. وقال الحافظ في «القول المسدد» ص 45 بعد ما أورد الحديث من طريق أبي داود: والحديث وإن لم-

_ - يكن في نهاية الصحة. لكنه صالح للحجة. وأخرجه أحمد (2/ 296، 499، 508) ، وابن أبي شيبة (19/ 55) ، والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (2/ 268) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (134، 135) ، من طريق الحجاج بن أرطأة، عن عطاء به. وأخرجه الحاكم (1/ 101) من طريق القاسم بن محمد بن حماد، عن أحمد بن عبد الله، عن محمد بن ثور، عن ابن جريج قال: جاء الأعمش إلى عطاء فسأله عن حديث فحدثه، فقلنا له: تحدث هذا وهو عراقي؟ قال: لأني سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ممن سئل....» فذكره. وقال الحاكم: هذا حديث تداوله الناس بأسانيد كثيرة، تجمع ويذاكر بها. وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي. وتعقبه العراقي كما في «شرح الإحياء» رقم 56 بقوله: لا يصح من هذا الطريق لضعف القاسم بن محمد بن حماد الدلال الكوفي. قال الدارقطني: حدثنا عنه وهو ضعيف. فلهذا لم أخرجه من هذا الوجه. قال الدارقطني في الجزء السابع من «الأفراد» : وإنما يعرف هذا من حديث علي بن الحكم، عن عطاء، عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي في «المدخل» (574) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (1/ 238) برقم (140) ، من طريق سماك بن حرب، عن عطاء به. وقال البغوي: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (4/ 410) ، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (137) ، من طريق الحسن بن شعيب قال نا إسماعيل بن إبراهيم نا صغدي بن سنان، عن ابن جريج عن عطاء به. وقال ابن الجوزي (1/ 106) : صغدي، قال يحيى: ليس بشيء. وأخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 114) ، وابن عدي في «الكامل» (4/ 1395) ، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل» (136) ، من طريق صدقة بن موسى الدقيقي عن مالك بن دينار، عن عطاء به. قال الطبراني، وابن عدي: لم يروه عن مالك غير صدقة. ونقل ابن الجوزي قول يحيى في صدقة: ليس بشيء. وأخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (6) ، وابن الجوزي في «العلل» (140) ، وابن عدي في «الكامل» (4/ 1596) ، من طريقين عن ليث بن أبي سليم عن عطاء به. وقال ابن عدي: وهذا لا أعلم رفعه عن ليث غير عبد الرحمن بن أبي الجويني- الراوي عنه عنده، وعند ابن عبد البر- ورواه جرير الرازي، وغيره عن ليث موقوفا. وأخرجه ابن ماجة (1/ 98) في «المقدمة» ، باب من سئل عن علم فكتمه (266) ، والعقيلي (1/ 74) من طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، قال: أخبرنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة به. وقال الحافظ العراقي في «الشرح» : وله طريق آخر صحيح من رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة أورده ابن ماجة. وقال العلامة ابن القيم في «تهذيب السنن» (5/ 251) : وهؤلاء كلهم ثقات، وعزاه لابن خزيمة أيضا. وقال العقيلي في ترجمة الكرابيسي: ليس لحديثه أصل مسند، إنما هو موقوف من حديث ابن عون. أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه ابن حبان (96- موارد) ، وابن عبد البر (8) ، والحاكم-[.....]

قال ابن العربيِّ «1» : وللآية تحقيقٌ، وهو أن العَالِمَ إِذا قصد الكتمانَ، عصى، وإِذا لم يقصده، لم يلزمْهُ التبليغُ، إذا عرف أن معه غيره، وقد كان أبو بكر وعمر لا يحدِّثان بكلِّ ما سمعا من النبيِّ صلّى الله عليه وسلم إِلاَّ عند الحاجةِ، وكان الزُّبَيْرُ أقلَّهم حديثاً، ثم قال ابنُ العَرَبِيِّ: فأما من سئل، فقد وجَبَ عليه التبليغُ لهذه الآية، وأما إِن لم يُسْأل، فلا يلزمُ التبليغ إِلا في القرآن وحْده، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم في فضيلةِ التبْلِيغِ بأنَّه قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» «2» انتهى من «أحكام القرآن» .

_ - في المستدرك» (1/ 102) ، والخطيب في «التاريخ» (5/ 38- 39) ، وابن المبارك في «الزهد» (119) ، والبيهقي في «المدخل» (575) ، وابن الجوزي في «العلل» (123) ، من طرق عن ابن وهب قال: حدثني عبد الله بن عياش بن عباس، عن أبيه، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو رفعه به. وصححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وقال ابن الجوزي: فيه عبد الله بن وهب الفسوي قال ابن حبان: دجال يضع الحديث. وقال المنذري في «المختصر» (5/ 251) : وهذا إسناد صحيح. وقد ظن أبو الفرج بن الجوزي أن هذا هو ابن وهب النسوي الذي قال فيه ابن حبان: يضع الحديث، فضعف الحديث به، وهذا من غلطاته، بل هو ابن وهب الإمام العلم، والدليل عليه: أن الحديث من رواية أصبغ بن الفرج، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، وغيرهما من أصحاب ابن وهب عنه. والنسوي متأخر. من طبقة يحيى بن صاعد. والعجب من أبي الفرج كيف خفي عليه هذا؟ وقد ساقها من طريق أصبغ، وابن عبد الحكم، عن ابن وهب. وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 166) . رواه الطبراني في «الكبير» ، و «الأوسط» ، ورجاله موثقون. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الخطيب في «التاريخ» (6/ 77) ، وابن عبد البر (9) ، وابن عدي في «الكامل» (3/ 1062، 1293، 6/ 2174) ، وابن الجوزي في «العلل» (115- 118) ، وابن حبان في «المجروحين» (3/ 97) من طرق عنه. وعزاه الهيثمي في «المجمع» (1/ 163) للطبراني في «الكبير» ، و «الأوسط» ، وقال في إسناد «الكبير» : سوار بن مصعب وهو متروك، وفي إسناد «الأوسط» : النضر بن سعيد ضعفه العقيلي. (1) ينظر: «الأحكام» (1/ 49) . (2) ورد من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وجبير بن مطعم، فأما حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (5/ 33) في «العلم» ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2657، 2658) ، وابن ماجة (1/ 85) في «المقدمة» ، باب من بلغ علما (232) ، والحميدي في «مسنده» (88) ، وأحمد (1/ 437) ، والشافعي في «مسنده» (1/ 16) ، وأبو يعلى (26/ 5، 5296) ، وابن حبان (74، 75، 76) موارد، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» برقم (6، 7، 8) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (188، 189، 190، 191) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 331) ، والخطيب في «الكفاية» (ص 173) ، وفي «شرف أصحاب الحديث» . ص (18، 19) ، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 15- 16، 43) ، وفي «الدلائل» (6/ 540) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1419، 1420) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 9، 10) ، وأبو الشيخ في «الأمثال» (204) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/ 90) ، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» ص 322 من طرق عنه. -

والْبَيِّناتِ وَالْهُدى: أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم ثم يعمُّ بعدُ كلَّ ما يكتم من خير، وفِي الْكِتابِ يراد به التوراةُ والإنجيلُ، ويدخل القرآن في عموم الآية. واختلف في «اللاَّعِنينَ» . فقال قتادة، والربيع: الملائِكةُ والمؤمنون «1» ، وهذا ظاهرٌ واضحٌ، وقيل: الحشرات والبهائمُ «2» ، وقيل: جميع المخلوقات ما عدا الثقلين الجنّ

_ - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأما حديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود (2/ 346) ، في «العلم» ، باب فضل نشر العلم (3660) ، والترمذي (2656) ، وابن ماجة (230) ، وأحمد (5/ 183) ، وابن حبان (72- 73) موارد، والدارمي (1/ 75) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 232) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (184، 185، 186، 187) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (94) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 11) ، والرامهرمزي (3، 4) ، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص 17، 18) ، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 71) . وقال الترمذي: حديث حسن. وأما حديث جبير بن مطعم: فأخرجه ابن ماجة (231) ، وأحمد (4/ 80، 82) ، والدارمي (1/ 74- 75) ، والطبراني في «الكبير» (1541) ، وأبو يعلى في «مسنده» (7413) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1421) ، والطحاوي في «المشكل» (2/ 232) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 10) ، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 4- 5) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (195) ، والحاكم في «المستدرك» (1/ 87) ، من طرق عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه. وأخرجه ابن ماجة (231) ، والطبراني في «الكبير» (1542) ، والطحاوي في «المشكل» (2/ 232) ، من طريق ابن إسحاق، وعن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الزهري، عن محمد بن جبير به. وقال البوصيري في «الزوائد» (1/ 99) : هذا إسناد ضعيف لضعف عبد السلام ... وأخرجه الطبراني (1543) ، وابن أبي حاتم (1/ 10) من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن محمد بن جبير، عن أبيه به. وأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (7414) ، والحاكم (1/ 87- 88) ، من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الرحمن بن الحويرث، عن محمد بن جبير به. وتابعه عليه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو به، أخرجه الدارمي في «سننه» (1/ 74) . وأخرجه الطبرانيّ (1544) ، والحاكم (1/ 87) من طريق نعيم بن حماد قال: ثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن محمد بن جبير. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (1) أخرجه الطبري (2/ 59) برقم (2393- 2394- 2395) ، عن قتادة، والربيع، وذكره ابن عطية (1/ 231) ، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 65) عن قتادة بلفظ: «الملائكة» . (2) أخرجه الطبري (2/ 58) برقم (2385 إلى 2392) عن مجاهد، وعكرمة، أما الأخبار التي عن مجاهد رويت بأسانيد مختلفة. وذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 231) ، والبغوي في «التفسير» (1/ 134) عن مجاهد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 161 إلى 162]

والإِنْسَ «1» ، وهذان القولانِ لا يقتضيهما اللفظُ، ولا يثبتان إلا بسندٍ يقطعُ العُذْر، ثم استثنى اللَّه سبحانه التائبين. وَأَصْلَحُوا، أي: في أعمالهم وأقوالهم. وَبَيَّنُوا، أي: أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ... الآية: هذه الآية محكمةٌ في الذين وَافَوْا على كفرهم، واختلف في معنى قوله: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ: والكُفَّار لا يلعنُون أنفسهم. فقال قتادة، والربيع: المراد ب النَّاسِ: المؤمنون خاصَّة «2» ، وقال أبو العالية: معنى ذلك في الآخرة «3» . وقوله: خالِدِينَ فِيها، أي: في اللعنة، وقيل: في النار، وعاد الضمير علَيْها، وإِن لم يَجْرِ لها ذكر لثبوتها في المعنى. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، أي: لا يُؤَخَّرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النّظر 41 أنحو قوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ/ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: 77] والأول أظهر لأن النظر بالعين إنما يعدَّى ب «إلى» إلا شاذًّا في الشعر. [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لاَّ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 60) برقم (2396) ، وإسناد هذا الخبر: «حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط عن السدي قال: قال البراء بن عازب ... » ثم ذكر الخبر بنحوه. (2) أخرجه الطبري (2/ 62) برقم (2400- 2401) بإسنادين مختلفين أحدهما: عن قتادة، والآخر عن الربيع. وذكره ابن عطية (1/ 232) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 298) عن قتادة. (3) أخرجه الطبري (2/ 62) برقم (2402) بلفظ: «إن الكافر يوقف يوم القيامة، فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون» . وذكره ابن عطية (1/ 232) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 134) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 298) ، وعزاه لابن جرير.

وقوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ... الآية: إِعلام بالوحدانيّة. قال عطاءٌ: لما نزلَتْ هذه الآية بالمدينَةِ، قال كفَّار قريشٍ بمكَّة: ما الدليلُ على هذا، وما آيته، وعلامته «1» ؟ ونحوه عن ابن المُسَيَّب «2» ، فنزل عنْد ذلك قولُه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية، أي: في اختراعها وإنشائها. وَالنَّهارِ: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَسَوَادُ الَّليْلِ» «3» ، وهذا هو مقتضى الفقْهِ في

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 232) . (2) المصدر السابق. (3) ورد ذلك من حديث عدي بن حاتم، وسهل بن سعد: فأما حديث عدي بن حاتم: فأخرجه البخاري (4/ 157) في الصوم: باب قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ... ، وفي (8/ 31) في التفسير، باب: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ... (4509) ، ومسلم (2/ 766) في الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (33- 1090) ، وأبو داود (1/ 717) في الصيام، باب في وقت السحور (2349) ، والترمذي (5/ 195) في التفسير: باب ومن سورة البقرة (2970، 2971) ، وأحمد (4/ 377) ، وابن أبي شبية في «مصنفه» (3/ 289) برقم (9079) ، وابن جرير في «تفسيره» (2989) ، والدارمي (2/ 5، 6) ، في الصوم، باب متى يمسك المتسحر من الطعام والشراب، والطبراني في «الكبير» (17/ 79، 80) برقم (176) ، والبيهقي (4/ 215) من طريق الشعبي، عن عدي بن حاتم به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 360) ، فزاد في نسبته إلى سفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وابن المنذر. وأخرجه البخاري في التفسير (4510) ، والنسائي (4/ 148) في الصيام: باب قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وابن جرير (2989) ، والطبراني (177، 178) من طريق مطرف عن الشعبي، عن عدي قال: قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل، وبياض النهار. وصحّحه ابن خزيمة (3/ 209) برقم (1926) ، وذكره السيوطي في «الدر» ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. وأخرجه أحمد (4/ 377) ، والطبراني في «الكبير» (172، 173، 174، 175) ، وابن جرير (2988) من طريق مجالد: حدثني عامر حدثني عدي بن حاتم. قال: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلاة والصيام. فقال: صل كذا، وصل كذا، وصم كذا. فإذا غابت الشمس فكل واشرب، حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وصم ثلاثين يوما، إلا أن ترى الهلال قبل ذلك. فأخذت خيطين من شعر أسود وأبيض، فكنت أبصر فيهما فلا يتبين لي، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فضحك، فقال: يا ابن حاتم، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل. وأما حديث سهل بن سعد: فأخرجه البخاري البخاري (4/ 157) في الصوم، باب قول الله تعالى: وَكُلُوا-

الأيْمَانِ ونحوها، وأما على ظاهر اللغة، وأخذه من السعة، فهو من الإِسْفَار، وقال الزَّجَّاج في «كتاب الأنوار» : أَوَّلُ النهارِ ذُرُورُ الشمسِ، قال: وزعم النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ «1» أن أول النهار ابتداءُ طلوعِ الشمسِ، ولا يعدُّ ما قبل ذلك من النَّهار. قال ع «2» : وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم هو الحَكَم. وَالْفُلْكِ: السُّفُن، ومفرده وجمعه بلفظ واحد. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني به الأمطارَ، وَبَثَّ: معناه: فرق، وبسط، ودَابَّةٍ: تجمع الحيوان كلّه. وتَصْرِيفِ الرِّياحِ: إِرسالها عقيماً، وملقَّحة وَصِرًّا ونَصْراً وهلاكاً وجنوباً وشَمالاً وغير ذلك، والرِّيَاحُ: جمع ريحٍ، وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرحمة، مفردةً مع العذاب، إِلا في «يُونُسُ» في قوله سبحانَه: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] وهذا، أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديثِ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ، اجعلها رِيَاحاً، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً» «3» ، وذلك لأن ريح العذابِ شديدة ملتئمة

_ - وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ... (1917) ، و (8/ 31) في التفسير، باب: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ... (4511) . ومسلم (2/ 767) في الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (35/ 1091) ، والنسائي في «الكبرى» ، ذكره المزي في «تحفة الأشراف» (4/ 121) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 53) . وأبو يعلى في «مسنده» (7540) ، وابن جرير (2990) ، والبيهقي (4/ 215) في الصيام، باب الوقت الذي يحرم فيه الطعام على الصّائم من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ قال: فكان الرجل إذا أراد الصوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رئيهما، فأنزل الله بعد ذلك: مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنما يعني بذلك: اللّيل والنهار. (1) النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد المازني، التميمي، أبو الحسن: أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة، ولد ب «مرو» (من بلاد «خراسان» ) سنة 122 هـ. من مصنفاته: «الصفات» كبير، من صفات الإنسان، والبيوت، والجبال، والإبل، والغنم، والطير، والكواكب، والزروع، و «كتاب السلاح» ، و «المعاني» و «غريب الحديث» و «الأنواء» . وتوفي ب «مرو» سنة 203 هـ. ينظر: «الأعلام» (8/ 33) ، و «وفيات الأعيان» (2/ 161) ، و «غاية النهاية» (2/ 341) . [.....] (2) «المحرر الوجيز» (1/ 233) . (3) أخرجه أبو يعلى (4/ 341) رقم (2456) من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 138) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه حسين بن قيس. الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ. والحديث ذكره الحافظ في «المطالب العالية» رقم (3371) ، وعزاه إلى مسدد وأبي يعلى.

[سورة البقرة (2) : الآيات 165 إلى 167]

الأجزاء، كأنها جسمٌ واحدٌ، وريح الرحمة لينة تجيء من هاهنا وهاهنا متقطِّعة، فلذلك يقال هي رياحٌ، وهو معنى نشر، وأفردت مع الفلك لأن ريح إِجراء السُّفُن، إنما هي واحدةٌ متصلة، ثم وصفت بالطِّيبِ، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواوِ، يقال: رِيحٌ، وأَرْوَاحٌ، ولا يقال: «أَرْيَاحٌ» ، وإِنما يقال: رِيَاحٌ من جِهة الكَسْرة، وطلب تناسب الياء معها، وقد لُحِّن في هذه اللفظة عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلاَلِ بْنِ جَرِيرٍ «1» ، فاستعمل «الأَرْيَاحَ» في شعره، ولُحِّنَ في ذلك، وقال له أبو حَاتِمٍ «2» : إِنَّ الأرياحَ لا يجوزُ، فقال: أما تَسْمَعُ قولهم: رِيَاح، فقال أبو حَاتِمٍ: هذا خلافُ ذلك، فقال: صدَقْتَ، ورَجَع. وَالسَّحابِ: جمع سحابَةٍ، سمي بذلك لأنه ينسحبُ، وتسخيره بعثه من مكانٍ إلى آخر، فهذه آيات. [سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً ... الآية: النّدّ: النظير،

_ (1) عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلاَلِ بْنِ جَرِيرٍ بن عطية الكلبي، اليربوعي، التميمي: شاعر مقدم، فصيح. من أهل «اليمامة» . كان يسكن بادية «البصرة» ، ويزور الخلفاء من بني العباس، فيجزلون صلته. وبقي إلى أيام الواثق، وعمي قبل موته. وهو من أحفاد جرير الشاعر. وكان النحويون في البصرة يأخذون اللغة عنه. له أخبار. وهو القائل: [الطويل] «بدأتم فأحسنتم، فأثنيت جاهدا ... وإن عدتم أثنيت، والعود أحمد» والقائل: [الطويل] «وما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها» وجمع من نظمه «ديوان شعر» حققه ونشره شاكر العاشور. ينظر: «الأعلام» (5/ 37) ، و «تاريخ بغداد» (12/ 282) . (2) سهل بن محمد بن عثمان الجشمي السجستاني: من كبار العلماء باللغة والشعر؟ من أهل «البصرة» كان المبرد يلازم القراءة عليه. له نيف وثلاثون كتابا، منها كتاب «المعمرين» ، و «النخلة» ، و «ما تلحن فيه العامة» ، و «الشجر والنبات» ، و «الطير» و «الأضداد» ، و «الوحوش» ، و «الحشرات» ، و «الشوق إلى الوطن» ، و «العشب والبقل» ، و «الفرق بين الآدميين وكل ذي روح» ، و «المختصر» في النحو على مذهب الأخفش وسيبويه. وله شعر جيد. ينظر: «الأعلام» (3/ 143) ، و «الفهرست» لابن النديم (1/ 58) ، و «الوفيات» (1/ 218) .

والمقاوم، قال مجاهد، وقتادة: المراد بالأنداد: الأوثانُ «1» كَحُبِّ اللَّهِ، أي: كحبِّكم للَّه، أو كحبِّهم حسبما قَدَّر كلَّ وجه منْها فرقةٌ، ومعنى: كَحُبِّهِمْ، أي: يسوُّون بين محبَّة اللَّه، ومحبَّة الأوثان، ثم أخبر أن المؤمنين أشدُّ حبًّا للَّه، لإِخلاصهم، وتيقُّنهم الحق. وقوله تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي: ولو ترى، يا محمَّد، الذين ظلموا في حال رؤيتهمُ العذابَ، وفزعهم منْه، واستعظامِهِمْ له، لأقرُّوا أن القوة للَّه، أو لعلمتَ أنَّ القوَّة للَّه جميعاً، فجواب «لَوْ» : مضمَرٌ على التقديرين «2» ، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم/ علم

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 71) برقم (2414- 2415) بإسنادين مختلفين أحدهما: عن قتادة، ومجاهد بلفظ: «من الكفار لأوثانهم» . وذكره ابن عطية (1/ 234) والسيوطي في «الدر» (1/ 303- 304) . (2) جواب «لو» محذوف، واختلف في تقديره، ولا يظهر ذلك إلا بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة: قرأ ابن عامر ونافع: «ولو ترى» بتاء الخطاب، «أن القوة» و «أن الله» بفتحهما، وقرأ ابن عامر: «إذ يرون» بضم الياء، والباقون بفتحهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون: «ولو يرى» بياء الغيبة، «أنّ القوة» و «أنّ الله» بفتحهما، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر: «ولو ترى» بالخطاب، «إنّ القوة» و «إن الله» بكسرهما، وقرأت طائفة: «ولو يرى» بياء الغيبة، «إن القوة» و «إن الله» بكسرهما. إذا تقرّر ذلك فقد اختلفوا في تقدير جواب لو، فمنهم من قدّره قبل قوله: «أن القوة» ومنهم من قدّره بعد قوله: «وأنّ الله شديد العذاب» وهو قول أبي الحسن الأخفش والمبرد. أمّا من قدّره قبل «أنّ القوة» فيكون «أنّ القوة» معمولا لذلك الجواب. وتقديره على قراءة ترى- بالخطاب- وفتح أنّ وأنّ: لعلمت أيها السامع أنّ القوة لله جميعا، والمراد بهذا الخطاب: إمّا النبيّ عليه السلام وإمّا كلّ سامع. وعلى قراءة الكسر في «إنّ» يكون التقدير: لقلت إنّ القوة لله جميعا، والخلاف في المراد بالخطاب كما تقدّم، أو كون التقدير: لاستعظمت حالهم، وإنما كسرت «إنّ» لأنّ فيها معنى التعليل نحو قولك: لو قدمت على زيد لأحسن إليك إنّه مكرم للضّيفان، فقولك: «إنه مكرم للضّيفان» علّة لقولك: «أحسن إليك» . وقال ابن عطية: «تقديره: ولو ترى الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقرّوا أنّ القوة لله جميعا» . وناقشه الشيخ فقال: «كان ينبغي أن يقول: في وقت رؤيتهم العذاب فيأتي بمرادف «إذ» وهو الوقت لا الحال، وأيضا فتقديره لجواب «لو» غير مرتّب على ما يلي «لو» لأنّ رؤية السامع أو النبي عليه السلام الظالمين في وقت رؤيتهم لا يترتّب عليها إقرارهم بأنّ القوة لله جميعا، وهو نظير قولك: «يا زيد لو ترى عمرا في وقت ضربه لأقرّ أنّ الله قادر عليه» فإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. انتهى. وتقديره على قراءة «يرى» بالغيبة: لعلموا أن القوة، إنّ كان فاعل «يرى» «الذين ظلموا» ، وإن كان ضميرا يعود على السامع فيقدّر: لعلم أنّ القوة. وأمّا من قدّره بعد قوله: شديد العذاب فتقديره على قراءة «ترى» بالخطاب: لاستعظمت ما حلّ بهم، ويكون فتح «أنّ» على أنه مفعول من أجله، أي: لأنّ القوة لله جميعا، وكسرها على معنى التعليل نحو: «أكرم زيدا إنه عالم، وأهن عمرا إنّه جاهل» ، أو تكون جملة معترضة بين «لو» وجوابها المحذوف. وتقديره على قراءة «ولو يرى» بالغيبة إن كان فاعل «يرى» ضمير السامع: لاستعظم ذلك، وإنّ كان فاعله-

ذَلِكَ، ولكنْ خوطبَ، والمرادُ أمته. وقرأ حمزةُ وغيره «1» بالياء، أي: ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالَهُمْ في الآخرة، إِذ يرون العذاب، لعلموا أن القوة لله. والَّذِينَ اتُّبِعُوا بفتح التاء والباء: هم العَبَدة لغير اللَّه الضالُّون المقلِّدون لرؤسائهم، أو للشياطينِ، وتبرِّيهم هو بأنْ قالوا إِنا لم نضلَّ هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم. والسَّبَبُ في اللغة: الحبلُ الرابط الموصِّل، فيقال في كلِّ ما يتمسَّك به فَيَصِلُ بين شيئين، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، أي: الأتباع. والكَرَّة: العودة إِلى حال قد كانَتْ كذلك، يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ ... الآيةَ: يحتمل

_ - «الذين» كان التقدير: لا ستعظموا ما حلّ بهم، ويكون فتح «أنّ» على أنها معمولة ليرى، على أن يكون الفاعل «الذين ظلموا» ، والرؤية هنا تحتمل أن تكون من رؤية القلب فتسدّ «أنّ» مسدّ مفعولهما، وأن تكون من رؤية البصر فتكون في موضع مفعول واحد. وأمّا قراءة «يرى الذين» بالغيبة وكسر «إنّ» و «إنّ» فيكون الجواب قولا محذوفا وكسرتا لوقوعهما بعد القول، فتقديره على كون الفاعل ضمير الرأي: لقال إنّ القوة وعلى كونه «الذين» : لقالوا، ويكون مفعول «يرى» محذوفا أي: لو يرى حالهم. ويحتمل أن يكون الجواب: لاستعظم أو لا ستعظموا على حسب القولين، وإنما كسرتا استئنافا، وحذف جواب «لو» شائع مستفيض، وكثر حذفه في القرآن. وفائدة حذفه استعظامه وذهاب النفس كلّ مذهب فيه بخلاف ما لو ذكر، فإنّ السامع يقصر همّه عليه، وقد ورد في أشعارهم ونثرهم حذفه كثيرا. قال امرؤ القيس: [الطويل] وجدّك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا وقال النابغة: [الطويل] فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر إلّا ليال قلائل ينظر: «الدر المصون» (1/ 428- 429) ، و «البحر المحيط» (1/ 645- 646) . (1) قراءة أهل مكة والكوفة وأبي عمرو بالياء التحتية «يرى» ، وهو اختيار أبي عبيد. وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية. والمقصود بأهل مكة: ابن كثير، وأهل الكوفة: عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف العاشر، وأبو عامر بالياء التحتية، وابن جماز عن أبي جعفر، وليس من أهل الشام من يقرأ بياء الغيبة، والمقصود به ابن عامر. وأما الذين يقرءون بتاء الخطاب، فهم: نافع، وابن وردان عن أبي جعفر، ويعقوب البصري. والمخاطب: السامع، أو الرسول صلّى الله عليه وسلم. و «الذين» مفعول به. أما اختيار أبي عبيد لإحدى القراءتين فلا يطعن في الأخرى لأن القراءة سنة متبعة. ينظر: «حجة القراءات» (120) ، و «السبعة» (173) ، و «الحجة» (2/ 258) ، و «العنوان» (72) ، و «شرح طيبة النشر» (4/ 80) ، و «معاني القراءات» (1/ 186) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 425) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 170]

أن يكون من رؤية البَصَر، ويحتمل رؤية القلب، أي: يريهم اللَّه أعمالهم الفاسدة الَّتي ارتكبوها. وقال ابنُ مَسْعود: أعمالهم الصالحة التي تركوها «1» ، والحَسْرَة: أعلى درجات النَّدامة، والهَمِّ بما فات، وهي مشتقَّة من الشيء الحَسِيرِ الذي انقطع، وذهبت قوَّته، وقيل: من حَسَر، إِذا كشف. [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً ... الآية: الخطابُ عامٌّ، و «ما» بمعنى «الَّذِي» ، «وحَلاَلاً» : حال من الضمير العائد على «مَا» ، و «طَيِّباً» : نعتٌ، ويصح أن يكون حالاً من الضمير في «كُلُواْ» ، تقديره: مستطيبِينَ، والطَّيِّبُ عند مالك: الحلال فهو هنا تأكيدٌ لاختلاف اللفظِ، وهو عند الشافعيِّ: المستَلَذُّ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القَذِرِ. قال الفَخْر «2» : الحلالُ هو المباحُ الذي انحلَّتْ عقدة الحَظْر عنه، وأصله من الحَلِّ الذي هو نقيضُ العَقْد. انتهى. وخُطُواتِ: جمع خطوةٍ، والمعنى: النهْيُ عن اتباع الشيطان، وسلوكِ سبله، وطرائقه. قال ابن عَبَّاس: خطواته: أَعماله «3» ، وقال غيره: آثاره «4» . ع «5» : وكلُّ ما عدا السنَنَ والشرائعَ من البِدَعِ والمعاصِي، فهي خطوات الشيطان.

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 236) عن ابن مسعود، والسدي. (2) ينظر: «التفسير الكبير» (5/ 3) . (3) أخرجه الطبري (2/ 81) برقم (2446) بلفظ: «عمله» ، وذكره ابن عطية في التفسير (1/ 237) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 305) . (4) ينظر: «المحرر» (1/ 237) . (5) ينظر: «المحرر» (1/ 237) .

[سورة البقرة (2) : آية 171]

وعَدُوّ: يقع للمفرد والمثنى والجمع. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ... الآية: «إنما» هاهنا: للحصر، وأمر الشيطان: إما بقوله في زَمَن الكهنة، وإما بوسوسته. والسوء: مصدرٌ من: سَاءَ يَسُوءُ، وهي المعاصِي، وما تسوء عاقبته، وَالْفَحْشاءِ: قيل: الزنا، وقيل: ما تفاحَشَ ذكره، وأصل الفُحْش: قُبْحِ المنظر، ثم استعملت اللفظة فيما يستقبحُ، والشَّرْعُ: هو الذي يُحَسِّنُ ويُقَبِّحُ، فكُّل ما نهتْ عنه الشريعةُ، فهو من الفحشاء. وما لاَ تَعْلَمُونَ: قال الطبري «1» : يريد: ما حرموا من البَحِيرة، والسِّائبة، ونحوها، وجعلوه شرعاً. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ، يعني: كفَّارَ العرب، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في اليهود «2» ، والألفُ في قوله سبحانه: أَوَلَوْ كانَ: للاستفهامِ لأن غاية الفساد في الاِلتزامِ أنْ يقولوا: نتبع آباءنا، ولو كانوا لا يعقلون، فقُرِّرُوا على التزامهم هذا إذ هذه حال آبائهم. وقوةُ ألفاظ هذه الآية تُعطِي إِبْطَال التقليد، وأجمعتِ الأمَّة على إبطاله في العقائد. [سورة البقرة (2) : آية 171] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: المرادُ تشبيهُ واعظِ الكافرينَ، وداعِيهِمْ بالراعي الذي يَنْعِقُ بالغَنَمِ أو الإِبل، فلا تسمع إِلا دعاءه، ونداءه، ولا تَفْقَهُ ما يقول هكذا فسر ابن عباس، وعكْرمة، والسُّدِّيُّ «3» ، وسيبويه «4» ، فذكَرَ تعالى بعْضَ هذه الجملة، وبعضَ هذه، ودَلَّ المذْكُور على المحذوفِ، وهذه نهايةُ الإِيجاز. والنَّعِيقُ: زجْر الغَنَم، والصِّيَاحُ بها.

_ (1) «تفسير الطبري» (3/ 303) . [.....] (2) أخرجه الطبري (2/ 83) ، برقم (2455) ، وذكره ابن عطية (1/ 238) ، وابن كثير (1/ 204) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 84- 85) عن ابن عباس، والسدي، وعكرمة، وكذا أخرجه سفيان الثوري في «التفسير» (1/ 55) عن عكرمة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 228) ، وابن كثير في «التفسير» (1/ 204) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 306- 307) . (4) ينظر: «الكتاب» (1/ 108) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 172 إلى 173]

[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا/ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ ... الآية: الطَّيِّب: هنا يجمع الحلال المستلَذَّ، والآية تشير بتبعيض «مِنْ» إلى أن الحرام رزْقٌ، وحضّ سبحانه على الشكر، والمعنى: في كل حالةٍ، وفي «مصابيح البَغَوِيِّ» عن أبي دَاوُدَ والنَّسائِيِّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ» «1» . انتهى. قال القُشَيْرِيُّ: قال أهل العلْمِ بالأصول: نِعَمُ اللَّهِ تعالى على ضربَيْن: نعمةُ نَفْعٍ، ونعمةُ دَفْعٍ، فنعمةُ النفْعِ: ما أولاهم، ونعمةُ الدفع: ما زوى عنهم، وليس كلّ إنعامه

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 653) ، كتاب «صفة القيامة» ، باب (43) رقم (2486) ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، ثنا محمد بن معن، حدثني أبي عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة بن مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه الحاكم (4/ 136) من طريق عمر بن علي المقدمي، عن محمد بن معن به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن حبان (952- موارد) من طريق معتمر بن سليمان، عن معمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به. وهذا سند منقطع كما أفاد الحافظ في «الفتح» (9/ 583) ، وقال: لكن في الرواية انقطاع خفي على ابن حبان، فقد رويناه في مسند مسدد عن معتمر، عن معمر، عن رجل من بني غفار عن المقبري اهـ. والطريق الذي ذكره الحافظ وعزاه لمسدد: أخرجه عبد الرزاق (10/ 424) رقم (19573) ، وأحمد (2/ 283) ، والبيهقي (4/ 306) كتاب «الصيام» ، باب ما جاء في الطاعم الشاكر. كلهم من طريق معمر عن رجل من بني غفار، عن المقبري، عن أبي هريرة به. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة: فأخرجه أحمد (2/ 289) ، والحاكم (4/ 136) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي حرة عن عمه حكيم عن سليمان الأغر عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجة (1/ 561) كتاب «الصيام» ، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، حديث (1764) من طريق عبد الله بن عبد الله الأموي، عن معن بن محمد عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة به. وللحديث شاهد آخر من حديث عائشة: أخرجه الحاكم (2/ 12) من طريق عبد العزيز بن يحيى: ثنا سليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس بالمؤمن الذي يبيت وجاره جائع إلى جنبه» . وسكت عنه الحاكم، وقال الذّهبي: عبد العزيز ليس بثقة. وقال ابن حجر في «التقريب» (1/ 523) : متروك كذبه إبراهيم بن المنذر.

سبحانه انتظام أسبابِ الدنيا، والتمكُّنَ منها، بل ألطافُ اللَّه تعالى فيما زوى عنهم من الدُّنْيَا أكثرُ، وإن قرب العبد من الربِّ تعالى على حسب تباعُدِهِ من الدنيا. انتهى من «التَّحْبير» . وقال أبو عمر بن عبد البر في كتابهِ المسمى ب «بهجة المجالس» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ على عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرَهَا، وَمَا عَلَمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً على ذَنْبٍ إِلاَّ غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْبَسُ الثَّوْبَ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ حتى يُغْفَرَ لَهُ» «1» قال أبو عُمَر: مكتوبٌ في التوراةِ: «اشكر لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ على مَنْ شَكَرَكَ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنِّعَمِ، إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ مُقَامَ لَهَا، إِذَا كُفِرَتْ» . انتهى. «وإِنْ» من قوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: شرطٌ، والمراد بهذا الشرط التثبيتُ، وهزُّ النفوس كما تقول: افعل كَذَا، إِنْ كنْتَ رجلاً، و «إِنَّمَا» هاهنا حاصرة، ولفظ الميتة عمومٌ، والمعنى مخصِّص لأنَّ الحوتَ لم يدخُلْ قطُّ في هذا العموم، وفي مسند البزّار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ المَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ، وَثَمَنَهُ» «2» انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ» للإمام أبي العباس أحمد بن سعد التّجيبيّ.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) لقد أبعد المصنف (رحمه الله) النجعة في هذا الحديث، حيث إن هذا الحديث بهذا اللفظ قد أخرجه أبو داود (2/ 301) كتاب «البيوع» ، باب في ثمن الخمر والميتة، حديث (3485) من حديث أبي هريرة مرفوعا. وللحديث شاهد من حديث جابر: أخرجه البخاري (4/ 424) كتاب «البيوع» ، باب بيع الميتة: والأصنام حديث (2236) ، ومسلم (3/ 1207) كتاب «المساقاة» ، باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام حديث (71/ 1581) ، وأحمد (3/ 324، 326) ، وأبو داود (3/ 756- 757) كتاب «البيوع» ، باب في ثمن الخمر، والميتة حديث (3486) . والترمذي (3/ 591) كتاب «البيوع» ، باب ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام، حديث (1297) ، والنسائي (7/ 309- 310) ، كتاب «البيوع» ، باب بيع الخنزير، وابن ماجة (2/ 732) ، كتاب «التجارات» ، باب ما لا يحل بيعه حديث (2167) ، وأبو يعلى (3/ 395- 396) رقم (1873) ، وابن الجارود (578) ، والبيهقي (6/ 12) كتاب «البيوع» ، باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير والأصنام. والبغوي في «شرح السنة» (4/ 218- بتحقيقنا) من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر به. وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، ويحيى بن عباد، وأنس بن مالك: حديث عمر بن الخطاب: أخرجه البخاري (4/ 483) كتاب «البيوع» باب لا يذاب شحم الميتة ويباع ودكه، حديث (2223) ، -

وَالدَّمَ يراد به المسفوحُ لأن ما خالط اللحْمَ، فغير محرَّم بإِجماع. ت: بل فيه خلافٌ شاذٌّ، ذكره ابن الحاجبِ، وغيره، والمشهورُ: أظهر لقول

_ - ومسلم (3/ 1208) كتاب «المساقاة» ، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، حديث (1/ 1852) ، والنسائي (7/ 177) ، كتاب «الفرع والعتيرة» ، باب النهي عن الانتفاع بما حرم الله (عز وجل) . وابن ماجة (2/ 1122) ، كتاب «الأشربة» ، باب التجارة في الخمر، حديث (3383) . والدارمي (2/ 115) كتاب «الأشربة» ، باب النهي عن الخمر وشرائها. وأحمد (1/ 25) ، والحميدي (1/ 9) رقم (13) ، وعبد الرزاق (8/ 195- 196) رقم (14854) ، وابن الجارود رقم (577) ، وأبو يعلى (1/ 178) رقم (200) . والبغوي في «شرح السنة» (4/ 220- 221- بتحقيقنا) كلهم من طريق طاوس، عن ابن عباس قال: بلغ عمر أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» . حديث ابن عباس: أخرجه أحمد (1/ 347، 293) ، وأبو داود (2/ 2- 3) ، كتاب «البيوع» ، باب في ثمن الخمر والميتة حديث (3488) ، والبيهقي (6/ 13) كتاب «البيوع» ، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحل أكله. كلهم من طريق أبي الوليد، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا عند الركن قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك، فقال: «لعن الله اليهود.. ثلاثا، إن الله تعالى حرم عليهم الشّحوم فباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه» . حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (4/ 484) كتاب «البيوع» ، باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع، ودكه حديث (2224) ، ومسلم (3/ 1208) كتاب «المساقاة» ، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، حديث (1583) من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله يهودا حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها» . حديث عبد الله بن عمر: أخرجه أحمد (2/ 213) عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يدهن به الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هي حرام» ، ثم قال: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوها، ثم باعوها، فأكلوا ثمنها» . وذكره الهيثمي في «المجمع» (4/ 94) ، وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط» ، إلا أنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وثمن الخنزير، وعن مهر البغي، وعن عسب الفحل. ورجال أحمد ثقات وإسناد الطبراني حسن. حديث يحيى بن عباد: ذكره الهيثمي في «المجمع» (4/ 92) عنه، قال: أهدي للنبي صلّى الله عليه وسلم زق خمر بعد ما حرمت فلما أتي بها النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الخمر قد حرمت» ، فقال بعضهم: لو باعوها فأعطوا ثمنها فقراء المسلمين، فأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلم فأهريقت في وادي من أودية «المدينة» ، وقال: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم شحومها فباعوها، وأكلوا أثمانها» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه أشعث بن سوار، وهو ثقة، وفيه كلام. -

عائشةَ- رضي اللَّه عنها-: «لَوْ حُرِّمَ غَيْرُ المَسْفُوحِ، لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي العُرُوقِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ اللَّحْمَ، وَالبُرْمَةُ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ» . انتهى. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. قال ابن عبَّاس وغيره: المراد ما ذُبِحَ للأنْصَاب والأوثان «1» ، وأُهِلَّ بِهِ: معناه صِيحِ به ومنه: استهلالُ المولودِ، وجرَتْ عادة العرب بالصياحِ باسم المقصودِ بالذبيحةِ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النيَّة التي هي علَّة التحريم. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال قتادة وغيره: غيْرَ قاصدِ فسادٍ «2» وتعدٍّ بأن يجدَ عن هذه المحرَّمات مندوحةً، ويأكلها، وأصحاب هذا القول يجيزونَ الأكل منها في كلِّ سفر، مع الضرورة، وقال مجاهد وغيره: المعنى: غير باغٍ على المسلمين، وعَادٍ عليهم، فيدخل في الباغِي والعادِي قُطَّاعُ السبل، والخارجُ على السلطانِ، والمسافر في قَطْع الرحمِ، والغَارَةُ على المسلمين، وما شاكله، ولغير هؤلاء: هي الرخصة «3» .

_ - حديث أنس بن مالك: أخرجه أحمد (3/ 217) ، وأبو يعلى (5/ 382) رقم (3042) . وابن حبان (1119- موارد) ، من طريق عبد الرزاق وهو في «مصنفه» (9/ 211- 212) رقم (16970) ، من حديث أنس بن مالك مرفوعا بلفظ: «قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشّحوم فباعوها، وأكلوا أثمانها» . (1) أخرجه الطبري (2/ 90) برقم (2479- 2481) بإسنادين مختلفين عن ابن عباس بنحوه، وذكره ابن عطية (1/ 240) والسيوطي في «الدر» (1/ 308) ، وعزاه لابن المنذر، وابن جرير. (2) أخرجه الطبري (2/ 92) برقم (2495) بنحوه. وذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 240) ، والبغوي في «التفسير» (1/ 141) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 308) ، وعزاه لعبد بن حميد. (3) الرخصة (بسكون الخاء وحكي ضمها) في اللغة: التيسير والتسهيل. قال الجوهري: الرخصة في الأمر: خلاف التشديد فيه، ومن ذلك رخص الشعر إذا سهل وتيسر. وفي الاصطلاح: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر. وتنقسم الرخصة إلى أربعة أقسام: الأول: الإيجاب، ويمثل له بوجوب أكل الميتة للمضطر الثابت بقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] مع قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173] على خلاف قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... [المائدة: 3] إلخ فهو رخصة لأنه حكم ثبت على خلاف الدليل لعذر هو حفظ الحياة. الثاني: الندب، كقصر الصلاة الرباعية في السفر الثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» على خلاف الدليل الموجب للإتمام، وهو فعله صلّى الله عليه وسلم مع قوله صلّى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» المبين للعدد المطلوب في قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ. الثالث: الإباحة، كإباحة السلم الثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى-

قال مالك «1» - رحمه اللَّه-: يأكل المضطَرُّ شِبَعَهُ، وفي «الموطّإ» وهو لكثير من 42 ب العلماءِ أنه يتزوَّد، إِذا خشي الضرورة فيما بين يديه/ من مفازةٍ وقَفْرٍ. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «2» ، وقد قال العلماء: إِنَّ من اضطرَّ إلى أكل الميتةِ، والدمِ، ولحمِ الخنزيرِ، فلم يأكلْ، دخل النَّار إِلا أنْ يَغْفِرَ اللَّه له. انتهى. والمعنى: أنه لم يأكلْ حتى مات جوعاً، فهو عاصٍ، وكأنه قتل نفسه، وقد قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ... [النساء: 29] الآية إِلى قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً [النساء: 30] قال ابن العربيِّ: وإذا دامتِ المَخْمَصة «3» ، فلا خلاف في جواز شبع المضطَرِّ، وإن كانت نادرةً، ففي شبعه قوْلانِ: أحدهما لمالك: يأكل حتى يَشْبَعَ، ويتضلَّع، وقال غيره: يأكل بمقدارِ سدّ الرّمق، وبه قال ابن حبيب «4» ،

_ أجل معلوم» على خلاف قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك» الدال على حرمة بيع المعدوم. للحاجة إلى هذا النوع من المعاملة. وإن شئت فارجع إلى كتب الفروع لتقف على حكمة مشرعية السلم. الرابع: خلاف الأولى، كالفطر في نهار رمضان (للمسافر الذي لا يتأذى بالصوم) المشروع بقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] على خلاف قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] دفعا للمشقة. وكان خلاف الأولى لقوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 184] . ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (1/ 325- 326) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (1/ 122) ، «التمهيد» ، للأسنوي (70) ، «نهاية السول» له (1/ 120) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 93) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (19) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 179) ، «المستصفى» للغزالي (1/ 98) ، «حاشية البناني» (1/ 119- 123) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 81) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (1/ 185) . (1) أخرجه الطبري (2/ 91- 92) بإسنادين عن مجاهد. وسعيد بن منصور في سننه (2/ 645) برقم (243) وذكره ابن عطية (1/ 240) . (2) ينظر: «الأحكام» (1/ 56) . [.....] (3) المخمصة: مفعلة من الخمص، وهو ضمور البطن، ومنه: رجل خامص، وخمصان البطن، وامرأة خمصانة، ولما كان الجوع يؤدي إلى ضمور البطن عبّر به عنه: أي فمن اضطر في مجاعة. ينظر: «عمدة الحفاظ» (1/ 617) . لأن الضرورة تقدر بقدرها، فأكل الميتة محظور، ولكن إبقاء مهجة الإنسان عند المخمصة ضرورة، وليست أقل من المحظور، فيباح المحظور لأجل الضرورة، فعليه الأكل لإبقاء روحه، فلو لم تبح الضرورات المحظورات لما تحقق الضرر، والضرر يزال. (4) ابن حبيب: هو أبو مروان عبد الملك بن حبيب، كان إماما في الحديث، والفقه، واللغة، والنحو، انتهت إليه رئاسة العلم في الأندلس، ولد في «ألبيرة» ، وسكن «قرطبة» ، وتفقه بابن الماجشون، ومطرف، وعبد الله بن عبد الحكم، وغيرهم، له مؤلفات تزيد على ألف كتاب، أشهرها: «الواضحة» ، توفي عام 238 هـ، وقيل 239 هـ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 174 إلى 176]

وابن الماجشون «1» . انتهى. [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ ... الآية. قال ابن عَبَّاس وغيره: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمْر محمّد صلّى الله عليه وسلم، والْكِتابِ: التوراة والإِنجيل «2» . ع «3» : وهذه الآية وإِن كانَتْ نزلَتْ في الأحبار، فإِنها تتناوَلُ من علماء المسلمين مَنْ كتم الحقَّ مختاراً لذلك بسبب دُنْيَا يصيبُهَا، وفي ذكر البَطْنِ تنبيهٌ على مذمَّتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظِّهم من المطعم الذي لا خَطَرَ له، وعلى هُجْنَتِهمْ «4» بطاعة بُطُونهم، قال الرَّبِيع وغيره: سمى مأكولهم ناراً لأنه يؤول بهم إِلى النار «5» ، وقيل: يأكلون النار في جَهَنَّمَ حقيقةً. ت: وينبغي لأهل العلْمِ التنزُّه عن أخْذ شيء من المتعلِّمين على تعليم العلْم، بل يلتمسُونَ الأجر من اللَّه عزَّ وجلَّ «6» ، وقد قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-:

_ ينظر ترجمته في: «شجرة النور الزكية» (ص 74) ، «الديباج» (ص 154) ، «شذرات الذهب» (2/ 90) . (1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، كنيته أبو مروان، والماجشون هو أبو سلمة، والماجشون: المورد بالفارسية، سمي بذلك لحمرة في وجهه. كان عبد الملك فقيها فصيحا، دارت عليه الفتوى في أيامه إلى أن مات، كما دارت على أبيه قبله، فهو فقيه تفقه بأبيه وبمالك، وغيرهما، وتفقه به خلق كأحمد بن المعذل، وابن حبيب، توفي عبد الملك سنة اثنتي عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: أربع عشرة ومائتين هجرية. ينظر: «الديباج المذهب» (2/ 6) ، و «ترتيب المدارك» (2/ 360) ، و «وفيات الأعيان» (2/ 340) ، و «شجرة النور الزكية» (1/ 56) . (2) أخرجه الطبري (2/ 94) برقم (2502- 2503- 2504) عن قتادة، والربيع، والسدي. وذكره ابن عطية في التفسير (1/ 241) . (3) «المحرر الوجيز» (1/ 241) . (4) الهجنة من الكلام: ما يعيبك، وتقول: لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة. ينظر: «لسان العرب» (4625- 4626) . (5) ينظر: «المحرر» (1/ 241) . (6) «تفسير الطبري» (3/ 330) .

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... [الأنعام: 90] الآية، وفي سنن أبي دَاوُدَ، عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «1» ، قال: «عَلَّمْتُ نَاساً مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الكِتَابَ، وَالقُرْآنَ، وأهدى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْساً، فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لآتِيَنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلم، فَلأسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ أهدى إِلَيَّ قَوْساً مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقاً مِنْ نَارٍ، فاقبلها» ، وَفِي روايةٍ: «فَقُلْتُ مَا ترى فِيهَا، يَا رَسُولَ اللَّهُ؟ قَالَ: جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْكَ تَقَلَّدْتَهَا أَوْ تَعَلَّقْتَهَا» «2» . انتهى. وقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: قيل: هي عبارةٌ عن الغضب عليهم، وإِزالة الرضَا عنهم إِذ في غير موضعٍ من القُرآن ما ظاهره أن اللَّه تعالى يكلِّم الكافرين، وقال الطبريُّ وغيره: المعنى: لا يكلِّمهم بما يحبُّونَهُ. وَلا يُزَكِّيهِمْ، أي: لا يطهِّرهم من موجباتِ العذابِ، وقيل: المعنى: لا يسمِّيهم أزكياء. وقوله تعالى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ: قال جمهور المفسِّرين: «ما» تعجُّب، وهو في حيِّز المخاطبين، أي: هم أهلٌ أن تَعْجَبُوا منْهم، وممَّا يطول مُكْثُهم في النَّار، وفي التنزيل: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وأَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم: 38] .

_ (1) هو: عبادة بن الصامت بن قيس بن صرم بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، أبو الوليد الأنصاري، الخزرجي. من مناقبه: نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [سورة المائدة: الآية 51] لما تبرأ من حلفه مع بني قينقاع لما خانوا المسلمين في غزوة الخندق. توفي سنة 34 بالرملة. وقيل: ببيت المقدس. وقيل: عاش إلى سنة «45» . ينظر ترجمته في: «الثقات» (3/ 302) ، «أسد الغابة» (3/ 160) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 394) ، «أصحاب بدر» (184) ، «الإصابة» (4/ 27) ، «الطبقات» (99، 302) ، «المصباح المضيء» (1/ 85) ، «الجرح والتعديل» (6/ 95) ، «تقريب التهذيب» (1/ 395) ، «الاستيعاب» (2/ 807) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 111) ، «التاريخ الصغير» (1/ 41، 42، 65، 66) ، «التاريخ الكبير» (6/ 92) ، «الوافي بالوفيات» (16/ 618) ، «الطبقات الكبرى» (9/ 107) ، «تهذيب الكمال» (2/ 655) ، «طبقات الحفاظ» (45) ، «الأعلام» (3/ 258) ، «الرياض المستطاب» (207) . (2) أخرجه أبو داود (2/ 285) كتاب «الإجارة» ، باب في كسب المعلم، حديث (3416) ، وابن ماجة (2/ 729- 730) كتاب «التجارات» ، باب الأجر على تعليم القرآن، حديث (2157) ، وأحمد (5/ 315) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (183) من طريق المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت به.

[سورة البقرة (2) : آية 177]

وقال قتادة، والحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْر، والربيع: أظهر التعجُّب من صبرهم على النار لَمَّا عملوا عملَ مَنْ وَطَّن نفْسه علَيْها «1» ، وتقديره ما أجرأَهم علَى النَّارِ إِذ يعملون عملاً يؤدِّي إِليها، وذهب مَعْمَرُ بْنُ المثنى إِلى أن «ما» استفهامٌ، معناه: أيُّ شَيْءٍ صبرهم عَلَى النار «2» ، والأول أظهر. وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... الآية: المعنى: ذلك الأمر بأنَّ اللَّه نزَّل الكتابَ بالحَقِّ، فكفروا/ به، والإشارة إلى وجوب النّار لهم. والْكِتابَ: القرآن، وبِالْحَقِّ، أي: بالإخبار الحقّ، أي: الصادقة. والَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ هم اليهودُ والنصارى، في قول السُّدِّيِّ «3» ، وقيل: هم كفَّار العرب لقول بعضهم: هو سِحْرٌ، وبعضهم: أساطير، وبَعْضهم: مفترًى، إلى غير ذلك. وبَعِيدٍ، هنا: معناه من الحقّ، والاستقامة. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) وقوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الخِطَابُ بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى: ليس البرّ الصلاة وحدها «4» ،

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 96) برقم (2508- 2509- 2510- 2511- 2512) ، عن قتادة، والحسن، وسعيد بن جبير، والربيع. وذكره ابن عطية (1/ 242) ، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 66) عن قتادة بلفظ: «ما أجرأهم عليها» ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 309) عن قتادة، وعزاه لابن جرير. (2) وبه قال السدي وجماعة، كما في تفسير الطبري (3/ 332) ، عن السدي، وأبي كريب، وابن زيد، وفي «البحر» (1/ 669) عن ابن عباس والسدي، والمبرد ومعمر بن المثنى، وفي «الدر» (1/ 169) عن السدي، وفي «فتح القدير» (1/ 172) عنه أيضا. وينظر: «مجاز القرآن» لأبي عبيدة (1/ 64) . (3) أخرجه الطبري (2/ 98) برقم (2520) وذكره ابن عطية (1/ 242) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 309) ، وعزاه لابن جرير. [.....] (4) أخرجه الطبري (2/ 99) برقم (2521- 2524) بإسنادين عن ابن عباس. وذكره ابن عطية (1/ 243) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 310) بإسنادين، عن ابن عباس، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقال قتادة، والربيع: الخطاب لليهودِ والنصارى لأنهم تكلَّموا في تحويل القبلة، وفضَّلت كل فرقة تولِّيها، فقيلَ لهم: ليس البرَّ ما أنتم فيه، ولكنَّ البرَّ من آمن باللَّه «1» . وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ... الآيةَ: هذه كلُّها حقوقٌ في المال سوى الزكاةِ، قال الفَخْر «2» : وروَتْ فاطمةُ بنْتُ قَيْسٍ، أنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ «3» ، وتَلاَ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ... الآية، وعنه صلّى الله عليه وسلم «لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شبعان، وجاره طاويا إلى جنبه» «4» انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 99- 100) برقم (2526- 2528) عن قتادة، والربيع بن أنس، وذكره ابن عطية (1/ 243) . وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 66) عن قتادة. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 310) عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير. (2) «التفسير الكبير» (5/ 35) . (3) أخرجه الترمذي (3/ 48) في الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة (659، 660) . والطبري (2/ 57) ، والدارمي (1/ 385) في الزكاة، باب ما يجب في مال سوى الزكاة. والدارقطني (2/ 125) في الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول رقم (11، 12) . والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 27) ، والبيهقي (4/ 84) في الزكاة: باب الدليل على أن من أدى فرض الله في الزكاة، فليس عليه أكثر منه إلا أن يتطوع ... من طريق شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس بنحوه. وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم، عن الشعبي هذا الحديث من قوله. وهذا أصح. وقال البيهقي: هذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور كوفي، وقد جرحه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث. والذي يرويه أصحابنا في التعاليق ليس في المال حق سوى الزكاة- فلست أحفظ فيه إسنادا. وأخرجه ابن ماجة بالإسناد السابق (1/ 570) في الزكاة، باب ما أدي زكاته ليس بكنز (1789) بلفظ: «ليس في المال حق سوى الزكاة» . وقال النووي كما في تخريج أحاديث «الكشاف» للزيعلي (1/ 107) : حديث «ليس في المال حق سوى الزكاة» حديث منكر. ثم نقل كلام البيهقي برمته. وبالجملة فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور ضعفه الترمذي. وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف. ومن تابعه أضعف منه. وللفظ الأول من الحديث شاهد أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 89، 90) ، من طريق موسى بن إسماعيل، عن محمد بن راشد، عن عبد الكريم، عن حبان بن جزىء، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «في المال حق بعد الزكاة؟ قال: نعم، يحمل على النجيبة» . (4) أخرجه البزار (1/ 76- كشف) رقم (115) ، من طريق حسين بن علي الجعفي، ثنا سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس مرفوعا بلفظ: «ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره طاوي» . وقال البزار: لا نعلمه، يروى عن أنس إلا من هذا الوجه. قلت: وفي كلام البزار نظر حيث إن للحديث طريقا آخر عن أنس: أخرجه الطبراني في «المعجم-

قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» : وإِذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلَتْ بعد ذلك حاجةٌ، فإِنه يجبُ صرف المال إِليها باتفاق من العلماءِ، وقد قال مالك: يجبُ على كافَّة المسلمين فِدَاءُ أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالَهُمْ، وكذلك إِذا منع الوالي الزكاةَ، فهل يجبُ على الأغنياء إِغناءُ الفقراء؟ الصحيحُ: وجوبُ ذلك علَيْهم. انتهى. ومعنى: آتَى: أعطى على حبِّه، أي: على حبِّ المال، ويحتملُ أن يعود الضميرُ على اسْمِ اللَّه تعالى من قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، أي: من تَصَدَّقَ مَحَبَّة في اللَّه وطاعته. ص: والظاهر أن الضمير في «حُبِّهِ» عائدٌ على «المال» لأن قاعدتهم أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إِلاَّ بدليلٍ. انتهى. قال ع «2» : والمعنَى المقصودُ أن يتصدَّق المرءُ في هذه الوجوهِ، وهو صحيحٌ شحيحٌ يخشَى الفَقْر، ويأمل الغنى كما قال صلّى الله عليه وسلم «3» . والشحّ في هذا الحديث: هو

_ - الكبير» (1/ 259) رقم (751) ، من طريق محمد بن سعيد الأثرم، ثنا همام، ثنا ثابت، ثنا أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعانا، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به» . والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 170) ، وقال: رواه الطبراني، والبزار، وإسناد البزار حسن. والحديث ذكره أيضا المنذري في «الترغيب» (3/ 334) ، وقال: رواه الطبراني، والبزار، وإسناده حسن، وللحديث شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (110) ، وفي «التاريخ الكبير» (5/ 195، 196) ، وأبو يعلى (5/ 92) رقم (2699) ، والحاكم (4/ 167) ، والطبراني في «الكبير» (12/ 154) رقم (12741) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (10/ 392) ، كلهم من طريق سفيان عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عبد الله بن المساور، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه» . والحديث ذكره المنذري في «الترغيب» (3/ 334) ، وقال: رواه الطبراني، وأبو يعلى ورواته ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 170) : رواه الطبراني، وأبو يعلى، ورجاله ثقات. (1) ينظر: «الأحكام» (1/ 59) . (2) «المحرر الوجيز» (1/ 243) . (3) أخرجه البخاري (3/ 334) في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح (1419) ، و (5/ 439- 540) في «الوصايا» ، باب الصدقة عند الموت (2748) ، ومسلم (2/ 716) في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (92- 93/ 1032) ، وأبو داود (2/ 126) في الوصايا، باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية (2865) ، والنسائي (5/ 68) في الزكاة، باب أي الصدقة أفضل، و (6/ 237) في الوصايا، باب الكراهية في تأخير الوصية، وابن ماجة (2/ 903) في الوصايا، باب النهي عن الإمساك في الحياة، والتبذير عند الموت (2706) . والبخاري في «الأدب المفرد» برقم (786) ، وأحمد (2/ 231، 415، 447) ، وابن خزيمة (4/ 103) برقم (2454) ، والبيهقي (4/ 190) ، والبغوي (3/ 423) برقم.

الغريزيُّ الذي في قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النساء: 128] وليس المعنَى أنْ يكون المتصدِّق متَّصِفاً بالشحِّ الذي هو البُخْل. وَفِي الرِّقابِ، أي: العتق، وفَكّ الأسرى. وَالصَّابِرِينَ: نصبٌ على المدح، أو على إِضمار فعْلٍ، وهذا مَهْيَعٌ «1» في تكرار النعوت. والْبَأْساءِ: الفَقْر والفاقة. وَالضَّرَّاءِ: المرض، ومصائبُ البدن، وعن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَنْ يدعى إِلَى الجَنَّةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ» ، وقال: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ «2» . انتهى من «السلاح» .

_ - (1665) ، من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ ... » فذكره. (1) المهيع: هو الطريق الواسع المنبسط. ينظر: «لسان العرب» (4838) (هيع) . (2) أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (1/ 103) ، وفي «الأوسط» (4/ 44) رقم (3057) ، وفي «الكبير» (12/ 19) رقم (12345) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 69) . كلهم من طريق قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا. وقال الطبراني: لم يروه عن حبيب إلا قيس بن الربيع، وشعبة بن الحجاج، عن نصر بن حماد الوراق. وقال أبو نعيم: رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 98) ، وقال: رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد، وفي أحدها قيس بن الربيع وثقه شعبة، والثوري، وغيرهما. وضعفه يحيى القطان، وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ. قلت: قيس بن الربيع في سند الطبراني في معاجمه الثلاثة، وليس كما يوهم كلام الهيثمي. والحديث ضعفه الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (4/ 79) ، وأعله بقيس بن الربيع، وقال: ضعفه الجمهور، وهذا الحديث قد رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، كما أشار إلى ذلك الحافظ أبو نعيم. أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 103) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 84- بتحقيقنا) . كلاهما من طريق نصر بن حماد الوراق، نا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وهذا سند ضعيف جدا. نصر بن حماد قال النسائي، وغيره: ليس بثقة، ينظر «المغني» للذهبي (6609) . وتابعهما عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن حبيب. أخرجه الحاكم (1/ 502) . وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. والمسعودي لم يخرج له مسلم شيئا فضلا عن اختلاطه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 إلى 179]

وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن صُهَيْب «1» ، قال: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِذَا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» «2» انتهى. وَحِينَ الْبَأْسِ، أي: وقْتَ شدَّة القتال، هذا قولُ المفسِّرين في الألفاظ الثلاثة، تقولُ العربُ: بَئِسَ الرَّجُلُ إِذَا افتقر، وبَؤُسَ إِذا شَجُع، ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البَرَّة بالصدْقِ في أمورهم، أي: هم عند الظنِّ بهم والرجاء فيهم كما تقول: صَدَقَنِي المَالُ، وصَدَقَنِي الرُّمْحُ، ووصفهم تعالى/ بالتقى، والمعنى: هم الذين جعلوا بينهم وبين 43 ب عذاب الله وقاية. [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ... الآيةَ: كُتِبَ: معناه: فُرِضَ، وأُثْبِتَ، وصورةُ فَرْضِ القصاصِ «3» ، هو أنَّ القاتل فرض عليه، إذا أراد

_ (1) هو: صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر. أبو يحيى. الرومي. الربعي. النمري. وهو صحابي مشهور. روى عنه أولاده حبيب، وحمزة، وسعد، وصالح، وصيفي، وعباد، وعثمان، ومحمد. وحفيده زياد بن صيفي. وروى عنه أيضا جابر الصحابي. وسعيد بن المسيب. وإنما قيل له الرومي قيل: لأن الروم سبوه صغيرا حين كان أبوه وعمه عاملين لكسرى على «الأبلة» ، وكانت لهم منازل على «دجلة» عند الموصل، وقيل غير ذلك. وروى الستة عنه قال: لم يشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامه، توفي سنة (38) وقيل (39) ، وقيل في شوال سنة 38، وله (70 سنة) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 36) ، «الإصابة» (3/ 254) ، «الاستيعاب» (2/ 726) ، «الاستبصار» (78، 134) ، «الرياض المستطابة» (130) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 268) ، «عنوان النجابة» (106) ، «أصحاب بدر» (108) ، «الثقات» (3/ 194) ، «الكاشف» (2/ 32) ، «حلية الأولياء» (1/ 372) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 144) ، «تنقيح المقال» (5811) ، «بقي بن مخلد» (95) . (2) أخرجه مسلم (4/ 2295) كتاب «الزهد» ، باب المؤمن أمره كله خير، حديث (64/ 2999) . وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى مسلم. وينظر: «تحفة الأشراف» (4/ 200) . [.....] (3) القصاص: أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل. كذا في «المغرب» . وفي «الصحاح» : القصاص: القود، وقد أقصّ الأمير فلانا من فلان إذا اقتصّ له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله. -

الوليُّ القتل، الاِستسلامُ لأمر اللَّه، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليِّه، وترك التعدِّي على غيره، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباحٌ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغاية عند التّشاحّ «1» ، والْقِصاصُ: مأخوذ من: قَصِّ الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل، فقص أثره فيها.

_ ينظر: «الصحاح» (3/ 1052) ، و «القاموس المحيط» (2/ 324) ، و «المصباح المنير» (2/ 778) ، و «المغرب» (2/ 182) . وقد اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص، واختلفت أنظار المفكرين في جوازه أو عدمه، وأخذ كل يدافع عن فكرته، ويحاجج عن رأيه، حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالقسوة في تقرير هذه العقوبة، وقالوا: إنها غير صالحة لهذا الزمن، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن مهما بلغوا في الرقي، وتقدموا في الحضارة. كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام، ولكن للاعتداء فيها يده المثمرة، وللإسراف فيها ضرره البالغ، فحد الإسلام من غلوائها، وقصر من عدوانها، ومنع الإسراف منها. فقال تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الإسرا: 33] فلم يبح دم من لم يشترك في القتل قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. وقال عز من قائل: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ... [المائدة: 45] الآية، ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس، وترك للجماعة الراقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث، وعركوا الأمور، ودرسوا طبائع النفوس البشرية، ونزعاتها وغرائزها، فهداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة، لإنتاج الغاية المقصودة، وهي إقرار الأمن وطمأنة النفوس، ودرء العدوان والبغي، وإنقاذ كثيرين من الهلاك، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ. ولقد فهم أولو الألباب هذه الحكمة البالغة، وقدروها حق قدرها، وها نحن أولاء نرى اليوم أن الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها لما رأته في ذلك من المصلحة. وأمكننا الآن أن نقول: إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع. أما القصاص في غير القتل مما ورد في الآية الكريمة: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 45] فهو في غاية الحكمة والعدالة إذ لو لم يكن الأمر كذلك لاعتدى القوي على الضعيف، وشوه خلقته، وفعل به ما أمكنته الفرصة لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله، أو شرا يصيبه، ولو اقتصر الأمر على الديات كما هو الحال في القوانين الوضعية لكان سهلا على الباغي يسيرا على الجاني، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله في سبيل تعجيز عدوه، وتشويهه ما دامت القوة في يده، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسوء من أعضاء عدوه سيصيب أعضاءه مثله كذلك، انكمش وارتدع، وسلموا جميعا من الشر. (1) يقال: هما يتشاحّان على أمر: إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته ... ، وتشاحّ الخصمان في الجدل كذلك. ينظر: «لسان العرب» (2205) .

روي عن ابن عَبَّاس أنَّ هذه الآية مُحْكَمة «1» ، وفيها إِجمال فسَّرته آية «المائدة» ، وأن قوله سبحانه: الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعمُّ الرجال والنساء، وأجمعتِ الأمة على قتل الرجُلِ بالمرأةِ، والمرأة بالرجل «2» . وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ... الآيةَ: فيه تأويلاتٌ: أحدها: أنَّ «مَنْ» يرادُ بها القاتلُ، و «عُفِيَ» : تتضمن عافياً، وهو وليُّ الدم، والأخُ: هو المقتولُ، و «شَيْءٌ» : هو الدمُ الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابْنِ عَبَّاس، وجماعة من العلماء «3» ، والعَفْوُ على هذا القولِ على بابه. والتأويلُ الثَّاني: وهو قول مالكٍ أنَّ «مَنْ» يراد بها الوليُّ، وعُفِيَ: بمعنى: يُسِّرَ، لا على بابها في العَفْو، والأخُ: يراد به القاتل، و «شَيْءٌ» : هي الديةُ، والأخوَّة على هذا أخوَّة الإِسلام. والتأويل الثالثُ: أنَّ هذه الألفاظ في معنى: الَّذين نزلَتْ فيهم الآيةُ، وهم قومٌ تقاتَلُوا، فقتل بعضهم بعضا، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يصلحَ بينهم، ويُقَاصَّهم بعضَهم من بعض بالدِّيَات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية: فمن فضِل له من إِحدى الطائفتين على الأخرى شيْءٌ من تلك الدِّيَاتِ، وتكون: «عُفِيَ» بمعنى فَضِلَ. وقوله تعالى: فَاتِّباعٌ: تقديره: فالواجبُ والحُكْمُ: اتباع، وهذا سبيلُ الواجباتِ كقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: 229] وأما المندوبُ إِلَيْه، فيأتي منصوباً كقوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4] ، وهذه الآية حضٌّ من اللَّه تعالى على حسن الاقتضاءِ من الطالِبِ، وحُسْنِ القضاء من المُؤَدِّي. وقوله سبحانه: ذلِكَ تَخْفِيفٌ إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم، إِنما هو القِصَاصُ فَقَطْ، والاعتداء المتوعّد عليه في هذه

_ (1) المحكم: هو ما لا يحتمل شيئا من ذلك، وحكمه بثبوت ما انتظمه على اليقين، ويرادفه المبين عند علماء الشافعية. (2) أخرجه الطبري (2/ 110) برقم (2579) ، والبيهقي في «السنن» (8/ 39- 40) ، وذكره ابن عطية (1/ 245) ، وأورده ابن عباس في «تفسيره» (ص 93/ 52) وابن كثير (1/ 209) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 316) ، وعزاه للنحاس في «ناسخه» . (3) ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 245) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 180 إلى 182]

الآية، هو أنْ يأخذ الرجُلُ ديةَ وليِّه، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم. واختلف في العذابِ الأليم الَّذي يلحقه، فقال فريقٌ من العلماء، منهم مالك: هو كَمَنْ قتل ابتداءً، إِن شاء الوليُّ قتله، وإِن شاء، عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وغيره: يقتل البتَّةَ، ولا عَفْوَ فيه «1» ، ورُوِيَ في ذلك حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ: المعنى: أن القصاص إِذا أقيم، وتحقَّق الحكْمُ به، ازدجر مَنْ يريد قتْلَ أحدٍ مخافَةَ أن يقتصَّ منه، فَحَيِيَا بذلك معاً، وأيضاً: فكانت العربُ إِذا قتل الرجلُ الآخَر، حمي قبيلاَهُما «2» ، وتقاتلوا، وكان ذلك داعياً إلى موت العددِ الكثيرِ، فلمَّا شرَعَ اللَّه سبحانه القِصَاص، قنع الكلُّ به، ووقَف عنده، وتركوا الاقتِتال، فلهم في ذلك حياةٌ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر، تنبيهاً عليهم لأنهم العارفون القابلُون للأوامر والنواهِي، وغيرهم تبع لهم. وتَتَّقُونَ معناه: القتل، فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع 44 أالتقوى في غير ذلك، فإن اللَّه سبحانه/ يثيبُ على الطاعة بالطاعة. [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) وقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... الآية: كُتِبَ: معناه: فُرِضَ وأُثْبِتَ، وفي قوله تعالى: إِذا حَضَرَ مجازٌ لأن المعنى: إِذا تخوَّف وحضرتْ علاماتُهُ. والخير في هذه الآية: المالُ، واختُلِفَ في هذه الآية، هل هي مُحْكَمَةٌ، أو منسوخةٌ، فقال ابنُ عبَّاس، وقتادةُ، والحَسَن: الآيةُ عامَّة، وتقرَّر الحكم بها برهةً، ونسخ منها كلّ من يرث بآية الفرائض «3» ، وقال بعضُ العلماء: إِن الناسخ لهذه الآية هي السّنّة المتواترة، وهو

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 246) عن قتادة، وعكرمة، والسدي، وغيرهم. (2) القبيل: الجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى، كالزنج والروم والعرب، وقد يكونون من نحو واحد، وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة. وجمع القبيل قبل. ينظر: «لسان العرب» (3519) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 122- 123) عن ابن عباس، والحسن، وقتادة بألفاظ متقاربة، وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» عن قتادة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 248) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 إلى 184]

قوله صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أعطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حقّه فلا وصيّة لوارث» «1» . وبِالْمَعْرُوفِ: معناه بالقصد الَّذي تعرفه النفوسُ دون إِضرار بالورثة، ولا تنزير «2» للوصية وحَقًّا: مصدر مؤكِّد، وخُصَّ «المتقون» بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر النَّاس إِليها. وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ ... الآية: الضمير في «بَدَّلَهُ» عائدٌ على الإيصاء، وأمر الميت، وكذلك في «سَمِعَهُ» ، ويحتمل أن يعود الذي في «سَمِعَهُ» على أمر اللَّه تعالى في هذه الآية، والأول أسبق للناظر، وسَمِيعٌ عَلِيمٌ: صفتان لا يخفى معهما شيْءٌ من جَنَفِ الموصِينَ، وتبديلِ المتعدينَ، والجَنَفُ: الميل. ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصِي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمَّد الإِذاءة، فذلك هو الجَنَفُ في إِثم، وإِن لم يتعمَّد، فهو الجنف دون إِثم «3» ، فالمعنى: مَنْ وعظه في ذلك وردَّه عنه، وأصلح ما بينه وبين ورثَتِهِ، وما بين الورثة في ذاتهم، فلا إِثم عليه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالموصِي، إِذا عملت فيه الموعظة، ورجع عما أراد من الإذاءة. وقال ابن عبّاس وغيره: معنى الآية: فَمَنْ خافَ، أي: علِم، ورأى بعد موت الموصِي أن الموصِيَ حَافَ، وجَنَف، وتعمَّد إذاءة بعض ورثته، فَأَصْلَحَ ما بين الورثة، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وإِن كان في فعله تبديلٌ مَّا لأنه تبديلٌ لمصلحة، والتبديلُ الذي فيه الإِثم إنما هو تبديل الهوى «4» . [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 184] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

_ (1) تقدم. (2) التنزير: تفعيل من النّزر، وهو: القليل التافه من كل شيء. والمقصود ألا يقلل من الوصية ولو شيئا يسيرا. (3) أخرجه الطبري (2/ 129) برقم (2697- 2698) بإسنادين مختلفين، عن مجاهد. وذكره ابن عطية (1/ 249) ، والبغوي في تفسيره (1/ 148) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 321) ، وعزاه لابن جرير، وعبد بن حميد. (4) أخرجه الطبري (2/ 129) برقم (2699) ، وذكره ابن عطية (1/ 249) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 320) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

قوله جلّت قدرته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... الآية: كُتِبَ: معناه فُرِضَ، والصيام في اللغة: الإِمساك، ومنه قوله سبحانه: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مريم: 26] وفي الشرع: إِمساكٌ عن الطعام والشراب مقترنةٌ به قرائنُ مِنْ مُراعاة أوقاتٍ، وغير ذلك. وقوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: اختلف في موضع التشبيه: قالتْ فرقة: التشبيهُ: كُتِبَ عليكم كصيامٍ قد تقدَّم في شرع غيركم، ف «الّذين» عامّ في النصارى «1» وغيرهم. ولَعَلَّكُمْ: ترجّ في حقهم. وتَتَّقُونَ: قيل على العموم لأن الصيام كما قال صلّى الله عليه وسلم: «جنّة «2» ووجاء، وسبب

_ (1) هذا قول، والقول الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره، وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور، فأما أن يقال: إنه يقتضي الاستواء في كل الأمور فلا. ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها. أحدها: أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود، والنصارى، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوما من السنة، وزعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وكذبوا في ذلك أيضا لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان، فصادفوا فيه الحر الشديد، فحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل: نزيد فيه، فزادوا عشرا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم، فنذر سبعا، فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة، فأتمه خمسين يوما، وهذا معنى قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التوبة: 31] وهذا مروي عن الحسن. وثانيها: أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا، فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما، ولهذا كره صوم يوم الشك، وهو مروي عن الشعبي، وثالثها: أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم. واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: 187] يفيد نسخ هذا الحكم، فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه، ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلا على ثبوت هذا المعنى، قال أصحاب القول الأول: قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصا برمضان، وأن يكون صومهم مقدرا بثلاثين يوما، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك. ينظر: «الفخر الرازي» (5/ 60) . [.....] (2) أخرجه البخاري (4/ 125) ، كتاب «الصوم» ، باب فضل الصوم حديث (1894) ، ومسلم (2/ 806) كتاب «الصيام» ، باب فضل الصيام حديث (162/ 1151) . ومالك (1/ 310) كتاب «الصيام» ، باب.

تقوى لأنه يميت الشهوات» . وأَيَّاماً مَعْدُوداتٍ: قيل: رمضان، وقيل: الثلاثةُ الأيام من كل شهرٍ، ويومُ عاشوراءَ الَّتي نُسخَتْ بشهر رمضان. ص: وأَيَّاماً: منصوبٌ بفعل مقدَّر يدلُّ عليه ما قبله، أي: صوموا أياماً، وقيل: أَيَّاماً: نصب على الظرف «1» انتهى.

_ جامع الصيام حديث (58) . وأبو داود (1/ 72) ، كتاب «الصيام» ، باب الغيبة للصائم حديث (2363) . وأحمد (2/ 465) ، والبيهقي (4/ 269) كتاب «الصيام» ، باب الصائم ينزه صيامه عن اللفظة والمشاتمة، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 453- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الصيام جنة، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه- فليقل: إني صائم مرتين-، والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» لفظ البخاري. وأخرجه البخاري (4/ 141) كتاب «الصيام» ، باب هل يقول الصائم: إني صائم إذا شتم، حديث (1904) . ومسلم (2/ 806) ، كتاب «الصيام» ، باب فضل الصيام، حديث (163/ 1151) . والنسائي (4/ 1263) ، كتاب «الصوم» ، باب فضل الصوم، وأحمد (2/ 273) ، والبيهقي (4/ 270) . كلهم من طريق ابن جريج، حدثني عطاء عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري (1/ 381) ، كتاب «اللباس» ، باب ما يذكر في المسك، حديث (5927) . ومسلم (2/ 806) كتاب «الصيام» ، باب فضل الصيام، حديث (161/ 1151) . والترمذي (3/ 163) ، كتاب «الصوم» ، باب ما جاء في فضل الصوم، حديث (764) . والنسائي (4/ 164) ، كتاب «الصوم» ، باب فضل الصوم. وأحمد (2/ 281) ، وعبد الرزاق (4/ 306) رقم (7891) . والبغوي في «شرح السنة» (3/ 451- بتحقيقنا) . كلهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حسن غريب من هذا الوجه. وأخرجه البخاري (13/ 472) كتاب «التوحيد» ، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ حديث (7492) ، ومسلم (2/ 806) كتاب «الصيام» ، باب فضل الصيام، حديث (164/ 1151) ، وأحمد (2/ 393، 443، 477، 480) . وابن ماجة (1/ 525) ، كتاب «الصيام» ، باب ما جاء في فضل الصيام حديث (1638) ، (2/ 1256) ، كتاب «الأدب» ، باب فضل العمل حديث (3823) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 45- بتحقيقنا) ، من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (13/ 521) كتاب «التوحيد» ، باب ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، وروايته عن ربه حديث (7538) ، وأحمد (2/ 457، 467، 504) . والطيالسي (1/ 181- منحة) رقم (863) ، من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (2/ 503) ، والدارمي (2/ 25) كتاب «الصيام» ، باب فضل الصيام، وأبو يعلى (10/ 353) رقم (5947) ، من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. (1) وقيل: منصوب بالصيام، ولم يذكر الزمخشري غيره. ونظّره بقولك: «نويت الخروج يوم الجمعة» ، -

وقوله سبحانه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ: التقدير: فأفْطَرَ، فَعِدَّةٌ، وهذا يسمونه فَحْوَى «1» الخطابِ، واختلف العلماءُ في حَدِّ المرض الذي يقع به الفطْر، فقال جمهور العلماء: إِذا كان به مرضٌ يؤذيه، ويؤلمه أو يخاف تَمادِيَهُ، أو يخافُ من الصوم تزيُّده، صحَّ له الفطْرُ، وهذا مذْهَبُ حُذَّاقِ أصحاب مالك، وبه يناظرون، وأما لفظ 44 ب مالكٍ: فهو المرضُ الَّذي يَشُقُّ على المرء، ويبلغ به، واختلف في الأفضل/ من الفِطْرِ أو الصَّوْمِ، ومذهبُ مالكٍ استحباب الصومِ لمن قَدَرَ علَيْه، وتقصيرُ الصَّلاة حَسَنٌ لأن الذمَّة تبرأ في رخصة الصلاة، وهي مشغولةٌ في أمر الصيام، والصوابُ: المبادرةُ بالأعمال. والسَّفَرُ: سفَرُ الطاعةِ كالحجِّ، والجهادِ بإجماع، ويتصلُ بهذَيْن سفَرُ صلَةِ الرَّحِمِ، وطلبِ المعاشِ الضروريِّ. وأما سفر التجارة، والمباحاتِ، فمختلَفٌ فيه بالمنع، والجواز، والقولُ بالجواز أرجح.

_ - وهذا ليس بشيء، لأنّه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، وهو قوله: «كما كتب» لأنه ليس معمولا للمصدر على أيّ تقدير قدّرته. فإن قيل: يجعل «كما كتب» صفة للصيام، وذلك على رأي من يجيز وصف المعرّف بأل الجنسية بما يجري مجرى النكرة فلا يكون أجنبيا. قيل: يلزم من ذلك وصف المصدر قبل ذكر معموله، وهو ممتنع. وقيل: منصوب بالصيام على أن تقدّر الكاف نعتا لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وإن كان ضعيفا، فيكون التقدير: «الصيام صوما كما كتب» فجاز أن يعمل في «أياما» «الصيام» لأنه إذ ذاك عامل في «صوما» الذي هو موصوف ب «كما كتب» فلا يقع الفصل بينهما بأجنبي بل بمعمول المصدر. وقيل: ينتصب بكتب: إمّا على الظرف وإمّا على المفعول به توسّعا، وإليه نحا الفراء وتبعه أبو البقاء. قال أبو حيان: «وكلا القولين خطأ: أمّا النصب على الظرف فإنه محلّ للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلّقها هو الواقع في الأيام. وأمّا النصب على المفعول اتّساعا فإنّ ذلك مبنيّ على كونه ظرفا لكتب، وقد تقدّم أنه خطأ. ينظر: «الدر المصون» (1/ 460) . (1) وهو: مفهوم الموافقة وهو ما كان مدلول اللفظ في محل المسكوت موافقا لمعناه في محل المنطوق، ويسمى «دلالة النص» ، و «فحوى الخطاب» ، و «لحن الخطاب» . وقد اتفق الشّافعية، والحنفية على حجية الفحوى، واشترط الشافعية أولوية المسكوت. وينظر تفصيل ذلك في: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 7) ، «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 449) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 62) ، «نهاية السول» للأسنوي (2/ 202) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (37) ، «المنخول» للغزالي (208) ، «حاشية البناني» (1/ 240) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 367) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (20/ 15) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 319) ، «التحرير» لابن الهمام (29) ، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (2/ 172) ، «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (1/ 112) .

وأما سفر العصْيَان، فمختلف فيه بالجوازِ، والمنعِ، والقولُ بالمنع أرجحُ. ومسافةُ سفر الفطر عند مالك، حيث تقصر الصلاة ثمانيةٌ وأربعون «1» ميلاً.

_ (1) يباح للمسافر الفطر في رمضان إذا تحققت الشروط الآتية: الأول: أن يكون سفره سفر قصر، أي: أن يكون سفرا طويلا، والسفر الطويل: ما كان مرحلتين فأكثر، وهما: سير يومين من غير ليلة على الاعتبار، أو ليلتين بلا يوم كذلك، أو يوم وليلة مع النزول المعتاد، لنحو استراحة، أو أكل أو صلاة، وأن تكون المرحلتان بسير الأثقال. أي: الحيوانات المثقلة بالأحمال، والبحر كالبر في اشتراط المسافة المذكورة، فلو قطع الأميال فيه في ساعة مثلا لشدة جري السفينة بالهواء، فإنه يبيح له الفطر أيضا لوجود المسافة الصالحة، ولا يضرّ قطعها في زمن يسير. فإن قيل: إذا قطع المسافة في لحظة صار مقيما، فكيف يتصور ترخيصه فيها؟ أجيب بأنّه لا يلزم من وصول المقصد انتهاء الرّخصة. الشرط الثاني: أن يكون سفره في غير معصية بألّا يكون عاصيا بالسفر، وهو الذي أنشأ سفره معصية، ولا عاصيا بالسفر في السفر، وهو الذي أنشأ سفره طاعة ثم قلبه معصية. أمّا العاصي في السفر، وهو من أنشأ سفره طاعة، واستمر كذلك إلّا أنه وقعت منه معصية في أثناء سفره فيجوز له الفطر، ولم يجوّز الشارع الفطر لمن كان سفره في معصية لأن ذلك يكون إعانة له على المعصية ولأن جواز الفطر رخصة والرخصة لا تناط بالمعاصي. وبناء على هذين الشرطين يمكن أن يقال: إنّ المسافر الذي كان سفره في غير معصية، وكان سفره سفر قصر يباح له الفطر بالإجماع لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي: فله الفطر وعليه عدة من أيام أخر، ولما روت السيدة عائشة- رضي الله عنها- أن حمزة بن عمر الأسلمي قال: يا رسول الله أأصوم في السّفر؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» . ثمّ إن كان المسافر ممن لا يجهده الصوم. أي: لا يتضرر به، فالأفضل له الصوم لما روي عن أنس- رضي الله عنه- أنه قال للصّائم في السّفر: «إن أفطرت فرخصة، وإن صمت فأفضل» . وأنّه لو أفطر عرض الصوم للنسيان، وحوادث الأيّام ولأن شهر الصوم له أفضلية ومزيّة على سائر الأيّام. وإن كان المسافر ممن يجهده الصوم، أي: يتضرر به فالأفضل له الفطر لما روى جابر- رضي الله عنه- أنّه قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر برجل تحت شجرة يرشّ عليه الماء، فقال (عليه السّلام) : «ما بال هذا» ؟ قالوا: صائم يا رسول الله. قال (عليه السّلام) : «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» . فإن صام المسافر ثمّ أراد أن يفطر فله أن يفطر لأن العذر قائم، كما لو صام المريض وأراد أن يفطر. الشرط الثالث: أن يكو السّفر سابقا على الصوم بأن يكون الشروع فيه سابقا على الشروع في الصوم، كأن يقع السفر بعد الغروب، وقبل الفجر. أمّا إذا كان الشروع في السّفر بعد الشروع في الصوم، فيحرم عليه الفطر، ويجب الصوم. وقال المزني: له أن يفطر، كما لو أصبح الصحيح صائما، ثمّ مرض. والمذهب الأوّل، وهو وجوب الصّوم وعدم جواز الفطر. دليل ذلك: أنّه عبادة أجتمع فيها سفر وحضر، وكل عبادة يجتمع فيها سفر وحضر يغلب جانب الحضر لأنّه الأصل. وعلى الأول: لو جامع فيه لزمه الكفارة لأنّه يوم من رمضان هو صائم فيه صوما لا يجوز فيه الفطر. الشرط الرابع: أن يرجو المسافر إقامة يقضي فيها ما أفطره من أيام سفره، فإن لم يرج إقامة يقضي فيها ما-

وقوله تعالى: فَعِدَّةٌ، أي: فالحكم أو الواجب عدّة، وفي وجوب تتابعها قولان، وأُخَرَ لا ينصرف للعَدْلِ. وقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ... الآية: قرأ باقي السبعة «1» غيْرَ نافعٍ وابنِ عامر: «فِدْيَةٌ» بالتنوين «طَعَامُ مِسْكِينٍ» بالإِفراد، وهي قراءة حَسَنةٌ لأنها بيَّنت الحكم في اليوم. واختلفوا في المراد بالآية، فقال ابن عُمَر وجماعةٌ: كان فرضُ الصيامِ هكذا على

_ - أفطره، بأن كان مديم السّفر، فلا يباح له الفطر، لأنّ إباحة الفطر في هذه الحالة تؤدّي إلى إسقاط الفرض بالكلية، نعم، لو قصد القضاء في أيام أخرى من أيام سفره، جاز له الفطر، ولا فرق في جواز الفطر للمسافر بين أن يكون بأكل أو نحوه، كجماع، وغير ذلك. ومتى أفطر المسافر وجب عليه القضاء دون الفدية، ثم إنّه إذا قدم المسافر، أو برىء المريض، وهما مفطران استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت، ولا يجب عليهما ذلك لأنهما أفطرا بعذر. ويندب لهما إذا أكلا ألّا يأكلا إلّا عند من يعرف عذرهما لخوف التهمة. وإذا قدم المسافر، وهو صائم، أو برىء المريض وهو صائم، ففي جواز إفطاره وجهان. أحدهما: أنه يجوز لهما الفطر، وبه قال ابن أبي هريرة لأنه أبيح لهما الفطر من أوّل النهار، فجاز لهما الإفطار في بقيّة النّهار، كما لو دام السّفر والمرض. وثانيهما: لا يجوز لهما الإفطار، وهو قول القاضي أبي الطيّب وجمهور الأصحاب لأنه زال سبب الرّخصة قبل الترخص. واعلم أنّه لا يباح الفطر في شهر رمضان بسبب من الأسباب المتقدمة، ألّا إذا نوى المفطر الترخص بفطره، بأن يقصد أن الشارع رخّص له الفطر، وذلك ليحصل الفرق، والتمييز بين الفطر الجائز والفطر الممتنع. فلو أفطر بدون النّيّة المذكورة حرم عليه الفطر، وأثم به. (1) وأما قراءة نافع وابن عامر، فهي «فدية طعام مساكين» ، وحجتهما في الإضافة أولا: أن الفدية غير الطعام، وأن الطعام إنما هو المفدى به الصوم، لا الفدية، فإذا كان كذلك فالصواب في القراءة إضافة الفدية إلى الطعام. وحجة الجمع أيضا: قوله قبلها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، ثم قال: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قالوا: إنما عرف عباده حكم من أفطر الأيام التي كتب عليهم صومها بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون القراءة في «المساكين» على الجمع لا على التوحيد، ويكون تأويل الآية: وعلى الذين يطيقونه فدية أيام يفطر فيها إطعام مساكين، ثم تحذف «أياما» وتقيم «الطعام» مكانها. ينظر: «حجة القراءات» (124، 125) ، «السبعة» (176) ، و «والكشف» (1/ 282) ، و «الحجة للقراء السبعة» (2/ 273) ، و «شرح الطيبة» (4/ 91) ، و «معاني القراءات» (1/ 192) ، و «شرح شعلة» (284، 285) ، و «العنوان» (73) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 430) .

الناس مَنْ أراد أن يصوم، صام، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكيناً، وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «1» [البقرة: 185] . وقالت فرقة: الآية في الشيوخ الذي يطيقونه بتكلُّف شديدٍ «2» ، والآيةُ عند مالك: إِنما هي فيمَنْ يدركه رمضانٌ ثانٍ، وعليه صومٌ من المتقدِّم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوْمَ، فتركه، والفديةُ عند مالك وجماعةٍ من العلماء: مُدٌّ لكلِّ مسكين. وقوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: المراد مَنْ أطعم مسكينَيْنِ فصاعدًا «3» ، وقال ابن شِهَابٍ «4» : من زاد الإطعام مع

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 139) برقم (2747) ، وقال أحمد شاكر في «عمدة التفاسير» (3/ 421) : «عمر بن المثنى» هكذا في المطبوعة، وأنا أرجح أن يكون صوابه «محمد بن المثنى» ، شيخ الطبري الذي يروي عنه كثيرا. ولم أجد من يسمى «عمر بن المثنى» إلا رجلا واحدا في «التهذيب» ، و «لسان الميزان» ، على أنه من التابعين ثم لم أجترئ على تصحيحه هذا، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذين لم نجد تراجمهم. عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. عبد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عرف بلقب «العمري» وهو ثقة مترجم في «التهذيب» ، وابن أبي حاتم (2/ 2/ 109- 110) ، ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ، وأن يكون صوابه «عبيد الله» بالتصغير، وهو أخو عبد الله أكبر منه، وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل، وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في «التهذيب» ، وابن أبي حاتم (2/ 2/ 326- 327) ، وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ، منهم: «نافع مولى ابن عمر» ، وإنما ظننت هذا الاحتمال لأن الحديث مروي من حديث «عبيد الله» . فرواه البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 200) ، من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه البخاري مختصرا (4/ 164، 8/ 136) من طريق عبد الأعلى، وهو ابن عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه البيهقي أيضا من أحد طريقي البخاري. والحديث صحيح بكل حال. اهـ. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 325) ، وعزاه لوكيع، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في «المصنف» ، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «سننه» . وذكره ابن عطية (1/ 252) ، عن ابن عمر، والشعبي، وسلمة بن الأكوع، وابن شهاب، ومعاذ بن جبل، وعلقمة، والنخعي، والحسن البصري. (2) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 252) . (3) أخرجه الطبري (2/ 148) برقم (2802) عن ابن عباس بلفظ: «فزاد طعام مسكين آخر» ، وذكره ابن عطية (1/ 253) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 327) ، عن طاوس بلفظ: «إطعام مساكين» ، وعزاه لعبد بن حميد. اهـ. (4) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشي، -

الصوم «1» ، وقال مجاهدٌ: مَنْ زاد في الإِطعام على المدّ «2» ، وخَيْراً الأول قد نُزِّل منزلة مالٍ، أو نفعٍ، وخَيْرٌ الثاني والثالثُ صفةُ تفضيلٍ. وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقتضي الحضَّ على الصوْمِ، أي: فاعلموا ذلك وصوموا. ت: وجاء في فضل الصومِ أحاديثُ صحيحةٌ مشهورةٌ، وحدث أبو بكر بْنُ الخَطِيبُ بسنده عن سهل بن سعد الساعديّ «3» عن النبي صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْماً تَطوُّعاً، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ» «4» ، قال: وبهذا الإِسناد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم بمثله. انتهى «5» .

_ - الزهري، أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام وعالم الحجاز والشام. عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس، ومحمود بن الربيع، وابن المسيّب وخلق. وعنه أبان بن صالح، وأيوب، وإبراهيم بن أبي عبلة، وجعفر بن برقان، وابن عيينة، وابن جريج، والليث، ومالك وأمم. قال ابن المديني: له نحو ألفي حديث. قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئا فنسيته. وقال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب. وقال أيوب: ما رأيت أعلم من الزهري، وقال مالك: كان ابن شهاب من أسخى الناس وتقيّا، ما له في الناس نظير. قال إبراهيم بن سعد: مات سنة أربع وعشرين ومائة. ينظر: «تهذيب الكمال» (3/ 1269) ، و «تهذيب التهذيب» (9/ 445) ، و «تقريب التهذيب» (2/ 207) ، و «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 457) ، و «الكاشف» (3/ 96) ، و «تاريخ البخاري الكبير» (1/ 220) ، و «تاريخ البخاري الصغير» (1/ 56، 320) ، و «الجرح والتعديل» (8/ 318) . (1) أخرجه الطبري (2/ 149) برقم (2813) ، وذكره ابن عطية (1/ 253) . [.....] (2) أخرجه الطبري (2/ 149) برقم (2814) ، وذكره ابن عطية (1/ 253) ، والبغوي في «التفسير» (1/ 150) . (3) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب. أبو العباس. وقيل: أبو يحيى، الأنصاري، الساعدي. قال ابن الأثير في «الأسد» : شهد قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المتلاعنين، وأنه فرق بينهما، وكان اسمه حزنا، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم سهلا. قال الزهري: رأى سهل بن سعد النبي صلّى الله عليه وسلم وسمع منه، وذكر أنه كان له يوم توفي النبي صلّى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة. توفي سنة (88) وله (96) سنة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 472) ، «الإصابة» (3/ 140) ، «الكاشف» (1/ 407) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 244) ، «الثقات» (3/ 168) ، «الاستيعاب» (2/ 664) ، «تهذيب الكمال» (1/ 555) ، «تهذيب التهذيب» (4/ 252) ، «تقريب التهذيب» (1/ 336) ، «الجرح والتعديل» (4/ 853) ، «شذرات الذهب» (1/ 63) ، «الرياض المستطابة» (110) ، «الأعلام» (1/ 143) . (4) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/ 278) ، عن سهل بن سعد الساعدي. (5) ينظر المصدر السابق.

قال ابن عبد البَرِّ في كتابهِ المسمَّى ب «بهجةِ المَجالِسِ» قال أبو العالية: الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتَبْ. قال الشيخُ الصالحُ أبو عبد اللَّه محمَّد البلاليُّ الشافعيُّ في «اختصاره للإحياء» : وذكر السُّبْكِيُّ «1» في شرحه أن الغِيبَةَ تمنع ثوابَ الصوْمِ إِجماعاً، قال البلاليُّ: وفيه نظر لمشقَّة الاحتراز، نعم، إِن أكثر، توجَّهت المقالة. انتهى، وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ، ورويتُ عنه كتابه هَذَا. وصحَّ عنه صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ» «2» قال أبو عمر في «التمهيد» «3» : وذلك لأن الصوْمَ جُنَّةٌ يستجنُّ بها العَبْدُ من النار، وتُفْتَحُ لهم أبواب الجنة لأن أعمالهم تزكو فيه، تقبل منهم، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهَا: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أَطْيَبُ/ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الملائكة حتّى 45 أيفطروا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّائِمُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَئُونَةَ، والأذى، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَيْكِ، وَتُصَفَّدُ «4» فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلاَ يَخْلُصُونَ إلى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، ويَغْفِرُ لَهُمْ آخِرَ لَيْلَةٍ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ القدر؟

_ (1) علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، الأنصاري، الخزرجي، الشيخ الإمام الفقيه، المحدث، الحافظ، المفسر، المقرئ، الأصولي، المتكلم، النحوي، اللغوي، الأديب الحكيم، المنطقي، الجدلي، الخلافي، النظار، شيخ الإسلام، قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ولد بسبك من أعمال الشرقية في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة. قال ابن الرفعة: إمام الفقهاء ومصنفاته تزيد على المائة والخمسين. توفي في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبعمائة. ينظر: «ابن قاضي شهبة» (3/ 603) ، و «الدرر الكامنة» (3/ 58) و «شذرات الذهب» (6/ 187) . (2) أخرجه البخاري (4/ 135) كتاب «الصوم» ، باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان، حديث (1898، 1899) ، ومسلم (2/ 758) ، كتاب «الصيام» ، باب فضل شهر رمضان، حديث (1، 2/ 1079) ، والنسائي (4/ 126- 127) ، كتاب «الصيام» ، باب فضل شهر رمضان، وأحمد (2/ 357، 401) ، والدارمي (2/ 26) ، كتاب «الصوم» ، باب في فضل شهر رمضان، وابن حبان (3434) ، والبيهقي (4/ 202) كتاب «الصيام» ، باب ما روي في كراهية قول القائل: جاء رمضان، وذهب رمضان. والبغوي في «شرح السنة» (3/ 446- بتحقيقنا) ، من حديث أبي هريرة مرفوعا. (3) ينظر: «التمهيد» (16/ 153) . (4) صفده يصفده صفدا وصفودا وصفّده: أوثقه، وشدّه وقيّده في الحديد وغيره، وكذلك التصفيد. ينظر: «لسان العرب» (2457) .

[سورة البقرة (2) : آية 185]

قَالَ: لاَ، ولَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يوفى أَجْرَهُ إِذَا انقضى» «1» ، قال أبو عمر: وفي سنده أبو المِقْدام، فيه ضعف، ولكنَّه محتملٌ فيما يرويه من الفضائل. وأسند أبو عمر عن الزهري، قال: «تسبيحة في رمضان أفضل من ألفِ تسبيحةٍ في غيره» . انتهى. ت: وخرَّجه الترمذيُّ عن الزهري قال: «تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ أفضل من ألف تسبيحة في غيره» «2» . انتهى. [سورة البقرة (2) : آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: الشَّهْرُ: مشتقٌّ من الاشتهار. قال ص: الشهر مصْدَرُ: شَهَر يَشْهر، إِذا ظهر، وهو اسم للمدَّة الزمانيَّة، وقال الزجَّاج: الشَّهْر: الهلالُ، وقيل: سمِّي الشهْرُ باسمِ الهلالِ. انتهى. ورَمَضَانُ: عَلِقَهُ هذا الاسمُ من مُدَّة كان فيها في الرَّمَضِ، وشدَّة الحَرِّ، وكان اسمه قبل ذلك نَاثراً «3» . واختلف في إنزال القرآن فيه، فقال الضَّحَّاك: أنزل في فَرْضِهِ، وتعظيمِهِ، والحضِّ

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 292) ، والبزار (1/ 458- كشف) رقم (963) ، من طريق هشام بن زياد، عن محمد بن محمد بن الأسود، عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا. وقال البزار: لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعا، إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم، وليس هو بالقوي في الحديث. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 143) ، وقال: رواه أحمد، والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف. اهـ. وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (932) ، وعزاه لأحمد بن منيع في «مسنده» . (2) ذكره السيوطي في «الدر» (1/ 341) ، عن الزهري، وعزاه للأصبهاني. (3) الصواب كما في «اللسان» (4337) «ناتقا» ، قال ابن منظور: «وناتق: شهر رمضان» ، وحكاه عن ابن سيده وغيره.

عليه «1» ، وقيل: بدىء بنُزُوله فيه علَى النبيِّ صلّى الله عليه وسلم وقال ابنُ عبَّاس فيما يؤثر: أنزل إِلى السماء الدنيا جملةً واحدةً ليلةَ أربعٍ وعشرينَ من رمضان، ثم كان جبرئيل ينزله رِسْلاً رِسْلاً في الأوامر، والنواهي، والأسباب «2» ، وروى واثلة بن الأسقع عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْهُ، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين» «3» . وهُدىً في موضع نصبٍ على الحال من القُرآن، فالمراد أن القرآن بجملته مِنْ مُحْكَمٍ ومتشابِهٍ وناسخٍ ومنسوخٍ- هُدًى ثم شُرِّفَ، بالذِّكْر، والتخصيصِ البيناتُ منه، يعني: الحلالَ والحرامَ والمواعظَ والمُحْكَمَ كلّه، فالألفُ واللامُ في الهدى للعهْدِ، والمراد الأول. قال ص: هُدىً: منصوبٌ على الحال، أي: هادياً، فهو مصدرٌ وضع موضعَ اسم الفاعلِ، وذو الحال القُرآن، والعاملُ «أنزل» . انتهى. والْفُرْقانِ: المفرّق بين الحق والباطل، وشَهِدَ: بمعنى حَضَر، والتقدير: مَنْ حضر المِصْرَ في الشَّهْر، فالشهر نصْبٌ على الظرف. وقوله سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. قال مجاهد، والضَّحَّاك: اليُسْر: الفِطْر في السفر، والعسر: الصوم في السفر «4» . ع «5» : والوجْهُ عمومُ اللفظِ في جميع أمورِ الدينِ، وقد فسر ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ» . «6» قلتُ: قال ابْنُ الفاكهانيِّ في «شرح الأربعينَ» للنَّوويِّ: فإِن قلْتَ: قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ... [الشرح: 6] الآيةَ: يدلُّ على وقوع العسر قطعا، وقوله تعالى:

_ (1) ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 254) . (2) ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 254) . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 343) وعزاه لابن جرير الطبري. [.....] (4) أخرجه أحمد (4/ 107) من حديث واثلة، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 202) ، وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ، وفيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. وبقية رجاله ثقات. (5) ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 255) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 255) .

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ يدلُّ على نفي العسرِ قطعاً لأن ما لا يريده تعالى، لا يكون بإجماع أهل السنة، قلْتُ: العسرُ المنفيُّ غير المثبت، فالمنفيُّ: إنما هو العسر في الأحكام، لا غير، فلا تعارض. انتهى. وترجم البخاريُّ في «صحيحه» قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا» ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَاليُسْرَ عَلَى النَّاسِ. ثم أسند هو ومسلمٌ عن أنس، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يسروا ولا 45 ب تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلاَ تْنَفِّرُوا» «1» وأسند البخاريُّ ومسلم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم/ أنه قال لأبِي موسى، ومعاذٍ «2» : «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا» «3» . قال البخاريُّ: حدَّثنا أبو النعمان «4» ، قال:

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 196) كتاب «العلم» ، باب ما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة، حديث (69) ، (10/ 524) كتاب «الأدب» ، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسّروا» حديث (6125) ، وفي «الأدب المفرد» رقم (469) ، ومسلم (3/ 1359) كتاب «الجهاد والسير» ، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير، حديث (8/ 1834) . وأحمد (3/ 131، 209) ، وأبو يعلى (7/ 187) رقم (4172) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 315- بتحقيقنا) ، من طريق أبي التياح عن أنس مرفوعا. (2) هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أديّ بن علي بن أسد بن ساردة ... أبو عبد الرحمن، الخزرجي، الأنصاري. ثم الجشمي. هو من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد روى عنه من الصحابة عمر، وابنه عبد الله، وأبو قتادة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو ليلى الأنصاري، ومن التابعين جنادة بن أبي أمية، وعبد الرحمن بن علم وأبو إدريس وغيرهم. توفي قيل: في طاعون «عمواس» سنة (18 أو 17) وله (38) سنة وقيل: (33) ، وقيل: (34) . تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 194) ، «الإصابة» (6/ 106) ، «الثقات» (3/ 368) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 80) ، «بقي بن مخلد» (26) ، «الاستيعاب» (3/ 1402) ، «الاستبصار» (48، 71، 126) ، «شذرات الذهب» (1/ 30، 62، 63) ، «الجرح والتعديل» (8/ 44) ، «غاية النهاية» (2/ 301) ، «العبر» (1/ 78) ، «تهذيب التهذيب» (10/ 186) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1338) ، «سير أعلام النبلاء» (1/ 443) ، «المصباح المضيء» (1/ 66) ، «الأعلام» (7/ 258) ، «الطبقات الكبرى» (9/ 184) . (3) أخرجه البخاري (7/ 660) ، كتاب «المغازي» ، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، حديث (4345) ، ومسلم (3/ 1359) ، كتاب «الجهاد والسير» ، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير، وأحمد (4/ 409) . (4) تصحف في المطبوعة إلى «أبو اليمان» ، وأبو النعمان هو: محمد بن الفضل السّدوسي، أبو النّعمان البصري، الحافظ الملقب ب «عارم» . عن الحمّادين، ومهدي بن ميمون، ووهيب بن خالد، وخلق. وعنه البخاري، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن يحيى، وعبد بن حميد وخلق. اختلط عارم. قال أبو حاتم: ثقة، من سمع منه قبل سنة عشرين ومائتين، فسماعه جيد. قال عاصم بن عمر المقدّمي: مات ستة أربع وعشرين ومائتين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 449) ، و «تهذيب التهذيب» (9/ 402) ، و «الكاشف» (3/ 89) ، و «التقريب» (2/ 200) ، و «المغني» (5903) .

حدَّثنا حمَّاد بْنُ زَيْدٍ «1» ، عن الأزرقِ بْن قَيْسٍ «2» . قال: «كُنَّا على شَاطِىءِ نَهْرٍ بِالأَهْوَاز «3» قَدْ نَضَبَ عَنْهُ المَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ «4» على فَرَسٍ، فصلى وخلى فَرَسَهُ، فانطلق الفَرَسُ فَتَرَكَ صَلاَتَهُ، وَتَبِعَهَا حتى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ، فقضى صَلاَتَهُ، وفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انظروا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاَتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ، فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِي مْنْزَاحٌ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ، وذكَر أنّه قد صحب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فرأى من تَيْسِيرِهِ «5» . انتهى. وقوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: معناه: ولْيُكْمِلْ من أَفْطَرَ في سفره، أو في مرضه عدَّةَ الأيام التي أفطر فيها.

_ (1) حماد بن زيد بن درهم الأزدي، أبو إسماعيل الأزرق، البصري، الحافظ، مولى جرير بن حازم، وأحد الأعلام. عن أنس بن سيرين، وثابت، وعاصم بن بهدلة، وابن واسع، وأيوب وخلق كثير. وعنه إبراهيم بن أبي عبلة، والثوري، وابن مهدي، وأبو الرّبيع الزّهراني وابن المديني وخلائق. قال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ منه، ولا أعلم بالسنة، ولا أفقه ب «البصرة» منه. وقال أحمد: من أئمة المسلمين. قال خالد بن خداش: توفي سنة سبع وتسعين ومائة عن إحدى وثمانين سنة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 251) ، و «تهذيب التهذيب» (3/ 9) ، و «التقريب» (1/ 197) ، و «الكاشف» (1/ 251) ، و «الثقات» (6/ 217) . (2) أزرق بن قيس الحارثي بلحارث بن كعب بصري. عن أبي برزة وعبد الله بن عمرو وأنس. وعنه الحمّادان وشعبة، ووثقه النسائي. قال الذهبي: بقي إلى حدود العشرين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 64) ، و «تهذيب التهذيب» (1/ 200) ، و «التقريب» (1/ 51) ، و «الكاشف» (1/ 102) ، و «الثقات» (4/ 62) . (3) أصله أحواز جمع «حوز» أبدلته الفرس لأنه ليس في كلامهم حاء، وكان اسمها في أيام الفرس «خوزستان» . وقيل: اسمها هرمز شهر، وأهل هذه البلاد بأسرها يقال لهم الحوز. ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 135) . (4) أبو برزة الأسلمي. قال ابن الأثير في «الأسد» : اختلف في اسمه واسم أبيه وأصح ما قيل فيه: نضلة بن عبيد قاله أحمد بن حنبل وابن معين، وقال غيرهما: نضلة بن عبد الله ويقال: نضلة بن عابد، وقال الخطيب أبو بكر عن الهيثم بن عدي: اسم أبي برزة خالد بن نضلة. نزل البصرة وله بها دار وسار إلى خراسان فنزل مرو وعاد إلى البصرة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 31) ، «الإصابة» (6/ 237) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 151) ، «بقي بن مخلد» (123) ، «الاستيعاب» (4/ 1610) ، «تقريب التهذيب» (2/ 294) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 20) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1580) ، «المصباح المضيء» (1/ 208) ، «التاريخ الصغير» (1/ 128) ، «الكنى والأسماء» (19) ، «التاريخ لابن معين» (2/ 151) ، «التاريخ الكبير» (9/ 92) ، تبصير المنتبه» (4/ 1472) . (5) أخرجه البخاري (10/ 541) ، كتاب «الأدب» ، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يسّروا ولا تعسروا» حديث (6127) .

[سورة البقرة (2) : آية 186]

وقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حضٌّ على التكبير في آخر رمضان. قال مالكٌ: وهو من حينِ يَخْرُجُ الرجلُ من منزله إِلى أنْ يخرج الإِمامُ إلى المصلى، ولفظه عند مالك وجماعةٍ من العلماء: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ ثلاثاً. ومن العلماء من يكبِّر، ويهلِّل، ويسبِّح أثناء التكبيرِ، ومنهم من يقول: اللَّه أكبر كبيراً، والحمدُ للَّهِ كَثيراً، وسبحانَ اللَّهِ بُكْرةً وأصيلاً، وقيل غير هذا. والجميعُ حسن واسع مع البداءة بالتكبير. وهَداكُمْ: قيل: المرادُ: لِمَا ضَلَّ فيه النصارى من تبديلِ صيامِهِمْ، وتعميمُ الهدى جيدٌ. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ترجٍّ في حق البَشَر، أي: على نعم اللَّه في الهدى. ص: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علَّةَ الترخيصِ والتيسيرِ، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المسلك انتهى. [سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) وقوله جلَّ وعلا: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ... الآيةَ. قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن: سببُها أن قوما قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ» ، فنزلتِ الآية «1» . وأُجِيبُ: قال قومٌ: المعنى: أجيبُ إِن شئْتُ، وقال قوم: إِن اللَّه تعالى يجيب كلَّ الدعاء، فإِما أن تظهر الإِجابةُ في الدنيا، وإما أن يكفِّر عنه، وإِما أن يُدَّخَرَ له أجرٌ في الآخرة، وهذا بحَسَب حديثِ «الموطَّإِ» ، وهو: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلاَّ كَانَ بين إحدى ثلاث ... » «2» الحديث.

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 165) برقم (2913) ، وقال شاكر في «عمدة التفاسير» (3/ 481) : «وهذا الإسناد صحيح إلى الحسن، ولكن الحديث ضعيف لأنه مرسل لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة» . وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 73) ، وابن كثير (1/ 218) . (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 218) . كتاب «القرآن» ، باب العمل في الدعاء حديث (41) . [.....]

ت: وليس هذا باختلاف قولٍ. قال ابن رُشْدٍ في «البيان» : الدعاءُ عبادةٌ من العبادات يؤْجر فيها الأجر العظيم، أَجيبَتْ دعوته فيما دعا به، أو لم تُجَبْ، وهأنا أنقل، إِن شاء اللَّه، من صحيح الأحاديث في هذا المَحَلِّ ما يَثْلَجُ له الصَدْرُ، وعن أنسٍ- رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: «لاَ تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ» رواه الحاكم أبو عبد اللَّه في «المُسْتَدْرَكِ» على الصحيحين، وابن حِبَّانَ في «صحيحه» ، واللفظ له، وقال الحاكم: صحيحُ الإِسناد «1» ، وعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ: سِلاَحُ المُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ» رواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيحٌ «2» ، وعن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ- رضي اللَّه عنهما- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدْعُو اللَّهُ بِالمُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ: عَبْدِي، إِنِّي أَمَرْتُكَ أَنْ تَدْعُونِي، وَوَعَدْتُّكَ أَنْ أَسْتَجِيبَ لَكَ، فَهَلْ كُنْتَ تَدْعُونِي، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، / فَيَقُولُ: أما إنّك لم 46 أتدعني بِدَعْوَةٍ إِلاَّ استجبت لَكَ، أَلَيْسَ دَعَوْتَنِي يَوْمَ كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ فَفَرَّجْتُ عَنْكَ؟! فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي يوم كذا وكذا لغم نزل بك، أن أُفَرِّجَ عَنْكَ، فَلَمْ تَرَ فَرَجاً؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنِّي ادخرت لَكَ بِهَا فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا [و] كَذَا وَكَذَا، وَدَعَوْتَنِي فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَقَضَيْتُهَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَوْتَنِي فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ، فَلَمْ تَرَ قَضَاءَهَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنِّي ادخرت لَكَ فِي الجَنَّةِ كذا وكذا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فَلاَ يَدَعُ اللَّهُ دَعْوَةً دَعَا بِهَا عَبْدُهُ المُؤْمِنُ إِلاَّ بَيَّنَ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ ادخر لَهُ فِي الآخِرَةِ، قَالَ: فَيَقُولُ المُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ المَقَامِ: يَا لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ عُجِّلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ دُعَائِهِ» ، رواه الحاكم في «المستدرك» «3» .

_ (1) أخرجه ابن حبان (3/ 152- 153) رقم (871) ، والحاكم (1/ 493- 494) ، من طريق عمر بن محمد الأسلمي، عن ثابت عن أنس مرفوعا. (2) أخرجه الحاكم (1/ 492) ، وابن عدي في «الكامل» (6/ 2181) ، وأبو يعلى (1/ 344) رقم (439) . كلهم من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي مرفوعا. وليس عن أبي هريرة كما ذكره المؤلف. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي، والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 150) ، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد، وهو متروك. (3) أخرجه الحاكم (1/ 494) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 208) ، من طريق الفضل بن عيسى، عن-

وعن ثَوْبَانَ- رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يَرُدُّ القَدَرِ إِلاَّ الدُّعَاءُ» ، رواه الحاكمُ في «المُسْتَدْرَكِ» ، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» ، واللفظ للحاكمِ، وقال: صحيحُ الإِسناد «1» . قلت: وقد أخرج ابن المبارك في «رقائقه» هذا الحديثَ أيضاً، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عبد اللَّه بن عيسى عن عبد اللَّه بن أبي الجَعْد «2» ، عن ثوبان «3» ، قال: قال رسول

_ - محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا. وقال الحاكم: هذا حديث تفرد به الفضل بن عيسى الرقاشي، ومحله محل من لا يتهم بالوضع، ووافقه الذهبي، والفضل بن عيسى، قال الحافظ في «التقريب» : متروك. (1) أخرجه ابن ماجة (2/ 1334) ، كتاب «الفتن» ، باب العقوبات حديث (1022) ، وأحمد (5/ 277، 280، 282) ، والحاكم (1/ 493) ، وابن أبي شيبة (10/ 441- 442) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 169) ، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 10) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (831) ، من حديث ثوبان مرفوعا. قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. (2) عبد الله بن أبي الجعد الأشجعي. عن ثوبان. وعنه عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى. له عند كل منهما فرد حديث. وثقه ابن حبان. ينظر: «الخلاصة» (2/ 46) . (3) هو: ثوبان بن بجدد. مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال ابن الأثير في «الأسد» : هو من «حمير» من «اليمن» ، وقيل: هو من سعد العشيرة من «مذحج» ، أصابه سباء، فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه، وقال له: «إن شئت أن تلحق بمن أنت منهم، وإن شئت أن تكون منا أهل البيت» . فثبت على ولاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يزل معه سفرا وحضرا إلى أن توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج إلى الشام فنزل إلى «الرملة» وابتنى بها دارا، وابتنى ب «مصر» دارا، وب «حمص» دارا، وتوفي بها سنة (54) . روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث ذوات عدد. روى عنه شداد بن أوس، وجبير بن نفير، وأبي إدريس الخولاني، وأبي سلام ممطور الحبشي، ومعدان بن أبي طلحة، وأبي الأشعث الصنعاني، وأبي أسماء الرحبي، وغيرهم. قال البرقي: روي عنه نحو من خمسين حديثا. توفي ب «حمص» سنة (54) . تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 296) ، «الإصابة» (1/ 212) ، «الثقات» (3/ 48) ، «الاستيعاب» (1/ 218) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 7) ، «العبر» (1/ 59) ، «در السحابة» (759) ، «صفة الصفوة» (670) ، «الحلية» (1/ 350) ، «التحفة اللطيفة» (1/ 401) ، «الوافي بالوفيات» (11/ 21) ، «التاريخ الكبير» (2/ 181) ، «الجرح والتعديل» (2/ 469) ، «تنقيح المقال» (1578) ، «الزهد» لوكيع (140) ، «بقي بن مخلد» (34) ، «تهذيب الكمال» (1/ 176، 4/ 413) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 31) ، «تقريب التهذيب» (1/ 120) ، «مشاهير علماء الأمصار» (324) .

الله صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» «1» . انتهى. وعن عائشةَ- رضي اللَّه عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مَنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ، فَيَعْتَلِجَانِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» رواه الحاكم في «مستدركه» ، وقال: صحيحُ الإِسناد «2» ، وقوله «فَيَعْتَلِجَانِ» ، أي: يتصارعان. وعن سَلْمَانِ» - رضي اللَّه عنه- قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الكُرَبِ، وَالشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» ، رواه الحاكمُ أيضاً، وقال: صحيحُ الإِسناد «4» ، وعن ابْنِ عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من فتح له في

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 29) رقم (86) . (2) أخرجه الحاكم (1/ 492) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 453) ، وابن الجوزي في «العلل» (2/ 359) ، من طريق زكريا بن منظور، عن عطاف بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقّبه الذهبي فقال: زكريا بن منظور مجمع على ضعفه. وقال ابن الجوزي: لا يصح، قال يحيى: زكريا ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 149) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» ، والبزار، وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. (3) هو: سلمان بن الإسلام. وسلمان الخير، وسلمان الفارسي. أبو عبد الله. مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. كان اسمه قبل الإسلام: مابه بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك، من ولد آب الملك. وأول مشاهده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخندق، ولم يتخلف عن مشهد بعد الخندق، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء. ومما ذكر في مناقبه قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: عليّ وعمار، وسلمان» ، كان سلمان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم وذي القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روى عنه ابن عباس، وأنس، وعقبة بن عامر، وأبو سعيد، وكعب بن عجرة، وأبو عثمان النهدي. وغيرهم. توفي سنة (35) آخر خلافة عثمان. تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 417) ، «الإصابة» (3/ 113) ، «الاستيعاب» (2/ 634) ، «الاستبصار» (125) ، «الرياض المستطابة» (102) ، «حلية الأولياء» (6/ 367) ، «الطبقات الكبرى» (9/ 84) ، «صفة الصفوة» (1/ 523) ، «التاريخ الكبير» (4/ 134) ، «التاريخ الصغير» (1/ 71) ، «تاريخ بغداد» (1/ 163) ، «الكاشف» (1/ 382) ، «تاريخ جرجان» (64، 138) ، «التحفة اللطيفة» (167) . (4) أخرجه الحاكم (1/ 544) ، من طريق عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن أبي عامر الألهاني، عن أبي هريرة مرفوعا. -

الدُّعَاءِ مِنْكُمْ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ» «1» ، قال الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه- في كتابِ «الإِحياء» : «فإِن قلت: فما فائدة الدعاء، والقضاء لا يرد؟ فاعلمْ أنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاء بالدعاءِ، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء، واستجلابٌ للرحمة كما أن التُّرْس سبب لردِّ السهم، ثم في الدعاءِ من الفائدة أنه يستدْعِي حضورَ القَلْب، مع اللَّه عزَّ وجلَّ، وذلك منتهى العبادَاتِ، فالدعاء يردّ القلب إلى الله عز وجلّ بالتضرُّع والاستكانةِ» ، فانظره، فإِني اثرت الاختصار، وانظر «سِلاَحَ المُؤْمن» الذي منه نقلْتُ هذه الأحاديثَ. ومن «جامع الترمذيِّ» . عن أبي خُزَامَةَ «2» ، واسمه رفاعة، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر اللَّهُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيحٌ «3» . وانظر جوابَ عمر لأبي عُبَيْدة «نَعَمْ، نَفِرُّ من قدر اللَّه إِلى قدر اللَّه ... » الحديث هو من هذا المعنى. انتهى، والله الموفق بفضله. 46 ب وقوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي/ قال أبو رجاء الخُرَاسانِيُّ «4» : معناه: «فَلْيَدْعُونِي» . قال ع «5» : المعنى: فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو بابُ «استفعل» ، أي: طلب

_ - وقال الحاكم: صحيح الإسناد، احتج البخاري بابن صالح. وأبو عامر الألهاني أظنه الهوزني، وهو صدوق. ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي (3382) ، من طريق شهر بن حوشب، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: غريب. (1) أخرجه الحاكم (1/ 498) . وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: المليكي ضعيف. (2) أبو خزامة. ذكره المؤلف (رحمنا الله وإياه) بغير نسبة، قال ابن الأثير: كان يسكن «الجناب» ، وهي أرض عذرة. له صحبة، عداده من أهل «الحجاز» . روى عن عطاء بن يسار. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 88) ، و «الإصابة» (7/ 51) ، و «بقي بن مخلد» (319) . [.....] (3) أخرجه الترمذي (4/ 399- 400) ، كتاب «الطب» ، باب ما جاء في الرقى والأدوية، حديث (2065) ، وابن ماجة (2/ 137) ، كتاب «الطب» ، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث (3437) . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (4) عبد الله بن واقد بن الحارث، الحنفي، أبو رجاء الهروي. عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، وأبي هارون العبدي. وعنه إسحاق بن منصور السّلولي. وثقه أحمد وابن معين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 108) . (5) «المحرر الوجيز» (1/ 256) .

الشيء إِلا ما شَذَّ مثل: استغنى اللَّهُ. وقال مجاهد وغيره: المعنى: فليجيبوا لي فيما دعوتهم إِلَيْه من الإِيمان، أي: بالطاعة، والعملِ «1» . فائدةٌ: قال صاحب «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأَعْظَم» وهو إِمام عارفٌ «2» بعلْمِ الحديث، وكتابه هذا يَشْهَدُ له، قال: ذكر الدِّينَوَرِيُّ «3» في «كتاب المُجَالَسَة» ، عن ليثِ بنِ سُلَيْمٍ أن رجلاً وقَفَ على قوم، فقال: مَنْ عنده ضيافةٌ هذه الليلةَ، فسكَتَ القومُ، ثم عاد، فقالَ رجُلٌ أعمى: عندي، فذَهَبَ بِهِ إلى منزله، فعشَّاه، ثم حدَّثه ساعةً، ثم وضع لهُ وَضُوءاً، فقام الرجُلُ في جَوْف اللَّيْلِ، فتوضَّأ، وصلى ما قُضِيَ له، ثم جَعَلَ يدعو، فانتبه الأعمى، وجَعَلَ يسمع لدْعَائِهِ، فقال: اللَّهُمَّ، ربَّ الأرواحِ الفانيةِ، والأجسادِ الباليةِ، أسألُكَ بطَاعَةِ الأرواحِ الرَّاجعَةِ إلى أجسادها، وبطاعةِ الأَجْسَادِ الملتئمَةِ في عروقها، وبطاعة القُبُور المتشقِّقة عن أهلها، وبدَعْوتِكَ الصادقةِ فيهم، وأخذِكَ الحقَّ منهم، وتبريز الخلائقِ كلِّهم من مخافَتِكَ ينتظرُونَ قضاءَكَ، ويرْجُون رحمتَكَ، ويخافُونَ عذابَكَ، أَسأَلُك أنْ تَجْعَلَ النُّور في بَصَري، والإِخلاصَ في عَمَلِي، وشُكْرَكَ في قَلْبِي، وذِكْرَكَ في لِسَانِي في الليلِ والنهارِ، ما أبقيتَنِي، قال: فَحَفِظَ الأعمى هذا الدعاءَ، ثم قَامَ، فَتَوضَّأ، وصلى ركعتَيْنِ، ودعا به فأصْبَحَ قدْ رَد اللَّهُ عليه بَصَرَهُ. انتهى من «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظَم» ، وإِطلاَقُ الفناءِ على الأرواحِ فيه تجوُّز، والعقيدةُ أن الأرواح باقيةٌ لا تفنى، وإِنَّما عبر عن مفارقتها لأجسادها بالفَنَاءِ، هذا هو مراده. وروى ابنُ المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إِنَّ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أوعى مِنْ بَعْضٍ، فادعوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، حِينَ تَدْعُونَ، وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ» «4» . انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 166) برقم (2921) بلفظ: قوله: «فليستجيبوا لي» قال: فليطيعوا لي. قال: «الاستجابة» الطاعة، وذكره ابن عطية (1/ 256) . (2) وهو الشيخ تاج الدين علي بن محمد بن الدريهم الموصلي، المتوفى سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وكتابه هذا ذكره حاجي خليفة بعنوان «غاية المغنم في الاسم الأعظم» ، وذكر عنه أنه أورد فيه من الأحاديث وأقوال العلماء. ينظر: «كشف الظنون» (1194) . (3) «المجالسة» - لأحمد بن مروان الدينوري المالكي، المتوفى سنة 310 عشرة وثلاثمائة، ضمّنه من كتب الأحاديث والأخبار ومحاسن النوادر والآثار، ومنتفى الحكم والأشعار، وانتخب منه بعضهم وسماه «نخبة المؤانسة من كتاب المجالسة» . ينظر: «كشف الظنون» (2/ 1591) . (4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (2/ 21) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 187 إلى 188]

قال ابن عطاء الله في «لطائف المنن» : وإِذا أراد اللَّه أن يعطِيَ عبداً شيئاً وهبه الاضطرار إِلَيْهِ فيه، فيطلبه بالاِضطرارِ، فيعطى، وإِذا أراد اللَّه أن يمنع عبداً أمراً، منعه الاضطرَار إِلَيْه فيه، ثم منعه إِياه، فلا يُخَافُ علَيْكَ أن تضطرَّ، وتطلب، فلا تعطى، بل يُخَافُ عليك أنْ تُحْرَمَ الاضطرارَ، فتحرم الطَّلَب، أو تَطْلُب بغير اضطرارٍ، فتحرم العطاء. انتهى. وقوله سبحانه: وَلْيُؤْمِنُوا بِي، قال أبو رجاءٍ: في أنَّني أجيبُ دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك دعاءٌ إِلى الإِيمان بجملته. [سورة البقرة (2) : الآيات 187 الى 188] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ ... الآيةَ: لفظة أُحِلَّ تقتضي أنه كان محرَّماً قبل ذلك «1» ، ولَيْلَةَ: نصب على الظّرف. والرَّفَثُ: كناية عن الجِمَاع لأن اللَّه تعالى كريمٌ يُكَنِّي قاله ابن عَبَّاس «2» وغيره، والرَّفَثُ في غير هذا: ما فَحُشَ من القول، وقال أبو إِسْحَاق «3» : الرَّفَثُ: كلُّ ما يأتيه الرجُلُ، مع المرأة من قُبْلةٍ، ولَمُسٍ «4» . ع «5» : أو كلامٍ في هذا المعنى، وسببُ هذه الآيةِ فيما قال ابن عَبَّاس وغيره: إِن جماعةً من المسلمين اختانوا أنفُسَهُم، وأصابوا النِّسَاء بعد النّوم، أو بعد صلاة العشاء على

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (5/ 88- 89) . (2) أخرجه الطبري (2/ 167- 168) برقم (2928) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 179) برقم (13230) . وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 256) ، والبغوي في «التفسير» (1/ 156) . (3) «معاني القرآن» (1/ 255) ، ولفظه: الرّفث: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة. وينظر: «عمدة الحفاظ» (2/ 114) . (4) ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 257) . (5) «المحرر الوجيز» (1/ 257) .

الخلافِ في ذلك، منْهم عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب: جاء إِلى امرأته، فأرادها/، فقالَتْ له قد نمت، 47 أفظنّ أنها تَعْتَلُّ بذلك، فوقع بها، ثم تحقَّق أنها قد كانت نامَتْ، وكان الوطْءُ بعد نَوْمِ أحدهما ممنوعاً، فذهب عُمَرُ، فاعتذر عنْدَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنَزَلَ صدْرُ الآية «1» ، وروي أن صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ «2» نام قَبْل الأكْلِ، فبقي كذلك دُونَ أكْلٍ، حتى غُشِيَ علَيْهِ في نهارِهِ المُقْبِلِ، فنَزَلَ فيه مَنْ قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا «3» . واللِّبَاسُ: أصله في الثِّيَاب، ثم شبه التباس الرَّجُلٍ بالمرأةِ بذلك. وتَابَ عَلَيْكُمْ، أي: من المعصية التي وقعتم فيها. قال ابنُ عبَّاس وغيره: بَاشِرُوهُنَّ كنايةٌ عن الجماعة، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ «4» اللَّهُ لَكُمْ. قال ابن عبَّاس وغيره: أي: ابتغوا الوَلَدَ «5» ، قال الفَخْر «6» والمعنى: لا تباشروهن لقضاء الشهوة فقطْ، ولكنْ لابتغاء ما وَضَعَ اللَّه له النِّكاح من التناسُلِ، قال- عليه

_ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 170- 171 رقم (2943، 2948، 2949) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 157) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 257) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 357) ، وعزاه إلى أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند حسن، عن كعب بن مالك. (2) صرمة بن قيس بن مالك، النجاري، الأوسي، أبو قيس: شاعر جاهلي، عمر طويلا، وترهب، وفارق الأوثان في الجاهلية. وكان معظما في قومه. أدرك الإسلام في شيخوخته، وأسلم عام الهجرة. ينظر: «الأعلام» (3/ 203) ، و «الإصابة» ت (4056) ، و «الروض الأنف» (2/ 21) . [.....] (3) أخرجه الطبري (2/ 170- 171- 173) برقم (2945، 2947، 2957) . وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 157) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 257) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 358) ، وعزاه إلى وكيع، وعبد بن حميد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. (4) أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 174) رقم (2961) ، (2966) . وذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 257) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 359) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. (5) أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 175) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 157) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 257) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 359) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم. (6) «التفسير الكبير» (5/ 92) .

السلام-: «تَنَاكَحُوا، تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ» «1» انتهى.

_ (1) أخرجه ابن ماجه (1/ 599) ، كتاب «النكاح» ، باب تزويج الحرائر والولود، حديث (1863) ، من طريق طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «انكحوا فإني مكاثر بكم» . وقال البوصيري في «الزوائد» (2/ 73) : هذا إسناد ضعيف لضعف طلحة بن عمرو المكي الحضرمي اهـ. وطلحة بن عمرو: قال عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. وقال أحمد: لا شيء متروك الحديث. وقال البخاري: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وكذلك ضعفه ابن حبان وغيره. وله لفظ آخر بإسناد آخر: أخرجه أبو داود (2/ 542) ، كتاب «النكاح» ، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، حديث (2050) ، والنسائي (6/ 60- 66) ، كتاب «النكاح» ، باب كراهية تزويج العقيم، والحاكم (2/ 162) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 62) ، من حديث معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» . وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه أيضا ابن حبان (1229- موارد) ، والبيهقي (7/ 81) ، كتاب «النكاح» ، باب استحباب التزويج بالودود الولود. وأخرجه أحمد (3/ 158، 245) ، وسعيد بن منصور (1/ 164) رقم (490) ، وابن حبان (1228- موارد) ، والبيهقي (7/ 81- 82) ، كتاب «النكاح» ، باب استحباب التزوج بالودود الولود، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (675) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 219) ، من حديث أنس بلفظ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء» . وصححه ابن حبان. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 261) ، وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط» ، وإسناده حسن. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2147) ، ومن طريقه البيهقي (7/ 78) ، من حديث أبي أمامة بلفظ: «تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى» . وفيه محمد بن ثابت البصري، وهو ضعيف قاله الحافظ في «التقريب» (2/ 148) . وأخرجه ابن ماجة (1/ 592) ، كتاب «النكاح» ، باب ما جاء في فضل النكاح، حديث (1846) ، من طريق عيسى بن ميمون، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء» . قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 65) : هذا إسناد ضعيف لضعف عيسى بن ميمون اهـ. وضعفه الحافظ ابن حجر في «تلخيصه» (2/ 102) ، وقال: ضعيف. -

وقيل: المعنى: ابتغوا ليلةَ القَدْرِ. وقيل: ابتغوا الرُّخْصَة، والتوسعَةَ قاله قتادة، وهو قول حَسَنٌ» . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ... الآيةُ: نزلت بسبب صرمة بن قيس، وحَتَّى: غايةٌ للتبيُّن، ولا يصحُّ أن يقع التبيُّن لأحد، ويحرم عليه الأكل إِلا وقدْ مَضَى لطُلُوع الفجْرِ قدْرٌ، والخيط استعارةٌ وتشبيه لرقَّة البياضِ أولاً، ورقَّةُ السوادِ إِلحاقٌ به، والمرادُ فيما قال جميع العلماء «2» : بياضُ النهارِ، وسوادُ الليل. ومِنَ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والْفَجْرِ: مأخوذ من تَفَجُّر الماء لأنه ينفجر شيئاً بعد شيْء، وروي عن سَهْل بن سعدٍ وغيره من الصحَابة أن الآية نزلَتْ إِلا قوله: مِنَ الْفَجْرِ، فصنع بعض الناسِ خَيْطَيْنِ، أَبْيَضَ وأسْوَدَ، فنزَلَ قوله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ «3» . ع «4» : ورُوِيَ أنَّهُ كَانَ بَيْنَ طرفَيِ المُدَّة عام من رمضان إلى رمضان تأخّر

_ وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 377) ، من حديث ابن عمر بلفظ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . وأخرجه عبد الرزاق (6/ 173) رقم (10391) عن سعيد بن أبي هلال مرسلا. والحديث صححه الألباني في «الصحيحة» برقم (1782) . (1) أخرجه الطبري (2/ 176) برقم (2987) . وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 157) ، وابن عطية من «المحرر الوجيز» (1/ 257- 258) . والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 359) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «الطبري» (3/ 509) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 258) ، و «الرازي» (5/ 94) ، و «الوسيط» (1/ 287) ، و «بحر العلوم» (1/ 186) . (3) أخرجه البخاري (4/ 157) كتاب «الصوم» ، باب قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. حديث (1917) . ومسلم (2/ 767) كتاب «الصيام» ، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره، حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، حديث (34/ 1091) . والنسائي (6/ 297) (الكبرى) ، كتاب «التفسير» ، باب قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. حديث (11022/ 2) . والطبري في «التفسير» (2/ 187) رقم (2998) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 158) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 258) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 360) ، وعزاه إلى البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 258) .

البيان «1» إِلى وقت الحاجة، وعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ جعل خيطين على وساده، وأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم

_ (1) تأخر البيان إلى وقت الحاجة: بادىء ذي بدء أقول: هناك حالان لكل ما يحتاج إلى تأخير بيان، من عام، ومجمل، ومجاز، ومشترك، وفعل متردد ومطلق: الحال الأول: أن يتأخر عن وقت الحاجة، وهو الوقت الذي إن أخر البيان عنه لم يتمكن المكلّف من المعرفة بما تضمنه الخطاب، وهذا يكون في كل ما كان واجبا على الفور، كالإيمان، ورد الودائع. وقد حكى أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه. الحال الثاني: أن يؤخر عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل، وذلك في الواجبات التي ليست على الفور، ويكون فيما لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة، أو له ظاهر وقد استعمل في خلافه، كتأخير بيان التخصيص، وتأخير بيان النسخ، ونحوه. وقد اختلف العلماء في هذا القسم على مذاهب: الأول: الجواز مطلقا، وعليه عامة العلماء من الفقهاء والمتكلمين، كما قال ابن برهان. ومنهم ابن فورك، والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، ونقلوه عن ابن سريج، والإصطخري، والقفال، وكثير من علماء الشافعية. ونقل عن الشافعي- كما قال الزركشي في «البحر» . وقد اختاره الرازي في «المحصول» ، وابن الحاجب، وقال الباجي: عليه أكثر أصحابنا. وحكاه القاضي عن مالك. واستدلوا بآيات، منها قوله سبحانه: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 18- 19] . وهناك حوادث كثيرة جدا- كما يقول الشوكاني- وقع البيان لها بعد السّنة. المذهب الثاني: المنع مطلقا، ونقل عن أبي إسحاق المروزي، والصيرفي، وأبي حامد المروزي، والدقاق، ومن المالكية: الأبهري. قال القاضي: وهو قول المعتزلة، وكثير من الحنفية، وابن داود الظاهري، ونقله القشيري عن داود. وقد استدل هؤلاء بما لا طائل تحته، قالوا: لو جاز ذلك فإما أن يجوز إلى مدة معينة أو إلى الأبد، وكلاهما باطل، أما إلى المدة المعينة فلكونه تحكما، ولكونه لم يقل به أحد. وأما إلى الأبد فلكونه يلزم المحذور، وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم. وأجيب عنهم: باختيار جوازه إلى مدة معينة يعلمها الله، وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه فلا تحكم. المذهب الثالث: جوازه في المجمل دون غيره، وحكي عن الصيرفي وأبي حامد المروزي. المذهب الرابع: جوازه في العموم، وحكي عن عبد الجبار، وحكاه الروياني والماوردي وجها لأصحاب الشافعي. المذهب الخامس: جوازه في الأوامر والنواهي، لا في الأخبار، وحكي عن الكرخي وبعض المعتزلة. المذهب السادس: عكسه. حكاه الشيخ أبو إسحاق، ولم ينسبه إلى أحد. المذهب السابع: جوازه في النسخ دون غيره، ذكره أبو الحسين البصري، وأبو علي، وأبو هاشم، وعبد الجبار. المذهب الثامن: التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك فلا يجوز، وما له ظاهر كالعام فيجوز. المذهب التاسع: أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا ولا تغييرا، جاز مقارنا وطارئا، وإن كان تغييرا جاز مقارنا، ولا يجوز طارئا. نقله ابن السمعاني عن أبي زيد من الأحناف.

فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ» «1» . واختلف في الحدِّ الذي بتبيُّنه يجبُ الإِمساك، فقال الجمهورُ، وبه أخذ الناس، ومضَتْ عليه الأمصار والأعصار، ووردتْ به الأحاديثُ الصِّحَاحُ: إِنه الفَجْر المُعْتَرِضُ في الأُفُقِ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فبطلوعِ أوله في الأفق يجبُ الإمساكُ، وروي عن عثمانَ بن عفَّان، وحذيفةَ بن اليَمَانِ، وابن عبَّاس وغيرهم أن الإِمساك يجبُ بتبيُّن الفَجْر في الطُّرُق، وعلى رءوس الجبالِ «2» ، وذكر عن حُذَيفة أنه قال: «تسحّرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَهُوَ النَّهارُ إِلاَّ أنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ» «3» . ومن أكل، وهو يشكُّ في الفجر، فعليه القضاء عند مالك. وقوله سبحانه: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أمر يقتضي الوجوب، وإِلى: غايةٌ، وإِذا كان ما بعدها من جنْسِ ما قبلها، فهو داخلٌ في حكمه، وإِذا كان من غير جنْسه، لم يدخلْ في المحدودِ، والليلُ: الذي يتم به الصيامُ: مَغِيبُ قرص الشمسِ، فمن أفطر شاكًّا في غروبها، فالمشهورُ من المَذْهَب أنَّ عليه القضاءَ والكفَّارةَ. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «ثَلاَثةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، والإِمَامُ العَادِلُ، ودَعْوَةُ المَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ تعالى: وَعِزَّتِي، لأَنْصُرَنَّكِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» رواه الترمذيُّ/، وابن ماجة، وابن حِبَّان

_ - والمذاهب الثمانية الأخيرة ضعيفة كما أشار إلى ذلك الشوكاني، قال رحمه الله: وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهرا واضحا لا ينكره من له أدنى خبرة بها وممارسة لها. ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (3/ 493) ، «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 166) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 28) ، «نهاية السول» (2/ 540) ، «زوائد الأصول» للأسنوي (ص 304) ، «منهاج العقول» (2/ 220) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (ص 86) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 429) ، «المنخول» للغزالي (ص 68) ، «المستصفى» له (1/ 368) ، «حاشية البناني» (2/ 69) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (3/ 121) ، «حاشية العطار لجمع الجوامع» (2/ 102) ، «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 314) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (1/ 81) ، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (2/ 164) . وينظر: «كشف الأسرار» (3/ 108) ، «المسودة» (181) ، «شرح العضد» (2/ 164) . (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الطبري (2/ 179) برقم (3002) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 258) . [.....] (3) أخرجه الطبري (2/ 181) برقم (3019) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 258) .

في «صحيحه» ، وقال الترمذيُّ: واللفظ له حديثٌ حسنٌ، ولفظ ابن ماجة: «حتى يُفْطِرَ» «1» . انتهى من «السّلاح» . وعنه صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَّا تُرَدُّ» ، رواه ابنُ السُّنِّيِّ «2» . انتهى من «حِلْيَة النوويِّ» «3» . وعنه صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ» . رواه البخاريُّ ومسلم. انتهى «4» . وروى ابنُ المبارك في «رقائقه» ، قال: أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن واصل «5» مولى أبي عيينة، عن لقيط أبِي المُغيرَةِ، عن أبي بُرْدَة «6» : أنَّ أبا موسى الأشعريّ كان في سفينة

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 539) ، كتاب «الدعوات» ، باب «في العفو والعافية» ، حديث (3598) ، وابن ماجة (1/ 557) ، كتاب «الصيام» ، باب في الصائم لا ترد دعوته، حديث (1752) ، والبيهقي (3/ 345) ، كتاب «صلاة الاستسقاء» ، باب استحباب الصيام للاستسقاء لما يرجى من دعاء الصائم، (8/ 162) ، كتاب «قتال أهل البغي» ، باب فضل الإمام العادل، و (10/ 88) ، كتاب «آداب القاضي» ، باب فضل من ابتلي بشيء من الأعمال، فقام فيه بالقسط، وقضى بالحق، وابن حبان كما في «موارد الظمآن» (3/ 198) ، باب دعوة الصائم وغيره، حديث (894) ، والطيالسي (1/ 255) ، حديث (1264) ، وأحمد (2/ 304- 305) ، من حديث أبي هريرة بلفظ: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر ... » وقال الترمذي: «هذا حديث حسن» . (2) أخرجه ابن ماجة (1/ 557) ، كتاب «الصيام» ، باب في الصائم لا ترد دعوته، حديث (1753) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (482) ، من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا. وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناده صحيح. (3) «حلية» النووي (ص 224) . (4) تقدم تخريجه. (5) واصل الأسدي مولى أبي عيينة بن المهلّب. عن ابن بريدة، والضّحّاك. وعنه حمّاد بن زيد، وعبّاد بن عبّاد. وثقه ابن معين. ينظر: «الخلاصة» (3/ 126) . (6) هو: عامر بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب ... أبو بردة. الأشعري. مشهور بكنيته كأخيه. قال ابن حجر في «الإصابة» : قال البغوي: سكن «الكوفة» . وروى حديثه أحمد، والحاكم من طريق عاصم الأول عن كريب بن الحارث بن أبي موسى عن عمه أبي بردة قال: قال رسول الله: «اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون» . وله ذكر في حديث آخر من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى عن جده أبي موسى قال: خرجنا من اليمن في بعض وخمسين رجلا من قومنا ونحن ثلاثة إخوة: أبو موسى، وأبو بردة، وأبو رهم، فأخرجتنا سفينة إلى النجاشي. أخرجه البغوي من هذا الوجه. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 29) ، «الإصابة» (7/ 17) ، «الثقات» (3/ 451) ، «تجريد أسماء-

في البَحْر مرفوعٍ شراعُها، فإِذا رجُلٌ يقول: يأَهْلَ السفينةِ، قِفُوا سبْعَ مرارٍ، فقلْنا: ألا ترى على أيِّ حالٍ نحْنُ، ثم قال في السابعة، قِفُوا أخبرْكُمْ بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ أنَّه من عَطَّشَ نَفْسَهُ للَّهِ في يومٍ حارٍّ من أيامِ الدُّنْيَا شديدِ الحَرِّ، كان حقًّا على اللَّه أنْ يرويه يوم القيامة، فكان أبو موسى يبتغي اليَوْمَ الشَّديدَ الحَرِّ، فيصومه. انتهى. قال يوسُفُ بن يَحْيَى التَّادِلِيُّ في «كتاب التشوُّف» ، وخرَّج عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» عن هشامِ بنِ حَسَّان «1» ، عن واصلِ بن لَقِيط، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسَى الأشعريِّ، قَالَ: «غَزَا النَّاسُ بَرًّا وبحراً، فكنْتُ ممَّن غَزَا في البَحْر، فبينما نحْنُ نسيرُ في البَحْر إِذ سمعنا صوتاً يقول: يأهل السفينة، قِفُوا أخبرْكُم، فنظرنا يميناً وشَمالاً، فلم نر شيئاً إِلا لُجَّةَ البحر، ثم نادى الثانيةَ حتى نادى سبْعَ مراتٍ، يقول كذلك، قال أبو موسى: فلما كانَتِ السابعةُ، قُمْتُ، فقُلْتُ: ما تخبرنا؟ قال: أخبركم بقضاءٍ قضاه اللَّه على نَفْسِهِ أنَّ من عَطِشَ للَّه في يوم حَارٍّ، أنْ يرويه اللَّه يوم القيامة» «2» ، وذكره ابن حَبِيب في «الواضحة» بلفظ آخر. انتهى. قال ابن المبارك: وأخبرنا أبو بكر بن أبي مَرْيَم الغَسَّانيّ «3» ، قال: حدَّثني ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ «4» ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ بَاباً، وإِنَّ بابَ العبادة الصيام» «5» . انتهى.

_ - الصحابة» (2/ 151) ، «بقي بن مخلد» (883) ، «الاستيعاب» (4/ 1608) ، «التاريخ الكبير» (1/ 211) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1579) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 18) ، «تقريب التهذيب» (2/ 394) ، «تعجيل المنفعة» (468) ، «الاستبصار» (238) ، «الجرح والتعديل» (9/ 436) ، «الكاشف» (3/ 312) . (1) هشام بن حسّان القردوسي الأزدي، مولاهم، أبو عبد الله البصري. أحد الأعلام. عن حفصة، ومحمد، وأنس بن سيرين، وطائفة. وعنه السفيانان والحمّادان. ضعفه القطان عن عطاء. وقال عباد بن منصور: ما رأيته عند الحسن قط، قال أبو حاتم: صدوق. قال مكي بن إبراهيم: مات سنة ثمان وأربعين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 113) . (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 329) ، وعزاه للبيهقي. (3) أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغسّاني، الحمصي، اسمه: بكير، أو عبد السّلام. عن مكحول، وخالد بن معدان. وعنه إسماعيل بن عيّاش، وبقيّة. قال الحافظ أبو عبد الله: ضعيف. توفي سنة ست وخمسين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 203) . (4) ضمرة بن حبيب الزّبيدي، أبو عبيد الحمصي. عن أبي أمامة، وشدّاد بن أوس. وعنه ابنه عتبة، وأرطاة بن المنذر. وثقه ابن معين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 6) . (5) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 500) رقم (1423) ، وهناد بن السري في «الزهد» (2/ 358) رقم (679) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1032) ، عن ضمرة بن حبيب مرسلا.

وروى البخاريُّ ومسلم في «صحيحيهما» ، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، إِنَّمَا يَدَعُ شَهْوتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» «1» . انتهى. وقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قالتْ فرقة: المعنى: ولا تجامعوهُنَّ، وقال الجمهور: ذلك يقع على الجِمَاعِ، فما دونه ممّا يتلذّذ به من النساء، وعاكِفُونَ، أيْ: مُلاَزِمُون، قال مالكٌ- رحمه اللَّه- وجماعةٌ معه: لا اعتكاف إلا في مساجد الجُمُعَاتِ «2» ، وروي عن مالكٍ أيضاً أنَّ ذلك في كل مسجدٍ، ويخرج إِلى الجُمُعة كما يخرج إِلى ضروريِّ أشغالِهِ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «3» : وحرم اللَّه سبحانه المباشَرَةَ في المَسْجد وكذلك تحرم خارجَ المَسْجِدِ لأن معنى الآية، ولا تباشرُوهُنَّ وأنتم ملتزمون لِلاعتكاف في المساجد معتقدون له. انتهى. وتِلْكَ إِشارةٌ إِلى هذه الأوامر والنواهِي. والحُدُودُ: الحواجزُ بيْن الإِباحة والحظر ومنه قيل للبوَّاب حَدَّاد لأنه يمنع ومنه الحَادُّ لأنها تُمنع من الزينة، والآيات: العلامات الهادية إلى الحق. 48 أوقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ... الآية: الخطاب لأمة/ نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم ويدخلُ في هذه الآيةِ القِمَارُ، والخُدَعُ، والغُصُوب، وجَحْد الحُقُوق، وغَيْرُ ذلك. وقوله سبحانه: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ... الآية: يقال: أَدْلَى الرَّجُلُ بحجّة، أو

_ (1) تقدم تخريجه. [.....] (2) لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد لقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ووجه الدلالة من الآية: أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها فدل على أنه لا يجوز إلا في المسجد، والأفضل أن يعتكف في المسجد الجامع لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد الجامع ولأن الجماعة في صلواته أكثر ولأنه يخرج من الخلاف، فإن الزهري قال: لا يجوز في غيره. وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير الثلاثة، وهي المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد المدينة، جاز أن يعتكف في غيره لأنه لا مزية لبعضها على بعض فلم تتعين ويصح الاعتكاف في كل مسجد، والجامع أفضل، وأومأ الشافعي في القديم إلى اشتراط الجامع، والصواب جوازه في كل مسجد، ويصح في رحبته، وسطحه بلا خلاف، لأنهما منه. ينظر: «الاعتكاف» لشيخنا أحمد خليفة جبر. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 96) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 189 إلى 192]

بأمْر يرجُو النَّجاح به، تشبيهاً بالذي يرسل الدَّلْو في البِئْر يرجُو بها الماءَ، قال قومٌ: معنى الآية: تُسَارعون في الأموال إِلى المخاصَمَة، إِذا علمْتم أنَّ الحُجَّة تقوم لكم إِمَّا بأن لا تكون على الجاحِدِ بيِّنة، أو يكون مالَ أمانةٍ كاليتيم ونحوه ممَّا يكون القول فيه قوله، فالباء في «بهاء» باءُ السبب «1» ، وقيل: معنى الآية: تُرْشُوا بهَا على أكْل أكثر منْها، فالباء إِلزاقٌ مجرَّدٌ وهذا القول يترجَّح لأن الحكَّام مَظِنَّةُ الرُّشَا، إِلاَّ من عُصِمَ، وهو الأقل، وأيضاً، فإِن اللفظتين متناسبتَان. تُدْلُوا: من إِرسال الدلْوِ، والرِّشْوَةُ: من الرِّشَاءِ كأنها يمدُّ بها لتقضي الحاجة. والفريق: القطعة، والجزء. وبِالْإِثْمِ أي: بالظلم. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: أنكم مبطلون. [سورة البقرة (2) : الآيات 189 الى 192] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وقوله تعالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قال ابنْ عَبَّاس، وغيره: نَزلَتْ على سؤالِ قَوْمٍ من المسلمين النبيّ صلّى الله عليه وسلم عنِ الهِلاَلِ، وما فائدةُ مُحَاقِهِ، وكمالِهِ، ومخالفته لحال الشمس «2» . ومَواقِيتُ أي: لمحَلِّ الدُّيون، وانقضاءِ العِدَدِ والأَكْرِيَةِ، وما أشبه، هذا من مصالحِ العبادِ، ومواقيت للحَجِّ أيضاً: يعرف بها وقته وأشهره. وقوله سبحانه: وَلَيْسَ الْبِرُّ ... الآية: قال البَرَاء بن عَازِبٍ «3» ، والزهريّ،

_ (1) وقيل: إنها للتعدية، أي: لترسلوا بها إلى الحكام. ينظر: «الدر المصون» (1/ 478) . (2) أخرجه الطبراني في «تفسيره» (2/ 189) رقم (380) ، وذكره البغوي (2/ 160) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 368) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. (3) هو: البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس ... أبو عمرو. وقيل: أبو عمارة، وهو الأصح. الأوسي. الأنصاري. قال ابن الأثير في «الأسد» : -

وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا إِذا حَجُّوا، أو اعتمروا، يلتزمون تشرُّعاً ألاَّ يحول بينهم وبَيْن السماء حائلٌ، فكانوا يتسنَّمون ظهور بيوتِهِم على الجُدُرَاتِ «1» ، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فُتُوحاً يدخلُون منْها، ولا يدخلون من الأبواب «2» ، وقيل غير هذا ممَّا يشبهه «3» . وقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآيةُ هي أول آية نزلَتْ في الأمر بالقتالِ. قال ابن زَيْد، والربيعُ: قوله: وَلا تَعْتَدُوا أي: في قتالِ مَنْ لم يقاتلْكم، وهذه الموادَعَةُ منسوخةٌ بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «4» [التوبة: 36] ، وقال ابن عبّاس وغيره:

_ - رده رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن «بدر» استصغره. وأول مشاهده «أحد» ، وقيل: «الخندق» . وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم أربع عشرة غزوة. وهو الذي افتتح الري سنة أربع وعشرين صلحا أو عنوة في قول أبي عمرو الشيباني. وقال أبو عبيدة: افتتحها حذيفة. نزل «الكوفة» وابتنى بها دارا. توفي في إمارة مصعب بن الزبير، وقيل: في سنة (72) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 205) ، «الإصابة» (1/ 147) ، «الاستيعاب» (1/ 155) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 46) ، «الطبقات الكبرى» (2/ 376) ، «الأعلام» (2/ 46) ، «التاريخ الكبير» (2/ 117) ، «التاريخ الصغير» (1/ 6) ، «الجرح والتعديل» (2/ 399) ، «تهذيب الكمال» (1/ 2139) ، «تهذيب التهذيب» (1/ 425) ، «تقريب التهذيب» (1/ 94) ، «تاريخ بغداد» (1/ 177) ، «تاريخ ابن معين» (2/ 147) ، «بقي بن مخلد» (14) ، «البداية والنهاية» (8/ 328) ، «التحفة اللطيفة» (1/ 364) ، «الوافي بالوفيات» (1/ 104) ، «الكاشف» (1/ 151) ، «الثقات» (3/ 26) ، «عنوان النجابة» (49) . (1) أخرجه الطبري (2/ 194) برقم (3090) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 160) ، وابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 368) ، وعزاه إلى الطيالسي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي المنذر، وابن أبي حاتم عن البراء. وفي (1/ 369) ، عن الزهري، وعزاه لابن جرير. والجدرة: حظيرة تصنع للغنم من حجارة. والجمع جدر. والجديرة: زرب الغنم. والجديرة: كنيف يتخذ من حجارة يكون للبهم وغيرها. ينظر: «لسان العرب» (566) . (2) أخرجه الطبري (2/ 192) رقم (3082) ، ورقم (3089) . وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 160) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 261) ، عن البراء بن عازب، والزهري، وقتادة. والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 369) ، عن الزهري. (3) أخرجه الطبري (2/ 192/ 193/ 194) برقم (3082) ، (3083) عن البراء، وبرقم (3089) ، عن الزهري وبرقم (3090) عن قتادة، وذكره البغوي (1/ 160) ، وابن عطية (1/ 261) عن البراء بن عازب، والزهري، وقتادة. كما ذكره السيوطي (1/ 368- 369) ، عن البراء بن عازب، وقتادة. (4) أخرجه الطبري (2/ 195) برقم (3095) ، عن الربيع وبرقم (3096) ، عن زيد. وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 161) ، عن الربيع. وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 262) ، عن ابن زيد، والربيع.

وَلا تَعْتَدُوا في قتْلِ النساءِ، والصبيانِ، والرهبانِ، وشبههم فهي مُحْكَمَةٌ «1» . وقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ... الآية: قال ابْنُ إِسحاق وغيره: نزَلَتْ هذه الآيةُ في شأنِ عَمْرو بن الحَضْرَمِيِّ، وواقدٍ، وهي سَرِيَّةُ عبد اللَّه بن جَحْش «2» ، وثَقِفْتُمُوهُمْ معناه: أحكمتم غلبتهم، يقال: رَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ، إِذا كان محكِماً لما يتناوَلُهُ من الأمور «3» . وأَخْرِجُوهُمْ: خطاب لجميع المؤمنين، والضمير لكفار قريش. والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، أي: الفتنةُ التي حملوكم علَيْها، ورامُوكم بِهَا على الرُّجوع إِلى الكفر- أشدُّ من القتْل، ويحتمل أن يكون المعنى: والفتنةُ، أي: الكفر والضَّلال الذي هم فيه أَشَدُّ في الحَرَمِ، وأعظم جُرْماً من القتل الَّذي عيَّروكم به في شأن ابْنِ الحَضْرَمِيِّ. وقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... الآية. قال الجمهورُ «4» : كان هذا ثُمَّ نُسِخَ، وقال مجاهد: الآية محكمةٌ «5» ، ولا يجوز قتال أحد، يعني: عند المسجد الحرام، إِلا بعد أن يقاتل. قلت: وظاهر قوله صلّى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي» «6» يقوي قول مجاهد، وهذا هو الراجح عند الإمام

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 196) برقم (3100) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 161) من قول ابن عباس، ومجاهد، وذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 262) ، عن ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد. والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 370) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. (2) عبد الله بن جحش الأسدي بن رياب، ابن يعمر الأسدي. حليف بني عبد شمس. أحد السابقين. قال ابن حبّان: له صحبة. وقال ابن إسحاق: هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا. ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل نيف وأربعون سنة ينظر: «الإصابة» (4/ 31، 33) . (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 262) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 567) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 263) . [.....] (5) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 162) ، عن مجاهد، وجماعة، وابن عطية الأندلسي (1/ 263) عن مجاهد. (6) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (46، 47) ، كتاب «جزاء الصيد» ، باب لا يحل القتال بمكة، -

الفَخْر «1» ، وأنَّ الآية محكمةٌ، ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم. انتهى. 48 ب قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «2» وقد روى الأئمّة/ عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال يَوْمَ فَتْح مكَّة: «إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تعالى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تعالى إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهَا لأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» «3» . فقد ثبت النهْيُ عن القتالِ فيها قُرآناً وسُنَّة، فإِن لجأ إِليها كافرٌ، فلا سبيل إِلَيْه، وأما الزانِي والقاتلُ، فلا بُدَّ من إِقامة الحَدِّ عليه إِلا أنْ يبتدىء الكافر بالقتَال فيها، فيقتل بنصِّ القرآن. انتهى. وقرأ حمزة والكسائيّ «4» : «وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حتى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فاقتلوهم» ، أي: فإِن قتلوا منْكم، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام.

_ - حديث (1834) ، ومسلم (2/ 986، 987) ، كتاب «الحج» ، باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، حديث (445/ 1353) . وأبو داود (2/ 6) كتاب «الجهاد» ، باب في الهجرة هل انقطعت، حديث (2480) ، والنسائي (7/ 146) كتاب «الجهاد» ، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة. والترمذي (4/ 126) كتاب «السير» ، باب ما جاء في الهجرة، حديث (159) . والدارمي (2/ 239) ، كتاب «السير» ، باب لا هجرة بعد الفتح. وعبد الرزاق (5/ 309) رقم (9713) . وابن الجارود (1030) . وابن حبان (4845- الإحسان) ، والبيهقي (5/ 195) ، والطبراني في «الكبير» رقم (10944) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 520- بتحقيقنا) ، من طريق منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكره. (1) ينظر: «التفسير الكبير» (5/ 113) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 106- 107) . (3) ينظر الحديث السابق. (4) وحجة جمهور السبعة قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] . وحجة أخرى، وهي: أن القتال إنما يؤمر به الأحياء، فأما المقتولون، فإنهم لا يقاتلون فيؤمروا به، وعلى قراءة الأخوين ظاهره أمر للمقتول بقتل القاتلين، وذلك محال. وحجتهما: أن وصف المؤمنين بالقتل في سبيل الله أبلغ في الثناء، وأن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم، وحكى الفراء عن العرب أنهم يقولون: قتلنا بني فلان. وإنما قتلوا بعضهم. واحتجا بأثر: «ولا تبدءوهم بالقتل حتى يبدءوكم به» . ينظر: «حجة القراءات» (128) ، و «السبعة» (179) ، و «الكشف» (1/ 285) ، و «الحجة» (2/ 284- 285) ، و «العنوان» (73) ، و «شرح الطيبة» (4/ 94- 96) ، و «شرح شعلة» (286) ، و «إتحاف» (1/ 433) ، و «معاني القراءات» (1/ 195) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 193 إلى 195]

[سورة البقرة (2) : الآيات 193 الى 195] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: الفتنة: هنا الشِّرْك، وما تابعه من أذى المؤمنين. قاله ابن عبّاس وغيره «1» . والدِّينُ هنا: الطاعةُ، والشَّرْعُ، والانتهاءُ في هذا الموضع يصحُّ مع عموم الآية في الكفار أنْ يكون الدُّخُولَ في الإِسلام ويصحُّ أن يكون أداء الجزية. وقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ... الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: نزلَتْ في عمرة القَضِيَّةِ، وعامِ الحديبيَةِ سنَةَ ستٍّ، حين صدَّهم المشركون، أي: الشهرُ الحرام الذي غلّبكم الله فيه، وأدخلكم الحرام عليهم سنَةَ سَبْعٍ- بالشهر الحرامِ الذي صدُّوكم فيه، والحرمات قصاصٌ «2» . وقالتْ فرقةٌ: قوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: مقطوعٌ مما قبله «3» ، وهو ابتداء أمر كان في أول الإِسلام أنَّ من انتهك حرمَتَكَ، نِلْتَ منه مثْلَ ما اعتدى عليك. وَاتَّقُوا اللَّهَ: قيل: معناه في أَلاَّ تعتدوا، وقيل: في ألاَّ تزيدُوا على المثل. وقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... الآية: سبيلُ اللَّهِ هنا: الجهادُ، واللفظ يتناوَلُ بَعْدُ جميعَ سُبُلِهِ، وفي الصحيح أنَّ أبا أيُّوب الأنصاريَّ «4» كان على القُسْطَنْطِينِيَّةِ، فحمل رجُلٌ على عَسْكَر العدُوِّ، فقال قومٌ: ألقى هذا بيده إِلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إِنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في الأنصار، حين أرادوا، لمَّا ظهر الإِسلام أن يتركوا الجهادَ، ويَعْمُروا أموالهم، وأما هذا، فهو الذي قال الله تعالى

_ (1) أخرجه الطبري (1/ 200) برقم (3124) ، وذكره ابن عطية الأندلسي (1/ 263) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 371) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي. (2) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 163) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 263) . (3) ذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (1/ 264) . (4) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، الأنصاري، النّجّاري، أبو أيوب المدني، شهد بدرا، والعقبة، وعليه نزل النبي صلّى الله عليه وسلم حين دخل المدينة. له مائة وخمسون حديثا. ينظر: «الخلاصة» (1/ 277) .

فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «1» [البقرة: 207] . وقال ابن عبَّاس، وحذيفةُ بْنُ اليَمَانِ، وجمهورُ الناس: المعنى: لا تُلْقُوا بأيديكم بأنْ تتركُوا النَّفَقَةَ في سَبِيلِ اللَّه، وتخافوا العَيْلَةَ «2» . وَأَحْسِنُوا: قيل: معناه: في أعمالكم بامتثال الطَّاعات روي ذلك عن بعض الصحابة «3» ، وقيل: المعنى: وأحسنوا في الإِنفاق في سبيل اللَّهِ، وفي الصَّدَقَات، قاله زَيْدُ بْنُ أَسْلَم «4» ، وقال عِكْرِمَة: المعنى: وأحْسِنُوا الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ «5» . ت: ولا شَكَّ أن لفظ الآية عامٌّ يتناول جميعَ ما ذكر، والمخصَّص يفتقر إِلى دليل. فأما حُسْن الظن باللَّه سبحانه، فقد جاءَتْ فيه أحاديثُ صحيحةٌ، فمنها: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» «6» ، وفي «صحيح مسلم» ، عن جابر، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاثة 49 أأيّام يَقُولُ: «لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» «7» انتهى/. وأخرج أبو بكر بن الخطيب، بسنده، عن أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ» «8» . انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 265) . (2) أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 207) رقم (3155) . وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 164) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 265) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 374) ، وعزاه إلى الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 265) . [.....] (4) أخرجه الطبري (2/ 212) برقم (3190) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 265) . (5) أخرجه الطبري (2/ 212) ، رقم (3189) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 265) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 375) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة. (6) تقدم تخريجه. (7) أخرجه مسلم (4/ 2204) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، حديث (81/ 2877) ، من حديث جابر. وابن ماجه (2/ 1295) ، كتاب «الزهد» ، باب «التوكل واليقين» رقم (4167) ، والبيهقي (3/ 378) كتاب «الجنائز» ، باب المريض يحسن ظنه بالله- عز وجل- ويرجو برحمته» ، وأحمد (3/ 293- 315- 325- 390) ، وابن حبان (2/ 403) ، كتاب «الرقاق» ، باب ذكر الأمر للمسلم بحسن الظن بمعبوده، مع قلة التقصير في الطاعات رقم (636) ، (2/ 404، 405) ، كتاب «الرقاق» ، باب حث المصطفى صلّى الله عليه وسلم على حسن الظن بمعبودهم جل وعلا، رقم (638) . (8) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 377) .

قال عبد الحَقِّ في «العاقبة» : أَمَّا حسْنُ الظنِّ باللَّهِ عزَّ وجلَّ عند الموت، فواجبٌ للحديث. انتهى. ويدخل في عموم الآية أنواعُ المعروف قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» «1» ، قَالَ أبُو جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ «2» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنْ تُفَرِّغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تلقى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ» «3» ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: «أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ» «4» ، وقال عليه الصلاة والسّلام: «إنّ لله

_ (1) أخرجه البخاري (10/ 462) كتاب «الأدب» ، باب كل معروف صدقة حديث (6021) ، ومسلم (2/ 697) ، كتاب «الزكاة» ، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف حديث (52/ 1005) . (2) هو جابر بن سليم، وقيل: سليم بن جابر، جريّ الهجيمي مشهور بكنيته. ينظر: «أسد الغابة» ت (637) ، «الاستيعاب» ت (305) ، «الثقات» (3/ 254) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 71) ، «تقريب التهذيب» (2/ 39) ، «الطبقات الكبرى» (179) ، «تهذيب الكمال» (1/ 178) ، «الوافي بالوفيات» (11/ 26) ، «التاريخ الصغير» (1/ 117) ، «التاريخ الكبير» (2/ 205) ، «الجرح والتعديل» (2/ 2027) ، «تبصير المنتبه» (3/ 915) ، «الإصابة» (1/ 542) . (3) أخرجه أبو داود (2/ 454) ، كتاب «اللباس» ، باب ما جاء في إسبال الإزار، حديث (4084) ، وأحمد (5/ 63) ، والحاكم (4/ 186) ، وابن حبان (866- موارد) . (4) أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 262- 263) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (301) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (9/ 319) من طريق المسيب بن واضح، ثنا علي بن بكار، ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الطبراني: لم يروه عن هشام إلا علي، تفرد به المسيب، وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 292) رقم (2380) : سألت أبي عن حديث رواه المسيب بن واضح، عن علي بن بكار، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة» . قال أبي: هذا حديث منكر جدا اه. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 266) ، وقال: رواه الطبراني في «الصغير» ، و «الأوسط» بإسنادين في أحدهما يحيى بن خالد بن حيان الرقي، ولم أعرفه، ولا ولده أحمد، وفي الأخير المسيب بن واضح، قال أبو حاتم: يخطىء كثيرا. اه. وفي الباب عن أبي موسى، وابن عمر، وعمر، وعلي، وسلمان، وأبي الدرداء، وابن عباس، وأبي أمامة، وقبيصة بن مرة. حديث أبي موسى: أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (1/ 74) من طريق مؤمل بن إسماعيل، ثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا. وقال الطبراني: لم يروه عن سفيان إلا مؤمل. والحديث أخرجه الدارقطني في «العلل» (7/ 242- 243) ، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل-

_ - المتناهية» (2/ 508) رقم (838) ، من طريق مؤمل بن إسماعيل به. وقال الدارقطني: هذا حديث يرويه عاصم الأحول، واختلف عنه، فرواه مؤمل عن الثوري، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى. وخالفه هشام بن لاحق، رواه عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان، عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وغيرهما يرويه عن عاصم، عن أبي عثمان، عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا، وهو الصواب. وقال ابن الجوزي: تفرد به مؤمل عن الثوري، فأسنده عن أبي موسى. حديث ابن عمر: أخرجه البزار (3295- كشف) ، وابن عدي في «الكامل» (5/ 2001) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 506) رقم (835) ، من طريق خازم بن مروان. قال: حدثني ابن السائب عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا. قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 105) رقم (1808) : قال أبي الحديث الذي روي عن عطاء بن السائب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أهل المعروف في الدنيا، أهل المعروف في الآخرة» . قال أبي: هذا حديث باطل. اه. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 265) ، وقال: رواه البزار، وفيه خازم أبو محمد قال أبو حاتم: مجهول. حديث عمر: قال الدارقطني في «العلل» (2/ 244- 246) : يرويه عاصم بن سليمان الأحول، واختلف عنه، فرواه مؤمل عن الثوري عن عاصم عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ورواه هشام بن لاحق عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وكلاهما وهم، والصّواب ما رواه حماد بن زيد، وغيره عن عاصم عن أبي عثمان عن عمر من قوله غير مرفوع، ورواه علي بن مسهر، وغيره، عن عاصم عن أبي عثمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرسلا، حدثنا أبو علي المالكي، ثنا زيد بن أخرم، ثنا عبد القاهر بن شعيب قال: ثنا هشام، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال: سمعت عمر على المنبر يقول: «إن أهل المعروف ... الحديث» . والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 266) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه هشام بن لاحق تركه أحمد، وقوّاه النسائي، وبقية رجاله ثقات. اه. حديث أبي الدرداء: أخرجه الخطيب (10/ 420) من طريق هيذام بن قتيبة، قال: نا عبد الملك بن زيد أبو بشر البزار: قال: نا سفيان الثوري، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي الدرداء مرفوعا، ومن طريق الخطيب، أخرجه ابن الجوزي في «العلل» (2/ 508) رقم (840) ، وقال: هيذام مجهول. حديث ابن عباس: أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 71) رقم (11078) من طريق موسى بن أعين، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا. وأخرجه (11/ 190- 191) رقم (11460) ، من طريق عبد الله بن هارون الفروي، ثنا محمد بن منصور، حدثني أبي عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعا. -

عِبَاداً خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ» «1» . انتهى من كتابه المسمى ب «بهجة المجالس وأنس المجالس» . وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ

_ - والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (7/ 266) ، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ، و «الأوسط» ، وفي إسناد الكبير عبد الله بن هارون الفروي وهو ضعيف، وفي الآخر ليث بن أبي سليم. حديث أبي أمامة: أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 312- 313) رقم (8015) ، وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 266) : وفيه من لم أعرفه. حديث قبيصة بن مرة: أخرجه الطبراني في «الكبير» (18/ 376) رقم (96) ، والبزار (3294- كشف) ، من طريق نصير بن عمرو بن يزيد بن قبيصة بن برمة الأسدي الكوفي قال: سمعت برمة بن ليث يقول: سمعت قبيصة بن برمة به مرفوعا. وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 265) : وفيه علي بن أبي هاشم، قال أبو حاتم: هو صدوق إلا أنه ترك حديثه من أجل أن يتوقف في القرآن، وفيه من لم أعرفه. حديث علي: أخرجه الخطيب (2/ 244) ، من طريق محمد بن الحسين البغدادي، عن محمد بن عبد الله بن خليس، عن أبي عثمان بكر بن محمد المازني قال: سمعت سيبويه يقول: سمعت الخليل بن أحمد يقول: سمعت ذرا الهمداني يقول: سمعت الحارث العكلي عن علي بن أبي طالب مرفوعا. وله طريق آخر: أخرجه الخطيب (11/ 326) من طريق أيوب بن محمد، عن أبي عثمان المازني به. ومن طريقي الخطيب أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 507) رقم (836، 837) . وقال: هذا حديث لا يصح. أما حديث علي ففي الطريق الأول محمد بن الحسين البغدادي، وكان يسمي نفسه لاحقا، وقد وضع على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لا يحصى ذكره الخطيب. وأما الطريق الثاني فإن أيوب بن محمد مجهول الحال. اه. وللحديث طريق آخر عن علي: أخرجه الحاكم (4/ 321) ، من طريق حبان بن علي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي مرفوعا بلفظ: «يا علي، إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة» . وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: الأصبغ واه، وحبان ضعفوه. حديث سليمان: أخرجه الطبراني في «الكبير» (6/ 246) رقم (6112) ، والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 337) ، من طريق هشام بن لاحق، ثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان مرفوعا. قال ابن الجوزي في «العلل» (2/ 509) : وأما حديث سلمان فقال أحمد بن حنبل: تركت حديث هشام بن لاحق، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. (1) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» رقم (1007، 1008) .

[سورة البقرة (2) : آية 196]

[سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) وقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: قال ابنُ زَيْد وغيره: إِتمامهما ألاَّ تفسخا، وأن تتمهما، إِذا بدأْتَ بهما «1» ، وقال ابن عَبَّاس وغيره: إِتمامهما أنْ تقضي مناسكهما كاملةً بما كان فيهما من دماء «2» ، وقال سفيانُ الثَّوْرِيُّ: إتمامهما أن تخريج قاصداً لهما، لا لتجارةٍ، ولا لغيرِ ذلك «3» ويؤيد هذا قولُهُ: لِلَّهِ. وفروضُ الحجِّ: النيَّة «4» ، والإحرام، والطواف «5» المتصل بالسعي، يعني: طواف

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 214) برقم (3207) ، وذكره ابن عطية (1/ 265) . (2) أخرجه الطبري (2/ 213) برقم (3194) . وذكره البغوي (1/ 165) ، وابن عطية (1/ 266) ، والسيوطي (1/ 376) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس. [.....] (3) أخرجه الطبري (2/ 214) برقم (3206) ، وذكره البغوي (1/ 165- 166) ، وابن عطية (1/ 265) . (4) معناه: نية الدخول في الحج وكيفيته: أن يقصد الحج والإحرام به لله تعالى لخبر «إنما الأعمال بالنيات» ... ويشترط في النية أن تكون في أشهر الحج لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ والمراد به وقت إحرام الحجّ. ويسن اقتران النية بالتلبية بأن ينوي ويلبي بلا فاصل، كما يسنّ في النية- التلفظ باللسان، ليساعد اللسان القلب، بأن يقول الشخص: نويت الحج وأحرمت به لله (تعالى) إذا كان يحج عن نفسه، أو نويت الحج عن فلان، وأحرمت به لله تعالى- إذا كان يحج عن غيره. وصيغة التلبية: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» . وقال أبو حنيفة (رضي الله عنه) : لا ينعقد الإحرام حتى يلبّي، أو يسوق الهدي، واستدل «أوّلا» بقوله (عليه الصلاة والسلام) : «أمرني جبريل أن آمر أصحابي بالتلبية ورفع الصوت. و «ثانيا» بالقياس على الصلاة. وأجيب عن الأول بأن الأمر أمر استحباب، وإلا لزم رفع الصوت، كما أجيب عن الثاني، بأنّ المقصود من الصلاة الذكر بخلاف الحجّ. (5) من أركان الحج الطواف بالبيت لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29] ، والمراد به طواف الإفاضة، لانعقاد الإجماع على ذلك، ولهذا الطواف أسماء غير ذلك، منها «طواف الزيارة» ، و «طواف الفرض» ، وقد يسمى «طواف الصّدر» بفتح الدال، والأشهر أن طواف الصدر هو طواف الوداع. ومحل طواف الإفاضة بعد الخروج من عرفة ولهذا سمي طواف الإفاضة، ويدخل وقته بنصف ليلة النحر، لمن وقف قبله قياسا على رمي جمرة العقبة، ولا آخر لوقته إذ الأصل، عدم التأقيت إلا إذا دلّ دليل على ذلك، ولا دليل ثمّة. -

الإِفاضة، والسَّعْيِ بين الصفا والمروة عنْدنا خلافاً لأبي حنيفة، والوقوفُ بعرفة «1» ، وزاد ابن الماجِشُونَ: جَمْرة العَقَبَة. وقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ هذه الآية نزلَتْ عام الحديبية عنْد جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهورُ النَّاس على أنَّ المُحْصَرَ بالعَدُوِّ يَحِلُّ حيثُ أُحْصِرَ، وينحر هَدْيه، إِن كان ثَمَّ هَدْيٌ، ويحلق رأسه، وأما المُحْصَرُ بمرضٍ، فقال مالك، وجمهور من العلماء: لا يحله إِلا البيتُ، ويقيم حتى يُفِيقَ، وإِن أقام سنين، فإِذا وصل البيتَ، بعد فوت الحجِّ، قطع التلبيةَ في أوائل الحرم، وحلَّ بعمرة، ثم تكون عليه حجَّة قضاء، وفيها يكون الهَدْي. و «مَا» في موضع رفعٍ «2» ، أي: فالواجبُ، أو: فعليكُمْ ما استيسر، وهو شاةٌ عند الجمهور.

_ - ويسن تأخيره إلى بعد طلوع الشمس للاتباع، ويكره تأخيره عن يوم النحر، وفي تأخيره عن أيام التشريق كراهة شديدة، وعن خروجه من «مكة» كراهة أشد. (1) من أركان الحج: الوقوف بعرفة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحجّ عرفة» أي: معظمه، ويبتدىء وقته من زوال اليوم التاسع من ذي الحجة لما صح «أنّه صلّى الله عليه وسلم وقف بعد الزّوال» مع خبر «خذوا عنّي مناسككم» ، وينتهي بطلوع فجر يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحجّ» ، ففي أي جزء من الزمن المذكور وقف المحرم بأرض عرفة أجزأه، دون ما قبله، ودون ما بعده. نعم لو وقفوا يوم النحر غلطا لظنهم أنه اليوم التاسع بأن غم عليهم هلال ذي الحجّة، فأكملوا ذا القعدة ثلاثين، ثم بان أن الهلال أهلّ ليلة الثلاثين، أجزأهم ذلك الوقوف بدون قضاء، بشرط ألا يكون عددهم أقلّ من المعتاد، فإذا قلّ عددهم عن حسب العادة وجب عليهم القضاء، كما يجب عليهم القضاء إذا وقفوا اليوم الثامن أو الحادي عشر غلطا لندرة الغلط فيهما. والمعتبر في الوقوف بعرفة حضور المحرم بها ولو لحظة ماشيا كان أو راكبا، متيقظا كان أو نائما، وسواء حضر لغرض الوقوف أم لا، كأن كان هاربا أو مارّا في طلب آبق، وسواء علم أنها عرفة، أو لم يعلم أنها هي، وبالجملة فيجزىء الوقوف مع النوم ولو استغرق جميع الوقت، ومع الغفلة، ومع عدم المكث، ومع الجهل بالبقعة واليوم. وفي حكم أرض عرفة ما اتصل بها وكان في هوائها، فيكفي كون المحرم على دابّة أو سيّارة أو شجرة في أرض المذكورة. ولا يكفي كونه على غصن شجرة خارج عن هوائها، وإن كان أصل الغصن المذكور فيها، ولا كونه على غصن في هوائها وأصله ليس فيها، كما لا يكفي الطيران في جوّها، ولا الوقوف على جزء نقل منها إلى مكان آخر. وحدّ عرفة من وادي «عرنة» إلى الجبال المقبلة على عرفة إلى حوائط بستان بني عامر، وإلى طريق الحصن، وليست النّمرة، ولا وادي «عرنة» ، ولا صدر مسجد إبراهيم (عليه السلام) من عرفات. (2) وفيها قولان آخران: أحدهما: أنها في محل نصب، أي: فليهد، أو فلينحر. وهذا مذهب ثعلب.

وقال ابن عمر وعروة «1» : جَملٌ دون جَمَلٍ، وبقرةٌ دون بقرة «2» . وقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ الخطابُ لجميعِ الأمَّة، وقيل: للمحصَرِينَ خاصَّة، ومَحِلُّ الهَدْيِ: حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يُحصَرْ بمنى، والترتيب: أن يرمي الحاجُّ الجَمْرَة، ثم ينحر، ثم يَحْلِق، ثم يَطُوف للإِفاضة. وقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ... الآية: المعنى: فحَلَق لإِزالة الأذى، فَفِدْيَةٌ، وهذا هو فحْوَى الخطاب عند أكثر الأصوليِّين، ونزلَتْ هذه الآية في كَعْب بن عجرة «3» ، حين رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ يَتَنَاثَرُ قملاً، فَأَمَرَهُ بِالحَلاَّقِ، ونَزَلَتِ الرخْصَةُ. والصيامُ عند مالك، وجميع أصحابه: ثلاثةُ أيامٍ، والصدقة ستّة مساكين لكلّ

_ - والثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر. ويعزى للأخفش. ينظر: «الدر المصون» (1/ 484) . (1) عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي، أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، وأحد علماء التابعين، روى عن أبيه وأمه وكثير من الصحابة. قال الزهري: عروة بحر لا تكدره الدّلاء. كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن. ولد سنة 29 هـ. ومات وهو صائم سنة 92 هـ، وقيل غير ذلك. ينظر: «الخلاصة» (2/ 226) (4826) ، ابن سعد (5/ 132- 135) ، و «الحلية» (2/ 176- 183) ، «الوفيات» (3/ 255- 258) . (2) أخرجه الطبري (2/ 225) رقم (3275) ، وذكره ابن عطية (1/ 267) ، والسيوطي (1/ 384) ، وعزاه لوكيع، وسفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق عن ابن عمر. (3) هو: كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد بن مري بن إراشة ... أبو محمد البلوي، حليف الأنصار. قال الواقدي: ليس بحليف للأنصار، ولكنه من أنفسهم. قال ابن سعد: طلبت اسمه في نسب الأمصار فلم أجده. وقال ابن الكلبي. وساق نسبه إلى «بلي» ثم قال: انتسب كعب في الأنصار في بني عمرو بن عوف، وتأخر إسلامه ثم أسلم وشهد المشاهد كلها. روى عنه ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عياش، وطارق بن شهاب وغيرهم. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 481) ، «الإصابة» (5/ 304) ، «الثقات» (3/ 351) ، «الاستيعاب» (2/ 1321) ، «الاستبصار» (195) ، «العبر» (1/ 57) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 31) ، «تاريخ جرجان» (296) ، «الأعلام» (5/ 227) ، «عنوان النجابة» (149) ، «الكاشف» (3/ 8) ، «الإكمال» (4/ 391) ، «الجرح والتعديل» (7/ 160) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1147) ، «تهذيب التهذيب» (8/ 435) ، «تقريب التهذيب» (2/ 135) ، «سير أعلام النبلاء» (3/ 52) .

مسكينٍ نصفُ صاعٍ، وذلك مُدَّانِ بمُدِّ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم، والنُّسُكُ: شاة بإِجماع، ومَنْ أتى بأفضلَ منها ممَّا يذبح أو ينحر، فهو أفضلُ والمفتدِي مخيَّر في أيِّ هذه الثلاثة شاء، حيثُ شاء من مكَّة وغيرها. قال مالكٌ وغيره: كلَّما أتى في القرآن «أَوْ أَوْ» ، فإِنه على التخْيير. وقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، أي: من العدُوِّ المُحْصِرِ/، قاله ابن عبَّاس وغيره» ، 49 ب وهو أشبهُ باللَّفظ، وقيل: معناه: إِذا برأتم من مَرَضِكم «2» . وقوله سُبحانه: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ... الآية. قال ابن عبَّاس وجماعةٌ من العلماء: الآيةُ في المحصَرين وغيرهم «3» ، وصورة المتمتِّع «4» أنْ تجتمعَ فيه ستَّةُ شروطٍ، أن يكون معتمراً في أشْهُر الحجِّ، وهو من غير

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 268) ، والسيوطي (1/ 384) ، وعزاه إلى سفيان بن عيينة، والشافعي في «الأم» ، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (2/ 251) ، وذكره البغوي (1/ 170) ، وابن عطية (1/ 268) . (3) أخرجه الطبري (2/ 254) برقم (3431) ، وذكره ابن عطية (1/ 268) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 387) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) وهو عكس الإفراد أن يحرم الشخص بالعمرة أوّلا من الميقات الذي مرّ عليه في طريقه إن كان غير ميقات بلده، ثم يأتي بأعمالها، وبعد الفراغ منها يحرم بالحج من «مكة» أو من الميقات الذي أحرم منه للعمرة، أو من مثل مسافته، أو من ميقات أقرب منه، وسواء كان إحرامه بالعمرة في أشهر الحج أو قبل أشهره، وسواء حج في العام الذي اعتمر فيه، أو أخر الحج إلى عام قابل، فللتمتع أربع صور، وسمّي الآتي به: متمتعا لأنه تمتّع بمحظورات الإحرام بين النّسكين. ولدم التمتع شروط أربعة: أن تقع عمرة المتمتع في أشهر الحج، فإذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج «سواء أتمها قبل دخول أشهر الحج أو أتمها فيها» فلا يجب عليه الدم، لأنه لم يجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج، فأشبه المفرد. أن يحج من عامه، فإذا اعتمر في أشهر الحج ثم حج في عام آخر أو لم يحج أصلا، فلا دم عليه، لما روى البيهقي «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج، فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا» . ألا ويعود المتمتع بعد فراغه من العمرة إلى الميقات الذي أحرم منه أولا أو إلى ميقات آخر من مواقيت الحج ليحرم منه بالحج، فإن عاد المتمتع إلى الميقات ليحرم منه بالحج، فلا دم عليه لأن المقتضي للدم هو ذبح الميقات، وقد انتفى بعودة المتمتع إليه. ألا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام، لقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 196] ، والمراد بحاضري المسجد الحرام من بين مساكنهم، والحرم أقل من مرحلتين، فإن كان المتمتع من أهل هذه الجهة، فلا يلزمه الدم، لقربه من الحرم، والقريب من الشيء يقال له: «حاضره» ، قال تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: 163] أي-[.....]

خاضري المَسْجِد الحرام، ويحل وينشىء الحَجَّ من عَامِهِ ذلك، دون رُجُوع إِلى وطنه، أو ما ساواه بُعْداً، هذا قول مالِكٍ، وأصحابه، واختلف، لِمَ سُمِّيَ متمتعاً. فقال ابن القاسِمِ: لأنه تمتع بكلِّ ما لا يجوز للمُحْرِمِ فعْلُه مِنْ وقْت حلِّه في العمرة إِلى وقْت إِنشائه الحجِّ «1» ، وقال غيره: سمي متمتعاً لأنه تمتَّع بإِسقاط أحد السفرين، وذلك أنَّ حق العمرة أنْ تقصد بسَفَرٍ، وحقّ الحج كذلك، فلمَّا تمتع بإِسقاط أحدهما ألزمه اللَّه تعالى هَدْياً كالقَارن الَّذي يجمع الحجَّ والعمرةَ في سَفَر واحدٍ، وجُلُّ الأمة «2» على جواز العُمْرة في أَشْهُر الحجِّ للمكِّيِّ ولا دَمَ عليه «3» . وقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، يعني: من وقتِ يُحْرِمْ إِلى يومِ عرفة، فإِنْ فاته صيامها قبل يوم النحرِ، فليصُمْها في أيام التشريق لأنها من أيام الحج. وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، قال مجاهد وغيره: أي: إِذا رجعتم من منى «4» ، وقال قتادة، والربيع: هذه رخصةٌ من اللَّه سبحانه «5» ، والمعنى: إِذا رجعتم إِلى أوطانكم، ولما جاز أن

_ - قريبة منه. والمعنى في ذلك أنه لم يربح ميقاتا عامّا لأهله ولمن مرّ به. ووقت وجوب الدم على المتمتع هو وقت إحرامه بالحج، لأنه حينئذ يصير متمتعا بالعمرة إلى الحج، ويجوز له أن يذبح بعد فراغه من العمرة وقبل الإحرام بالحج لتقدم أحد سببيه. والأفضل ذبحه يوم النحر ولا آخر لوقته كسائر دماء الجبر بها. (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 268) . (2) والأصل في ذلك ما روي عن قتادة أنّ أنسا أخبره قال: اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أربع عمر، كلّهنّ في ذي القعدة إلّا الّتي كانت مع حجّته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرّانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجّته» . أخرجه البخاري (3/ 801) ، كتاب العمرة: باب كم اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم (1778) ، وأطرافه في (1779- 1780- 3066- 4148) ، ومسلم (2/ 916) ، كتاب «الحج» ، باب بيان عدد عمر النبي صلّى الله عليه وسلم (217- 1253) . وروي عن ابن عمر أنه قال: اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم أربع عمر، إحداهن في رجب، فأخبرت عائشة بذلك، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قطّ. وروي عن مجاهد أن علي بن أبي طالب قال: في كل شهر عمرة، وكان أنس بن مالك بمكة، فكان إذا حمم رأسه، خرج فاعتمر. أخرجه الشافعي، كذا في «ترتيب المسند» (2/ 379) . (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 267- 268) . (4) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 270) . (5) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 270) .

يتوهَّم متوهم التخْيير بين ثلاثةِ أيَّامٍ في الحجِّ أو سبعة إِذا رجع، أُزِيلَ ذلك بالجليّة من قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ. وكامِلَةٌ «1» قال الحسن بن أبي الحَسَن: المعنى: كاملة الثوابِ «2» ، وقيل: كاملةٌ «3» تأكيدٌ كما تقول: كَتَبْتُ بيَدِي، وقيل: لفظها الإِخبار «4» ، ومعناها الأمر، أي: أكملوها، فذلك فرضها، وقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ ... الآيةَ: الإِشارة بذلك على قول الجمهورِ هي إِلى الهَدْي، أي: ذلك الاشتداد والإِلزام، وعلى قول من يرى أن المكِّيَّ لا تجوز له العُمْرة في أشهر الحج، تكون الإِشارة إِلى التمتُّع، وحُكْمِه فكأن الكلام ذلك الترخيصُ لمن لَمْ ويتأيَّد هذا بقوله: لِمَنْ لَمْ لأن اللام أبداً إِنما تجيء مع الرخص «5» ، واختلف الناس في حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعد الإِجماع على أهل مكة، وما اتصل بها، فقيل: من تَجِبُ عليه الجمعة بمكَّة، فهو حَضَرِيٌّ، ومن كان أبعد من ذلك، فهو بَدَوِيٌّ، قال ع «6» : فجعل اللفظة من الحضارة، والبداوة. وقيل: من كان بحيثُ لا يَقْصُرُ الصلاة، فهو حاضرٌ، أي: مشاهدٌ، ومن كان أبعد من ذلك، فهو غائبٌ. وقال ابن عبَّاس، ومجاهد: أهل الحرم «7» كلّه حاضر والمسجد الحرامِ، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذّر من شديد عقابه.

_ (1) قال الشافعي في «رسالته» : احتملت أن تكون زيادة في التبيين، واحتملت أن يكون أعلمهم أنّ ثلاثة إذا جمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة. ينظر: «الرسالة» (26) . (2) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 170) وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 270) . (3) أخرجه الطبري (2/ 264) ، وذكره البغوي (1/ 170) ، وابن عطية (1/ 270) . (4) أخرجه الطبري (2/ 264) ، وذكره ابن عطية (1/ 270) ، والبغوي (1/ 171) . (5) وهذا على قول من قال: إن الإشارة ب «ذلك» المقصود بها: ذلك الترخيص، وأما القائلون بجواز اعتمار المكي في أشهر الحج، فيقولون: إن اللام في قوله تعالى: «لمن» بمعنى «على» ، ويصير المعنى: وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: «اشترطي لهم الولاء» . ينظر: «الجامع لأحكام القرآن» ، للإمام القرطبي (2/ 268) . (6) «المحرر الوجيز» (1/ 271) . (7) أخرجه الطبري (2/ 265) برقم (3506) ، وذكره ابن عطية (1/ 271) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 391) عن مجاهد، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس.

[سورة البقرة (2) : آية 197]

[سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) وقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ في الكلام حذفٌ، تقديره «1» : أشهر الحج أشهرٌ أو وقتُ الحجِّ أشهر معلوماتٌ، قال ابن مسعود وغيره: وهي شوَّال، وذُو القَعْدة، وذو الحَجَّة كلُّه «2» . وقال ابن عبَّاس وغيره: هي شَوَّال، وذو القَعْدة، وعَشْرٌ من ذي الحجة «3» ، والقولان لمالكٍ- رحمه اللَّه- فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، أي: ألزمه نفْسَهُ، وفرض الحج هو بالنيةِ والدخولِ في الإِحرام، والتلبيةُ تَبَعٌ لذلك، وقوله تعالى: فِيهِنَّ، ولم يجىء الكلام «فيها» ، فقال قوم: هما سواء/ في الاستعمال، وقال أبو عثمانَ المازنيّ «4» : الجمع الكثير

_ (1) وكان هذا التقدير لأن «الحج» فعل من الأفعال، و «أشهر» زمان فهما غيران، فكان لا بد من تأويل. وهناك احتمالان آخران للإعراب، وهما: الأول: الحج حجّ أشهر على الإضافة. والثاني: أن يجعل الحدث نفس الزمان مبالغة ومجازا، فالحج حال فيه، فلما اتسع في الظرف جعل نفس الحدث. ونظيرها: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15] وإذا كان ظرف الزمان نكرة مخبرا به عن حدث جاز فيه الرفع والنصب مطلقا، أي: سواء كان الحدث مستوعبا للظرف أم لا، هذا مذهب البصريين. وأمّا الكوفيون فقالوا: إن كان الحدث مستوبعا فالرفع فقط نحو: «الصوم يوم» وإن لم يكن مستوعبا فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو: «ميعادك يوم» والفراء يجيز نصبه مثل البصريين، وقد نقل عنه أنه منع نصب «أشهر» يعني في الآية لأنها نكرة، فيكون له في المسألة قولان، وهذه المسألة بعيدة الأطراف تضمّها كتب النحويين. قال ابن عطية: «ومن قدّر الكلام: الحج في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ به أحد» قال الشيخ: «ولا يلزم ذلك، لأنّ الرفع على جهة الاتساع، وإن كان أصله الجرّ بفي» . ينظر: «الدر المصون» (1/ 489- 490) . [.....] (2) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 271) . (3) أخرجه الطبري (2/ 268) برقم (3525) ، وذكره ابن عطية (1/ 271) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 393) ، وعزاه لوكيع، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. (4) بكر بن محمد بن حبيب بن بقية، أبو عثمان المازني، من مازن شيبان: أحد الأئمة في النحو، من أهل البصرة. ووفاته فيها. له تصانيف، منها كتاب: «ما تلحن فيه العامة» و «الألف واللام» و «التصريف» و «العروض» و «الديباج» . توفي سنة (249) هـ. ينظر: «الأعلام» (2/ 69) .

لما لا يعقل يأتي كالواحدةِ المؤنَّثة، والقليلُ ليس كذلك، تقول: الأجذاعُ انكسرن والجُذُوعُ انكسرت «1» ، ويؤيد ذلك قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة: 36] ثم قال: مِنْها [التوبة: 36] . وقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ... الآية، وقرأ ابن كثيرٍ، وأبو عمرٍو: «فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ وَلاَ جِدَالَ» ، بالرفع في الاثنين، ونصب الجدال «2» ، و «لا» بمعنى «لَيْسَ» ، في قراءة الرفع، والرَّفَثُ الجماعُ في قول ابن عبَّاس، ومجاهد، ومالك «3» ، والفُسُوقُ قال ابن عبَّاس وغيره: هي المعاصِي كلُّها «4» ، وقال ابن زَيْد، ومالك: الفُسُوقُ: الذبْح للأصنام «5» ، ومنه قوله تعالى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145] ، والأول أولى. قال الفَخْر «6» : وأكثر المحقِّقين حملوا الفِسْقَ هنا على كل المعاصِي قالوا: لأن

_ (1) وهذا بخلاف قوله: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: 36] ، فهناك «أشهر» جمع كثرة، وهنا «حرم» جمع قلة. (2) وحجة من فتح أنه نفي لجميع جنس الرفث والفسوق، كما قال: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] وكأن قائلا قال: هل من رفث؟ هل من فسوق؟ وحجة من رفع: أنه يعلم من الفحوى أنه ليس النفي وقتا واحدا، ولكنه بجميع ضروبه، وقد يكون اللفظ واحدا، والمراد جميعا. ينظر: «السبعة» (180) ، و «الكشف» (1/ 285) ، و «حجة القراءات» (128، 129) ، و «الحجة» (2/ 286) ، و «شرح الطيبة» (4/ 96) ، و «شرح شعلة» (287) ، و «العنوان» (73) ، و «إتحاف» (1/ 433) ، و «معاني القراءات» (1/ 196) . (3) أخرجه الطبري (2/ 276- 277) رقم (3599- 3603- 3613) عن ابن عباس، رقم (3609- 3614) عن مجاهد. وذكره البغوي (1/ 172) عن ابن عباس ومجاهد، وابن عطية (1/ 272) عن ابن عباس، ومجاهد، ومالك. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 395) ، وعزاه لوكيع، وسفيان بن عيينة، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (4) أخرجه الطبري (2/ 279- 280) رقم (3634- 3648، 3652، 3656) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 172) . وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 272) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 395) ، وفي (1/ 396) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وسفيان، ووكيع، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي يعلى، وابن أبي حاتم. (5) أخرجه الطبري (2/ 282) رقم (3671) ، عن ابن زيد. وذكره ابن عطية (1/ 272) ، عن ابن زيد، ومالك. (6) «التفسير الكبير» (5/ 140) .

اللفظ صالِحٌ للكلِّ ومتناولٌ له، والنهي عن الشيء يوجبُ الاِنتهاءَ عن جَميعِ أنواعه، فحمل اللفْظ على بعض أنواع الفسوقِ تحكُّم من غير دليل. انتهى. قال ابن عباس وغيره: الجِدَالُ هنا: أن تماري مسلماً «1» . وقال مالك، وابن زَيْد: الجدالُ هنا أن يَخْتَلفَ الناسُ أيهم صادَفَ موقفَ إِبراهيمَ- عليه السلام- كما كانوا يفعلون في الجاهلية «2» ، قُلْتُ: ومعنى الآية: فلا تَرْفُثُوا، ولا تفسُقُوا، ولا تجادلُوا كقوله صلّى الله عليه وسلم: «وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يرفث، ولا يصحب، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امرؤ صَائِمٌ ... » «3» الحديث. انتهى. قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «4» : قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ، أراد نفيه مشروعاً، لا موجوداً، فإِنا نجد الرفَثَ فيه، ونشاهده، وخبَرُ اللَّه سبحانه لا يَقَعُ بخلافِ مخبره. انتهى. قال الفَخْر «5» : قال القَفَّال: ويدُخُل في هذا النهْيِ ما وقع من بعضهم من مجادلة النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين أمرهم بفَسْخِ الحَجِّ إِلى العمرة، فشَقَّ عليهم ذلك، وقالوا: «أنروحُ إلى منى، ومَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا ... » الحديث. انتهى. وقوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ: المعنى: فيثيب عليه، وفي هذا تحضيضٌ على فعل الخير. ت: وروى أُسَامَةُ بنُ زيدٍ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صُنِعَ إِليْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» رواه الترمذيُّ، والنَّسائي، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» بهذا اللفظ «6» . انتهى من «السلاح» ونحو هذا جوابه صلّى الله عليه وسلم للمهاجرين حيث

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 283- 284) ، رقم (3674- 3675- 3681- 3695- 3696) ، وذكره ابن عطية (1/ 273) ، والسيوطي (1/ 395- 396) وعزاه إلى وكيع، وسفيان بن عيينة، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (2/ 286) رقم (3706) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 173) ، وابن عطية (1/ 273) عن مالك، وابن زيد، وذكره السيوطي (1/ 397) ، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد. (3) تقدم تخريجه. (4) ينظر: «الأحكام» (1/ 134) . (5) «التفسير الكبير» (1/ 141) . [.....] (6) أخرجه الترمذي (4/ 380) كتاب «البر والصلة» ، باب ما جاء في المتتبع بما لم يعطه، حديث (2034) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 53) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول لمن صنع إليه معروفا، -

[سورة البقرة (2) : الآيات 198 إلى 199]

قَالُوا: «مَا رَأَيْنَا كَالأَنْصَارِ» ، وأثنوا علَيْهم خيراً. وقوله سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ... الآية: قال ابن عُمَرَ وغيره: نزلَتِ الآية في طائفةٍ من العرب، كانت تجيء إِلى الحج بلا زادٍ، ويبقون عالة على النَّاس، فأمروا بالتزوُّد «1» ، وقال بعض النَّاس: المعنى: تزوَّدوا الرفيقَ الصالحَ، وهذا تخصيصٌ ضعيفٌ، والأولى في معنى الآية: وتزوَّدوا لمعادِكُمْ من الأعمال الصالحة، قُلْتُ: وهذا التأويلُ هو الذي صَدَّر به الفخْرُ «2» وهو الظاهرُ، وفي قوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى حضّ على التقوى. [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ... الآية: الجُنَاحُ: أعم من الإثم لأنه فيما

_ - حديث (10008) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (276) ، والطبراني في «الصغير» (2/ 148) ، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 345) ، كلهم من طريق الأحوص بن جواب، ثنا سعيد بن الخمس، ثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عن أبي عثمانَ النهدي، عن أسامة بن زيد مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن جيد غريب، لا نعرفه من حديث أسامة بن زيد، إلا من هذا الوجه. اهـ. وصححه ابن حبان برقم (3413) . وقال الترمذي أيضا: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم بمثله، وسألت محمدا فلم يعرفه اهـ. قلت: والحديث الذي أشار إليه الترمذي: أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 70) ، والبزار (2/ 397- كشف) رقم (1944) ، والطبراني في «الصغير» (2/ 149) ، كلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرجل لأخيه: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» . قال البزار: ومحمد بن ثابت لا نعلم روى عنه إلا موسى بن عبيدة، ولا روى عن أبي هريرة هذا الحديث غيره. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 153) ، وقال: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. (1) أخرجه الطبري في (2/ 290) رقم (3732) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 173) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 273) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 398) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر. (2) ينظر: «التفسير الكبير» (5/ 143) .

يقتضي العقابَ، وفي ما يقتضي الزجْرَ والعتاب. 50 ب وتَبْتَغُوا: معناه: تَطْلبوا، أي: لا دَرك «1» في أنْ تتجروا وتطلبوا/ الرحب. وقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ: أجمع أهْل العْلمِ على تمامِ حجِّ من وقف بعرفاتٍ بعد الزوال، وأفاض نهاراً قبل الليل إِلا مالك بن أنس، فإِنه قال: لا بدَّ أن يأخذ من الليل شيئاً، وأمَّا من وقف بعرفة ليلاً، فلا خلافَ بيْن الأمَّة في تمام حَجِّه. وأفاض القومُ أو الجيشُ، إِذا اندفعوا جملةً، واختلف في تسميتها عرفةَ، والظاهر أنه اسم مرتجلٌ كسائر أسماء البقاع، وعرفةُ هي نَعْمَانُ الأَرَاكِ «2» ، والمَشْعَر الحَرَامُ جمعٌ كله، وهو ما بين جبلَيِ المزدَلِفَةِ من حَدِّ مفضى مَأْزِمَي «3» عرفَةَ إِلى بطن مُحَسِّرٍ «4» ، قاله ابن عبَّاس وغيره «5» ، فهي كلُّها مشعر «6» إِلا بطن مُحَسِّرٍ كما أن عرفة كلُّها موقف إِلا بطن عُرَنَةَ «7» بفتح الراء وضمها، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، والمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَشْعرٌ، أَلاَ وارتفعوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ» «8» ، وذكر هذا عبد اللَّه بن

_ (1) الدّرك: التّبعة، يسكّن ويحرك. يقال: ما لحقك من درك فعليّ خلاصه. ينظر: «لسان العرب» (1364) . (2) هو واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات. ينظر: «لسان العرب» (4484) (نعم) . (3) المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين، ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر وعرفة مأزمين. ينظر: «لسان العرب» (74) (أزم) . (4) ومحسّر: بضم الميم، وفتح الحاء، بعدها سين مهملة مشددة مكسورة، بعدها راء، كذا قيده البكري: وهو واد بين «مزدلفة» و «منى» ، وقيل: سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسّر فيه، أي: أعيا. وقال البكري: هو واد ب «جمع» . وقال الجوهري: هو موضع ب «منى» . ينظر: «المطلع» (196- 197) . (5) أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 298) رقم (3798) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 274) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 401) ، وعزاه إلى وكيع، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس. (6) المشعر الحرام، بفتح الميم، قال الجوهري: وكسر الميم لغة، وهو موضع معروف ب «مزدلفة» ، ويقال له: «قزح» . وقد تقدم أن المشعر الحرام و «قزح» ، من أسماء المزدلفة، فتكون «مزدلفة» كلها سميت بالمشعر الحرام، و «قزح» ، تسمية للكل باسم البعض، كما سمي المكان كله: «بدرا» باسم ماء به، ويقال له: «بدر» . ينظر: «المطلع» (197) . (7) بضم العين، وفتح الراء والنون بين عرفة والمزدلفة. وكل طريق بين جبلين فهو مأزم، وموضع الحرب أيضا: مأزم. قال الجوهري: ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر الحرام وعرفة: مأزمين. ينظر: «المطلع» (196) . (8) بدون الاستثناء لعرفة ومحسر: أخرجه: مسلم (2/ 886: 892) كتاب «الحج» ، باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلم، حديث (147/ 1218) ، وغيره من حديث جابر في حديثه الطويل في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلم، المعروف من رواية محمد بن علي، عن جابر. -

_ - وفي حديث آخر له أيضا من رواية عطاء عنه: أخرجه أبو داود (2/ 478، 479) ، كتاب «المناسك» (الحج) ، باب الصلاة بجمع، حديث (1937) ، وأحمد (3/ 326) ، والدارمي (2/ 56- 57) ، كتاب «المناسك» ، باب عرفة كلّها موقف، والبيهقي (5/ 122) ، كتاب «الحج» ، باب حيث ما وقف من «المزدلفة» أجزأه. ولفظه، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «كل عرفة موقف، وكل مزدلفة موقف، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر» . وورد أيضا من حديث علي: أخرجه أبو داود (2/ 478) ، كتاب «المناسك» (الحج) ، باب الصلاة بجمع (1935) ، والترمذي (3/ 232) ، كتاب «الحج» ، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، حديث (885) ، وابن ماجة (2/ 1001) ، كتاب «المناسك» ، باب الموقف بعرفات، حديث (3010) ، والبيهقي (5/ 122) ، كتاب «الحج» ، باب حيث ما وقف من «المزدلفة» أجزأه، وأحمد (1/ 76) . وقال الترمذي: حسن صحيح. أما بزيادة الاستثناء المذكور، فورد من حديث جبير بن مطعم، وجابر، وابن عباس، وأبي هريرة، وحبيب بن حماشة، وابن عمر. حديث جبير بن مطعم: أخرجه أحمد (4/ 82) ، والبزار (2/ 27) ، كتاب «الحج» ، باب عرفة كلها موقف، حديث (1126) ، والطبراني (2/ 138) ، رقم (1583) ، وابن حبان في «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي» (ص 249) ، كتاب «الحج» ، باب ما جاء في الوقوف بعرفة والمزدلفة، حديث (1008) ، والبيهقي (5/ 239) ، كتاب «الحج» ، باب النحر يوم النحر، وأيام منى كلها، وابن حزم في «المحلى» (7/ 188) عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل عرفات موقف، وارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر، وكل فجاج منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح» . والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 254) ، وقال: رواه أحمد، والبزار، والطبراني في «الكبير» .... ورجاله موثقون. اهـ. وصححه ابن حبان. وحديث جابر: أخرجه ابن ماجه (2/ 1002) ، كتاب «المناسك» ، باب الموقف بعرفات، حديث (3012) ، من طريق القاسم بن عبد الله العمري، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل عرفة موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف، وارتفعوا عن بطن محسر، وكل منى منحر إلا ما وراء العقبة» . قال الحافظ البوصيري في «الزوائد» (3/ 27) : هذا إسناد ضعيف القاسم بن عبد الله بن عمر قال فيه أحمد بن حنبل: كان كذابا يضع الحديث، ترك الناس حديثه. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال أبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي: متروك الحديث اهـ. وذكره مالك في «الموطأ» (1/ 388) كتاب «الحج» ، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة (166) بلاغا. وللحديث طريق آخر عن محمد بن المنكدر مرسلا. أخرجه البيهقي (5/ 115) كتاب «الحج» ، باب حيث ما وقف من عرفة أجزأه من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن المنكدر به. -

الزُّبَيْرِ «1» في خطبته، وذِكْرُ اللَّه تعالى عند المشعر

_ - حديث ابن عباس: أخرجه الحاكم (1/ 462) ، كتاب «المناسك» ، والبيهقي (5/ 115) ، كتاب «الحج» ، باب حيث ما وقف من عرفة أجزأه، من طريق سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي معبد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر، وشعاب منى كلها منحر» . وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وشاهده على شرط الشيخين صحيح، إلا أن فيه تقصيرا في سنده، ثم أخرجه من طريق يحيى القطان، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، عن ابن عباس قال: كان يقال: «ارتفعوا عن محسر، وارتفعوا عن عرفات» . حديث أبي هريرة: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/ 2716) ، من جهة يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن داود بن فراهج، عنه، والنوفلي ضعيف. قال الذهبي في «المغني» (2/ 751) : مجمع على ضعفه. وله طريق صحيح، ذكره ابن عبد البر كما في «تلخيص الحبير» (2/ 255) ، رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة به. حديث حبيب بن خماشة: أخرجه الحارث بن أبي أسامة (380- بغية) ، في «مسنده» ، قال: حدثنا محمد بن عمر، ثنا صالح بن خوات، عن يزيد بن رومان، عن حبيب بن عمير بن عدي، عن حبيب بن خماشة الجهني، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بعرفة: «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر» ، وذكره الحافظ في «التلخيص» (2/ 255) ، وقال: رواه ابن قانع في «معجم الصحابة» ، وفي إسناده الواقدي، وهو كذاب. حديث ابن عمر: أخرجه ابن عدي (4/ 1589، 1590) ، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري. تركوه، واتهمه بعضهم. وقال الحافظ: متروك. ينظر: «المغني» للذهبى (2/ 382) ، و «التقريب» (1/ 487- 488) . [.....] (1) هو: عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ... أبو بكر. وقيل أبو خبيب الأسدي. القرشي. ولد عام الهجرة، وهو أول مولود للمسلمين بعد الهجرة. من مشاهير الصحابة وفضلائهم، وسيرته شهيرة مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان قد حفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالته عائشة أم المؤمنين، وغيرهم، وهو أحد الشجعان. توفي في جمادى الأولى سنة (73) هـ. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 242) ، «الإصابة» (4/ 69) ، «الثقات» (3/ 212) ، «الاستيعاب» (3/ 95) ، «الاستبصار» (73) ، «صفة الصفوة» (9/ 117) ، «التاريخ الكبير» (3/ 6) ، «الجرح والتعديل» (5/ 56) ، «التاريخ الصغير» (1/ 159) ، «التاريخ لابن معين» (2/ 49) ، «تهذيب الكمال» (2/ 682) ، «غاية النهاية» (1/ 419) ، «الأعلام» (4/ 87) ، «الرياض المستطابة» (201) ، «رياض النفوس» (1/ 42) ، «حلية الأولياء» (1/ 329) ، «شذرات الذهب» (1/ 42) ، «العبر» (1/ 4، 60) .

الحرام «1» ندْبٌ عند أهل العلْم، قال مالك: ومن مَرَّ به، ولم ينزلْ، فعليه دَمٌ. وقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ تعديد للنعمة، وأمر بشكرها. ص: كَما هَداكُمْ: الكاف للتشبيهِ، وهو في موضع نصْبٍ على النعت لمصدرٍ محذوفٍ، و «مَا» مصدريةٌ، أي: كهدايتِهِ، فتكون «مَا» وما بعدها في موضع جَرٍّ، إِذ يَنْسَبِكُ منْها مع الفعل مصْدَرٌ، ويَحتملُ أن تكون للتعليلِ على مذهب الأخفش، وابن بَرْهَانَ «2» ، وجوَّز ابن عطيَّة وغيره، أنْ تكون «مَا» كافَّة للكاف عن العَمَل، والأول أولى «3» لأن فيه إِقرار الكافِ على عملها الجرّ، وقد منع صاحبُ «المستوفى» «4» أنْ تكون الكافُ مكفوفةً ب «مَا» واحتج من أثبته بقوله: [الوافر] لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ... كَمَا النِّسْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ أُريدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ... وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عبد لئيم «5» انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 274) . (2) عبد الواحد بن عليّ بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم بن برهان أبو القاسم الأزديّ العكبري النّحوي. صاحب العربيّة واللغة والتواريخ وأيّام العرب، قرأ على عبد السلام البصريّ وأبي الحسن وكان أوّل أمره منجما فصار نحويّا، وكان حنبليّا فصار حنفيّا. مات في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وأربعمائة. ينظر: «بغية الوعاة» (2/ 120- 121) . (3) ينظر: «البحر المحيط» (2/ 106) ، و «الدر المصون» (1/ 495) . (4) «المستوفى» في النحو، قال السيوطي في «بغية الوعاة» (355) : «أكثر أبو حيان من النقل عنه» . وهو لأبي سعد كمال الدين علي بن مسعود بن محمود بن الحكم الفرّخان القاضي. وفي «كشف الظنون» أنه علي بن مسعود الفرغاني. لكن قال السيوطي: «كذا، وسماه هكذا ابن مكثوم في «تذكرته» . (5) البيتان لزياد الأعجم في ديوانه (ص 97) و «الجنى الداني» (ص 481) و «شرح شواهد المغني» (ص 501) و «المقاصد النحوية» (3/ 348) وبلا نسبة في «مغني اللبيب» (1/ 178) ، «خزانة الأدب» (10/ 206- 208) ، «العيني» (3/ 48) ، و «شرح أبيات المغني» للبغدادي (4/ 125- 126) ، و «الدر المصون» (1/ 495) . ويروي البيت الثاني هكذا: أريد حباءه ويريد قتلي ... واعلم أنه الرجل اللئيم وبعده: فإن الخمر من شر المطايا ... كما الحفظان شربني تميم والنشوان: السكران. والنشوة: السكر. والحليم: الذي عنده تأن. وتحمّل لما يثقل على النفس. يقول: أنا وأبو حميد كالسّكران والحليم، أتحمّل منه وهو يعبث بي. كالسّكران يسفه على الحليم وهو متحمّل. وهذا تشبيه تمثيلي. شبّه حالته معه بحالة الحليم مع السّكران. ينظر: «خزانة الأدب» (10/ 209) .

ثم ذكّرهم سبحانه بحالِ ضلالهم ليظهر قدر إِنعامه عليهم. وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ، أي: من قبل الهدى. وقوله سبحانه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ المخاطب بهذه الآيةِ قريشٌ، ومن وَلَدَتْ، قاله ابن عبَّاس وغيره «1» ، وذلك أنهم كانوا لا يخرجُونَ من الحَرَم، ويَقِفُون بجَمْعٍ، ويفيضون منْه، مع معرفته أنَّ عرفة هي موقفُ إِبراهيم، فقِيلَ لهم: أفيضُوا من حيثُ أفاضَ النَّاس، أي: من عرفة، و «ثُمَّ» ليست في هذه الآية للترتيبِ، إِنما هي لعطف جملة كلامٍ على جملة هي منها منقطعةٌ. وقال الضَّحَّاك: المخاطب بالآيةِ جملةُ الأمَّة، والمرادُ بالناسِ إبراهيم، ويحتملُ أن تكون إِفاضةً أخرى، وهي التي من المزدلفة «2» ، وعلى هذا عوَّل الطَبريُّ «3» ، فتكون «ثُمَّ» على بابها، وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر: «النَّاسِي» «4» ، وتأوَّله آدم- عليه السلام-، وأمر عز وجل بالاستغفار لأنها مواطنه، ومظَانُّ القبولِ، ومساقطُ الرحْمَةِ، وفي الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خَطَب عشيَّة عَرَفَةَ، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلاَّ التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، أَفِيضُوا عَلَى اسم اللَّهِ» ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ، خَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ، فَعَوَّضَ التّبعات من عنده» «5» .

_ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 307) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 175) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 275) . (2) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 275) . (3) الطبري لم يصرح بموافقته لتأويل الضحاك، وإنما احترز بوجود الإجماع على خلافه، ولولا الإجماع لقال بقوله. ينظر: «جامع البيان» (4/ 190- 191) . (4) واستدل بها أبو الفتح على أن لام التعريف تدخل على الأعلام للذم كما تدخلها للمدح، فمن الأول قولهم: فلان بن الصّعق لأن ذلك داء ناله، فهى بلوى. ومن الثاني: المظفر، والعباس ونحوهما. ينظر: «المحتسب» (1/ 119) ، و «الشواذ» (ص 20) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 276) ، و «البحر المحيط» (2/ 109) ، و «الدر المصون» (1/ 497) . (5) ذكر ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 215) أحاديث بهذا المعنى عن أنس، وابن عمر، وعبادة. وقال: ليس في هذه الأحاديث شيء يصح.

[سورة البقرة (2) : الآيات 200 إلى 202]

[سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 202] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ/ ... الآية. قال مجاهد: المناسكُ: الذبائحُ، وهي إِراقة الدِّماء «1» . ع «2» : والمناسكُ عندي العباداتُ في معالمِ الحجِّ، ومواضع النسك فيه. والمعنى: إِذا فرغتُمْ من حجِّكم الذي هو الوقوفُ بعرفة، فاذكروا اللَّه بمحامده، وأثْنُوا عليه بآلائه عندكم، وكانت عادَةُ العَرَبِ، إِذا قَضَتْ حجَّها، تقفُ عند الجَمْرة تتفاخَرُ بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بَسَالةٍ، وكَرَم، وغير ذلك، فنزلَتِ الآية، أنْ يُلْزِموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيامِ الجاهلية، هذا قول جمهور المفسِّرين «3» . وقال ابن عبَّاس، وعطاء: معنى الآيةِ: واذكروا اللَّه كذكر الأطفال آباءهم، وأمهاتهمْ، أي: فاستغيثوا به، والْجئوا إِليه «4» . قال النوويُّ في «حليته» «5» : والمرادُ من الذِّكْر حضورُ القَلْب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر، فيحرص على تحصيله، ويتدبَّر ما يذكر، ويتعقَّل معناه، فالتدبُّر في الذكْر مطلوبٌ كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنَى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيحُ المختارُ استحبابَ مَدِّ الذاكرِ قوله: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» ، لما فيه من التدبُّر، وأقوالُ السلفِ، وأئمةِ الخَلَف في هذا مشهورةٌ. انتهى. قال الشيخُ العارفُ أبو عبد اللَّه محمَّد بن أحمد الأنصاريُّ الساحليُّ المَالقِيُّ: ومنفعةُ الذكْرِ أبداً إِنما هي تَتْبع معناه بالفكْرِ ليقتبس الذاكِرُ من ذُكْرِهِ أنوار المعرفة، ويحصل على

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 307) رقم (3848) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 276) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 416) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد. (2) «المحرر الوجيز» (1/ 276) . (3) ينظر: «معاني الزجاج» (1/ 262) ، و «الرازي» (5/ 183) ، و «الدر» (1/ 232) ، و «الوسيط» (1/ 306) . [.....] (4) أخرجه الطبري (2/ 309) برقم (3867) ، وذكره البغوي (1/ 176) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 276) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 417) . (5) «حلية النووي» (ص 40) .

اللُّبِّ المراد، ولا خير في ذِكْرٍ مع قَلْبٍ غافلٍ ساهٍ، ولا مع تضْييعِ شيءٍ من رسوم الشرعِ، وقال في موضعٍ آخر من هذا الكتاب الذي ألَّفه في «السُّلوك» : ولا مَطْمع للذَّاكر في دَرْكِ حقائقِ الذِّكْرِ إِلا بإِعمال الفكْر فيما تحْت ألفاظ الذكْر من المعانِي، وليدفع خَطَرات نفْسه عن باطنه راجِعاً إِلى مقتضى ذكْره حتى يغلب معنى الذكْر على قلبه، وقد آن له أنْ يدخل في دائرة أهْل المحاضَرَات. انتهى. وقوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ... الآية: قال أبو وائلٍ وغيره: كانت عادتهم في الجاهلية الدُّعَاءَ في مصالحِ الدنْيا فقطْ إذ كانوا لا يعرفون الآخرةَ، فَنُهُوا عن ذلك الدعاءِ المخصوصِ بأمر الدنيا، وجاء النهْيُ في صيغة الخبر عنه، والخَلاَقُ: الحظُّ، والنصيبُ «1» . قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن: حَسَنَةُ الدنيا: العلْمُ والعبَادة «2» . ع «3» : واللفظ أَعمُّ من هذا، وحَسَنةُ الآخِرة الجنَّة بإِجماع، وعن أنس: قال: كان أكثر دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» رواه البخاريُّ ومسلم وغيرهما «4» ، زاد مسلمٌ: «وكَانَ أَنَسٌ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ» . انتهى. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وعْدٌ على كسْب الأعمال الصالحة، والربُّ سبحانه سريعُ الحسابِ لأنه لا يحتاجُ إِلى عقْد، ولا إِعمال فكْر، قيل لعليٍّ- رضي اللَّه عنه-: كيف يحاسِبُ اللَّه الخلائِقَ في يَوْمٍ، فقال: كما يَرْزُقُهُمْ فِي يومٍ، وقيل: الحسابُ هنا: المجازاتُ. وقيل: معنى الآية: سريعُ مجيءِ يومِ الحسابِ، فيكون المقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 276) . (2) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 276) . (3) «المحرر الوجيز» (1/ 277) . (4) أخرجه البخاري (11/ 195) ، كتاب «الدعوات» ، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة» حديث (6389) ، ومسلم (4/ 2070- 2071) كتاب «الذكر والدعاء» ، باب فضل الدعاء بأللهم آتنا في الدنيا حسنة، حديث (26، 27/ 2690) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 203 إلى 205]

[سورة البقرة (2) : الآيات 203 الى 205] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ. أَمَرَ اللَّه سبحانه بذكْره في الاْيام المعدوداتِ/، وهي الثلاثة الَّتي بعد يَوْم النحر، ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصّلوات. 51 ب قال مالك: يكبِّر من صلاة الظُّهْر يوم النَّحْر إِلى صلاة الصُّبْح من آخر أيام التَّشْريق، وبه قال الشافعيُّ، ومشهور مذهبِ مالكٍ، أنه يكبِّر إِثْر كلِّ صلاةٍ ثلاثَ تكْبيراتٍ. ومن خواصِّ التكبير وبركتِهِ ما رواه ابن السُّنِّيِّ، بسنده، عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الحَرِيقَ، فَكَبِّرُوا فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ» «1» انتهى من «حلية النوويِّ» «2» . وقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ... الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره: المعنى: من نَفَر اليوم الثَّاني من الأيام المعدوداتِ، فلا حرج عليه، ومن تأخَّر إِلى الثالث، فلا إِثم عليه، كلُّ ذلك مباحٌ إِذ كان من العربِ مَنْ يذمُّ المتعجِّل وبالعكْس، فنزلَتِ الآية رافعةً للجُنَاحِ «3» . قُلْتُ: وأهل مكة في التعجيلِ كغيرهم على الأصحِّ. ثم أمر سبحانه بالتقوى، وذكَّر بالحَشْر، والوقوفِ بين يَدَيْهِ. وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... الآية. قال السُّدِّيُّ: نزلَتْ في الأخْنَسِ بْنِ شريقٍ: أظهر الإِسلام، ثم هَرَب، فمرَّ بقومٍ من المسلمين، فأحرق لهم زرعاً، وقتل حُمُراً «4» . قال ع «5» : ما ثبت قطُّ أن الأخنس أسلم، قُلْتُ: وفي ما قاله ع: نظر،

_ (1) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» حديث (295) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 296) ، من طريق عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه عن جَدِّه مرفوعا. (2) «حلية النووي» (ص 332) . (3) أخرجه الطبري (2/ 318- 321) برقم (3931- 3957) . وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 278) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 423) . (4) أخرجه الطبري (2/ 324) رقم (3964) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 279) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 427) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن السدي. (5) «المحرر الوجيز» (1/ 279) .

ولا يلزم من عدم ثبوتِهِ عِنْده ألاَّ يثبت عنْد غيره، وقد ذكر أحمدُ بن نصرٍ الدَّاووديُّ في تفسيره أنَّ هذه الآية نزلَتْ في الأخْنَس بْنِ شريق. انتهى، وسيأتي للطبريِّ نحوه. وقال قتادةُ، وجماعة: نزلَتْ هذه الآيةُ في كل مُبْطِن كُفْرٍ، أو نفاقٍ، أو كذبٍ، أو ضرارٍ، وهو يظهر بلسانه خلافَ ذلك، فهي عامَّة «1» ، ومعنى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ، أي: يقول: اللَّه يعلم أنِّي أقول حقًّا، والأَلَدُّ: الشديدُ الخصومةِ الذي يَلْوِي الحجج في كل جانبٍ، فيشبه انحرافُه المَشْيَ في لَدِيديِ «2» الوادي. وعنه صلّى الله عليه وسلم: «أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم» . وتَوَلَّى وسَعى: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكونا فِعْلَ قَلْبٍ، فيجيء «تولى» بمعنى: ضَلَّ وغَضِبَ وأنف في نَفْسه، فسعى بِحِيَلِهِ وإِدارته الدوائر علَى الإِسلام نحا هذا المنحى في معنى الآية ابْنُ جُرَيْج، وغيره. والمعنى الثاني: أن يكونا فِعْلَ شخصٍ، فيجيء «تَوَلَّى» بمعنى: أدبر ونَهَض وسعى، أي: بقدميه، فقطع الطريقَ وأفسدها، نحا هذا المنحَى ابن عبَّاس وغيره. وقوله تعالى: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ: قال الطبريُّ «3» : المراد الأخنَسُ في إِحراقه الزرْعَ، وقتلِهِ الحُمُرَ. قال ع «4» : والظاهر أن الآية عبارةٌ عن مبالغته في الإِفساد. ولا يُحِبُّ الْفَسادَ معناه: لا يحبُّه من أهل الصَّلاح، أو لا يحبُّه دِيناً، وإِلا فلا يقع إِلاَّ ما يحبُّ اللَّه وقوعه، والفسادُ: واقعٌ، وهذا على ما ذهب إِليه المتكلِّمون من أنَّ الحُبَّ بمعنى الإِرادة. قال ع «5» : والحُبُّ له على الإِرادة مزيَّة إِيثارٍ إِذ الحبّ من الله تعالى إنما هو

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 279) . (2) اللّديدان: جانبا الوادي. كل واحد منهما لديد. ينظر: «لسان العرب» (4019) . (3) «جامع البيان» (4/ 238) . [.....] (4) «المحرر الوجيز» (1/ 280) . (5) «المحرر الوجيز» (1/ 281) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 206 إلى 210]

لما حسن من جميع جهاته. [سورة البقرة (2) : الآيات 206 الى 210] وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ... الآية: هذه صفة الكَافِرِ والمنافقِ الذاهِبِ بنَفْسِهِ زَهْواً، ويحذر المؤمن أن يوقعه الحَرَجُ في نحو هذا، وقد قال بعْضُ العلماءِ: كفى بالمرء إِثماً أنّ يقول له أخُوهُ: اتق اللَّهَ، فيقول له: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، مِثْلُكَ يُوصِينِي. قلت: قال أحمد بن نصر الداوديّ: عن ابن مسعودٍ: من أكبر/ الذنبِ أنْ يقال للرجل: اتق 52 أالله، فيقول: عليك نفسك، أنت تأمرني «1» . انتهى. والْعِزَّةُ هنا: المنعة، وشدَّة النفْس، أي: اعتز في نفسه، فأوقعته تلك العزةُ في الإِثم، ويحتمل المعنى: أخذته العزّة مع الإثم. وفَحَسْبُهُ، أي: كافيه، والْمِهادُ: ما مهد الرجلُ لنفسه كأنه الفراشُ. وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ... الآية: تتناول كلَّ مجاهدٍ في سبيل اللَّهِ، أو مستشهدٍ في ذاته، أو مغيِّر منْكَرٍ، وقيل: هذه الآية في شهداء غزوة الرَّجِيعِ «2» : عاصمِ بْنِ ثَابِتٍ «3» ، وخُبَيْب «4» ، وأصحابِهِمَا، وقال عكرمةُ وغيره: هي في طائفة من

_ (1) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 180) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 430) ، وعزاه لوكيع، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في «الشعب» عن ابن مسعود. (2) والرّجيع (بفتح الراء وكسر الجيم) هو في الأصل: اسم للروث، سمي بذلك لاستحالته. والمراد هنا اسم موضع من بلاد هذيل، كانت الوقعة بقرب منه، فسميت به. ينظر: «فتح الباري» (8/ 131) . (3) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. واسم أبي الأقلح قيس بن عصمة بن النّعمان بن مالك بن أميّة بن صبيعة بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف الأنصاريّ. جدّ عاصم بن عمرو بن الخطاب لأمّه، من السّابقين الأولين من الأنصار. ينظر: «الإصابة» (3/ 460) . (4) خبيب بن عدي: بن مالك بن عامر بن مجدعة بن جحجبى بن عوف بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ. شهد بدرا واستشهد في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ينظر: «الإصابة» (2/ 225) .

المهاجرين، وذكروا حديث صهيب «1» . ويَشْرِي: معناه يبيعُ ومنه وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف: 20] ، وحكى قوم أنه يقالُ: شرى بمعنى اشترى، ويحتاجُ إِلى هذا من تأوَّل الآية في صُهَيْبٍ لأنه اشترى نفْسَه بمالِهِ. وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ترجيةٌ تقتضي الحضَّ على امتثال ما وقع به المدْحُ في الآية كما أن قوله سبحانه: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ تخويفٌ يقتضي التحذيرَ ممَّا وقع به الذمُّ في الآية، ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخولِ في السِّلْم، وهو الإِسلام، والمُسَالمة، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في أهل الكتابِ، والألف واللام في الشيطانِ للجنْسِ» . وعَدُوٌّ: يقع للواحدِ، والاثنينِ، والجمعِ، وقوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ ... الآية: أصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات، والآراء، وغير ذلك، والمعنى: ضللتم، والْبَيِّناتُ محمّد صلّى الله عليه وسلم وآياته، ومعجزاته، إِذا كان الخطابُ أوَّلاً لجماعةِ المؤمنين، وإِذا كان الخطابُ لأهل الكتاب، فالبيناتُ ما ورد في شرائعهم من الإِعلام بمحمَّد صلّى الله عليه وسلم، والتعريف به. وعَزِيزٌ: صفة مقتضيةٌ أنَّه قادرٌ عليكم لا تعجزونَهُ، ولا تمتنعون منه، وحَكِيمٌ، أي: مُحْكِمٌ فيما يعاقبكم به لِزَلَلِكُمْ. وقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ، أيْ: ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلُّون، والظُّلَلُ: جمع ظُلَّة، وهي ما أظَلَّ من فوق، والمعنى: يأتيهم حكم اللَّه، وأمره، ونهيه، وعقابه إِياهم. وذهب ابن جُرَيْج وغيره إِلى أن هذا التوعُّد هو مما يقع في الدنيا «3» ، وقال قومٌ: بل هو توعُّد بيوم القيامة «4» ، وقال قوم: إِلا أن يأتيهم الله وعيد بيوم القيامة «5» .

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 333) برقم (4004) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 281) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 430) وعزاه لابن جرير الطبري. (2) أخرجه الطبري (2/ 337) برقم (4020) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 282) والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 210) وعزاه لابن جرير. من طريق ابن جريج، عن ابن عباس. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 283) . (4) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 283) . (5) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 283) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 211 إلى 212]

وأما الْمَلائِكَةُ، فالوعيد بإِتيانهم عنْدَ المَوْت والغمامُ: أرقُّ السحابِ، وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظُلِّلَ به بنو إِسرائيل. وقال النَّقَّاش: هو ضَبَابٌ أبيض، وقُضِيَ الأمرُ: معناه وقع الجزاء، وعُذِّبَ أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جَبَلٍ «1» : «وقضاء الأمر» . وإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ: هي راجعةٌ إِليه سبحانه قَبْل وبَعْد، وإِنما نبه بذكْر ذلك في يَوْم القيامة على زوالِ ما كان منها إلى الملوك في الدنيا. [سورة البقرة (2) : الآيات 211 الى 212] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) وقوله سبحانه: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: معنى الآية: توبيخُهم على عنادهم بعد الآياتِ البيِّناتِ، والمراد بالآيةِ: كم جاءَهُمْ في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم من آية معرّفة به دالّة عليه، ونِعْمَةَ اللَّهِ: لفْظٌ عامٌّ لجميع إِنعامه ولكنْ يقوِّي من حال النبيّ صلّى الله عليه وسلم معهم أنَّ المشار إِليه هنا هو محمَّد صلّى الله عليه وسلم فالمعنى: ومن يبدِّلْ من بني إِسرائيل صفةَ نعمة اللَّه، ثم جاء اللفظ منسحباً على كلِّ مبدِّل نعمةً للَّه، ويدخل في اللفظ كفّار قريش/، والتوراة أيضا نعمة 52 ب على بني إِسرائيل، فبدَّلوها بالتحريفِ لها، وجَحْدِ أمر محمّد صلّى الله عليه وسلم، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ: خبرٌ يتضمنُ الوعيد. وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ... الآية: الإِشارة إِلى كفار قريشٍ لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا، ويغتبطون بها، ويسخرون من أتْبَاعِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم كبلالٍ «2» ، وصُهَيْبٍ، وابنِ مَسْعودٍ، وغيرهم، فذكر اللَّه قبيح فعلهم، ونبه على خفض

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 284) ، و «الكشاف» (1/ 254) ، وفيه أنها عطف على «الملائكة» ، وينظر: «الشواذ» (ص 20) . (2) بلال بن رباح. هو بلال بن حمامة. أبو عبد الرحمن. الحبشي. مؤذن النبي صلّى الله عليه وسلم قال ابن حجر: اشتراه أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي وأذن له، وشهد معه جميع المشاهد، وآخى النبي بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، ثم خرج بلال بعد النبي مجاهدا. توفي ب «الشام» . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 243) ، «الإصابة» (1/ 170) ، «الاستيعاب» (1/ 178) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 56) ، «التاريخ الكبير» (2/ 106) ، «الجرح والتعديل» (2/ 395) ، «الثقات» (3/ 28) ، «تهذيب الكمال» (1/ 140) ، «تهذيب التهذيب» (1/ 502) ، «العبر» (1/ 24) ، «تقريب التهذيب» (1/ 110) ، «التحفة اللطيفة» (1/ 382) ، «الحلية» (1/ 147) .

منزلتهم بقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ومعنى الفوقيَّة هنا في الدرجَةِ والقَدْر ويحتمل أن يريد أنَّ نعيم المتَّقِينَ في الآخرة فوق نعيم هؤلاء الآن. قلت: وحكى الداوديّ عن قتادة: فوقهم يوم القيامة. قال: فَوْقَهُم في الجنّة «1» . انتهى. ومهما ذكرت الداوديّ في هذا «المختصر» ، فإِنما أريد أحمد بن نَصْرٍ الفقيهَ المَالِكِيَّ، ومن تفسيره أنا أنقل. انتهى. فإِن تشوَّفَتْ نفسُك أيها الأخُ إِلى هذه الفوقيَّة، ونَيْلِ هذه الدرجة العَليَّة، فارفض دنياك الدنيَّة، وازهَدْ فيها بالكليَّة لتسلَمَ من كل آفة وبليَّة، واقتد في ذلك بخَيْر البريَّهْ. قال عِيَاضٌ في «شِفَاهُ» «2» : فانظُرْ- رحمك الله- سيرة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم وخُلُقَه في المال، تجده قد أوتي خزائنَ الأرْض [ومفاتيح البلاد، وأُحلّت له الغنائم «3» ، ولم تحلَّ لنبي قبله، وفتح عليه في حياته صلّى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق] «4» ، وجُبِيَتْ إِلَيْه الأخماس، [وصدقاتها ما لا يجبى «5» للملوك إِلاَّ بعضه] «6» ، وهادَتْه جماعةٌ من الملوك، فما استأثر بشيء من ذلك، ولا أمْسَكَ دِرْهَماً منْه، بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين، ومات صلّى الله عليه وسلم، ودِرْعُهُ مرهُونَةٌ في نفقةِ عيَالِهِ، واقتصر من نفقته ومَلْبَسِهِ على ما تدْعُوه ضرُورتُهُ إِليه، وزهد فيما سواه، فكان- عليه

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 346) رقم (4050) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 285) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 434) ، وعزاه لعبد الرزاق عن قتادة. [.....] (2) ينظر: «الشفا» (122- 123) . (3) الغنيمة في اللغة: ما ينال الرجل أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر: [الوافر] وقد طوّفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وتطلق الغنيمة على الفوز بالشيء بلا مشقة، ومن قولهم للشيء يحصل عليه الإنسان عفوا بلا مشقة: «غنيمة باردة» . واصطلاحا: عرفها الشافعية بأنها: مال أو مال ألحق به، كخمر محترمة، حصل لنا من كفار أصليين حربيين، مما هو لهم بقتال منا، أو إيجاف خيل ما، أو نحو ذلك. وعرفها الحنفية: بما نيل من أهل الشرك عنوة أي قهرا، أو غلبة والحرب قائمة. وعرفها المالكية: بأنها اسم لما أخذه المسلمون من الكفار بإيجاف الخيل أو الركاب. وعرفها الحنابلة: بأنها ما أخذ من مال حربي قهرا بقتال وما ألحق به. ينظر: «الإقناع» للخطيب الشربيني (2/ 517) ، «أنيس الفقهاء» (183) ، و «كشاف القناع» (3/ 77) . (4) من «الشفا» (1/ 123) . (5) يجبى: يجمع. (6) من «الشفا» (1/ 123) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 213 إلى 214]

السلام- يلبس مَا وَجَدَ، فيلْبَسُ في الغالِبِ الشّملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ. انتهى. [سورة البقرة (2) : الآيات 213 الى 214] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) وقوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... الآية: قال ابن عبَّاس: النَّاسُ: القُرُونُ التي كانَتْ بين آدم ونوح، وهي عشوة كانوا على الحَقِّ حتى اختلفوا، فبعث اللَّه تعالى نوحاً فمن بعده «1» ، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، أي: كفاراً يريد في مدَّة نوحٍ حين بعثه اللَّه «2» . وقال أُبَيُّ بن كعب، وابنُ زَيْد: المرادُ ب النَّاسُ بنو آدم حين أخرجهم اللَّه نسماً من ظهر آدم، أي: كانوا على الفطْرة «3» ، وقيل غير هذا، وكل من قدَّر الناسَ في الآية مؤمنين، قدَّر في الكلام «فاختلفوا» ، وكلُّ من قدَّرهم كفاراً، قدَّر: كانت بعثة النبيِّين إِلَيْهم. والأُمَّة: الجماعة على المَقْصد، ويسمَّى الواحدُ أُمَّةٍ، إِذا كان منفرداً بمَقْصِد، ومُبَشِّرِينَ: معناه بالثواب على الطاعة، ومُنْذِرِينَ: بالعقاب، والْكِتابَ: اسم الجنس، والمعنى: جميع الكتب، ولِيَحْكُمَ: مسند إِلى الكتاب في قول الجمهور، والذين أوتوه أرباب العلْم به، وخصوا بالذكْر تنبيهاً منه سبحانه على عظيم الشّنعة، والقبح، والْبَيِّناتُ: الدَّلالات، والحججُ، والبغي: التعدِّي بالباطل، وهدى: معناه أرشد،

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 347) برقم (4051) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 286) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 435) ، وعزاه إلى البزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس. (2) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 186) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 286) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 435) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبري (2/ 348) برقم (4057) ، عن ابن زيد. وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 186) ، عن أبي بن كعب. وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 286) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 435) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب.

والمراد ب الَّذِينَ آمَنُوا من آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم فقالتْ طائفةٌ: معنى الآية أن الأمم كَذَّب بعضهم كتابَ بعض، فَهَدَى اللَّه أمَّة محمَّد صلّى الله عليه وسلم للتصديقِ بجمِيعِهَا «1» ، وقالتْ طائفة: إِن اللَّه سبحانه هَدَى المؤمنين للحَقِّ فيما اختلف فيه أهلُ الكتاب من قولهم: إنّ إبراهيم كان 53 أيهوديّا أوْ نَصْرَانِيًّا «2» ، قال زيْدُ بن أسلم: وكاختلافهم في يوم الجمعة فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلم/ قال: «هذا اليومُ الَّذي اختلفوا فيه، فهَدَانا اللَّه له، فلليهود غَدٌ، وللنصارى بَعْدَ غد، وفي صيامهمْ، وجميع ما اختلفوا «3» فيه. قال الفَرَّاء: وفي الكلام قلْبٌ، واختاره الطبريُّ «4» ، قال: وتقديرُهُ: فهدَى اللَّه الذين آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا فيه، ودعاه إِلى هذا التقديرِ خوْفُ أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحَقِّ، فهدى اللَّه المؤمنين لبَعْضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاه غير الحق في نَفْسه نحا إِلى هذا الطبريُّ في حكايته عن الفَرَّاء. قال ع «5» : وادعاء القَلْب على كتابِ اللَّه دُونَ ضرورة تَدْفَعُ إِلى ذلك عَجْزٌ، وسُوء نَظَرٍ. وذلك أنَّ الكلام يتخرَّج على وجهه ورَصْفه لأن قوله: فَهَدَى يقتضي أنهم أصابوا الحَقَّ، وتم المعنى في قوله: فِيهِ، وتبيَّن بقوله: مِنَ الْحَقِّ جنسُ ما وقع الخلاف فيه، وبِإِذْنِهِ قال الزجَّاج «6» : معناه بعِلْمِهِ. ع «7» : والإِذن هو العلم، والتمكين، فإِن اقترن بذلك أمرٌ، صار أقوى من الإِذن بمزية. وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ ... الآية: أكثر المفسرين «8»

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 286) . (2) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 286) . (3) أخرجه الطبري (2/ 351) برقم (4064) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 187) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 287) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 436) ، وعزاه لابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم. (4) «تفسير الطبري» (4/ 286) . (5) «المحرر الوجيز» (1/ 287) . (6) «معاني القرآن» (1/ 285) . [.....] (7) «المحرر الوجيز» (1/ 287) . (8) ينظر: «الطبري» (4/ 288) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 287) ، و «بحر العلوم» (1/ 200) ، و «الرازي» (6/ 17) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 215 إلى 216]

أنها نزلَتْ في قصَّة الأحزاب حين حصروا المدينة، وقالَتْ فرقةٌ: نزلَتْ تسليةً للمهاجرين، حين أصيبَتْ أموالهم بعْدَهم، وفيما نَالَهم من أذاية الكافرين لهم. وخَلَوْا: معناه: انقرضوا، أي: صاروا في خَلاَءٍ من الأرض، والْبَأْساءُ في المال، والضَّرَّاءُ في البدن، ومَثَلُ: معناه شبه، والزَّلْزَلَة: شِدَّة التحريك، تكون في الأشْخَاص والأحوال. وقرأ نافع «1» : «يَقُولُ» بالرفع، وقرأ الباقون بالنَّصْب، وحتى: غايةٌ مجرَّدة تنصبُ الفعل بتقدير «إلى أَنْ» وعلى قراءة نافعٍ، كأنها اقترن بها تسبيبٌ، فهي حرفُ ابتداءٍ ترفَعُ الفعلَ. وأكثر المتأوِّلين على أن الكلام إِلى آخر الآية من قول الرَّسُول والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسُولِ على طلب استعجال النَّصْر، لا على شَكٍّ ولا ارتياب، والرسولُ اسم الجنْسِ، وقالتْ طائفةٌ: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والتقديرُ: حتى يقول الذين آمنوا: متى نَصْرُ اللَّهِ، فيقولَ الرسولُ: ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قريبٌ، فقدم الرسولَ في الرتبة لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدِّم في الزمان. قال ع «2» : وهذا تحكُّم، وحمل الكلام على وجهه غيرُ متعذِّر، ويحتملُ أن يكون: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إِخباراً من اللَّه تعالى مؤتنفاً بعد تمام ذكْرِ القَوْل. [سورة البقرة (2) : الآيات 215 الى 216] يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ ... الآية: السَّائِلُون: هم المؤمنون، والمعنى: يسألونك، ما هي الوجوهُ التي ينفقون فيها؟ و «ما» يصحُّ أنْ تكونَ في موضع رفعٍ على الابتداء، و «ذَا» : خبرها بمعنى «الَّذِي» و «يُنْفِقُونَ» : صلةٌ، و «فِيهِ» عائدٌ على «ذَا» تقديرُه: ينفقونَهُ، ويصحُّ أن تكون «مَاذَا» اسما واحداً مركَّباً في موضع نصب.

_ (1) وحجته أنها بمعنى «قال» ، وليست على الاستقبال، وإنما ينصب من هذا الباب ما كان مستقبلا. وحجة الباقين أنها بمعنى الانتظار. ينظر: «حجة القراءات» (131- 132) ، و «السبعة» (181) ، و «النشر» (2/ 227) ، و «الحجة» للفارسي (2/ 305) ، و «الزجاج» (1/ 277) . (2) «المحرر الوجيز» (1/ 288) .

قال قومٌ: هذه الآية في الزكاة المفروضةِ، وعلى هذا نسخَ منها الوالِدَانِ «1» ، وقال السُّدِّيُّ: نزلَتْ قبل فرض الزكاة، ثم نسختها آية الزكاة المفروضَة «2» ، وقال ابن جُرَيْجٍ وغيره: هي ندْبٌ، والزكاة غيْرُ هذا الإِنفاق، وعلى هذا لا نسخ فيها «3» . وما تَفْعَلُوا جزم بالشرط، والجوابُ في الفاءِ، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمّن الوعد بالمجازات، وكُتِبَ: معناه فُرِضَ واستمر الإِجماع على أن الجهاد على أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم فرض كفاية «4» . وقوله تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ... الآية: قال قومٌ: عسى مِنَ اللَّهِ واجِبَةٌ، والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهادِ من المشقَّة، وهو خيرٌ لكم في أنكم تغلبون

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 288) . (2) أخرجه الطبري (2/ 356) برقم (4071) ، وذكره البغوي (1/ 188) . وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 288) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 437) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السّدي. (3) أخرجه الطبري (2/ 356) برقم (4072) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 289) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 437) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج. (4) أجمع العلماء على أن الجهاد يكون فرض عين في ثلاثة أحوال: الأوّل: أن يستنفر الإمام شخصا أو جماعة للقتال، ففي هذه الحالة يتعين الخروج على من طلب للجهاد. والدليل على ذلك قوله (تعالى) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38] . وجه الدلالة: أن الله (تعالى) أنكر تثاقلهم عن الجهاد، ولو لم يكن متعينا لما أنكره عليهم. وما رواه الجماعة إلا ابن ماجة عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا» . وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: من طلب للجهاد وجب عليه أن ينفر، وهو معنى الوجوب العيني. الثاني: أن يدخل العدو بلاد المسلمين، أو يتغلب على قطر من أقطارهم، فيتعين القتال حينئذ، والدليل عليه الإجماع لأنه من قبيل إغاثة الملهوف المجمع عليها. الثّالث: عند التقاء الصفين يجب على من حضر القتال، ويحرم الانصراف إلا إذا كان متحرّفا لقتال أو متحيزا إلى فئة. والدليل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15- 16] فقد نهى الله المؤمنين عن التّولّي يوم الزحف، وتوعدهم عليه، والنهي والتوعد يدلان على أن الثبات واجب، واستفيدت العينية من أداة العموم في قوله عز وجل: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ ... ثم اختلفوا في غير هذه الأحوال: فذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به من فيه الكفاية سقط الطلب عن الباقين. وقيل: إنه فرض عين، وحكاه الماوردي عن سعيد بن المسيب. وقيل: إنه مندوب.

[سورة البقرة (2) : الآيات 217 إلى 218]

وتَظْهرون، وتَغْنَمُون، وتؤجَرُون، ومن مات، مَاتَ شهيداً/، وعسى أن تحبّوا الدّعة، وترك 53 ب القتَالِ، وهو شرٌّ لكم في أنَّكم تُغْلَبُونَ، وتذلُّون، ويذْهَب أمركم. قال ص: قوله: وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً عسى هنا للترجِّي، ومجيئها له كثيرٌ في كلام العرب، قالوا: وكل «عسى» في القُرآن للتحقيق، يعْنُون به الوقوعَ إِلاَّ قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم: 5] انتهى. وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ... الآية- قوة أمر. [سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... الآية نزلَتْ في قصَّة عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً علَيْها عبد اللَّه بن جَحْشٍ الأسَدِيُّ مَقْدَمَهُ من بَدْر الأولى، فلقوا عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، ومعه عثمانُ بنُ عبد اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأخوه نَوْفَلٌ المخزوميَّان، والحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ في آخر يومٍ من رَجَبٍ على ما قاله ابْنُ إِسْحَاق «1» ، وقالوا: إِن تركْنَاهم اليَوْمَ، دخَلُوا الحَرَم، فأزمعوا قتالَهُم، فرمى واقدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ «2» عمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ بسهْمٍ، فقتله، وأَسَرَ عثمانَ بْنَ عبدِ اللَّهِ، والحَكَمَ، وفَرَّ نوفَلٌ، فأعجزهم، واستسهل المسْلمون هذا في الشَّهْر الحرام خوف فوتهم، فقالَتْ قريشٌ: محمَّد قد استحلَّ الأشهر الحُرُم، وعَيَّروا بذلك، وتوقَّف النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ» فنزلت هذه الآية، وقِتالٍ بدلُ اشتمالٍ عند سيبوَيْه. وقال الفَرَّاء: هو مخفوضٌ بتقدير «عَنْ» وقرىء «3» بِهِ، والشهْرُ في الآية اسم الجنس،

_ (1) أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 360) برقم (4085) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 289) . (2) واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تيمم التميميّ الحنظليّ اليربوعي، حليف بني عديّ بن كعب. قال موسى بن عقبة في «المغازي» : واقد، ويقال: وقدان، شهد بدرا، وكذا ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا. ينظر: «الإصابة» (6/ 465) . (3) وهي في مصحف عبد الله بن مسعود، ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 290) ، وزاد أبو حيان في «البحر» (2/ 154) نسبتها إلى ابن عباس، والربيع، والأعمش.

وكانتِ العربُ قد جعل اللَّه لها الشهْرَ الحرامَ قِوَاماً تعتدلُ عنده، فكانت لا تسفكُ دماً، ولا تغيِّر في الأشهر الحرم، وهي ذُو القَعْدة، وذو الحجَّة، والمُحَرَّم ورَجَبٌ، وروى جابر بن عبد الله، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَغْزُو فِيهَا إِلاَّ أَنْ يغزى، فذلكَ قولُهُ تعالى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ: مبتدأٌ مقطوعٌ ممَّا قبله، والخبرُ «أَكْبَرُ» ، ومعنى الآيةِ على قول الجمهورِ: إِنكم يَا كُفَّار قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُون علَيْنا القتالَ في الشَّهْرِ الحَرَام، وما تفْعَلُون أنْتُمْ من الصَّدِّ عن سبيلِ اللَّهِ لِمَنْ أراد الإِسلام، وكُفْرِكم بِاللَّه، وإِخراجِكُم أهْلَ المسْجد عنْه كما فعلتم برَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، أَكْبَرُ جُرْماً عند اللَّه. قال الزُّهْرِيُّ ومجاهدٌ وغيرهما: قوله تعالى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخ. ص: وسبيل الله: دينه «1» ، والْمَسْجِدِ: قراءة الجمهور بالخَفْض، قال المبرِّد، وتبعه ابن عطية «2» وغيره: هو معطوفٌ على سَبِيلِ اللَّهِ وردَّ بأنه حينئذٍ يكون متعلِّقاً ب «صَدّ» ، أي: وصَدّ عن سبيل اللَّهِ، وعن المسجدِ الحرامِ، فيلزم الفَصْلُ بين المصدر، وهو «صَدّ» وبين معموله، وهو «المسجد» بأجنبيٍّ، وهو: «وكُفْرٌ بِهِ» ، ولا يجوز. وقيل: معطوفٌ على ضمير «بِهِ» ، أي: وكُفْرٌ بِهِ، وَبِالْمَسُجِدِ ورُدَّ بأن فيه عطفاً على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض ولا يجوز عند جمهور البَصْرِيِّين، وأجازه الكوفيُّون، ويونُسُ «3» ، وأبو الحَسَنِ والشَّلَوْبِينُ «4» ، والمختار جوازه لكثرته سماعا ومنه

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 362- 363- 365) برقم (4088) ، عن مجاهد، وبرقم (4089) ، (4101) عن الزهري، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 290) ، عن الزهري، ومجاهد. وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 449) وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد. وفي (1/ 450) عزاه لعبد الرزاق، وأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الزهري. (2) «المحرر الوجيز» (1/ 290) . (3) يونس بن حبيب الضبّي بالولاء، البصريّ، أبو عبد الرحمن. قال السّيرافيّ: بارع في النّحو، من أصحاب أبي عمرو بن العلاء، سمع من العرب، وروى عن سيبويه فأكثر، وله قياس في النّحو، ومذاهب يتفرّد بها. سمع منه الكسائيّ والفرّاء. وكانت له حلقة ب «البصرة» ينتابها أهل العلم وطلاب الأدب وفصحاء الأعراب والبادية. مولده سنة تسعين، ومات سنة ثنتين وثمانين ومائة. ينظر: «البغية» (2/ 365) . [.....] (4) عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله، الأستاذ أبو عليّ الإشبيليّ، الأزديّ، المعروف بالشّلوبين، ومعناه بلغة الأندلس: «الأبيض الأشقر» . -

قراءة حمزة: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النساء: 1] أي: وبالأرحام، وتأويلها على غيره بعيدٌ يُخْرِجُ الكلام عن فصاحته. انتهى. وقوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: المعنى عند جمهور المفسِّرين: والفتنةُ التي كُنْتُمْ تفتنون المُسْلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشدُّ اجتراما من قَتْلكم في الشَّهْر الحرام، وقيل: المعنى والفِتْنَة أشَدُّ من أن لو قتلوا ذلك المَفْتُون. وقوله تعالى: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا هو ابتداءُ خبرٍ من اللَّه تعالى، وتحذيرٌ منه للمؤمنين. وقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ، أي: يرجع عن الإِسلام إِلى الكفر عياذاً باللَّه، قالَتْ طائفةٌ من العلماء: يُستَتَابُ المرتدُّ ثلاثةَ أيامٍ، فإِن تاب، وإِلا قتل، وبه قال مالك، وأحمد «1» ، وأصحابُ الرَّأيِ، والشَّافعيُّ في أحد قولَيْه، وفي قولٍ له: يُقْتَلُ دون استتابةٍ، وحبط العمل، إِذا انفسد في آخره، فبطل، وميراث المرتدِّ «2» عند مالك والشافعيّ: في بيت

_ - قال ابن الزّبير: كان إمام عصره في العربية بلا مدافع، آخر أئمة هذا الشأن بالمشرق والمغرب، ذا معرفة بنقد الشّعر وغيره، بارعا في التعليم، ناصحا، أبقى الله به ما بأيدي أهل المغرب من العربيّة. روى عن السّهيليّ، وابن بشكوال، وغيرهما، وأجاز له السّلفيّ وغيره، وأخذ عنه ابن أبي الأحوص، وابن فرتون وجماعة. وصنف تعليقا على كتاب سيبويه، وشرحين على الجزوليّة، وله كتاب في النّحو سمّاه «التوطئة» . مولده سنة ثنتين وستين وخمسمائة، ومات في العشر الأخير من صفر سنة خمس وأربعين وستمائة. ينظر: «البغية» (2/ 224- 225) . (1) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي. ولد سنة 164، أخذ الفقه عن الشافعي، وسلك مسلكه، صنف المسند. قال إبراهيم الحربي: كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين. توفي سنة 241. ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 56) ، و «حلية الأولياء» (9/ 161) ، و «تذكرة الحفاظ» (2/ 431) . (2) إذا قتل المرتد أو مات على ردته، فقد اختلف الفقهاء في إرث ورثته المسلمين لماله على الوجه الآتي: ذهب الشافعي، وابن أبي ليلى، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، ومالك، وداود بن علي، وعلقمة، وقتادة إلى عدم إرث ورثته المسلمين من تركته. واختلف هؤلاء فيما بينهم، فذهب الشافعي، وابن أبي ليلى، وأبو ثور، وابن حنبل إلى أن جميع ماله يكون فيئا لبيت مال المسلمين، ووافقهم مالك على ذلك، إلا في حالة واحدة هي ما إذا قصد المورّث المرتد حرمان ورثته من ماله فيرثوه في تلك الحالة عنده. وذهب داود بن عليّ إلى أن ماله يكون لورثته الذين ارتد إليهم. وذهب علقمة، وقتادة إلى أن ماله ينتقل لأهل الدين الذين ارتد إليهم. وذهب الحنفية، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وسعيد بن المسيب، وعمر بن-

مال المسلمين. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية:

_ - عبد العزيز، والحسن، وعطاء، وسفيان الثوري، وزفر إلى إرث ورثته المسلمين من تركته. وهؤلاء فريقان أيضا: ذهب علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، والحسن وعطاء، والصاحبان من الحنفية إلى أن جميع ماله الذي كسبه في الإسلام وبعد ردته يكون موروثا لورثته المسلمين. وذهب الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري، وزفر إلى أن الذي يورث هو كسب إسلامه دون كسب ردته فإنه يكون فيئا. استدل القائلون بعدم إرث الورثة المسلمين: أولا: بما رواه البراء بن عازب قال: مر بي خالي أبو بردة ومعه الراية، فقلت: إلى أين تذهب؟ فقال: أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله. دلت الرواية على أن مال المرتد فيء وليس لورثته، فإن إرسال الرسول الرجل لمن فعل فعلا يخرجه عن الإسلام، وأمره بقتله- دليل على أنه ارتد بفعله. وثانيا: بما روى معاوية بن قرّة عن أبيه «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث جدّ معاوية إلى رجل عرّس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه، ويخمّس ماله» وهذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة، ولذلك أخذ منه الخمس. ونوقش الحديثان: بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لأن كلا من الرجلين، كان محاربا بسبب استحلاله لأمر محظور شرعا، فكان ماله مغنوما. ودليل ذلك: أن الراية إنما تعقد للمحاربة لا لغيرها. وإذا كان مغنوما، فلا حق لورثته والحالة هذه لكونه فيئا. واستدلوا ثانيا: بأن المرتد كافر بردته، والمسلم لا يرث الكافر. ونوقش بالفرق بين المرتد والكافر فإن ملك المرتد فيما كسبه قبل الردة كان صحيحا، فلم تجز غنيمته، إذ لا تغنم أموال المسلمين لصحة ملكهم له. وإن جاز غنيمة ما كسبه بعد الردة لمحاربته الله والرسول، فكان كالمربي في أمواله. وبهذا يتبين أن مال المرتد غير مال الكافر وكيف يكون مثله والمرتد غير مقر على ما انتقل إليه، ولا يحل التزوج بالمرتدة ولا أكل ذبيحتها ولا كذلك الكافر. واستدل القائلون بالإرث، وهم الحنفية: أولا: بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] وجه الدلالة: أن صلة الرحم باقية بين المرتد وورثته، فتكون سببا في بقاء الميراث بينهما. ثانيا: بالآثار: فقد ورد عن كثير من الصحابة توريثهم الورثة المسلمين من المرتد روى زيد بن ثابت قال: بعثني أبو بكر عند رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين. وروي مثله عن ابن مسعود، وإليه ذهب أكثر التابعين كسعيد بن المسيب، والحسن. وروي عن علي بن أبي طالب أنه أتي بالمستورد العجلي وقد ارتد، فعرض عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، فضرب عنقه، وجعل ميراثه لورثته المسلمين. وروى ابن حزم من طريق المنهال عن معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن علي بن أبي طالب «اجعلوا ميراث المرتد لورثته من المسلمين» . فدلت هذه الآثار على أن ورثة المرتد المسلمين أحق بتركته دون غيرهم إذا كانوا يرثونه في الصدر الأول. -

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 إلى 220]

قال عروة بن الزُّبَيْر وغيره: لما عَنَّفَ المسلمون عبْدَ اللَّه بن جَحْشٍ وأصحابه، شَقَّ ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية، ثم هي باقيةٌ في كلِّ من فعل ما ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ «1» . وهَاجَرَ الرجُلُ، إِذا انتقل نقلة إِقامة من موضعٍ إِلى موضعٍ، وقصد ترك الأول إِيثاراً للثاني، وهي مُفَاعَلَةٌ من هَجَرَ، وجَاهَدَ مفاعلة من جهد، إذا استخرج الجهد، ويَرْجُونَ: معناه يَطْمَعُون ويستقْربُون، والرجاء تنعُّم، والرجاء أبداً معه خوفٌ ولا بدَّ، كما أن الخوف معه رجاء. ت: والرجاءُ ما قارنه عمَلٌ، وإلا فهو أمنيّة. [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... الآية: السائلُون هم المؤمنُونَ، والخَمْر: مأخوذ من خمر، إِذا ستر ومنه: خِمَارُ المَرْأة، والخَمَرُ: ما واراك من شَجَر وغيره، ومنه قولُ الشاعر: [الوافر] أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جاوزتما خمر الطّريق «2»

_ - واستدلوا ثالثا: بأن المرتد بردته تنتقل أمواله عنه، فلا بد أن تنقل إلى ورثته المسلمين، كما لو انتقلت بالموت، خصوصا وقد جاء نص المواريث عاما لأن ظاهر قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] يقتضي توريث المسلم من المرتد إذ لم يفرق بين الميت المسلم وبين المرتد. ونوقش: بأن العموم في آية المواريث قد خص بحديث أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم من الكافر» كما خص توريث الكافر من المسلم، وهو وإن كان من أخبار الآحاد إلا أن الأمة تلقته بالقبول، واستعملته في منع توريث الكافر من المسلم، فصار في حيز المتواتر لأن آية المواريث خاصة بالاتفاق. وأخبار الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها. وأجيب: بأن حديث أسامة المراد به إسقاط التوارث بين أهل الملتين، وليست الردة بملة قائمة لأنه غير مقرّ عليها. وليس محكوما عليه بحكم الملة التي انتقل إليها، فلم يتناول الحديث محل النزاع. ينظر: «أثر الاختلاف في الأحكام» لشيخنا «بدران أبو العينين» ، «تفسير الجصاص» (2/ 127) ، «مغني» ابن قدامة (7/ 174) ، «المنتقى» على الموطأ (6/ 250) ، «الأم» للشافعي (4/ 3) ، «المحلى» لابن حزم (9/ 308) . (1) أخرجه الطبري (2/ 369) برقم (4106) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 291) . (2) البيت بلا نسبة في «الأزهيّة» (ص 165) و «الدرر» (6/ 168) و «شرح قطر الندى» (ص 210) -

ولما كانت الخمر تستُرُ العَقْل، وتغطِّي عليه، سُمِّيت بذلك، وأجمعت الأمة على تحريمِ خَمْر العِنَبِ، ووجوبِ الحدِّ في القليلِ والكثيرِ منْه، وجمهورُ الأمة على أن ما أسكر كثيرُهُ مِنْ غير خَمْرِ العِنَبِ محرَّم قليلُهُ وكثيرُهُ، والحدُّ في ذلك واجبٌ. وروي أنَّ هذه الآية أولُ تطرُّق إِلى تحريمِ الخَمْر، ثم بعده: لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] ثم إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ... الآية إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ، ثم قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائد: 90] فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «حرّمت الخمر» «1» ،

_ - و «شرح المفصل» (1/ 129) و «لسان العرب» (4/ 257) (خمر) و «اللمع» (ص 195) و «همع الهوامع» (2/ 142) ، و «الدر المصون» (1/ 535) . واستشهد بقوله: «يا زيد والضحاك» حيث روي بنصب «الضحاك» ورفعه، فدلّ ذلك على أنّ المعطوف على المنادى المبنيّ، إذا كان مفردا، يجوز فيه وجهان: الرفع على لفظ المنادى، والنصب على محلّه. (1) أخرجه النسائي (8/ 321) ، كتاب «الأشربة» ، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر، من طريق ابن شبرمة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس موقوفا بلفظ: «حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب» . قال النسائي: ابن شبرمة لم يسمعه من عبد الله بن شداد، وأخرجه (8/ 321) كتاب «الأشربة» ، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر، من طريق ابن شبرمة قال: حدثني الثقة عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس به. قال: خالفه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي. فرواه عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس بزيادة: «حرمت الخمر بعينها: قليلها، وكثيرها» ... أخرجه النسائي (8/ 321) ثم أخرجه من طريق عباس بن ذريح، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: «حرمت الخمر قليلها وكثيرها، وما أسكر من كل شراب» . قال النسائي: وهذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة، وهشيم بن بشير- الراوي عنه- كان يدلس، وليس في حديثه ذكر السماع من ابن شبرمة، ورواية أبي عون أشبه بما رواه الثّقات عن ابن عباس. وقد أخرجه النسائي (8/ 321) ، والدارقطني (4/ 256) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 224) ، من طريق شعبة، عن مسعر، عن أبي عون به، عن ابن عباس موقوفا. وفي الباب عن علي مرفوعا: أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (4/ 123- 124) ، من طريق محمد بن الفرات الكوفي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي قال: طاف النبي صلّى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أسبوعا، ثم استند إلى حائط من حيطان مكة، فقال: «هل من شربة» ؟ فأتي بقعب من نبيذ، فذاقه، فقطب، قال: فرده، قال: فقام إليه رجل من آل حاطب، فقال: يا رسول الله، هذا شراب أهل مكة، قال: فرده. قال: فصب عليه الماء حتى رغا، ثم شرب، ثم قال: «حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» . قال العقيلي: لا يتابع عليه. ونقل عن يحيى قوله: ليس بشيء، وعن البخاري قوله: منكر الحديث. -

ولم يحفظ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في حدِّ الخمر إِلا أنَّه جلد أربعين، خرّجه مسلم، وأبو داود «1» ، وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضرب فيها ضَرْباً مُشَاعاً «2» ، وحَزَرَهُ أبو بكر أربعين سوطاً، وعمل بذلك هو، ثُمَّ عمر «3» ثم تهافَتَ النَّاس فيها، فشدَّد عليهم الحدّ، وجعله كأخفّ الحدود

_ - وقول العقيلي: لا يتابع عليه، فيه نظر. فقد تابعه عبد الرحمن بن بشر الغطفاني. أخرجه هو في «ضعفائه» (3/ 424) من طريقه، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الأشربة، عام حجة الوداع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «حرم الله الخمر بعينها، والسكر من كلّ شراب» . قال العقيلي: عبد الرحمن بن بشر مجهول في النسب والرواية حديثه غير محفوظ. ليس له من حديث أبي إسحاق أصل، وهذا يعرف عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس قوله. (1) أخرجه أحمد (3/ 67) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 157) ، كتاب «الحدود» ، باب حد الخمر، من طريق يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن زيد العمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: جلد على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم في الخمر بنعلين أربعين، فلما كان زمن عمر جلد بدل كل نعل سوطا. وزيد العمي ضعيف، والمسعودي كان قد اختلط. (2) أخرجه البخاري (12/ 66) كتاب «الحدود» ، باب الضرب بالجريد والنعال، حديث (6778) ، ومسلم (3/ 1332) كتاب «الحدود» ، باب حد الخمر، حديث (39/ 1707) ، وأبو داود (4/ 626) ، كتاب «الحدود» ، باب إذا تتابع في شرب الخمر، حديث (4486) ، وابن ماجة (2/ 858) ، كتاب «الحدود» ، باب حد السكران، حديث (2569) ، وأحمد (1/ 125) ، وأبو يعلى (1/ 281) برقم (336) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» ، كتاب «الحدود» ، باب حد الخمر، والبيهقي (8/ 321) ، كتاب «الأشربة والحد فيها» ، باب الشارب يضرب زيادة على الأربعين. كلهم من حديث علي قال: ما كنت لأقيم حدا على أحد، فيموت، وأجد في نفسي منه شيئا، إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يتبين فيه شيئا. قال البيهقي: وإنما أراد- والله أعلم- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يسنه زيادة على الأربعين، أو لم يسنه بالسياط، وقد سنه بالنعال، وأطراف الثياب مقدار أربعين. (3) أخرجه أبو داود (4/ 628) ، كتاب «الحدود» ، باب إذا تتابع في شرب الخمر، حديث (4489) ، والشافعي (2/ 90) كتاب «الحدود» ، باب حد الشرب، حديث (292) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 156) ، كتاب «الحدود» ، باب حد الخمر، والحاكم (4/ 375) ، كتاب «الحدود» ، باب كان الشارب يضرب بالأيدي والنعال، والبيهقي (8/ 320) كتاب «الأشربة» ، باب عدد حد الخمر، عن عبد الرحمن بن أزهر قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غداة الفتح، وأنا غلام شاب يتخلل الناس، يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بشارب، فأمرهم، فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط، ومنهم من ضربه بعصا، ومنهم من ضربه بنعليه، وحثى رسول الله صلّى الله عليه وسلم التراب، فلما كان أبو بكر، فسألهم عن ضرب النبي صلّى الله عليه وسلم الذي ضرب، فحزروه أربعين، فضرب أبو بكر أربعين. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. [.....]

ثمانين وبه قال مالك «1» .

_ (1) ذهب الحنفية والمالكية إلى أن حد الخمر ثمانون، وهو مذهب إسحاق، والأوزاعي، والثوري، وغيرهم، وإحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي، واختاره ابن المنذر. وذهب الشافعي (في أصح مذهبه) إلى أن قدرها أربعون، وهو مذهب الظاهرية، وأبي ثور، وإحدى الروايتين عن أحمد، قال الشافعي: وللإمام أن يبلغ به ثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف والقتل وأنواع الإيذاء، وترك الصلاة وغير ذلك. واحتج الأولون بما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصحّحه عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم «أتي برجل قد شرب الخمر، فجلد بجريدتين نحو أربعين. وفعله أبو بكر، فلمّا كان عمر استشار النّاس، فقال عبد الرّحمن: أخفّ الحدود ثمانين. فأمر به عمر» . وبما رواه أحمد عن أبي سعيد قال: جلد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخمر بنعلين أربعين، فلما كان زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطا. وجه الدلالة: أن شارب الخمر كان يجلد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانين لأنه كان يضرب بالجريدتين أو بالنعلين مجتمعين أربعين، فتكون الجملة الحاصلة ثمانين لأن كل ضربة ضربتان. وإن كانت الرواية الأولى محتملة لقوله: «فجلد بجريدتين نحو أربعين» إلا أن الثانية جازمة، بأن الضرب بنعلين أربعين، ولذا استشار عمر الصحابة (رضوان الله عليهم أجمعين) فرأوا أن الجلد في الخمر ثمانون سوطا بدل الضرب بالنعال ونحوها. وروى الإمام مالك (رضي الله عنه) عن ثور بن زيد الدّيلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب: «نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. أو كما قال. فجلد عمر في الخمر ثمانين» . وجه الدلالة: أن عمر (رضي الله عنه) استشار الصحابة في عقوبة شرب الخمر، فأشار عليه عليّ بأنها ثمانون، فوافقه عمر عليها، وعمل بها فدل ذلك على أنها ثمانون، ولم يعلم له مخالف. وأما المعقول فقالوا: إن هذا حد في معصيته، فلم يكن أقل من ثمانين، كحد الفرية والزنا. وأما الإجماع، فقالوا: إن الصحابة في عهد عمر أجمعوا على أن حدّ شرب الخمر ثمانون. يدل لذلك ما روى الدارقطني قال: حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدّورقي، قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أزهر، قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين، وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمن عنده، فضربوه بما في أيديهم، وقال: وحثا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه التراب قال: ثم أتي أبو بكر (رضي الله عنه) بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال: فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير (رضي الله عنهم) . وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك، فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. قال: فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين، وعمر ثمانين.

ويجتنبُ من المضروبِ: الوجْهُ، والفَرْجُ، والقَلْب، والدِّماغ، والخَوَاصر بإِجماع. قال ابن سِيرِينَ، والحسنُ، وابْنُ عَبَّاس، وابن المُسَيَّب، وغيرهم: كلُّ قمارٍ مَيْسِرٌ مِنْ نَرْدٍ وشِطْرَنْجٍ، ونحوه، حتّى لعب الصّبيان بالجوز «1» .

_ وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلّى الله عليه وسلم بحنين، وفيه: فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة. قال: وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين. قال الباجي: «واستدل أن ذلك حكمه، وإلى ذلك ذهب مالك، وأبو حنيفة أن حد شارب الخمر ثمانون، وقال الشافعي: أربعون. والدليل على ما نقوله ما روي من الأحاديث الدالة على أنه لم يكن من النبي صلّى الله عليه وسلم نص في ذلك على تحديد، وكان الناس على ذلك ثم وقع الاجتهاد في ذلك في زمن عمر بن الخطاب، ولم يوجد عند أحد منهم نص على تحديد، وذلك من أقوى الدليل على عدم النص فيه لأنه لا يصح أن يكون فيه نص باق حكمه، ويذهب على الأمة لأن ذلك كان يكون إجماعا منهم على الخطأ ولا يجوز ذلك على الأمة، ثم أجمعوا واتفقوا على أن الحد ثمانون، وحكم بذلك على ملأ منهم، ولم يعلم لأحد فيه مخالفة فثبت أنه إجماع. واستدل الشافعي ومن معه بالسنة، والأثر، والمعقول. فمن السنة ما روى مسلم عن أنس (رضي الله عنه) أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين. وجه الدلالة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين فدل ذلك على أنها حده. وأمّا الأثر، فما روى مسلم عن حضين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد صلّى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: «ول حارّها من تولى قارّها» فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعدّ حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلّ سنّة، وهذا أحب إليّ» . وجه الدلالة: أن عليا (كرم الله وجهه) جزم في إخباره بأن النبي صلّى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد محدد إلا بعض الروايات السالفة عن أنس، ففيها نحو الأربعين- بطريق التقريب، والجمع بين الأخبار أن عليا جزم بالأربعين، فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب، فعملنا بما جزم به عليّ في إخباره عن الجلد الواقع في عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) وعهد أبي بكر، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ولذلك قال لعبد الله بن جعفر لما بلغ الأربعين: أمسك. وأما المعقول فقالوا: إن الشرب سبب يوجب الحد، فوجب أن يختص بعدد لا يشاركه فيه غيره، كالزنا والقذف. ينظر: «الباجي» على الموطأ (3/ 144) ، و «الزرقاني» على الموطأ (4/ 344) ، و «تفسير القرطبي» (12/ 165) ، و «فتح الباري» (12/ 55) . (1) أخرجه الطبري (2/ 370- 371) برقم (4114- 4115) ، عن محمد بن سيرين، وبرقم (4118) ، عن الحسين، وبرقم (4120) عن سعيد بن المسيب، وبرقم (4124) عن ابن عباس. وذكره ابن عطية (1/ 294) .

ت: وعبارة الداوديّ: وعن ابْنِ عُمَر: المَيْسِرُ القِمَار كلُّه «1» ، قال ابن عبَّاس: كلُّ ذلك قمارٌ حتى لعِبْ الصِّبْيَان بالجَوْز، والكِعَاب «2» . انتهى. وقوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ... الآية: قال ابن عبّاس، 54 أوالرّبيع: الإثم فيها بعد التحريم/، والمنفعةُ قبله «3» . وقال مجاهد: المنفعةُ بالخَمْر كسب أثمانها «4» ، وقيل: اللَّذَّة بها إِلى غير ذلك من أفراحِها «5» ، ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ الإِثم أكْبَرُ من النَّفْع، وأعود بالضَّرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم. وقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال جمهور العلماء: هذه نفقاتُ التطوُّع، والعفُو مأخوذ من عَفَا الشَّيْء، إِذا كَثُر، فالمعنَى: أنفِقُوا ما فَضَل عن حوائجِكُم، ولم تُؤْذُوا فيه أنفُسَكم، فتكونوا عالَةً على النَّاس. وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ: الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر، والإِنفاق، وأخبر تعالى أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكرته. قال الداوديّ: وعن ابن عبَّاس: لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ، يعني: في زوال الدنْيا وفنائِها، وإِقبال الآخرة وبقائها «6» . انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 371) برقم (4133) . (2) أخرجه الطبري (2/ 371) برقم (4124) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 452) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس. والكعاب: فصوص النرد، واحدها كعب وكعبة. ينظر: «لسان العرب» (3889) . (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 294) والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 453) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. (4) أخرجه الطبري (2/ 372) برقم (4137) ، وذكره ابن عطية (1/ 294) . (5) أخرجه الطبري (2/ 373) برقم (4140) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 294) ، والسيوطي (1/ 452) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس. (6) أخرجه الطبري (2/ 381) برقم (4181) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 295) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 456) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن عباس.

[سورة البقرة (2) : آية 221]

قال الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه- تَعَالَى: العَاقِل لا يغفُلُ عن ذكْر الآخرةِ في لَحْظة فإِنها مصيره ومستقرُّه، فيكون لَهُ في كلِّ ما يراه من ماءٍ، أو نارٍ، أو غيرهما عبرةٌ فإن نظر إلى سوادٍ، ذكر ظلمة اللَّحْد، وإِن نَظَر إِلى صورة مروِّعة، تذكَّر مُنْكَراً ونكيراً والزبانيةَ، وإِن سمع صوتاً هائلاً، تذكَّر نفخة الصُّور، وإِنْ رأى شيئاً حسَناً، تذكَّر نعيم الجنَّة، وإِن سمع كلمةَ ردٍّ أو قَبُولٍ، تذكَّر ما ينكشفُ لَهُ من آخر أمره بعد الحسَابِ من ردٍّ أو قبول، ما أجدر أن يكون هذا هو الغالِبَ على قَلْبِ العاقِلِ، لا يصرفُهُ عنه إِلاَّ مُهِمَّاتُ الدنيا، فإِذا نسب مدةَ مُقَامه في الدُّنْيا إِلى مدة مُقَامه في الآخِرة، استحقر الدنيا إِنْ لم يكُنْ أغفل قلبه، وأعميتْ بصيرته. انتهى من «الإِحياء» . وقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ: قال ابن عبَّاس، وسعيد بن المسيَّب: سبب الآية أن المسلمين لما نزلَتْ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ... [الأنعام: 152] و [الإسراء: 34] الآية، ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] ، تجنبوا اليتامى وأموالَهم، وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ... الآية، وأمر اللَّه سبحانه نبيَّه أن يجيب بأن من قصد الإِصلاح في مال اليتيمِ، فهو خيْرٌ، فرفع تعالى المشقَّة، وأباح الخُلْطة في ذلك إِذا قُصِدَ الإِصلاح، ورفْقُ اليتيم «1» . وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ: تحذيرٌ. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، أي: لأتعبكم في تجنُّب أمر اليتامَى، والعَنَتُ: المشقَّة، ومنه عَقَبَةٌ عنوت ومنه: عنت العزبة، وعَزِيزٌ: مقتضاه لا يرد أمره، وحَكِيمٌ: أي: محكم ما ينفذه. [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 382- 383- 384) برقم (4185- 4186- 4192- 4194- 4196) عن ابن عباس، وبرقم (4187) عن سعيد. وذكره البغوي (1/ 194) عن ابن عباس، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 295- 296) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 456) ، وعزاه لأبي داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.

وقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ونَكَح: أصله في الجمَاع، ويستعمل في العَقْد تجوُّزاً. قالت طائفة: المشركاتُ هنا: من يُشْرِكُ مع اللَّه «1» إِلهاً آخرْ. وقال قتادة وابْنُ جُبَيْر: الآية عامَّة في كل كَافِرة، وخصَّصتها آية المائدة، ولم يتناوَلِ العمومُ قطُّ الكتابيَّاتِ «2» ، وقال ابنُ عبَّاس، والحسن: تناولهن العمومُ، ثم نَسَخَتْ آيةُ المائدة بَعْضَ العمومِ في الكتابيَّات «3» ، وهو مذهب مالكٍ- رحمه اللَّه- ذكره ابن حَبِيبٍ. وقوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ... الآية. هذا إِخبار من اللَّه سبحانَه 54 ب أن المؤمنة المَمْلُوكة خَيْرٌ من المشركة، وإِن كانت ذاتَ الحَسَب والمَالِ، ولو أعجبتْكم/ في الحُسْن وغير ذلك، هذا قول الطَّبَرِيِّ وغيره. وقوله سبحانه: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ... الآية: أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجْهٍ لما في ذلك من الغَضَاضَةِ على دين الإِسلام. قال بعض العلماء: إِن الولايةَ في النكاحِ نصٌّ في هذه الآية، قلت: ويعني ببعض العلماءِ محمَّدَ بْنَ عليِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قاله ابنُ العَرَبِيِّ «4» . انتهى. ولَعَبْدٌ مُؤمنٌ مملوكٌ خَيْرٌ من مشركٍ حسيبٍ، ولو أعجبكم حُسْنُه ومالُهُ حسبما تقدَّم. قال ع «5» : وتحتمل الآية عنْدي أن يكون ذكْر العَبْدِ والأمةِ عبارةً عن جميع الناسِ حُرِّهم ومملوكِهِم إِذْ هم كلُّهم عبيده سُبْحَانه. وقوله تعالى: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، أي: بصحبتهم، ومعاشرتهم، والاِنحطاطُ في كثيرٍ من أهوائهم، واللَّه عزَّ وجلَّ مُمِنٌّ بالهداية، ويبيِّنُ الآياتِ، ويحضُّ على الطاعات

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 296) . (2) أخرجه الطبري (2/ 389) برقم (4220، 4221، 4222) عن قتادة، وبرقم (4223) عن سعيد بن جبير، وذكره البغوي (1/ 195) . وابن عطية (1/ 296) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 458) ، وعزاه إلى وكيع، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن سعيد بن جبير، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 296) . (4) ينظر: «الأحكام» (1/ 158) . [.....] (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 297) .

[سورة البقرة (2) : آية 222]

التي هي كلُّها دواعٍ إِلى الجنَّة، والإِذن: العلْم والتمكينُ، فإِن انضاف إلى ذلك أمْرٌ، فهو أقوى من الإِذن لأنك إِذا قلْتَ: أذنْتُ في كذا، فليس يلزمك أنَّكَ أمرْتَ، ولَعَلَّهُمْ: ترجٍّ في حق البشر، ومن تذَكَّر، عمل حسب التذكّر، فنجا. [سورة البقرة (2) : آية 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً قال الطبريُّ عن السُّدِّيِّ: إنَّ السائلَ ثابتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ «1» ، وقال قتادةُ وغيره: إِنما سألوه لأنَّ العرب في المدينةِ وما والاها، كانُوا قد استنوا بسُنَّة بني إِسرائيل في تجنُّب مواكلة الحائِضِ، ومساكَنَتِها، فنزلَتِ الآية «2» . وقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ يريدُ: جماعَهُنَّ بما فسّر من ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم مِنْ أنْ تشدَّ الحائِضُ إِزارها، ثُمَّ شأنُه بأعلاها. قال أحمد بن نصر الداوديّ: روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «اتقوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ فَإِنَّ الجُذَامَ يَكُونُ مِنْ أَوْلاَدِ المَحِيضِ» «3» انتهى. قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، وقرأ حمزة «4» وغيره «يَطَّهَّرْنَ» بتشديد الطاء والهاء، وفتحهما، وكلُّ واحدة من القراءَتَيْنِ يحتملُ أنْ يراد بها الاِغتسالُ بالماء، وأن يراد بها انقطاعُ الدمِ، وزوالُ أذاه، قال ابنُ العربيُّ في «أحكامه» «5» : سمعْتُ أبا بكر

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 393) برقم (4237) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 298) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 461) ، وعزاه لابن جرير. وهو ثابت بن الدّحداح بن نعيم بن غنم بن إياس، حليف الأنصار. وكان بلويّا، حالف بني عمرو بن عوف. ويقال: ثابت بن الدحداحة. ويكنى أبا الدحداح، وأبا الدحداحة. ينظر: «الإصابة» (1/ 503) (العلمية) . (2) أخرجه الطبري (2/ 393) برقم (4234) ، وذكره ابن عطية (1/ 298) . والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 462) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة. (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 259) ، وعزاه لابن المنذر. (4) ينظر: «السبعة» (182) ، و «الكشف» (1/ 293) ، و «الحجة» (2/ 321) ، و «حجة القراءات» (134، 135) ، و «العنوان» (74) ، و «شرح الطيبة» (4/ 99) ، و «شرح شعلة» (290، 291) ، و «معاني القراءات» للأزهري (1/ 202) ، و «إتحاف» (1/ 438) . (5) ينظر: «الأحكام» (10/ 164) .

الشَّاشِيَّ «1» يقولُ: إِذا قيل: لا تَقْرَبْ بفتح الراء، كان معناه: لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ، وإِذا كان بضم الراء، كان معناه لا تَدْن منه. انتهى. وجمهورُ العلماء على أنَّ وطأها في الدَّمِ ذنْبٌ عظيمٌ يتاب منْه، ولا كفَّارة فيه بمالٍ «2» ، وجمهُورهم على أن الطُّهْر الذي يُحِلُّ جماعَ الحائِض، هو بالماءِ كطهر الجُنُب، ولا يجزىء من ذلك تَيَمُّمٌ ولا غيره. وقوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ ... الآية: الخلافُ فيها كما تقدَّم، وقال مجاهدٌ وجماعةٌ: تَطَهَّرْنَ، أي: اغتسلن بالماء «3» بقرينةِ الأمر بالإِتيان لأنَّ صيغة الأمر من الله

_ (1) القاسم بن القفال الكبير الشاشي محمد بن علي، مصنف «التقريب» ، كان إماما جليلا حافظا، برع في حياة أبيه، قال العبادي: إن كتابه «التقريب» قد تخرج به فقهاء خراسان، وازدادت طريقة أهل العراق به حسنا، وقد أثنى البيهقي على التقريب، وقال فيه الأسنوي: ولم أر في كتب الأصحاب أجلّ منه. ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 187) ، «هدية العارفين» (1/ 827) ، «طبقات الأسنوي» (ص 108) . (2) اتفق أهل العلم على تحريم غشيان الحائض، ومن فعله عالما عصى، ومن استحلّه كفر لأنه محرّم بنصّ القرآن، ولا يرتفع التّحريم حتى ينقطع الدم وتغتسل عند أكثر أهل العلم، وهو قول سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، وإليه ذهب عامة العلماء، لقوله سبحانه وتعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي: اغتسلن. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز غشيانها بعد ما انقطع دمها لأكثر الحيض قبل الغسل. واختلف أهل العلم في وجوب الكفّارة بوطء الحائض، فذهب أكثرهم إلى أنه يستغفر الله ولا كفّارة عليه، وهو قول سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النّخعي، والقاسم، وعطاء، والشّعبي، وابن سيرين، وبه قال ابن المبارك، والشّافعيّ، وأصحاب الرأي. وذهب جماعة إلى إيجاب الكفّارة بإتيان الحائض، منهم قتادة والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وقاله الشافعي في القديم، لما روى عن ابن عبّاس، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال في رجل جامع امرأته وهي حائض.، قال: «إن كان الدّم عبيطا، فليتصدّق بدينار، وإن كان صفرة، فنصف دينار» . أخرجه الترمذي (1/ 245) ، أبواب الطهارة: باب ما جاء في الكفارة في ذلك (137) ، وفي سنده عبد الكريم بن أبي المخارق، ضعيف كما في «التقريب» (1/ 516) ، وللحديث طرق أخرى قد بسطها الشيخ شاكر في شرحه للترمذي (1/ 245- 254) ، فانظرها ففيها فوائد. قال أبو عيسى: حديث الكفّارة في إتيان الحائض قد روي عن ابن عباس موقوفا، وروي أنه قال: «إن أصابها في فور الدّم تصدّق بدينار، وإن كان في انقطاع الدم، فنصف دينار» . وقال قتادة: دينار للحائض، ونصف دينار إذا أصابها قبل الغسل. وقال أحمد: يتخيّر بين الدّينار والنصف، وقال الحسن: عليه ما على المجامع في نهار رمضان. ومن لم يوجب الكفارة، ذهب إلى أن حديث ابن عبّاس لا يصحّ متّصلا مرفوعا. ينظر: «شرح السنة» (1/ 409- 410) . (3) أخرجه الطبري (2/ 398- 399) برقم (4273) . -

[سورة البقرة (2) : آية 223]

تعالى لا تقعُ إِلا على الوَجْه الأكمل، وفَأْتُوهُنَّ: أمر بعد الحَظْر يقتضي الإِباحة، والمعنى: من حيثُ أمركم اللَّه باعتزالهن، وهو الفَرْج، أو من السُّرَّة إِلى الرُّكْبة على الخلاف في ذلك، وقال ابن عبَّاس: المعنى: من قِبَلِ الطُّهْرِ، لا من قِبَلِ الحَيض «1» ، وقيل: المعنى مِنْ قِبَلِ حالِ الإِباحة، لا صائماتٍ ولا مُحْرِماتٍ، ولا غيرَ ذلك، والتَّوَّابُون: الرجَّاعون، وعُرْفُهُ من الشَّرِّ إِلى الخير، والمُتَطَهِّرْونَ: قال عطاءٌ وغيره: المعنى: بالماء «2» ، وقال مجاهد وغيره: المعنى: من الذنوب «3» . [سورة البقرة (2) : آية 223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ... الآية مبيحةٌ لهيئات الإتيان كلّها، إذا كان/ 55 أالوطء في موضع الحرثِ، ولفظة «الحَرْث» تعطي أنَّ الإِباحة لم تقعْ إِلا في الفَرْجِ خاصَّة إِذ هو المُزْدَرَعُ. قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «4» : وفي سبب نزولِ هذه الآية رواياتٌ: الأولى: عن جابرٍ، قال: كانَتِ اليهودُ تقولُ: من أتَى امرأة فِي قُبُلِهَا منْ دُبُرِهَا، جَاءَ الوَلَدُ أَحْوَلَ، فنزلَتِ الآية، وهذا حديثٌ صحيح خرّجه الأئمّة «5» .

_ - وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 197) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 299) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 465) ، وعزاه لسفيان بن عيينة، وعبد الرزاق في «المصنف» ، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس عن مجاهد. (1) أخرجه الطبري (2/ 401) برقم (4292) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 99) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 466) ، وعزاه إلى الدارمي، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (2/ 403) برقم (4304- 4305- 4306) ، وذكره البغوي (1/ 198) ، وابن عطية (1/ 299) ، والسيوطي (1/ 466) ، وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عطاء. (3) أخرجه الطبري (2/ 403) برقم (4308) ، وذكره البغوي (1/ 198) ، وابن عطية (1/ 299) . (4) ينظر: «الأحكام» (1/ 173) . [.....] (5) أخرجه البخاري (8/ 37) ، كتاب «التفسير» ، باب نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، حديث (4528) ، ومسلم (2/ 1058- 1059) ، كتاب «النكاح» ، باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها، ومن ورائها، من غير تعرض للدبر، حديث (117- 119/ 1435) ، وأبو داود (1/ 656) كتاب «النكاح» ، باب في جامع النكاح، حديث (2163) ، والترمذي (5/ 200) ، كتاب «التفسير» ، باب سورة البقرة، حديث (2982) . وابن ماجة (1/ 620) كتاب «النكاح» ، باب إتيان النساء في أدبارهن، حديث (1925) ، والدارمي (1/ 258) ، كتاب «الوضوء» ، باب إتيان النساء في أدبارهن، وفي (2/ 145- 146) كتاب «النكاح» ، باب النهي عن إتيان النساء في أعجازهن، وأبو يعلى (4/ 21) -

الثانية: قالت أمّ سلمة «1» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ: قال: «يَأْتِيَها مُقْبِلَةً ومُدْبِرَةً، إِذَا كَانَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ» خرَّجه مسْلم، وغيره «2» . الثالثة: ما رَوَى الترمذيّ أنّ عمر جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقَالَ لَهُ: هَلَكْتُ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ البَارِحَةَ رَحْلِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم شَيْئاً، حتى نزلَتْ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أَقْبِلْ وأدبر، واتّق الدّبر» «3» انتهى.

_ - برقم (2024) ، وابن حبان (4174) ، والطبري في «تفسيره» (2/ 397) ، والواحدي في «أسباب النزول» (ص- 53) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 40) ، والبيهقي (7/ 193، 194، 195) ، من حديث جابر. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 467) ، وعزاه إلى وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن جرير، وأبي نعيم، والبيهقي، عن جابر، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (1) هي: هند بنت أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. أم المؤمنين (رضي الله عنها) أم سلمة. القرشية. المخزومية. قال ابن الأثير: كان أبوها يعرف ب «زاد الركب» .. وكانت من المهاجرات إلى الحبشة وإلى المدينة.. وقيل: إنها أول ظعينة هاجرت إلى «المدينة» ، والله أعلم، وتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة. توفيت سنة (63) على أرجح الأقوال. ينظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 340) ، «الإصابة» (8/ 240) ، «الاستيعاب» (4/ 1939) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 322) ، «أعلام النساء» (2/ 235) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 200) في التفسير، باب «ومن سورة البقرة» (2979) ، وأحمد (6/ 305، 310، 318، 319) ، والدارمي (1/ 256) في الوضوء: باب إتيان النساء في أدبارهن، وأبو يعلى في «مسنده» (6972) ، والطبري في تفسيره (4341- 4345) ، والطحاوي (3/ 42- 43) ، والبيهقي (7/ 195) عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن ابن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، قال: صماما واحدا، صماما واحدا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن..... ويروى في سمام واحد. ويشهد له حديث جابر عند مسلم (2/ 159) في النكاح: باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها، ومن ورائها، من غير تعرض للدبر (119- 1435) . والواحدي في «أسباب النزول» ص (53) . والطحاوي (3/ 41) ، والبيهقي (7/ 195) عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته مجبية كان الولد أحول، فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية، غير أن ذلك في صمام واحد. (3) أخرجه الترمذي (5/ 200) في التفسير، باب «ومن سورة البقرة» (2980) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 314) ، في «عشرة النساء» (8977/ 4) و (6/ 302) ، في «التفسير» (11040/ 3) ، وأحمد (1/ 267) ، والطبري في التفسير (4347) ، وأبو يعلى (2736) ، والبيهقي (7/ 198) ، والواحدي في «أسباب النزول» ص 53 عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت......» فذكره. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. -

قال ع «1» : وأَنَّى شِئْتُمْ: معناه عند جمهور العلماء: من أيِّ وجهٍ شئتم مقبلةً، ومدبرةً، وعلى جَنْب. قال ع «2» : وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مصنَّف النسائيِّ وفي غيره أنه قَالَ: «إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ» «3» ، وورد عنْه فيه، أنَّه قال: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امرأة فِي دُبُرَهَا» «4» ، وورد عنه، أنَّه قال: «مَنْ أَتَى امرأة فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ على قَلْبِ مُحَمَّدٍ» «5» ، وهذا هو الحقُّ المتَّبع، ولا ينبغي لمؤمنٍ باللَّه أن يعرج بهذه النازلة على زَلَّة عالِمٍ بعد أنْ تصحَّ عنْه، واللَّه المرشِدُ لا ربَّ غيره.

_ - وينظر: «الدر المنثور» (1/ 469) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 299) . (2) ذكره في «المحرر الوجيز» (1/ 300) . (3) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في «السنن الكبرى» (5/ 319) ، كتاب «عشرة النساء» ، باب ذكر الاختلاف على عبد الله بن علي بن السائب، حديث (8995) . (4) أخرجه أبو داود (1/ 655) ، كتاب «النكاح» ، باب في جامع النكاح، حديث (2162) ، وأحمد (2/ 444) ، وأبو يعلى (11/ 349) برقم (6462) ، من حديث أبي هريرة، وليس من حديث خزيمة بن ثابت كما في «المهذب» . (5) أخرجه أبو داود (2/ 408) كتاب «الطب» ، باب في الكهان، حديث (3904) ، والترمذي (1/ 242- 243) كتاب «الطهارة» ، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، حديث (135) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 323) ، كتاب «عشرة النساء» ، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبي هريرة في ذلك، حديث (9016، 9017) ، وابن ماجة (1/ 209) كتاب «الطهارة» ، باب النهي عن إتيان الحائض، حديث (639) ، وأحمد (2/ 408، 476) . والدارمي (1/ 259) ، كتاب «النكاح» ، باب من أتى امرأته في دبرها. والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 16) ، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (107) ، والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 318) . وابن عدي في «الكامل» (2/ 637) . والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 44- 45) . والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 198) . كلهم من طريق حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة مرفوعا، وقال الترمذيّ: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة. وقال البخاري: هذا حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة. وقال البزار كما في «التلخيص» (3/ 180) : هذا حديث منكر، وحكيم لا يحتج به، وما انفرد به فليس بشيء. وقال ابن عدي: الأثرم يعرف بهذا الحديث، وليس له غيره إلا اليسير. وقد ضعف هذا الحديث البخاري، والترمذي، وابن سيد الناس، والبغوي، والذهبي فقال: إسناده ليس بالقائم، وينظر «فيض القدير» (6/ 23) . وقد صحيح هذا الحديث الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على المسند» (18/ 56، 19/ 142) ، وفند العلل التي علّلوا بها الحديث بما لا تراه في مكان، فلينظر.

[سورة البقرة (2) : الآيات 224 إلى 225]

وقوله جلَّت قُدْرته: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ. قال السُّدِّيُّ: معناه: قدِّموا الأجْر في تجنُّب ما نُهِيتُمْ عنْه، وامتثال ما أُمِرْتُمْ به- وَاتَّقُوا اللَّهَ: تحذيرٌ- وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ: خبرٌ يقتضي المبالغَةَ في التحْذير، أي: فهو مجازيكُمْ علَى البِرِّ والإِثم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: تأنيسٌ لفاعلي البرِّ، ومِتَّبِعِي سنن الهدى «1» ، [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ... الآية: مقصد الآيةِ: ولا تُعرِّضوا اسم اللَّهِ تعالى، فتكثروا الأيمان به، فإِن الحِنْثَ يقع مع الإِكثار، وفيه قِلَّة رَعْيٍ لحقِّ اللَّه تعالى. وقال الزجَّاج «2» وغيره: معنى الآيةِ: أنْ يكون الإِنسان، إِذا طُلِبَ منه فعْلُ خيرٍ ونحوه، اعتل باللَّه، وقال: عليَّ يمينٌ، وهو لم يحلفْ. وقوله: عُرْضَةً، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «3» : اعلم أنَّ بناء عرض في كلامِ العربِ يتصرَّف على معانٍ مرجعُها إِلى المَنْع لأنَّ كلَّ شيء عرضٌ، فقد مَنَعَ، ويقال لِمَا عَرَضَ في السَّمَاء من السحَابِ عَارِضٌ لأَنَّه يمنع من رؤيتها، ومن رؤية البدرين، والكواكب. انتهى. وأَنْ تَبَرُّوا: مفعولٌ من أجله «4» ، والبِرُّ: جميع وجوه البرّ، وهو ضدّ الإثم

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 300) . (2) «معاني القرآن» (1/ 299) . (3) ينظر: «الأحكام» (1/ 174- 175) . [.....] (4) هذا قول الجمهور، ثم اختلفوا في تقديره، فقيل: إرادة أن تبرّوا، وقيل: كراهة أن تبروا، قاله المهدوي، وقيل: لترك أن تبروا، قاله المبرد، وقيل: لئلا تبروا، قاله أبو عبيدة والطبري، وأنشدا: ... فلا والله تهبط تلعة ... ............... ............... .. أي: لا تهبط، فحذف «لا» ومثله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي: لئلا تضلّوا. وتقدير الإرادة هو الوجه، وذلك أنّ التقادير التي ذكرتها بعد تقدير الإرادة لا يظهر معناها، لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر، بل وقوع الحلف معلّل بانتفاء البرّ، ولا ينعقد منهما شرط وجزاء، لو قلت في معنى هذا النهي وعلّته: «إن حلفت بالله بررت» لم يصحّ، بخلاف تقدير الإرادة، فإنه يعلّل امتناع-

- وسَمِيعٌ، أي: لأقوالِ العبادِ- عَلِيمٌ: بنياتهمْ، وهو مُجَازٍ على الجميع، واليمين: الحَلِفُ، وأصله أنَّ العَرَب كانت إِذا تحالَفَت، أو تعاهَدَت، أخذ الرجل يمينَ صاحبه بيمينه، ثم كَثُر ذلك حتى سمي الحلف والعَهْد نفسه يميناً. وقوله تعالى: لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ: اللَّغْو: سَقَطُ الكلامِ الَّذي لا حُكْم لَه. قال ابنُ عَبَّاس، وعائشَةُ، والشَّعْبِيُّ، وأبو صالِحٍ، ومجاهد: لَغْو اليمينِ: قولُ الرجلِ في دَرْجِ كلامِهِ واستعجاله في المحاورة: لا واللَّهِ، وبلى وَاللَّهِ، دون قصدٍ لليمينِ، وقد أسنده البخاريُّ عن عائشة «1» . وقال أبو هريرة، والحَسَن، ومالكٌ، وجماعة: لغو اليمين: ما حلف به الرجُلُ على يقينه، فكشف الغيبُ خلافَ ذلك «2» . ع «3» : وهذا اليقين/ هو غلبة الظّنّ. 55 ب وقال زيدُ بْنُ أسْلَمَ: لغو اليمينِ: هو دعاءُ الرجلِ على نَفْسه «4» . وقال الضَّحَّاك: هي اليمينُ المكفَّرة «5» . وحكى ابنُ عبد البَرِّ قَولاً أن اللغو أيمان «6» ...

_ - الحلف بإرادة وجود البرّ، وينعقد منهما شرط وجزاء، تقول: إن حلفت لم تبرّ وإن لم تحلف بررت. ينظر: «الدر المصون» (1/ 546- 547) . (1) أخرجه الطبري (2/ 416- 417- 418- 419) برقم (4377- 4378) عن عائشة، وبرقم (4387- 4388- 4401) عن الشعبي، وبرقم (4376) عن ابن عباس، وبرقم (4392) عن أبي صالح. وذكره البغوي (1/ 201) عن عائشة، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 301) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 480) ، وعزاه إلى مالك، ووكيع، والشافعي في «الأم» ، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، من طرق عن عائشة. وفي (1/ 481) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (2/ 419- 420- 421) ، رقم (4409- 4410- 4411- 4412- 4423) عن الحسن، (4420- 4429- 4430) عن مالك، وذكره البغوي (1/ 201) عن الحسن، وابن عطية (1/ 301) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 481) ، وعزاه لابن جرير عن أبي هريرة. (3) «المحرر الوجيز» (1/ 301) . (4) أخرجه الطبري (2/ 424) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 201) ، وابن عطية (1/ 301) . (5) أخرجه الطبري (2/ 425) برقم (4467) ، وذكره ابن عطية (1/ 301) . (6) وقد اختلفوا في تفسير «اللغو» : فمنهم من قال: هو ما جرى على لسان الحالف من غير قصد ك «لا-

المُكْرَهِ «1» . قال ع «2» : وطريقةُ النَّظَر أن تتأمَّل لفظة اللغْو، ولفظة الكَسْب، ويُحَكَّم موقعهما في اللغة، فكَسْب المرء ما قَصَده، ونواه، واللَّغْوُ: ما لم يتعمَّده، أو ما حقُّه لهجنته أن يسقط، فيقوَّى على هذه الطريقة بعْض الأقوال المتقدِّمة، ويضعَّف بعضها، وقد رفع اللَّه عز وجَلَّ المؤاخذة بالإِطلاق في اللَّغْو، فحقيقته: ما لا إِثم فيه، ولا كفارة، والمؤاخذةُ في الأيمان هي بعقوبةِ الآخِرَةِ في الغَمُوس «3» المَصْبُورة، وفيما تُرِكَ تكفيره ممَّا فيه كفَّارة،

_ - والله» ، و «بلى والله» وهم الشافعية ورواية عن أبي حنيفة، وهو مروي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة (رضي الله عنهم) ، والشعبي، وعكرمة، وعطاء، والقاسم وغيرهم. وسواء تعلق عندهم بالماضي أو بالمستقبل لقوله تعالى: لاَّ يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... الآية. يقال: لغا يلغو. ولغا يلغا إذا تكلّم بما لا حقيقة له، ولا قصد له فيه، قال الأزهري: اللغو في كلام العرب على وجهين: أحدهما: فضول الكلام، وباطله الذي يجري على غير عقد. والثاني: ما كان فيه رفث وفحش ومأثم. وقال قتادة في قوله (تعالى) : لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الغاشية: 11] ما يؤثم. وقالت عائشة (رضي الله عنها) : «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال (يعني في اللّغو في اليمين) «هو كلام الرّجل في بيته: لا والله، وبلى والله» . أخرجه أبو داود، ورواه الزهري، وعبد الملك بن أبي سليمان، ومالك بن مغول عن عطاء عن عائشة موقوفا. وقالت المالكية: هو الحلف على شيء يعتقده الحالف. أي: «يغلب على ظنّه فيظهر له خلافه» ، وهو مذهب الحنفية. وقالت الحنابلة: هو ما جرى على اللسان من غير قصد، أو الحلف على شيء يعتقده، فيظهر له خلافه، ودليلهم ما تقدم للشافعية والمالكية والحنفية. وإذا نظرنا إلى دليل كلّ وجدنا أن اللغو الذي ينبغي أن يعتبر هو: ما جرى على اللّسان من غير قصد فقط لأن هذا هو معنى اللغو في اللغة، والألفاظ تحمل على معانيها اللغوية ما لم يرد عن الشرع ما يحملها على خلافه، ولم يرد عنه ما يخالف ذلك، بل ورد ما يعضده، فقد أجابت عائشة (رضي الله عنها) حينما سئلت عن اللّغو في اليمين بأنه هو كلام الرجل في بيته: «لا والله، وبلى والله» . ووافقها على ذلك كثير من الصحابة والتابعين، فإن كان هذا القول قالته عن سماع من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فالحجة فيه واضحة، وإن كان قولا منها، فهو تفسير لصحابي يعرف معاني الألفاظ اللغوية والمعاني الشّرعية، وقوله مقبول. وأما حديث الرّماة، فقد قال الحافظ فيه: إنه لا يثبت لأنه من مراسيل الحسن، وهو ممن لا تعتبر مراسيله لأنه كان لا يتحرى الثقة. ينظر: «الكفارات» لشيخنا: حسن علي حسانين. (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 310) . (2) «المحرر الوجيز» (1/ 302) . (3) اليمين الغموس هي: الحلف على فعل أو ترك ماض كاذبا، سميت به لأنها تغمس صاحبها في الإثم. -

[سورة البقرة (2) : الآيات 226 إلى 227]

وبعقوبة الدنيا في إِلزام الكفَّارة، فيضعَّف القول بأنها اليمين المكفَّرة لأن المؤاخذة قد وَقَعَتْ فيها، وتخصيصُ المؤاخذة بأنها في الآخرة فقَطْ تحكُّم. ت: والقولُ الأوَّل أرجح، وعليه عَوَّل اللَّخْميُّ وغيره. وقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. قال ابن عبَّاس وغيره: ما كسب القلْبُ هي اليمينُ الكاذبة الغموسُ «1» ، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرةِ، أي: ولا تكفّر. ع «2» : وسمِّيت الغَمُوسَ لأنها غَمَسَتْ صاحِبَها في الإثم، وغَفُورٌ حَلِيمٌ: صفتان لائقتان بما ذكر من طَرْح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة. [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وقوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... الآية: يُؤْلُونَ: معناه يَحْلِفُون، والإِيلاءُ: اليمين. واختلف مَنِ المرادُ بلزومِ حكمِ الإِيلاء «3» . فقال مالكٌ: هو الرجل يغاضب امرأته،

_ - واختلفوا في اليمين الغموس هل لها كفارة؟ فقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: لا كفارة لها لأنها أعظم من أن تكفّر، وقال الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى: تكفّر. ينظر: «أنيس الفقهاء» (172) . (1) أخرجه الطبري (2/ 427) برقم (4472) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 302) . [.....] (2) «المحرر الوجيز» (1/ 302) . (3) الإيلاء لغة: الحلف، وهو: مصدر. يقال: آلى بمدة بعد الهمزة، يؤلي إيلاء، وتألّى وأتلى، والآليّة، بوزن فعيلة: اليمين، وجمعها ألايا: بوزن خطايا، قال الشاعر: [الطويل] قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت فيه الأليّة برّت والألوة (بسكون اللام، وتثليث الهمزة) : اليمين أيضا. ينظر: «الصحاح» (6/ 227) ، «المغرب» (28) ، «لسان العرب» (1/ 117) ، «المصباح المنير» (1/ 35) . واصطلاحا: عرفه الحنفية بأنه: عبارة عن اليمين على ترك وطء المنكوحة أربعة أشهر أو أكثر. وعرّفه الشافعية بأنه: حلف زوج يصح طلاقه ليمتنعن من وطئها مطلقا أو فوق أربعة أشهر. وعرفه المالكية بأنه: حلف الزوج المسلم المكلف الممكن وطؤه بما يدل على ترك وطء زوجته غير الموضع أكثر من أربعة أشهر أو شهرين للعبد، تصريحا أو احتمالا، قيد أو أطلق وإن تعليقا. -

[سورة البقرة (2) : آية 228]

فيحلفُ بيمينٍ يلحقُ عن الحِنْثِ فيها حُكْمُ ألاَّ يطأها ضرراً منْه، أكْثَرَ من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إِصلاحَ ولَدٍ رضيعٍ ونحوه، وقال به عطاءٌ وغيره «1» . وقوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ يدخل فيه الحرائرُ والإِماء، إِذا تزوَّجن، والتربُّص: التأنِّي والتأخُّر، وأربعَةَ أشْهُرٍ عند مالك، وغيره: للحر، وشهران: للعبد. وقال الشافعيُّ: هو كالحرّ، وفاؤُ: معناه: رجَعُوا ومنه: حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9] : قال الجُمْهور: وإِذا فاء كَفَّر، والفَيْءُ عند مالكٍ: لا يكون إِلا بالوطْء، أو بالتكْفير في حال العذر. [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ حكم هذه الآية قصْدُ الاِستبراءِ، لا أنه عبادةٌ ولذلك خرجَتْ منه مَنْ لم يُبْنَ بها بخلاف عِدَّة الوفاةِ الَّتي هي عبادةٌ- والقَرْءُ في اللغةِ: الوقْتُ المعتادُ تردُّده، فالحَيْضُ يسمى على هذا قُرْءاً، وكذلك يسمَّى الطُّهْرُ قرءا.

_ - وعرفه الحنابلة بأنه: حلف الزوج- القادر على الوطء- بالله (تعالى) أو صفة من صفاته على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر. وخصت الأربعة الأشهر بالذكر لأن المرأة يعظم ضررها إذا زاد على ذلك لأنها تصبر عن الزوج أربعة أشهر، وبعد ذلك يفنى صبرها أو يقلّ، روى البيهقي عن عمر أنه خرج مرة في الليل في شوارع المدينة فسمع امرأة تقول: [الطويل] تطاول هذا الليل واسودّ جانبه ... وأرّقني أن لا خليل ألاعبه فو الله لولا الله تخشى عواقبه ... لحرّك من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يصدّني ... وأخشى لبعلي أن تنال مراتبه فقال عمر لابنته حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن الزوج؟ وروي أنه سأل النساء فقلن له: تصبر شهرين، وفي الثالث يقل صبرها، وفي آخر الرابع يفقد صبرها، فكتب إلى أمراء الأجناد: ألا تحبسوا رجلا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر. ينظر: «تبيين الحقائق/ شرح كنز الدقائق» (2/ 261) ، «مغني المحتاج» (3/ 343) ، «الشرح الصغير» (2/ 278، 279) ، «المطلع» (343) ، «تحفة المحتاج» (8/ 188) ، «شرح المحلى على المنهاج» (24) . (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 302) .

واختلف في المراد بالقُرُوء هنا: فقال عُمَرُ وجماعةٌ كثيرةٌ: المراد بالقروء، في الآية: الحَيْضُ، وقالتْ عائشةُ وجماعةٌ من الصَّحابة، والتابعين، ومن بعدهم: المراد: الأطهار، وهو قولُ مالكٍ. واختلف المتأوِّلون في قوله: مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ. فقال ابن عُمَر، ومجاهدٌ، وغيرهما: هو الحَيْضُ، والحَبَل جميعاً، ومعنى النهْيِ عن الكتمان: النهْيُ عن الإِضرار بالزَّوْجِ في إِلزامه النفقَةَ، وإِذهابِ حقه في الارتجاع، فأُمِرْنَ بالصدْقِ نفياً وإِثباتاً «1» ، وقال قتادة: كانتْ عادتهُنَّ في الجاهليةِ أن يكتمن الحمل/ ليلحقن 56 أالولد بالزوْج الجديدِ، ففي ذلك نزلَتِ الآية «2» . وقال ابن عَبَّاس: إِن المرادَ الحَبَل، والعموم راجحٌ «3» ، وفي قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ ما يقتضي أنهنَّ مؤتمناتٌ على ما ذكر، ولو كَان الاِستقصَاءُ مباحاً، لم يمكن كَتْمٌ. وقوله سبحانه: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ ... الآية: أي: حقَّ الإِيمان، وهذا كما تقولُ: إِن كُنْتَ حُرًّا، فانتصر، وأنتَ تخاطبُ حُرًّا، والبَعْلُ: الزوْجُ، ونصَّ اللَّه تعالى بهذه الآية على أن للزوْجِ أن يرتجعَ امرأته المطلَّقة، ما دامَتْ في العدَّة، والإِشارة بذلك إِلى المدَّة بشرط أنْ يريدَ الإِصْلاَح، دون المُضَارَّة كما تُشُدِّدَ على النساء في كَتْمِ ما في أرحامهن وقوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ... الآية: تعمُّ جميعَ حقوقِ الزوجيَّة. وقوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قال مجاهدٌ: هو تنبيهٌ على فضْلِ حظِّه على حظِّها في الميراث، وما أشبهه «4» ، وقال زيد بن أسلم: ذلك في الطَّاعة علَيْها أنْ تطيعه، وليس علَيْه أن يطيعَهَا «5» ، وقال ابن عباس: تلك الدرَجَةُ إِشارة إلى حضّ الرجل على حسن

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 461) برقم (4738) ، عن ابن عمر وبأرقام (4739، 4740، 4745) عن مجاهد. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 305) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 492) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر وفي (1/ 492) ، وعزاه لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبيهقي، عن مجاهد. (2) أخرجه الطبري (2/ 462) رقم (4754- 4755- 4756) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 305) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 492) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وعبد بن حميد عن قتادة. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 305) . (4) أخرجه الطبري (2/ 467) برقم (4773- 4774) . وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 305) . والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 493) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد. (5) أخرجه الطبري (2/ 468) رقم (4777) ، وذكره ابن عطية (1/ 305) .

[سورة البقرة (2) : آية 229]

العِشرة، والتوسُّع للنساء في المالِ والخُلُقِ «1» ، أي: أنَّ الأفضل ينبغِي أنْ يتحامَلَ على نفسه، وهو قول حسن بارع. [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) وقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ... الآية: قال عروة بن الزُّبَيْر وغيره: نزلَتْ هذه الآية بياناً لِعَدَدِ الطلاقِ الذي للمرء فيه أنْ يرتجعَ دون تجديدِ مَهْرٍ ووليٍّ «2» ، وقال ابن عبَّاس وغيره: المراد بالآية التعريفُ بسُنَّة الطلاقِ، وأنَّ من طلَّق اثنتَيْنِ، فليتَّق اللَّه في الثالثَةِ، فإِما تركَهَا غيْرَ مظلومةٍ شيئاً من حقِّها، وإِما أمسكها محسناً عشْرَتَها «3» . ع «4» : والآية تتضمَّن هذين المعنيين. 56 ب ص: الطلاقُ: مبتدأٌ على حذفِ مضافٍ، أي: عدد الطلاق، ومرَّتانِ: خبره. انتهى. والإِمساكُ بالمعروفِ: هو الاِرتجاعُ بعد الثانية إِلى حسن العِشْرةِ، والتسْريحُ: يحتمل لفظه معنَيَيْنِ: أحدهما: تركها تتمُّ العدة من الثانية، وتكون أملكَ بنَفْسها، وهذا قولُ السُّدِّيِّ، والضَّحَّاك «5» . والمعنَى الآخر: أن يطلقها ثالثةً، فيسرِّحها بذلك، وهذا قولُ مجاهِدٍ، وعطاءٍ، وغيرهما، وإِمْسَاك: مرتفع بالاِبتداءِ والخبر أمثل أو أحسن. وقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ... الآية: خطاب

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 306) . (2) أخرجه الطبري (2/ 469) رقم (4783) ، وذكره البغوي (1/ 206) ، وابن عطية (1/ 306) ، والسيوطي (1/ 494) ، وعزاه لمالك، والشافعي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عروة. (3) أخرجه الطبري (2/ 470- 471) برقم (4791) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 306) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 306) . (5) أخرجه الطبري (2/ 472- 473) ، برقم (4800- 4807) عن السدي، وأرقام (4801- 4802- 4803- 4808) عن الضحاك، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 306) . [.....]

للأزواجِ، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئًا على وجه المضارَّة، وهذا هو الخُلْع «1» الذي لا يصحُّ إِلاّ بأن لا ينفردَ الرجُلُ بالضَّرر، وخصَّ بالذكْر ما آتى الأَزْوَاجُ نساءَهم لأنه عرف الناس عند الشِّقَاق والفَسَاد أنْ يطلبوا ما خَرَجَ من أيديهم، وحرَّم اللَّه تعالى علَى الزَّوْجِ في هذه الآية أنْ يأخذ إِلا بعد الخوف ألاَّ يقيما حدودَ اللَّه، وأكَّد التحريم بالوعيدِ، وحدود اللَّه في هذا الموضعِ هي ما يلزمُ الزوجَيْنِ مِنْ حُسْنِ العشرة، وحقوقِ العِصْمَة. وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: المخاطبة للحُكَّام والمتوسِّطين لهذا الأمر، وإِن لم يكونوا حُكَّاماً، وتَرْكُ إِقامة حدود اللَّه: هو استخفاف المرأة بحقِّ زوجها، وسوءُ طاعتها إِياه قاله ابن عباس، ومالكٌ، وجمهور العلماء «2» . وقال الشَّعبيُّ: أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: معناه: ألاَّ يطيعَا اللَّه «3» ، وذلك أنَّ المغاضبة تَدْعُو إِلى ترك الطاعة. وقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ إِباحة للفدْية، وشَرَّكَهَا/ في ارتفاع 57 أالجناح لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيثُ لا يجُوزُ له أخْذه، وهي تَقْدِرُ على المخاصَمَةِ. قال ابن عَبَّاس، وابنُ عمر، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ، وغيرهم: مباحٌ للزَّوْج أن يأخذ من المرأةِ في الفدْيَة جميعَ ما تملكه وقضى بذلك عمر بن الخطّاب «4» .

_ (1) الخلع لغة: النّزع، وهو استعارة من خلع اللّباس لأن كل واحد منهما لباس للآخر، فكأن كل واحد نزع لباسه منه، وخالعت المرأة زوجها مخالعة: إذا افتدت منه، وطلّقها على الفدية. واصطلاحا: عرفه الأحناف بأنه: عبارة عن أخذ المال بإزاء ملك النكاح، بلفظ الخلع. وعرفه الشّافعيّة بأنه: فرقة بين الزّوجين بعوض، بلفظ طلاق أو خلع. وعرفه المالكية بأنه: الطلاق بعوض. وعرفه الحنابلة بأنه: فراق الزوج امرأته، بعوض يأخذه الزوج، بألفاظ مخصوصة. ينظر: «لسان العرب» (2/ 1232) ، و «المصباح المنير» (1/ 243) ، و «المطلع» (331) ، «تبيين الحقائق» (2/ 267) ، «شرح فتح القدير» (4/ 210) ، «حاشية ابن عابدين» (3/ 422) ، «مغني المحتاج» (3/ 262) ، «الشرح الصغير» للدردير (3/ 319) ، «بداية المجتهد» (2/ 98) ، «الكافي» (2/ 597) ، «كشف القناع» (5/ 212) ، «المغني» (7/ 536) . (2) أخرجه الطبري (2/ 479) برقم (4839) ، عن ابن عباس. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 307) . (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 307) . (4) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 307- 308) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 230 إلى 232]

وقال طَاوُسٌ «1» ، والزُّهْرِيّ، والحَسَن، وغيرهم: لا يجوزُ له أنْ يزيدَ على المَهْر الذي أعطاها «2» ، وقال ابن المُسَيِّب: لا أرى أن يأخذ منها كلَّ مالِها، ولكنْ لِيَدَعْ لها شيئًا «3» . وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ... الآية: أي: هذه الأوامر والنواهي، فلا تتجاوزُوها، ثم توعَّد تعالى على تجاوُزِ الحَدِّ بقوله: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وهو كما قال صلّى الله عليه وسلم: «الظّلم ظلمات يوم القيامة» «4» . [سورة البقرة (2) : الآيات 230 الى 232] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

_ (1) طاوس بن كيسان اليماني الجندي- بفتح الجيم والنون- قيل: من الأبناء، وقيل: مولى همدان، الإمام العلم. قيل: اسمه ذكوان. قاله ابن الجوزي. عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم. وعنه: مجاهد، وعمرو بن شعيب، وحبيب. قال ابن عباس: إني لأظن طاوسا من أهل الجنة. مات سنة 106. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 15) . (2) أخرجه الطبري (2/ 483- 485) بأرقام (4858) ، (4859) ، (4860) ، (4880) عن الحسن، وبرقم (4862) عن ابن طاوس، وبرقم (4863) عن الزهري. وذكره البغوي (1/ 207) عن الزهري، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 308) . (3) أخرجه الطبري (2/ 483) برقم (4861) ، وذكره البغوي (1/ 207) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 308) . (4) أخرجه البخاري (5/ 120- 121) كتاب «المظالم» ، باب الظلم ظلمات يوم القيامة، حديث (2447) ، وفي «الأدب المفرد» رقم (481) ، ومسلم (4/ 1996) ، كتاب «البر والصلة» ، باب تحريم الظلم، حديث (57/ 2579) . وأحمد (2/ 137، 146) ، والبيهقي (6/ 39) ، كتاب «الغصب» ، باب تحريم الغصب. والبغوي في «شرح السنة» (7/ 364- بتحقيقنا) . كلهم من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعا، وللحديث شاهد من حديث جابر بلفظ: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» . أخرجه مسلم (4/ 1996) ، كتاب «البر والصلة» ، باب تحريم الظلم، حديث (56/ 2579) ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (479) . وأحمد (3/ 323) ، من طريق عبيد الله بن مقسم، عن جابر به. وله شاهد أيضا من حديث عبد الله بن عمرو. وأخرجه أحمد (2/ 159) عنه مرفوعا، بلفظ: «الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش ... » .

وقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: هو ابتداء الطلْقةِ الثالثةِ «1» قال ع «2» : فيجيء التسريحُ المتقدِّم ترك المرأة تتمُّ عِدَّتها من الثانية، وأجمعتِ الأُمَّةُ في هذه النازلةِ على اتباع الحديثِ الصحيحِ في امرأة رِفَاعَةَ «3» ، حِينَ تزوَّجت عبْدَ الرحمنِ بْنَ الزَّبِيرِ «4» ، فقال لها النبيُّ صلّى الله عليه وسلم: «لَعَلَّكِ أَرَدتِّ الرُّجُوعَ إلى رِفَاعَةَ، لاَ حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» «5» فرأَى العلماء أنه لا يحلّها إلا الوطء.

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 488) برقم (4886) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 308) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 504) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس. (2) «المحرر الوجيز» (1/ 308) . (3) امرأة رفاعة القرظي التي تزوجها عبد الرحمن بن الزّبير اختلف في اسمها فقيل: سهيمة، وقيل: عائشة، وقيل: تميمة، حكى الأقوال الثلاثة ابن الأثير في مواضع من كتابه، وذكرها في حرف «التاء» تميمة بنت وهب بن عبيد القرظية، مطلقة رفاعة القرظي. ينظر: «تهذيب الأسماء» (2/ 370) . (4) عبد الرحمن بن الزّبير بفتح الزاي ابن باطياء القرشي، صحابي له حديث، وعنه ابنه الزّبير. ينظر: «الخلاصة» (2/ 132) . (5) أخرجه مالك (2/ 531) ، كتاب «النكاح» ، باب نكاح المحلل وما أشبهه، حديث (17) ، من طريق المسور بن رفاعة القرظي، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، أن رفاعة بن سموآل طلق امرأته.....، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 248) ، باب نكاح المطلقة ثلاثا، وابن حبان (1323- موارد) ، والبيهقي (7/ 375) كتاب «الرجعة» ، باب نكاح المطلقة ثلاثا. قال السيوطي في «تنوير الحوالك» (2/ 6) ، قال ابن عبد البر: كذا لأكثر الرواة مرسل، ووصله ابن وهب عن مالك، فقال: عن أبيه، وابن وهب من أجل من روى عن مالك هذا الشأن، وأثبتهم فيه، وتابعه أيضا ابن القاسم، وعلي بن زياد، وإبراهيم بن طهمان، وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي. كلهم عن مالك، وقالوا فيه: عن أبيه، وهو صاحب القصة. اهـ. ومن طريق ابن وهب: أخرجه ابن الجارود (682) ، والبيهقي، (7/ 375) كتاب «الرجعة» ، باب نكاح المطلقة ثلاثا. وأخرجه البزار (2/ 194- كشف) رقم (1504) ، من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، ثنا مالك بن أنس، عن المسور بن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، عن أبيه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 343) : رواه البزار، والطبراني، ورجالهما ثقات، وقد رواه مالك في «الموطأ» مرسلا، وهو هنا متصل. اهـ. -

وكلُّهم على أن مَغِيبَ الحَشَفة يُحِلُّ إِلا الحسنَ بْنَ أبي الحَسَن، قال: لا يحلُّها إلا الإنزال،

_ - وقد ورد هذا الحديث موصولا من حديث عائشة. أخرجه أحمد (6/ 226) ، والبخاري (5/ 249) ، كتاب «الشهادات» ، باب شهادة المختبئ، حديث (2639) ، ومسلم (2/ 1055- 1056) ، كتاب «النكاح» ، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (111/ 1433) . والترمذي (2/ 293) ، كتاب «النكاح» ، باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا، حديث (1118) . والنسائي (6/ 148) كتاب «الطلاق» ، باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجة (1/ 621- 622) كتاب «النكاح» ، باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا، حديث (1932) . والدارمي (2/ 161) كتاب «الطّلاق» ، باب ما يحل المرأة لزوجها الذي طلقها.... والشافعي (2/ 34- 35) كتاب الطلاق، حديث (110) ، والحميدي (1/ 111) رقم (226) ، وعبد الرزاق (6/ 346- 347) رقم (11131) ، والطيالسي (1/ 314- 315) رقم (1612، 1613) . وسعيد بن منصور (2/ 73- 74) رقم (1985) . وأبو يعلى (7/ 397) رقم (4423) . وابن حبان (4199- الإحسان) ، والبيهقي (7/ 373- 374) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 169- بتحقيقنا) ، من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» . وقال الترمذي: حسن صحيح. وللحديث طرق أخرى عن عائشة. فأخرجه البخاري (9/ 284) ، كتاب «الطلاق» ، باب من قال لامرأته: أنت عليّ حرام، حديث (5265) ، ومسلم (2/ 1057) ، كتاب «النكاح» ، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها، حتى تنكح زوجا غيره، حديث (114/ 1433) ، وأحمد (6/ 229) ، والدارمي (2/ 162) ، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به، وأخرجه مسلم (2/ 1057) ، كتاب «النكاح» ، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها، حتى تنكح زوجا غيره، حديث (115/ 1433) ، وأحمد (6/ 193) . وأبو يعلى (8/ 373- 374) رقم (4964) ، من طريق القاسم بن محمد عن عائشة. وأخرجه أبو داود (1/ 705) كتاب «الطلاق» ، باب في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (2309) . وأحمد (6/ 42) من طريق الأسود عن عائشة. وأخرجه البخاري (10/ 293) ، من طريق عبد الوهاب عن أيوب عن عكرمة أنّ رفاعة طلّق امرأته، فتزوجها عبد الرحمن بن الزّبير القرظيّ، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها، وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم- والنساء ينصر بعضهنّ بعضا- قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشدّ خضرة من ثوبها، قال: وسمع أنها قد أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله مالي إليه من ذنب، إلا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه- وأخذت هدبة من ثوبها- فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فإن كان ذلك لم تحلي له أو تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك، قال: وأبصر معه ابنين له فقال: بنوك هؤلاء؟ قال: نعم. قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فو الله لهم أشبه به من الغراب بالغراب. -[.....]

وهو ذَوْقُ العُسَيْلَةَ «1» ، والذي يُحِلُّها عند مالك النكاحُ الصحيحُ، والوطْء المُباح. وقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ... الآية: المعنى: فإِنْ طلَّقها المتزوِّج الثَّاني، فلا جُنَاح عليهما، أي: المرأة والزوج الأول. قاله ابن عَبَّاس «2» ، ولا خلاف فيه، والظنُّ هنا على بابه من تغليبِ أحد الجائزَيْن، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا.

_ - وفي الباب عن ابن عمر، وعبيد الله بن عباس، وأنس بن مالك، والفضل بن عباس. حديث ابن عمر: أخرجه أحمد (2/ 85) ، والنسائي (6/ 148- 149) ، كتاب «النكاح» ، باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجة (1/ 622) ، كتاب «النكاح» ، باب الرجل يطلق المرأته ثلاثا فتتزوج، فيطلقها (1933) ، من طريق محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر به. أخرجه أحمد (2/ 62) ، والنسائي (6/ 149) ، والبيهقي (7/ 375) ، من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد، عن رزين بن سليمان، عن ابن عمر، قال النسائي: هذا أولى بالصّواب. وأخرجه أبو يعلى (8/ 374) ، رقم (466) ، من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر. قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) ، رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. حديث عبيد الله بن عباس: أخرجه أحمد (1/ 214) ، والنسائي (6/ 148) ، كتاب «الطلاق» ، باب إحلال المطلقة ثلاثا عنه أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلّى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها فقال: يا رسول الله، هي كاذبة وهو يصل إليها، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس ذلك حتى تذوقي عسيلته» ، وأخرجه أبو يعلى (12/ 85- 86) رقم (6718) عن عبيد الله بن عباس، والفضل بن عباس به. وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) ، رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح. حديث أنس بن مالك: أخرجه أحمد (3/ 284) ، والبزار (2/ 195- كشف) برقم (1505) ، وأبو يعلى (7/ 207) رقم (4199) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فمات عنها قبل أن يدخل بها. هل يتزوجها الأول، قال: «لا، حتى يذوق عسيلتها» . قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) ، وقال: رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح، خلا محمد بن دينار الطاحي، وقد وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وفيه كلام لا يضر. حديث الفضل بن عباس: ينظر حديث عبيد الله بن العباس. (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 309) . (2) أخرجه الطبري (2/ 491) برقم (4909) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 309) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 508) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس.

وقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ... الآية: خطابٌ للرجالِ، نُهِي الرجُلُ أن يطول العدَّة، مضارَّةً لها بأن يرتجع قرب انقضائها، ثم يطلِّق بعد ذلك قاله الضَّحَّاك وغيره «1» ، ولا خلاف فيه. ومعنى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: قاربْنَ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإِمساك، ومعنى: أمسكوهنَّ راجِعُوهنَّ- وبِمَعْرُوفٍ: قِيلَ: هو الإِشهاد «2» - وَلا تُمْسِكُوهُنَّ، أي: لا تراجعوهنَّ ضِراراً، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً ... الآية: المرادُ بآياته النازلَةُ في الأوامر والنَّواهِي، وقال الحسن: نزلَتْ هذه الآية فيمَنْ طَلَّق لاعباً أو هازئاً، أو راجَعَ كذلك «3» . وقالتْ عائشةُ: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ» «4» . ثم ذَكَّرَ اللَّه عباده بإِنعامه سبحانه عليهم بالقرآن، والسّنّة، وَالْحِكْمَةِ: هي السُّنَّة المبينة مرادَ اللَّه سبحانه. وقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ ... الآية: خطابٌ للمؤمنين الذين منْهم الأزواج، ومنهم الأولياءُ لأنهم المراد في تَعْضُلُوهنَّ، وبلوغ الأجلِ في هذا الموضِعِ تناهِيهِ لأن المعنى يقتضي ذلكَ. وقد قال بعضُ النَّاسِ في هذا المعنى: إِن المراد ب تَعْضُلُوهُنَّ: الأزواجُ وذلك 58 أبأن يكون الاِرتجاعُ مضارَّة عضْلاً/ عن نكاحِ الغَيْر، فقوله: أَزْواجَهُنَّ على هذا، يعني به: الرجالَ إِذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد ب تَعْضُلُوهُنَّ الأولياء، فالأزواج

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 494) برقم (4922) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 309) . (2) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 309) ، والبغوي في (1/ 210) . (3) أخرجه الطبري (2/ 496) برقم (4926) ، وذكره ابن عطية (1/ 310) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 231) ، وعزاه لابن أبي شيبة في «المصنف» ، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن. (4) أخرجه أبو داود (2/ 259) ، كتاب «الطلاق» ، باب في الطلاق (2194) ، والترمذي (3/ 490) ، كتاب «الطلاق» ، باب ما جاء في الحد (1184) ، وابن ماجة (1/ 658) ، كتاب «الطلاق» ، باب من طلق أو نكح (2039) ، والدارقطني (4/ 18- 19) ، كتاب «الطلاق» ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 197- 198) ، كتاب «الطلاق» ، باب ثلاث جدهن جد.

[سورة البقرة (2) : آية 233]

هم الذين كُنَّ في عصمتهم. «وَالعَضْل» : المَنْع وهو من معنى التضْييقِ والتعسيرِ كما يقال: أعْضَلَتِ الدجاجَةُ، إِذا عَسُر بيضُها، والدَّاء العُضَال: العسيرُ البرءِ، وقيل: نزلَتْ هذه الآيةُ في مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ «1» ، وأخته، لما طلَّقها زوجها، وتمَّتْ عدَّتُها، أراد ارتجاعها، فمنعَهُ وليُّ المرأة «2» ، وقيل: نزلَتْ في جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وأختِهِ «3» . وهذه الآيةُ تقتضي ثبوتَ حَقِّ الولي في إِنكاح وليَّته، وقوله: بِالْمَعْرُوفِ: معناه: المهر، والإِشهاد. وقوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم رجُوعٌ إِلى خطابِ الجَمَاعة، والإِشارة في ذلِكُمْ أَزْكى إلى ترك العضل، وأَزْكى ... وَأَطْهَرُ: معناه: أطيبُ للنفْسِ، وأطهر للعِرْضِ والدِّين بسبب العلاقاتِ التي تكونُ بين الأزواجِ، وربَّما لم يعلمها الوليُّ، فيؤدِّي العَضْلُ إِلى الفسادِ، والمخالطةِ على ما لا ينبغِي، واللَّه تعالى يعلَمُ من ذلك ما لا يعلَمُ البَشَر. [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ

_ (1) معقل بن يسار بن عبد الله بن معبّر بن حراق بن أبي بن كعب بن عبد ثور بن هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو المزني. ومزينة هي والدة عثمان بن عمرو، ونسبوا إليها. ومعقل يكنى أبا علي، وقيل: كنيته أبو عبد الله، وقيل: أبو يسار. ومات في آخر خلافة معاوية. وقيل: عاش إلى إمرة يزيد. وذكره البخاري في «الأوسط» في فضل من مات ما بين الستين إلى السبعين. ينظر: «الإصابة» (6/ 146- 147) . (2) أخرجه الطبري (2/ 497- 498- 499) بأرقام (4930- 4931- 4932- 4933- 4934) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 310) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 511) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد. (3) أخرجه الطبري (2/ 499) رقم (4942) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 310) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 511) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن السّدّي.

يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ: خبر معناه الأمرُ على الوجوب لبَعْضِ الوالداتِ، وعلى الندْبِ لبعضهنَّ، فيجب على الأمِّ الإِرضاع، إِن كانَتْ تحت أبيه، أو رجعيَّةً، ولا مانع من عُلُوِّ قدْرٍ بغير أجر، وكذلك إِن كان الأبُ عديماً، أو لم يقبلِ الولَدُ غيرها. وهذه الآياتُ في المطلَّقات جعَلَها اللَّه حدًّا عند اختلاف الزوجَيْن في مدَّة الرَّضَاع، فمَنْ دعا منهما إِلى إِكمالِ الحَوْلَيْنِ، فذلك له. وقوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ مبنيٌّ على أن الحولَيْن ليسا بفَرْض، لا يُتَجَاوَزُ، وانتزع مالِكٌ- رحمه اللَّه- وجماعةٌ من العلماء من هذه الآيةِ أنَّ الرضاعةَ المحرِّمة الجاريةَ مَجْرى النَّسَبِ، إِنما هي ما كان في الحولَيْن «1» لأنَّ بانقضاء الحولَيْنِ، تمَّتِ الرَّضَاعة، فلا رضَاعَة. ت: فلو كان رضاعُه بعد الحولَيْن بمدَّة قريبة، وهو مستمرُّ الرضاعِ، أو بعد يومَيْن من فِصَالِهِ- اعتبر، إِذ ما قارب الشيْءَ فله حكمه. انتهى. وقوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ... الآية: المولود له: اسم جنس،

_ (1) من شروط الرضاع المحرّم: ألا يبلغ الرضيع حولين كاملين يقينا في ابتداء الرضعة الخامسة، فلا أثر لرضاع من بلغها، ولو بيسير من الزمن، فإن شك في بلوغه وعدمه حرم لأن الشك لا أثر له مع اليقين الذي هو الأصل، وهو بقاء المدة، ولو بلغهما في أثناء الرضعة الخامسة حرم لكفاية ما وجد من هذه الرضعة في الحولين، ويعتبر الحولان بالأهلّة فإن انكسر الشهر الأول تمم ثلاثين يوما من الشهر الخامس والعشرين. والسنة الهلالية، وهي القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس، وسدس من اليوم، والسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، إلا جزءا من ثلاثمائة من اليوم، والفلكيون يعتبرونها ثلاثمائة وخمسة وستين يوما فقط إن كانت بسيطة، وستة وستين إن كانت كبيسة، والسنة العددية ثلاثمائة وستون يوما لا تزيد ولا تنقص. وشرط عدم بلوغ الرضيع حولين كاملين هو مذهب إمامنا الشافعي (رضي الله تعالى عنه) ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد (رضي الله تعالى عنهم أجمعين) . وقول الإمام مالك في إحدى روايتيه، وبه قال من الصحابة سيدنا عمر، وابنه، وسيدنا علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وأمهات المؤمنين سوى سيدتنا عائشة (رضي الله تعالى عنهم) ، وقال سيدنا مالك (رضي الله عنه) مدته خمسة وعشرون شهرا، وقال الإمام أبو حنيفة: مدته ثلاثون شهرا، وقال زفر: مدته ثلاثة أحوال، فهي ستة وثلاثون شهرا، فكل هؤلاء يشترطون الصغر في الرضاع غير أنهم قد اختلفوا فيما بينهم في مدته. وذهب بعض الفقهاء (ومنهم الأوزاعي، وداود الظاهري) إلى تحريم رضاع الكبير، ونسب هذا أيضا إلى الإمام الليث بن سعد، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة (رضي الله تعالى عنها) وقال الجصاص: إنه قول شاذ. ينظر: «الرضاع» لشيخنا قاسم محمد العبدي.

وصنْفٌ من الرجال، والرِّزْقُ في هذا الحكم: الطعامُ الكافِي. وقوله: بِالْمَعْرُوفِ يجمع حُسْن القَدْر في الطاعم، وجَوْدَةَ الأداء له، وحُسْنَ الاقتضاء من المرأةِ. ثم بيَّن سبحانه أنَّ الإِنفاق على قدر غِنَى الزوْجِ بقوله: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، وقرأ «1» أبو عمرو، وابن كَثِيرٍ، وأبانُ «2» عن عاصمٍ «3» : «لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ» بضم الراء، وهو خبر، معناه الأمر، ويحتمل أن يكون الأصلُ: لاَ تُضَارِرُ بكسر الراءِ الأولى، ف «وَالِدَةٌ» فاعلةٌ، ويحتمل بفَتْح الرَّاء الأولى، ف «وَالِدَةٌ» : مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، ويعطف «مولود له» على هذا الحدِّ في الاحتمالين، وقرأ نافعٌ، وحمزةُ، والْكسَائِيُّ، وعاصمٌ: لاَ تُضَارَّ بفتح الراء، وهذا على النهْيِ، ويحتمل أصله ما ذكرنا في الأولى، ومعنى الآية في كلِّ قراءة: النهْيُ عن الإِضرار، ووجوهُ الضَّرَرِ لا تنحصرُ، وكل ما ذُكِرَ منْها في التفاسير، / 58 ب فهو مثالٌ. ت: وفي الحديثِ: «لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ» ، رواه مالكٌ في «الموطإ» مرسلاً «4» .

_ (1) وحجتهم في ذلك قوله تعالى قبله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 233] ، فجعلا الرفع نسقا عليه، وجعلاه خبرا بمعنى النهي. ينظر: «الحجة للقراء السبعة» (2/ 333) ، و «العنوان» (74) ، و «شرح طيبة النشر» (4/ 100- 102) ، و «حجة القراءات» (136) ، و «معاني القراءات» (1/ 205) ، و «شرح شعلة» (290) ، و «إتحاف» (1/ 440) (2) أبان بن تغلب الربعي، أبو سعد، ويقال: أبو أميمة الكوفي، النحوي، جليل، قرأ على عاصم، وأبي عمرو الشيباني، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وهو أحد الذين ختموا عليه. ويقال: إنه لم يختم القرآن على الأعمش إلا ثلاثة منهم أبان بن تغلب، أخذ القراءة عنه عرضا محمد بن صالح بن زيد الكوفي، توفي سنة إحدى وأربعين ومائة. وقال القاضي أسد: سنة ثلاث وخمسين ومائة. ينظر: «غاية النهاية» (1/ 4) . (3) عاصم بن أبي النجود بهدلة، الكوفي، الأسدي بالولاء، أبو بكر: أحد القراء السبعة، تابعي من أهل «الكوفة» ، ووفاته فيها سنة 127 هـ، كان ثقة في القراءات، صدوقا في الحديث، قيل: اسم أبيه عبيد، وبهدلة اسم أمه. ينظر: «تهذيب التهذيب» (5/ 38) ، «الأعلام» (3/ 248) ، «الوفيات» (1/ 243) ، «غاية النهاية» (1/ 346) ، «ميزان الاعتدال» (2/ 5) . [.....] (4) ورد هذا الحديث من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وجابر، وعمرو بن عوف، وأبي لبابة. حديث عبادة بن الصامت: أخرجه ابن ماجه (2/ 784) ، كتاب «الأحكام» ، باب من بني في حقه ما يضر بجاره، حديث (2340) . -

قال النوويُّ في «الحِلْية» : ورويناه في «سُنَن الدَّارَقُطْنِيِّ» وغيره من طرقٍ متصلاً، وهو حسن انتهى.

_ - وأحمد (5/ 326- 327) . وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 344) ، والبيهقي (10/ 133) ، كتاب «آداب القاضي» ، باب ما لا يحتمل القسمة، كلهم من طريق موسى بن عقبة، ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار. قال الزيلعي في «نصب الراية» (4/ 384) ، قال ابن عساكر في «أطرافه» : وأظن إسحاق لم يدرك جده. وقال العلائي في «جامع التحصيل» (ص 144) إسحاق بن يحيى بن الوليد بن الصامت، عن جد أبيه عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) . قال الترمذي: لم يدركه. اه. والحديث ذكره البوصيري في «زوائد ابن ماجة» (2/ 221) ، وقال: هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع. اه. قلت: وهذا فيه نظر، فإن إسحاق بن يحيى قد ذكره ابن عدي في «الكامل» (1/ 333) ، وقال: عامة أحاديثه غير محفوظة. وقد حكى البوصيري نفسه تضعيفه في «الزوائد» (2/ 179) ، فقال عن إسناد فيه إسحاق هذا: هذا إسناد ضعيف لضعف إسحاق بن يحيى بن الوليد، وأيضا لم يدرك عبادة بن الصامت قاله البخاري، والترمذي، وابن حبان، وابن عدي. والحديث ذكره الحافظ أيضا في «الدراية» (2/ 282) ، وقال: وفيه انقطاع. حديث ابن عباس: أخرجه أحمد (1/ 313) ، وابن ماجة (2/ 784) ، كتاب «الأحكام» ، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، حديث (2341) ، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن جابر الجعفي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» . قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 222) : هذا إسناد فيه جابر، وقد اتهم. اه. لكنه توبع تابعه داود بن الحصين: أخرجه الدارقطني (4/ 228) ، كتاب «الأقضية» ، حديث (84) من طريق إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس به. قال الزيلعي في «نصب الراية» (4/ 385) ، قال عبد الحق في «أحكامه» : وإبراهيم بن إسماعيل هذا هو ابن أبي حبيبة وفيه مقال، فوثقه أحمد، وضعّفه أبو حاتم، وقال: هو منكر الحديث، لا يحتج به. اه. قلت: وضعفه أيضا البخاري، فقال: منكر الحديث «التاريخ الكبير» (1/ 873) . وقال الترمذي في «سننه» (1462) : يضعف في الحديث، وقال النسائي فقال في «الضعفاء» رقم (2) : ضعيف. وقال الدارقطني: متروك، ينظر «سؤالات البرقاني» (22) ، و «الضعفاء» له (32) . وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ينظر «العلل» (1575) ، وقال الحافظ في «التقريب» (1/ 31) رقم (168) ، ضعيف. حديث أبي هريرة: أخرجه الدارقطني (4/ 228) ، كتاب «الأقضية» ، حديث (86) ، من طريق أبي بكر بن عياش قال: أراه عن ابن عطاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه» . قال الزيلعي في «نصب الراية» (4/ 385) ، وأبو بكر بن عياش مختلف فيه. اه. وللحديث علة أخرى، وهي ابن عطاء، واسمه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح. -

وقوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قال مالك، وجميع أصحابه، والشّعبيّ،

_ - قال أحمد: منكر الحديث. وقال مرة أخرى: ضعيف، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنّسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين يكتب حديثه. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وهو ممن يكتب حديثه، وعنده غرائب. ينظر «التهذيب» (11/ 393) . وقد لخص الحافظ هذه الأقوال فقال في «التقريب» (2/ 376) رقم (386) : ضعيف. حديث عائشة: وله طريقان: الأول: أخرجه الدارقطني (4/ 227) كتاب «الأقضية» ، حديث (83) ، من طريق الواقدي: ثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» . والواقدي محمد بن عمر متروك. الطريق الثاني: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، كما في «نصب الراية» (4/ 386) ، حدثنا أحمد بن رشدين، ثنا روح بن صلاح، ثنا سعيد بن أبي أيوب، عن أبي سهيل، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا إضرار» . والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 113) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين. قال ابن عدي: كذبوه. اه. وللحديث طريق آخر أيضا: أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «نصب الراية» (4/ 386) ، حدثنا أحمد بن داود المكي، ثنا عمرو بن مالك الراسبي، ثنا محمد بن سليمان بن مسمول، عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن نافع بن مالك، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» . قال الطبراني: لم يروه عن القاسم إلا نافع بن مالك. قلت: وهذا الطريق لم يذكره الهيثمي في «المجمع» ، مع أنه على شرطه. وأبو بكر بن أبي سبرة: قال البخاري: منكر الحديث ... «التاريخ الصغير» (2/ 184) ، وقال مرة: ضعيف ... «الضعفاء الصغير» (416) . وقال النسائي: متروك الحديث ... «الضعفاء والمتروكين» (697) . وقال الدارقطني: متروك ... «الضعفاء والمتروكين» (612) . وقال البزار: لين الحديث ... «كشف الأستار» (1129) . وذكره أبو زرعة الرازي في «أسامي الضعفاء» (380) . حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه الدارقطني (4/ 228) كتاب «الأقضية» ، حديث (86) ، والحاكم (2/ 57) ، كتاب «البيوع» ، باب النهي عن المحاقلة....، والبيهقي (6/ 69- 70) ، كتاب «الصلح» ، باب لا ضرر ولا ضرار، كلهم من طريق الدراوردي، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: تفرد به عثمان بن محمد- عن الدراوردي-. قلت: وفي كلام الثلاثة نظر. -

والزُّهْرِيُّ، وجماعةٌ من العلماء: المرادُ بقوله: مِثْلُ ذلِكَ: أَلاَّ يُضَارَّ، وأمَّا الرزقُ، والكُسْوة، فلا شيء علَيْه منه «1» ، قال ع «2» : فالإِجماع من الأُمَّة في ألاَّ يُضَارَّ الوارثُ، وإِنَّما الخلافُ، هل عليه رزقٌ وكُسْوَة أم لا؟ وقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا ... الآية، أي: فإِن أراد الوالَدانِ، وفِصَالاً: معناه: فِطَاماً عن الرَّضَاع. وتحرير القول في هذا: أن فَصْله قَبْل الحولَيْن لا يصحُّ إلا بتراضيهما وألاَّ يكونَ على المولودِ ضَرَرٌ، وأمَّا بعد تمامهما، فمن دعا إِلى الفَصْل، فذلك له إِلاَّ أن يكون في ذلك على الصبيّ ضرر.

_ - أما صحته على شرط مسلم، فعثمان بن محمد لم يخرج له مسلم شيئا، ومع ذلك فهو ضعيف ضعّفه الدارقطني. ينظر: «لسان الميزان» (4/ 175) . وأما قول البيهقي: «تفرد به عثمان بن محمد» ، ففيه نظر أيضا، فقد تابعه عبد الملك بن معاذ النصيبي عن الدراوردي به كما في «نصب الراية» (4/ 385) . قال ابن القطان في كتابه: وعبد الملك هذا لا يعرف له حال. اه. وأخرجه مالك (2/ 745) ، كتاب «الأقضية» ، باب القضاء في المرفق، حديث (31) ، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» . هكذا مرسلا. حديث جابر: أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «نصب الراية» (4/ 386) ، ثنا محمد بن عبدوس بن كامل، ثنا حبان بن بشر القاضي قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 113) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه ابن إسحاق، وهو ثقة لكنه مدلس. اه. وهذا الحديث رواه عبد الرحمن بن مغراء، ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان مرسلا. أخرجه أبو داود في «المراسيل» (ص 294) رقم (407) . حديث عمرو بن عوف: ذكره الحافظ في «التهذيب» (8/ 421- 422) ، من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه. حديث أبي لبالبة: أخرجه أبو داود في «المراسيل» (ص 294) رقم (407) . (1) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 213) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 312) . (2) «المحرر الوجيز» (1/ 312) .

وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ مخاطبة لجميعِ النَّاسِ، يجمع الآباءَ والأمهاتِ، أي: لهم اتخاذُ الظِّئْر «1» ، مع الاتفاقِ على ذلك، وأما قوله: إِذا سَلَّمْتُمْ، فمخاطبةٌ للرجال خاصَّة إِلا عَلَى أحد التأويلَيْن في قراءة مَنْ «2» قرأ: «أُوتِيتُمْ» ، وقرأ السِّتَّة من السبعةِ: «آتَيْتُمْ» بالمدِّ بمعنى أَعْطَيْتم، وقرأ ابن كثير: «أَتَيْتُمْ» بمعنى: فعلتم «3» كما قال زُهَيْرٌ: [الطويل] وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبائِهِمْ قَبْلُ «4» فأحد التأويلين في هذه القراءة كالأول، والتأويل الثَّاني لقتادَةَ، وهو إِذا سلَّمتم ما آتيتم من إِرادة الاِسترضاع «5» ، أيْ: سلم كلُّ واحدٍ من الأبوين، ورضي، وكان ذلك عَلَى اتفاقٍ منهما، وقَصْدِ خَيْرٍ، وإِرادةِ مَعْروفٍ، وعلى هذا الاِحتمال يدخلُ النساءُ في الخطاب. ت: وفي هذا التأويل تكلُّف. وقال سفيانُ: المعنى: إِذا سلَّمتم إِلى المستَرْضعة، وهي الظِّئْر أَجْرَها بالمَعْروف «6» . وباقي الآية أمْرٌ بالتقْوَى، وتوقيفٌ على أن اللَّه تعالى بصيرٌ بكلِّ عمل، وفي هذا وعيدٌ وتحذيرٌ، أي: فهو مُجازٍ بحسب عملكم.

_ (1) الظّئر: المرضعة غير ولدها. ينظر: «النهاية» (3/ 154) ، و «لسان العرب» (2741) . (2) وهي رواية شيبان عن عاصم، كما في شواذ ابن خالويه ص (22) . (3) وقراءة ابن كثير معناها: إذا سلمتم ما أتيتم به. ينظر: «حجة القراءات» (137) ، و «السبعة» (183) ، و «الحجة» (2/ 335) ، و «معاني القراءات» (1/ 206- 207) ، و «العنوان» (74) ، و «شرح الطيبة» (4/ 103) ، و «شرح شعلة» (291) ، و «إتحاف» (1/ 440) . (4) البيت في ديوان زهير بن أبي سلمى ص (115) ، و «تفسير القرطبي» (3/ 173) ، و «الدر المصون» (1/ 575) . توارثه، يعني: ورثه كابر عن كابر. وقال ابن ميّادة في مثله: إنّ بني العبّاس في مشرف ... يزل عنه الغفر، الأحمر له الفعال، وله الوالد ال ... أكبر، فالأكبر، فالأكبر. (5) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 313) . (6) أخرجه الطبري (2/ 523) برقم (5073) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 313) .

[سورة البقرة (2) : آية 234]

[سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ هذه الآيةُ في عدَّة المتوفى عنها زوجُها، وظاهرها العمومُ، ومعناها الخصوصُ في الحرائرِ غيْرِ الحَوَامِلِ، ولم تعن الآية لما يشذُّ من مرتابةٍ ونحوها، وعدَّة الحَامِلِ: وضْعُ حملها عند الجمهور. ورُوِيَ عن عليٍّ، وابن عبَّاس: أقصَى الأجلَيْن «1» ، وَيَتَرَبَّصْنَ: خبر يتضمَّن معنى الأمر، والتربُّص: الصبْر والتأنِّي. والأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم متظاهرة أن التربُّص بإِحْدَادٍ، وهو الامتناع عن الزينة، ولبس المصبوع الجميلِ، والطِّيب، ونحوه، والتزامِ المَبِيتِ في مَسْكنها حيث كانَتْ وقت وفَاة الزَّوْج، وهذا قولُ جمهورِ العُلَماء، وهو قولُ مالكٍ، وأصحابه، وجعل اللَّه تعالى أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً عبادةً في العِدَّة فيها استبراء للحَمْل إِذ فيها تكمل الأربعون، 58 ب والأربعون، والأربعون حسب الحديثِ الَّذي رواه ابن مَسْعود وغيره، ثم ينفخ الرُّوحُ/، وجعل تعالى العَشْر تكملةً إِذ هي مَظِنَّةٌ لظهورِ الحركةِ بالجنينِ، وذلك لنقْصِ الشهور، أو كمالها، أو لسُرْعة حركةِ الجنين، أو إِبطائها. قاله ابن المُسَيِّب، وغيره «2» . وقال تعالى: وَعَشْراً تغْليباً لحكْم الليالِي، وقرأ «3» ابن عَبَّاس: «وَعَشْرَ لَيَالٍ» ، قال جمهور العلماء: ويدخل في ذلك اليَوْمُ العَاشِر. وقوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: فِيما فَعَلْنَ: يريدُ به التزوُّجَ، فما دونَهُ من زينةٍ، واطراح الإِحداد قاله مجاهد وغيره «4» ، إِذا كان مَعْرُوفاً غيْرَ منكر. قال ع «5» : ووجوه المُنْكَر كثيرةٌ، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 314) . (2) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 914) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 515) ، وعزاه لابن جرير عن قتادة. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 314) ، و «البحر المحيط» (2/ 233) . (4) أخرجه الطبري (2/ 530) برقم (5097- 5098) . وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 314- 315) . (5) «المحرر الوجيز» (1/ 315) .

[سورة البقرة (2) : آية 235]

وعيد يتضمّن التحذير، وخَبِيرٌ: اسم فاعلٍ مِن «خَبَرَ» ، إِذا تَقَصَّى علْم الشيء. [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ ... الآية: تصريحُ خطبةِ المعتدَّة حرامٌ، والتعريضُ جائزٌ، وهو الكلام الذي لا تصريحَ فيه، أَوْ أَكْنَنْتُمْ: معناه: سترتم، وأخفيتم. وقوله تعالى: سَتَذْكُرُونَهُنَّ قال الحَسَن: معناه: ستخطُبُونَهُنَّ «1» ، وقال غيره: معناه: علم اللَّه أنكم ستذكُرونَ النِّسَاء المعتدَّاتِ في نفوسكم وبألسنتكُمْ، فنهى عن أنْ يوصل إِلى التواعُدِ معَهُنَّ «2» . ع «3» : والسرُّ، في اللغة: يقع على الوَطْء حلالِهِ وحرامِهِ، والآية تعطي النهْيَ عن أنْ يواعد الرجُلُ المعتدَّةَ أن يطأها بعد العدَّة بوجْه التزويجِ، وقال ابن جُبَيْر: سِرًّا، أيْ: نكاحاً «4» ، وهذه عبارة مخلصة. وأجمعتِ الأمة على كراهةِ المواعَدَةِ في العدَّةِ. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً استثناءٌ منقطعٌ، والقولُ المعروف هو ما أبيح من التعريض كقول الرجُل: إِنَّكم لأَكْفَاءٌ كِرَامٌ، وما قُدِّرَ كَانَ، ونحو هذا. وقوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ: عزمُ العقدةِ: عَقْدها بالإشهاد، والوليّ، وحينئذ: تسمى عقدة.

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 535) برقم (5136- 5138) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 315) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 518) ، وعزاه لوكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن. (2) أخرجه الطبري (2/ 535) رقم (5137) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 316) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 518) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير عن مجاهد. (3) «المحرر الوجيز» (1/ 316) . (4) أخرجه الطبري (2/ 537) رقم (5158) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 316) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 519) ، وعزاه لعبد الرزاق عن سعيد بن جبير.

[سورة البقرة (2) : الآيات 236 إلى 237]

ت: والظاهر أن العَزْم غَيْرُ العقد، وقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ: يريد تمام العدَّة، والكتاب هنا هو الحدُّ الذي جُعِل، والقَدْر الذي رُسِمَ من المدَّة، وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ... الآية: تحذيرٌ من الوقوع فيما نهى عْنه، وتوقيف على غفره وحلمه. [سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237] لاَّ جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) وقوله تعالى: لاَّ جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً هذا ابتداءُ إِخبارٍ برفع الجُنَاحِ عن المُطَلِّق قبل البِنَاءِ والجِمَاعِ، فَرَض مَهْراً أو لم يفرض، ولمّا نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التزوُّج لمعنَى الذَّوْقِ، وقضَاءِ الشَّهْوةِ، وأمر بالتزوُّج، طلباً للعصْمَة، والتماس ثَوَابِ اللَّهِ، وقَصْدِ دوامِ الصُّحْبَةِ، وقع في نُفُوسِ المؤمنِينَ أنَّ من طلَّق قبل البناء قد واقع جزءاً من هذا المكروه، فنزلَتِ الآية رافعةً للجُنَاحِ في ذلك، إِذا كان أصْل النَّكاح علَى المَقْصِد الحَسَن. وقال قَوْمٌ: لاَّ جُناحَ عَلَيْكُمْ: معناه: لا طَلَبَ لجميعِ المَهْر، بل عليكُمْ نصْفُ المفروض لِمَنْ فرض لها، والمتعةُ لمن لم يُفْرَضْ لها، وفَرْضُ المهرِ: إثباتُه، وتحديدُهُ، 59 أوهذه الآية/ تُعْطِي جوازَ العَقْد على التفْويض لأنه نكاحٌ مقرَّر في الآية، مُبَيَّنٌ حكْمُ الطلاق فيه قاله مالك في «المدوّنة» . والفريضة: المصداق. وقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ. أي: أعطوهنَّ شيئاً يكون متاعاً لهنَّ، وحمله ابن عُمَر وغيره على الوجُوبِ، وحمله مالكٌ وغيره على الندْبِ، واختلف النَّاس في مقدارِ المُتْعة، قال الحَسَن: يمتَّع كلٌّ على قدْره، هذا بخادم، وهذا بأثوابٍ، وهذا بثوبٍ، وهذا بنفقةٍ «1» ، وكذلك يقول مالك. وقوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ: دليلٌ على رفض التحديد، والمُوسِعُ: أي: من اتسع حالُه، والمُقْتِر: المقلُّ القليلُ المالِ، ومَتاعاً:

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 319) .

نصبٌ على المصدر «1» . وقوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ، أي: لا حمل فيه، ولا تكلُّف على أحد الجانبَيْنِ، فهو تأْكيدٌ لمعنى قوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، ثم أكَّد تعالى الندْبَ بقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، أي: في هذه النازلةِ من التمتيعِ هُمْ محسِنُون، ومن قال بأنَّ المتعةَ واجبةٌ، قال: هذا تأكيدٌ للوجوب، أي: على المحسنين بالإيمان والإسلام، وحَقًّا: صفةٌ لقوله تعالى: مَتاعاً. ت: وظاهر الآيةِ عمومُ هذا الحكْمِ في جميع المطلَّقات كما هو مذهبُ الشافعيِّ، وأحمد، وأصحاب الرأْي، والظاهرُ حمل المُتْعَة على الوجوبِ لوجوه، منها: صيغةُ الأمر، ومنها: قولُه: حَقًّا، ومنْها: لفظةُ «على» ، ومنها: من جهة المعنى: ما يترتَّب على إِمتاعها من جَبْر القلوبِ، وربَّما أدى ترك ذلك إِلى العَدَاوة والبَغْضاء بَيْن المؤمنين، وقد مال بعضُ أئمَّتنا المتأخِّرين إِلى الوجوب. انتهى. وقوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ... الآية: اختلف في هذه الآية، فقالتْ فرقةٌ، فيها مالك: إِنها مُخْرِجَةٌ للمطلَّقة بعد الفَرْض من حُكْم التمتيعِ إِذ يتناولها. قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ: وقال قتادةُ: نَسَخَتْ هذه الآيةُ الآيةَ الَّتي قبلها «2» ، وقال ابن القاسِمِ في «المدوَّنة» : كان المتاعُ لكلِّ مطلَّقة بقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 241] ، ولغير المدخولِ بها بالآيةِ الَّتي في سورة «الأحزاب» ، فاستثنى اللَّه سبحانَهُ المَفْرُوضَ لها قَبْل الدخولِ بهذه الآية، وأثبت لها نصْفَ ما فَرَضَ فقَطْ «3» ، وزعم زيْدُ بْنُ أسْلَم أنها منسوخة «4» ، حكى ذلك في «المدوَّنة» عن زيد بن أسْلَم زعْماً. وقال ابن القاسِمِ: إنها استثناءٌ، والتحرير يردُّ ذلك إِلى النسخ الَّذي قال زيْدٌ لأنَّ ابْنَ القاسِمِ قال: إِن قولَه تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ [البقرة: 241] عمَّ الجميعَ، ثم استثنَى اللَّه

_ (1) ويجوز أن ينتصب على الحال، والعامل فيه حينئذ ما تضمنه الجار والمجرور «على الموسع» من معنى الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكن في ذلك العامل. والتقدير: قدر الموسع يستقر عليه في حال كونه متاعا. وينظر: «الدر المصون» (1/ 583) . (2) أخرجه الطبري (2/ 555) برقم (5252) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 320) . (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 327) . (4) ينظر المصدر السابق.

منْه هذه التي فُرِضَ لها قبل المَسِيسِ، وقال فريق من العلماء، منهم أبو ثَوْر «1» : المُتْعَة لكلِّ مطلَّقة عموماً، وهذه الآية إِنما بينت أن المفروض لها تأخُذُ نصْفَ ما فرض، أي: مع مُتْعَتها، وقرأ الجمهورُ «2» : «فَنِصْفُ» بالرفع، والمعنى: فالواجبُ نصْفُ ما فرضْتُمْ. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ: استثناء منقطعٌ، و «يَعْفُونَ» : معناه: يتركْنَ ويصفحْنَ، أي: يتركْن النِّصْفَ الذي وجَبَ لهنَّ عند الزوْجِ، وذلك إِذا كانت المرأةُ تمْلِكُ أمْرَ نَفْسِها. واختلف في المرادِ بقوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. فقال ابن عَبَّاس، ومُجَاهدٌ، ومالكٌ، وغيرهم: هو الوليُّ الذي المَرْأَة في حِجْره «3» ، 59 ب وقالتْ فرْقَة: الذي بيده عُقْدة النكاح هو الزَّوْج «4» ، فعلى القول الأول: / الندْبُ في النَّصْف الذي يجبُ للمرأة إِمَّا أن تعفو هي، وإِما أن يعفو وليُّها، وعلى القول الثَّاني: إِما أنْ تعفو هي أيضاً فلا تأخذَ شيئاً، وإِما أن يعفو الزوْجُ عن النِّصْفِ الذي يحطّ، فيؤدّي جميع

_ (1) أبو عبد الله إبراهيم بن خالد بن أبي يمان، أبو ثور، أخذ عن الشافعي- رضي الله عنه- كما أخذ الفقه عن غيره، قال الخطيب البغدادي: كان أحد الثقات المأمونين، ومن الأئمة الأعلام في الدين، وله كتب مصنفة في الأحكام ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 55) ، و «تهذيب التهذيب» (1/ 118) ، و «طبقات السبكي» (1/ 277) . (2) وقرأ علي وزيد بن ثابت «فنصف» بضم النون في جميع القرآن. قال ابن عطية: وهي لغة، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء. ينظر: «الشواذ» (ص 22) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 320) . ونسبها أبو حيان في «البحر» (2/ 244) زيادة على ما تقدم إلى السلمي. [.....] (3) أخرجه الطبري (2/ 558- 559) برقم (5286- 5287- 5308) عن مجاهد برقم (5304) عن ابن عباس. وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 219) عن ابن عباس. وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 320) . والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 521) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. (4) أخرجه الطبري (2/ 560- 563) بأرقام (5317- 5363) عن علي وشريح. وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 219) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 321) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 521) . وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في «الأوسط» ، والبيهقي بسند حسن، عن ابن عمرو، عن النبي صلّى الله عليه وسلم ... وعزاه لوكيع، وسفيان، والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والبيهقي، عن علي بن أبي طالب. وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي من طرق عن ابن عباس.

[سورة البقرة (2) : الآيات 238 إلى 239]

المَهْر، ثم خاطب تعالَى الجميعَ نادباً بقوله: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، أي: يا جميعَ الناسِ، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ. وغيره: «وَلاَ تَنَاسَوا الفَضْلَ» ، وهي قراءةٌ متمكِّنة المعنى «1» لأنه موضع تناسٍ، لا نسيان إِلا على التشْبيه. وقوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ: ندْبٌ إِلى المجاملة. وقوله: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَبَرٌ، وضمنه الوَعْد للمحسِنِ والحِرْمان لغير المحسن. [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ... الآية: الْخِطابُ لجميع الأمة، والآية أَمْر بالمحافظةِ عَلَى إِقامة الصَّلوات في أوقاتها، وبجميع شروطها، وخرَّج الطحاويُّ «2» عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيُّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةُ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ تعالى وَيَدْعُوهُ، حتى صَارَتْ وَاحِدَةً، فامتلأ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَاراً، فَلَمَّا ارتفع عَنْهُ، أَفَاقَ، فَقَالَ: عَلاَمَ جَلَدتَّنِي؟ قَالَ: إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلاَةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، ومَرَرْتَ على مَظْلُومٍ، فَلَمْ تَنْصُرْهُ» «3» . انتهى من «التذْكِرَة» للقرطبيِّ «4» . وفي الحديثِ: «أنَّ الصَّلاَةَ ثَلاَثَةُ أَثْلاَثٍ الطُّهُورُ ثُلُثٌ، وَالرُّكُوعُ ثلث، والسّجود ثلث،

_ (1) ينظر: «المحتسب» (1/ 127) ، و «مختصر الشواذ» (ص 22) . وزاد ابن عطية نسبتها إلى مجاهد وأبي حيوة، وابن أبي عبلة. ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 322) ، و «البحر المحيط» (2/ 247) ، و «الدر المصون» (1/ 588) . (2) أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي، الطحاوي، أبو جعفر: فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية ب «مصر» ، ولد ونشأ في «طحا» من صعيد مصر 239 هـ، وتفقه على مذهب الشافعي ثم تحول حنفيا. وتوفي ب «القاهرة» 321 هـ وهو ابن أخت المزني. من تصانيفه: «شرح معاني الآثار» ، و «بيان السنة» ، و «الشفعة» ، و «المحاضر والسجلات» ، و «مشكل الآثار» ، وأحكام القرآن» ، و «المختصر» في الفقه، وشرحه كثيرون. ينظر: «الأعلام» (1/ 206) ، «البداية والنهاية» (11/ 174) ، «لسان الميزان» (1/ 274) ، «اللباب» (2/ 82) . (3) أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 231) ، وقال الطحاوي: في هذا الحديث ما يدلّ على أن تارك الصلاة ليس بكافر لأن من صلى صلاة بغير طهور فلم يصل، وقد أجيبت دعوته، ولو كان كافرا ما أجيبت له دعوة لأن الله (تبارك وتعالى) يقول: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. (4) ينظر: «التذكرة» (1/ 195) .

فَمَنْ أَدَّاهَا بِحَقِّهَا، قُبِلَتْ مِنْهُ، وَقُبِلَ مِنْهُ، وَقُبِلَ مِنْهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَمَنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ صَلاَتُهُ، رُدَّ عَلَيْهِ سَائِرُ عَمَلِهِ» رواه النَّسَائِيّ «1» . انتهى من «الكوكب الدَّرِّيِّ» . وروى مالكٌ في «الموطَّإ» ، عن يَحْيَى بْنِ سعيدٍ «2» أنه قال: «بلَغَنِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ عَمَلِ العَبْدِ الصَّلاَةُ، فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ، نُظِرَ فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه، لم ينظر في شيء من عمله» «3» . قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» : وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مسنَداً عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم مِنْ وجوهٍ صِحَاحٍ، ثم أسند أبو عمر عن أنَسِ بنِ حكيمٍ الضَّبِّيِّ «4» ، قال: قَالَ لِي أبو هُرَيْرة: إِذا أَتَيْتَ أَهْلَ مِصْرِكَ، فأخبرهم أنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ المُسْلِمُ صَلاَةُ المَكْتُوبَةِ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلاَّ قِيلَ: انظروا، هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ، أُكْمِلَتِ الفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ يُفْعَلُ بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» «5» ،

_ (1) أخرجه البزار (1/ 177- كشف) رقم (349) ، من طريق المغيرة بن مسلم، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. وقال البزار: لا نعلمه مرفوعا إلا عن المغيرة، وإنما نحفظه عن أبي صالح عن كعب قوله. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 150) : المغيرة ثقة، وإسناده حسن. (2) يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري، النّجّاري، قاضي المدينة. عن أنس، وابن المسيّب، والقاسم، وعراك بن مالك وخلق. وعنه الزهري، والأوزاعي، ومالك، والسفيانان، والحمّادان، والجريران وأمم. قال ابن المديني: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال ابن سعد: ثقة، حجة، كثير الحديث، وقال أبو حاتم: يوازي الزهري في الكثرة. وقال أحمد: يحيى بن سعيد أثبت الناس. قال القطان: مات سنة ثلاث وأربعين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 149) . (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 173) ، كتاب «قصر الصلاة في السفر» ، باب جامع الصلاة، حديث (89) . (4) أنس بن حكيم الضّبّي، البصري. عن أبي هريرة. وعنه الحسن، وعلي بن زيد. ينظر: «الخلاصة» (1/ 104) . (5) أخرجه أبو داود (1/ 290- 291) ، كتاب «الصلاة» ، باب كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه، حديث (864) . وأحمد (2/ 425) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 33) ، والحاكم (1/ 262) ، من طريق الحسن، عن أنس بن حكيم الضبي، عن أبي هريرة به. وأخرجه ابن ماجة (1/ 458) ، كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة، حديث (1450) ، من طريق علي بن زيد، عن أنس بن حكيم الضبي، عن أبي هريرة به. وأخرجه أبو داود (1/ 291) ، كتاب «الصلاة» ، باب كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه، حديث (865) . والحاكم (1/ 263) ، والبخاري في «التاريخ» (2/ 34) ، من طريق حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن رجل من بني سليط عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (2/ 269- 270) ، كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم-

وفي رواية تميم الدّاريّ «1» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال: «ثُمَّ الزَّكَاةُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ على حَسَبِ ذَلِكَ» «2» . انتهى. وذكَرَ اللَّه سبحانه الصَّلاةَ الوسطى ثانيةً، وقد دَخَلَتْ قَبْلُ في عموم قوله: «الصَّلَوَاتِ» لأنه أراد تشريفَهَا. واختلف النَّاس في تعيينها. فقال عليٌّ، وابن عبَّاسٍ، وجماعة من الصَّحابة: إِنها صلاةُ الصُّبْح «3» ، وهو قول مالكٍ، وقالتْ فرقةٌ: هي الظُّهْر، وورد فيه حديث، وقالت فرقة: هي صلاة العصر، وفي

_ - القيامة الصلاة، حديث (413) . والنسائي (1/ 232) ، كتاب «الصلاة» ، باب المحاسبة على الصلاة، كلاهما من طريق قتادة، عن الحسن، عن حريث بن قبيصة، عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، عن أبي هريرة. اه. وقد روى هذا الحديث الحسن عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود الطيالسي (1/ 68- منحة) رقم (264) ، وأبو يعلى (11/ 96) رقم (6225) ، من طريق الحسن، عن أبي هريرة. قال البخاري في «التاريخ» (2/ 35) ، ولا يصح سماع الحسن من أبي هريرة في هذا. وقد وصف الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (1/ 374) هذا الحديث بالاضطراب. وصححه الألباني بطرقه في «الصحيحة» (1358) . (1) هو: تميم بن أوس بن حارثة أبو رقية. الداري. قال ابن حجر في «الإصابة» : مشهور في الصحابة، وكان نصرانيّا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي قصة الجساسة والدجال، فحدث النبي عنه بذلك على المنبر، وعد ذلك من مناقبه. وقال أبو نعيم. كان راهب أهل عصره، وعابد أهل «فلسطين» ، وهو أول من أسرج السراج في المسجد. وقال ابن إسحاق: قدم «المدينة» وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم. ينطر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 256) ، «الإصابة» (1/ 191) ، «الثقات» (3/ 39) ، «الجرح والتعديل» (2/ 440) ، «تقريب التهذيب» (1/ 113) ، «سير أعلام النبلاء» (2/ 442) ، «جمهرة أنساب العرب» (422) ، (454) ، «المتفردات والوحدان» (62) ، «مشاهير علماء الأمصار» (52) ، «الجمع بين رجال الصحيحين» (64) ، «تسمية من أخرج لهم البخاري ومسلم» (22) ، «التاريخ لابن معين» (17) . (2) أخرجه أبو داود (1/ 291) ، كتاب «الصلاة» ، باب كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه، حديث (866) ، وابن ماجة (1/ 458) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة، حديث (1426) . وأحمد (4/ 103) . والدارمي (1/ 313) ، كتاب «الصلاة» ، باب أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة، والحاكم (1/ 262) ، والطبراني في «الأوائل» رقم (23) . كلهم من طريق داود بن أبي هند، عن زرارة بن أوفى، عن تميم الداري مرفوعا. [.....] (3) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 309) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (1/ 220) ، وابن عطية الأندلسي في «تفسيره» (1/ 322) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 534) .

مُصْحَف عائشةَ «1» ، وإِملاء حَفْصَة: «صَلاَةِ العَصْرِ» وعلى هذا القول جمهورُ العلماءِ، وبه أقولُ. وقال قَبِيصَةُ بن ذُوَيْبٍ «2» : هي صلاة المَغْرِب «3» ، وحكى أبو عمر بن عبد البَرِّ عن فرقة أنها صلاة العشَاءِ الآخِرَةِ، وقالتْ فرقة: الصلاة الوسطى لم يعيِّنها اللَّه سبْحانه، فهي في جملة الخَمْس غير معيَّنة كليلة القَدْر، وقالت فرقة: هي صلاة الجمعة، وقال بعض 60 ب العلماء: هي الخَمْس، وقوله أولاً: عَلَى الصَّلَواتِ يعم النفْلَ/، والفَرْض، ثم خَصْ الفرْضَ بالذِّكْر. وقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ معناه في صلاتِكُمْ. واختلف في معنى قانِتِينَ. فقال الشَّعْبِيُّ وغيره: معناه مطيعين «4» ، قال الضَّحَّاك: كل قُنُوتٍ في القرآن، فإِنما يعنى به الطاعة «5» ، وقاله أبو سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقال ابْنُ مسعودٍ وغيره: القُنُوت: السُّكُوت «6» وذلك أنهم كانوا يتكلَّمون في الصلاة حتى نزلَتْ هذه الآيةُ، فأمروا بالسُّكُوت، وقال مجاهد: معنى قانِتِينَ خاشِعِينَ،، فالقنوتُ: طُولُ الركوعِ والخشوعِ، وغضُّ البصر، وخَفْضُ الجَنَاح «7» ، قال ع «8» : وإِحضارُ الخَشْية، والفكر في الوقوف

_ (1) وفي مختصر ابن خالويه: «وصلاة العصر» بزيادة واو، ونسبها إلى عائشة، وابن عباس، وجماعة. «مختصر الشواذ» (ص 22) . وينظر: «الكشاف» (1/ 287) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 322- 323) ، و «البحر المحيط» (1/ 249) ، وزاد نسبتها إلى أبي، وعبيد بن عمير. (2) قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه، وأبي هريرة، وعنه الزّهري، ورجاء بن حيوة وغيره. وثقه ابن حبان، قال عمرو بن علي: مات سنة ست وثمانين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 349) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 579) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 542) ، وعزاه لابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس. (4) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 221) . (5) أخرجه الطبري (5/ 229) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 323) . (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 585) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 238) . (7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 585) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 310) والبغوي في «معالم التنزيل» (1/ 221) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، (1/ 544) . (8) «المحرر الوجيز» (1/ 324) .

بين يَدَيِ اللَّه سبحَانَه، وقال الرَّبِيعُ: القنوتُ: طولُ القيَامِ، وطولُ الرُّكُوعَ «1» . وقال قومٌ: القنوتُ: الدعاء، وقانِتِينَ: معناه دَاعِينَ، روي معناه عن ابن عَبَّاس «2» . وقول تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً ... الآية، أمر اللَّه تعالى بالقيامِ له في الصلاة بحالة قُنُوت، وهو الوقار والسَّكينة، وهدوء الجوارحِ، وهذا على الحالة الغالبَةِ من الأمْن والطُّمأْنينة، ثم ذكر تعالى حالة الخَوْف الطارئَة أحيانا، فرخّص لعبيده في الصّلاة فَرِجالًا: متصرّفين على الأقدام، ورُكْباناً: على الخَيْل والإِبل ونحوهما إِيماء، وإِشارة بالرأس حيث ما توجَّه، هذا قول جميع العلماءِ، وهذه هي صلاة الفَذِّ الذي قد ضايقه الخَوْفُ على نَفْسه في حال المسايفة، أو مِنْ سَبُعٍ يطلبه، أو عدو يتبعه، أو سَيْلٍ يحملُه، وبالجملة فكلُّ أمرْ يخافُ منْه على رُوحِهِ، فهو مبيحٌ ما تضمَّنته هذه الآية. وأما صَلاَةُ الخَوْف بالإِمام، وانقسام النَّاس، فليس حكْمُها في هذه الآية، وسيأتي، إِن شاء اللَّه، في «سورة النساء» «3» . والرُّكْبَان: جمع رَاكِبٍ «4» ، وهذه الرخْصَة في ضِمنها بإِجماعٍ من العلماء: أن يكون الإنسان حيثُ ما توجَّه ويتقلَّب ويتصرَّف بحسب نَظَره في نجاة نَفْسِهِ. ت: وروى أبو داودَ في «سُنَنِهِ» ، عن عبد اللَّه بن أُنَيْسٍ «5» ، قال: «بَعَثَنِي رَسُولُ

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 239) . (2) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 310) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 324) . (3) في تفسير الآية (101) ، (102) . (4) ينظر: «لسان العرب» (1712) ، و «عمدة الحفاظ» (2/ 121) . (5) عبد الله بن أنيس بن أسعد بن حرام بن خبيب بن مالك بن غنم بن كعب بن تيم، أبو يحيى الجهني. القضاعي. الأنصاري. السّلمي. قال ابن الأثير: كان مهاجرا، أنصاريا، عصبيا، شهد بدرا وأحدا وما بعدهما. روى عنه أولاده: عطية، وعمرو، وضمرة، وعبد الله، وجابر بن عبد الله، وبسر بن سعيد. هو الذي سأل رسول الله عن ليلة القدر وقال: إني شاسع الدار، فمرني بليلة أنزل لها قال: «انزل ليلة ثلاث وعشرين» وهو أحد الذين كانوا يكسرون أصنام بني سلمة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 179) ، «الإصابة» (4/ 37) ، «الثقات» (3/ 234) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 298) ، «الاستيعاب» (3/ 869) ، «الاستبصار» (137) ، «شذرات الذهب» (1/ 60) ، «حلية الأولياء» (2/ 5) ، «عنوان النجابة» (117) ، «تقريب التهذيب» (1/ 402) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 149) ، «تهذيب الكمال» (2/ 666) ، «بقي بن مخلد» (113) ، «الوافي بالوفيات» (17/ 76) ، «الكاشف» (2/ 73) ، «رياض النفوس» (1/ 45) ، «الجرح والتعديل» (5/ 1) ، «التاريخ الكبير» (3/ 14) . [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 240 إلى 242]

الله صلّى الله عليه وسلم إلى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ، وَكَانَ نَحْوَ عُرَنَةَ وَعَرَفَاتٍ، قَالَ: «اذهب فاقتله» ، فَرَأَيْتُهُ وَقَدْ حَضَرْتُ صَلاَةَ العَصْرِ، فَقُلْتُ: إِنِّي لأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ، فانطلقت أَمْشِيَ وأنا أصلّي أومئ إِيمَاءً نَحْوَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ، قَالَ لِي: «مَنْ أَنْتَ» ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَجْمَعُ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجِئْتُكَ فِي ذَلِكَ، قَالَ: إِنِّي لَفِي ذَلِكَ، فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً حتى إِذَا أَمْكَنَنِي عَلَوْتُهُ بِسَيْفِي حتى بَرَدَ» «1» . انتهى، وقد ترْجَم عليه «بَابٌ فِي صَلاَةِ الطَّالِبِ» . قال ع «2» : واختلف النَّاس، كَمْ يصلِّي من الركعات؟ والذي عليه مالكٌ وجماعةٌ: أنه لا ينقصُ من عدد الركعاتِ شيئاً، فيصلِّي المسافر ركعتَيْن. واختلف المتأوِّلون في قوله سبحانه: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ... الآية: فقالَتْ فرقةٌ: المعنى: إِذا زال خَوْفُكُم، فاذكروا اللَّه سبحانه بالشُّكْر على هذه النعمة، وقالتْ فرقة: اذكروا اللَّه، أي: صَلُّوا كما علمتم صلاةً تامَّة، يعني فيما يستقبل من الصّلوات. [سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ 60 ب غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ/ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: الَّذِينَ: رَفْعٌ بالاِبتداء، وخبره مضمرٌ، تقديره: فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم، وفي قراءة ابن مسعود «3» : كُتِبَ عليكُمْ وصيَّةً، قالت فرقة: كانَتْ هذه وصيَّةً من اللَّه تعالى تَجِبُ بعد وفاة الزوْجِ، قال قتادة: كانتِ المرأةُ إِذا تُوُفِّيَ عنها زوجُها، لها السكنى والنفقة حولاً في مال الزَّوْج، ما لم تخرجْ برأْيها «4» ، ثم نُسِخَ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثّمن

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 401) كتاب «الصلاة» ، باب صلاة الطالب، حديث (1249) . وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى أبي داود. (2) «المحرر الوجيز» (1/ 325) . (3) وهي في «مختصر شواذ ابن خالويه» ص (22) هكذا: كتب عليكم الوصية لأزواجكم. وينظر: «الكشاف» (1/ 289) . وحكاها ابن عطية في «المحرر» (1/ 326) : الوصية لأزواجهم. (4) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 326) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 إلى 245]

الَّذِي في «سورة النساءِ» «1» ، ونسخ سكنى الحَوْل بالأربعة الأشْهُر والعَشْر «2» ، وقاله ابن عَبَّاس وغيره «3» : ومَتاعاً نصْب على المَصْدر، وقوله تعالى: غَيْرَ إِخْراجٍ: معناه: ليس لأولياء الميِّت، ووارثي المنزلِ إِخراجها، وقوله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ ... الآية: معناه: إِنَّ الخروجَ، إِذا كان من قبل الزوجة، فلا جُنَاح على أحدٍ وليٍّ أو حاكمٍ، أو غيره فيما فعلْنَ في أنفسِهِنَّ من تزويجٍ وتزيُّن، وترك إِحداد، إِذا كان ذلك من المعروف الَّذي لا يُنْكَر، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: صفةٌ تقتضي الوعيدَ بالنِّقْمة لمن خالف الحَدَّ في هذه النازلة، وهذا كلُّه قد زال حكمه بالنَّسْخ المتَّفَقِ عليه. وقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: قال عطاء بْنُ أبي رَبَاحٍ وغيره: هذه الآية في الثَّيِّبَاتِ اللواتي قد جُومِعْنَ «4» إِذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكْر المتعة لِلَّواتي لم يُدْخَلْ بهنَّ. وقال ابنُ زَيْد: هذه الآية نزلَتْ مؤكِّدة لأمر المتعة لأنه نزل قبل حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236] ، فقال رجُلٌ: فإِنْ لم أُرِدْ أُحْسِنَ، لم أمتِّع، فنزلَتْ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. قال الطبريُّ: فوجب ذلك عليهم «5» . [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ... الآية: هذه رؤية القَلْب بمعنى: ألم تَعْلَمْ، وقصَّة هؤلاء فيما قال الضَّحَّاك أنهم قوم من بني إِسرائيل أُمِرُوا بالجهَادِ، فخافوا الموْتَ بالقَتْل في الجهادِ، فخرجوا من ديارهم فِرَاراً من ذلك، فأماتهم اللَّه ليعرِّفهم أنه لا يُنْجِيهِمْ من الموت شيْء،

_ (1) آية (12) . (2) آية (234) من سورة البقرة. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 326) . (4) ذكره الطبري (2/ 598) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 327) . (5) ذكره الطبري في «تفسيره» (2/ 599) .

ثم أحياهم، وأمرهم بالجهادِ، بقوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية «1» . وروى ابن جريج عن ابن عبَّاس أنهم كانوا من بني إِسرائيل، وأنهم كانوا أربعينَ ألفاً، وثمانيةَ آلاف، وأنهم أُميتوا، ثم أُحْيُوا، وبقيتِ الرائحَةُ على ذلك السِّبْط من بني إِسرائيل إِلى اليَوْم، فأمرهم اللَّه بالجهَادِ ثانيةً، فذلك قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» . قال ع «3» : وهذا القَصَصُ كلُّه ليِّن الإِسناد، وإِنما اللازم من الآية أنَّ الله تعالى أخبر نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلم إِخباراً في عبارة التنْبيه، والتوقيفِ عنْ قَوْم من البَشَر خَرَجوا من ديارهم فراراً من المَوْت، فأماتهم اللَّه، ثم أحياهم ليعلموا هم وكلُّ من خَلَفَ بعدهم أن الإِماتة إِنما هي بإِذْنِ اللَّه لا بيَدِ غَيْره، فلا معنى لخوفِ خائفٍ، وجعل اللَّه تعالى هذه الآية مقدِّمة بين يدَيْ أمره المؤمنين من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم بالجهادِ، هذا قول الطَّبري «4» ، وهو ظاهرُ رَصْف الآية. والجمهورُ على أنَّ أُلُوفٌ جمعُ أَلْفٍ، وهو جمعُ كَثرة «5» ، وقال ابن زَيْد في لفظة أُلُوفٌ: إنما معناها، وهم مؤتلفون «6» . 61 أوقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ... الآية: تنبيهٌ على فضله سبحانه على هؤلاء القَوْم الذين تفضَّل عليهم بالنعم، وأمرهم بالجهاد، وألاَّ يجعلوا الحَوْل والقُوَّة إِلا له سبحانه حَسْبما أمر جميع العالم بذلك، فلم يشكروا نعمته في جميعِ هذا، بل استبدُّوا وظَنُّوا أنَّ حولَهُمْ وسعْيَهم ينجِّيهم، وهذه الآيةُ تَحْذيرٌ لسائر النَّاسِ مِنْ مثل هذا الفعْلِ، أي: فيجب أنْ يشكر النَّاسُ فضْلَه سبحانه في إِيجاده لهم، ورزْقِهِ إِياهم، وهدايتِهِ بالأوامر والنواهِي، فيكون منهم المبادرة إلى امتثالها، لا

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 327) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 602) برقم (5608) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 328) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 553) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 328) . (4) ينظر: «جامع البيان» (5/ 278) . (5) هو أحد قسمي جمع التكسير، والآخر هو جمع القلة، فأما جمع القلة فيصدق على الثلاثة إلى العشرة، وأما جمع الكثرة فيدل على أحد عشر فما فوق، ولكل من النوعين صيغ فلجمع القلة أربع صيغ، ولجمع الكثرة ثلاثة وعشرون بناء. ينظر: «معجم المصطلحات النحوية والصرفية» (ص 51) . [.....] (6) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 328) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 553) .

طَلَبُ الخُرُوج عنْها، وفي تَخْصِيصه تعالى: «الأَكْثَر» دلالةٌ على أنَّ الأقلَّ الشَّاكِر. وقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية: الجمهورُ أن هذه الآية مخاطبة لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم بالقتالِ في سبيلِ اللَّهِ، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمةُ اللَّه هي العليا حَسَب الحديث «1» . وقال ابن عَبَّاس، والضَّحَّاك: الأمْرُ بالقتال هو لِلَّذينَ أُحْيُوا من بني إسرائيل «2» ، قال الطبريُّ «3» : ولا وجه لهذا القَوْل، ثم قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ... الآية، فدخل في ذلك المقاتلُ في سبيل اللَّه، فإِنه يقرض رَجَاء ثوابِ اللَّهِ كما فعل عثمانُ في جَيْش العُسْرة، ويروى أنَّ هذه الآية، لَمَّا نزلَتْ، قال أبو الدَّحْدَاحِ «4» : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا القَرْضَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ» ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُهُ حَائِطِي لِحَائِطٍ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، ثُمَّ جَاءَ الحَائِطَ، وَفِيهِ أُمُّ الدّحداح «5» ، فقال: اخرجي، فإنّي قد أقرضت

_ (1) أخرجه البخاري في العلم (1/ 268) باب من سأل وهو قائم عالما جالسا (123) ، و (6/ 33) في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2810) (6/ 260) في فرض الخمس (3126) ، و (13/ 450) في التوحيد: باب وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (7458) ، ومسلم (3/ 1512- 1513) في الإمارة: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (149- 151/ 1904) وأبو داود (1/ 18) في الجهاد باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2517- 2518) والترمذي (4/ 154) في فضائل الجهاد: باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا (1646) ، والنسائي (6/ 23) في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وابن ماجة (2/ 931) في الجهاد: باب النية في القتال (2783) ، وأحمد (4/ 392، 397، 402، 405، 417) ، والطيالسي (1/ 233) برقم (1135) ، وأبو يعلى (7253) ، والبيهقي (9/ 167، 168) من طرق عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلّا أنه كان قائما، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله عز وجل» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 329) . (3) ينظر: «جامع البيان» (5/ 281) . (4) أبو الدّحداح الأنصاري: حليف لهم. قال أبو عمر: لم أقف على اسمه ولا نسبه، أكثر من أنه من الأنصار حليف لهم، وقال البغويّ: أبو الدحداح الأنصاري، ولم يزد. ينظر: «الإصابة» (7/ 100) . (5) أمّ الدّحداح، زوج أبي الدحداح. لها ذكر في حديث أبي الدحداح، وصدقته بالحائط الذي فيه النخل. فقال: يا أم الدحداح، اخرجي، يعني: من الحائط، ذكره الأشيري. ينظر: «أسد الغابة» (7/ 316) .

رَبِّي حَائِطِي هَذَا، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُذَلَّلٍ لأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الجَنَّةِ «1» . واستدعاء القَرْض في هذه الآية وغيرها إنما هو تأنيسٌ وتقريبٌ للأفهام، واللَّه هو الغنيُّ الحميدُ. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «2» وكَنَى اللَّه عزَّ وجلَّ عن الفقيرِ بنَفْسه العليَّة ترغيباً في الصَّدَقة كما كنى عن المريضِ، والجائِعِ، والعاطشِ بنفسه المقدَّسة فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ، فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَناً مَرِضَ، فلم تعده، أما علمت أنّك لوعدتّه، لَوَجَدتَّنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ، استطعمتك، فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ استطعمك عَبْدِي فُلاَنٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ، لَوَجَدتَّ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ، استسقيتك، فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: استسقاك عَبْدِي فُلاَنٌ، فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَه، وَجَدتَّ ذَلِكَ عِنْدِي» . انتهى، واللفظ لصحيح مسلم «3» ، قال ابنُ العَرَبِيِّ «4» : وهذا كلُّه خرَجَ مَخْرَجَ التشريفِ لمَنْ كُنِيَ عنه، وترغيباً لمن خوطب انتهى.

_ (1) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 97- 98) ، وعنه الطبري (5618) ، عن معمر عن زيد بن أسلم قال: لمَّا نزلَتْ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً، قال: جاء أبو الدحداح ... وقال الشيخ شاكر: هذا حديث مرسل فهو ضعيف الإسناد لأن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر من حدثه من الصحابة. وأخرجه الطبري في «تفسيره» (5620) ، وأبو يعلى (4986) ، عن خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لمَّا نزلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، قال أبو الدحداح: ... » ، فذكره بنحوه. وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 554- 555) ، وزاد فعزاه لسعيد بن منصور، وابن سعد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، والطبراني، والبيهقي في «الشعب» . ولم يعزه لأبي يعلى. وقال الشيخ شاكر: هذا إسناد ضعيف جدا ... فالبلاء في هذه الرواية من حميد الأعرج. (2) ينظر «أحكام القرآن» (1/ 230) . (3) أخرجه مسلم (4/ 1990) في البر والصلة: باب فضل عيادة المريض (43/ 2569) ، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله (عز وجل) يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني.....» فذكره. (4) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 230) .

وقوله: حَسَناً: معناه: تَطِيبُ فيه النية، ويشبه أيضاً أنْ تكون إِشارة إِلى كثرته وجَوْدته. وهذه الأضعاف الكثيرةُ إِلى السَّبْعِمِائَةِ التي رُوِيَتْ، ويعطيها مثالُ السُّنْبُلة. ت: والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه وجوبُ الإِيمان بما ذكر المولى سبحانه، ولا سبيل إِلى التحديد إِلاَّ أنْ يثبتَ في ذلك حديثٌ صحيحٌ/، فيصار إِليه، وقد بيّن ذلك صلّى الله عليه وسلم 61 ب فيما خرَّجه مُسْلِم، والبُخاريُّ، انظره عند قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة: 261] . قال ع: رُوِيَ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُسَعِّر بِسَبَبِ غَلاَءٍ خِيفَ عَلَى المَدِينَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ البَاسِطُ القَابِضُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ، وَلاَ يَتْبَعْنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ فِي نَفْسٍ وَلاَ مَالٍ» «1» ، قال صاحب «سِلاحِ المؤمن» عند شَرْحه لاسمه تعالَى «القَابِضِ البَاسِطِ» : قال بعْضُ العلماءِ: يجبُ أن يُقْرَنَ بيْنَ هذَيْن الاسمين، ولا يفصل بينهما ليكون أنبأَ عن القُدْرة، وأدلَّ على الحكمة كقوله تعالى: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، وإِذا قلْتَ: «القَابِض» مفرداً، فكأنَّك قَصَرْتَ بالصفة على المنع والحرْمان، وإِذا جمعْتَ أَثْبَتَّ الصفتين وكذلك القولُ في الخافضِ والرافعِ والمُعِزِّ والمُذِلِّ. انتهى، وما ذكره عن بعض العلماءِ، هو كلامُ الإِمام الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه الحسنى، ولفظه: القابض والباسط: الأحسن

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 293) ، كتاب «البيوع» ، باب في التسعير، حديث (3450) ، والبغوي في «شرح السنة» (4/ 331- بتحقيقنا) ، وأحمد (2/ 337) ، من طريق العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عن أبِيهِ، عن أبي هريرة «أن رجلا جاء فقال: يا رسول الله سعر، فقال: بل ادعو، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقى الله، وليس لأحد عندي مظلمة» . وللحديث شاهد قوي من حديث أنس بن مالك. أخرجه أبو داود (2/ 293- 294) كتاب «البيوع» ، باب في التسعير، حديث (3451) ، والترمذي (3/ 605- 606) كتاب «البيوع» ، باب ما جاء في التسعير، حديث (1314) ، والدارمي (2/ 249) كتاب «البيوع» ، باب في النهي أن يسعر في المسلمين، وأحمد (3/ 286) ، والبيهقي (6/ 29) كتاب «البيوع» ، باب التسعير، كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، وثابت، وحميد عن أنس قال: غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقالوا: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: «إنّ الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة بدم ولا مال» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو يعلى (5/ 245) رقم (2861) ، من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، وثابت، وحميد عن أنس به. وأخرجه أحمد (3/ 156) ، من طريق حماد، عن قتادة، عن ثابت، عن أنس. وأخرجه أبو يعلى (5/ 160) رقم (2774) ، من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس به.

[سورة البقرة (2) : الآيات 246 إلى 248]

في هذين الاِسمَيْن أنْ يقْرَنَ أحدهما في الذِّكْر بالآخر ليكون ذلك أدلَّ على القدرة والحكمةِ ولهذا السببِ قال اللَّه تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وإذا ذكرت «القابضَ» منْفرداً عن «البَاسِطِ» ، كنْتَ قد وصفته بالمَنْع والحرمانِ، وذلك غير جائز، وقوله: «المُعِزُّ المُذِلّ» ، وقد عرفْتَ أنه يجبُ في أَمثالِ هذَيْن ذكْرُ كل واحد منهما مع الآخر. انتهى. [سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 248] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ... الآية: هذه الآية خَبَرٌ عن قوم من بني إِسرائيل نالتهم ذِلَّةٌ وغَلَبة عَدُوٍّ فطلبوا الإِذن في الجِهَاد، وأن يؤمروا به، فلمّا أمروا، كعّ أكثرهم «1» ، وصبر الأقلُّ، فنصرهم اللَّه، وفي هذا كلِّه مثالٌ للمؤمنين ليحذروا المَكْرُوه منْه ويقتدوا بالحسن. والْمَلَإِ: في هذه الآية جميعُ القَوْم لأن المعنى يقتضيه، وهو أصل اللفظة، ويسمى الأشرافُ «المَلأَ» تشبيها، ومِنْ بَعْدِ مُوسى: معناه: مِنْ بعد موته، وانقضاء مدَّته. وقوله تعالى: لِنَبِيٍّ لَهُمُ، قال ابن إِسحاق وغيره: هو شمويلُ بْن بَابِل «2» . وقال السدِّيُّ: هو شَمْعُونُ «3» ، وكانت بنو إِسرائيل تغلِبُ من حاربها، وروي أنها

_ (1) أي: نكصوا على أعقابهم. ينظر: «لسان العرب» (3891) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 610) برقم (5630) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 330) . (3) أخرجه الطبري (2/ 610) برقم (5630) ، وذكره البغوي في «تفسيره» «معالم التنزيل» (1/ 226) ، وينظر «المحرر الوجيز» لابن عطية (1/ 330) ، و «النكت والعيون» للماوردي (1/ 314) . [.....]

كانت تَضَعُ التابوتَ الذي فيه السكينةِ والبقيَّة في مَأْزِقِ الحرب، فلا تزال تَغْلِبُ حتى عصَتْ، وظهرتْ فيهم الأحداث، وخالف ملوكهم الأنبياء، واتَّبعوا الشَّهوات، وقد كان اللَّه تعالى أقام أمورهم بأنْ يكون أنبياؤهم يسدِّدون ملوكهم، فلما فعلوا ما ذكرناه، سلَّط اللَّه عليهم أُمماً من الكَفَرة، فغلَبُوهم، وأُخِذَ لهم التابوتُ في بعض الحُرُوب، فذلّ أمرهم. وقال السُّدِّيُّ: كان الغالبُ لهم «جَالُوتَ» ، وهو من العمالقة، فلما رأوا أنه الاِصطلامُ، وذَهَابُ الذِّكْرِ، أَنِفَ بعضُهمْ وتكلَّموا في أمرهم «1» حتى اجتمع ملأهم على أنْ قالوا لنبيِّ الوَقْتِ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً ... الآية، وإِنما طلبوا مَلِكاً يقوم بأمر القتَال، وكانت المَمْلَكَة في سِبْطٍ من أسباط بني إِسرائيل يقال لهم: بَنُو يَهُوذا، فعلم النبيُّ بالوحْي، أنه ليس في بيْتِ المَمْلَكَة من يقوم بأمر الحَرْب، ويسَّر اللَّه لذلك طَالُوت، وقرأ جمهور النَّاسِ: «نُقَاتِلْ» بالنون وجزم اللام على جواب الأمر، وأراد النبيُّ المذكور- عليه السلام- أن يتوثَّق منهم، فوقفهم على جهة/ التّقرير، وسبر ما عندهم بقوله: 62 أهَلْ عَسَيْتُمْ، ومعنى هذه المقالةِ، هل أنتم قريبٌ من التولِّي والفرار، إِن كُتِبَ عليكم القِتَالُ. ص: لِنَبِيٍّ متعلِّق ب قالُوا، واللامُ معناها: التبليغُ. انتهى. ثم أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتالَ، تولَّوْا، أي: اضطربت نياتهم، وفَتَرت عزائمهم، إلا قليلاً منهم، وهذا شأن الأمم المتنعِّمة المائلَة إِلى الدَّعَة تتمنَّى الحرب أوقاتِ السَّعَة، فإِذا حَضَرت الحَرْب، كَعَّتْ، وعن هذا المعنى نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدْوِّ، واسألوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ، فاثبتوا» «2» . ثم توعَّد سبحانه الظالمينَ في لَفْظ الخبر بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وقوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ... الآية: قال وهب بن منبّه «3» :

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 330) . (2) أخرجه البخاري (6/ 120) ، كتاب «الجهاد» ، باب كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل، حديث (2966) . ومسلم (3/ 1362- 1363) ، كتاب «الجهاد» ، باب كراهة تمني لقاء العدو، حديث (20/ 1742) . (3) وهب بن منبّه بن كامل، الأبناوي، الصّنعاني، أبو عبد الله الأخباري، عن ابن عباس، وجابر، وأبي سعيد، وطائفة، وعنه سماك بن الفضل، وهمّام بن نافع، وخلق. وثقه النسائي، قال مسلم بن خالد: لبث وهب أربعين سنة لم يرقد على فراشه، قتله يوسف بن عمر سنة عشر ومائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 138) .

وكان طالوتُ رجلاً دبَّاغاً «1» ، وقال السُّدِّيُّ: سَقَّاءً «2» ، وكان من سِبْط «بِنْيَامِينَ» ، وكان سبطاً لا نبوَّةَ فيه، ولا ملكَ، ثم إِن بني إِسرائيل تعنَّتوا، وحادُوا عن أمر اللَّه، وجَرَوْا على سَنَنِهِمْ، فقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ، أي: لم يؤت مالاً واسعاً، يجمع به نفوسَ الرجالِ، ويَغْلِبُ به أهْل الأَنَفَةِ. قال ع «3» : وترك القَوْمُ السَّببَ الأقوى، وهو قَدَرُ اللَّه وقضاؤُه السَّابقُ، وأنه مالكُ الملكِ فاحتج عليهم نبيُّهم بالحُجَّة القاطعة، وبيَّن لهم مع ذلك تعليلَ اصطفاء طالوتَ ببَسْطَته في العِلْمِ، وهو مِلاَكُ الإِنسان، والجِسْمِ الذي هو مُعِينُهُ في الحرب، وعُدَّتُهُ عند اللقاء، و «اصطفى» : مأخوذٌ من الصَّفْوة، والجمهورُ على أنَّ العلْم في هذه الآية يرادُ به العمومُ في المعارف، وقيل: المرادُ عِلْمُ الحرب، وأما جِسْمُهُ، فقال وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ: إِن أطْولَ رجُلٍ في بني إِسرائيل كان يَبْلُغ مَنْكِبَ طالوت «4» . ت: قال أبو عُبَيْد الهَرَوِيُّ: قوله: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، أي: انبساطا وتوسُّعاً في العلْم، وطولاً وتماماً في الجسم. انتهى من شرحه لِغَرِيبَيِ القُرآن وأحاديثِ النبيِّ عليه السلام. ولما علم نبيُّهم- عليه السلام- تعنُّتهم وجدالَهم، تمَّم كلامه بالقَطْع الذي لا اعتراض عليه، وهو قوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ، وظاهر اللفظ أنه من قول نبيِّهم- عليه السلام-، وذهب بعض المتأوِّلين إِلى أنَّه من قول اللَّه تعالى لمحمّد صلّى الله عليه وسلم، والأول أظهر، وواسِعٌ: معناه: وسعَتْ قدرته، وعلمه كلَّ شيْء، وأما قول النبيّ لهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ، فإِن الطبريَّ ذهب إِلى أن بني إِسرائيل تعنَّتوا، وقالوا لنبيِّهم: وما آية مُلْكِ طالُوتَ؟ وذلك على جهة سؤالِ الدَّلالة على صِدْقه في قوله: إِنَّ اللَّه بَعَثَهُ. قال ع: ويحتمل أنَّ نبيَّهم قال لهم ذلك على جهة التغليظِ والتنبيه على هذه النعمة الَّتي قرَنَها بمُلْكِ طَالُوت، دون تكْذيب منْهم لنبيِّهم، وهذا عندي أظهر من لفظ الآية، وتأويلُ الطبريِّ أشبهُ بأخلاقِ بني إِسرائيل الذميمةِ فإنّهم أهل تكذيب وتعنّت واعوجاج.

_ (1) ذكره البغوي في تفسيره «معالم التنزيل» (1/ 228) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 330) . (2) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 314) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 332) . (3) ينظر «المحرر الوجيز» (1/ 332) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 313) برقم (5652) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 332) .

وقد حكى الطبريُّ معناه عن ابْنِ عَبَّاس وغيره «1» . واختلف في كيفيَّة إِتيان التابُوتِ، فقال وهب: لما صار التابوتُ عند القومِ الذين غَلَبُوا بني إِسْرَائيل، وضَعُوه في كنيسة لهم فيها أصنامٌ، فكانت الأصنام تُصْبِحُ منكَّسة، فجعلوه في قرية قَوْمٍ، فأصاب أولئك القَوْم/ أوجاعٌ، فقالوا: ما هذا إلّا لهذا التابوت، 62 ب فلنردَّه إِلى بني إِسرائيل، فأخذوا عَجَلَةً، فجعلوا التابُوتَ علَيْها، وربَطُوها ببقرتَيْن، فأرسلوهما في الأرضِ نَحْو بلادِ بَني إسرائيل، فبعث اللَّه ملائكَةً تَسُوقُ البقرتَيْنِ حتى دخَلَتَا به على بني إِسرائيل، وهم في أمر طَالُوتَ، فأيقنوا بالنَّصْر. وقال قتادةُ، والربيعُ: كان هذا التابوتُ مما تركه موسى عنْد يُوشَعَ، فجعله يُوشَعُ في البريَّة، ومَرَّتْ علَيْه الدُّهُور حتى جاء وقْتُ طَالُوت، فحملَتْه الملائكةُ في الهَوَاء حتى وضعْته بينهم، فاستوثقت بنو إِسرائيل عند ذلك على طالوت «2» ، وقيل غير هذا، واللَّه أعلم. وقوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: قال ابن عَبَّاس: السكينةُ طَسْتٌ من ذهَبٍ من الجَنَّة «3» ، وقال مجاهدٌ: السكينة لها رأس كرأس الهِرَّة، وجنَاحَان، وذَنَب «4» . وقال عطاءٌ: السكينة ما يعرفونَ من الآياتِ، فيسكنون إِليها «5» ، وقال قتادة: سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: وقار لكم من ربِّكم «6» . قال ع: والصحيحُ أن التابوت كانَتْ فيه أشياء فاضلةٌ من بقايا الأنبياء وآثارهم، تَسْكُن إِلى ذلك النُّفُوس، وتأنس به، ثم قَرَّر تعالى أن مجيء التابوتِ آية لهم، إن كانوا

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 315) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 332) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 324) برقم (5662، 5663) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 332) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 328) برقم (5678) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 228) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 332) ، والماوردي في «النكت والعيون» (1/ 316) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 328) برقم (5675) ، و «المحرر الوجيز» لابن عطية (1/ 332) ، و «الدر المنثور» (1/ 562) ، وعزاه السيوطي لسفيان بن عيينة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن مجاهد. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 329) ، والبغوي في «تفسيره معالم التنزيل» (1/ 228) ، و «النكت والعيون» (1/ 316) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 332) . (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 329) برقم (5684) ، وذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 316) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 333) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 249 إلى 252]

ممَّن يؤمن ويُبْصر. ت: وهذا يؤيِّد تأويلَ الطبريّ المتقدّم. [سورة البقرة (2) : الآيات 249 الى 252] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) وقوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ ... الآية، أي: لما اتفق ملأهم على تمليك طالوتَ، وفصل بهم، أيْ: خرج بهم من القُطْرِ، وفَصَلَ حالَ السفر من حال الإِقامة. قال السُّدِّيُّ وغيره: وكانوا ثمانين ألفاً «1» ، قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أي: مختبركم، فمن ظهرت طاعته في تَرْك الماءِ، علم أنه يطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهْوَتُه في الماء، وعصى الأمر، فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ورخَّص للمطيعين في الغُرْفة ليرتفع عنْهم أذى العَطَش بعض الاِرتفاعِ، وليكسروا نزاعَ النَّفْس في هذه الحال. ت: ولقد أحْسَنَ من شبه الدُّنْيا بنَهَرِ طالوتَ، فمن اغترف منْها غرفة بيد الزهد، وأقبل على ما يعينه من أمر آخرته، نجا، ومَنْ أكبَّ عليها، صدَّته عن التأهُّب لآخرته، وقلَّت سلامته إِلاَّ أنْ يتدارَكَه اللَّه. قال ابن عَبَّاس: وهذا النَّهَر بيْن الأَرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ «2» ، وقال أيضاً: هو نهر فلسطين «3» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 339) برقم (5708) ، وذكره السيوطي في «الدر» (1/ 563) . [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 340) برقم (5714) ، وذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 316) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 341) برقم (5715) ، وذكره البغوي (1/ 231) ، والماوردي في «النكت والعيون» (1/ 317) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 334) ، والسيوطي في «الدر» ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

قال ع: وظاهرُ قولِ طالوتَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أنه بإِخبار من النبيِّ لطالوتَ، ويحتمل أنْ يكون هذا مما ألهم اللَّه إِليه طالوتَ، فجرَّب به جنده، وهذه النَّزْعة واجبٌ أنْ تقع من كلِّ متولِّي حَرْب، فليس يحارِبُ إِلا بالجنْدِ المطيعِ، وبَيِّنٌ أن الغرفة كَافَّةُ ضرر العَطَش عنْد الحَزَمَةِ «1» الصَّابرين على شَظَف «2» العَيْش الَّذين هم في غير الرفاهيَةِ، وقوله: فَلَيْسَ مِنِّي، أي: ليس من أصحابي في هذه الحَرْب، ولم يخرجْهم بذلك عن الإيمان، ومثل هذا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا» «3» ، و «مَنْ رَمَانَا بالنّبل، ...

_ (1) الحزمة: جمع حازم، ورجل حزيم، وهو من قوم حزماء، وحزّم وحزّام، وأحزام. وهو العاقل المميز ذو الحنكة. ينظر: «لسان العرب» (859) . (2) الشّظف: الشدة والضيق، ويبس العيش وشدته. ينظر: «لسان العرب» (2267) . (3) أخرجه مسلم (1/ 348- الأبي) ، كتاب «الإيمان» ، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» ، حديث (164/ 102) ، وأبو داود (2/ 294) كتاب «البيوع» ، باب في النهي عن الغش، حديث (3452) ، والترمذي (3/ 597) ، كتاب «البيوع» ، باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع، حديث (1315) ، وابن ماجة (2/ 749) كتاب «التجارات» ، باب النهي عن الغش، حديث (2224) ، وأبو عوانة (1/ 57) ، وأحمد (2/ 242) ، والحميدي (2/ 447) رقم (1033) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (564) ، وابن حبان (4905- الإحسان) ، وابن منده في «الإيمان» رقم (550، 551، 552) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 134) ، والحاكم (2/ 8- 9) ، والبيهقي (5/ 320) ، كتاب «البيوع» ، كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. قلت: وقد وهم رحمه الله في ذلك فالحديث في «صحيح مسلم» ، كما تقدم في التخريج. وللحديث شواهد من حديث ابن عمر، وأبي بردة بن نيار، وابن مسعود، والحارث بن سويد، وقيس بن أبي غرزة، وأبي الحمراء، وعائشة. حديث ابن عمر: أخرجه أحمد (2/ 50) ، والبزار (2/ 82- كشف) رقم (1255) ، من طريق أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من غشّنا فليس منا» . والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 288) . وقال: رواه أحمد، والبزار، والطبراني في «الأوسط» ، وفيه أبو معشر وهو صدوق، وضعّفه جماعة. وللحديث طريق آخر عن ابن عمر: أخرجه الدارمي (2/ 248) ، كتاب «البيوع» ، باب في النهي عن الغش، والقضاعي في «مسند الشهاب» (351) ، من طريق يحيى بن المتوكل، ثنا القاسم بن عبيد الله، عن عمه سالم بن عبد الله، عن ابن عمر به. ويحيى بن المتوكل قال الحافظ في «التقريب» (2/ 356) : ضعيف. حديث أبي بردد بن نيار: -

فَلَيْسَ مِنَّا» «1» ، و «لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ، وَلَطَمَ الخُدُودَ» «2» . وفي قوله: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ سدُّ الذرائعِ لأنَّ أدْنَى الذَّوْق يدْخُل في لفظ الطّعم،

_ - أخرجه أحمد (3/ 466) ، والبزار (1/ 68- كشف) رقم (68) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 198) رقم (521) ، وابن أبي شيبة (7/ 290) . كلهم من طريق جميع بن عمير عن عمه، يعني أبا بردة مرفوعا. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 31) : رواه البزار، وفيه جميع بن عمير، وثقه أبو حاتم، وضعفه البخاري وغيره. حديث ابن مسعود: أخرجه ابن حبان (567) ، والطبراني في «الكبير» (10234) ، وفي «الصغير» (1/ 261) . وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (4/ 188- 189) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (253) . كلهم من طريق عاصم بن بهدلة، عن زر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا، والمكر والخديعة في النار» . حديث الحارث بن سويد: أخرجه الحاكم (2/ 9) . حديث قيس بن أبي غرزة: أخرجه أبو يعلى (2/ 233) رقم (933) ، من طريق الحكم بن عتيبة، عن قيس بن أبي غرزة مرفوعا بلفظ: «من غش المسلمين فليس منهم» . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 82) ، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ، ورجاله ثقات، وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (1361) ، وعزاه إلى أبي يعلى. حديث أبي الحمراء: أخرجه ابن ماجة (2/ 749) كتاب «التجارات» ، باب النهي عن الغش، حديث (2225) ، من طريق أبي داود، عن أبي الحمراء به مرفوعا. وأبو داود هو نفيع بن الحارث الأعمى متروك كذبه ابن معين، وغيره. حديث عائشة: أخرجه البزار (2/ 83- كشف) رقم (1256) ، وقال البزار: لا نعلمه عن عائشة إلا بهذا الإسناد، والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (4/ 81) ، وقال: ورجاله ثقات. (1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 221) رقم (11553) ، من طريق عكرمة عن ابن عباس. (2) أخرجه البخاري (3/ 163) ، كتاب «الجنائز» ، باب ليس منا من شق الجيوب، حديث (1294) ، ومسلم (1/ 99) ، كتاب «الإيمان» ، باب تحريم ضرب الخدود، حديث (165/ 103) . والترمذي (3/ 315) ، كتاب «الجنائز» ، باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود، حديث (999) ، والنسائي (4/ 20) ، كتاب «الجنائز» ، باب ضرب الخدود، وابن ماجة (1/ 504- 505) ، كتاب «الجنائز» ، باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب، حديث (1584) . وأحمد (1/ 432) ، والطيالسي (1/ 157- منحة) رقم (747) . وأبو يعلى (9/ 127) رقم (5201) ، والبيهقي (4/ 64) كتاب «الجنائز» ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 288- بتحقيقنا) ، من حديث عبد الله بن مسعود به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فإِذا وقع النَّهْيُ عن الطُّعْم، فلا سبيل إِلى وقوع الشُّرْبِ ممَّن يتجنَّب الطعْم، ولهذه المبالغةِ لم يأْتِ الكلامُ: ومَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ. ص: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ: استثناءٌ من الجملة الأولى، وهو قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، أيْ: إِلاَّ من اغترف غُرْفة بيَده، دون الكَرْع، / فهو منِّي، 63 أوالاستثناء إِذا تعقَّب جملتين فأكثر، أمكَنَ عَوْده إِلى كلِّ منها، فقيل: يعود على الأخيرة، وقيل: إِلى الجميع «1» . وقال أبو البقاء: إِنْ شئْتَ، جعلته مِنْ «مَنِ» الأولى، وإِنْ شئْتَ مِنْ «مَنِ» الثانيةِ، وتُعُقِّبَ بأنه لو كان استثناءً من الثانية، وهي: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، لَلَزِمَ أنْ يكون: مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً ليس منه لأن الاستثناء من الإِثبات نفيٌ، ومن النفي إِثبات على الصحيح، وليس كذلك لأنه أبيحَ لهم الاغترافُ، والظاهر عوده إِلى الأولى، والجملةُ الثانية مفهومةٌ من الأولى، لأنه حين ذكر أنَّ من شربه، فليس منه، فُهِمَ من ذلك أنَّ مَنْ لم يشرب منه، فإِنه منه. انتهى. ثم أخبر تعالى أن الأكثر شَرِبَ، وخالَفَ ما أريد منه، روي عن ابن عَبَّاس وغيره أن القوم شَرِبوا على قدر يقينهم، فشرب الكُفَّار شُرْبَ الهيم، وشرب العاصُون دُون ذلك، وانصرف من القوْمِ ستَّة وسبْعُون ألفاً، وبقي بعض المؤمنين، لم يَشْرَبْ شيئاً، وأخذ بعضهم الغُرْفة، فأما مَنْ شرب، فلم يرو، بل برَّح به العطش، وأما من ترك الماء، فَحَسُنَتْ حاله،

_ (1) الصحيح أنه يعود على الجملة الأولى وهي: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، والجملة الثانية معترضة بين المستثنى والمستثنى منه، وأصلها التأخير، وإنّما قدّمت لأنها تدلّ عليها الأولى بطريق المفهوم، فإنّه لمّا قال تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي فهم منه أنّ من لم يشرب فإنّه منه، فلمّا كانت مدلولا عليها بالمفهوم صار الفصل بها كلا فصل. وقال الزمخشري: «والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلّا أنها قدمت للعناية، كما قدّم «والصابئون» في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [الحج: 17] . والثاني: أنه مستثنى من الجملة الثانية، وإليه ذهب أبو البقاء. وهذا غير سديد لأنه يؤدّي إلى أن المعنى: ومن لم يطعمه فإنه مني إلّا من اغترف بيده فإنه ليس مني لأنّ الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، كما هو الصحيح، ولكن هذا فاسد في المعنى لأنهم مفسوح لهم في الاغتراف غرفة واحدة. والاستثناء إذا تعقّب الجمل وصلح عوده على كلّ منها هل يختصّ بالأخيرة أم لا؟ خلاف مشهور، فإن دلّ دليل على اختصاصه بإحدى الجمل عمل به، والآية من هذا القبيل، فإنّ المعنى يعود إلى عوده إلى الجملة الأولى لا الثانية لما ذكرت لك. ينظر: «الدر المصون» (1/ 605) .

وكان أَجْلَدَ ممن أخذ الغُرْفَة «1» . وقوله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ... الآية: أكثر المفسِّرين على أنه إِنَّما جاوز النَّهَرَ مَنْ لم يشرَبْ إِلا غُرْفة، ومن لم يَشْرَبْ جملةً، ثم كانَتْ بصائرُ هؤلاء مختلفةً فبعضٌ كَعَّ، وقليلٌ صَمَّم، وهم عِدَّة أهل بدرٍ ثَلاثُمِائَةٍ، وبضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً. وقوله تعالى: قالُوا لاَ طاقَةَ. قال ابن عبَّاس: قال كثير من الأربعةِ الآلافِ الباقيَةِ مع طالُوت، الذين جاوزوا النَّهَر: لاَ «2» طاقَةَ لَنَا على جهة الفَشَل، والفزع من الموت، وانصرفوا عن طالوتَ، فقال المؤمنون الموقنُون بالبَعْث، والرجوعِ إِلى اللَّه تعالى، وهم عِدَّة أهل بَدْر: كَمْ مِنْ فِئَةٍ، والظنُّ على هذا القول: اليقينُ والفئةُ: الجماعة التي يرجعُ إِليها في الشدائد، وفي قولهم- رضي اللَّه عنهم- كَمْ مِنْ فِئَةٍ ... الآية: تحريضٌ بالمثالِ، وحضٌّ واستشعارٌ للصبر، واقتداء بمن صَدَق ربَّه، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بنصره وتأييده. وقوله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ... الآية: بَرَزُوا: معناه صَارُوا في البَرَازِ، وهو الأفْيَحُ من الأرض المتَّسِع، والإِفْرَاغُ: أعظم الصبِّ، وكان جالوتُ أمير العمالقة، ومَلِكَهُم، ورُوِيَ في قصَّة داود وقَتْله جالوتَ أنَّ أصحَابَ طالُوتَ كان فيهم إِخوة دَاوُد، وهم بنو أيش، وكان داود صغيراً يرعى غنَماً لأبيه، فلمَّا حضَرَتِ الحربُ، قال في نفْسه: لأذهبنَّ لرؤية هذه الحرْب، فلمَّا نهض مَرَّ في طريقه بحَجَر، فناداه: يا دَاوُد، خُذْنِي، فَبِي تَقْتُلُ جالُوتَ، ثم ناداه حَجَرٌ آخَرُ، ثم آخر، ثم آخَرُ، فأخَذَها، وجعَلَها في مِخْلاَتِهِ، وسار، فلَمَّا حَضَر البأْسُ، خَرَجَ جالُوتُ يطلب مُبَارِزاً، فكَعَّ الناسُ عَنْه حتى قال طالوتُ: مَنْ بَرَز له، ويَقْتُلُه، فأنا أزوِّجه ابنَتِي، وأحكِّمه في مالِي، فجاء داوُدُ، فقال: أنا أَبْرُزُ له، وأقتلُه، فقال له طالوت: فاركب فَرَسِي، وخُذْ سلاحِي، ففَعَلَ، وخَرَج في أحْسَنِ شِكَّةٍ، فلمَّا مشى قَليلاً، رجَع، فقال الناسُ: جَبُنَ الفتى، فقَالَ داوُد: إِنَّ اللَّه سبحانه، إِنْ لم يَقْتُلْهُ لِي، ويعينَنِي علَيْه، لم ينفعْنِي هذا الفَرَسُ، ولا هذا السِّلاحُ، ولكنِّي أحبُّ أنْ أقاتِلَهُ على عادَتِي، قال: وكان داوُدُ من أرمى النّاس بالمقلاع، 63 ب فنَزَلَ، وأخَذَ مِخْلاَته، / فتقلَّدها، وأخَذَ مِقْلاَعه، فخَرَج إِلى جَالُوتَ، وهو شَاكٍ فِي السِّلاحِ، فقال له جالوت: «أنْتَ، يا فتى، تَخْرُجُ إِلَيَّ» . قال: نعم، قال: هكذا كما

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 345) بنحوه، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 335) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 336) .

يُخْرَجُ إِلى الكَلْبِ، قال: نعم، وأنْتَ أهْوَنُ، قَالَ: لأُطْعِمَنَّ اليَوْمَ لَحْمَكَ الطيرَ، والسِّبَاعَ، ثُمَّ تدَانَيَا، فأدار دَاوُدُ مِقْلاَعَهُ، وأدْخَلَ يدَهُ إِلى الحجارةِ فرُوِيَ أنَّها التأمت، فصارَتْ واحداً، فأَخذه، ووضَعَه في المِقْلاَع، وسمَّى اللَّهَ، وأدارَهُ، ورَمَاه، فأصَابَ به رَأسَ جالُوت، فقتله، وحزَّ رأسَهُ، وجعَلَهُ في مِخْلاَته، واختلط النَّاسُ، وحَمَل أصْحَاب طالُوتَ، وكانَتِ الهزيمةُ، ثم إِنَّ داوُدَ جاء يَطْلُبُ شرطَهُ من طالُوتَ، فقال له: إِن بناتِ المُلُوكِ لهُنَّ غرائِبُ من المَهْرِ، ولا بُدَّ لك من قَتْل مائَتَيْنِ من هؤُلاَء الجَرَاجِمَةِ «1» الذينَ يُؤْذُونَ النَّاس، وتجيئَنِي بغُلُفهِمْ «2» ، وطمع طالوتُ أنْ يُعَرِّض داوُدَ للقَتْلِ بهذه النَّزْعَة، فقَتَل داوُدُ منْهم مائَتَيْنِ، وجاء بذلك، وطَلَبَ امرأته، فدَفَعَهَا إِليه طالُوتُ، وعَظُم أمْرُ داود، فيروى أنَّ طالُوتَ تخلى له عن المُلْك، وصار هو المَلِكَ، وقد أكْثَر الناس في قَصَص هذه الآية، وذلك كلُّه ليِّن الأَسانيد فلذلك انتقَيْتُ منه ما تنفكُّ به الآية، ويعلم به مناقلُ النازلة. وأما الحكْمَةُ التي آتاه اللَّه، فَهِيَ النبوَّة، والزَّبُور، وعلَّمه سبحانه صَنْعَة الدُّرُوع، ومَنْطِقَ الطَّيْر، وغيْرَ ذلك من أنواع علْمه- صلَّى اللَّه على نبيِّنا وعلَيْه-. وقوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ... الآية: أخبر اللَّه سبحانه في هذه الآية أنه لوْلاَ دفعه بالمؤمنين في صدور الكَفَرة على مرِّ الدَّهْر، لَفَسَدَتِ الأرْض لأن الكُفْر كان يطبقها، ولكنه سبحانه لا يُخْلِي الزمانَ مِنْ قَائِمٍ بحقٍّ، وداعٍ إِلى اللَّه إِلى أنْ جعل ذلك في أمَّة محمَّد إلى قيامِ السَّاعة له الحَمْدُ كَثيراً. ص: وَلكِنَّ استدراكٌ بإثبات الفضل للَّه سبحانه على جميع العالمين لما يتوهَّمه من يريد الفَسَاد أنَّ اللَّه غير متفضِّل عليه إِذ لم يبلِّغه مقاصده واحتيج إلى هذا التقديرِ لأن «لَكِنَّ» تكونُ بين متنافِيَيْن بوجْهٍ مَّا- انتهى. والإِشارةُ ب تِلْكَ إلى ما سلف من القصص والأنباء، وفي هذه القصَّة بجملتها مثالٌ عظيمٌ للمؤمنين ومعتَبَرٌ، وقد كان أصحاب نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم معدِّين لحَرْب الكفَّار، فلهم في هذه النازلة معتَبَرٌ يقتضي تقْوِيَة النفُوسِ، والثقَةَ باللَّه سبحانه، وغير ذلك من وجوه العبر.

_ (1) أي لصوص يستلبون الناس، وينتهبونهم. والجراجمة: قوم من العجم بالجزيرة. ويقال: الجراجمة نبط الشام. ينظر: «لسان العرب» (586) . (2) هو جمع غلاف، والغلاف ما اشتمل على الشيء، والغلاف: غلاف السيف والقارورة، وسيف أغلف، وقوس غلفاء، وكذلك كل شيء في غلاف. ورجل مغلّفّ: عليه غلاف من هذه الآدم ونحوها. ينظر: «لسان العرب» (3282، 3283) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 253 إلى 254]

[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 254] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) قوله سبحانه: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ... الآية: «تِلْكَ» : رفْعٌ بِالابتداءِ، والرسُل: خبره، ويجوز أنْ يكُونَ «الرُّسُلُ» عطْفَ بيانٍ، و «فَضَّلْنَا» : الخبَر، و «تِلْكَ» : إِشارة إِلى جماعة، ونصَّ اللَّه سبحانه في هذه الآية على تفضيل بعْض النَّبيِّين على بعضٍ من غير تعْيين. وقوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ: قال مجاهد وغيره: هي إِشارة إلى نبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلم لأنه بعث إِلى الناس كافَّة، وأعطي الخُمُسَ الَّتي لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قبله، وهو أعْظَمُ النَّاس أمَّةً، وختم اللَّه به النبوَّات «1» إِلى غير ذلك ممَّا أعطاه من الخُلُقِ العظيمِ، ومِنْ معجزاتِهِ، وباهرِ آياته، ويَحْتَمِلُ اللفْظُ أن يراد به نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم وغيره ممَّن عظُمَتْ آياته، وبيِّناتُ عيسى- عليه السلام- إِحياءُ الموتى، وإِبراء الأكْمَه، والأبْرَص، وخَلْق الطَّيْر من الطِّين، ورُوحُ القُدُسِ جبريلُ- عليه 64 أالسلام- وقد تقدَّم/ ما قال العلماءُ فيه. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ... الآية: معنى الآيةِ: ولو شاء اللَّه ما اقتتل النَّاس بعد كُلِّ نبيٍّ، فمنهم مَنْ آمَنَ، ومِنْهُمْ مَنْ كفر بغياً وحَسَداً، وعلى حُطَامِ الدنيا، وذلك كلُّه بقضاء، وقَدَرٍ، وإِرادةٍ من اللَّه سبحانه، ولو شاء اللَّه خلافَ ذلك، لكان، ولكنَّه المستأْثِرُ بسرِّ الحكمة في ذلك، وهو الفَعَّال لما يريد سبحانه. ص: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ، قيل: في الكلام حذْفٌ، أي: فاختلف أممهم، فاقتتلوا، ولو شاء اللَّهُ، فمفعولُ «شَاءَ» محذوفٌ، أي: «أَلاَّ يَقْتَتِلُوا» انتهى. وقوله: مَا اقْتَتَلُوا، أي: بأنْ قاتل المؤمنُونَ الكافرينَ على مَرِّ الدهر، وذلك هو

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 3) برقم (5757) بنحوه، وذكره ابن عطية (1/ 338) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 571) ، وعزاه لآدم بن أبي إياس، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 255]

دفَاعُ اللَّه النَّاسَ بعضَهُم ببعض. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ... الآيةَ، قال ابن جُرَيْج: هذه الآيةُ تجمعُ الزكاةَ والتطوُّع، أي «1» : وجميعَ وجوهِ البرِّ من سبيلٍ وصلةِ رحمٍ، وهذا كلامٌ صحيحٌ، لكن ما تقدَّم من الآيات في ذكْر القتَالِ يرجِّح أنَّ هذه النفقةَ في سَبيل اللَّه، ويقوِّي ذلك قولُه: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، أي: فكافِحُوهم بالقتَالِ بالأنْفُس، وإِنفاقِ الأموال ممَّا رزقْنَاكم، وهذا غاية الإِنعام والتفضُّل منه سبحانه أنْ رَزَق، ثم نَدَب للنفقةِ ممَّا به أنعم، وحذَّر سبحانه من الإِمساك إِلى أنْ يأتي يَوْم لا يمكنُ فيه بيْعٌ، ولا شراءٌ، ولا استدراك نفقةٍ في ذاتِ اللَّه تعالى، إِذ هي مبايعةٌ إِذ البيعُ فديةٌ لأن المرء قد يشتري نفْسَه، ومرادَهُ بماله فكأن معنى الآية أنْ لا فديةَ يوم القيامة، ولا خُلَّةَ نافعة، وأهل التقوى في ذلك اليَوْمِ بينهم خُلَّة، ولكنَّه غير محتاج إِلَيْها. ت: وفي قوله: «غَيْر مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا» قلقٌ، ولا شفاعة يَومَئِذٍ إِلا لِمَنْ أذن له سبحانه، فالمنفيُّ مثل حال الدُّنيا من البَيْع، والخُلَّة، والشَّفاعة بغير إِذْن المَشْفوع عنده، قال عطاءُ بن دِينَار: الحَمْدُ للَّهِ الَّذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، ولم يقل: والظّالمون هم الكافرون» . [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) وقوله تعالى: اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... الآية: هذه الآيةُ سيِّدة آي القرآن، وورد في الحديثِ «أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآن» «3» ، وورد «أنَّ مَنْ قَرَأَهَا أَوَّلَ لَيْلِهِ، لَمْ يَقْرَبْهُ شَيْطَانٌ» وكذلك مَنْ قَرَأَهَا أَوَّلَ نهاره «4» ، وهي متضمّنة التوحيد والصّفات العلا،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 5) برقم (5762) ، وذكره البغوي في «تفسيره» ، وذكره أيضا ابن عطية في «تفسيره» (1/ 339) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 571) ، وغزاه لابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 6) برقم (5764) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» ، (1/ 340) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 571) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) تقدم تخريجه. (4) أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (961) ، وأبو يعلى كما في «النكت الظراف» (1/ 38) ، وابن حبان (784) . وأبو نعيم في «دلائل النبوة» (2/ 765) ، والحاكم (1/ 562) . والبيهقي في «الدلائل» (7/ 109) . والطبراني (514) . كلهم من حديث أبي بن كعب أنه كان له جرن فيه تمر، فكان-

وعن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلم لفاطمةَ: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَسْمَعِي، مَا أَوْصَيْتُكِ بِهِ، تَقُولِينَ، إِذَا أَصْبَحْتِ، وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلاَ تَكِلْنِي إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» ، رواه النَّسائيُّ، واللفظ له، والحاكمُ في «المستدرك» على الصحيحين، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلما «1» . انتهى من «السلاح» . وعن ابن مسعود أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ هَمٌّ أَوْ غَمٌّ، قال: «يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث» رواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح الإِسناد «2» ، ورواه الترمذيُّ من حديث أنسٍ «3» ، والنَّسائيّ من حديثِ رَبِيعَةَ بْنِ عامرٍ «4» ، انتهى من «السِّلاح» . واللَّه: مبتدأ، ولا إِلَهَ: مبتدأ ثانٍ، وخبره محذوف، تقديره معبود أو موجود، 65 أوقيّوم: بناءُ مبالغةٍ، أي: هو القائم على كلِّ نفس بما كَسَبَتْ بهذا المعنى/ فسَّره مجاهدٌ، والرَّبيع، والضَّحَّاك «5» ، ثم نفى عزَّ وجلَّ أنْ تأخذه سِنَةٌ أو نَوْم. وفي لفظٍ: الأَخْذُ غلبة

_ - يتعاهده، فوجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة شبه الغلام المحتلم قال: فسلمت، فرد السلام، فقلت: من أنت؟ جني أم إنسي؟ قال: جني. قلت: ناولني يدك، فناولني، فإذا يداه يد كلب، وشعره شعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن ما فيهم من هو أشد مني، قلت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصّدقة، فأحببنا أن نصيب طعامك، فقال له أبيّ: فما الذي يجيرنا منكم، قال: هذه الآية آية الكرسي التي في «سورة البقرة» ، من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي، فلما أصبح أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «صدق الخبيث» . (1) أخرجه الحاكم (1/ 545) ، كتاب «الدعاء» ، من حديث أنس بن مالك. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. (2) أخرجه الحاكم (1/ 509) ، من طريق وضاح بن يحيى النهشلي، ثنا النضر بن إسماعيل البجلي، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، ثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، عن ابن مسعود به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي. فقال: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، ومن بعده ليسوا بحجة. (3) أخرجه الترمذي (5/ 539) كتاب «الدعوات» ، باب (92) ، حديث (3524) ، من طريق يزيد الرقاشي عن أنس به. وقال: هذا حديث غريب. (4) ربيعة بن عامر، صحابي له حديث، وعنه يحيى بن حسان، شيخ لابن المبارك. ينظر: «الخلاصة» ت (2041) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 7) برقم (5767، 5770) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 238) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 340) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 579) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن الربيع، ولآدم بن أبي أياس، وابن جرير، والبيهقي عن مجاهد.

مَّا، فلذلك حَسُنَتْ في هذا الموضِعِ بالنفْيِ، والسِّنَةُ: بدْء النُّعَاس، وليس يفقد معه كلّ الذِّهْن، والنَّوْمُ هو المستثْقَلُ الذي يزولُ معه الذهْن، والمراد بالآية: التنزيهُ أنه سبحانه لا تدركُه آفة، ولا يلحقه خَلل بحالٍ من الأحوال، فجعلت هذه مثالاً لذلك، وأقيمَ هذا المذكورُ من الآفاتِ مقام الجميعِ، وهذا هو مفهومُ الخطَابِ «1» كما قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] . ت: وبيانه أنه إِذا حرم التأفيف، فأحرى ما فوقه من الشَّتْمِ، والضَّرْب في حقِّ الأبوَيْن، وروى أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يَحْكِي عَنْ موسى عَلَى المِنْبَرِ، قَالَ: «وَقَعَ فِي نَفْسِ موسى: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكاً فَأرَّقَهُ ثَلاَثاً، ثُمَّ أعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةً، وأَمَرَهُ بِأَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا، قَالَ: فَجَعَلَ يَنَامُ، وتَكَادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ، فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الأخرى حتى نَامَ نَوْمَةً، فاصطفقت يَدَاهُ، فانكسرت القَارُورَتَانِ، قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلاً أَنْ لَوْ كَانَ يَنَامُ، لَمْ تَسْتَمْسِكِ السَّمَاءُ والأرض» «2» . قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أي: بالملك فهو مالكُ الجميع، وربُّه، ثم قرَّر، ووَقَفَ تعالى من يتعاطى أنْ يشفع إِلاَّ بإذنه، أي: بأمره. ص: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ: «مَنْ» : مبتدأ، وهو استفهام معناه النفْيُ ولذا دخلَت «إِلاَّ» في قوله: إِلَّا بِإِذْنِهِ، والخبر «ذَا» ، و «الَّذِي» نعْتٌ ل «ذَا» أو بدل منه، وهذا على أنَّ «ذا» اسمُ إِشارةٍ، وفيه بُعْد لأن الجملة لم تستقلَّ ب «مَنْ» مع «ذَا» ، ولو كان خبراً، لاستقلَّ، ولم يحتجْ إِلى الموصولِ، فالأولى أنَّ «مَنْ» ركّبت مع «ذا» للاستفهام. انتهى.

_ (1) يطلق المفهوم، ويقصد به معنى دلّ عليه اللّفظ لا في محلّ النّطق، أو هو: «دلالة اللّفظ على معنى في غير محلّ النّطق بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور في الكلام، وحالا من أحواله، سواء كان ذلك الحكم موافقا لحكم المذكور، أو مخالفا له. ينظر: «المفهوم» لشيخنا الخضراوي، و «شرح العضد» (2/ 171) ، و «البرهان» (1/ 449) ، و «العدة» (1/ 154) ، و «الإحكام» للآمدي (3/ 62) ، و «جمع الجوامع» (1/ 240) ، و «الآيات البينات» (2/ 15، 23) ، و «شرح الكوكب» (3/ 480، 489) ، و «روضة الناظر» (138، 139) ، و «إرشاد الفحول» (178- 198) ، و «تيسير التحرير» (1/ 91- 98) ، و «فواتح الرحموت» (1/ 413- 414) ، و «شرح التنقيح» (53) ، و «الحدود» للباجي (50) ، و «نشر البنود» (1/ 94- 98) ، و «المدخل» (271) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» رقم (5780) عن أبي هريرة مرفوعا.

قال مجاهدٌ وغيره: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: الدُّنيا، وَما خَلْفَهُمْ: الآخرة «1» ، وهذا صحيحٌ في نفْسه عند موت الإِنسان لأن ما بين اليَدِ هو كلُّ ما تقدَّم الإِنسان، وما خَلْفه: هو كلُّ ما يأتي بعده، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، أي: مِن معلوماته لأن علْم اللَّه تعالى لا يتبعَّض، ومعنى الآية: لاَ مَعْلُومَ لأحدٍ إلا ما شاء اللَّه أنْ يعلمه، قال ابن عبَّاس: كُرْسيُّه: علْمه «2» [قالَ] الطبريُّ «3» : ومنه الكُرَّاسَة. قال ع «4» : والذي تقتضيه الأحاديثُ أنَّ الكرسيَّ مخلوقٌ عظيمٌ بَيْن يَدَيِ العَرْشِ، والعَرْشُ أعظمُ منْه وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إِلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ» وقال أبو ذَرٍّ: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا الكُرْسيُّ فِي العَرْش إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ» «5» وهذه الآية مُنْبِئَةٌ عن عِظَمِ مخلوقاتِ اللَّه سبحانَهُ، والمستفادُ من ذلك عِظَمُ قدرتِهِ- جل وعلا- إِذ لا يَؤُوده حفْظُ هذه المخلوقاتِ العظيمة، وَلا يَؤُدُهُ: معناه: لا يُثْقِلُهُ، ولا يشقُّ عليه، وهو تفسير ابن عبّاس وغيره، والْعَلِيُّ: يراد به عُلُوُّ القَدْر، والمنزلةِ، لا عُلُوُّ المكانِ لأن اللَّه سبحانه منزَّه عن التَّحَيُّز وكذا الْعَظِيمُ: هو صفةٌ بمعنى عِظَم القَدْر، والخَطَر، لا على معنى عِظَمِ الأجْرَامِ، ومن «سلاح المؤمن» قال: وعن أبي أُمَامَةً، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ» . رواه النَّسَائِيُّ «6» عن الحُسَيْن بن بشر «7»

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 11) برقم (5783) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 239) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 341) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير (1/ 580) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 11) برقم (5788) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 342) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 325) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 309) ، والسيوطي في «تفسيره» (1/ 580) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عنه. [.....] (3) ذكره الطبري (3/ 12) . (4) ذكره ابن عطية (1/ 342) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 10) ، وأبو الشيخ في «العظمة» (2/ 587) ، من طريق عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلَمُ، عن أبيه، عن أبي ذر. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (1/ 13) : أول الحديث مرسل، وعن أبي ذر منقطع. وقال الذهبي: «العلو» (ص 91) : هذا مرسل، وعبد الرحمن ضعيف. (6) أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 30) كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، حديث (9928) . (7) الحسين بن بشر الطّرسوسي، عن محمد بن حمير، وحجّاج بن محمد، وعنه النسائي، ووثقه، قال-

عن محمَّد بن حِمْيَرَ «1» ، عن محمَّد بن زيَادٍ/ الألهانيِّ، عن أبي أُمَامَةَ، فأما الحُسَيْن، فقال 65 ب فيه النَّسائيُّ: لا بأس به، وقال في موضِعٍ آخر: ثِقَة، وقال أبو حاتِمٍ: شيخ، وأما المُحمَّدان، فاحتج بهما البخاريُّ في «صحيحه» ، وقد أخرج شيخُنا الحافظُ أبو محمَّد الدِّمْيَاطِيُّ «2» - رحمه اللَّه- الْحَدِيثَ في بَعْضِ تصانِيفِهِ مِنْ حديثِ أبِي أمَامَةَ، وعليٍّ، وعبد اللَّه بنِ عُمَر، والمُغِيرَة، وجابرٍ، وأنَس، قال: وإِذَا ضمت هذه الأحاديث بعضُها إلى بعض، أخذت قوة. انتهى من «السلاح» . وقد أخْرج البخاريُّ والنَّسَائِيُّ من حديث أبي هُرَيْرة في قصَّته مع الشَّيْطَان وأخْذِهِ الطَّعام، ما هو مَعْلُومٌ من فَضْل هذه الآية. وفيه: أنه إِذا قرأْتَهَا حِينَ تَأوي إلى فِرَاشِكَ، لَمْ يَزَلْ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبْكَ شَيْطَانٌ حتى تُصْبِحَ، وخرَّجه الترْمِذِيُّ من حدِيثِ أبي أَيُّوبَ في قصَّته مع الغُول نحْو حديث أبِي هريرة «3» قال الغزَّاليُّ ما معناه: إِنما وصفت بكونها سيِّدة آي القرآن لاشتمالها على اسم اللَّه الأعظم، وهو الحيُّ القيومُ قاله في «الجواهر» ، وأسند صاحب «غاية المغنم

_ - المزّي: لم أقف على روايته عنه. ينظر: «الخلاصة» (1/ 223) . (1) محمد بن حمير القضاعي السّليحي الحمصي، عن محمد بن زياد، وبجير بن سعد، وصفوان بن عمرو، وخلق، وعنه داود بن رشد، ومحمد بن مصفّى، وعمرو بن عثمان، وخلق. قال دحيم: مات سنة مائتين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 396- 397) . (2) عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرق بن الخضر بن موسى، شرف الدين أبو محمد، وأبو أحمد الدمياطي، ولد ب «دمياط» سنة 613، وتفقّه بها وقرأ بالسبع على الكمال الضرير، وسمع الكثير، ورحل، ولازم المنذري سنين، وتخرج به، ودرس لطائفة المحدثين بالمنصورية، وسمع منه أبو الفتح الأبيوردي، وروى عنه من تلامذته: المزي، والبرزالي، والذهبي، وابن سيد الناس والسبكي وغيرهم. نعته الذهبي ببقية نقاد الحديث. وله مصنفات نفيسة منها «السيرة النبوية» ، و «الصلاة الوسطى» وغيرهما. مات سنة 705. انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (2/ 220) ، «طبقات السبكي» (6/ 133) ، «الأعلام» (4/ 318) . (3) أخرجه الترمذي (5/ 185) كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، حديث (2880) . وأحمد (5/ 423) ، والحاكم (3/ 459) ، والطبراني في «الكبير» (4/ 193) رقم (4011) ، وأبو الشيخ في «العظمة» (1091) . كلهم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب الأنصاري به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 576) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في «مكائد الشيطان» . وأبي نعيم في «الدلائل» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 256 إلى 257]

في اسم اللَّهِ الأعْظَمِ» ، عن غَالِبٍ القَطَّان «1» ، قال: مكثْتُ عشْرَ سنينَ، أدعو اللَّه أنْ يعلِّمني اسمه الأعْظَم الَّذي إِذا دُعِيَ به أجَابَ، وإِذا سُئِلَ به أعطى، فأتانِي آتٍ في مَنَامِي ثَلاَثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ يَقُولُ: يَا غَالِبُ قُلْ: يَا فَارِجَ الهَمِّ، وَيَا كَاشِفَ الغَمِّ، يَا صَادِقَ الوَعْدِ، يَا مُوفِياً بِالْعَهْدِ، يَا مُنْجِزاً لِلْوَعْدِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ. انتهى من «غاية المغنم» . [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ: الدِّينُ، في هذه الآية: هو المُعْتَقَدُ، والمِلَّة، ومقتضى قولِ زَيْدِ بن أسْلَمَ أن هذه الآية مكِّيَّة، وأنها من آيات الموادَعَة الَّتي نسخَتْها آية السَّيْف «2» ، وقال قتادةُ والضَّحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: هذه الآية مُحْكَمَةٌ خاصَّة في أهل الكتاب الذينَ يبذُلُون الجزْيَة «3» ، وقوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ: معناه: بنصب الأدلّة، ووجود الرسول صلّى الله عليه وسلم الدَّاعِي إِلى اللَّه، والآياتِ المُنيرة، والرُّشْدُ: مصْدَر من قولك: رَشِدَ بكسر الشين، وضَمِّها، يَرْشُدُ رُشْداً، ورَشَداً، ورَشَاداً، والغيُّ مصدر من: غَوِيَ يغوى، إِذا ضلَّ في معتقد، أو رأْيٍ، ولا يُقَال: الغيُّ في الضلال على الإِطلاق، والطَّاغُوتَ بنَاءُ مبالغةٍ من: طغى يطغى، واختلف في مَعْنى الطَّاغوت، فقال عُمَر بْنُ الخَطَّاب وغيره: هو الشَّيْطَان «4» ، وقيل: هو السَّاحِر، وقيل: الكَاهِنُ، وقيل: الأصْنَام، وقال بعضُ العلماء: كُلُّ ما عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فهُوَ طَاغُوتٌ.

_ (1) غالب بن خطّاف (بضم المعجمة وتشديد الطاء) القطّان، أبو سليمان بن أبي غيلان البصري، عن ابن سيرين، وبكر المزني، وعنه شعبة، وابن عليّة، وبشر بن المفضّل، وثقه أحمد وابن معين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 329) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 18) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 342) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 17، 18) ، برقم (5829) (58230) ، وذكره البغوي في «تفسيره» عن قتادة (1/ 240) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 327) عن قتادة، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 343) . والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 583) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير عن قتادة. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 20) برقم (5835) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 327) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 344) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 311) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 584) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عمر.

ع «1» : وهذه تسميةٌ صحيحة في كلِّ معبودٍ يرضى ذلك كفرعَوْنَ ونُمْرُوذ، وأما مَنْ لا يرضى ذلك، فسمي طاغوتاً في حقِّ العَبَدَةِ، قال مجاهد: العروةُ الوثقَى: الإِيمانُ «2» ، وقال السُّدِّيُّ: الإِسلام «3» ، وقال ابن جُبَيْر وغيره: لا إِله إِلا الله «4» . قال ع «5» : وهذه عباراتٌ تَرْجِعُ إِلى معنًى واحدٍ. والاِنْفِصَامُ: الاِنكسارُ من غَيْر بَيْنُونَةٍ، وقد يجيءُ بمعنى البَيْنُونة «6» ، والقَصْم كسر بالبينونة. ت: وفي «الموطّإ» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الوَحْيَ يَأْتِينِي أَحْيَاناً فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ» «7» . قال أبو عُمَر في «التمهيد» : قوله: «فَيَفْصِمُ عَنِّي» : معناه: ينفرجُ عنِّي، ويذهب كما تفصمُ الخلخال، إِذا فتحته لتخرجَهُ من الرِّجْل، وكلُّ عُقدْة حلَلْتَهَا، فقد فَصَمْتَها/، قال الله عز وجلّ: 65 ب فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها، وانفصامُ العروةِ أنْ تنفَكَّ عن موضعها، وأصْلُ الفَصْم عند العرب: أنْ تفكَّ الخلخال، ولا يبين كَسْره، فإِذا كسرته، فقد قَصَمْتَهُ بالقافِ. انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 344) . [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 21) برقم (5848) عن محمد بن عمرو، عن أبي عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 328) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 344) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 311) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 584) ، وعزاه لسفيان، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 22) برقم (5850) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 344) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 311) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 22) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 344) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 311) . (5) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 344) . (6) البينونة والبين في كلام العرب جاء على وجهين: يكون بمعنى الفرقة، ويكون الوصل، وهو هنا من الأول، يقال: ضربه فأبان رأسه من جسده وفصله. ينظر: «لسان العرب» (403، 404) . (7) أخرجه مالك (1/ 202- 203) : كتاب «القرآن» ، باب ما جاء في القرآن، حديث (7) ، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كيف يأتيك الوحي؟ فذكره. ومن طريق مالك: أخرجه البخاري (1/ 25- 26) ، كتاب «بدء الوحي» ، حديث (2) . وأخرجه مسلم (4/ 1816) : كتاب «الفضائل» ، باب عرق النبي صلّى الله عليه وسلم في البرد، حديث (87/ 2333) ، من طرق عن هشام بن عروة به.

[سورة البقرة (2) : الآيات 258 إلى 259]

ولما كان الإِيمان ممَّا ينطقُ به اللِّسان، ويعتقده القلبُ، حَسُن في الصفاتِ- سَمِيعٌ: من أجل النّطق، وعَلِيمٌ من أجْل المعتقَدِ. قوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية: الوليُّ من: وَلِيَ، فَإِذا لازم أحدٌ أحداً بنَصْره، وودِّه، واهتباله، فهو وليُّه هذا عُرْفُهُ لغةً، ولفظ الآية مترتِّب في الناس جميعاً، وذلك أن منْ آمن منهم، فاللَّه وليُّه، أخرجه من ظلمة الكُفْر إِلى نور الإِيمان، ومَنْ كفر بعد وجودِ الرسول صلّى الله عليه وسلم فَشَيْطَانَهُ ومُغْوِيهِ أخرجه من الإِيمان إِذ هو معدٌّ وأهل للدخول فيه، ولفظ الطاغوت في هذه الآيةِ يَقْتَضِي أنَّه اسم جنْسٍ ولذلك قال: أَوْلِياؤُهُمُ بالجمع إذ هي أنواع. [سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 259] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ... الاية: أَلَمْ تَرَ: تنبيهٌ، وهي رؤية القَلْب، والَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، هو نُمْرَوذُ بْنُ كَنْعَانَ «1» مَلِكُ زمانه، وصاحبُ النَّار، والبَعُوضَةِ، قاله مجاهد وغيره «2» ، قال قتادة: هو أولُ من تجبَّر، وهو صاحبُ الصَّرْح بِبَابِلَ «3» ، قيل: إِنه مَلكَ الدُّنْيَا بأجمعها، وهو أحد الكَافِرَيْنِ، والآخر بُخْتَ نَصَّرَ «4» ، وقيل: إِن النُّمْرُوذَ الذي حاجَّ إِبراهيم هو نُمْرُوذُ بْنُ فَالخ، وفي قصص هذه

_ (1) وهو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك بابل الجبار، وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية. ينظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 313) ، و «الطبري» (5/ 430) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 25) برقم (5862) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 241) بنحوه، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 345) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 585) ، وعزاه لابن جرير. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 26) برقم (5867) ، وذكره ابن عطية (1/ 344) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 584) ، وعزاه لابن جرير. (4) «بختنصر البابلي» : كان في ابتداء أمره مسكينا صعلوكا مريضا عالجه رجل كان يقرأ الكتب من بني إسرائيل، أرسله ملك الفرس في عسكر إلى الشام، وأمّره عليهم، فساروا وغنموا وعادوا سالمين، فلما كثرت في بني إسرائيل الأحداث والمعاصي دخل بخت نصر وجنوده «بيت المقدس» ، فقتل بني إسرائيل-

المحاجَّة روايتان. إحداهما: ذكر زيْد بن أسْلم أنَ النُّمْروذ هذا قَعَدَ يأمر للنَّاس بالميرة «1» ، فكلَّما جاء قومٌ، قال: مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكِمْ، فيقولُونَ: أَنْتَ، فيقولُ: مِيرُوهُمْ، وجاء إِبراهيم- عليه السلام-، يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا نُمْرُوذُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ الشَّمْسِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ: لاَ تُمِيرُوهُ، فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ دُونَ شَيْءٍ، فَمَرَّ على كَثِيبٍ رَمْلٍ كَالدَّقِيقِ، فَقَالَ: لَوْ مَلأْتُ غَرَارَتِي مِنْ هَذَا، فَإذَا دَخَلْتُ بِهِ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ حتى أَنْظُرَ لَهُمَا، فَذَهَبَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِلَهُ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ، وَجَعَلاَ يَلْعَبَانِ فَوْقَ الغِرَارَتَيْنِ، وَنَامَ هُوَ مِنَ الإِعْيَاءِ، فَقَالَتِ امرأته: لَوْ صَنَعْتُ لَهُ طَعَاماً يَجِدُهُ حَاضِراً، إِذَا انتبه، فَفَتَحَتْ إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ، فَوَجَدَتْ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحَوَارِيِّ، فَخَبَزَتْهُ، فَلَمَّا قَامَ: وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي سُقْتَ، فَعَلِمَ إِبْرَاهِيمُ أنَّ اللَّه يسَّر لَهُمْ ذَلِكَ. وقال «2» الربيعُ وغيره في هذا القصص: إِن النُّمروذَ لَمَّا قال: أنَا أُحْيِي وأُمِيتُ، أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَتَل أحَدَهُمَا، وأَرْسَلَ الآخَرَ، وقَالَ: قَدْ أحْيَيْتُ هَذَا، وأَمَتُّ هذا، فردَّ علَيْهِ إِبراهيمُ بأمْرِ الشمْسِ «3» . والروايةُ الأخرى: ذكر السُّدِّيُّ أنه لما خَرَجَ إِبراهيمُ من النَّار، وأُدْخِلَ على المَلِكِ، قالَ له: مَنْ ربُّكَ؟ قَالَ: ربِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ «4» . يقالُ: بُهِتَ الرَّجُلُ، إِذا انقطعَ، وقامت عليه الحجّة.

_ - وخرب «بيت المقدس» ، وعاد إلى «بابل» ، وأقام في سلطانه إلى ما شاء الله. ينظر: «الكامل» لابن الأثير (1/ 261، 266) . وانظر أقوال المفسرين: في «تفسير الثوري» (ص 71) ، و «الدر» (1/ 331- 333) عن علي، وابن عباس، وعكرمة، وقتادة، وسليمان بن بريدة، والضحاك، والسدي، وعبد الله بن سلام، وكعب، والحسن، ووهب. والطبري (5/ 439) عنهم، و «كنز العمال» (2/ 264) ، وابن كثير (1/ 314) عن علي وغيره، و «فتح القدير» (1/ 279) . (1) الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، قال ابن سيده: الميرة جلب الطعام، وفي التهذيب: جلب الطعام للبيع. ينظر: «لسان العرب» (4306) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 27) برقم (5876) وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 345) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 28) برقم (5878) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 346) . [.....] (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 28) برقم (5879) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 313) .

وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: إخبار لمحمّد صلّى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظُلْمهم، وظاهر اللفْظ العمومُ، ومعناه الخصوصُ لأنَّ اللَّه سبحانه قد يَهْدي بعْضَ الظالمينَ بالتَّوْبة والرجوع إِلى الإِيمان. قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ... الآية: عطفت «أوْ» في هذه الآية على المعنى الَّذِي هو التعجُّب في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ. 66 أقال ابن عبَّاس وغيره: الذي مَرَّ على القَرْيَة هو عُزَيْرٌ، وقال «1» / وهْبُ بن مُنَبِّهٍ وغيره: هو أَرْمِيَا «2» ، قال ابن إِسحاق: أَرْمِيَا هو الخَضِرُ «3» ، وحكاه النَّقَّاش عن وهْب بن منَبِّه. واختلف في القَرْيَةِ، مَا هِيَ؟ فقِيلَ: المُؤْتَفِكَةُ، وقال زيْدُ بن أسلم: قريةُ الَّذين خَرَجُوا مِنْ ديارهم، وهم أُلُوفٌ «4» ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ، وقتادة، والضَّحَّاك، والرَّبيع، وعِكْرِمَة: هي بَيْت المَقْدِسِ «5» ، لما خرَّبها بُخْتَ نَصَّرُ البابليُّ، والعَرِيشُ: سقْف البيتِ، قال السُّدِّيُّ: يقول: هي ساقطةٌ على سَقْفِها، أي: سقطت السقْف، ثم سقطت الحيطانُ عليها «6» ، وقال غيره: معناه: خاوية من الناس، وخاوية: معناه: خاليةٌ يقال: خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وخُوِيًّا، ويقال: خويت، قال الطبريُّ «7» : والأول أفصح، قال ص:

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 30) برقم (5891) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 347) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 314) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 587) ، وعزاه لابن جرير، وابن عساكر. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 30) برقم (5893) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 347) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 331) ، وابن كثير (1/ 314) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 589) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 30) برقم (5891) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 331) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 347) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 314) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 32) برقم (5906) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 331) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 347) ، وقد ذكروا هذا الأثر عن ابن زيد. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 31) بأرقام (5900) ، (5901) ، (5903) ، بأسانيد مختلفة، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 243) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 347) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 589) . وعزاه لابن جرير. (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 33) برقم (5910) . وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 589) ، وعزاه لابن جرير. (7) ذكره الطبري (3/ 32) .

وَهِيَ خاوِيَةٌ في موضع الحالِ من فَاعِلِ «مرّ» أو من «قرية» وعَلى عُرُوشِها: قيل: على بابِهَا، والمعنى: خاويةٌ من أهلها، ثابتةٌ على عروشها، والبُيُوت قائمةٌ، والمَجْرور على هذا يتعلَّق بمحذوفٍ، وهو ثابتةٌ، وقيل: يتعلَّق ب «خَاوِيَة» والمعنى: وقعتْ جُدُرَاتُهَا على سقوفها بعْد سُقُوط السقوفِ. انتهى، وقد زدنا هذا المعنى وضوحاً في سورة الكهف، واللَّه الموفِّق بفضله. وقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها: ظاهر اللفظ السؤَالُ عن إِحياءِ القَرْيَة بعمارةٍ أو سُكَّانٍ، فكأنَّ هذا تلهُّفٌ من الواقِفِ المعتبر على مدينة أحبَّته، ويحتمل أنْ يكونَ سؤاله إِنما كانَ عن إِحياء الموتى، فضرب له المَثَل في نَفْسه، وحكى الطبريُّ «1» عن بعضهم أنَّ هذا القَوْلَ منه شك في قدرة اللَّه على الإِحياء قال ع «2» : والصواب ألاَّ يتأول في الآية شكٌّ، وروي في قصص هذه الآية أنَّ بني إِسرائيل، لَمَّا أحدثوا الأحدَاثَ، بعث اللَّه عليهم بُخْتَ نَصَّرَ، فقتَلَهُم، وجَلاَهم من بْيتِ المَقْدِسِ، وخرَّبه، فلَمَّا ذهب عنه، جاء عُزَيْرٌ أَوْ أزمِيَّا، فوقَف على المدينة معتبراً، فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماته اللَّه تعالى، وكان معه حمارٌ قد رَبَطَهُ بحَبْلٍ جديدٍ، وكان معه سَلَّة فيها تِينٌ هو طعامه، وقيل: تِينٌ وعِنَبٌ، وكانتْ معه رِكْوة «3» من خَمْر، وقيل: من عصيرٍ، وقيل: قُلَّة من ماءٍ هي شرابُهُ، وبقي ميتاً مائةَ عامٍ، فروي أنَّه بَلِيَ، وتفرَّقت عظامه هو وحمارُهُ، وروي أنَّ الحمار بَلِيَ، وتفرَّقت أوصاله، دون عُزَيْرٍ. وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثَهُ: معناه: أحياه، فسأله اللَّه تعالى بوسَاطَةِ المَلَكِ، كَمْ لَبِثْتَ على جهة التقرير، فقال: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قال ابن جُرَيْج، وقتادة، والربيع: أماته اللَّه غدوة يَوْمٍ، ثم بعثه قُرْبَ الغروبِ، فظنَّ هو اليومَ واحداً، فقال: لَبِثْتُ يوماً، ثم رأى بَقِيَّةً مِن الشمْسِ، فَخَشِيَ أنْ يكون كاذباً، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فقيل له: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ «4» . وقوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، أي: لم يتغيّر.

_ (1) ذكره الطبري (3/ 33) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 348) . (3) الرّكوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه. والجمع ركوات، وركاء. ينظر: «لسان العرب» (1722) . (4) أخرجه الطبري عن ابن جريج، قتادة، الربيع (3/ 38) بأرقام (5915) ، (5916) ، (5917) ، (5918) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 589) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.

ت: قال البخاريُّ في «جامعه» : يَتَسَنَّهْ: يتغيَّر. وأمَّا قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، فقال وهْبُ بن منَبِّه وغيره: المعنى: انظر إِلى اتصال عظامِهِ، وإِحيائه جُزْءاً جُزْءاً «1» ، ويروى أنه أحياه اللَّهُ كذلك حتى صار عظَاماً ملتئِمَةً، ثم كساه لَحْماً، حتى كمل حماراً، ثم جاء ملَكٌ، فنفَخَ في أنْفِهِ الرُّوح، فقام الحمارُ ينْهَقُ. ورُوِيَ عن الضَّحَّاكِ، ووهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أيضاً أنهما قالا: بل قيلَ لَهُ: وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه، لم يُصِبْهُ شيء مِائَةَ سَنَةٍ، قالا: وإِنما العظامُ التي نَظَر إِلَيْها عظامُ نَفْسِهِ، وأعمى اللَّه العُيُون عنه، وعن حِمَاره طُولَ هذه المُدَّة «2» ، وكثّر أهل القصص في 66 ب صورة هذه النَّازلة تَكْثيراً اختصرته، / لعدم صحته. وقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، قال ع «3» : وفي إِمَاتَتِهِ هذه المُدَّةَ، ثم إِحيائِهِ- أعظمُ آية، وأمره كلّه آية للناس غابر الدهر. ت: قال ابن هِشَامٍ: لا يصحُّ انتصاب «مِائَة» ب «أَمَاتَهُ» لأن الإِماتة سلْبُ الحياة، وهي لا تمتدُّ، وإِنما الوجْهُ أنْ يضمَّن «أَمَاتَهُ» معنى «أَلْبَثَهُ» ، فكأنه قيلَ: فألبثه اللَّه بالمَوْت مِائَةَ عامٍ وحينئذٍ يتعلَّق به الظرف. انتهى من «المُغْنِي» . ومعنى «نُنْشِرُهَا» ، أي: نُحْيِيها، وقرأ حمزةُ وغيره: «نُنْشِزُهَا» «4» ومعناه: نرفعها، أي: ارتفاعا قليلاً قليلاً فكأنه وَقَفَ على نباتِ العظامِ الرُّفَاتِ، وقال النَّقَّاشُ: نُنْشِزُهَا: معناه: نُنْبِتُهَا، ومِنْ ذلك: نَشَزَ نَابُ البعير.

_ (1) أخرجه الطبري بنحوه (3/ 42) برقم (5939) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 350) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 42) برقم (5939) بنحوه، عن وهب بن منبه، وبرقم (5939) عن الضحاك، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 350) . [.....] (3) ذكره ابن عطية (1/ 350) . (4) وحجتهم أن العظام إنما توصف بتأليفها وجمع بعضها إلى بعض إذ كانت العظام نفسها لا توصف بالحياة، لا يقال: قد حيّ العظم. وإنما يوصف بالإحياء صاحبها. وحجة أخرى، وهي قوله سبحانه: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً دل على أنها قبل أن يكسوها اللحم غير أحياء، فلما قال: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً علم بذلك أنه لم يحيها قبل أن يكسوها اللحم. ينظر: «السبعة» (189) ، و «الحجة للقراء السبعة» (2/ 379) ، و «معاني القراءات» (1/ 222) ، و «إعراب القراءات» (1/ 96، 97) ، و «العنوان» (75) ، و «حجة القراءات» (144) ، و «شرح شعلة» (295) ، و «شرح الطيبة» (4/ 118) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 449) .

[سورة البقرة (2) : آية 260]

وقوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ: المعنى: قال هو: أَعلَمُ أنَّ اللَّه على كلِّ شيء قديرٌ، وهذا عنْدي لَيْسَ بإِقرار بما كان قَبْلُ يُنْكِرُهُ كما زعم الطبريُّ «1» ، بل هو قولٌ بَعَثَهُ الاعتبارُ كما يقول الإِنسان المؤمن، إِذا رأى شيئاً غريباً مِنْ قدرةِ اللَّهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ونحْو هذا. وأما قراءة حمزةَ والكسائي «2» : «قال اعلم» . موصولةَ الألفِ، ساكنةَ الميمِ، فتحتمل وجهيْن: أحدهما: قال المَلَكُ له: اعلم، وقد قرأ ابن مسعود، والأعمشُ «3» : «قِيلَ اعلم» . والوجه الثاني: أنْ يُنَزِّلَ نفسه منزلةَ المُخَاطَبِ الأجنبيِّ المُنْفَصِلِ، أي: قال لنفسه: اعلم، وأمثلة هذا كثيرة. [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ... الآية: قال جمهور العلماء: إِن إبراهيم- عليه السلام- لم يكُنْ شَاكًّا في إِحياء اللَّه الموتى قطُّ، وإنما طلب المعايَنَة، وأما قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» «4» فمعناه: أنْ لو كانَ شَكَّ، لكنَّا نحْنُ أَحَقُّ به، ونحن لا نشكّ، فإبراهيم- عليه

_ (1) ذكره الطبري (3/ 47) . (2) ينظر: «السبعة» (189) ، و «الحجة» (2/ 383) ، و «حجة القراءات» (144) ، و «معاني القراءات» (1/ 223) ، و «شرح شعلة» (296) ، و «العنوان» (75) ، و «شرح الطيبة» (4/ 118) ، و «إتحاف» (1/ 449) . (3) قراءة ابن مسعود ذكرها ابن زنجلة في «حجة القراءات» (ص 144) وابن خالويه في «مختصر الشواذ» (ص 23) ، والزمخشري في «الكشاف» (1/ 308) ، وقراءتهما معا في «المحرر الوجيز» (1/ 351) ، و «البحر المحيط» (2/ 308) ، وقراءة الأعمش وحده في «الدر المصون» (1/ 628) . (4) أخرجه البخاري (6/ 473) ، كتاب «الأنبياء» ، باب قوله: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، حديث (3372) ، و (6/ 481) باب قول الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ، حديث (3387) ، و (8/ 49) ، كتاب «التفسير» ، باب: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ، حديث (4537) ، وباب تفسير سورة يوسف، حديث (4694) ، و (12/ 397) ، كتاب «التعبير» ، باب رؤيا أهل السجون، حديث (6992) ، ومسلم (1/ 133) ، كتاب «الإيمان» ، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، حديث (238/ 151) ، وابن ماجة (2/ 1335) ، كتاب «الفتن» ، باب الصبر على البلاء، حديث (4026) ، -

السلام- أحرى ألاَّ يشكَّ، فالحديث مبنيٌّ على نفْيِ الشكِّ عن إِبراهيم، والذي روي فيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «ذَلِكَ مَحْضُ الإِيمَانِ» «1» إِنما هو في الخواطر الجاريَةِ الَّتي لا تثبتُ، وأما الشَّكُّ، فهو توقّف بيْن أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخرِ، وذلك هو المنفيُّ عن الخليل صلّى الله عليه وسلم. وإِحياء الموتى إِنما يثبُتُ بالسمْع، وقد كان إِبراهيمُ أُعْلِمَ بذلك يدلُّك على ذلك قولُهُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، والشكُّ يبعد على من ثبت قدمه في

_ - والطبري في تفسيره بأرقام (5973) ، (5973) ، (19399) ، (19400) ، وأحمد (2/ 326) ، وابن حبان (6208) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 134) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص (507) ، وابن منده في «الإيمان» (369، 370، 371) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 123- بتحقيقنا) . كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا. قال البغوي في «شرح السنة» (1/ 124) : حكي عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال: لم يشك النبي، ولا إبراهيم (صلوات الله عليهما) في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكّا أن يجيبهما إلى ما سألاه، ومما يؤيد هذا الذي ذكره المزني ما روي عن ابن عباس في قوله عز وجل: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. قال أبو سليمان الخطّابي: ليس في قوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عنهما، يقول: إذا لم أشك أنا، ولم أرتب في قدرة الله (عز وجل) على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك ولا يرتاب، وقال ذلك على سبيل التواضع، والهضم من النفس، وفيه الإعلام أن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة شك، لكن من قبل زيادة العلم فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، وقوله: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، أي: بيقين النظر. (1) أخرجه مسلم (1/ 119) : كتاب «الإيمان» ، باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها، حديث (211/ 133) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ، كما في «تحفة الإشراف» (7/ 107) ، وأبو عوانة (1/ 79) ، وابن حبان (149- الإحسان) ، وابن منده في «الإيمان» (347) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 251) والبغوي في «شرح السنة» (1/ 120- بتحقيقنا) . وكلهم من طريق إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يجد الشيء، لو خر من السماء فتخطفه الطير كان أحب إليه من أن يتكلم به؟ قال: ذلك محض، أو صريح الإيمان. اهـ. وقال ابن حبان: إذا وجد المسلم في قلبه، أو خطر بباله من الأشياء التي لا يحل له النطق بها- من كيفية الباري جل وعلا، أو ما يشبه هذه، فرد ذلك على قلبه بالإيمان الصريح، وترك العزم على شيء منها- كان رده إياها من الإيمان، لا أن خطرات مثلها من الإيمان. وقال البغوي: قال أبو سليمان الخطابي: قوله صلّى الله عليه وسلم: «ذلك صريح الإيمان» معناه أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم، والتصديق به، وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله، فكيف يكون إيمانا صريحا.

الإِيمان فقَطْ، فكيف بمرتبة النبوَّة والخُلَّة، والأنبياءُ معصومون من الكبائرِ، ومن الصغائرِ التي فيها رذيلةٌ إِجماعاً، وإِذا تأمَّلت سؤاله- عليه السلام- وسائِرَ ألفاظ الآيةِ، لم تعط شكًّا، وذلك أنَّ الاستفهام ب «كَيْفَ» ، إِنما هو عن حالِ شيء موجودٍ، ومتقرّر الوجودِ عند السائل والمسئول نحو قولكَ: كَيْفَ عِلْمُ زَيْدٍ، وَكَيْفَ نَسْجُ الثَّوْبِ؟ ف «كَيْفَ» في هذه الآية إِنما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء، والإِحياءُ متقرِّر، ولما وجدنا بعض المنكرين لوجودِ شيْء قد يعبَّر عن إِنكاره بالاستفهام عن حالةٍ لذلك الشيء، يعلم أنها لا تصحّ، فنيلزم من ذلك أنَّ الشيْءَ في نفْسه لا يصحُّ مثال ذلك: أنْ يقولَ مدَّعٍ: أنا أرفَعُ هذا الجَبَلَ، فيقول المكذِّب: كَيْفَ ترفعه، فهذه طريقة مجازٍ في العبارة، ومَعْنَاها: تسليمٌ جدليٌّ كأنه يقول: افرض أنَّك ترفعه، أَرِنِي كيف، فلمّا كان في عبارة الخليل صلّى الله عليه وسلم هذا الاشتراكُ المجازيُّ، خَلَّصَ اللَّه سبحانه ذلك/، وحمَلَهُ على أنْ يبيّن الحقيقةَ، فقال له: 67 ب أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى فكمل الأمر، وتخلَّص من كلِّ شك، ثم علَّل- عليه السلام- سؤاله بالطّمأنينة. ت: قال الداوديّ: وعن ابن جُبَيْر: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بالخُلَّة «1» ، قال مجاهدٌ، والنَّخَعِيُّ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، أي: أزداد إِيماناً إِلى إِيماني «2» ، وعن قتادة: لأزداد يقيناً «3» . انتهى. قال ع «4» : وقوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ معناه: إِيماناً مطلقاً دخل فيه فصْل إِحياء الموتى، والواو: واو حالٍ دخَلَتْ عليها ألِفُ التقريرِ، وقال ص: الهمزة في أَوَلَمْ تُؤْمِنْ للتقرير كقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] وكقوله [الوافر] : أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا «5» ...

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 50) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 352) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 52) ، برقم (5984) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 334) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 353) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 52) برقم (5979) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 334) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 353) . (4) ذكره ابن عطية (1/ 353) . (5) صدر بيت لجري، وعجزه ............... ... ... وأندى العالمين بطون راح-

أي: قد شَرَحْنا لك صدرك، وأنتم خَيْر. وقولُ ابن عطيَّة «1» : «الواو للحالِ، دخَلَتْ عليها ألفُ التقرير» : متعقَّب، والظاهر أنَّ التقرير منسحبٌ على الجملة المنفيَّة فقطْ، وأن الواو للعطْف. انتهى. ولِيَطْمَئِنَّ: معناه: ليسكُنَ، فطمأنينةُ القَلْب هي أنْ تَسْكُنَ فِكَرُهُ في الشيء المعتَقَدِ، والفِكَرُ في صورة الإِحياء غيْرُ محظورةٍ كما لنا نحن اليوم أنْ نفكِّر فيها، بل هي فِكَرٌ، فيها عِبَرٌ، فأراد الخليلُ أن يعاين، فتذهب فِكَرُهُ في صُورة الإِحياء إِذ حرَّكه إِلى ذلك، إِما الدابَّةُ المأكولةُ في تأويل، وإِمَّا قولُ النُّمْرُوذِ: أنا أُحْيِي وأميتُ في تأويل آخر، ورُوِيَ أن الأربعة التي أَخَذَ إِبراهيم- عليه السلام- هي الدِّيكُ، وَالطَّاوُسُ، والحَمَامُ، وَالغُرَابُ، قاله مجاهد وغيره «2» ، وقال ابن عباس: مكان الغرابِ الكَرْكِيّ، فروي أنه أخذها- عليه السلام- حَسَب ما أمر، وذكَّاها، ثم قَطَعها قِطَعاً قِطَعاً صِغَاراً، وجمع ذلك مع الدم والرِّيش، ثم جعل من ذلك المجْمُوع المختلط جزْءاً على كلِّ جبل، ووقَفَ هو من حيثُ يرى تلك الأجزاء، وأمْسَك رُءُوس الطَّيْر في يده، ثم قال: تَعَالَيْنَ بإِذنِ اللَّه، فتطايَرَتْ تلك الأجزاءُ، وطار الدمُ إِلى الدمِ، والريشُ إِلى الريشِ حتى التأمت كما كانَتْ أولاً، وبقيتْ بلا رءوسٍ، ثم كرر النداء، فجاءته سعياً حتى وضعت أجسادها في رءوسها، وطارتْ بإِذن اللَّه تعالى. وقوله تعالى: فَصُرْهُنَّ، يقال: صُرْتُ الشَّيْءَ، أصُورُهُ، بمعنى: قطعته، ويقال أيضاً: صُرْتُ الشيْءَ، بمعنى: أَمَلْتُهُ، وقد تأوَّل المفسِّرون اللفظة بمعنى التقطيع، وبمعنى الإمالَةِ، وقد قال ابن عَبَّاس وغيره في هذه الآية: «صرهنّ» : معناه: قطّعهنّ «3» ، وقال

_ - وهو من قصيدة مدح بها عبد الملك بن مروان مطلعها: أتصحو بل فؤادك غير صاح ... عشيّة همّ صحبك بالرّواح وهو في ديوانه (ص 85، 89) ، و «الجنى الداني» (ص 32) و «شرح شواهد المغني» (1/ 42) و «لسان العرب» (7/ 101) (نقص) و «مغني اللبيب» (1/ 17) وبلا نسبة، في «الخصائص» (2/ 463، 3/ 269) ، و «رصف المباني» (ص 46) ، و «شرح المفصل» (8/ 123) ، و «المقتضب» (3/ 292) . واستشهد بمجىء همزة الاستفهام للإيجاب وتحقق الكلام. والمعنى: أنتم خير من ركب المطايا. [.....] (1) ذكره ابن عطية (1/ 353) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 53) برقم (5991) عن مجاهد، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 334) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (1/ 248) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 352) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 56) برقم (5996) عن ابن عباس، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 334) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 354) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 264]

قتادة: صُرْهُنَّ: فَصِّلْهن «1» ، وقال عطاء بن أبي رَبَاح «2» : صُرْهُنَّ: اضممهن «3» ، وقال ابن زيد: معناه: اجمعهن «4» ، وعن ابن عباس أيضاً: أوْثِقْهُن «5» . وقرأ قومٌ: «فَصُرَّهُنَّ» بضم الصاد، وشدِّ الراء كأنه يقول: فشدّهنّ ومنه: صرّة الدّنانير. [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 264] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ في الآية بيانُ شرفِ النفقة في سبيلِ اللَّه، وتحسينها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآيةُ في نفقة التطوُّع، وسبلُ اللَّهِ كثيرةٌ، وهي جميعُ ما هو طاعةٌ، وعائدٌ بمنفعةٍ على المسلمين، وعلى الملَّة وأشهرها وأعظمها غَنَاءُ الجهَاد لتكون كَلمةُ اللَّه هي العليا، والحبَّة: اسم جنْسٍ لكلِّ ما يزرعه ابن آدم، وأشهر ذلك البُرُّ، وقد يوجد في سنبل القمحِ/ ما فيه مائة حبّة، وأما في 67 ب سائر الحبوب، فأكثر، وقد ورد القُرآن بأن الحسنة بعَشْر أمثالها واقتضت الآية أنَّ نفقة

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 354) . (2) عطاء بن أبي رباح القرشي. مولاهم، أبو محمد الجندي، اليماني، نزيل «مكة» وأحد الفقهاء والأئمة. عن: عثمان، وعتاب بن أسيد مرسلا، وعن أسامة بن زيد، وعائشة. وعنه: أيوب، وحبيب بن أبي ثابت، وجعفر بن محمد، وجرير بن حازم. قال ابن سعد: كان ثقة عالما كثير الحديث. وقال أبو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء. مات سنة 136 هـ. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 230) . (3) ذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 334) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 354) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 57) برقم (6012) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 335) عن أبي عبيدة، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 354) . (5) ذكره السيوطي في «تفسيره» (1/ 592) ، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس.

الجهَادِ حسنتها بِسَبْعِمِائَةِ ضعفٍ، وبيَّن ذلك الحديث الصحيحُ، واختلف في معنى قوله سبحانه: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، فقيل: هي مبينة، ومؤكِّدة لما تقدَّم من ذكْر السَّبْعمائَةِ، وقالت طائفة من العلماء: بل هو إِعلام من اللَّه تعالى بأنه يضاعف لِمَنْ يشاء أكْثَر من سبْعمائة ضعْفٍ. ت: وأرجحُ الأقوالِ عنْدِي قولُ هذه الطائفة، وفي الحديثِ الصحيحِ عن ابن عبّاس، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عن ربِّه تبارَكَ وتعالى، قال: «إِنَّ اللَّهَ تعالى كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئَاتِ، ثمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ... » الحديثَ، رواه مسلمٌ والبخاريُّ بهذه الحروفِ «1» . انتهى. وقال ابن عمر: لمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ، فَنَزَلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ... [البقرة: 245] الآية، فَقَالَ: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ، فَنَزَلَتْ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ... «2» [الزمر: 10] . وفي الآية حذفُ مضافٍ، تقديره مَثَلُ إِنفاقِ الذين، وَكَمَثَلِ ذِي حَبَّة، وقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، لَمَّا تقدَّم في الآية التي قَبْلَها ذِكْرُ فَضْلِ الإِنفاقِ في سبيلِ اللَّهِ علَى العُمُوم، بيَّن أنَّ ذلك إِنما هو لِمَنْ لم يُتْبِعْ إِنفاقَهُ منًّا ولا أذًى، وذلك أنَّ المنفِقَ في سبيلِ اللَّهِ، إنما يريد وجه اللَّه تعالى، ورجاء ثوابه، وأمَّا من أراد من المُنْفِقِ علَيْه جزاءً بوَجْهٍ من الوجوه، فهذا لم يُرِدْ وجْهَ اللَّهِ تعالى، وهذا هو الذي متى أخلفه طنه، مَنَّ بالإِنفاق وآذى، إِذ لم يكُنْ إِنفاقه مخلصاً لوجه اللَّه، فالمَنُّ والأذى مُبْطِلانِ للصَّدقة، وهما كاشفان لمقاصد المُنْفِقينَ، والمَنُّ: ذِكْرُ النِّعمة على معنى التعديدِ لها، والتقْريعِ بها، والأَذَى: السَّبُّ والتشكِّي، وهو أعمُّ من المَنِّ، لأن المَنَّ جزء من الأذى، ولكنَّه نصَّ عليه لكثرة وقوعه، وقال زيدُ بْنُ أسْلَم: لَئِنْ ظَنَنْتَ أنَّ سلاَمَكَ يَثْقُلُ على من أنفقْتَ علَيْه، تريدُ وجْهَ اللَّه، فلا تسلِّم علَيْه «3» ، وقالَتْ له امرأةٌ: «يا أبا أُسَامَة، دُلَّنِي على رجل يخرج

_ (1) أخرجه البخاري (11/ 331) ، كتاب «الرقاق» ، باب من هم بحسنة أو سيئة، حديث (6491) ، ومسلم (131) ، كتاب «الإيمان» ، باب إذا هم العبد بحسنة، وأحمد (1/ 310) من حديث ابن عباس. (2) أخرجه ابن حبان (1648- موارد) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 313) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 356) .

في سَبِيلِ اللَّهِ حقًّا فإِنهم إِنما يخرجُون ليأْكُلُوا الفواكه، فإِنَّ عندي أَسْهُماً وجَعْبَةً «1» ، فقالَ لَهَا: لاَ بَارَكَ اللَّه فِي أَسْهُمِكِ وَجَعْبَتِكِ، فَقَدْ آذيتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تُعْطِيَهُمْ» . وتضمَّن اللَّه الأَجْرَ للمُنْفِقِ في سبيلِ اللَّه، والأجْرُ: الجَنَّة، ونفى عنه الخوْفَ لما يستقبلُ، والحُزْنَ على ما سَلَف من دنْياه لأنه يغتبط بآخِرَتِهِ. ت: وممَّا جاء من صحيح الآثار في هذا البابِ ما رواه مالِك في «الموطَّإ» ، عن ابن شِهَابٍ، عن حُمَيْد بن عَبْد الرحمنِ بْن عَوْف «2» ، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ/، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهل الجهاد، دعي من باب 68 أالجهاد، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا على مَنْ يدعى مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يدعى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» «3» ، قال أبو عمر بن عبد البَرِّ في «التمهيد» «4» : في هذا الحديثِ من الفقْه: [والفضائل] الحضُّ على الإِنفاقِ في سبل الخير، ومعنى زوجَيْنِ، أي: شيئين من نوعٍ واحدٍ نحو درهمَيْن، أو دينارَيْن، أو فرسَيْن، أو قميصَيْن، هكذا قال أهل العلْمِ، وفيه: أَنَّ من أكثر مِنْ شيء، عُرِفَ به، ونُسِبَ إِلَيْه ألا ترى إِلى قوله: «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ» ، يريد: من أكثر

_ (1) الجعبة: كنانة النّشّاب. ينظر: «لسان العرب» (630) . (2) حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزّهري المدني. عن أمه أم كلثوم بنت عقبة، وخاله عثمان، وطائفة. وعنه ابنه عبد الرحمن، وابن أخيه سعد، والزّهري. وثقه أبو زرعة وقال: مات سنة خمس وتسعين. ينظر: «الخلاصة» (1/ 259) . (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 469) ، كتاب «الجهاد» ، باب ما جاء في الخيل والمسابقة بينها، حديث (49) . ومن طريق مالك أخرجه البخاري (4/ 133) كتاب «الصيام» ، باب الريان للصائمين، حديث (1897) ، والترمذي (5/ 614) كتاب «المناقب» ، باب في مناقب أبي بكر وعمر، حديث (3674) ، والنسائي (4/ 168- 169) كتاب «الصوم» ، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، وفي (6/ 47- 48) كتاب «الجهاد» ، باب فضل النفقة في سبيل الله تعالى. وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه البخاري (3666) ، ومسلم (2/ 712) كتاب «الزكاة» ، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث (85/ 1027) ، والنسائي (5/ 9) كتاب «الزكاة» ، باب وجوب الزكاة. والبيهقي (9/ 171) من طريق الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به. [.....] (4) ينظر: «التمهيد» (7/ 184) .

منها، فنُسِبَ إِلَيْها لأن الجميع من أهل الصلاة وكذلك: مَنْ أكثر من الجهادِ، ومِنَ الصيامِ على هذا المعنى، والرَّيَّانُ: فَعْلاَن من الرِّيِّ، ومعنى الدعاء من تلك الأبواب: إِعطاؤه ثوابَ العامِلِينَ تلْكَ الأعمال، ونَيْلُه ذلك، واللَّه أعلم، وفيه: أنّ للجنّة أبواب، يعني: متعدِّدة بحَسَب الأعمال. انتهى. وروى ابن أبي شيبة في «مسنده» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أنَّ لِكُلِّ أَهْلِ عَمَلٍ بَابَاً مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يُدْعَوْنَ فِيهِ بِذَلِكَ العَمَلِ» «1» . هذا لفظه على ما نقله صاحب «الكوكب الدري» . انتهى. قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً: هذا إِخبارٌ، جزم من اللَّه تعالى أنَّ القول المعروفَ وهو الدعاءُ والتأنيسُ والترجيةُ بما عند اللَّه- خير من صدقة، هي في ظاهرِهَا صدَقَةٌ، وفي باطنها لا شَيْء لأن ذلك القوْلَ المعروفَ فيه أجْر، وهذه لا أجْر فيها، والمَغْفِرَة: السَّتْر للخَلَّة، وسوءِ حالة المُحْتَاجِ ومِنْ هذا قولُ الأعرابيِّ، وقد سأل قوماً بكلامٍ فصيحٍ، فقال له قائلٌ: مِمَّنِ الرجُل؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ غَفْراً، سُوءُ الاِكْتِسَابِ يَمْنَعُ مِنَ الاِنْتِسَابِ» . وقال النَّقَّاشُ يقال: معناه: ومغفرةٌ للسائلِ إِنْ أغلظ أو جفا، إِذا حُرِم. ثم أخبر تعالى بغنَاهُ عن صدَقَةِ مَنْ هذه حالُهُ، وحلْمِهِ عَمَّن يقع منه هذا وإِمهالِهِ. وحدَّث [ابن] الجَوْزِيِّ «2» في «صَفْوة الصَّفْوَة» بسنده إِلى حارثَةَ بْنِ النّعمان «3»

_ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 578) من حديث أبي هريرة. (2) عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، القرشي، البغدادي، أبو الفرج، علامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، مولده في 508 هـ، له ثلاثمائة مصنف، منها: «روح الأرواح» ، «الأذكياء وأخبارهم» ، «الناسخ والمنسوخ» ، «تلبيس إبليس» ، «صيد الخاطر» ، «غريب الحديث» ، وغيرها كثير جدا. توفي في 597 هـ. ينظر: «وفيات الأعيان» (1/ 279) ، «البداية والنهاية» (13/ 28) ، «مفتاح السعادة» (1/ 207) ، «ابن الوردي» (2/ 118) ، «آداب اللغة» (3/ 91) ، «دائرة المعارف الإسلامية» (1/ 125) ، «الأعلام» (3/ 317) ، «البداية والنهاية» (13/ 28- 30) ، و «العبر» (4/ 297- 298) ، و «هدية العارفين» (1/ 520- 523) . (3) حارثة بن النعمان بن نفع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النّجار الأنصاريّ. ذكره موسى بن عقبة وابن سعد فيمن شهد بدرا، وقد ذكره ابن إسحاق إلا أنه سمى جدّه رافعا. وقال ابن سعد: يكنى أبا عبد الله. وكان برّا بأمه، وهو عند أحمد من طريق معمر عن الزهري، عن عروة أو غيره ولفظه: كان أبرّ الناس بأمه. ينظر: «الإصابة» (1/ 707) .

الصحابيِّ- رضي اللَّه عنه- قال، لَمَّا كُفَّ بصره، جعل خيطاً في مُصَلاَّه إِلى بابِ حُجْرته، ووضع عنده مِكْتَلاً فيه تَمْرٌ وغير ذلك، فكان إِذا سأل المِسْكِين أخذ من ذلك التَّمْر، ثم أخذ من ذلك الخَيْط حتى يأخذ إِلى باب الحُجْرة، فيناوله المِسْكِين، فكان أهله يقولُونَ: نَحْنُ نَكْفِيكَ، فيقولُ: سَمِعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ مُنَاوَلَةَ المِسْكِينِ تَقِي مِيتَةَ السُّوءِ» انتهى «1» . وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ... الآية. العقيدةُ أنَّ السيئات لا تبطل الحسنَاتِ، فقال جُمْهُورُ العلماء في هذه الآية: إِن الصدقة التي يعلم اللَّه من صاحبها أنه يمنُّ بها أو يؤذِي فإنها لا تُتقبَّلُ صدَقَةً، وقيل: بل يجعل اللَّه للمَلَكِ علَيْها أمارةً، فهو لا يكتبها، قال ع «2» : وهذا حسنٌ لأن المانَّ المُؤْذِيَ لم تكُنْ نيَّته خالصةً للَّه سبحانه، فلم تترتَّب له صدقةٌ، فهذا هو البطلانُ بالمَنِّ والأذى، وهما لا يبطلان صدَقَةً غيرها سالمةَ النية. ثم مثَّل اللَّه سبحانه هذا الَّذي يَمُنُّ ويؤذي بحَسَب مقدِّمه نيته بالذي ينفقُ رياءً، لا لوجْه اللَّه/، والرِّيَاءُ: مصدرٌ من «فَاعَلَ» من الرؤية: كأنّ الرياءَ تظاهر، وتفاخر بين من لا 68 ب خير فيه من الناس. قال المَهْدَوِيُّ: والتقدير: كإِبطال الذي ينفقُ ريَاءً. وقوله تعالى: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يحتمل أنْ يريد الكافر أو المنافق إِذْ كلٌّ منهما ينفق ليقال: جَوَاد، ثم مثَّل سبحانه هذا المُنْفِقَ رياءً بِصَفْوَانٍ عليه ترابٌ، فيظنه الظانُّ أرضاً منْبِتَةً طيِّبةً كما يظنُّ قومٌ أنَّ صدقة هذا المرائي لها قَدْر، أو معنًى، فإِذا أصاب الصَّفْوَانَ وابلٌ من المَطَر، انكشف ذلك التُّرَاب، وبقي صَلْداً، فكذلك هذا المرائي، إِذا كان يوم القيامة، وحضرت الأعمال، انكشَفَ سرُّه، وظهر أنه لا قَدْر لصدَقَاته، ولا مَعْنَى، والصَّفْوَانُ: الحَجَر الكبيرُ الأملَسُ، والوَابِلُ: الكثير القَوِيُّ من المَطَر وهو الذي يُسَيِّلُ وجْهَ الأرْضِ، والصَّلْدُ من الحجارة: الأملَسُ الصُّلْب الذي لا شيْء فيه، ويستعار للرأسِ الذي لا شَعْرَ فيه. وقوله تعالى: لاَّ يَقْدِرُونَ يريد: الذين يتفقُونَ رياءً، أي لا يقدرون على الاِنتفاع

_ (1) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/ 2/ 52) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 357) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 265 إلى 266]

بشيء من إنفاقهم ذلك، وهو كَسْبهم. وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إِما عمومٌ يراد به الخصوصُ، ويحتمل لا يهْدِيهِمْ في كفرهم إِذ هو ضلالٌ محضٌ، ويحتمل: لا يهديهم في صدَقَاتِهِم، وأعمالِهِم، وهم على الكفر. [سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 266] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) وقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ... الآية: من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكْرُ نقيضِ ما يتقدَّم ذكره ليتبيَّن حال التضادِّ بعرضها على الذهْن، ولما ذكر اللَّه صدقاتِ القوم الذين لا خَلاَق لصدَقَاتهم، ونَهَى المؤْمنين عن مواقَعَة ما يشبه ذلك بوَجْهٍ مَّا، عَقَّبَ في هذه الآية بذكْرِ نفقاتِ القَوْم الذين بذَلُوا صدقاتِهِمْ على وجْهها في الشرع، فضرب لها مثلاً، وتقدير الكلام: ومَثَلُ نفقةِ الذين ينفقون كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّة، أو تقدِّر الإِضمار في آخر الكلام، دون إِضمار في أوله كأنه قال: كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّةِ- وابتغاء: معناه طلب، وهو مصدر في موضع الحالِ- وتَثْبِيتاً: مصدر، ومَرْضَاة: مصدر من: رَضِيَ. قال ص: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً كلاهما مفعولٌ من أجله، وقاله مكِّيٌّ، وردَّه ابن عَطيَّة «1» بأن ابتغاء: لا يكون مفعولاً من أجله، لعطف: «وَتَثْبِتاً» عليه، ولا يصحُّ في «تثبيت» أنْ يكون مفعولاً من أجله لأنَّ الإِنفاق ليس من أجل التثبيت وأجيب: بأنه يمكن أنْ يقدَّر مفعولُ التثبيت الثوابَ، أي: وتحصيلاً لأنفسهم الثوابَ على تلك النفقة فيصحّ أنْ يكون مفعولاً من أجله، ثم قال أبو حَيَّان «2» ، بعد كلام: والمعنى أنَّهم يُثَبِّتُونَ من أنفسهم على الإِيمان، وما يرجُونه من اللَّه تعالى بهذا العمل. انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 358) . (2) ذكره أبو حيان (2/ 323) .

قال قتادة وغيره: وَتَثْبِيتاً: معناه: وتيقُّناً، أي «1» : أنَّ نفوسهم لها بصائرُ متأكِّدة، فهي تثبتهم على الإِنفاق في طاعة اللَّه تثبيتاً، وقال مجاهد والحَسَن: معنى قوله: وَتَثْبِيتاً، أي: أنهم يتثبَّتون، أين يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ «2» . قال الحَسَن: كان الرجُلُ، إِذا هَمَّ تثبَّت فإِنْ كان ذلك لِلَّه أمضاه، وإِنْ خالَطَهُ شيْء أَمْسَك «3» . والقولُ الأول أصوبُ لأن هذا المعنى الذي ذهب إِليه مجاهدٌ، والحسنُ إِنما عبارته: «وتَثْبِيتاً» ، فإِنَّ قال محتجٌّ: إِن هذا من المصادر الَّتِي خُرِّجَتْ على غير الصَّدْر كقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: 8] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] فالجوابُ: أنَّ هذا لاَ يسُوغُ إلاَّ مع ذِكْر الصدرِ، والإِفصاحِ/ بالفعْلِ المتقدِّم للمصدر، وأمّا 69 أإذا لم يقع إِفصاحٌ بفعْلٍ، فليس لك أنْ يأتي بمصدر في غير معناه، ثم تقول: أحمله على فعْلِ كذا وكذا لفعلٍ لم يتقدَّم له ذكْرٌ، هذا مَهْيَعُ كلامِ العربِ فيما علمتُ. والرَّبْوَةُ: ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيراً معه في الأغلب كثافةُ الترابِ وطِيبُهُ وتعمُّقه، وما كان كذلك، فنباتُه أحْسَنُ. ولفظ الرَّبْوَة: مأخوذ من: رَبَا يَرْبُو، إِذا زاد، وآتَتْ: معناه أعطت، والأُكُل بضم الهمزة: الثمر الَّذي يُؤْكَل، والشيء المأْكُول مِنْ كُلِّ شيء، يقال له: أُكُل، وإِضافته إِلى الجنَّة إِضافة اختصاص كَسَرْج الدَّابَّة، وبابِ الدَّارِ، وضِعْفَيْن: معناه اثنين مِمَّا يظن بها، ويُحْزَر من مثلها. ثم أكَّد سبحانه مدْحَ هذه الربوة بأنها إِنْ لم يصبْها وابلٌ، فإِن الطَّلَّ يكفيها، وينوبُ مناب الوابِلِ وذلك لكَرَمِ الأرض، والطَّلُّ: المستدَقُّ من القَطْرِ، قاله ابن عبَّاس وغيره «4» ، وهو مشهورُ اللغة، فشبه سبحانه نُمُوَّ نفقاتِ هؤلاء المُخْلِصِينَ الذين يُرْبِي اللَّه صدقاتِهِمْ كتربية الفلوّ «5»

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 69) برقم (6065) عن قتادة. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 358) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 70) برقم (6069) ، (6070) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 340) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 359) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 319) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 359) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 360) . (5) الفلوّ والفلوّ والفلو: الجحش والمهر إذا فطم. ينظر: «لسان العرب» (3469) .

والفصيلِ «1» حسب الحديثِ بنموِّ نباتِ هذه الجنة بالرَّبْوَة الموصُوفةِ، وذلك كلُّه بخلافِ الصَّفْوان، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: وعد ووعيد. وقوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ... الاية: حكى الطبريُّ «2» عن ابْن زَيْد، أنَّه قرأ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ ... [البقرة: 264] الآية: ثم قال: ضرَبَ اللَّه في ذلك مثلاً فقال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ... الآية، وهذا بيِّن، وهو مقتضى سياقِ الكلامِ «3» ، وقال ابنُ عَبَّاس: هذا مثَلٌ ضربه اللَّه كأنه قال: أيودُّ أحدُكُم أنْ يعمل عمره بعَمَلِ أهْل الخير، فإذا فَنِيَ عمره، واقترب أجله، خَتَم ذلك بعَمَلٍ مِنْ عمل أهْل الشقاء، فَرَضِيَ ذلك عُمَرُ منه، رضي اللَّه عنه «4» ، وروى ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ «5» عن عمر نحوه «6» . ع «7» : فهذا نظرٌ يحمل الآية على كلِّ ما يدخل تحْتَ ألفاظها، وقال بنَحْو هذا مجاهدٌ وغيره «8» ، ونقل الثَّعْلَبِيُّ عن الحَسَن، قال: قَلَّ واللَّهِ، من يعقلُ هذا المَثَلَ شيْخٌ كبر سنه، وضَعُف جسمه، وَكَثُرَ عياله، أَفْقَرُ ما كان إِلى جنته، وأحدُكُم أفْقَرُ ما يكُونُ إلى عمله، إِذا انقطعت الدنْيَا عنه. انتهى، وهو حسن جدّا.

_ (1) الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه، والجمع فصلان، وفصال. ينظر: «لسان العرب» (3423) . [.....] (2) أخرجه الطبري (3/ 77) برقم (6102) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 77) برقم (6102) . (4) أخرجه البخاري (4538) ، وأخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 75) برقم (6093) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 253) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 360) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 602) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس. (5) عبد الله بن عبيد الله بن زهير، وهو أبو مليكة بن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، التيمي، أبو بكر المكي. عن عائشة، وأم سلمة، وأسماء، وابن عباس. وأدرك ثلاثين من الصحابة (رضي الله عنهم) . وعنه ابنه يحيى، وعطاء، وعمرو بن دينار. وثقه أبو حاتم وأبو زرعة. قال البخاري: مات سنة سبع عشرة ومائة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 76) ، و «تهذيب التهذيب» (5/ 306) ، «تقريب التهذيب» (1/ 431) ، و «تهذيب الكمال» (2/ 707) ، «الكاشف» (2/ 106) ، «طبقات ابن سعد» (473) . (6) ينظر الأثر السابق، و «المحرر الوجيز» (1/ 360) . (7) ذكره ابن عطية (1/ 360) . (8) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 75) برقم (6092) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 603) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 267 إلى 269]

وقال أبو عبد اللَّه اللَّخْمِيُّ في «مختصره» لتفسير الطبريِّ: وعن قتادة: هذا مثلٌ «1» ، فاعقلوا عن اللَّه أمثالَهُ هذا رجلٌ كَبرت سنُّه، ورَقَّ عظمه، وكَثُر عياله، ثم احترقت جنَّته، أحْوجَ ما يَكُون إِليها، يقول: أيحبُّ أحدكم أنْ يضلَّ عنه عمله يَوْمَ القيامةِ أحْوَجَ ما يكُونُ إِلَيْه. وعن الحَسَنِ نحوه. انتهى. وخصَّ الأعناب والنَّخيل بالذكْر، لشرفهما، وفَضْلهما على سائر الشَّجَر، والواو في قوله: وَأَصابَهُ واو الحالِ وكذلك في قوله: وَلَهُ، وضعفاءُ: جمعُ ضعيفٍ، والأعصار: الريحُ الشديدةُ العاصفةُ التي فيها إِحراق لكلِّ ما مرَّت عليه يكونُ ذلك في شدَّة الحرِّ، ويكون في شدَّة البَرْد، وكلّ ذلك من فيح جهنّم. ولَعَلَّكُمْ: تَرَجٍّ في حقِّ البَشَر، أي: إِذا تأمَّل من بُيِّنَ له هذا البيان رُجِيَ له التفكُّر، وكان أهْلاً له، وقال ابنُ عَبَّاس: تتفكَّرونَ في زوالِ الدنْيَا، وفنَائِها، وإِقبال الآخرةِ وبقائها «2» [سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 269] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ ... الآية: هذا خطاب لجميع أمّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم/ وهذه صيغةُ أمر بالإِنفاق، واختلف المتأوِّلون، هل المراد بهذا 69 ب الإِنفاق الزَّكَاةُ المفروضةُ، أو التطوُّع، والآية تعمُّ الوجهَيْن، لكنَّ صاحب الزكاة يتلَقَّاها على الوُجُوب، وصاحب التطوُّع يتلَقَّاها على الندْبِ، وجمهورُ المتأوِّلين قالوا: معنى مِنْ طَيِّباتِ: من جَيِّد ومختارِ ما كسبتُمْ، وجعلوا الخبيثَ بمعنَى الرديء، وقال ابن زَيْد: معناه: من حلالِ ما كسبتمْ «3» ، قال: وقوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ، أي: الحرام «4» . ع «5» : وقولُ ابن زيدٍ ليس بالقويِّ من جهة نَسَق الآيةِ، لا من معناه في نفسه.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 77) برقم (6098) ، وذكره السيوطي في «تفسيره» (1/ 604) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 80) برقم (6118) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 361) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 361) . (4) ينظر السابق. (5) ذكره ابن عطية (1/ 361) .

وكَسَبْتُمْ: معناه: كانت لكُمْ فيه سعاية، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ: النباتات، والمَعَادن، والرِّكَاز، وما ضارع ذلك، وتَيَمَّمُوا: معناه: تعمدوا، وتَقْصِدوا، والتيمُّم: القصْد، وقال الجُرْجَانِيُّ: قال فريقٌ من الناس: إِن الكلام تَمَّ في قوله: الْخَبِيثَ، ثم ابتدأ خَبَراً آخر، فقال: تُنْفِقُونَ منه وأنتم لا تأخذونه إِلا إِذا أغمضتم، أي: ساهَلْتُم، قال ع «1» : كأنَّ هذا المعنى عتابٌ للنَّفْسِ وتقريعٌ وعلى هذا، فالضميرُ في مِنْهُ عائدٌ على الْخَبِيثَ. قال الجُرْجَانِيُّ: وقال فريقٌ آخر: بل الكلامُ متَّصِلُ إِلى قوله: فِيهِ وعلى هذا، فالضمير في «مِنْهُ» عائدٌ على: «مَا كَسَبْتُمْ» كأنه في موضعَ نصبٍ على الحالِ، والمعنى في الآية: فَلاَ تَفْعَلُوا مع اللَّهِ ما لا ترضَوْنه لأنفُسِكم، واعلموا أنَّ اللَّه غنيٌّ عن صدقاتكم، فمَنْ تقرب وطلب مثوبةً، فلْيفعلْ ذلك بما لَهُ قَدْرٌ. ت: وهذا يقوِّي القولَ بأنها في الزكاة المفروضة، وحَمِيدٌ: معناه محمودٌ. وقوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ... الآية: هذه الآيةُ وما بعدها- وإِن لم تكُنْ أمراً بالصدقة، فهي جالبةُ النفوس إلى الصدقة- بيَّن- عزَّ وجلَّ- فيها نزغاتِ الشيطانِ، ووسوستَهُ، وعداوتَهُ، وذكَّر بثوابه هو سبحانه، لا رَبَّ غيره، وذَكَّر بتفضُّله بالحكْمة، وأثنى عليها، ونبَّه أنَّ أهل العقول هم المتذكِّرون الذين يقيمُونَ بالحكْمة قدْرَ الإِنفاق في طاعةِ اللَّه، وغير ذلك، ثم ذكر سبحانه علْمَهُ بكلِّ نفقة ونَذْر، وفي ذلك وعْدٌ ووعيدٌ، ثم بيَّن الحِكَمَ في الإِعلان والإِخفاء وكذلك إِلى آخر المعنى. والوعد في كلامِ العربِ، إِذا أطلق، فهو في الخير، وإِذا قُيِّد بالموعود، فقد يقيد بالخَيْر، وقد يقيَّد بالشر كالبِشَارة، وهذه الآية مما قُيِّدَ الوعْدُ فيها بمكْرُوه، والفَحْشَاءُ: كلُّ ما فَحُشَ، وفَحُشَ ذكْرُه، روى ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً «2» مِن ابن آدَمَ، وَلِلْمَلِكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ، فَإِيعَادٌ بالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ، فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ، فَلْيَعْلَمْ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأخرى، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ» ثُمَّ قرأَ صلّى الله عليه وسلم: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ... الآية. قُلْتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ خرَّجه أبو عيسَى التِّرمذيُّ، وقال

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 362) . (2) اللّمّة: الهمة والخطرة تقع في القلب. ينظر: «لسان العرب» (4079) . [.....]

فيه: حَسَنٌ غريبٌ صحيحٌ «1» . والمغفرةُ: هي السَّتْر على عبادِهِ في الدنيا والآخرة، والفَضْل: هو الرزق في الدنيا، والتوسعةُ فيه، والنَّعِيمُ في الآخرة، وَبِكُلٍّ قدْ وعد اللَّه جلَّ وعلاَ، وروي، أنَّ في التوراة: «عَبْدِي، أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي، أَبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي، فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ على كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ» وفي القُرآن مصداقه، وهو: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ/ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39] . 70 أت: روى الطَّبرانيُّ سليمانُ بْنُ أحْمَدَ «2» ، بسنده عَنْ عبد اللَّه بنِ عمرٍو، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ حتى يُشْبِعَهُ، وسَقَاهُ مِنَ المَاءِ، حتى يَرْوِيَهُ، بَعَّدَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ سَبْعَ خَنَادِقَ مَا بَيْنَ كُلِّ خَنْدَقَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ» «3» . انتهى. وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وأَيُّما مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً على ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ» أخرجه أبو داود «4» ، مِنْ حديثِ أبي خالد، هو الدّالاني «5» ، عن نبيح «6» ،

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 219- 220) ، كتاب «التفسير» باب سورة البقرة، حديث (2988) ، وأبو يعلى (8/ 417) رقم (4999) ، وابن حبان (40- موارد) ، والطبري (3/ 88) كلهم من طريق عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (2) سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم، ولد ب «عكا» سنة 260 هـ. من كبار المحدثين، أصله من «طبرية» الشام، وإليها نسبته، رحل إلى الحجاز، واليمن، ومصر، والعراق، وفارس، والجزيرة، وتوفي سنة 360 هـ ب «أصبهان» . له ثلاثة معاجم في الحديث، منها «المعجم الصغير» وله كتب في «التفسير» ، و «الأوائل» ، و «دلائل النبوة» وغير ذلك. ينظر: «وفيات الأعيان» (1/ 215) ، و «النجوم الزاهرة» (4/ 59) ، و «تهذيب ابن عساكر» (6/ 240) ، و «الأعلام» (3/ 121) . (3) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 133) ، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» بنحوه إلا أنه قال: من أطعم أخاه خبزا، وفيه رجاء بن أبي عطاء، وهو ضعيف. (4) أخرجه أبو داود (1/ 526) كتاب «الزكاة» ، باب في فضل سقي الماء، حديث (1682) من طريق أبي خالد الدالاني عن نبيح عن أبي سعيد مرفوعا. (5) أبو خالد الدّالاني الكوفي، اسمه يزيد بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرّة، والمنهال بن عمرو، وعنه الثوري، وشعبة، وثقه أبو حاتم، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن عديّ: في حديثه لين مات سنة مائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 214) . (6) نبيح بن عبد الله، العنزي الكوفي، عن جابر، وابن عباس، وابن عمر، وعنه الأسود بن قيس وجماعة، وثقه أبو زرعة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 104) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 270 إلى 271]

وقد وثَّق أبو حاتم أبا خالدٍ، وسُئِل أبو زُرْعَة «1» عن نُبَيْح، فقال: هو كوفيٌّ ثقة. انتهى من «الإِلمام في أحاديثِ الأحْكَامِ» لابن دقيق العيد «2» . وواسِعٌ: لأنه وَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ: أَيْ: يعطيها لِمَنْ يَشَاء من عباده، والحكمةُ مصدرٌ من الإِحكام، وهو الإِتقان في عملٍ أو قولٍ، وكتابُ اللَّهِ حكْمَةٌ، وسُنَّةُ نبيِّه- عليه السلام- حِكْمَةٌ، وكلُّ ما ذكره المتأوِّلون فيها، فهُوَ جُزْء من الحكْمة التي هي الجنْس، قال الإِمامُ الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه الحسنى: قال المحقِّقون: العلماءُ ثلاثةٌ: علماءُ بأحكامِ اللَّهِ فقط وهم العلماءُ أصحابُ الفتوى، وعلماءُ باللَّهِ فقَطْ وهم الحكماءُ، وعلماءُ بالقِسْمَيْن وهُمُ الكبراءُ، فالقسْم الأول كالسِّراجِ يحرقُ نَفْسَه، ويضيءُ لغَيْره، والقسم الثَّاني حالُهم أكْمَلُ من الأوَّل لأنه أَشْرَقَ قَلْبُهُ بمَعْرفة اللَّه، وسره بنُور جلالِ اللَّه، إِلاَّ أنه كالكَنْز تَحْت التُّرَابِ، لا يصلُ أَثَرُه إلى غيره، وأما القسمُ الثالثُ، فهم أشرفُ الأقسامِ، فهو كالشَّمْسِ تضيءُ العَالَمَ لأنه تامٌّ، وفوْقَ التامِّ. انتهى. وباقي الآية تذكرةٌ بيِّنة، وإقامة لِهِمَمِ الغفلة- والْأَلْبابِ: العقول، واحدها لبّ. [سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

_ (1) عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فرّوخ، المخزومي، مولاهم، أبو زرعة الرازي الحافظ، أحد الأعلام والأئمة. عن: أبي نعيم، وقبيصة، وخلائق، وعنه: مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. قال أحمد: ما جاوز الجسر أحفظ من أبي زرعة، قال إسحاق: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل. وقال صالح بن محمد عنه: إنه قال: أحفظ عشرة آلاف حديث من القرآن. مات سنة أربع وستين ومائتين. ينظر: «تهذيب الكمال» (2/ 881) ، و «تهذيب التهذيب» (7/ 30) ، وو «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 195) ، و «الكاشف» (2/ 230) ، و «الجرح والتعديل» (1/ 328) ، و «سير الأعلام» (13/ 165) . (2) محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، تقي الدين ابن دقيق العيد، ولد سنة 625 هـ، تفقه على والده، ثم على ابن عبد السلام، وسمع الحديث من جماعة، قال ابن عبد السلام: ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها: ابن منير بالإسكندرية، وابن دقيق العيد بقوص. قال السبكي: ولم ندرك أحدا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، وأنه أستاذ زمانه علما ودينا.. صنف «الإلمام» في الحديث، وله «شرح العمدة» أملاه إملاء، وله «الاقتراح في اختصار علوم ابن الصلاح» وهو مطبوع. مات سنة 702. انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (2/ 229) ، و «طبقات الأسنوي» (ص 336) ، و «طبقات السبكي» (6/ 2) .

وقوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ... الآية: يقال: نَذَرَ الرَّجُلُ كَذَا، إِذا التزم فعله. وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. قال مجاهدٌ: معناه: يُحْصِيه، وفي الآيةِ وعْدٌ ووعيدٌ، أي: مَنْ كان خالص النيَّة، فهو مثابٌ، ومن أنْفَقَ رياءً أو لمعنًى آخَرَ ممَّا يكْشفه المَنُّ والأذى، ونحو ذلك، فهو ظالمٌ يذهب فعْلُه باطلاً، ولا يجد ناصراً فيه. وقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ... الآية: ذهب جمهورُ المفسِّرين إِلى أنَّ هذه الآيةَ في صدَقَةِ التطوُّع، قال ابن عبَّاس: جعل اللَّه صدَقَةَ السِّرِّ في التطوُّع تفضُلُ علانيتها، يقال: بسبعين ضِعْفاً، وجعل صدَقَةَ الفريضَةِ علانيتَهَا أفْضَلَ من سرِّها، يقال: بخَمْسَةٍ وعشْرين ضِعْفاً، قال: وكذلك جميعُ الفرائضِ والنوافلِ في الأشياء كلِّها «1» . ع «2» : ويقوِّي ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ فِي المَسْجِدِ إِلاَّ المَكْتُوبَة» «3» ، وذلك أن الفرائضَ لا يدْخُلُها رياءٌ، والنوافل عُرْضَةٌ لذلك، قال الطبريُّ «4» : أجمعَ النَّاس على أن إِظهار الواجِبِ أفضلُ. وقوله تعالى: فَنِعِمَّا هِيَ: ثناءٌ على إِبداء الصدقةِ، ثم حكم أنَّ الإِخفاء خيْرٌ من ذلك الإِبداءِ، والتقديرُ: نِعْمَ شيءٌ إِبداؤها، فالإبداء هو المخصوص بالمدح/ وخرّج أبو 71 أداود في «سننه» ، عن أبي أُمَامَةَ، قال: قَالَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «انطلق بِرَجُلٍ إلى بَابِ الجَنَّةِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا على بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبٌ: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالقَرْضُ الوَاحِدُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ لأنَّ صاحب القرضِ لا يأتيك إِلاَّ وهو محتاجٌ، والصدقةُ ربما وُضِعَتْ في غنيٍّ، وخرَّجه ابن ماجة في «سننه» ، قال: حدَّثنا عُبَيْدُ اللَّه بن عبد الكريمِ، حدَّثنا هشام بْنُ خالدٍ «5» ، حدَّثنا خالدُ بن يَزِيدَ بْنِ أبي مالكٍ «6» ، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال: قَالَ رسول

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 93) برقم (6195) ، وذكره الماوردي في «النكت» (1/ 345) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 365) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 323) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 365) . (3) تقدم تخريجه. (4) ذكره الطبري (3/ 93) . (5) هشام بن خالد الأزرق، أبو مروان الدمشقي. عن الوليد بن مسلم وجماعة. وعنه أبو داود وابن ماجه. قال أبو حاتم: صدوق. قال عمرو بن دحيم: مات سنة تسع وأربعين ومائتين. ينظر: «الخلاصة» (3/ 113) . (6) خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، الهمداني، أبو هاشم الدمشقي، عن أبيه وأبي روق، وعنه-[.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 272 إلى 273]

الله صلّى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي على بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبٌ: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَا بَالُ القَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: إِنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ» «1» . انتهى من «التذكرة» . وقرأ ابن كثير وغيره: «ونُكَفِّرُ» بالنون، ورفع الراء، وقرأ ابن عامر: «وَيُكَفِّرُ» ، بالياء، ورفع الراء، وقرأ نافع وغيره: «وَنُكَفِّرْ» ، بالنون، والجزمِ، فأما رفْع الراء، فهو على وجهين: أحدهما: أن يكون الفعْلُ خبر ابتداءٍ، تقديره: ونحن نكفِّر، أو: واللَّه يكفر. والثَّاني: القطع، والاستِئْناف، والواو لعطْفِ جملةٍ على جملةٍ، والجزمُ في الراءِ أفصحُ هذه القراءات لأنها تؤذن بدُخُول التكفير في الجزاء، وكونه مشروطاً إِن وقع الإِخفاء، وأمَّا رفع الراءِ، فليس فيه هذا المعنى، و «مِنْ» في قوله: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ للتبعيضِ المحْضِ، لا أنها زائدةٌ كما زعم قومٌ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: وعدٌ ووعيد. [سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 273] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ... الآية: وَرَدَتْ آثار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم مَنَعَ فُقَرَاء أهْلِ الذمَّة من الصَّدَقَة، فنزلَتِ الآية مبيحةً لهم، وذكر الطبريُّ «2» أن مَقْصِدَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم بمنع

_ - أحمد بن أبي الحواري، وهاه ابن معين، وقال ابن حبان: صدوق، في حديثه مناكير، وقال النسائي: ليس بثقة، ووثقه أحمد بن صالح، وأبو زرعة الدمشقي، مات سنة خمس وثمانين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 286) . (1) أخرجه ابن ماجه (2/ 812) : كتاب «الصدقات» ، باب القرض، حديث (2431) . قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 252) : هذا إسناد ضعيف خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن مالك، أبو هشام الهمداني الدمشقي، ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو داود، والنسائي، وأبو زرعة، وابن الجارود، والساجي، والعقيلي، والدارقطني وغيرهم. ووثقه أحمد بن صالح المصري، وأبو زرعة الدمشقي. وقال ابن حبان: هو من فقهاء الشام، كان صدوقا في الرواية ولكنه كان يخطىء كثيرا. وأبوه فقيه «دمشق» ومفتيهم. (2) ذكره الطبري (3/ 94- 95) .

الصدَقة، إِنَّما كان ليُسْلِمُوا، ولِيَدْخُلُوا في الدِّين، فقال اللَّه سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، قال ع «1» : وهذه الصدقةُ التي أبيحَتْ لهم حسبَمَا تضمَّنته هذه الآثار، إِنما هي صدقة التطوُّع، وأما المفروضة، فلا يجزىء دفعها لكَافِرٍ، قال ابن المُنْذِرِ «2» : إِجماعاً فيما عَلِمْتُ، وقول المَهْدَوِيِّ: إباحتها هذه الآية مردودٌ، قال ابن العَرَبِيِّ «3» ، وإِذا كان المُسْلِمُ يترك أركان الإِسْلاَم من الصَّلاة، والصيام، فلا تُصْرَفُ إِلَيْه الصدقة حتى يتُوبَ، وسائرُ المعاصِي تُصْرَف الصدَقَةُ إلى مرتكبيها لدخولِهِمْ في اسم المسلمين. انتهى من «الإِحكام» ، ويعني بالصدقةِ المفروضةَ، والهدى الَّذي ليس على نبيّنا صلّى الله عليه وسلم هو خَلْق الإِيمان في قلوبهم، وأما الهُدَى الذي هو الدعاء فهو عليه صلّى الله عليه وسلم، وليس بمراد في هذه الآية. ثم أخبرَ سُبْحَانه أنه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي الآية ردٌّ على القدريَّة وطوائفِ المعتزلةِ، ثم بيَّن تعالى أنَّ النفقة المقبولَةَ ما كان ابتغاءَ وَجْهِ اللَّهِ. وفي الآية تأويلٌ آخرُ، وهو أنها شهادة مِنَ اللَّهِ تعالى للصحابةِ أنهم إِنما ينفقون ابتغاءَ وَجُه اللَّه سبحانه، فهو خَبَر منه لهم فيه تفضيلٌ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، أي: في الآخرة، وهذا هو بيانُ قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، والخير هنا: المالُ/ بقرينة الإِنفاق، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنَّه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى 71 أالمال، وهذا الذي قلْناه تحرُّزاً من قول عِكْرِمَةَ: كُلَّ خَيْرٍ في كتابِ اللَّهِ، فهو المالُ «4» . وقوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية: التقديرُ: الإِنفاق أو الصدقةُ للفقراءِ، قال مجاهد وغيره: المرادُ بهؤلاءِ الفقراءِ فقراءُ المهاجرين من قريش وغيرهم «5» .

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 367) . (2) محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النيسابوري الفقيه، نزيل مكة أحد الأئمة الأعلام، وممن يقتدى بنقله في الحلال والحرام، صنف كتبا معتبرة عند أئمة الإسلام، منها «الإشراف في معرفة الخلاف» ، و «الأوسط» وهو أصل الإشراف، والإجماع والإقناع والتفسير وغير ذلك وكان مجتهدا لا يقلد أحدا. ينظر: «طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة» (1/ 98) ، «طبقات الشافعية للسبكي» (2/ 126) ، «وفيات الأعيان» (3/ 344) ، «شذرات الذهب» (2/ 280) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 238) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 368) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 96، 6210) بنحوه، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 368) وابن كثير في «تفسيره» (1/ 324) .

ع «1» : ثم تتناول الآيةُ كلَّ مَنْ دخل تحْتَ صفة الفَقْر غابِرَ الدَّهْر، ثم بيَّن اللَّه سبحانه من أحْوَالِ أولئك الفقراءِ المهاجِرِينَ ما يُوجِبُ الحُنُوَّ عليهم بقوله: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والمعنى: حُبِسُوا، ومُنِعُوا، وتأوَّل الطبريّ «2» في هذه الآية أنهم هم حاسبوا أَنُفُسِهِمْ بِرِبْقَة الدِّيْن، وقصد الجهاد، وخَوْفِ العَدُوِّ، إِذ أحاط بهم الكُفْر، فصار خوف العدو عذْراً أحْصِروا به. ع «3» : كأنَّ هذه الأعذار أحصرتْهم، فالعدُوُّ وكلُّ محيطٍ يحصر، وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتملُ الجهادَ، ويحتمل الدخولَ في الإِسلام، والضَّرْبُ في الأرض: هو التصرُّف في التجارة، وكانُوا لا يستطيعونَ ضَرْباً في الأرض لكون البلادِ كلِّها كفْراً مطبقاً، وهذا في صدْر الهجْرة، وكانوا- رضي اللَّه عنهم- من الانقباض، وترْكِ المسألةِ، والتوكُّلِ على اللَّه تعالى بحيث يحسبهم الجاهلُ بباطنِ أحوالهم أغنياءَ. ت: واعلم أنَّ المواساة واجبةٌ، وقد خرَّج مسلمٌ وأبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: «بينما نحن في سفر، مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ على راحِلَةٍ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بصره يمينا وشمالا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ على مَنْ لاَ زَادَ لَهُ» ، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حتى رُئِينَا أنَّهُ لاَ حقّ لأحد منّا في فضل «4» انتهى. والتَّعَفُّفِ: تفعُّلٌ، وهو بناءُ مبالغةٍ من: عَفَّ عن الشيْءِ، إِذا أمْسَك عنْه، وتنزَّه عن طَلَبه، وبهذا المعنى فسره قتادةُ وغيره. ت: مَدَح اللَّه سبحانه هؤُلاءِ السَّادَةَ على ما أعطاهم من غنى النفْسِ، وفي الحديثِ الصحيحِ: «لَيْسَ الغنى عَنْ كَثْرَةِ المَالِ، وَإِنَّمَا الغنى غِنَى النّفس» «5» وقد صحّ

_ (1) ينظر: «المحرر» (1/ 368) . (2) ينظر: «الطبري» (3/ 97) . (3) ينظر: «المحرر» (1/ 368) . (4) أخرجه مسلم (3/ 1354) كتاب «اللقطة» ، باب استحباب المواساة بفضول المال، حديث (1728) ، وأبو داود (1/ 522) كتاب «الزكاة» ، باب في حقوق المال، حديث (1663) ، وأحمد (3/ 34) ، وأبو يعلى (2/ 326) رقم (1064) كلهم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري به. (5) أخرجه البخاري (11/ 276) ، كتاب «الرقاق» ، باب الغنى غنى النفس، حديث (6446) ، ومسلم (2/ 726) كتاب «الزكاة» ، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، حديث (120/ 1051) ، والترمذي (4/ 506- 507) كتاب «الزهد» ، باب ما جاء أن الغنى غنى النفس، حديث (2373) ، وابن ماجه (2/ 13486) : -

عنه صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ، اجعل قُوتَ آلُ مُحَمَّدٍ كَفَافاً» أخرجه مسلم، وغيره «1» ، وعنْدِي أن المراد بالآل هنا متّبعوه صلّى الله عليه وسلم. وفي سنن ابْن مَاجَة، عن أنسٍ، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ غَنِيٍّ، وَلاَ فَقِيرٍ إِلاَّ وَدَّ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا قُوتاً» «2» ، وروى مسلم والترمذيُّ عن أبي أُمَامة، قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلم: «يا ابن آدَمَ، إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلْ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ تُمْسك شَرٌّ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ على كَفَافٍ، وابدأ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ من اليد السّفلى» «3» ، قال أبو عيسى،

_ - كتاب «الزهد» ، باب القناعة، حديث (4137) ، وأحمد (2/ 243) ، 390) ، وأبو يعلى (11/ 133) رقم (6259) ، وابن حبان (679) ، والبغوي «شرح السنة» (7: 289- بتحقيقنا) كلهم من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن صحيح. وللحديث شاهد من حديث أنس: أخرجه أبو يعلى (5/ 404) رقم (3079) من طريق الخليل بن عمر العبدي، حدثني أبي عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» . وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 240) : رواه الطبراني في «الأوسط» ، ورجال الطبراني رجال الصحيح. [.....] (1) أخرجه البخاري (11/ 287) كتاب «الرقاق» ، باب كيف كان عيش النبي صلّى الله عليه وسلم، حديث (6460) ، ومسلم (2/ 730) ، كتاب «الزكاة» ، باب في الكفاف والقناعة (126/ 1055) من حديث أبي هريرة مرفوعا. (2) أخرجه ابن ماجة (2/ 1387) كتاب «الزهد» ، باب القناعة، حديث (4140) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (10/ 69) كلاهما من طريق أبي داود نفيع عن أنس بن مالك مرفوعا. ونفيع متروك وكذبه ابن معين، وقد تقدمت ترجمته. (3) أخرجه مسلم (97/ 1036) ، والترمذي (4/ 495) في الزهد، باب (32) برقم (2343) ، وأحمد (5/ 262) ، والبيهقي (4/ 182) عنه مرفوعا: «يا آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب عن حكيم بن حزام، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن عمر. فأما حديث حكيم فرواه البخاري (3/ 345) في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1427) ، ومسلم (2/ 717) في الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد (95/ 1034) ، والنسائي (5/ 69) في الزكاة، باب أي الصدقة أفضل؟ وأحمد (3/ 402- 434) ، والدارمي (2/ 310) . والطبراني في «الكبير» (3/ 212) (3082- 3083- 3091- 3093- 3120) . والبيهقي (4/ 180) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1228- 1229) بلفظ «أفضل الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وأما حديث أبي هريرة فرواه البخاري في المصدر السابق (1426، 1428) و (9/ 410) في النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال (5355، 5356) والنسائي (5/ 69) ، وأبو داود (1/ 525) في الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله (1676) ، والنسائي (5/ 69) ، وأحمد (2/ 288، 394) ، (2/-

واللفظ له: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى. وقوله سبحانه: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ: السِّيَما مقصورة: العلامةُ، واختلف المفسِّرون في تعيينها، فقال مجاهد: هي التخشُّع والتواضُع «1» ، وقال الربيعُ، والسُّدِّيُّ: هي جهد الحاجة، وقَضَفُ الفقر في وجوههم، وقلَّة النعمة «2» ، وقال ابن زَيْد: هي رِثَّة الثياب «3» ، وقال قوم، وحكاه مكِّيٌّ: هي أثر السجود «4» ، قال ع «5» : وهذا حسنٌ، وذلك لأنهم كانوا متفرِّغين متوكِّلين، لا شُغْل لهم في الأغلب إِلاَّ الصَّلاة، فكان أثَرُ السُّجود علَيْهم أبداً، والإِلحافُ، والإلحاح بمعنى، قال ع «6» : والآية تحتمل 72 أمعنيين/. أحدهما: نفْي السؤال جملة، وهذا هو الذي عليه الجمهورُ أنهم لا يسألون البَتَّة. والثاني: نَفْي الإِلحاف فقَطْ، أي: لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل وبإِجمال. ت: وهذا الثاني بعيدٌ من ألفاظ الآية، فتأمَّله. ت: وينبغى للفقيرِ أنْ يتعفّف في فَقْره، ويكتفي بعلْمِ ربِّه، قال الشيخُ ابن أبي جَمْرة: وقد قال أهْلُ التوفيق: مَنْ لَمْ يَرْضَ باليسير، فهو أسير. انتهى، وذكر

_ - 402، 434، 476، 480، 524، 527) والحميدي (1058) ، وابن خزيمة (4/ 96، 97) برقم (2436، 2439) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (634، 1232) وابن حبان (3352) ، والدارقطني (3/ 297) ، وابن الجارود في «المنتقى» (751) بلفظ: «أفضل الصدقة ما تصدق به عن ظهر تعول ... » . وأما حديث جابر فرواه أحمد (3/ 330) ، وابن حبان (826) مرفوعا عنه: «أفضل الصدقة عن ظهر غنى ... وابدأ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليد السفلى» . وأما حديث ابن عمر فرواه أحمد (2/ 93- 94) عنه مرفوعا «المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة. فمن شاء فليستبق على وجهه، وأهون المسألة مسألة ذي الرحم تسأله في حاجته. وخير المسألة مسألة عن ظهر غنى. وابدأ بمن تعول» . (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 98) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 346) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 369) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 99) برقم (6223) ، (6224) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 346) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 369) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 98) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 369) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 368) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 369) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 369) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 274 إلى 277]

عبد الملكِ بْنُ محمَّدِ بْنِ أبي القَاسِم بْن الكَرْدَبُوسِ «1» في «الاكتفاء فِي أخبار الخُلَفَاء» ، قال: وتكلَّم علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- بتسْعِ كلماتٍ، ثلاثٌ في المناجاةِ، وثلاثٌ في الحكمة، وثلاثٌ في الآداب أمَّا المناجاة، فقال: كَفَانِي فَخْراً أَنْ تَكُونَ لِي رَبًّا، وكَفَانِي عِزًّا أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْداً، وَأَنْتَ كَمَا أُحِبُّ، فاجعلني كَمَا تُحِبُّ، وَأَمَّا الحكمة، فقال: قيمة كلّ امرئ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ، وَمَا هَلَكَ امرؤ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَالمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ، وَأَمَّا الآدَابُ، فَقَالَ: استغن عَمَّنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ نَظِيرُهُ، وَتَفَضَّلْ على مَنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ أَمِيرُهُ، واضرع إلى مَنْ شِئْتَ، فَأَنْتَ أَسِيرُهُ. انتهى. ولما كانتِ السيما تدلُّ على حال صاحبِها، ويعرف بها حاله، أقامَها اللَّه سبحانه مُقَامَ الإِخبار عن حَالِ صاحبِها، فقال: «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ» ، وقد قال الشيخُ العارفُ باللَّهِ صاحبُ «الكَلِمِ الفارقيَّة والحِكَمِ الحقيقيَّة» : كلُّ ما دلَّ على معنًى، فقد أخبر عنه، ولو كان صامتاً، وأشار إليه، ولو كان ساكتاً، لكنَّ حصول الفهْمِ والمعرفةِ بحَسَب اعتبار المعتَبِرِ، ونَظَر المتأمِّل المتدبِّر. انتهى. قال ع «2» : وفي الآية تنبيهٌ على سوء حالة من يسأل النَّاسَ إِلحافاً، وقال: ص: وقوله تعالى: لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، إِذا نُفِيَ حُكْمٌ مِنْ محكومٍ عليه بقَيْدٍ، فالأكثر في لسانهم انصراف النفْيِ إلى ذلك القيدِ، فالمعنى على هذا: ثبوتُ سؤالهم، ونَفْي الإِلحاح، ويجوز أنْ ينفي الحُكْم، فينتفي ذلك القَيْد، فينتفي السؤالُ والإِلحاح، وله نظائر. انتهى. وقوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: وعدٌ محضٌ، أي: يعلمه، ويحصيه ليجازي عليه، ويثيب. [سورة البقرة (2) : الآيات 274 الى 277] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

_ (1) عبد الملك بن قاسم بن الكردبوس التوزري، أبو مروان: مؤرخ، نسبته إلى «توزر» ب «تونس» صنف «الاكتفاء في أخبار الخلفاء» . ينظر: «الأعلام» (4/ 161) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 369) .

وقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... الآية: قال ابْنُ عَبَّاس: نزلَتْ هذه الآيةُ في عليِّ بن أبِي طَالِبٍ- رضي اللَّه عنه- كانَتْ لِه أربعةُ دراهِمَ، فتصدَّق بدرهمٍ لَيْلاً، وبدرهمٍ نَهَاراً، وبدرهمٍ سرًّا، وبدرهمٍ علانيةً «1» ، وقال قتادةُ: نزلَتْ في المنْفِقِينَ في سبيل اللَّه مِنْ غَيْر تبذيرٍ ولا تقتيرٍ، قال ع «2» : والآية، وإنْ كانَتْ نزلَتْ في عليٍّ- رضي اللَّه عنه- فمعناها يتناولُ كُلَّ مَنْ فعل فِعْلَه، وكلَّ مشَّاءٍ بصدَقَته في الظلم إِلى مَظِنَّةِ الحاجة. وقوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا ... الآية: الرِّبا: هو الزيادةُ، مأخوذ من: رَبَا يَرْبُو، إِذا نَمَا، وزاد على ما كان، وغالبه: ما كانت العربُ تفعله من قولها للغريم: «أَتَقْضِي، أَمْ تُرْبِي» ، فكان الغريم يزيدُ في عدد المالِ، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البيِّن التفاضُلُ في النوع الواحِدِ وكذلك أكثر البيوعِ الممنوعَة، إِنما تجد منْعها لمعنى زيادةٍ إِما في عينِ مالٍ، أو في منفعةٍ لأحدهما مِنْ تأخيرٍ ونحوه، ومعنى الآية: الذين يكْسِبُون الربا، ويفعلونه، وإِنما قصد إِلى لفظة الأكْل لأنها أقوى مقاصدِ الناسِ في المَالِ، قال ابن عبَّاس وغيره: معنَى قوله سبحانه: لاَ يَقُومُونَ، أي: من قبورِهِمْ في البَعْثِ يوم القيامة إلّا 72 ب كما/ يقومُ الَّذي يتخبَّطه الشيطانُ من المَسِّ «3» ، قالوا: كلُّهُم يُبْعَثُ كالمَجْنُونِ عقوبةً له وتمقيتاً عند جميع المَحْشَرِ ويقوِّي هذا التأويلَ المجْمَع علَيْه أنَّ في قراءة عبد اللَّه بن مسعود: «لاَ يَقُومُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ» . وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا معناه عند جميع المتأولين: في الكفار، وأنه قول بتكذيب الشريعة، والآية كلُّها في الكفار المُرْبِينَ، نزلَتْ، ولهم قيلَ:

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 371) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 642) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس به، وذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 347) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 260) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 371) . [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 102) برقم (6238) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 348) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 372) بنحوه.

فَلَهُ مَا سَلَفَ، ولا يقال ذلك لمؤمنٍ عاصٍ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيدِ هذه الآيةِ، ثم جزم اللَّه سبحانه الخَبَر في قوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا، قيل: هذا من عموم القُرآن المخصَّص، وقيل: من مُجْمَلِهِ المبيَّن، قال جعفر بن محمَّدٍ الصَّادِقُ «1» : وحرم اللَّه الربَا ليتقارض النَّاسُ. وقوله تعالى: فَلَهُ مَا سَلَفَ، أي: من الربا لا تباعة علَيْه في الدنيا والآخرة، وهذا حكْمٌ مِنَ اللَّه سبحانه لِمَنْ أسلم من الكفار، وفي قوله تعالى: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أربعُ تأويلات: أحدها: أمْرُ الربا في إِمرار تحريمه وغير ذلك. والثاني: أمر ما سَلَف، أي: في العفْوِ وإِسقاطِ التَّبَعَةِ فيها. والثالث: أنَّ الضمير عائدٌ على ذي الربا بمعنى: أمره إِلى اللَّه في أنْ يثبته على الاِنتهاء أو يعيدَهُ إِلى المعصية. والرابع: أنْ يعود الضميرُ على المنتهى، ولكنْ بمعنى التأنيسِ له، وبَسْط أمله في الخَيْر. وقوله تعالى: وَمَنْ عادَ، يعني: إِلى فِعْلِ الربا، والقولِ إِنما البيعُ الرِّبَا، والخلودُ في حق الكافر: خلودُ تأبيدٍ حقيقيّ، وإِن لحظنا الآيةَ في مُسْلمٍ عاصٍ، فهو خلودٌ مستعارٌ على معنى المبالغة. وقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ، يَمْحَقُ: معناه: ينقص، ويذهب ومنه: مِحَاقُ القَمَرِ «2» ، وهو انتقاصه، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ: معناه: ينميها، ويزيد ثوابها تضاعفاً، تقولُ: رَبَتِ الصدقةُ، وأرْبَاهَا اللَّه تعالى، وربَّاهَا، وذلك هو التضعيف لمن يشاء ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم «إِنَّ صَدَقَةَ أَحَدِكُمْ لَتَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ تعالى،

_ (1) جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله، الإمام الصادق المدني، أحد الأعلام، عن أبيه وجده أبي أمه، القاسم بن محمد، وعروة، وعنه خلق لا يحصون منهم ابنه موسى، وشعبة، والسّفيانان، ومالك، قال الشافعي وابن معين، وأبو حاتم: ثقة، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، عن ثمان وستين سنة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 168- 169) . (2) المحاق والمحاق: آخر الشهر إذا امّحق الهلال فلم ير. ينظر: «لسان العرب» (4147) .

فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أوْ فَصِيلَهُ حتى تَجِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنَّ اللُّقْمَةَ لعلى قَدْرِ أُحُدٍ» «1» . قال ع «2» : وقد جعل اللَّه سبحانه هذَيْن الفعلَيْن بعَكْس ما يظنُّه الحريصُ الجَشِيعُ من بني آدم إِذ يظن الربا يغنيه، وهو في الحقيقة مُمْحَقٌ، ويظن الصدَقَةَ تُفْقِرُه، وهي في الحقيقة نماءٌ في الدنيا والآخرة، وعن يزيدَ بْنِ أبي حَبِيبٍ «3» أنَّ أبا الخير «4» حدثه أَنَّه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كلّ امرئ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» أوْ قَالَ: «حتى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ» ، قال يزيد: وكان أبو الخَيْرِ لاَ يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ فِيهِ، وَلَوْ كَعْكَةٍ أَوْ بَصَلَةٍ، قال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرِّجاه، يعني: البخاريَّ ومسلماً «5» . انتهى من «الإلمام في أحاديث الأحكام» لابن دقيق العيد.

_ (1) أخرجه البخاري (13/ 426) ، كتاب «التوحيد» ، باب قول الله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، حديث (7430) ، ومسلم (2/ 702) كتاب «الزكاة» ، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (63، 64/ 1014) من حديث أبي هريرة. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 373) . (3) يزيد بن أبي حبيب مولى شريك بن الطّفيل الأزدي، أبو رجاء المصري، عالمها. عن عبد الله بن الحارث بن جزء، وأبي الخير اليزني، وعطاء، وطائفة. وعنه يزيد بن أبي أنيسة. قال ابن سعد: ثقة يتشيع، مات سنة ثمان وسبعين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 167) ، «التهذيب» (11/ 318) . (4) مرثد بن عبد الله الحميري، اليزني، أبو الخير المصري الفقيه، عن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر وطائفة. وعنه يزيد بن أبي حبيب، وجعفر بن ربيعة، وطائفة، قال سعيد بن عفير: مات سنة تسعين. ينظر: «الخلاصة» (3/ 17) . (5) أخرجه أحمد (4/ 147- 148) ، وأبو يعلى (3/ 300- 301) رقم (1766) ، وابن خزيمة (4/ 94) رقم (2431) ، وابن حبان (817- موارد) ، والحاكم (1/ 416) ، والبيهقي (4/ 177) كتاب «الزكاة» ، باب التحريض على الصدقة وإن قلت، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 181) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 402- بتحقيقنا) كلهم من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» له (ص 227) رقم (645) عن حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الرجل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس» . وكان أبو الخير لا يأتي عليه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة، ولو بصلة. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 113) : رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني. ورجال أحمد ثقات. وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» (6282) . وقال المناوي في «الفيض» (5/ 13) : وقال- أي الذهبي- في «المهذب» : إسناده قوي.

قال الشيخُ ابن أبي جَمْرَة: ولا يُلْهَمُ لِلصدقةِ إِلاَّ مَنْ سبقَتْ له سابقةُ خَيْر. انتهى. قال أبو عمر في «التمهيد» : وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «مَا أَحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ إِلاَّ أَحْسَنَ اللَّهُ الخِلاَفَةَ على بَنِيهِ، وَكَانَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، وحُفِظَ فِي يَوْمِ صَدَقَتِهِ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ وَآفَةٍ «1» . انتهى. وروى أبو داود في «سننه» ، أنَّ سَعْدَ بْنَ عْبَادَةَ «2» ، قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ «3» مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: المَاءُ، فَحَفَرَ بئْراً، وَقَالَ: هَذِهِ لأمّ سعد» «4» .

_ (1) قال الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 225) : أخرجه ابن المبارك في «الزهد» عن ابن شهاب مرسلا بإسناد صحيح، وأسنده الخطيب فيمن روى عن مالك من حديث ابن عمر، وضعفه. (2) هو: سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة، أبو ثابت، صحابي مشهور، وهو نقيب بني ساعدة، ذكره الواقدي والمدائني، وابن الكلبي فيمن شهد بدرا، وكان سيدا جوادا. وله ولأهله في الجود أخبار حسنة. وكان صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها. وكان غيورا شديد الغيرة، وإياه أراد رسول الله بقوله: «إن سعدا لغيور، وإني لأغير من سعد، والله أغير منا، وغيرة الله أن تؤتى محارمه ... » الحديث. روى أبو داود من حديث قيس بن سعد قال: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» توفي ب «الشام» سنة (11) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 356) ، «الإصابة» (3/ 80) ، «الثقات» (3/ 148) ، «الاستيعاب» (2/ 594) ، «الطبقات الكبرى» (9/ 79) ، «بقي بن مخلد» (121) ، «سير أعلام النبلاء» (1/ 270) ، «البداية والنهاية» (3/ 389) ، «تقريب التهذيب» (1/ 288) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 475) ، «تهذيب الكمال» (1/ 471) ، «الاستبصار» (7/ 25، 93) ، «التحفة اللطيفة» (130) ، «صفة الصفوة» (1/ 503) ، «الجرح والتعديل» (4/ 382) ، «شذرات الذهب» (1/ 28) ، «أصحاب بدر» (236) ، «التاريخ الكبير» (1/ 25) ، «الوافي بالوفيات» (15/ 203) ، «تاريخ الإسلام» (3/ 90) . (3) عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجاد، والدة سعد بن عبادة. ماتت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم سنة خمس. قال ابن سعد: ماتت والنبي صلّى الله عليه وسلم في غزوة «دومة الجندل» في شهر ربيع الأول، فلمّا جاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم المدينة أتى قبرها، فصلّى عليها. ينظر: «الإصابة» (8/ 246) . (4) أخرجه أبو داود (1/ 526) ، كتاب «الزكاة» ، باب في فضل سقي الماء، حديث (1681) من طريق أبي إسحاق عن رجل عن سعد بن عبادة به. وأخرجه أحمد (5/ 284) ، والنسائي (6/ 255) ، كتاب «الوصايا» ، باب ذكر الاختلاف على سفيان، حديث (3666) من طريق شعبة عن قتادة عن الحسن عن سعد بن عبادة به نحوه. وأخرجه النسائي (6/ 254) ، كتاب «الوصايا» ، باب ذكر الاختلاف على سفيان، حديث (3665) ، وابن ماجة (2/ 1214) ، كتاب «الأدب» ، باب فضل صدقة الماء، حديث (3684) ، وابن خزيمة، رقم (2497) من طريق هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: «سقي الماء» . وأخرجه أبو داود (1/ 526) كتاب «الزكاة» ، باب في فضل سقي الماء، حديث (1680) من طريق شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن عن سعد بن عبادة بنحوه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 278 إلى 281]

73 أوروى أبو داود في «سننه» ، عن أبي سعيدٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ/ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وأَيُّما مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ» «1» . انتهى. وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ يقتضي الزجْرَ للكفَّارِ المستحلِّين للربا، ووصْف «الكَفَّار» ب «أثيم» إِما مبالغةٌ من حيثُ اختلف اللفظانِ، وإِما ليذهب الاشتراكُ الذي في «كَفَّار» إِذ قد يقع على الزَّارِعِ الذي يستر الحَبَّ في الأرض، قاله ابنُ فُورَكَ «2» . ولما انقضى ذكْر الكافرين، عقَّب سبحانه بذكْرِ ضدِّهم ليبين ما بين الحالَتَيْنِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية، وقد تقدَّم تفسير مثل هذه الألفاظ. [سورة البقرة (2) : الآيات 278 الى 281] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا ... الآية: سبَبُ هذه الآيةِ أنه لما افتتح النبيّ صلّى الله عليه وسلم مكَّة، قال في خُطْبَتِهِ اليَوْمَ الثانِيَ من الفَتْح: «ألا كُلُّ رِباً فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وأوّل ربا أضعه ربا «3»

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 373) . [.....] (3) قال صاحب «المصباح» : الربا: الفضل والزيادة، وهو مقصور على الأشهر، ويثنّى فيقال: ربوان بالواو على الأصل، وقد يقال: ربيان على التخفيف، وينسب إليه على لفظه، فيقال: ربويّ. قاله أبو عبيد وغيره. وزاد المطرزي فقال: الفتح في النسبة خطأ. وربا الشيء يربو، إذا زاد ونما، وأربى الرّجل (بالألف) دخل في الرّبا، وأربى على الخمسين، زاد عليها. وفي «اللسان» : ربا الشيء يربو ربوّا ورباء: زاد ونما، وأربيته: نميته. وفي التنزيل العزيز: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة: 276] ومنه: آخذ الربا الحرام. وأربى الرّجل في الربا: يربي، وقد تكرر ذكره في الحديث. والأصل فيه الزيادة من: ربا المال، إذا زاد وارتفع، والاسم: الربا مقصور، وأربى الرجل على الخمسين ونحوها: زاد، وفي حديث الأنصار يوم «أحد» : «لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم» . أي: لنزيدنّ ولنضاعفنّ. وفي حديث الصدقة: «وتربو في كف-

العبّاس» «1» فبدأ صلّى الله عليه وسلم بعَمِّه، وأخَصِّ الناسِ به، وهذه من سنن العَدْلِ للإِمام أنْ يفيض العَدْل على نَفْسه وخاصَّته، فيستفيض في النَّاس، ثم رجع رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم إِلى المدينةِ، واستعمل على مكَّة عَتَّابَ بْنَ أسيد «2» ، فلمّا استنزل صلّى الله عليه وسلم أهْلَ الطائِفِ بَعْد ذلك إِلى الإِسْلامِ، اشترطوا شُرُوطاً، وكان في شروطهم: أنَّ كُلَّ رباً لهم على النَّاسِ فإِنهم يأخذونه، وكُلُّ رباً علَيْهم، فهو موضُوعٌ، فيروى أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم قَرَّر لهم هذه، ثم ردَّها اللَّه بهذه الآية كما ردّ

_ - الرّحمن، حتّى تكون أعظم من الجبل» وربا السّويق ونحوه ربوّا: صبّ عليه الماء فانتفخ، وقوله (عز وجل) في صفة الأرض: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج: 5] قيل: معناه عظمت وانتفخت. وقرىء: «وربأت» فمن قرأ: «وربت» فهو من ربا يربو، إذا زاد على أيّ الجهات زاد. ومن قرأ: «وربأت» بالهمز فمعناه: ارتفعت، وسابّ فلان فلانا، فأربى عليه في السّباب، إذا زاد عليه. وقوله (عز وجل) : فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: 10] أي: أخذه تزيد على الأخذات. قال الجوهري: أي: زائدة، كقولك: «أربيت، إذا أخذت أكثر مما أعطيت» . واصطلاحا: عرفه الحنفية بأنه: فضل مال خال عن عوض، شرط لأحد العاقدين، في معاوضة مال بمال. وعرفه الشّافعية بأنه: عقد على عوض مخصوص، غير معلوم التماثل في معيار حالة العقد، أي: مع تأخير في البدلين، أو أحدهما. وعرفه المالكية بأنه: عقد معاوضة على نقد أو طعام مخصوص بجنسه، مع التفاضل، أو مع التأخير مطلقا. وعرفه الحنابلة بأنه: الزّيادة في أشياء مخصوصة. وقد قسّم الفقهاء الرّبا إلى قسمين، وزاد الشافعية قسما ثالثا: 1- ربا الفضل، وهو: البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر. 2- ربا النّسا، وهو: البيع لأجل، أو تأخير أحد العوضين عن الآخر. 3- ربا اليد، وهو: البيع مع تأخير قبضهما، أو قبض أحدهما. ينظر: «الصحاح» (6/ 2350) ، و «المغرب» (182) ، و «المصباح المنير» (1/ 333) ، و «المطلع» (239) . وينظر: «شرح فتح القدير» (7/ 3) ، «تبيين الحقائق شرح كنز الحقائق» (4/ 85) ، «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (2/ 31) ، «مغنى المحتاج» (2/ 21) ، «فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب» (1/ 161) ، «المغني» (4/ 122) ، «مجمع الأنهر» (2/ 83) ، «كشاف القناع» (3/ 251) . (1) هو جزء من حديث جابر في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد تقدم تخريج هذا الحديث عند آيات الحج في سورة البقرة. (2) عتّاب بن أسيد بن أبي العيص الأموي، أبو عبد الرحمن من مسلمة الفتح. ولي للنبي صلّى الله عليه وسلم «مكّة» وله عشرون سنة. وعنه ابن المسيّب، وعطاء مرسلا لأنه مات يوم مات الصّديق. وذكر الطبراني أنه عمل لعمر، وفي صحيح مسلم حديث يدل على ذلك إلى سنة إحدى وعشرين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 208) .

صُلْحَه لكُفَّار قُرَيْش في ردِّ النِّسَاءِ إِليهم عامَ الحُدَيْبِية، وذكَرَ النَّقَّاش روايةً أنَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَسْفَلِ الكِتَابِ لِثَقِيفٍ: «لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيهِمْ» ، فلما جاءَتْ آجال رِبَاهُمْ، بعثوا إِلى مكَّة لِلاقتضاءِ، وكانت على بني المغيرة المخزوميّين، فقال بنو المُغِيرَةِ: لا نُعْطِي شَيئاً فإِن الربَا قد وُضِعَ، ورفعوا أمرهم إِلى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ بمكَّة، فَكَتَب به إلى رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عتَّابٍ، فعلمتْ بها ثقيفٌ، فكَفَّت: هذا سببُ الآية على اختصارٍ ممَّا روى ابْنُ إِسحاق، وابْنُ جُرَيْجٍ، والسُّدِّيُّ وغيرهم «1» . فمعنى الآية: اجعلوا بينكم وبيْنَ عذابِ اللَّهِ وقايةً بترككمْ ما بَقِيَ لكُمْ من رباً، وصَفْحِكُمْ عنه، ثم توعَّدَهُمْ تعالَى، إِن لم يذروا الربَا بحَرْبٍ منه، ومِنْ رسوله، وأمَّته، والحَرّب داعية القَتْلِ. وقوله تعالى: فَأْذَنُوا قال سِيبَوَيْهِ: آذَنْتُ: أعْلَمْتُ. ت: وهكذا فسره البخاريُّ، فقال: قال أبو عبد اللَّهِ: فَأذَنُوا، فاعلموا «2» ، وقال ع «3» : هي عنْدِي من الأَذَنِ، وقال ابن عَبَّاس وغيره: معناه فاستيقنوا بحَرْبٍ «4» . ثم ردَّهم سبحانه مع التوبة إِلى رءوس أموالهم، وقال لهم: لا تَظْلِمُونَ في أخذِ الزائِدِ، ولا تُظْلَمُونَ في أنْ يتمسَّك بشيء من رءوس أموالكُمْ، ويحتمل لا تَظْلِمُونَ في مَطْلٍ، لأن مَطْل الغنيّ ظلم كما قال- عليه الصلاة والسلام «5» - فالمعنى أنه يكون

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 107) برقم (6256) ، (6257) عن ابن جريج والسدي، والأثر ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 374) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 646) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن السدي، وعزاه لابن جرير عن ابن جرير. (2) ينظر: صحيح البخاري (8/ 52) ، كتاب «التفسير» ، باب (فأذنوا بحرب من الله) ، حديث (4542) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 375) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 8) برقم (6265) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 375) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 647) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (5) أخرجه مالك (2/ 674) ، كتاب «البيوع» ، باب جامع الدين والحول، حديث (84) ، والبخاري (4/ 464) كتاب «الحوالة» ، باب هل يرجع في الحوالة، حديث (2287) ، ومسلم (3/ 1197) ، كتاب «المساقاة» ، باب تحريم مطل الغني، حديث (33/ 1564) ، وأبو داود (3/ 640) ، كتاب «البيوع» ، باب في المطل، حديث (3345) ، والنسائي (7/ 317) ، كتاب «البيوع» ، باب الحوالة. والترمذي (3/ 600) ، كتاب «البيوع» ، باب مطل الغني ظلم، حديث (1308) ، وابن ماجه (2/ 803) كتاب-

القضاءُ، مع وضْعِ الربا وهكذا سنة الصُّلْح، وهذا أشبه شيء بالصُّلْح ألا ترى أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لَمَّا أشارَ على كَعْبِ بْنِ مالِكٍ في دَيْنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ بِوَضْعِ الشَّطْرِ، فقال كعب: نعم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لِلآخَرِ: «قُمْ، فاقضه» «1» ، فَتلقَّى العلماءُ أمره بالقَضَاء سنّة في المصالحات.

_ - «الصدقات» ، باب الحوالة، حديث (2403) ، والشافعي في «الأم» (3/ 233) ، كتاب «الحوالة» . وأحمد (2/ 245) ، والدارمي (2/ 261) كتاب «البيوع» ، باب في مطل الغني ظلم. والحميدي (2/ 447) رقم (1032) ، وأبو يعلى (11/ 172- 173) رقم (6283) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 8) ، والبيهقي (6/ 70) كتاب «الحوالة» ، باب من أحيل على ملىء فليتبع، كلهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على ملىء فليتبع» . وأخرجه البخاري (5/ 75) كتاب «الاستقراض» ، باب مطل الغني ظلم، حديث (2400) ، ومسلم (3/ 1197) ، كتاب «المساقاة» ، باب تحريم مطل الغني. وأحمد (2/ 315) ، وعبد الرزاق (8/ 316) رقم (15355) ، والبيهقي (6/ 70) كتاب «الحوالة» ، باب من أحيل على ملىء فليتبع، كلهم من طريق معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم» . لفظ البخاري هكذا مختصرا. وأخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 231) من طريق أبي قرة موسى بن طارق عن ابن جريج عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم» . وقال الطبراني: لم يروه عن صالح إلا ابن جريج، تفرد به أبو قرة. قال السهمي في «سؤالاته للدارقطني» (402) : سألت أبا الحسن الدارقطني، قلت: أبو قرة موسى بن طارق لا يقول: «أخبرنا» أبدا، يقول: ذكر فلان. أيش العلة فيه؟ فقال: هو سماع له كله، وقد كان أصاب كتبه آفة فتورع فيه، فكان يقول: ذكر فلان. اهـ. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 294) من طريق علي بن مسهر عن عاصم الأحول عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم» . وفي الباب عن ابن عمر: أخرجه الترمذي (3/ 600- 601) كتاب «البيوع» ، باب ما جاء في مطل الغني أنه ظلم، حديث (1309) ، وابن ماجة (2/ 803) كتاب «الصدقات» ، باب الحوالة، حديث (2404) ، وأحمد (2/ 71) من طريق هشيم: ثنا يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على ملىء فاتبعه، ولا تبع بيعتين في واحدة» . والحديث ذكره الحافظ البوصيري في «الزوائد» (2/ 242) مع أنه ليس على شرطه فقد أخرجه الترمذي أيضا، ولم ينفرد به ابن ماجة. فقال: هذا إسناد رجاله ثقات غير أنه منقطع، قال أحمد بن حنبل: لم يسمع يونس بن عبيد من نافع شيئا، إنما سمع من ابن نافع عن أبيه. وقال ابن معين وأبو حاتم: لم يسمع من نافع شيئا. (1) أخرجه البخاري (1/ 657) ، كتاب «الصلاة» ، باب التقاضي والملازمة في المسجد، حديث (457) ، (1/ 669) ، كتاب «الصلاة» ، باب رفع الصوت في المسجد، حديث (471) ، ومسلم (3/ 1192) ، كتاب «المساقاة» ، باب استحباب الوضع من الدين، حديث (20، 21/ 1558) .

73 ب وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ/، فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ حكم اللَّه تعالى لأرباب الربَا برُءُوس أموالهم عنْدَ الواجدين للمال، ثم حكم في ذِي العُسْرَةِ بالنَّظَرَةِ إِلى حال اليُسْرِ، والعُسْرُ: ضيقُ الحالِ من جهة عدمِ المالِ، والنَّظِرَةُ التأخيرُ. ت: وفي «الصحيحين» عَنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ» «1» ، وفي «صحيح مسلمٍ» : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» ، وفي روايةٍ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ» ، وفي رواية: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ الله في ظلّه» «2» . انتهى.

_ (1) أخرجه البخاري (4/ 361) ، كتاب «البيوع» ، باب من أنظر معسرا، حديث (2078) ، ومسلم (3/ 1196) ، كتاب «المساقاة» ، باب فضل إنظار المعسر، حديث (31/ 1562) من حديث أبي هريرة. (2) ورد من حديث أبي اليسر، وأبي هريرة، وأبي قتادة، وعثمان، وابن عباس، وكعب بن عجرة، وأسعد بن زرارة. حديث أبي اليسر: أخرجه أحمد (3/ 427) ، والدارمي في «السنن» (2/ 261) ، كتاب «البيوع» ، باب فيمن أنظر معسرا، ومسلم في «الصحيح» (4/ 2302) ، كتاب «الزهد» (53) ، باب حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر (18) ، الحديث (74/ 3006) ، وابن ماجة «السنن» (2/ 808) ، كتاب «الصدقات» (15) ، باب إنظار العسر. (14) ، الحديث (2419) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 28- 29) ، كتاب «البيوع» ، باب من أنظر معسرا، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 28) ، كتاب «البيوع» ، باب من عجل له أدنى من حقه، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 19- 20) في ترجمة كعب بن عمرو أبي اليسر، رقم (115) بلفظ: «من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووهم، لإخراج مسلما إياه. حديث أبي هريرة: أخرجه الترمذي في «السنن» (3/ 599) ، كتاب البيوع (12) ، باب ما جاء في إنظار المعسر والرفق به (67) ، الحديث (1306) . والقضاعي في «مسند الشهاب» (1/ 281) ، الحديث (459) بلفظ: «من أنظر معسرا أو وضع له، أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» . قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. حديث أبي قتادة: أخرجه أحمد (5/ 300، 308) ، والدارمي (2/ 261- 262) ، ومسلم (3/ 1196) كتاب «المساقاة» ، باب فضل إنظار المعسر، الحديث (32/ 1563) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 266) في ترجمة حماد بن زيد، رقم (373) بلفظ: «من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة» لفظ أحمد والدارمي، وقال مسلم: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينظر معسرا، أو ليضع عنه» وقال أبو نعيم: «من أنظر معسرا أو وهب له، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . حديث عثمان: -

والمَيْسَرَةُ: مصدرٌ بمعنى اليُسْرِ، وارتفع: «ذُو عُسْرَةٍ» ب «كان» التامة الَّتي هي بمعنى: «وُجِدَ، وَحَدَثَ» ، وارتفعَ قَوْلِه: «فَنَظِرَةٌ» علَى خبر ابتداءٍ مقدَّر، تقديره فالواجبُ نَظِرَةٌ. واختلف أهْلُ العلْمِ هلْ هذا الحُكْم بالنَّظِرَةِ إِلى الميسرةِ واقفٌ على أهل الربا خاصَّة، وهو قول ابن عبَّاس، وشُرَيْح «1» ، أو هو منسحبٌ على كلِّ دين حلال، وهو قول جمهور

_ - أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (1/ 73) بلفظ: «أظل الله عبدا في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ، أنظر معسرا أو ترك لغارم» وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 136) : وفيه عباس بن الفضل، ونسب إلى الكذب. وحديث ابن عباس: أخرجه أحمد في «المسند» (1/ 327) عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا، وأومأ أبو عبد الرحمن بيده إلى الأرض: «من أنظر معسرا، أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم» . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 136- 137) وقال: رواه أحمد، وفيه عبد الله بن جعوية السلمي، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح. حديث آخر لابن عباس: أخرجه الطبراني في «الكبير» (11330) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أنظر معسرا إلى ميسرته، أنظره الله بدينه إلى نوبته» . قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 138) : رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ، وفيه الحكم بن الجارود، ضعفه الأزدي. وشيخ الحاكم وشيخ شيخه لم أعرفهما. حديث كعب بن عجرة: أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 209- 210) ، و «الكبير» (19/ رقم 214) «من أنظر معسرا أو يسر عليه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . وذكره الهيثمي في «المجمع» (4/ 137) ، وقال: رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه عبيدة بن معتب، وهو متروك. حديث أسعد بن زرارة: أخرجه الطبراني في الكبير (899) بلفظ «من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فلييسر على معسر، أو ليضع عنه» . وذكره الهيثمي في «المجمع» (4/ 137) ، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» من طريق عاصم بن عبيد الله عن أسعد، وعاصم ضعيف، ولم يدرك أسعد بن زرارة. [.....] (1) شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية الكندي، أبو أميّة الكوفي، مخضرم، ولي لعمر «الكوفة» فقضى بها ستين سنة، وكان من جلة العلماء، وأذكى العالم عن علي وابن مسعود، وعنه الشّعبي، وأبو وائل، وثقه ابن معين، قال الشعبي: كان أعلم الناس بالقضاء. وقال ابن حصين: اختصم إليه رجلان فحكم على أحدهما، فقال: قد علمت من حيث أتيت، فقال شريح: لعن الله الراشي والمرتشي والكاذب، قال محمد بن نمير: مات سنة ثمانين على الأصح، عن مائة وعشر سنين وقيل: عشرين سنة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 447) .

العلماء «1» ؟ ع «2» : وما قاله ابن عبَّاس إِنما يترتَّب، إِذا لم يكُنْ فقر مُدْقِعٌ، وأما مع الفقر والعُدْمِ الصريحِ، فالحُكْمُ هي النَّظِرة ضرورةً. ت: ولا يخالف ابن عبَّاس في ذلك. وقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ: نَدَبَ اللَّه بهذه الألفاظ إِلى الصدَقَة على المُعْسِر، وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله جمهور العلماء. وروى سعيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، عن عمر بن الخَطَّاب أنه قَالَ: كان آخر ما نَزَلَ من القُرآن آية الربا، وقُبِضَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولَمْ يفسِّرْها لَنَا، فدَعُوا الرِّبَا والرِّيبَةَ «3» . وقال ابن عباس: آخر ما نزل آية الربا «4» . قال ع «5» : ومعنى هذا عنْدي، أنها من آخر ما نَزَلَ لأن جمهور النَّاس ابنُ عبَّاس، والسُّدِّيُّ، والضَّحَّاك، وابنُ جْرَيجٍ، وغيرهم، قالوا: آخر آية نزلَتْ قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ورُوِيَ أَنَّ قوله: وَاتَّقُوا نزلت قبل موت النبيّ صلّى الله عليه وسلم بِتِسْعِ ليالٍ، ثم لم ينزلْ بعدها شيْءٌ، ورُوِيَ بثلاثِ ليالٍ، وروي أنَّها نزلَتْ قبل موته بثلاث ساعات، وأنّه صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «اجعلوها بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ» ، وحكى مكّيّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: اجعلها على مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ البَقَرةِ» «6» . وقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... الآية: وعْظٌ لجميعِ الناسِ، وأمْرٌ يخصُّ كلَّ إِنسان. ت: حدَّثني من أثقُ به أنه جَلَسَ عند شيخ من الأفاضل يجوّد عليه القرآن،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 110) برقم (6274) عن ابن عباس، وبرقم (6275) عن ابن سيرين، والأثر ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 352) عن ابن عباس، وابن عطية (1/ 377) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 650) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 377) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 114) (6305) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 353) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 377) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 114) برقم (6307) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 378) . (6) ينظر: «تفسير القرطبي» (3/ 374) .

[سورة البقرة (2) : آية 282]

فقرئَتْ عليه هذه الآيةُ، فبكى عندها، ثم بكى، إلى أَنْ فاضتْ نفْسُه، ومَالَ، فحَرَّكُوه، فإِذا هو مَيِّتٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- ونَفَعَ بِهِ، يَا هَذَا، مَنْ صَحَا عَقْلُه مِنْ سُكْر هواه، وجَهْلِهِ، احترق بنَارِ النَّدَمِ والخَجَلِ مِنْ مهابة نَظَرِ ربِّه، وتنكَّرت صُورةُ حالِهِ في عَيْنِهِ نفوسَ الأغبياءِ الجُهَّال، غَافِلَةً عن العظمة والجَلاَل، ولاَهِيَةً عن أهْوَال المَعَاد والمَآل، مَشْغُولَةً برذائلِ الأفْعَال، وفُضُولِ القِيلِ والقَال، والاِستنباطِ والاِحْتِيَالِ لاِزدياد الأمْوَال، ولا يَعْلَمُون أنَّها فِتْنَةٌ وَوَبَال، وطُولُ حِسَابٍ وبَلاَء وبَلْبَالَ «1» ، اغتنموا، يا ذوِي البَصَائر نعْمَةَ الإِمهال، واطرحوا خَوَادِع الأمانِي، وكَوَاذِب/ الآمال، فكأنْ قد فجأتْكُم هواجمُ الآجال. انتهى من 74 «الكم الفارقيّة، في الحكم الحقيقيّة» . ويَوْماً: نصب على المفعول، لا على الظرف، وجمهور العلماء على أنَّ هذا اليوم المحذَّر منه هو يومُ القيامةِ، والحِسَابِ والتوفيةِ، وقال قومٌ: هو يوم المَوْت، والأول أصَحُّ، وهو يومٌ تنفطرُ لذكْره القُلُوب، وفي هذه الآيةِ نصٌّ على أنَّ الثواب والعقابَ متعلِّق بكَسْب الإِنْسَان، وهذا ردّ على الجبريّة. [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... الآية. قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السّلم خاصّة «2» ،

_ (1) البلبال: والبلابل، والبلبلة: شدة الهم والوسواس في الصدور وحديث النفس. ينظر: «لسان العرب» (351) (بلل) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 116) برقم (6315) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» .

قال ع «1» : معناه أنَّ سَلَمَ أهْلِ المدينة كانَ سَبَبَ الآيةِ، ثم هِيَ تتناوَلُ جميعَ المدايَنَات إجماعاً، ووصفُهُ الأَجَلَ ب مُسَمًّى- دليلٌ على أنَّ الجهالة لا تجوزُ، وقال جمهورُ العلماء: الأمر بالكَتب ندْبٌ إِلى حفظ الأموال، وإِزالة الرّيب، وإِذا كان الغريمُ تقيًّا، فما يضرُّه الكَتْب، وإِن كان غير ذلك، فالكتب ثقافٌ في دَيْنِهِ وحَاجَة صاحبِ الحقِّ، قال بعضهم: إِن أشهدتَّ، فحَزْمٌ، وإِن ائتمنت، ففي حِلٍّ وَسَعةٍ. ع «2» : وهذا هو القول الصحيحُ، ثم علم تعالى أنه سيقع الاِئتمانُ، فقال: إِن وقع ذلك، فَلْيُؤَدِّ ... [البقرة: 283] الآية، فهذه وصيَّة للذِينَ علَيْهم الدُّيون. واختلف في قوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ. فقال عطاءٌ، والشَّعْبِيُّ: واجبٌ على الكاتِبِ أنْ يكْتُبَ، إِذا لم يوجَدْ سواه «3» ، وقال السُّدِّيُّ: هو واجبٌ مع الفَرَاغ «4» . وقوله: بِالْعَدْلِ: معناه: بالحَقِّ، ثم نهى اللَّه سبحانه الكُتَّابَ عن الإباءَة، وحكى المَهْدَوِيُّ عن الرَّبِيعِ، والضَّحَّاك أنَّ قوله تعالى: وَلا يَأْبَ منسوخٌ بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، قال «5» ع «6» : أما إذا أمكن الكتاب، فلَيْسَ يجبُ الكَتْب على معيَّن، بل له الاِمتناع، إِلا إِذا استأجره، وأمَّا إِذا عدم الكاتبُ، فيتوجَّه وجوبُ النَّدْب حينئِذٍ على الكَاتِبِ. وقوله تعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ... الاية: أَمَرَ اللَّه تعالى الَّذي علَيْه الحقُّ بالإِملال لأنَّ الشهادة، إِنما تكونُ بحَسَب إِقراره، وإِذا كتبت الوثيقة، وأقر بها، فهي

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 378) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 379) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 119) برقم (6339) عن عطاء، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 355) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 379) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 119) برقم (6342) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 379) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 655) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي، وذكره. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 119) برقم (6340، 6341) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 355) عن الضحاك، وذكره أيضا ابن عطية في «تفسيره» (1/ 379) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 655) ، وعزاه لابن جرير عن الضحاك. [.....] (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 379) .

كإمْلاله، والبَخْسُ: النقْصُ بنوعٍ من المخادَعَة، والمُدَافعة، وهؤلاءِ الذين أُمِرُوا بالإِملال هم المالكُون لأنفسهم، إِذا حَضَرُوا. ثم ذكر تعالى ثلاثةَ أنواعٍ تقَعُ نوازلُهُمْ في كلِّ زمانٍ، فقال: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً، والسفيهُ: الهَلْهَل الرأي في المالِ، الذي لا يحسنُ الأخذ لنَفْسِهِ ولا الإِعطاء منْها مشبَّه بالثوْبِ السَّفِيهِ، وهو الخفيفُ النَّسْجِ، والسَّفَهُ: الخِفَّة، وهذه الصفة في الشريعةِ لا تخلُو من حجر أبٍ، أو وصيٍّ وذلك هو وليُّه، ثم قال: أَوْ ضَعِيفاً، والضعيفُ: هو المدخُولُ في عَقْلِهِ، وهذا أيضاً قد يكونُ وليُّه أَباً أو وصيًّا، والذي لا يستطيعُ أن يُمِلَّ هو الصغيرُ، ووليُّه وصيُّه أو أبوه، والغائبُ عن موضعِ الإشهاد لمرضٍ أو لغيرِ ذلك مِنَ الأعذار، ووليُّه وكيلُهُ، وأمَّا الأخْرَسُ، فيسوغُ أنْ يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممَّن لا يستطيعُ. وقوله: بِالْعَدْلِ: معناه: بالحَقِّ، وقَصْدِ الصواب. وقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ... الآية: الاستشهادُ: طلبُ الشهادة/، وعبّر 74 ب ببناءِ مبالغة في «شَهِيدَيْنِ» دلالةً على مَنْ قد شهد، وتكرَّر ذلك منه فكأنه إِشارة إِلى العدالة، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «1» : والصحيحُ أنَّ الأمر بالاستشهادِ محمولٌ على الندب. اهـ. وقوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ: نصٌّ في رفضِ الكفارِ، والصِّبْيَانِ، والنِّساء، وأما العبيدُ، فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم، وقولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وجمهورِ العلماءِ: أنَّ شهادتهم لا تجوزُ، وغلبوا نقْضَ الرِّقِّ. واسم كان الضميرُ الذي في قوله: يَكُونا، والمعنى في قول الجمهور: فإِن لم يكن المستشْهَدُ رجلَيْنِ، وقال قومٌ: بلْ المعنى: فإِن لم يوجَدْ رجلانِ. ولا يجوز استشهاد المَرْأَتَيْنِ إِلا مع عَدَم الرجال، قال ع «2» : وهذا قول ضعيفٌ ولفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهرُ منه قولُ الجمهور.

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 251) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 381) .

وقوله: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، أي: فليشهدْ أو فليكُنْ رجُلٌ وامرأتان. وقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ: رفعٌ في موضع الصفةِ لقوله: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، وهذا الخطاب لجميع الناس، المتلبِّس بهذه القصَّة هم الحُكَّام، وهذا كثيرٌ في كتاب اللَّه يعمُّ الخطابُ فيما يتلبَّس به البعْض. وفي قوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ: دليلٌ على أنَّ في الشهود من لا يرضى فيجيء من ذلك، أنَّ الناس ليسوا بمحمولِينَ عَلَى العَدَالة حتى تَثْبُتَ لهم. وقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما ... الآيةَ: «أنْ» مفعولٌ من أجله، والشهادة لم تقع لأَنْ تَضِلَّ إحْدَاهما، وإِنما وقع إِشهاد امرأتين لأنّ تُذَكِّر إِحداهما، إِنْ ضلَّت الأخرى، قال سيبوَيْهِ، وهذا كما تقول: أعْدَدتُّ هذه الخَشَبَةَ أنْ يميلَ الحَائِطُ، فأدعمه. ع «1» : ولما كانتِ النفوسُ مستشرفةً إِلى معرفة أسباب الحوادِثِ، قدم في هذه العبارة ذكْرَ سبب الأمر المقْصُود إلى أنْ يخبر به، وهذا مِنْ أبْرَعِ الفَصَاحَةِ إِذ لو قال لكَ رجل: أعدت هذه الخشبةَ أنْ أدعم بها هذا الحائطَ، لقال السامعُ: ولِمَ تدعم حائطاً قائماً، فيجب ذكر السبب، فيقال: إِذا مَالَ، فجاء في كلامِهِمْ تقديمُ السَّبَبِ أخْصَرَ من هذه المحاورة، قال أبو عبيد: ومعنى: تَضِلَّ تنسى «2» . ع «3» : والضَّلال عن الشهادة: إِنما هو نسيانُ جزءٍ منها، وذكْرُ جزء، ويبقَى المرء بَيْن ذلك حيرانَ ضَالاًّ. وقوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا ... الآية: قال قتادة وغيره: معنى الآيةِ: إِذا دُعُوا أنْ يشهدوا «4» ، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآيةُ جمعت أمرَيْن: لا تأب إِذا دُعِيتَ إلى تحصيل الشهادةِ، ولا إِذا دُعِيتَ إِلى أدائها «5» وقاله ابن عباس «6» ، وقال

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 382) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 383) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 382) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 126) برقم (6366) بنحوه، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 383) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 657) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة. (5) أخرجه الطبري (3/ 127) برقم (6369) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 357) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 383) . (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 127) برقم (6370) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 357) .

مجاهد: معنى الآيةِ لا تأبَ، إِذا دُعِيتَ إِلى أداء شهادة قد حصَلَتْ عندك «1» ، وأسند النّقّاش إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّه فسر الآية بهذا. ت: وهذا هو الحقيقة في الآيةِ، وأما تسمية الشيْءِ بِما يَئُولُ إِليه، فمجازٌ، والشاهد حقيقةً من حصَلَتْ له الشهادة، قال مجاهد: فأما إِذا دُعِيتَ أوَّلاً، فإِن شئْت فاذهب، وإِن شئت، فلا تذهب» «2» ، وقاله جماعة، قال ع «3» : والآية كما قال الحَسَنُ جمعتْ أمرَيْنِ، والمسلمون مندوبون إِلى معونة إِخوانهم، فإِذا كانت الفُسْحَة لكَثْرة الشهودِ والأَمْنِ مِنْ تعطُّل الحق، فالمدعُّو مندوبٌ، وإِن خِيفَ تَلَفُ الحقِّ بتأخُّر الشاهد، وجب عليه القيام بها سِيَمَا إِن كانت محصَّلةً، ودُعِيَ لأدائها، / فهذه آكَدُ لأنها قِلاَدَةٌ في العُنُق وأمانةٌ تقتضي الأداء. م: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ، قال أبو البقاءِ: مفعولُ «يأب» محذوفٌ، أي: ولا يأب الشهداءُ إِقامةَ الشهادةِ أو تحمُّل الشهادةِ، «وإِذا» : ظرفٌ ل «يَأْبَ» ، ويحتمل أنْ يكون ظرفا للمفعول المحذوف. اهـ. وتَسْئَمُوا: معناه تملّوا، وقدّم الصغير اهتماما به، وأَقْسَطُ: معناه أعدل، وأَقْوَمُ، أي: أشدُّ إقامةً، وقيل: أقْوَمُ، من: قَامَ بمعنى: اعتدل، وأَدْنى: معناه: أقرب، وتَرْتابُوا: معناه: تَشُكُّوا. قال ابنُ هِشَامٍ: إِلى أَجَلِهِ: لا يصحُّ تعلُّقه ب «تَكْتُبُوهُ» لاِقتضائه استمرار الكتابة إِلى أجل الدَّيْن، وإِنما هو حالٌ، أي: مستقِرًّا في الذِّمَّة إِلى أجله. اهـ من «المُغْنِي» . وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً ... الآية: لما علمَ اللَّه سبحانه مشَقَّة الكتْب عليهم، نصَّ على ترك ذلك، ورَفْعِ الجُنَاح فيه، في كلِّ مبايعة بنَقْد، وذلك في الأغلَبِ، إِنما هو في قليلٍ كالطَّعام ونحوه، لا في كثير كالأملاك ونحوها، وقال السُّدِّيُّ، والضَّحَّاك: هذا فيما كان يداً بيد، تأخذ وتعطي «4» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 127) برقم (6375) بنحوه، وذكره الماوردي بنحوه في «تفسيره» (1/ 357) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 383) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 128) برقم (6376) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 383) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 657) وعزاه لسفيان، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 383) . (4) أخرجه الطبري (3/ 132) برقم (6397) عن السدي، وبرقم (6398) عن الضحاك، وذكره ابن عطية (1/ 383) .

وقوله تعالى: تُدِيرُونَها: يقتضي التقابُضَ والبينونَةَ في المقبوضِ. وقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ، اختلف، هل ذلك على الوجوب، أو على الندب؟ والوجوبُ في ذلك قَلِقٌ أمَّا في الدقائق، فصعب شاقٌّ، وأما ما كَثُر، فربَّما يقصد التاجر الاِستِئْلافَ بتَرْك الإِشهاد إِلى غير ذلك من المصالِحِ، فلا يُشْهِد، ويدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقَى الأمر في الإِشهاد نَدْباً لما فيه من المصلحة في الأغلب، وحكى المهدويُّ عن قومٍ أنهم قالوا: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ منسوخٌ بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ ... [البقرة: 283] الآية: وذكره مكِّيٌّ عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ. واختلف النَّاس في معنى قوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، أي: كاختلافهم في قوله تعالى: لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها [البقرة: 233] ، هل الفعلُ مسند إِلى الفاعل، فأصله: «وَلاَ يضارر كَاتِبٌ ولاَ شَهِيدٌ» بكسر الراء، وقيل: مسندٌ إلى المفعول الذي لم يسمّ فاعله، فأصله: «وَلاَ يُضَارَرُ» بفتحها. ع «1» : ووجوه المضارَّة لا تنحصرُ، وفكُّ الفعْلِ هي لغةُ الحجازِ، والإِدغامُ لغة تَمِيمٍ. وقوله: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أيْ: وإِنْ تفعلوا المضارَّة، وقوله: بِكُمْ، أي: حَالٌّ بِكُمْ. وباقي الآية موعظةٌ وتهديدٌ، واللَّه المستعانُ لا ربَّ غيره، وقيل: معنى الآية الوعْدُ لأنَّ من اتقى عُلِّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ. ت: وفي «العتبية» مِنْ سماع ابن القَاسِمِ، قال: سَمِعْتُ مالكاً يقولُ: سَمِعْتُ أنَّه يقالُ: ما زَهِدَ عَبْدٌ، واتقى اللَّهَ إِلا أنْطَقَهُ اللَّهُ بالحكْمَة. اهـ. والمراد بهذا العلم العلم النافع الّذي يورث الحشية قال أبو عُمَرَ بنُ عبْدِ البَرِّ: رُوِّينَا عنْ مَسْروقٍ، قال: «كفى بالمَرْءِ عَلْماً أنْ يخشَى اللَّهَ، وكفى بالمَرْءِ جهلاً أنْ يُعْجَب بعلْمه» ، أبو عمر: إِنما أعرفه بعَمَلِهِ. اهـ من كتاب «فضل العلم» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 385) . [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 283 إلى 285]

[سورة البقرة (2) : الآيات 283 الى 285] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ... الآية: لما ذكر اللَّه تعالى الندْبَ إِلى الإِشهاد، والكتْبِ لمصلحة حفظ الأموال والأديان- عقَّب ذلك بذكْر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل بدلها الرهْنَ، ونصَّ على السفر إِذ هو الغالب من الأعذار، ويدخل في ذلك بالمعنى كلُّ عذر. / قال ع «1» : رَهَنَ الشَّيْءَ في كلام العرب معناه: دَامَ، واستمر، قيل: ولما كان الرهنُ بمعنى الثبوتِ، والدوامِ «2» ، فمِنْ ثَمَّ بطَل الرهْنُ عند الفقهاء: إِذا خرج مِنْ يد

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 386) . (2) الرهن يطلق لغة على العين المرهونة. قال ابن سيده: الرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه يقال: رهنت فلانا رهنا، وارتهنته إذا أخذه رهنا، والرهينة (واحدة الرهائن) : الرهن. والهاء للمبالغة كالشتيمة والشتم، ثم استعملا في معنى المرهون، فقيل: هو رهن بكذا، أو رهينة بكذا. وفي الحديث: «كل غلام رهينة بعقيقته» . ومعناه: أن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبهه في لزومها، وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن. قال الخطّابي: تكلم الناس في هذا، وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل، قال: هذا في الشفاعة، يريد أنه إذا لم يعقّ عنه، فمات طفلا لم يشفع في والديه، أي: أن كل غلام محبوس، ومرهون عن الشفاعة بسبب ترك العقيقة عنه. وقيل: معناه أنه مرهون بأذى شعره، واستدلوا بقوله: «فأميطوا عنه الأذى» وهو ما علق به من دم الرّحم. ورهنه الشيء يرهنه رهنا، ورهنه عنده، كلاهما، جعله عنده رهنا، ورهنه عنه جعله رهنا بدلا منه. قال الشاعر: [الكامل] ارهن بنيّك عنهم وأرهن بني أي: أرهن أنا بنيّ كما فعلت أنت. ويطلق على الدوام والحبس. قال ابن عرفة: الرهن في كلام العرب هو الشيء الملزم، يقال: هذا راهن لك، أي: دائم محبوس عليك، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وكُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي: محتبس بعمله، ورهينة محبوسة بكسبها. وحديث: «نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يقضى عنه» أي محبوسة عن مقامها الكريم. قال الشاعر: [البسيط] وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرّهن قد غلقا-

المرتَهِن إِلى يد الراهِنِ لأنه فَارَقَ ما جُعِلَ له. وقوله تعالى: مَقْبُوضَةٌ: هي بينونةُ المرتَهَنِ بالرَّهْن. وأجمع الناس على صحَّة قَبْض المرتَهَن وكذلك على قبض وكيله فيما علمتُ. واختلفوا في قَبْض عدلٍ «1» يوضَعُ الرهْنُ على يديه.

_ - شبه لزوم قلبه لها، واحتباسه عندها لشدة وجده بها، بالرهن الذي يلزمه المرتهن، فيبقيه عنده، ولا يفارقه، وكل شيء ثبت ودام فقد رهن، ورهن لك الشيء أقام ودام، وطعام راهن مقيم. وأنشد الأعشى يصف قوما يشربون خمرا لا تنقطع: [البسيط] لا يستفيقون منها وهي راهنة ... إلّا بهات وإن علّوا وإن نهلوا ورهن الشيء رهنا: دام وثبت، وراهنة في البيت ثابتة، ورهين والرهن اسمان. ينظر: «لسان العرب» (3/ 1757- 1758) ، «المصباح المنير» (1/ 330) ، «الصحاح» (5/ 2128) ، «المغرب» (1/ 356) . واصطلاحا: عرفه الحنفية بأنه: جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون. وعرفه الشافعية بأنه: جعل عين مال متمولة وثيقة بدين ليستوفى منها عند تعذر وفائه. وعرفه المالكية بأنه: مال قبضه توثقا به في دين. وعرفه الحنابلة بأنه: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه من ذمة الغريم. ينظر: «تكملة فتح القدير» (10/ 135) ، «مجمع الأنهر» (2/ 584) ، «حاشية الشرقاوي على شرح التحرير» (2/ 109) ، «مغني المحتاج» (2/ 121) ، «حاشية الدسوقي» (3/ 231) ، «أسهل المدارك» (2/ 266) ، «الإقناع في فقه الحنابلة» (2/ 150) ، «المغني لابن قدامة» (4/ 361) . (1) القبض في اللغة: الإمساك والتناول، يقال: قبضه بيده يقبضه: تناوله، وقبض عليه بيده أمسكه، والقبض شرعا: يرجع فيه إلى الشرع والعرف، وهو يختلف باختلاف الحال، وتفصيله: أن المال إما أن يرهن من غير اعتبار تقدير فيه، أو يرهن معتبرا فيه تقدير، فالحالة الأولى التي لم يعتبر فيها تقدير، إما لعدم إمكانه، أو مع الإمكان، فينظر إن كان المرهون مما لا ينقل، كالدور، والأرضين، والشجر الثابت، والثمرة على الشجرة قبل أوان الجداد، فقبضه بالتخلية بينه وبين المرتهن، وتمكينه من وضع يده، بأن يفتح الدار أو يسلمه مفتاحها، وإن كان من جملة المنقولات فقيه خلاف نبينه: فرأى «الشافعي» (في رواية راجحة) ، وأحمد، وأبو يوسف: أنه لا يكتفي بالتخلية، بل لا بد من النقل والتحويل. ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي (في رواية مرجوحة) : «الاكتفاء بالتخلية. وقد أجمع الناس على قبض المرتهن، وكذا على قبض وكيله، واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه. وقيل ذكر المذاهب أوضح المراد من العدل هنا. العدل: من رضي الراهن والمرتهن وضع المرهون في يده، سواء أرضيا ببيعه أم لا، أو هو من يقدر على الإيفاء والاستيفاء، مسلما كان أم ذميا أم حربيا مستأمنا ما دام في دارنا أو هو من يجوز توكيله، وهو الجائز التصرف، مسلما كان أم كافرا، عدلا أم فاسفا، ذكرا أم أنثى. -

فقال مالك، وجميعُ أصحابه، وجمهور العلماء: قَبْض العَدْل قبضٌ. وقال الحَكَم بن عُتَيْبَةَ «1» ، وغيره: ليس بقَبْض. وقولُ الجمهورِ أصحُّ من جهة المعنى في الرهن. وقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: شرطٌ ربَطَ به وصيَّةَ الذي علَيْه الحقُّ بالأداء. قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «2» : قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: معناه: إن أسقط الكَتْبَ، والإِشهادَ، والرَّهْنَ، وعوَّل على أمانة المعامَلِ، فليؤدِّ الأمانةَ، وليتَّقِ اللَّه ربَّه وهذا يبيِّن أنَّ الإِشهاد ليس بواجبٍ إِذ لو كان واجباً، لما جاز إِسقاطه، ثم قال: وجملة الأمر أنَّ الإِشهاد حزْم، والاِئتمانَ ثقةٌ باللَّه تعالى من الدائنِ، ومروءةٌ من المِدْيَان، ثم ذكر الحديثَ الصحيحَ «3» في قصَّة الرَّجُل من بني إِسرائيل الذي استسْلَفَ ألْفَ دينارٍ، وكيف تَعَامَلاَ على الائتمان، ثم قال ابنُ العربيِّ: وقد رُوِيَ عن أبي سعيد الخدريِّ أنه قرأ هذه الآية، فقال: هذا نسخ لكلِّ ما تقدَّم، يعني: من الأمر بالكتب، والإشهاد،

_ - وقال ابن المقري: فإن شرطا وضعه عند عدل أو عدلين جاز. قال شارحه: لو عبر بدل عدل بثالث لكان أولى فإن الفاسق كالعدل في ذلك وقد رأى أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وعطاء، وعمرو بن دينار، والثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور: أن قبضه يقوم مقام قبض المرتهن إذا شرطا وضعه عند عدل. وجنح ابن أبي ليلى، وقتادة، والحارث العسكري، والظاهرية إلى أنه لا يقوم مقامه. ينظر: «الرهن» لشيخنا حسن مصطفى، و «الأم» (3/ 123) ، و «المهذب» (1/ 304) ، والقرطبي (3/ 410) ، و «البحر الرائق» (8/ 291) ، و «ابن عابدين» (5/ 334) ، و «تكملة فتح القدير» (8/ 221) ، و «الشرح الكبير» ، لابن قدامة (4/ 414) ، و «المغني» له (4/ 387) . (1) الحكم بن عتيبة الكندي، مولاهم، أو أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام، عن أبي جحيفة، وعبد الله بن شدّاد، وأبي وائل، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وخلق، وعنه منصور، والأعمش، ومسعر، وشعبة، وأبي عوانة، وخلق، قال العجلي: ثقة ثبت من فقهاء أصحاب إبراهيم، صاحب سنة واتباع، قال أبو نعيم: مات سنة خمس عشرة ومائة، عن خمس وستين سنة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 245) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 262) . (3) أخرجه البخاري (4/ 35) في البيوع: باب التجارة في البحر (2063) ، و (4/ 548- 549) في الكفالة: باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها (2291) ، وأحمد (2/ 348) من طريق ليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل ... فذكره.

والرهن. اهـ. وقوله: فَلْيُؤَدِّ: أمر بمعنى الوجوبِ، وقوله: أَمانَتَهُ: مصْدَرٌ سُمِّيَ به الشيْء الذي في الذمَّة. وقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ... الآية: نهي فيه تهديدٌ ووعيدٌ، وخص تعالى ذكْر القَلْب إذ الكَتْم من أفعاله، وإِذ هو البُضْعَةُ التي بصلاحها يصْلُحُ الجَسَدُ كُلُّه كما قال صلّى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ توعُّدٌ، وإِنْ كَانَ لفظُها يعمُّ الوعيدَ والوَعْدَ. وروى البزّار في «مسنده» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «مَنْ مشى إلى غَرِيمِهِ بِحَقِّهِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الأَرْضِ، وَنُونُ المَاءِ، ونَبَتَتْ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ شَجَرَةٌ، تُغْرَسُ فِي الجَنَّةِ، وَذَنْبُهُ يُغْفَرُ» «1» اهـ من «الكوكب الدري» . قوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... الآية: المعنى: جميعُ ما في السمواتِ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ. وقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... الآية: قوله: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه ما تقرَّر في النفْسِ، واستصحبت الفكْرةَ فيه، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها، فليسَتْ في النفْسِ، إِلا على تجوُّز. واختلف في معنى هذه الآية. فقال عِكْرِمَةُ وغيره: هي في معنى الشهادةِ التي نُهِيَ عن كتمها «2» ، فلفظ الآية على هذا التأويل: العمومُ، ومعناه الخصوصُ وكذا نقل الثعلبيُّ. وقال ابن عبَّاس: وأبو هريرة، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين: إِن هذه الآية، لَمَّا نزلَتْ، شَقَّ ذلك على الصَّحابة، وقالوا: هَلَكْنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ حُوسِبْنَا بخواطر نفوسنا، وشقّ ذلك على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا، كَمَا قالت بنو إسرائيل: سمعنا 75 ب وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، / فَقَالُوهَا: فَأَنْزَلَ الله بعد ذلك:

_ (1) أخرجه البزار (2/ 119- كشف) رقم (1342) ، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن أبي سعد، عن معاوية بن إسحاق، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس به. وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 152) : رواه البزار، وفيه جماعة لم أجد من ترجمهم. (2) أخرجه الطبري (3/ 143) برقم (6452) ، وذكره ابن عطية (1/ 389) .

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1» [البقرة: 286] ونَسَخ بِهَذِهِ تِلْكَ» هذا معنى الحديثِ الصحيحِ، وله طرقٌ من جهاتٍ، واختلفتْ عباراته، وتعاضَدَتْ عبارةُ هؤلاء القائلين بلفظة النَّسْخِ في هذه النازلةِ. وقال ابن عبَّاس: لما شقَّ ذلك علَيْهم، فأنزل اللَّه تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... الآية، فنسختِ الوسوسةُ، وثَبَتَ القوْلُ، والفعْلُ. وقال آخرون: هذه الآيةُ محكمةٌ غير منْسُوخةٍ، واللَّه محاسِبٌ خلقه على ما عملوه، وأضمروه، وأرادوه، ويَغْفِرُ للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ورجّح الطبريّ «2» أنّ

_ (1) أخرجه مسلم (1/ 115- 116) كتاب «الإيمان» ، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، حديث (199/ 125) ، وأحمد (2/ 412) ، والطبري في «تفسيره» (6/ 661) . كلهم من طريق العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عن أبِيهِ، عن أبي هريرة قال: لما نزلت: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» قالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم، ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله (عز وجل) : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، قال: نعم، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: نعم، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 661) ، وزاد نسبته إلى أبي داود في «ناسخه» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وورد أيضا بنحو ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه مسلم (1/ 116) ، كتاب «الإيمان» ، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، حديث (200/ 125) . والترمذي (5/ 206) ، كتاب «التفسير» ، باب سورة البقرة، حديث (2992) . وأحمد (1/ 233) . والنسائي في «الكبرى» (6/ 307) ، كتاب «التفسير» ، باب قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، حديث (11059) ، والطبري في «تفسيره» (6/ 105) ، والحاكم (2/ 286) ، كلهم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وفيه نظر: فقد أخرجه مسلم كما تقدم في التخريج. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 661) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (2) ينظر: «الطبري» (3/ 149) .

الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة. ع «1» : وهذا هو الصوابُ، وإِنَّما هي مخصَّصة، وذلك أنَّ قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ: معناه: بما هو في وُسْعكم، وتحْتَ كَسْبِكُم، وذلك استصحابُ المعتقد، والفِكْر فيه، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطر، أشفق الصحابة، والنبيّ صلّى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى، وخصَّصَها، ونصَّ على حُكْمِهِ أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا، والخواطرُ ليْسَتْ هي، ولا دفعُهَا في الوُسْع، بل هي أمر غالبٌ، وليست مما يُكْسَبُ، ولا يُكْتَسَبُ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ، وكَشْفُ كربهم، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ أن الآية خَبَرٌ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة، حِينَ فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم لهم: «قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا» ، يجيء منْه: الأمر بأن يبنُوا على هذا، ويلتزموه، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران، فإِذا قرّر هذا الحكم، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] ، فهذا لفظه الخَبَرُ، ولكنَّ معناه: التزموا هذا، وابنوا عليه، واصبروا بحَسَبِهِ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها. وقوله تعالى: وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، يعني: من العصاةِ، وتعلَّق قومٌ بهذه الآية ممَّن قال بجوازِ تكْليفِ ما لا يُطَاقُ، وقالوا: إِن اللَّه قد كلَّفهم أمْرَ الخواطرِ، وذلك مما لا يِطَاق، قال ع «2» : وهذا غير بيِّن، وإِنما كان أمر الخواطر تأويلا أوّله أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم ولم يثبتْ تكليفاً إِلا على الوَجْه الذي ذكرناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ على ذلك، قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ابن أبي جَمْرَةَ: والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه: أولُها الهَمَّة، ثم اللَّمَّة، ثم الخَطْرة وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها، ثم نِيَّة، ثمَّ إرادَةٌ، ثم عَزِيمَةٌ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها. اهـ. وقوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ... الآية: سببُ هذه الآية أنَّه لما نزلَتْ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، وأشفق منها النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم تقرَّر الأمر على أنْ قالوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، ورجعوا إِلى التضرُّع والاِستكانةِ، مدَحَهم اللَّه تعالى، وأثنى عليهم في هذه الآيةِ، وقدَّم ذلك بين يدَيْ رِفْقِهِ بهم، فجمع لهم تعالَى التشْريفِ بالمَدْحِ، والثناءِ، ورفع المشقَّة في أمر الخواطرِ، وهذه ثمرة الطَّاعَة والانقطاعِ إلى الله تعالى، لا كما

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 389) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 390) . [.....]

قالتْ بنو إِسرائيل: سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة: 93] فأعقبهم ضدَّ ذلك، وهذه ثمرة العصيان، أعاذنا اللَّه من نقمه. وآمَنَ معناه: صدّق، والرسول: محمّد صلّى الله عليه وسلم، وبِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ: القُرآن، وسائرُ ما أوحى اللَّه إليه من حملة ذلك، وكُلُّ لفظة تصلح للإِحاطة، وهي كذلك هُنَا، والإِيمانُ باللَّه: هو التصديقُ به، أي: بوجودِهِ وصفاتِهِ، ورفْضُ كلِّ معبود سواه، والإِيمان بملائكته: هو اعتقادُهم أنهم عبادُ لِلَّهِ مكْرَمُون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤْمَرون، والإِيمان بكتبه: هو التصديقُ بكلِّ ما أَنْزَلَ سبحانه على أنبيائه. وقرأ الجمهور: لاَ نُفَرِّقُ بالنون «1» . والمعنى: يقولون: لا نفرِّق. ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليَهُودِ والنصارى في أنَّهم يؤمنون ببَعْضٍ، ويكفرون ببعض. وقوله تعالى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا: مدح يقتضي الحضَّ على هذه المقالة، وأنْ يكون المؤمنُ يمتثلُها غابر الدّهر، والطاعة: قبول الأوامر، وغُفْرانَكَ: مصدرٌ، والعاملُ فيه فَعْلٌ، تقديره: نَطْلُبُ أوْ نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ. ت: وزاد أبو حَيَّان «2» ، قال: وجوَّز بعضُهم الرفْعَ فيه، على أنْ يكون مبتدأً، أيْ: غفرانُكَ بُغْيَتُنَا. اهـ. وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ: إِقرار بالبعثِ، والوقوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ سبحانه، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لما أنزلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَّلَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ، وعلى أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطَهْ، فَسَأَلَ إلى آخر السّورة «3» .

_ (1) وروي عن أبي عمرو «يفرق» كما في «الكشاف» (1/ 331) ، ورويت عن سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر، وأبي زرعة بن عمر بن جرير، ويعقوب كما في «المحرر الوجيز» (1/ 392) . وقرأ عبد الله «يفرقون» ، ينظر: «الكشاف» (1/ 331) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 392) ، و «البحر المحيط» (2/ 379- 380) ، و «الدر المصون» (1/ 694) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (2/ 380) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6501) ، وابن أبي شيبة (11/ 501) رقم (11824) ، وسعد بن منصور (478) عن حكيم بن جابر به، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 665) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والحديث مرسل.

[سورة البقرة (2) : آية 286]

[سورة البقرة (2) : آية 286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لاَ تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) وقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... الآية: خبرُ جزمٍ نصَّ على أنَّه لا يكلِّف اللَّه العبادَ مِنْ وقْتِ نزولِ الآيةِ عبادةً مِنْ أَعمالِ القَلْب والجوارحِ إِلاَّ وهِيَ في وُسْعِ المكلَّف، وفي مقتضى إِدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكُرْبَةُ عن المسلِمِينَ في تأوُّلهم أمْر الخواطِرِ، وهذا المعنَى الذي ذكَرْناه في هذه الآية يَجْرِي مع معنى قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وقوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، قال العراقيُّ: وُسْعَها، أي: طاقتها. اهـ. قال ع «1» : واختلف النَّاسُ في جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ في الأحكامِ الَّتي هي في الدُّنْيا بعد اتفاقهم على أنَّه ليس واقعًا الآنَ في الشَّرْعِ، وأنَّ هذه الآية آذَنَتْ بعدمه، واختلف القائلُونَ بجوازِهِ، هل وَقَعَ في رسالةِ سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلم أمْ لاَ؟ فقالَتْ فرقة: وقَعَ في نازلةِ أبِي لَهَبٍ لأنه حَكَم علَيْه بتَبِّ اليدَيْنِ، وصَلْيِ النَّارِ وذلك مُؤْذِنٌ أنه لا يؤْمِنُ، وتكليفُ الشرْعِ له الإِيمان راتب، فكأنه كُلِّف أنْ يؤمِنَ، وأنْ يكون في إيمانه أنَّه لا يؤمن لأنه إِذا آمَن، فلا محالة أنْ يُدَيَّنَ بسورة: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ. وقالتْ فرقةٌ: لم يقَعْ قطُّ، وقوله تعالى: سَيَصْلى نَاراً [المسد: 3] إِنما معناه: إِن وافى على كفره. ع «2» : وما لا يطاقُ على أقسامٍ: منه المُحَالُ عقْلاً كالجمْعِ بين الضِّدَّيْن، ومنْه المُحَالُ عادَةً كرفع إِنسانٍ جبلاً، ومنْه ما لا يطاقُ مِنْ حيث هو مُهْلِكٌ كالاِحتراقِ بالنارِ، ونحوه، ومنه ما لا يطاقُ للاشتغال 76 ب بغَيْره، وهذا/ إِنما يقال فيه مَا لاَ يطاقُ على تجوُّزٍ كثيرٍ. وقوله تعالى: لَها مَا كَسَبَتْ، يريدُ: من الحسناتِ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، يريد:

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 393) . (2) ينظر: المصدر السابق.

من السِّيِّئاتِ قاله جماعة المفسِّرين لا خلاف في ذلك، والخواطُر ونحوها ليس من كَسْب الإنسان، وجاءت العَبَارةُ في الحَسَنَاتِ ب «لَهَا» من حيثُ هي مما يفرح الإِنسان بكسبه، ويسر المرء بها، فتضاف إِلى ملكه، وجاءَتْ في السيئة ب «عَلَيْهَا» من حيث هي أوزارٌ، وأثقال، ومتحَملاَتٌ صعْبَةٌ وهذا كما تقول: لي مالٌ، وعليَّ دَيْنٌ، وكرَّر فعْلَ الكَسْب، فخالف بين التصريفَيْن حسنًا لنمط الكلامِ كما قال: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17] هذا وجه. ع «1» : والذي يظهر لِي في هذا أنَّ الحسناتِ ممَّا يكسب دُونَ تكلُّف إِذ كاسبُها على جادَّة أمر اللَّه، ورسْمِ شرعه، والسيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ ببناءِ المبالغة إِذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ اللَّه تعالى، ويتخطَّاه إِلَيْها، فيحسن في الآية مجيءُ التصريفَيْن لهذا المعنى. وقال المهدويُّ وغيره: معنى الآيةِ: لاَ يُؤَاخَذُ أحدٌ بذَنْبِ أحدٍ «2» قال ع «3» : وهذا صحيحٌ في نفسه، لكن من غير هذه الآية. وقوله تعالى: رَبَّنا لاَ تُؤاخِذْنا: معناه: قُولُوا، واختلف الناسُ في معنى قوله سبحانه: إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، فذهب كثير من العلماء إلى أَنَّ هذا الدعاءَ في النسيانِ الغالبِ، والخَطَإ غَيْر المقصودِ، وهو الصحيحُ عندي، قال قتادةُ في تفسير الآيةِ: بلغَنِي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهِ تعالى تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا» ، وقال السُّدِّيُّ: لما نزلَتْ هذه الآية، فقالوها، قال جبريل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، يَا مُحَمَّدُ» ، قال ع «4» : فظاهر قولَيْهما ما صحَّحته وذلك أن المؤمنين، لما كُشِفَ عنهم ما خافوه في قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ، أمروا بالدعاء في ذلك النوْعِ الذي لَيْسَ من طاقة الإِنسان دفْعُهُ، وذلك في النسيانِ، والخطأ، والإِصر الثقيلِ، وما لا يطاقُ على أتمِّ أنواعه، وهذه الآية على هذا القولِ تقضِي بجوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ ولذلك أمر المؤمنون بالدعاءِ في ألاَّ يقع هذا الجائزُ الصَّعْبُ. ومذهب أبي الحَسَنِ الأشعريِّ «5» وجماعةٍ من

_ (1) ينظر: المصدر السابق. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 393) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 393) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 394) . (5) علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، الشيخ أبو الحسن الأشعري، والبصري، إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، -

المتكلِّمين أنَّ تكليف ما لا يطاق جائزٌ عقلاً، ولا يخرم ذلك شيئاً من عقائِد الشَّرْع. وذهب الطبريُّ «1» وغيره إِلى أنَّ تكليفَ ما لا يطاقُ غيْر جائزٍ، وأنَّ النسيان في الآية بمعنى التَّرْك أيْ: إِن تركنا شيئاً من طاعتك، والخَطَأ هو المقصودُ من العَصْيَان، والإِصْر هي العباداتُ الثقيلةُ كتكاليف بني إِسرائيل، وما لا طاقة للمرءِ به هو عندهم على تجوُّز كما تقولُ: لا طاقة لي على خصومة فُلاَنٍ، أو: لا طاقَةَ لَنَا به من حيث هو مهلكٌ كعذاب جهنَّم وغيره، ثُمَّ قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: وَاعْفُ عَنَّا، أي: فيما واقعناه، وَاغْفِرْ لَنا، أيْ: استر علينا ما عَلِمْتَ منا وَارْحَمْنا، أيْ: تَفضَّلْ مبتدئاً برَحْمَةٍ منك لنا، فهذه مناح من الدعاء متباينة، وأَنْتَ مَوْلانا: مدح في ضمنه تقرّب 77 ب إِلَيْه، وشُكْر على نعمه، ومولى: هو من وَلِيَ، وفي الحديث/: أنَّ جبريلَ- عليه السلام- قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «قُلْ: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» فقالَهَا، فَقَالَ جِبْرِيلُ: قَدْ فَعَلَ، قَالَ: قُلْ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُهَا فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: قَدْ فَعَلَ إلى آخِرِ السُّورةِ» «2» . وتظاهرتْ بهذا المعنى أحاديثُ، وروى أبو مسعودٍ عُقْبَةُ بن عمرٍو «3» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ» «4» يَعْنِي مِنْ قيام الليل، قال

_ - والذاب عن الدين، والمصحح لعقائد المسلمين، مولده سنة ستين ومائتين، وقيل: سنة سبعين. كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم من أقماع السمسم. قال الخطيب البغدادي: أبو الحسن الأشعري، المتكلم، صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة، والرافضة، والجهمية، والخوارج وسائر أصناف المبتدعة. توفي سنة 324 هـ، وقيل: 320 هـ، وقيل: 330 هـ. ينظر: «الأعلام» (5/ 69) ، و «تاريخ بغداد» (1/ 346) ، و «وفيات الأعيان» (2/ 446) ، و «ابن قاضي شهبة» (1/ 113) . (1) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 159) . (2) تقدم تخريجه. (3) هو: عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة أبو مسعود. الأنصاري. البدري. قال ابن الأثير: هو المعروف ب «البدري» لأنه سكن أو نزل ماء بدر، وشهد العقبة ولم يشهد بدرا عند أكثر أهل السير. وقيل: شهد بدرا. ثم أورد له حديثا في الأحق بالإمامة. توفي سنة (41) أو (42) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 286) ، «الإصابة» (7/ 276) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 202) ، «بقي بن مخلد» (37) ، «الاستيعاب» (4/ 1756) ، «الكنى والأسماء» (1/ 54، 90) ، «تقريب التهذيب» (2/ 472) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 234) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1647) ، «أصحاب بدر» (237) ، «التاريخ» لابن معين (2/ 145) ، «تنقيح المقال» (3/ 35) . [.....] (4) تقدم تخريجه.

صاحب «سلاح المؤمن» : هذا الحديثُ رواه الجماعةُ، يعني: الستةَ، ومعنى: «كَفَتَاهُ» أجزتَاهُ عنْ قيامِ الليل، وقيل: كَفَتَاهُ مِنْ كلِّ شيطانٍ، فلا يقربه ليلَتَهُ، وقيل: كفتاه ما يكُونُ مِنَ الآفاتِ تلك الليلةَ، وقيل: معناه حَسْبُهُ بهما فضلاً وأجراً، ويحتمل الجميع، واللَّه أعلم. اهـ من «سلاح المؤمن» . وقال عليٌّ- رضي اللَّه عنه-: «ما أظنُّ أَحَداً عَقَلَ، وأدْرَكَ الإِسْلاَمَ يَنَامُ، حتى يَقْرَأَهُمَا» «1» وفي الحديثِ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلم، قَالَ: «أُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُؤْتَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي» «2» . كمل تفسير سورة البقرة، والحمد لله

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 395) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 669) ، وعزاه للدارمي، ومحمد بن نصر، وابن الضريس، وابن مردويه عن علي. (2) تقدم تخريجه.

محتوى الجزء الأول من تفسير الثعالبي

محتوى الجزء الأول من تفسير الثعالبي مقدمة المحقق 5 المبحث الأول: نبذة عن حياة الثعالبي 9- اسمه وكنيته ولقبه 9- رحلاته وشيوخه 9 1- محمد بن خلفه بن عمر التونسي 12 2- ولي الدين العراقي 13 3- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر مرزوق 14 4- أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي 17 5- علي بن عثمان المنجلاتي 19 6- أحمد النقاوسي البجاني 19 7- عيسى بن أحمد بن محمد بن محمد الغبريني 19 8- سليمان بن الحسن البوزيدي 20 9- محمد بن علي بن جعفر الشمس 21 10- عمر بن محمد القلشاني 22 11- علي بن موسى البجائي 22 12- البساطي 23 13- أبو الحسن علي بن محمد البليليتي 23 14- أبو يوسف يعقوب الزغبي 23- شيوخه الدين لم يذكره في رحلته 23 1- عبد الله بن مسعود التونسيّ 23 2- عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي 24 3- عبد الواحد الغرياني 25

- تلاميذه 25 1- محمد بن محمد بن أحمد بن الخطيب 25 2- محمد بن يوسف بن عمر شعيب السنوسي 26 3- أبو العباس أحمد بن عبد الله الجزائري الزواوي 29 4- محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي 30 5- علي بن محمد التالوتي الأنصاري 32 6- علي بن عباد التستري البكري 33 7- أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي القاسي الشهير بزروق 33- مصنفات الثعالبي 36- ثناء العلماء عليه 38 المبحث الثاني: التفسير قبل أبي زيد الثعالبي 40- التفسير لغة 40- التفسير اصطلاحا 41- التأويل لغة 42- التأويل اصطلاحا 43- الفرق بين التفسير والتأويل 44- حاجة الناس إلى التفسير 46- فهم الصحابة للقرآن الكريم 50- أشهر مفسري القرآن من الصحابة 52 1- علي بن أبي طالب 52 2- عبد الله بن مسعود 53 3- أبيّ بن كعب 55 4- عبد الله بن عباس 56- طرق الرواية عن ابن عباس 59- قيمة التفسير المأثور عن الصحابة 60- مدرسة مكة: تلاميذ ابن عباس 62 1- سعيد بن جبير 62 2- مجاهد بن جبر 66

3- عكرمة 67 4- طاووس 70- مدرسة المدينة: تلاميذ أبيّ بن كعب 74 1- أبو العالية 74 2- محمد بن كعب القرظي 75 3- زيد بن أسلم 75- مدرسة العراق: تلاميذ عبد الله بن مسعود 76 1- علقمة بن قيس 76 2- مسروق 77 3- عامر الشعبي 77 4- الحسن البصري 78 5- قتادة 79- قيمة التفسير المأثور عن التابعين 81- سمات التفسير في تلك المرحلة 82- التفسير في عصر التدوين 82- أقسام التفسير 83- الاتجاه الأثري في التفسير 83- ابن جرير الطبري 84- طريقة الطبري في التفسير 85- الاتجاه اللغوي 86- الاتجاه البياني 88 المبحث الثالث: الكلام على تفسير الثعالبي 91 1- مصادر من كتب التفسير 91 2- كتب غريب القرآن والحديث 94 3- المصادر التي اعتمد عليها من كتب السنة 95 4- كتب الترغيب والترهيب 95 5- كتب في الأحكام الفقهية والأصولية 96 6- كتب الخصائص والشمائل 96

7- كتب في التربية وتهذيب النفوس 96 8- في الأسماء والصفات 97 9- ومن كتب التاريخ 97 10- كتب أخرى منثورة 97- منهج الإمام الثعالبي في تفسيره 98 1- جمعه بين التفسير بالمأثور والرأي 99 2- تعرضه لمسائل في أصول الدين 100 3- مسائل أصول الفقه في تفسيره 101 4- تعرضه لآيات الأحكام 102 5- احتجاجه باللغة والمسائل النحوية 103 6- ذكره لأسباب النزول 104 7- ذكره للقراءت الواردة في الآية 105 8- احتجاجه بالشعر 108 9- موقفه من الإسرائيليات 109- وصف النسخ المعتمد عليها في كتاب تفسير الثعالبي 113- نماذج من صور مخطوطات الكتاب 115 الجزء الأول من تفسير الثعالبي- مقدمة المؤلف 117- باب في فضل القرآن 123- باب في فضل تفسير القرآن وإعرابه 135- فصل فيما قيل في الكلام في تفسير القرآن والجرأة عليه ومراتب المفسرين 138- فصل: أنزل القرآن على سبعة أحرف 145- فصل في ذكر الألفاظ التي في القرآن مما للغات العجم بها تعلق 148- باب تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية 150- باب في الاستعاذة 154- باب في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 156

- تفسير فاتحة الكتاب 161- تفسير سورة البقرة 174

الجزء الثاني

[الجزء الثاني] تفسير سورة آل عمران بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مدنيّة، بإجماع في ما علمت. [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) قولُه جَلَّتْ قدرته: الم اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الأبْرَعُ في نَظْمِ الآيةِ أنّ يكون: اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ كلاماً مبتدأً جزماً جملةً رادةً على نصارَى نَجْرَانَ الذين وفَدُوا علَى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَحَاجُّوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وقالوا: إِنَّهُ اللَّهُ على مَا هُوَ معلومٌ في السِّيَرِ، فنزل فيهم صَدْر هذه السورةِ إِلى نيِّفٍ «1» وثمانين آية منها، إلى أن دعاهم صلّى الله عليه وسلّم إلى الابتهال. وقد تقدَّم تفسيرُ قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ في آية الكرسيِّ، والآيةُ هناك إِخبارٌ لجميعِ الناسِ، وكُرِّرتْ هنا إخباراً بحجج هؤلاءِ النصارى، ويردُّ عليهم إِذ هذه الصفاتُ لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى- عليه السلام- لأنهم إِذ يقولُون: إِنه صُلِبَ، فذلك مَوْتٌ في معتقَدِهِمْ، وإِذْ من البيِّن أنَّه ليس بقَيُّومٍ. وقراءة الجمهور «القَيُّوم» ، وقرىء خارجَ السَّبْعِ: «القَيَّامُ» و «القَيِّمُ» «2» ، وهذا كلُّه مِنْ: قَامَ بالأَمْرِ يقُومُ به، إِذا اضطلع بحفْظِهِ، وبجميعِ ما يحتاجُ إليه في وجوده، فالله تعالى

_ (1) كل ما زاد على العقد، فهو نيّف- قال أبو العباس: الذي حصلناه من أقاويل حذاق البصريين والكوفيين أن النيف من واحدة إلى ثلاث. ينظر: «لسان العرب» (4580) (نوف) . (2) قرأ «الحيّ القيّام» كل من عمر، وعثمان، وابن مسعود، والنخعي، والأعمش، وأصحاب عبد الله، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، وأبي رجاء بخلاف، ورويت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ «الحيّ القيّم» علقمة بن قيس. كما في «مختصر الشواذ» (ص 25) ، و «المحتسب» (1/ 151) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 397) .

القَيَّامُ على كلِّ شيءٍ ممَّا ينبغِي له، أوْ فِيهِ، أوْ عليه. ت: وقد تقدَّم ما نقلْناه في هذا الاِسم الشريفِ أنه اسمُ اللَّهِ الأعظمُ، قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتاب الترمذيِّ عَنْ أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنَّهُ كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ، قَالَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ» ، قَالَ الحاكمُ: هذا حديثٌ صحيحُ الإِسناد «1» . اهـ. قال صاحب «سلاح المؤمن» : وعنْ عليٍّ- رضي اللَّه عنه-، قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَاتَلْتُ شَيْئاً مِنْ قِتَالٍ، ثمَّ جئْتُ إلى رسُولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم أنظر ما صنع فجئت، فإذا هو ب سَاجِدٌ يَقُولُ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى القِتَالِ/، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ لاَ يَزِيدُ على ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» رواه النِّسائِيُّ، والحاكمُ في «المستدرك» ، واللفظ للنسائِيِّ «2» . وعن أسماء بنتِ يَزيد «3» - رضي الله عنها- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «اسم اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لاَّ إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ: الم اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» رواه أبو داود، واللفظُ له، والترمذيُّ، وابن ماجة «4» ، وقال التّرمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.

_ (1) تقدم تخريجه في سورة البقرة. (2) أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 156- 157) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب الاستنصار عند اللقاء، حديث (10447) . والحاكم (1/ 222) ، من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن إسماعيل بن عون بن عبيد الله بن أبي رافع، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه محمد بن عمر بن علي عن علي به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي، فقال: ابن موهب اختلف قولهم فيه، وإسماعيل فيه جهالة. (3) هي: أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث.. أم سلمة، الأنصارية، الأوسية، الأشهلية. خطيبة النساء. قال ابن حجر في «الإصابة» : روت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عدة أحاديث، وعند أبي داود بسند حسن عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تقتلوا أولادكم سرا إنه ليدرك الفارس فيدعثره عن فرسه» . ينظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 18، 19) ، «الإصابة» (8/ 12) ، «الثقات» (3/ 23) ، «الاستيعاب» (4/ 1787) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 245) ، «أعلام النساء» (1/ 53) ، «حلية الأولياء» (2/ 76) ، «خلاصة تذهيب تهذيب الكمال» (3/ 375) ، «الكاشف» (3/ 64) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1678) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 399) ، «تقريب التهذيب» (2/ 589) ، «بقي بن مخلد» (42) . (4) أخرجه أبو داود (1/ 470) ، كتاب «الصلاة» ، باب الدعاء، حديث (1496) ، والترمذي (5/ 517) ، كتاب «الدعوات» ، حديث (3478) ، وابن ماجة (2/ 1267) ، كتاب «الدعاء» ، باب اسم الله الأعظم، -

وعن أبي أمامة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: «اسم اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي ثَلاَثِ سُوَرٍ: فِي سُورَةِ البَقَرَةِ، وآل عِمْرَانَ، وَطَه» ، قال القاسِمُ: فالتمستها أنَّهُ الحَيُّ القَيُّومُ «1» . انتهى. وقوله: بِالْحَقِّ: يحتملُ معنيَيْنِ: أحدهما: أنْ يكون المعنى: ضُمِّنَ الحقائقَ في خبره، وأمره، ونهيه، ومواعظه. والثانِي: أنْ يكون المعنى: أنه نَزَّلَ الكتابَ باستحقاق أنْ يُنَزَّل لما فيه من المصلحةِ الشاملة، وليس ذلك على أنه واجبٌ على اللَّه تعالى أنْ يفعله. ت: أي: إِذْ لا يجبُ عَلَى اللَّه سبحانه فعْلٌ قال ع «2» : فالباءِ، في هذا المعنى: على حدِّ قوله: سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة: 116] . وقيل: معنى: بِالْحَقِّ: أيْ: مِمَّا اختلف فيه أهْلُ الكتابِ، واضطرب فيه هؤلاءِ النصارَى الوافِدُونَ. قال ع «3» : وهذا داخلٌ في المعنى الأول. وقوله: مُصَدِّقاً: حالٌ مؤكِّدة لأنه لا يمكن أنْ يكون غير مصدِّقٍ، لما بين يديه من كتب الله سبحانه، ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ: هي التوراةُ والإِنجيلُ وسائرُ كُتُبِ اللَّه التي تُلُقِّيَتْ من شرعنا. وقوله تعالى: مِنْ قَبْلُ: يعني: من قبل القرآن. وقوله: هُدىً لِلنَّاسِ: معناه: دُعَاءٌ، والنَّاسُ: بنو إِسرائيل في هذا الموضع، وإن

_ - حديث (3855) . كلهم من طريق عيسى بن يونس، عن عبيد الله بن أبي زياد القداح، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد به. وقال الترمذي: حسن صحيح. وشهر بن حوشب صدوق، كثير الإرسال والأوهام. ينظر: «التقريب» (1/ 355) . (1) أخرجه ابن ماجة (2/ 1267) ، كتاب «الدعاء» ، باب اسم الله الأعظم، حديث (3856) . والطبراني في «الكبير» (8/ 214) ، من طريق عيسى بن موسى، عن غيلان بن أنس، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعا. قال البوصيري في «الزوائد» (3/ 204) : هذا إسناد فيه مقال غيلان لم أر من جرحه، ولا من وثّقه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 397) . (3) ينظر: المصدر السابق.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 5 إلى 7]

كان المراد أنهما هُدىً في ذاتهما، مَدْعُوٌّ إليه فرعَوْنُ وغَيْرُه، فالناسُ عامٌّ في كل من شاء حينئذ أن يستبصر، والْفُرْقانَ: القرآن لأنه فَرَقَ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، ثم توعَّد سبحانه الكفَّارَ عموماً بالعذابِ الشديدِ، والإشارةُ بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، وعَزِيزٌ: معناه: غالبٌ، والنقمة والاِنتقام: معاقبةُ المذْنِبِ بمبالغةٍ في ذلك. [سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 7] إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ: هذه الآية خَبَرٌ عن علْمِ اللَّه تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفةٌ لَمْ تكُنْ لعيسى، ولا لأحدٍ من المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تَصْويره للبَشَرِ في أرحامِ الأمَّهاتِ، وهذا أمر لا ينكرُهُ عاقلٌ، ولا ينكر أنَّ عيسى وسائر البَشَر لا يقْدِرُونَ عليه، ولا ينكر أنَّ عيسى من المصوَّرِينَ كغيره من سائرِ البَشَر، فهذه الآية تعظيمٌ للَّه جلَّتْ قُدْرته في ضِمْنِها الرَّدُّ على نصارى نَجْران، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ: وعيد، وشرح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيفيَّة التصْويرِ في الحديثِ الَّذي رواه ابنُ مَسْعُودٍ وغيره «أنَّ النُّطْفَةَ، إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكاً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَذَكَرْ/ أَمْ أنثى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ... » الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه «1» ، وفي مسندِ ابن «سِنْجَر» حديثٌ «أنَّ اللَّهَ سُبْحَانه يَخْلُقُ عِظَامَ الجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ، وَلَحْمَهُ وَشَحْمَهُ وَسَائِرَ ذَلِكَ مِنْ مَنِيِّ المَرْأَةِ» ، وَصَوَّرَ: بناءُ مبالغةٍ من صَارَ يَصُورُ، إِذا أمال وثنى إلى حالٍ مَّا، فلما كان التصويرُ إمالةً إلى حال، وإِثباتاً فيها، جاء بناؤه على المُبَالغة، والكتابُ في هذه الآية: القرآن، بإِجماع، والمُحْكَمَاتُ: المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ، والمُتَشَابِهَاتُ: هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ، ويظهر فيها ببَادِي النَّظَرِ: إِما تَعَارُضٌ مع أخرى، وإما مع العَقْل إِلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» «2» ، أي: يكون الشيء حراما في نفسه،

_ (1) تقدم تخريجه. [.....] (2) ورد ذلك من حديث النعمان بن بشير، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله. -

فَيُشْبِهُ عند من لَمْ يُنْعِمِ النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية: يكونُ لها في نفسها معنًى صحيحٌ، فيشبه عنْد مَنْ لم ينعمِ النظر، أو عند الزائغِ معنًى آخر فاسداً، فربَّما أراد الاِعتراضَ به على كتاب اللَّه، هذا عندي معنَى الإِحكام والتشابُهِ في هذه الآية.

_ - فأما حديث النعمان، فأخرجه البخاري (1/ 153) في الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه (52) ، و (4/ 340) في البيوع: باب الحلال بيّن، والحرام بين، وبينهما مشتبهات (2051) ، ومسلم (3/ 1219- 1221) ، في المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات (107، 108/ 1599) ، وأبو داود (1/ 263) في البيوع، باب في اجتناب الشبهات (3329، 3330) . والنسائي (7/ 241) في البيوع: باب اجتناب الشبهات في الكسب. والترمذي (3/ 511) في البيوع: باب ما جاء في ترك الشبهات (1205) . وابن ماجة (2/ 1318) في الفتن، باب الوقوف عند الشبهات (3984) ، وأحمد (4/ 269، 270) ، والدارمي (2/ 245) في البيوع، باب في الحلال بين، والحرام بين. والحميدي (918) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 324) ، والبيهقي (5/ 264) في البيوع: باب طلب الحلال، واجتناب الشهوات، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 269- 270) ، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص 317) . والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (4/ 207) في البيوع: باب الاتقاء عن الشبهات (2024) ، من طرق عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله. إلا وهي القلب» . وأخرجه أحمد (4/ 267) ، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان، عن عاصم، عن خيثمة. والشعبي عن النعمان مرفوعا بنحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأما حديث عمار بن ياسر، فأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (1653) . والطبراني في «الكبير» ، و «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (4/ 76) ، من طريق موسى بن عبيدة، أخبرني سعد بن إبراهيم عمن أخبره، عن عمار بن ياسر رفعه: «إن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما شبهات. من توقاهن كن وقاء لدينه، ومن يوقع فيهن يوشك أن يواقع الكبائر، كالمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، لكل ملك حمى» . وقال الهيثمي (4/ 76، 10/ 296) : فيه موسى بن عبيدة، وهو متروك. وقال الحافظ في «المطالب» (1254) : إسناده ضعيف. وأما حديث ابن عباس، فأخرجه الطبراني في «الكبير» (10/ 404) برقم (10824) ، من طريق الوليد بن شجاع، حدثني أبي، ثنا سابق الجزري أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب أخبره عن عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك شبهات. فمن أوقع بهن فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه، كمرتع إلى جنب حمى أوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، وحمى الله الحرام» . قال الهيثمي في «المجمع» (10/ 297) فيه سابق الجزري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وأما حديث جابر، فأخرجه الخطيب في «التاريخ» (6/ 70) ، من طريق سعيد بن زكريا المدائني، حدثنا الزبير بن-

قال ع «1» : وأحسنُ ما قيل في هذه الآية قولُ محمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيرِ» أن المُحْكَمَاتِ هي الَّتِي فيهن حُجَّةُ الربِّ، وعصمةُ العبادِ، ودفْعُ الخصومِ والباطل، ليس لها تصريفٌ ولا تحريفٌ عمَّا وضعْنَ عليه، والمُتَشَابِهَاتُ: لها تصريفٌ وتحريفٌ، وتأويلٌ ابتلى اللَّه فيهنَّ العباد «3» ، قال ابن الحاجِبِ في «منتهَى الوُصُولِ» : مسألةٌ في القرآن محكمٌ ومتشابهٌ، قال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فالمُحُكَمُ: المتَّضِح المعنى، قال الرهوني: يعني نَصًّا كان أو ظَاهِراً، والمُتَشَابَهُ: مقابله إمَّا للاشتراك مثل: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] ، أو للإجمالِ مثلُ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: 237] وما ظاهره التّشبيه مثل: مِنْ رُوحِي [ص: 72] ، وأَيْدِينا [يس: 71] ، وبِيَدَيَّ [ص: 75] وبِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ، ويَسْتَهْزِئُ [البقرة: 15] ، ومَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] ونحوه، والظاهرُ: الوقْفُ على: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لأن الخطاب بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ. انتهى. قال الرهونيُّ: وسمِّي ما ذكر «مُتَشَابِهاً» لاشتباهه على السامِعِ، قال الرهونيُّ: والحقُّ الوقْفُ على: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وهو المرويُّ عن جماعة منهم: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عمر، وابنْ مسعودٍ، ومالكٌ، وغيرهم، وفي مُصْحَفِ أُبِيٍّ: «وما يعلم تأويلَهُ إلاَّ اللَّه ويقول الراسخونَ [في العلْمِ] «4» آمنا بِه» «5» . اهـ. وقوله تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، أي: معظم الكتاب، وعُمْدة ما فيه: إذ المُحْكَم في آياتِ اللَّه كثيرٌ قد فُصِّلَ، ولم يفرَّطْ في شيء منه، قال يَحْيَى بْنُ يعمر «6» : كما يقال

_ - سعيد الهاشمي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رفعه بنحوه. ثم قال: أخبرنا أحمد بن أبي جعفر أخبرنا محمد بن عدي البصري- في كتابه- حدثنا أبو عبيد محمد بن علي الآجري قال: سألت أبا داود عن سعيد بن زكريا المدائني فقال: سألت يحيى عنه فقال: ليس بشيء. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 401) . (2) محمد بن جعفر بن الزّبير بن العوّام الأسدي، عن عمه عروة، وابن عمه عبّاد بن عبد الله، وعنه عبيد الله بن أبي جعفر، وابن إسحاق، وجماعة، وثقه النسائي. ينظر: «الخلاصة» (2/ 388) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 174) برقم (6584) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 369) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 401) . (4) سقط في: أ. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (1/ 183) برقم (6624) وعبد الرزاق (1/ 116) . (6) يحيى بن يعمر القيسي، الجدلي العدواني البصري، عن أبي ذر وأبي هريرة، وعلي، وعمّار، وعائشة، -

لمكَّة أمُّ القرى. قال ع «1» : وكما يقالُ: أمُّ الرَّأْس لمجتمع الشؤونِ، فجميع المحكَمِ هو أم الكتابِ، ومعنى الآية الإِنْحَاءُ على أهل الزيْغِ، والمذمَّةُ لهم، والإِشارة بذلك أولاً إلى نصارى نَجْرَانَ، وإلى اليهودِ الذين كانوا معاصِرِينَ لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فإِنهم كانوا يعترضُون معانِيَ القُرآن، ثم يعم بعد ذلك كلِّ زائغ، فذكر تعالى أنه نزّل الكتاب/ على نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم إِفضالاً منه، ونعمةً وأنَّ مُحْكَمَه وبَيِّنَهُ الَّذي لا اعتراض فيه هو معظمه، والغالِبُ فيه وأنَّ متشابهه الذي يحتملُ التَّأْوِيلَ، ويحتاجُ إِلى التفهُّم هو أقلُّه، ثم إِن أهل الزيغ يتركُونَ المحكَمَ الذي فيه غُنْيَتهم، ويتبعونَ المتشَابِه ابتغاء الفِتْنَةِ، وأنْ يفسدوا ذاتَ البَيْن، ويردوا النَّاس إِلى زيغهم. م: قال أبو البقاءِ: وَأُخَرُ: معطوف على آياتٌ، ومُتَشابِهاتٌ: نعت ل أُخَرُ. وقوله تعالى: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: يعمُّ كل طائفةٍ من كافرٍ وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ: الميل، وابْتِغاءَ: نصبٌ على المفعولِ من أجله، ومعناه: طلبُ الفِتْنَة، قال الربيع: الفِتْنَة هنا الشرْكُ، وقال مجاهدٌ: الفتْنَةُ: الشبهاتُ، واللَّبْسُ على المؤمنين، ثم قال: وابتغاء تأويلِهِ، والتأويل هو مَرَدُّ الكلامِ، وَمَرْجِعُهُ، والشيء الذي يقفُ علَيْه من المعانِي، وهو من: آلَ يَئولُ، إذا رجع، فالمعنى: وطَلَبَ تأويلِهِ على مَنَازِعِهِمُ الفاسدَةِ، هذا في ما له تأويلٌ حسنٌ، وإن كان ممَّا لا يتأوَّل، بل يوقَفُ فيه، كالكلامِ في معنَى الرُّوح ونحوه، فنَفْسُ طلب تأويله هو اتباع ما تشابه، ثم قال تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، أي: وما يعلم تأويله على الكَمَال إلا اللَّه سبحانه. واختلف في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فرأَتْ فرقةٌ أنَّ رفْعَ الراسخين هو بالعطْفِ على اسْمِ اللَّهِ (عَزَّ وجلَّ) وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولونَ: آمَنَّا بِهِ، وقالتْ طائفةٌ أخرى: والراسخُونَ: رفْع بالابتداء، وهو مقطوعٌ من الكلامِ الأول، وخبره «يَقُولُونَ» ، والمنفَردُ بعلْم المتشابه هو اللَّه وحده.

_ - وابن عباس، وعنه ابن بريدة، وعكرمة، وقتادة، وسليمان التيمي. قال أبو داود: لم يسمع من عائشة، وثقه أبو حامد، توفي قبل التسعين «بخراسان» . ينظر: «الخلاصة» (3/ 164- 165) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 401) .

قال ع «1» : وهذه المسألة إذا تأمّلت، قَرُبَ الخلافُ فيها من الاِتفاقِ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى قسَّم آي الكتابِ قسْمَيْن محكمًا ومتشابهًا، فالمُحْكَم هو المتَّضِحُ المعنى لكلِّ من يفهم كلامَ العَرَب، لا يحتَاجُ فيه إِلى نظر، ولا يتعلَّق به شيء يلبِّس، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره، والمتشابه على نوعَيْن، منه: ما لا يُعْلَمُ البتَّةَ كأمر الرُّوح، وآمادِ المغيَّبات التي قد أعْلَمَ اللَّه بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه: ما يُحْمَلُ على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلامِ العربِ، فَيُتَأوَّلُ، ويُعْلَم تأويله، ولا يسمَّى أحدٌ راسِخاً إلاَّ أنْ يعلم من هذا النوع كثيراً بحَسَب ما قُدِّر له، فمَنْ قال: إن الراسخين لا يعلمون تأويله، فمراده النوْعُ الثاني الَّذي ذكرناه، ومَنْ قال: إن الراسخين لا يعلَمُونَ تأويله، فمراده النوع الأول كأمر الرُّوح، ووقْتِ الساعةِ، لكنَّ تخصيصه المتشابه بهذا النوعِ غيرُ صحيحٍ، بل هو نوعانِ كما ذكرنا، والضمير في تَأْوِيلِهِ عائدٌ على جميع متشابه القرآن، وهما نوعانِ كما ذكرنا، والرُّسُوخُ: الثبوتُ في الشيءِ، وسئل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، فَقَالَ: «هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، واستقام قَلْبُهُ» «2» ، قُلْتُ: ومن «جامعِ العَتَبِيَّةِ» ، وسُئِل مالكٌ عن تفسيرِ الراسخين في العلم، فقال: العالمون العالمون بما علموا، المتَّبِعُونَ له، قال ابنُ رُشْدٍ: قولُ مالِكٍ هذا هو معنى ما رُوِيَ من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ: مَنِ الراسِخُ في العِلْمِ؟ فقالَ: «مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وصَدَقَ لِسَانُهُ، / واستقام بِهِ قَلْبُهُ، وعَفَّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي العِلْمِ» قال ابنُ رُشْدٍ: ويشهد لصحَّة هذا قولُ اللَّهِ (عز وجل) : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] لأنه كَلاَمٌ يدُلُّ عَلى أنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه، فَلَيْسَ بعالمٍ. انتهى. قلت: وقد جاء في فضْلِ العلْمِ آثارٌ كثيرةٌ، فمن أحسنها: ما رواه أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ بسنده، عن معاذِ بنِ جَبلٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وهو الأنيسُ فِي الوَحْشَةِ، والصَّاحِبُ فِي الغُرْبَةِ، وَالمُحْدِّثُ فِي الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاَحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ، وَيَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، ويقتدى بِفِعَالِهِمْ، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلّتهم،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 403) . (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 177- 178) رقم (7658) ، من طريق عبد الله بن يزيد بن آدم، حدثني أبو الدرداء، وأبو أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك به. وذكره الهيثمي في «المجمع» (6/ 327) ، وقال: وفيه عبد الله بن يزيد، وهو ضعيف.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 إلى 11]

وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَحِيتَانُ البَحْرِ وهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ البَرِّ وأَنْعَامُهُ لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ العَبْدُ بَالعِلْمِ مَنَازِلَ الأَخْيَارَ، وَالدَّرَجَاتِ العلى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، الفِكْرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ القِيَامَ، بِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الحَلاَلُ مِنَ الحَرَامِ، هُوَ إِمَامُ العَمَلِ، وَالعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ» «1» ، قال أبو عمر: هكذا حدَّثنيه عُبَيْدُ بْنُ محمَّدٍ مرفوعاً بالإِسناد الَّذِي روَيْناه به عنه، وهو حديثٌ حسنٌ جِدًّا، ولكن ليس له إِسناد قويٌّ، وَرَوَيْنَاهُ من طرقٍ شتى موقوفًا على معاذ. انتهى من كتاب «فَضْل العِلْمِ» «2» ، قال الشيخُ العارِفُ أبو القاسِمِ عبْدُ الرحمنِ بْنُ يُوسُفَ اللجائي (رحمه اللَّه) ، ومن علامة نورِ العلْمِ، إذا حلَّ بالقلب: المعرفةُ والمراقبةُ والحياءُ والتوبةُ والوَرَعُ والزُّهْد والتوكُّل والصَّبْر والرضى والأنس والمجاهَدَةُ والصَّمْت والخَوْف والرجاءُ والقَنَاعةُ وذِكْرُ المَوْتِ. اهـ. وقوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: فيه ضميرٌ عائدٌ على كتاب اللَّه مُحْكَمِهِ ومتشَابِهِهِ، والتقديرُ: كلُّه من عنْدِ ربِّنا. ثم قال تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ، أي: ما يقول هذا، ويؤمن ويقفُ حيثُ وُقِّفَ، ويدع اتباع المتشابهِ إلاَّ ذُو لُبٍّ، وهو العقْلُ و «أُولُو» : جمع: «ذو» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 11] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) وقوله تعالى: رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا ... الآية: لمَّا ذكر اللَّه سبحانه أهلَ الزيْغِ، وذكَرَ نقيضهم، وظهر ما بَيْن الحالَتَيْنِ، عقَّب ذلك بأنْ علَّم عباده الدعاء إلَيْه في ألاَّ يكونوا من الطائفَةِ الذميمَةِ الَّتي ذُكِرَتْ، وهم أهلْ الزيْغِ، ويحتمل أنْ يكون هذا من تمام قول الراسخين، وتُزِغْ: معناه: تمل قلوبنا عن الهدى والحقّ، ومِنْ لَدُنْكَ: معناه: من عِنْدِكَ تَفَضُّلاً، لا عن سَبَبٍ منَّا، ولاَ عَمَلٍ، وفي هذا استسلامٌ وتطارُحٌ، والمرادُ: هَبْ لنا نعيماً صادراً عن الرحمة. وقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ: إِقرار بالبَعْثِ ليومِ القيامة،

_ (1) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (268) . [.....] (2) ينظر: المصدر السابق.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 إلى 13]

والرَّيْبُ: الشكُّ، والمعنى أنه في نفْسِه حقٌّ لا رَيْبَ فيه. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ، يحتمل: أنْ يكون إِخباراً منه سبحانه لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، ويحتملُ: أنْ يكون حكايةً مِنْ قول/ الداعين، ففي ذلك إِقرارٌ بصفة ذاتِ اللَّه تعالى، والميعادُ: من الوَعْد. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ... الآية: الإِشارة بالآيةِ إلى معاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يفْخَرُون بأموالهم وأبنائهم، وهي بَعْدُ متناوِلَةٌ كلَّ كافرٍ، والوَقُود بفتحِ الواوِ: كلُّ ما يحترق في النار من حَطَبٍ ونحوه، والدَّأْبُ، والدَّأَبُ بسكون الهمزة وفتحها: مصدرُ: دَأَبَ يَدْأَبُ، إذا لازم فعل شيءٍ، ودام عليه مجتهداً فيه، ويقال للعادة دَأْبٌ، والمعنى في الآية: تشبيهُ هؤلاء في لزومهم الكُفْر ودوامِهِم عليه بأولئك المتقدِّمين، وآخر الآية يقتضي الوعيدَ بأنْ يصيب هؤلاءِ ما أصَابَ أولئك، والكافُ في قوله: كَدَأْبِ في موضعِ رفعٍ، والتقدير: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ، والضمير في قَبْلِهِمْ عائد على آلِ فِرْعَوْنَ، ويحتمل: على معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكفار. وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا: يحتمل: أنْ يريد المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 13] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ... الآية: اختلف في تعيين هؤلاء الذين أمر صلّى الله عليه وسلّم بالقَوْل لهم: فقيل: هم جميعُ معاصريه أمر أنْ يقول لهم هذا الذي فيه إعلامٌ بغَيْب، فوقع بحَمْدِ اللَّه كذلك، فغُلِبُوا، وصار مَنْ مات منهم على الكُفْرِ إلى جهنم. وتظاهرتْ رواياتٌ عن ابن عبَّاس وغيره بأنَّ المراد يهودُ المدينةِ، لما قَدِمَ رسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بَدْرٍ، جمعهم، وقال: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ قُرَيْشاً» ، فقالوا: يَا مُحَمَّدُ، لاَ تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَراً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَاراً لاَ يَعْرِفُونَ القِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا، لَعَرَفْتَ أَنَّا نحْنُ النَّاسُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هذه الآية» «1»

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 170) : كتاب «الخراج والفيء والإمارة» ، (3001) ، والطبري في «تفسيره» (3/ 192) -

والحَشْر: الجمْعُ والإِحضار. وقوله تعالى: وَبِئْسَ الْمِهادُ: يعني: جهنَّم هذا ظاهر الآية، وقال مجاهدٌ: المعنى: بِئْسَ ما مهدوا لأنفسهم «1» . قال ع «2» : فكان المعنى: وبئس فعْلُهُم الذي أدَّاهم إِلى جهنَّم. وقوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ... الآيةُ تحتملُ أنْ يخاطب بها المؤمنون تثبيتاً لنفوسهم، وتشجيعاً لها، وأن يُخَاطَبَ بها جميعُ الكُفَّار، وأنْ يخاطب بها يهودُ المدينةِ، وبكلِّ احتمال منْها قد قال قومٌ، وقرىء شاذًّا: «تَروْنَهُمْ» بضم التاء «3» فكأن معناها أنَّ اعتقادَ التضْعيف في جَمْعِ الكفَّار إنما كان تخميناً وظَنًّا لا يقيناً، وذلك أنَّ «أرى» بضم الهمزة: تقولها فيما بَقِيَ عندك فيه نَظَرٌ، وأرى بفتح الهمزةِ: تقولها في ما قد صَحَّ نظرك فيه، ونحا هذا المنحى أبو الفَتْحِ «4» ، وهو صحيحٌ، والمراد بالفئتَيْنِ: جماعةُ المؤمنين، وجماعةُ الكفَّار ببَدْرٍ. قال ع «5» : ولا خلاف أن الإِشارة بهاتين الفئَتَيْنِ هي إلى يوم بدر ويُؤَيِّدُ: معناه يقوّي من «الأيد» ، وهو القوّة.

_ - رقم (6663) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 173- 174) . كلهم من طريق محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 16) ، وزاد نسبته إلى ابن إسحاق، وفاته أن يعزوه إلى أبي داود. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 192) برقم (6668) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 374) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 406) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 406) . (3) وقرأ بها أبان عن عاصم، وأبو عبد الرحمن السلمي، كما في «المحرر الوجيز» (1/ 406) ، و «البحر المحيط» (2/ 411) . وقد نسبها ابن جني في «المحتسب» (1/ 154) إلى ابن عباس، وطلحة بن مصرف، وقال: قراءة حسنة. (4) أبو الفتح عثمان بن يزيد بن جني، من حذاق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف- تلمذ على أبي علي الفارسي، من تصانيفه «الخصائص» ، «سر صناعة الإعراب» ، «المحتسب» ، «اللمع» مات سنة 392 هـ. ينظر: «بغية الوعاة» (2/ 132) . (5) ينظر «المحرر الوجيز» (1/ 407) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 إلى 17]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ... الآيةُ: هذه الآيةُ ابتداءُ وعظٍ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخٌ، والشهواتُ ذميمةٌ، واتباعها مُرْدٍ، وطاعتها مهلكة، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ» «1» ، فَحَسْبُكَ أَنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِهَا، فمَنْ واقعها، خلص إِلى النَّار، قلْتُ: وقد جاءت إحاديثٌ/ كثيرةٌ في التزْهِيدِ في الدنيا، ذكَرْنا من صحيحها وحَسَنِهَا في هذا المُخْتَصَرِ جملةً صالحةً لا توجد في غيره من التَّفَاسير، فعلَيْكَ بتحصيله، فتَطَّلعَ فيه على جواهرَ نفيسةٍ، لا توجَدُ مجموعةً في غيره كما هي بحَمْدِ اللَّه حاصلةٌ فيه، وكيف لا يكونُ هذا المختصر فائقاً في الحُسْن، وأحاديثه بحَمْد اللَّه مختارةٌ، أكثرها من أصولِ الإسلامِ الستَّةِ: البخاريِّ، ومسلمٍ، وأبي داود، والتِّرمذيِّ، والنَّسائِيِّ، وابنِ مَاجَة، فهذه أصول الإِسلام، ثم مِنْ غيرها كصحيح ابن حِبَّانَ، وصحيح الحاكمِ، أعني: «المُسْتَدْرَكَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وأَبِي عَوَانَةَ، وابْنِ خُزَيْمَةَ، والدَّارِمِيِّ، وَالمُوَطَّإِ، وغيرِها من المسانيدِ المشهورةِ بيْن أئمَّة الحديثِ حَسْبما هو معلومٌ في علْمِ الحديث، وقصْدِي من هذا نُصْحُ من اطلع على هذا الكتاب أنْ يعلم قَدْرَ ما أنعم اللَّه به علَيْه، فإِن التحدُّث بالنعم شُكْر، ولنرجَعْ إلى ما قصدناه من نقل الأحاديث:

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2174) ، كتاب «الجنة» ، باب صفة نعيمها، حديث (1/ 2821) ، والترمذي (4/ 693) ، كتاب «صفة الجنة» ، باب ما جاء: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، حديث (2559) ، وأحمد (3/ 153، 254، 284) ، وأبو يعلى (6/ 33) رقم (3275) ، وابن حبان (716، 718) ، والبيهقي في «الشعب» (7/ 147) رقم (9795) . والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 184) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 331- بتحقيقنا) ، من حديث أنس بن مالك به مرفوعا. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (11/ 327) كتاب «الرقاق» ، باب حجبت النار بالشهوات، حديث (6487) ، ومسلم (4/ 2174) ، كتاب «الجنة» ، حديث (1/ 2823) ، وأحمد (2/ 260) ، وابن حبان (719) . كلهم من طريق أبي الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة به. وعند البخاري: «حجبت» بدلا من «حفت» . وأخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (567) ، من طريق مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة به.

روى الترمذيُّ عن عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنْ أَرَدتِّ اللُّحُوقَ بِي، فَلْيَكْفِيكِ مِنَ الدُّنْيَا، كَزَادِ الرَّاكِبَ، وإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ، وَلاَ تَسْتَخْلِفِي ثَوْباً حتى تَرْقَعِيهِ» «1» حديث غَرِيبٌ، وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ» ، خرَّجه أبو داود «2» وقد نقله البغويُّ في «مصابيحه» ، والبَذَاذَةُ: هي رث الهيئة. اهـ والْقَناطِيرِ: جمع قِنْطَارٍ، وهو العُقْدة الكثيرةُ من المال واختلف النّاس في تحرير

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 245) ، كتاب «اللباس» ، باب ما جاء في ترقيع الثوب، حديث (1780) . والحاكم (4/ 312) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 157- 158) رقم (6181) ، وابن السني في «القناعة» رقم (54) . كلهم من طريق سعيد بن محمد الوراق، عن صالح بن حسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة به. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان، وسمعت محمدا يقول: صالح بن حسان منكر الحديث. وقال البيهقي: تفرد به صالح بن حسان، وليس بالقوي، ورواه الحسن بن حماد، عن إبراهيم بن عيينة، عن صالح بن حسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ورواه أبو يحيى الحماني، عن صالح عن عروة، وقيل: عنه، عن صالح، عن هشام بن عروة. أما الحاكم فقال: صحيح الإسناد. وقد تعقبه الذهبي فقال: الوراق عدم. وفي كلامهما نظر، أما تصحيحه فليس بصحيح كما مر، وكما سيأتي. أما تعليله بالوراق فقد توبع كما سيأتي لتنحصر العلة في صالح بن حسان. فأخرجه الترمذي (4/ 245) ، كتاب «اللباس» ، باب ما جاء في ترقيع الثوب حديث (1780) ، وابن السني في «القناعة» برقم (55) ، وابن عدي في «الكامل» (4/ 1370) . وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 139- 140) ، من طريق أبي يحيى الحماني، عن صالح بن حسان، عن عروة، عن عائشة به. وقال ابن عدي: وقد رواه بعضهم عن أبي يحيى الحماني، عن صالح بن حسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومن قال: عن صالح عن عروة. أصح. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، قال يحيى بن معين: صالح بن حسان ليس حديثه بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات والحديث أخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 89) ، من طريق حفص بن غياث، عن صالح، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه ابن السني في «القناعة» رقم (56) ، من طريق إبراهيم بن عيينة، عن صالح بن حسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به. والحديث ذكره الهندي في «الكنز» (3/ 730- 731) رقم (8598) . وزاد نسبته إلى ابن الأعرابي في «الزهد» ، والحديث ضعفه المنذري في «الترغيب» (4/ 64) . (2) أخرجه أبو داود (2/ 474- 475) ، كتاب «الترجل» ، حديث (4161) ، من طريق عبد الله بن أبي أمامة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبي أمامة به. وقال أبو داود: هو أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري.

حَدِّه، وأصحُّ الأقوالِ فيه: ما رواه أُبَيُّ بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «القِنْطَارُ أَلْفٌ ومِائَتَا أُوقِيَّةٍ» «1» ، لكنَّ القنْطارَ على هذا يختلفُ باختلاف البلادِ في قَدْر الأَوقِيَّةِ. وقوله: الْمُقَنْطَرَةِ، قال الطبريُّ «2» : معناه: المُضَعَّفة، وقال الربيعُ: المالُ الكثيرُ بعْضُه على بعض «3» . ص: الْمُقَنْطَرَةِ: مُفَعْلَلَة، أو مُفَنْعَلَة مِن القنطار، ومعناه: المجتمعة. م: أبو البقاء: ومِنَ الذَّهَبِ: في موضعِ الحالِ من الْمُقَنْطَرَةِ اهـ. وقوله: الْمُسَوَّمَةِ: قال مجاهدٌ: معناه المُطَهَّمة الحِسَان «4» ، وقال ابن عبَّاس وغيره: معناه: الراعيَةُ «5» ، وقيل: المُعَدَّة، وَالْأَنْعامِ: الأصنافُ الأربعةُ: الإِبلُ، والبَقَرُ، والضَّأْنُ، والمَعْز. ص: والأنعامُ: واحدُها نَعَمٌ، والنَّعَمُ: الإِبل فقَطْ، وإِذا جُمِعَ، انطلق على الإِبلِ والبقرِ والغنمِ. اهـ. وَالْحَرْثِ: هنا اسمٌ لكلِّ ما يُحْرَثُ من حَبٍّ وغيره، والمَتَاعُ: ما يستمتعُ به، وينتفع مدّة ما منحصرة، والْمَآبِ: المَرْجِعُ، فمعنى الآية: تقليلُ أمر الدُّنيا وتحقيرُها، والترغيبُ في حُسْن المَرْجِع إِلى اللَّه تعالى. وقوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ... الآية: في هذه الآية تَسْلِيَةٌ عن الدنيا، وتقويةٌ لنفوسِ تاركيها ذَكَر تعالى حالَ الدُّنْيا، وكَيْف استقر تزيينُ شهواتها، ثم جاء بالإِنباءِ بخَيْرٍ من ذلك هَازًّا للنفُوس، وجامعاً لها لتَسْمَعَ هذا النبأَ المستغْرَبَ النافع لمن عقل، وأنبّىء: معناه: أخبر.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 199) برقم (6698) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 201) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 201) برقم (6722) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 409) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 19) ، وعزاه لابن جرير. [.....] (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 203) برقم (6736) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 377) بنحوه، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 409) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 19) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 202) برقم (6731) ، وذكره ابن عطية (1/ 409) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 19) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

وقوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ، الرِّضْوَانُ: مصدر مِنْ «رَضِيَ» ، وفي الحديث الصحيحِ، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ، إذا استقروا فِيهَا، وَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أنْ أُعْطِيَكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَبَّنَا، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَداً» «1» ، هذا سياقُ الحديثِ، وقد يجيءُ مختلِفَ الألفاظِ، والمعنى قريبٌ بعضُه من بعض، قال الفَخْر «2» : وذلك أن معرفة أهْلِ الجَنَّة، مع هذا النعيم المقيم بأنَّه تعالى راضٍ عنهم، مُثْنٍ عليهم- أزيدُ عليهم في إِيجابِ السُّرور. اهـ. وباقي الآية بيِّن، وقد تقدَّم في سورة البقرة بيانُهُ. وقوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ... الآية: «الَّذِينَ» : بدلٌ من «الَّذِينَ اتقوا» ، وفسر سبحانه في هذه الآية أحوال المتقين الموعودِينَ بالجَنَّات، والصَّبْرُ في هذه الآية: معناه: على الطَّاعاتِ، وعن المعاصي والشهواتِ، والصِّدْقُ: معناه: في الأقوالِ والأفعالِ، والقُنُوتُ: الطاعةُ والدعاءُ أيضاً، وبكلِّ ذلك يتصف المتَّقِي، والإِنْفَاقُ: معناه: في سبِيلِ اللَّه ومَظَانِّ الأجر، والاِستغفارُ: طلبُ المَغْفرة من اللَّه سبحانه، وخصَّ تعالى السَّحَر لما فيه من الفَضْل حسْبَما وَرَدَ فيه مِنْ صحيحِ الأحاديثِ كحديث النُّزُول: «هَلْ مِنْ دَاعٍ، فَأَسْتجِيبَ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ، فَأَغْفِرَ لَهُ» » ، إِلى غير ذلك ممَّا ورد في فَضْله. قلت: تنبيهٌ: قال القرطبيُّ في «تذكرته» ، وقد جاء حديثُ النزولِ مفسَّراً مبيَّناً في ما خرَّجه النسائِيُّ عن أبي هُرَيْرة، وأبي سَعِيدٍ، قَالاَ: قَالَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يُمْهِلُ حتى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّل، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِياً يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ يعطى» ، صحّحه أبو محمّد عبد الحقّ «4» . اهـ.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (7/ 174) . (3) أخرجه البخاري (3/ 29) ، كتاب «التهجد» ، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، حديث (1145) ومسلم (1/ 522) كتاب «صلاة المسافرين» ، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل حديث (168، 169/ 758) وأبو داود (1/ 420) ، كتاب «الصلاة» ، باب أي الليل أفضل؟، حديث (1315) والترمذي (5/ 526) ، كتاب «الدعوات» ، باب (79) حديث (3498) وأحمد (2/ 487) والبيهقي (3/ 2) من حديث أبي هريرة. (4) ينظر الحديث السابق.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 إلى 20]

وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن عبد الرحمن بن عوف «1» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قَالَ: «إِنَّ نُزُولَ اللَّهِ تعالى إِلَى الشَّيْءِ إِقْبَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نُزُولٍ» «2» . اهـ. والسَّحَر: آخرُ الليل، قال نافِعٌ: «كان ابْنُ عُمَرَ يُحْيِي الليْلَ صلاةً، ثم يقولُ: يا نَافِعُ، أسْحَرْنَا، فأقول: لاَ، فَيُعَاوِدُ الصَّلاة، ثم يسأل، فَإِذا قُلْتُ: نَعَمْ، قَعَدَ يَسْتَغْفِرُ» . قال ع «3» : وحقيقةُ السَّحَرِ في هذه الأحكامِ الشرعيَّة من الاستغفار المحمودِ، وسُحُورِ الصَّائِمِ، ومِنْ يَمِين لَوْ وَقَعَتْ، إنما هي مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخر إلى الفجر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

_ (1) هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة.. أبو محمد. القرشي. الزهري. من مشاهير الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين أوصى إليهم عمر بعده، وأحد الثمانية الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وصلّى خلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومناقبه كثيرة لا يتسع المقام لذكرها. توفي سنة (31) ب «المدينة» . تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 480) ، «الإصابة» (4/ 176) ، «الاستيعاب» (2/ 844) ، «الاستبصار» (114، 126) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 353) ، «عنوان النجابة» (131) ، «الرياض المستطابة» (176) ، «الأعلام» (3/ 321) ، «التاريخ الكبير» (5/ 239) ، «التاريخ الصغير» (1/ 50) ، «العبر» (1/ 33) ، «الكاشف» (2/ 179) ، «بقي بن مخلد» (53) ، «تاريخ الإسلام» (3/ 221) ، «الرياض النضرة» (2/ 376) ، «البداية والنهاية» (7/ 163) ، «سير أعلام النبلاء» (1/ 68) ، «شذرات الذهب» (1/ 25، 38، 62) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 524) ، «تهذيب الكمال» (2/ 809) ، «تقريب التهذيب» (1/ 494) ، «العقد الثمين» (5/ 396) . (2) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 246) . وقال الذهبي في «الميزان» (5083) : إسناد مظلم، ومتن مختلق، وقال ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (1/ 138) : وفيه عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البقال، وبحر بن كنيز السقا، وعبد الكريم بن روح. قال الذهبي في «تلخيص الموضوعات» : هم ظلمات متروكون. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 412) .

وقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ ... الآية: معنى: شَهِدَ اللَّهُ: أعلم عباده بهذا الأمْر الحَقِّ، وقال ص: شَهِدَ، بمعنى عَلِمَ أو قضى، أوْ حَكَم، أو بَيَّن، وهي أقوال اهـ. وأسند أبو عُمَرَ بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» عن غالبٍ القَطَّان، قَالَ: كُنْتُ أختلِفُ إِلى الأَعْمَشِ، فرأيته ليلةً قَامَ يتهجَّد من الليل، وقرأ بهذه الآية: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال الأعمش: وأنا أشْهَدُ بما شَهِدَ اللَّه به، وأسْتَوْدِعُ اللَّهَ هذه الشهادةَ، فقلْتُ للأعمش: إِني سمعتُكَ تقرأُ هذه الآية تردِّدها، فما بَلَغَكَ فيها؟ قال: حدَّثني أبو وَائِلٍ، عن ابنِ مَسْعُودٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: عَبْدِي عهدَ إلَيَّ، وَأَنَا أَحَقُّ مِنْ وفى بِالعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي/ الجَنَّةَ» «1» . اهـ. وقرأ جميعُ القرَّاء «أَنَّهُ» بفتح الهمزةِ وبكَسْرها من قوله: إِنَّ الدِّينَ على استئناف الكلامِ، وقرأ الكِسَائيُّ وحْده: «أَنَّ الدِّينَ» بفتح الهمزةِ بَدَلاً من «أَنَّهُ» الأولى، وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ: عطْفٌ على اسم الله، قال الفَخْر «2» : المراد بِأُولِي العِلْمِ هنا: الذينَ عَرَفُوا اللَّه بالدَّلاَلة القطعيَّة لأن الشهادة، إنما تكونُ مقبولةً، إِذا كان الإِخبار مقروناً بالعلْمِ، وهذا يدلُّ أنَّ هذه الدرجةَ الشريفَةَ لَيْسَتْ إِلا للعلماء بالأُصُولِ، وتكرَّرت «لا إِله إِلا اللَّه» هنا، وفائدةُ هذا التكرير الإِعلامُ بأنَّ المسلم يجبُ أنْ يكون أَبداً في تكرير هذه الكلمة، فإِنَّ أشرفَ كلمةٍ يذكرها الإِنسان هي هذه الكلمةُ، وإذا كان في أكثر الأوقات مُشْتَغِلاً بذكْرِها، وبتكريرها، كان مُشْتَغِلاً بأعظمِ أنواعِ العباداتِ، فكان من التكريرِ في هذه الآيةِ حضُّ العبادِ على تكريرها. اهـ. وصحّ في البخاريّ، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ من قال:

_ (1) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (3/ 325) ، وابن عدي في «الكامل» (5/ 1693- 1694) . والخطيب في «تاريخه» (7/ 193- 194) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (607) . كلهم من طريق عمار بن عمر، عن أبيه، عن غالب القطان به. وقال العقيلي في ترجمة عمار: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به. وقال الذهبي في «الميزان» (3/ 330) : الآفة من عمر فإنه متهم بالوضع. وأقرّه الحافظ في «اللسان» (4/ 273) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (7/ 179) .

لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصاً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ» «1» ، وروى زيْدُ بن أرْقَم «2» ، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً دَخَلَ الجَنَّةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إخْلاَصُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَحْجِزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ» «3» ، خرَّجه الترمذيُّ الحَكِيمُ في «نَوَادِرِ الأصول» اهـ من «التّذكرة» . وقائِماً: حالٌ من اسمِهِ تعالى في قوله: شَهِدَ اللَّهُ، أو من قوله: إِلَّا هُوَ، والقسط: العَدْل، وقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ... الآية: الدِّينُ في هذه الآية: الطاعةُ والمِلَّة، والمعنى: أنَّ الدين المَقْبُول أو النافع هو الإِسلام، والإِسلام في هذه الآية هو الإِيمانُ والطَّاعات، قاله أبو العالية «4» وعليه جمهور المتكلِّمين، وحديثُ: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ على خَمْسٍ» «5» ، وحديثُ مجيء جبريل يعلّم النّاس................

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 233) كتاب «العلم» ، باب الحرص على الحديث، حديث (99) ، و (11/ 426) : كتاب «الرقاق» ، باب صفة الجنة والنار، حديث (6570) . (2) هو: زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج. أبو عمر. وقيل: أبو سعد، وقيل: أبو سعيد. الأنصاري، الخزرجي. سكن «الكوفة» ، وابتنى بها دارا في «كندة» . روى حديثا كثيرا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، روي عنه من وجوه أنه شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع عشرة غزوة، واستصغر يوم أحد، وكان يتيما في حجر عبد الله بن رواحة، وسار معه إلى مؤتة، ويقال: إن أول مشاهده «المريسيع» . شهد مع علي «صفين» ، وهو معدود في خاصة أصحابه. توفي ب «الكوفة» سنة (66) ، وقيل: (68) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 276) ، «الإصابة» (3/ 21) ، «الثقات» (3/ 139) ، «الاستيعاب» (2/ 535) ، «الاستبصار» (11) ، «الأعلام» (3/ 56) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 196) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 18، 2/ 65) ، «در السحابة» (770) ، «الرياض المستطابة» (87) ، «بقي بن مخلد» (48) . (3) ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/ 391) رقم (2253) ، وعزاه للطبراني في «الكبير» ، و «الأوسط» ، وضعفه. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 21) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» ، و «الكبير» ، وفي إسناده محمد بن عبد الرّحمن بن عزوان، وهو وضاع. [.....] (4) ذكره ابن عطية في « «تفسيره» » (3/ 413) . (5) أخرجه البخاري (1/ 64) كتاب «الإيمان» ، باب دعاؤكم إيمانكم حديث (8) ، ومسلم (1/ 45) كتاب «الإيمان» ، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، حديث (19/ 16) ، والترمذي (5/ 5) كتاب «الإيمان» ، باب ما جاء في «بني الإسلام على خمس» ، حديث (2609) ، والنسائي (8/ 107- 108) كتاب «الإيمان» ، باب على كم بني الإسلام، وأحمد (2/ 120، 143) ، والحميدي (2/ 308) رقم (703) ، وابن خزيمة (308، 309) ، وأبو يعلى (10/ 164) رقم (5788) ، وابن حبان (158) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 62) ، والبيهقي (4/ 81) كتاب «الزكاة» ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 64- بتحقيقنا) من طرق عن ابن عمر به. وقال الترمذي: هذ حديث حسن صحيح. -

دينَهُمْ «1» يفسِّر ذلك، ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهْلِ الكتابِ بَعْد علمهم بالحقائقِ، وأنه

_ - وللحديث شاهد من حديث جرير: أخرجه أحمد (4/ 363) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 251) ، والطبراني في «الكبير» (2/ 326) رقم (2363، 2364) من طرق عن الشعبي عن جرير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» . وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 50) : وإسناد أحمد صحيح. (1) أخرجه أحمد (3/ 330) ، والترمذي (1/ 281- 283) ، كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، الحديث (150) ، والنسائي (1/ 255) ، كتاب «الصلاة» ، باب آخر وقت العصر، والدارقطني (1/ 257) ، كتاب «الصلاة» ، باب إمامة جبرائيل، الحديث (3) ، والحاكم (1/ 195) ، كتاب «الصلاة» ، والبيهقي (1/ 368) ، كتاب «الصلاة» ، باب وقت المغرب، من حديث وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاءه جبريل (عليه السلام) فقال له: قم فصله، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب فقال: قم فصله، فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاءه العشاء فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاء الفجر فقال: قم فصله، فصلى الفجر حين برق الفجر، أو قال سطع الفجر، ثم جاءه من الغد للظهر فقال: فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال ثلث الليل، فصلى العشاء، ثم جاءه الفجر حين أسفر جدا، فقال: قم فصله، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. حديث جابر في المواقيت: قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر، وقال محمد- يعني البخاري-: أصح شيء في المواقيت، حديث جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح مشهور. ووافقه الذهبي، وقال الزيلعي (1/ 222) وقال ابن القطان: هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا لأن جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء لما علم أنه أنصاري، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم ذلك في حديث أبي هريرة، وابن عباس، فإنهما رويا إمامة جبريل من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وتعقبه ابن دقيق العيد كما في «نصب الراية» (1/ 223) فقال: وهذا المرسل غير ضار، فمن أبعد البعد أن يكون جابر سمعه من تابعي عن صحابي، وقد اشتهر أن مراسيل الصحابة مقبولة، وجهالة عينهم غير ضارة. قلت: وقد صرح جابر بأن هذا من كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما في «سنن الترمذي» . فقال: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمني جبريل» .. فذكر الحديث. وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس، وأبو هريرة، وأبو مسعود الأنصاري، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري وأنس. حديث ابن عباس: -

كان بَغْياً وطلباً للدنيا قاله ابن عُمَر وغيره «1» ، والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: لفظٌ يعُمُّ اليهودَ والنصارى، لكنَّ الرَّبِيعَ بنَ أنسٍ «2» قال: المرادُ بهذه الآية اليهود اختلفوا بعد موت

_ - أخرجه أبو داود (393) ، والترمذي (149) ، والحاكم (1/ 193) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 87) ، وابن الجارود (78) ، والدارقطني (1/ 258) ، والبيهقي (1/ 364) من طريق عبد الرّحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس بنحو حديث جابر. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان، وابن خزيمة فقد روياه في صحيحيهما كما في «نصب الراية» (1/ 221) . لكن قال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 221) : وعبد الرّحمن بن الحارث هذا تكلم فيه أحمد، وقال: متروك الحديث، هكذا حكاه ابن الجوزي في «كتاب الضعفاء» ، ولينه النسائي، وابن معين، وأبو حاتم الرازي، ووثقه ابن سعد، وابن حبان. قال في «الإمام» : ورواه أبو بكر بن خزيمة في «صحيحه» ، وقال ابن عبد البر في «التمهيد» : وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم. وقد أخرجه عبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي سبرة، عن عبد الرّحمن بن الحارث بإسناده، وأخرجه أيضا عن العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن عباس نحوه، قال الشيخ: وكأنه اكتفى بشهرة العلم مع عدم الحرج الثابت، وأكد هذه الرواية بمتابعة ابن أبي سبرة، عن عبد الرّحمن، ومتابعة العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، وهي متابعة حسنة. اهـ. حديث أبي هريرة: أخرجه النسائي (1/ 288) ، والدارقطني (1/ 258) ، والحاكم (1/ 194) ، والبيهقي (1/ 369) بلفظ: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم» ، فصلى الصبح حين طلع الفجر ... بنحو الحديث الأول. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. حديث أبي مسعود الأنصاري: أخرجه أبو داود (394) ، والدارقطني (1/ 257) ، والحاكم (1/ 194) ، والبيهقي (1/ 363) . وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. حديث عمرو بن حزم: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» ، كما في «نصب الراية» (1/ 225) ، وعنه إسحاق بن راهويه في مسنده. حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه أحمد (3/ 30) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 88) . حديث أنس: أخرجه الدارقطني (1/ 257) ، من طريق قتادة عنه. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 213) برقم (6764) وذكره ابن عطية (1/ 413) . (2) الرّبيع بن أنس الكندي، أو الحنفي، البصري، عن أنس، والحسن، وأرسل عن أم سلمة. وعنه سليمان-

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 25]

موسى، وبعد مُضِيِّ ثلاثة قرون «1» ، وقيل: الآيةُ توبيخٌ لنصارى نَجْرَانَ، وسُرْعَةُ الحسَاب: يحتمل أنْ يراد بها: مَجِيءُ القيامةِ والحِسَابِ إذ كل آت قريبٌ، ويحتمل أنْ يراد بسُرْعَةِ الحِسَابِ: أنَّ اللَّه تعالى بإِحاطته بكلِّ شَيْءٍ عِلْماً لا يحتاجُ إلى عَدٍّ ولا فكْرة قاله مجاهد «2» . وقوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ... الآية: الضميرُ في حَاجُّوكَ لليهودِ، ولنصارى نَجْرَانَ، والمعنى: إنْ جادَلُوك وتعنَّتوا بالأقاويلِ المزوَّرة والمغالطاتِ، فأسند إلى ما كُلِّفْتَ من الإِيمانِ، والتبليغِ، وعلى اللَّه نَصْرُكَ. وقوله: وَجْهِيَ: يحتمل أنْ يراد به المَقْصِدُ، أي: جعلتُ مقصدي للَّه، ويحتمل أنْ يراد به الذاتُ، أي: أَسْلَمْتُ شخْصي وَذاتِي للَّه، وأسلَمْتُ في هذا الموضعِ بمعنى: دَفَعْتُ، وأمضَيْتُ، وليستْ بمعنى دَخَلْتُ في السِّلْم/ لأنَّ تلك لا تتعدى، ومَنِ اتبعني: في موضع رفعٍ عطْفاً على الضميرِ في «أَسْلَمْتُ» ، والَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ، في هذا الموضعِ: يجمعُ اليهودَ والنصارى باتفاق، والأميُّونَ: الذين لا يكتبون، وهم العَرَبُ في هذه الآية، وقوله: أَأَسْلَمْتُمْ: تقرير في ضمنه الأمر، وقال الزّجّاج: أَأَسْلَمْتُمْ: تهدّد، وهو حسن، والْبَلاغُ: مَصْدَرُ بَلَغَ بتخفيف عَيْنِ الفعل. وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وعدٌ للمؤمنين، ووعيد للكافرين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ... الآية: هذه الآية نزلت في اليهود

_ - التّيمي، وسليمان الأعمش، وابن المبارك، قال أبو حاتم: صدوق، قيل: توفي سنة تسع وثلاثين ومائة، وقيل: سنة أربعين. ينظر: «الخلاصة» (1/ 318) . (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 213) برقم (6765) ، وذكره ابن عطية (1/ 413) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 22) وعزاه لابن جرير. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 214) برقم (6768) بنحوه.

والنصارى، وتعمُّ كلَّ من كان بهذه الحال، وفيها توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، روى أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ «1» ، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم «أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ قَتَلُوا ثَلاَثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا، فاجتمع مِنْ عُبَّادِهِمْ وأَحْبَارِهِمْ مِائَةٌ وعِشْرُونَ لِيُغَيِّرُوا المُنْكَرَ، وَيُنْكِرُوا، فَقُتِلُوا جَمِيعاً، كُلُّ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وذَلِكَ معنى قَوْلِهِ تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ «2» ، وحَبِطَتْ: معناه: بَطَلَتْ. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ ... الآية: قال ابن عبَّاس: نزَلَتْ هذه الآية بسبب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخَلَ بيْتَ المِدْرَاسِ على جماعةٍ من يَهُود، فدعاهمْ إِلى اللَّه تعالى، فقال له نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، والحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: على أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، فقالَ رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: أنا على ملّة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ لَهُمُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ، فَهِيَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَكُمْ، فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَنَزَلَتِ الآيةُ «3» . قال ع «4» : فالكتابُ في قوله: مِنَ الْكِتابِ: اسمُ جنس، والكتابُ في قوله: إِلى كِتابِ اللَّهِ هو التوراةُ، وقال قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ: هو القرآن «5» ، ورجَّح الطبريُّ الأولَ «6» . وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: الإشارة فيه إٍلى التولِّي والإِعراض، أي: إِنما تولَّوْا، وأعرضوا لاغترارهم بأقوالهم، وافترائهم، ثم قال تعالى خطابا لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم،

_ (1) هو: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر.. أبو عبيدة. القرشي. الفهري. أمين الأمة، المشهور ب «أبو عبيدة بن الجراح» . قال ابن الأثير: أحد العشرة المشهور لهم بالجنة، وشهد بدرا وأحدا. وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية. توفي في طاعون «عمواس» سنة (18) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 205) ، «الإصابة» (7/ 128) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 185) ، «بقي بن مخلد» (151) ، «الاستيعاب» (4/ 1710) ، «تقريب التهذيب» (2/ 448) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 159) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1623) ، «العقد الثمين» (8/ 69) ، «مقاتل الطالبين» (57) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 216) برقم (6777) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 23) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 217) برقم (6778) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 24) ، وزاد نسبته إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 416) . [.....] (5) ذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 312) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 416) . (6) ينظر الطبري (3/ 219) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 إلى 29]

وأمته، على جهة التوقيفِ والتعجيب: فكيف حالُ هؤلاءِ المغترِّين بالأباطيل، إِذا حشروا يوم القيامة، واضمحلت تلك الزخارفُ والدعاوى، وجوَّزوا بما اكتسبوه مِنْ كفرهم، وأعمالهم القبيحة، قال ابن عطيَّة: والصحيحُ في يوم القيامةِ أنَّه يَوْمٌ لأنَّ قبله ليلةٌ، وفيه شَمْسٌ «1» ، وقال النقَّاش: المراد باليوم الوقت. [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 29] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ... الآية: هو سبحانه وتعالى مالكُ الملكِ كلِّه مطلقاً في جميع أنواعه، وأشرفُ ملكٍ يؤتيه عباده سعادةُ الآخرة، رُوِيَ أنَّ الآية نزلَتْ بسبب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشَّر أُمَّتَه بفتح مُلْك فارس وغيره، فقالَتِ اليهودُ والمنافقُونَ: هَيْهَاتَ، وكذَّبوا بذلك. ومذهب البصريِّين أن الأصل في «اللَّهُمَّ» : يَا أَللَّهُ، فعوِّض من ياء النداءِ ميماً مشدَّدة. و «مالك» : نصْبٌ على النداء، وخص تعالى الخَيْر بالذكْر، وهو تعالى بيده كلُّ شيء إِذ الآية في معنى دعاء ورغبة، فكأنَّ المعنى: بِيَدِكَ الخَيْرُ فأجزِلْ حظِّي منه، قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتاب «التِّرْمذيِّ» وغيره، عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب (رضي اللَّه عنه) أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم/ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَحْده لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ» «2» ، ورواه الحاكمُ أبو عبد اللَّه في «المُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من طرق كثيرةٍ، وزاد فيه في بعْضِ طرقه: «وبنى لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» قال الحاكمُ: وفي الباب، عن جابر،

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 414) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 491) ، كتاب «الدعوات» ، باب ما يقول إذا دخل السوق، حديث (3428) ، (3429) ، وابن ماجة (2/ 752) ، كتاب «التجارات» ، باب الأسواق ودخولها، حديث (2235) ، والحاكم (1/ 539) من حديث عمر بن الخطاب.

وأبي هريرة، وبُرَيْدَة الأسلميِّ. اهـ من «الحلية» «1» . وقال ابن عبَّاس وغيره في معنى قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ... الآية: إنه ما ينتقصُ من النهار، فيزيد في الليل، وما ينتقصُ من الليلِ، فيزيدُ في النَّهار دَأَباً كلَّ فَصْلٍ من السنة «2» ، وتحتملُ ألفاظُ الآية أنْ يدخل فيها تعاقُبُ الليلِ والنهارِ كأن زوالَ أحدهما وُلُوجٌ في الآخر. واختلف في معنى قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... الآيةَ: فقال الحسَنُ: معناهُ: يُخْرِجُ المؤمِنَ من الكافر، والكافِرَ من المؤمن «3» ، وروي نحْوَه، عن سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ «4» ، وروى الزُّهْرِيُّ، أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، لمَّا سَمِعَ نَغْمَةَ «5» خَالِدَةَ بِنْتِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ» فأُخْبِرَ بِهَا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ» ، وكَانَتِ امرأة صَالِحَةً، وكَانَ أَبُوهَا كَافِراً «6» ، والمرادُ على هذا: موتُ قلبِ الكافرِ، وحياةُ قَلْب المؤمن.

_ (1) ينظر: «الأذكار» (ص 337- 338) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 222) برقم (6792) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 384) ونسبه للجمهور، وذكره ابن عطية (1/ 417) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 225) برقم (6814) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 291) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 27) ، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ عن الحسن. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 225) برقم (6815) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 27) ، وعزاه لابن مردويه. (5) ذكر هذا الحديث الطبري (6821) بلفظ «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النّعمة، فقال: من هذه؟ قالت إحدى خالاتك! قال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب! وأيّ خالاتي هذه؟ قالت: خالدة ابنة الأسود بن عبد يغوث. قال: سبحانه الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ! وكَانَتِ امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا. وقد علق عليه الشيخ أحمد شاكر قائلا: قوله: «حسنة النعمة» ، في المطبوعة: «النغمة» بالغين المعجمة، وهو خطأ، والنعمة (بفتح النون وسكون: العين) المسرة والفرح والترفه، وكأنه يعني ما يبين عليها من أثر الترف والنعمة. بيد أن الذي رواه ابن سعد، وما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة: «حسنة الهيئة» . هذا ما قاله العلامة أحمد شاكر، إلا أن الرواية الواردة في الأصول عندنا «لما سمع نغمة» تشعر بترجيح المعجمة أو لعل الحديث ذكر مع اختلاف في ألفاظه. (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 308- شاكر) ، وعبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 117- 118) عن الزهري مرسلا، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 27) ، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

وذهب جمهورٌ كثيرٌ إِلى أنَّ الحياة والمَوْتَ في الآية حقيقةٌ، لا أنها استعارةٌ، ثم اختلفوا في المُثُلِ التي فسَّروا بها. فقال ابن مسعود: هي النُّطْفة، تخْرُج من الرجُلِ، وهي ميتة، وهو حيٌّ، ويخرج الرجلُ منْها، وهي ميتة «1» . وقال عكرمة: هو إِخراج الدَّجَاجة، وهي حية، مِن البَيْضَة، وهي ميتة، وإِخراج البيضة، وهي ميتة من الدَّجَاجة، وهي حية «2» . وروى السُّدِّيُّ، عن أبي مالكٍ، قال: هي الحبَّة تَخْرُجُ من السنبلةِ، والسنبلةُ تخرجُ من الحبَّة، وكذلك النَّوَاة «3» . وقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ... الآية: هذا النهْيُ عن الاِتخاذِ، إِنما هو عن إِظهار اللُّطْفِ للكفَّار، والميلِ إِليهم، فأما أنْ يتخذوا بالقَلْب، فلا يفعل ذلك مؤمن، ولفظ الآية عامٌّ في جميع الأعصار. واختلف في سَبَب نزولها، فقال ابنُ عَبَّاس: في كَعْبِ بْنِ الأَشْرَف وغيره، قد بطنوا بنَفَرٍ من الأنصار، ليفتنُوهم عن دِينِهِمْ، فنزلَتْ في ذلك الآيةُ «4» ، وقال قومٌ: نزلَتْ في قصَّة حاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وكتابِه إلى أهْل مكَّة «5» ، والآيةُ عامَّة في جميع هذا. وقوله تعالى: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ: معناه: في شيءٍ مَرْضِيٍّ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا» «6» ، ثم أباح سبحانه إِظهار اتخاذهم بشرط الاِتقاءِ، فأما إِبطانه، فلا يصحُّ أن يتصف به مؤمنٌ في حالٍ. وقوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ ... إلى آخر الآية: وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة.

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 223) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 385) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 291) . (2) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (3/ 224) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 291) ، وابن عطية (1/ 418) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 27) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن عكرمة. (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 418) . (4) ذكره ابن عطية (1/ 419) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 28) . [.....] (5) ذكره ابن عطية (1/ 419) . (6) تقدم تخريجه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 30 إلى 32]

وقوله: نَفْسَهُ: نائبةٌ عن «إيَّاهُ» ، وهذه مخاطبةٌ على معهود ما يفهمه البشَرُ، والنَّفْسُ في مثْلِ هذا راجعٌ إِلى الذاتِ، وفي الكلامِ حذْفُ مضافٍ لأن التحذير إِنما هو من عقابٍ وتنكيلٍ ونحوه، قال ابنُ عَبَّاس، والحسن: / ويحذِّركم اللَّه عقابه «1» . وقوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ... الآية: الضميرُ في «تُخْفُوا» هو للمؤمنين الذين نُهُوا عن الكافرين، والمعنى: إِنكم إِن أبطنتم الحرْصَ على إِظهار موالاتهم، فإِن اللَّه يعلم ذلك، وَيَكْرَهُهُ منكم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 30 الى 32] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) وقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، قال ابنُ هِشَامٍ في «المُغْنِي» : «يَوْم» : نصْبٌ بمحذوفٍ، تقديره: اذكُروا أو احذروا، ولا يصحُّ أنْ يكون ظرفًا ل «يحذِّركم» كما زعم بعضُهم لأن التحذير في الدنيا وَقعَ لا في الآخرة. اهـ. وقوله تعالى: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، يحتمل أنْ تكون «مَا» معطوفةً على «مَا» الأولى، فهي في موضعِ نَصْب، ويكون «تَوَدُّ» في موضعِ الحالِ، وإِليه ذهب الطبريُّ «2» وغيره، ويحتملُ أنْ تكون «مَا» رُفِعَ بالاِبتدَاء، والخبر في قوله: «تَوَدُّ» . وما بعده، والأَمَدُ: الغايةُ المحْدُودة من المكانِ أو الزَّمَان. وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يحتمل أنْ يكون إشارةً إِلى أنَّ تحذيره رأْفَةٌ منه سبحانه بعباده، ويحتملُ أنْ يكونَ ابتداء إِعلام بهذه الصفَةِ، فمقتضى ذلك: التأنيسُ لئلا يفرطَ الوعيدُ على نَفْس مؤمن، فسبحانه ما أرحمه بعباده!. وعن مَنْصُورِ بْنِ عَمَّار «3» أنه قال: أعقلُ النّاس محسن خائف، وأجهل النّاس مسيء

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 420) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 230) . (3) منصور بن عمّار بن كثير الواعظ، البليغ الصّالح، الرّبّاني، أبو السّريّ السّلمي، الخراساني، وقيل: البصري، كان عديم النظير في الموعظة والتّذكير، روى عن اللّيث، وابن لهيعة، ومعروف الخيّاط، وهقل بن زياد، والمنكدر بن محمد، وبشير بن طلحة وجماعة، ولم يكن بالمتضلّع من الحديث. قال أبو حاتم: صاحب مواعظ، ليس بالقوي. وقال ابن عدي: حديثه منكر. وقال الدّارقطني: يروي عن ضعفاء أحاديث لا يتابع عليها. -

آمنٌ، فلما سمع عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَان «1» منْه هذا الكلامَ بكى حتى بَلَّ ثيابه، ثم قال له: اتل عَلَيَّ، يا مَنْصُورُ، شَيْئاً منْ كتابِ اللَّهِ، فتلا عليه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ... الآيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ: قَتَلْتَنِي، يَا مَنْصُورُ، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ. اهـ. وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ... الآية: قال الشيخُ العارفُ باللَّه ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه) : مِنْ علامةِ السعادةِ للشخْصِ: أنْ يكون مُعْتَنِياً بمعرفة السُّنَّة في جميعِ تصرُّفاته، والذي يكونُ كذلك هو دائمٌ في عبادة في كلِّ حركاته وسكناته، وهذا هو طريق أهل الفَضْلِ حتى حُكِيَ عن بعضهم أنه لم يأكُلِ البطِّيخَ سنين لَمَّا لَمْ يبلُغْه كيفيَّةُ السُّنَّة في أَكْله، وكيف لاَ، واللَّه سبحانه يَقُولُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ والاِتباعية الكاملةُ إِنما تصحُّ بأنْ تكون عامَّة في كلِّ الأشياء، يعني: إِلا ما خصَّصه به الدليلُ، جعلنا اللَّه من أهْلها في الدَّارَيْن. انتهى. قال ع «2» : قال الحَسَنُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ، وابنُ جريج: إنّ قوما على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا، فنزلَتْ هذه الآية، وقيل: أمر صلّى الله عليه وسلّم أنْ يقولَ هذا القولَ لنصارى نَجْرَان. قال ع «3» : ويحتملُ أنْ تكون الآيةُ عامَّة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدَّعُون أنَّهم يحبُّون اللَّه، ويحبهم. قال عِيَاضٌ: اعلم أَنَّ مَنْ أَحبَّ شيئاً، آثره، وآثر موافقته، وإِلا لم يكن صادقاً في حُبِّه، وكان مدَّعياً، فالصادق في حبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مَنْ تظهر علاماتُ ذلك عليه، وأولُها الاِقتداءُ به، واتباع سنَّته، واتباع أقوالِهِ وأفعالِهِ، والتأدُّبُ بآدابه في عُسره ويُسْره قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ... الآية، قال عياض: روي في الحديث، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «مَنِ استمسك بِحَدِيثِي، وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ، جاء مع القرآن، ومن

_ - ينظر: «التاريخ الكبير» (7/ 350) ، و «طبقات الصوفية» (130، 136) ، و «السير» (9/ 93- 94) ، و «النجوم الزاهرة» (2/ 244) . (1) عبد الملك بن مروان بن الحكم، الأموي، القرشي، أبو الوليد: من أعاظم الخلفاء ودهاتهم، نشأ في «المدينة» فقيها واسع العلم، متعبدا، ناسكا، وشهد يوم الدار مع أبيه، نقش خاتمه «آمنت بالله مخلصا» توفي ب «دمشق» سنة 86 هـ. انظر: «ابن الأثير» (4/ 198) ، و «الطبري» (8/ 56) ، و «الأعلام» (4/ 165) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 421- 422) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 422) .

تَهَاوَنَ بالقُرْآنِ، وَحَدِيثِيَ، / خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ... » الحديثَ «1» ، وعن أبي هريرةَ (رضي اللَّه عنه) ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «المُسْتَمْسِكُ بسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي، لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ» «2» ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: «عليكُمْ بالسبيلِ والسُّنَّةِ، فإِنه ما على الأرضِ من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله في نَفْسِهِ، ففاضَتْ عيناه مِنْ خَشْية ربه، فيعذِّبه اللَّه أبداً، وما على الأرضِ مِنْ عبد على السبيل والسنة، ذكر الله في نَفْسه، فاقشعر جِلْدُهُ مِنْ خَشْية اللَّه، إلا كان مَثَلُهُ كَمَثَلِ شجرة، قَدْ يَبِسَ ورَقُهَا، فهي كَذَلِكَ إِذ أصابتها ريحٌ شديدةٌ فتحاتَّ عنها ورقُها إِلاَّ حَطَّ اللَّه عنه خَطَايَاهُ كما تَحَاتَّ عن الشجرة وَرَقُهَا ... » الحديث. قال عياض: ومن علامات محبّته صلّى الله عليه وسلّم: زُهْدُ مدَّعيها في الدُّنْيا، وإِيثاره الفَقْر، واتصافه فيه ففي حديثِ أبي سَعِيدٍ: «إِنَّ الفَقْرَ إلى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ مِنْ أَعْلَى الوَادِي، أَوِ الجَبَل إلى أَسْفَلِهِ» «3» ، وفي حديثِ عبدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ «4» : «قال رجُلٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إٍنِّي أُحِبُّكَ، فَقَالَ: انظر مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لأُحِبُّكَ» ثَلاَثَ مَرَّات قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي، فَأَعِدَّ لِلفَقْرِ تَجْفَافاً» ، ثم ذكر نَحْوَ حديثِ أبِي سَعِيدٍ بمعناه «5» اهـ من «الشّفا» .

_ (1) ينظر: «تفسير القرطبي» (18/ 17) . (2) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/ 739) من طريق الحسن بن قتيبة عن عبد الخالق بن المنذر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا. وذكره الذهبي في «الميزان» (1/ 519) في ترجمة الحسن، وقال: هالك. قال الدارقطني: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف. (3) أخرجه أحمد (3/ 42) من حديث أبي سعيد الخدري. (4) هو: عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني. قال البخاري: له صحبة، سكن «البصرة» ، وهو أحد البكائين في غزوة «تبوك» ، وشهد بيعة الشجرة، ثبت ذلك في الصحيح، وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس ب «البصرة» . وهو أول من دخل مدينة «تستر» قال ابن الأثير: روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. وروى عنه: الحسن البصري، وأبو العالية، ومطرف، ويزيد بن عبد الله بن الشخير، وعقبة بن صهبان.. وغيرهم. توفي ب «البصرة» سنة (59 هـ) ، وقيل: سنة (60 هـ) . تنظر ترجمته في: «الثقات» (3/ 236) ، «أسد الغابة» (3/ 398) ، «الاستبصار» (225) ، «الجرح والتعديل» (5/ 149) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 23) ، «الإصابة» (4/ 132) ، «تقريب التهذيب» (1/ 453) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 42) ، «بقي بن مخلد» (75) ، «التاريخ الصغير» (1/ 128) ، «التعديل والتجريح» (776) ، «الخلاصة» (2/ 103) ، «الاستيعاب» (3، 4/ 996) . (5) أخرجه الترمذي (4/ 576- 577) كتاب «الزهد» ، باب ما جاء في فضل الفقر، حديث (2350) من طريق أبي الوازع عن عبد الله بن مغفل به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأبو الوازع الراسبي اسمه جابر بن عمرو، وهو بصري. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 إلى 35]

قال ع «1» : والمحبَّةُ: إِرادةٌ يقترنُ بها إِقبالٌ من النَّفْس ومَيْلٌ بالمعتَقِدِ، وقد تكونُ الإِرادة المجرَّدة فيما يكره المريدُ، واللَّه تعالى يريدُ وقوع الكُفْر، ولا يحبُّه، ومحبَّة العَبْد للَّه تعالى يلزمُ عَنْها، ولا بدَّ أنْ يطيعه، ومحبَّةُ اللَّه تعالى أمارتُها للمتأمِّلِ أنْ يُرَى العَبْدُ مَهْدِيًّا مسدِّداً ذا قبولٍ في الأرض، فَلُطْفُ اللَّهِ تعالى بالعَبْدِ ورحمته إِيَّاه هي ثمرةُ محبَّته، وبهذا النظَر يفسَّر لفظُ المَحَبَّةِ حيثُ وقعَتْ من كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 35] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ... الآية: لما مضى صدْرٌ مِنْ مُحَاجَّةِ نصارى نَجْرَانَ، والردُّ عليهم وبيانُ فسادِ ما هُمْ عليه، جاءَتْ هذه الآياتُ مُعْلِمَةً بصورةِ الأمر الذي قد ضَلُّوا فيه، ومُنْبِئَةً عن حقيقته، كيف كانَتْ، فبدأ تعالى بذكْرِ فضْل آدم ومَنْ ذُكِرَ بعده، ثم خَصَّ امرأة عِمْرَانَ بالذكْرِ لأنَّ القصْدَ وصْفُ قصَّة القَوْم إِلى أنْ يبيِّن أمر عيسى (عليه السلام) ، وكيف كان، وانصرف «نُوحٌ» ، مع عُجْمَتِهِ وتعريفِهِ لخفَّة الاِسم كَهُودٍ وَلُوطٍ، قال الفَخْرُ «2» هنا: اعلم أنَّ المخلوقاتِ على قسمَيْنِ: مكلَّفٍ، وغيْرِ مكلَّفٍ، واتفقوا على أنَّ المكلَّف أفْضَلُ من غير المكلَّفِ، واتفقوا على أنَّ أصنافَ المكلَّفين أربعةٌ: الملائكةُ، والإِنْسُ، والْجِنُّ، والشَّيَاطِين. ت: تأمَّلْه جَعَلَ الشياطين قسيماً للجِنِّ. اهـ. والآلُ في اللغة: الأَهْلُ، والقَرَابَة، ويقال للأَتْبَاعِ، وأهل الطَّاعة: آل، والآلُ في الآيةِ: يحتملُ الوجهَيْنِ، فَإِنْ أُريدَ بالآلِ: القَرَابَةُ، فالتقديرُ أنَّ اللَّهَ اصطفى هؤلاءِ على عَالِمِي زمانِهِمْ، أو على العَالَمِينَ جميعاً بأن يقدّر نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم من آل إِبراهيم، وإِن أُرِيدَ بالآلِ: الأَتْبَاعُ، فيستقيم دخول أمّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم في الآلِ لأنها على ملَّةِ إِبراهيم. وقوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، أي: متشابهينَ في الدِّين، والحالِ، وعِمْرَانُ/ هو رجلٌ من بني إِسرائيل، وامرأة عِمْرَانَ اسمها حَنَّةُ، ومعنى: نَذَرْتُ: جعلْتُ لكَ ما في بطْنِي محرَّراً، أي: حَبِيساً على خدْمةِ بَيْتِكَ، محرَّراً من كلِّ خدمةً وشُغْلٍ من أشغال الدنيا، والبَيْتُ الذي نَذَرَتْهُ له هو بَيْتُ المَقْدِسِ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي، أي: ارض عنّي

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 422) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 18) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 36 إلى 38]

في ذلِكَ، واجعله فعلاً مقبولاً مُجَازًى به، والسَّمِيعُ: إشارة إلى دعائها، والْعَلِيمُ: إشارة إلى نيّتها. [سورة آل عمران (3) : الآيات 36 الى 38] فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) وقوله تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ: الوضْعُ: الولادةُ، وقولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى: لفظ خبر في ضِمْنِهِ التحسُّر والتلهُّف، وبيَّن اللَّه ذلك بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، وقولها: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، تريد في امتناع نَذْرها إِذ الأنثى تحيضُ ولا تصلُحُ لِصُحْبَة الرُّهْبَان، قاله قتادة وغيره» ، وبدأَتْ بذكْرِ الأَهَمِّ في نفْسها، وإِلاَّ فسياق قصَّتها يقتضي أنْ تقول: وليس الأنثى كالذَّكَر، وفي قولها: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ: سنةُ تسميةِ الأطفالِ قُرْبَ الولادةِ ونحوُهُ قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ، فَسَمَّيْتُهُ باسم أَبِي إِبْرَاهِيمَ» «2» ، وباقي الآيةِ إعاذةٌ، قال النووي «3» : ورُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ بإسناد جيِّدٍ، عن أبي الدرداء «4» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 237) برقم (6874) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 387) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 425) . (2) أخرجه مسلم (4/ 1807) ، كتاب «الفضائل» ، باب رحمته بالصبيان والعيال، حديث (62/ 2315) ، وأبو داود (2/ 210) ، كتاب «الجنائز» ، باب في البكاء على الميت، حديث (3126) ، وأحمد (3/ 194) ، وابن حبان (2902) ، والبيهقي (4/ 69) كلهم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس به. (3) ينظر: «حلية الأبرار» (ص 321) . (4) هو: عويمر بن عامر بن مالك بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج.. وقيل: اسمه: عامر بن مالك، و «عويمر» لقب. أبو الدرداء. قال ابن الأثير في «الأسد» : تأخر إسلامه قليلا، كان آخر أهل داره إسلاما، وحسن إسلامه، وكان فقيها عاقلا حكيما. آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين سلمان الفارسي، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وعويمر حكيم أمتي» شهد ما بعد «أحد» من المشاهد. قلت: وهو صحابي مشهور بالزهد والورع والحكمة، ولا يتسع المقام للحديث عنه. وفاته قبل مقتل عثمان بسنتين. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (6/ 97) ، «الإصابة» (7/ 58) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 163) ، «الاستيعاب» (4/ 1646) ، «بقي بن مخلد» (21) ، «تقريب التهذيب» (2/ 419) ، «تهذيب التهذيب» -

قَالَ: «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فأحْسِنُوا أسْمَاءَكُمْ» «1» . وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن ابن عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللَّهِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ» «2» وفي سنن أبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيّ، وغيرِهِمَا، عن أبِي وهب الجشميّ، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تعالى عبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ ومُرَّة» «3» . اهـ. وفي الحديثِ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مِنْ روايةِ أبي هُرَيْرة، قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مريم ابنة عمران، وابنها فإنّ أمّها

_ - (12/ 79، 89) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1603) ، «الجرح والتعديل» (9/ 368) ، «التاريخ» لابن معين (2/ 146) ، «الكنى والأسماء» (1/ 27) ، «تنقيح المقال» (3/ 16) ، «المصباح المضيء» (1/ 151) . (1) أخرجه أبو داود (2/ 705) ، كتاب «الأدب» ، باب في تغيير الأسماء، حديث (4948) ، وأحمد (5/ 194) ، والدارمي (2/ 294) ، كتاب «الاستئذان» ، باب في حسن الأسماء، وابن حبان (5818) ، والبيهقي (9/ 306) ، كتاب «الضحايا» ، باب ما يستحب أن يسمى به. وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 152) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 382- بتحقيقنا) كلهم من طريق عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي عن أبي الدرداء مرفوعا. وقال البيهقي: هذا مرسل ابن أبي زكريا لم يسمع من أبي الدرداء. قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص 113) رقم (410) : سمعت أبي يقول: عبد الله بن أبي زكريا لم يسمع أبا الدرداء. اهـ. وأشار إلى هذا الانقطاع أيضا الحافظ المنذري في «الترغيب» (2/ 697) . (2) أخرجه مسلم (3/ 1682) ، كتاب «الأدب» ، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، حديث (2/ 2132) ، وأبو داود (2/ 705) ، كتاب «الأدب» باب في تغيير الأسماء، حديث (4949) ، والترمذي (5/ 132) كتاب «الأدب» ، باب ما جاء ما يستحب من الأسماء، حديث (2833) ، وابن ماجة (2/ 1229) ، كتاب «الأدب» ، باب ما يستحب من الأسماء، حديث (3728) ، والبيهقي (9/ 306) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 386، 387- بتحقيقنا) من حديث ابن عمر مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وللحديث شاهد من حديث أنس: أخرجه أبو يعلى (5/ 164) رقم (2778) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرّحمن، والحارث» . وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 52) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف اهـ. وذكره أيضا الحافظ في «المطالب العالية» (2802) ، وعزاه لأبي يعلى، وقال: له شاهد من حديث ابن عمر في صحيح مسلم. (3) أخرجه أبو داود (4/ 287- 288) ، كتاب «الأدب» ، باب تغيير الأسماء، حديث (4950) ، والنسائي (6/ 218) ، كتاب «الخيل» ، باب ما يستحب من شية الخيل، من حديث أبي وهب الجشمي.

قَالَتْ حِينَ وَضَعْتَها: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ، فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الحَجابِ» «1» ، وَقَدِ اختلفت ألفاظُ هذا الحديثِ، والمعنى واحد كما ذكرته، قال النوويُّ: بَاب مَا يُقَالُ عنْد الولادةِ «2» : رُوِّينَا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ، عن فاطمة «3» (رضي اللَّه عنها) «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لمَّا دَنَا ولاَدَهَا، أَمَر أُمَّ سَلْمَة، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أنْ تَأْتِيَاهَا، فَتَقْرَآ عِنْدَهَا آيَةَ الكرسيّ، وإِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ ... إلى آخر الآية،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 336- شاكر) رقم (6884) ، (6885) ، (6886) ، والحاكم (2/ 594) كلاهما من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وهذه الرواية ذكرها السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 34) وزاد نسبتها إلى عبد بن حميد. وأخرجه البخاري (8/ 60) كتاب «التفسير» ، باب وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، حديث (4548) و (6/ 541) كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ، حديث (3431) ، ومسلم (4/ 1838) كتاب «الفضائل» ، باب فضائل عيسى عليه السلام، حديث (146/ 2366) ، وأحمد (2/ 233، 274- 275) ، والطبري في «تفسيره» (6/ 339- شاكر) رقم (6891) ، وابن حبان (6235- الإحسان) ، والواحدي في «الوسيط» (1/ 431- بتحقيقنا) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (1/ 295) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به. وأخرجه الطبري (6/ 343- شاكر) رقم (6899) ، وأبو يعلى (10/ 376) رقم (5971) من طريقين عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (6/ 388- 389) كتاب «بدء الخلق» ، باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3286) ، والحميدي (2/ 450) رقم (1042) ، كلاهما من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وأخرجه مسلم (4/ 1838) ، كتاب «الفضائل» ، باب فضائل عيسى عليه السلام، حديث (147/ 2366) ، والطبري في «تفسيره» (6/ 338- شاكر) كلاهما من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا يونس سليمان مولى أبي هريرة حدثه عن أبي هريرة به. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 34) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «حلية الأبرار» (ص 318) . (3) هي: فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الزهراء، سيدة نساء العالمين ما عدا مريم بنت عمران. أمها: خديجة بنت خويلد بن وهب.. كنيتها: أم أبيها. هي أول من غطي نعشها في الإسلام، ثم بعدها زينب بنت جحش، كانت أحب الناس إلى رسول الله، وأول آل بيته لحوقا به بعد موته، وقد كتبت في سيرتها المؤلفات الكثيرة، ولا يتسع المقام لذكر شيء منها. توفيت لثلاث خلون من رمضان سنة (11) هـ وكان عمرها (29) سنة. تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 220) ، «الإصابة» (8/ 157) ، «الثقات» (3/ 334) ، «بقي بن مخلد» (137) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 294) ، «تقريب التهذيب» (2/ 609) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 440) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1691) ، «أعلام النساء» (4/ 108) ، «السمط الثمين» (171) ، «الدر المنثور» (359) ، «الاستيعاب» (4/ 1893) ، «حلية الأولياء» (2/ 29) .

وتُعَوِّذَانِهَا بِالمُعَوِّذَتَيْنِ» «1» . انتهى. وقوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ: إخبار منه سبحانه لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد كما نذَرَتْ أُمُّهَا وسنى لها الأمَلَ في ذلك. وقوله سبحانه: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ/. ص: بِقَبُولٍ مصدر على غير الصَّدْرِ، والجاري على: تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً، وعلى قبل قبولا، ونَباتاً: مصدرٌ منصوبٌ ب «أَنْبَتَهَا» على غير الصَّدْر. انتهى. وقوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا معناه: ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ، والكَافِلُ: هو المربِّي، قال السُّدِّيُّ وغيره: إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها «2» ويعضد هذا القول قوله صلّى الله عليه وسلّم في يحيى وعيسى: «ابنا الخَالَةِ» ، والذي عليه النَّاس: أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ «3» لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر. وقوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً: المِحْرَابُ: المَبْنَى الحَسَنُ، ومِحْرَابُ القَصْر: أشرف ما فيه ولذلك قيل لأَشْرَفِ مَا في المصلى وهو موقِفُ الإِمامِ: مِحْرَاب، ومعنى رِزْقاً، أيْ: طعاما يتغذّى به، لم يَعْهَدْهُ، ولا عَرفَ كيف جُلِبَ إليها، قال مجاهد وغيره: كان يجدُ عندها فاكهةَ الشِّتاءِ في الصَّيْفِ، وفاكهةَ الصَّيْفِ في الشتاءِ «4» ، ونحوه عن ابن عَبَّاس إِلاَّ أنه قال: ثِمَار الجَنَّة «5» ، وقوله: أَنَّى: معناه: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وقولها: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ دليلٌ على أنه ليس مِنْ جَلْب بَشَرٍ، قال الزَّجَّاج. وهذا من الآية الَّتي قال اللَّه تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 91] وقولها: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ: تقرير لكون ذلك الرزْقِ من عند اللَّه، وذهب الطَّبَرِيُّ إِلى أنَّ ذلك ليس من قولِ مرْيَمَ، وأنَّه خبر من الله تعالى لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، والله

_ (1) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (625) ، وقال الألباني في تعليقه على «الكلم الطيب» (ص 110) : موضوع. [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 242) برقم (6899) ، وذكره السيوطي في «تفسيره» ، وعزاه لابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة. (3) استهم الرجلان: تقارعا، والاستهام: المغالبة بالقرعة. ينظر: «لسان العرب» (2135) (سهم) بتصرف. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 244) برقم (6922) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 388) ، وابن عطية (1/ 426) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 36) ، وعزاه لابن جرير. (5) ذكره ابن عطية (1/ 426) .

سبحانه لا تنتقصُ خزائنه، فليس يَحْسُبُ ما خرج منها، وقد يُعَبَّر بهذه العبارة عن المُكْثِرِينَ مِنَ النَّاسِ أنهم ينفقون بغَيْرِ حِسَابٍ، وذلك مجازٌ وتشبيهٌ، والحقيقةُ هي فيما ينتفقُ من خزائنِ اللَّه سبحانه، قال الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه) : وقد قال العلماءُ في معنى قوله عزَّ وجلَّ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ: إِنه الفتوحُ، إِذا كان على وجهه. اهـ، ذكر هذا عند شرحه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ دُعِيْتُ إلى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ، لأَجَبْتُ» . «1» وقوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ... الآية: هُنَالِكَ في كلامِ العربِ: إِشارةٌ إِلى مكانٍ أو زمانٍ فيه بُعْدٌ، ومعنى هذه الآية: إِنَّ في الوقْتِ الذي رأى زكريَّاء رزْقَ اللَّهِ لمَرْيَمَ ومكانَتَها مِنَ اللَّه، وفَكَّر في أنَّها جاءَتْ أُمَّها بَعْدَ أَنْ أَسَنَّتْ، وأن اللَّه تعالى تقَبَّلها، وجعَلَها من الصالحاتِ، تحرَّك أملُهُ لطَلَبِ الولدِ، وقَوِيَ رجاؤه، وذلك منْه على حالِ سِنٍّ وَوَهْنِ عَظْمٍ، واشتعال شَيْب، فدعا ربَّه أنْ يَهَبَ له ذريَّةً طيِّبَةً يرثه، والذُّرِّيَّةُ: اسم جنسٍ، يقع على واحد فصاعدًا كما أن الوَلَدَ: اسمُ جنسٍ كذلك، وطَيِّبة: معناه: سَلِيمَة في الخَلْق والدِّين، تَقِيَّة، ثم قال تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [آل عمران: 39] ، وترك محذوف كثير

_ (1) أخرجه البخاري (9/ 154) ، كتاب «النكاح» ، باب من أجاب إلى كراع، حديث (5178) والبيهقي (6/ 169) ، كتاب «الهبات» ، باب التحريض على الهبة وابن حبان (7/ 349) رقم (5267) والخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 14) والبغوي في «شرح السنة» (3/ 382- بتحقيقنا) من حديث أبي هريرة مرفوعا وفي الباب عن أنس وابن عباس. حديث أنس: أخرجه الترمذي (3/ 623) : كتاب «الأحكام» ، باب ما جاء في قبول الهدية وإجابة الدعوة، حديث (1338) وفي الشمائل رقم (338) ، وأحمد (3/ 209) ، وابن حبان (1065- موارد) وأبو الشيخ في «أخلاق النبيّ» (ص 234) ، والبيهقي (6/ 169) كتاب «الهبات» ، باب التحريض على الهبة والبغوي في «شرح السنة» (7/ 36) كلهم من طريق قتادة عن أنس مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان. وللحديث طريق آخر عن أنس بلفظ: يا معشر الأنصار تهادوا فإن الهدية تحل السخيمة وتورث المودة، فو الله لو أهدي إلى كراع لقبلت ولو دعيت إلى ذراع لأجبت» قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 149) ، رواه الطبراني في «الأوسط» والبزار بنحوه وفيه عائذ بن شريح وهو ضعيف. حديث ابن عباس: أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 120) رقم (11236) من طريق عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعا: «لو دعيت إلى كراع لأجبت» . وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 56) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن سعد وابن حبان وقال يخطىء وضعفه جماعة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 39 إلى 41]

دَلَّ علَيْه ما ذُكِرَ، تقديره: فَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وبَعَثَ المَلَكَ، أو الملائكة، فنادتْهُ، وذكر جمهورُ المفسِّرين أنَّ المنادِي إِنما هو جبريلُ، وقال قومٌ: بل نادته ملائكةٌ كثيرةٌ حسْبما تقتضيه ألفاظ الآيةِ، قلت: وهذا هو الظاهرُ، ولا يعدل عنه إِلا أن يصحَّ في ذلك حديث عنه صلّى الله عليه وسلّم، فيتّبع. [سورة آل عمران (3) : الآيات 39 الى 41] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وقوله تعالى: فَنادَتْهُ عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع/ به، وينهى إِلى نفس السامعِ ليسرَّ به، فلم يكُنْ هذا من الملائكةِ إِخباراً على عرف الوحْيِ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ. وقوله تعالى: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ، يعني: ب «المِحْرَابِ» في هذا الموضعِ: موقفَ الإِمامِ من المسجدِ، ويَحْيَى: اسم سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ، ومُصَدِّقاً نصْبٌ على الحال، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمةُ هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. قال ع «1» : وسَمَّى اللَّه تعالى عيسى كلمةً، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالى، وهي «كُنْ» ، لا بسبب إِنسان. وقوله تعالى: وَسَيِّداً: قال قتادة: أيْ: واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ والوَرَعِ «2» . قال ع «3» : مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ والتقى ونحوه، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ، وقد تحصَّل العلْم ليحيى- عليه السلام- بقوله: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وتحصَّل التقى بباقِي الآية، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاعتمال في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ، وتفصيلُهُ أن يقالَ: بذل الندى، وهذا هو الكَرَمُ، وكَفُّ الأذى، وهنا

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 429) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 253) برقم (6961) وذكره ابن عطية (1/ 429) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 429) .

هي العفةُ بالفَرْج، واليَدِ، وَاللِّسان، واحتمال العظائم، وهنا هو الحِلْمُ وغيرُهُ مِنْ تحمُّلِ الغراماتِ والإِنقاذِ من الهَلَكَاتِ، وجَبْرِ الكَسِيرِ، والإفضالِ على المسترفد، وانظر قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلاَ فَخْرَ» «1» ، وذكر حديثَ الشفاعةِ في إِطلاق الموقِفِ، وذلك منه اعتمال في رِضَا ولد آدم، ثم: قال ع «2» : أما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى- عليه السلام-. وقوله تعالى: وَحَصُوراً أصل هذه اللفظة: الحَبْسُ والمَنْعُ، ومنه: حصر العدو. قال ع «3» : وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين على أنَّ هذه الصفة ليحيى- عليه السلام- إِنما هي الاِمتناعُ من وطْءِ النِّسَاءِ إِلاَّ ما حكى مكِّيٌّ من قول من قَالَ: إِنه الحُصُور عن الذنوب، وذهب بَعْضُ العلماءِ إلى أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ، قالوا: وهذه أمْدَحُ له، قال الإِمام الفَخْر «4» : وهذا القولُ هو اختيار المحقِّقين أنه لا يأتِي النِّساء، لا للعَجْز، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد. قلْتُ: قال عِيَاضٌ: اعلم أنَّ ثناء اللَّه تعالى على يحيى- عليه السلام- بأنه حَصُورٌ، ليس كما قال بعضْهم: إِنه كان هَيُوباً «5» أو لا ذَكَرَ لَهُ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين، ونُقَّادُ العلماء، وقالوا: هذه نقيصةٌ وعَيْب، ولا تليقُ بالأنبياء- عليهم السلام-، وإِنما معناه: معصومٌ من الذُّنُوب، أي: لا يأتيها كأنه حُصِرَ عنها «6» ، وقيل: مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل: ليستْ له شهوةٌ في النساءِ كفَايَةً من اللَّه له لكونها مشغلة في كثير من

_ (1) نقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 430) . (3) ينظر: المصدر السابق. (4) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 33) . (5) الهيوب: الجبان الذي يهاب الناس، والمقصود هنا أنه كان يهاب من إتيان النساء، وهذا لا يليق بأنبياء الله سبحانه، كما علق القاضي عياض. ويقال أيضا: الهيوب: المحجم عن الشيء، وهذا أيضا مما لا يليق وصفه الأنبياء به. ينظر «لسان العرب» (هيب) (حصر) . (6) حصر عنها: منع. [.....]

الأوقات، حاطَّة إِلى الدنيا، ثم هي في حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْها، وقام بالواجب فيها، ولم تَشْغَلْهُ عن ربِّهِ- درجةٌ عُلْيَا، وهي درجة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أيْ: وسائرِ النبيِّين. اهـ من «الشِّفَا» «1» . وباقي الآية بيِّن. ورُوِيَ مِنْ صلاحه/- عليه السلام- أنَّهُ كان يعيشُ من العُشْب، وأنه كان كثير البُكَاء من خَشْية اللَّه حتى اتخذ الدمع في وجهه أخدودا. ص: ومِنَ الصَّالِحِينَ، أي: من أصلاب الأنبياء، أو صالحاً من الصَّالحين، فيكون صفةً لموصوفٍ محذوفٍ. اهـ. قلت: والثاني أحْسَنُ، والأولُ تحصيلُ الحاصلِ، فتأمَّله. وقوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ... الآية: ذهب الطَّبَرِيُّ «2» وغيره إِلي أنَّ زكريَّا لَمَّا رأى حال نَفْسه، وحال امرأته، وأنها ليستْ بحالِ نسلٍ، سأل عن الوَجْه الذي به يكونُ الغلامُ، أتبدلُ المرأةُ خِلْقَتَهَا أمْ كيْفَ يكُون؟ قال ع «3» : وهذا تأويلٌ حسن لائقٌ بزكريَّا- عليه السلام-. وأَنَّى: معناها: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وحسن في الآية بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ من حيثُ هي عبارةُ وَاهِنٍ منفعلٍ. وقوله: كَذلِكَ، أي: كهذه القُدْرةِ المستغْرَبَةِ قُدْرَةُ اللَّهِ، ويحتمل أن تكون الإِشارة بذلك إلى حال زكريَّا، وحالِ امرأتِهِ كأنه قال: رَبِّ، على أيِّ وجه يكونُ لنا غلامٌ، ونحن بحالِ كذا، فقال له: كما أَنْتُمَا يكونُ لكُمَا الغلامُ، والكلامُ تامٌّ على هذا التأويل في قوله: كَذلِكَ. وقوله: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ: جملةٌ مبيّنة مقرِّرة في النفْسِ وقوعَ هذا الأمْر المستغْرَبِ. وقوله: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، أي: علامة، قالَتْ فرقة من المفسِّرين لم يكن

_ (1) ينظر: «الشفا» (116) . (2) ينظر «تفسير الطبري» (3/ 256- 257) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 431) .

هذا من زكريَّا على جهة الشكِّ، وإِنما سأل علامةً على وَقْت الحَمْلِ. وقوله تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ... الآية: قال الطبريُّ وغيره: لم يكُنْ منعه الكلامَ لآفة، ولكنه مُنِعَ محاورةَ النَّاس، وكان يَقْدِرُ على ذكر اللَّه، ثم استثنى الرَّمْز، وهو استثناءٌ مُنْقَطِعٌ، والكلام المرادُ في الآية: إِنما هو النطْقُ باللِّسَان، لا الإِعلام بما في النَّفْس، والرَّمْزُ في اللغة: حركةٌ تُعْلِمُ بما في نَفْسِ الرَّامِزِ كانت الحركةُ من عَيْنٍ، أو حاجبٍ، أو شَفَةٍ، أو يدٍ، أو عُودٍ، أو غيرِ ذلك، وقد قيل للكَلاَمِ المحرَّف عن ظاهره: رُمُوز. وأَمَرَهُ تعالى بالذِّكْر لربه كثيراً لأنه لم يَحُلْ بينه وبين ذكْر اللَّه، وهذا قاضٍ بأنه لم تدركْهُ آفَةٌ ولا علَّة في لسانِهِ، قال محمَّد بن كَعْبٍ القُرَظِيّ: لو كان اللَّه رخَّصَ لأحدٍ في ترك الذِّكْر، لرخَّص لزكريَّاء- عليه السلام- حيث قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً، لكنه قال له: اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً «1» قال الإِمام الفَخْر «2» : وفي الآية تأويلان: أحدهما: أنَّ اللَّه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره علَى الذِّكْر والتَّسْبيحِ والتهليلِ ليكون في تلك المدَّة مشتغلاً بذكْرِ اللَّه وطاعته شُكْراً للَّه على هذه النِّعْمة، ثم أعلم أنَّ هذه الواقعة كانَتْ مشتملةً علَى المُعْجِزِ من وجوه: أحدها: أنَّ قدرته على الذكْرِ والتَّسبيحِ، وعَجْزَه عن التكلُّم بأمور الدنْيَا من المُعْجِزَات. وثانيها: أنَّ حصولَ ذلك العَجْز مع صحّة البنية من المعجزاتِ. وثالثها: أن إِخباره بأنه متى حصلَتْ تلْكَ الحالةُ، فقَدْ حصل الولد، ثم إِنَّ الأمر خرج على وفَقْ هذا الخبرِ يكون أيضاً من المعجزات. والتأويل الثَّاني: أن المراد منه الذكْر بالقَلْب وذلك لأن المستغْرِقِينَ في بِحَارِ معرفة اللَّه تعالى عادتهم في أوَّل الأمر أنْ يواظِبُوا على الذكْرِ اللِّسَانِيِّ مدةً، فإِذا امتلأ القَلْبُ من نُور ذِكْرِ اللَّه تعالى/، سكَتُوا باللِّسَان، وبقي الذِّكْرُ في القَلْب ولذلك قالوا: «مَنْ عَرَفَ اللَّه، كَلَّ لِسَانُهُ» ، فكان زكريَّاء- عليه السلام- أمر بالسُّكُوت باللّسان واستحضار معاني

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 261) برقم (7018) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 432) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 41) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي. (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 36) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 إلى 43]

الذكْرِ والمعرفةِ، واستدامتها بالقَلْب. اهـ. وقوله تعالى: وَسَبِّحْ: معناه: قلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وقال قومٌ: معناه صَلِّ، والأول أصوبُ لأنه يناسب الذكْرَ، ويستغربُ مع امتناع الكلام مع النَّاسِ، والعَشِيُّ، في اللغة: من زوالِ الشَّمْسِ إِلى مغيبها، والإِبْكَارُ: مصدرُ أَبْكَرَ الرَّجُلُ، إِذا بادر أمْرَهُ من لَدُنْ طلوع الفجر إِلى طلوع الشمْسِ، وتتمادَى البُكْرَة شَيْئاً بعد طلوع الشمس، يقال: أبكر الرجل وبكّر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) وقوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: العامل في «إِذْ» : «اذكر» لأن هذه الآياتِ كلَّها إِنما هي إِخبارات بغَيْبٍ تدلُّ على نبوَّة نبيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، مَقْصِدُ ذِكْرها هو الأظهر في حِفْظِ رَوْنَقِ الكلام. واصْطَفاكِ: معناه: تخيّرك لطاعته، وطَهَّرَكِ: معناه: من كُلِّ ما يَصِمُ النساء في خَلْقٍ، أو خُلُقٍ، أو دِينٍ قاله مجاهد وغيره «1» ، وقولُ الزَّجَّاجِ: قد جاء في التفْسير أنَّ معناه: طَهَّرك من الحَيْض والنفاسِ- يحتاج إلى سند قويّ، وما أحفظه، والْعالَمِينَ يحتملُ عَالَمَ زَمانها. قال ع «2» : وسائغ أنْ يتأوَّل عموم الاِصطفاء على العَالَمِينَ، وقد قال بعضُ الناس: إِن مريم نَبِيَّةٌ من أَجْلِ مخاطَبَةِ الملائكةِ لها، وجمهورُ النَّاسِ على أنها لم تنبّإ امرأة، واقْنُتِي معناه: اعبدي، وأَطِيعِي قاله الحَسَن وغيره «3» ، ويحتمل أنْ يكون معناه: أطِيلِي القيامَ في الصَّلاة، وهذا هو قولُ الجمهورِ، وهو المناسبُ في المعنى لقوله: وَاسْجُدِي، وروى مجاهدٌ أنها لما خوطِبَتْ بهذا، قامَتْ حتى وَرِمَتْ قَدَماها، وروى الأوزاعيُّ: حتى سَالَ الدَّمُ والقَيْحُ من قَدَمَيْهَا، وروي أنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ، تنزلُ على رَأْسِهَا تظُنُّها جَمَاداً. واختلف المتأوِّلون، لِمَ قُدِّمَ السُّجودُ على الركوع.

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 433) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 434) . (3) أخرجه الطبري (3/ 265) برقم (7046) ، وذكره ابن عطية (1/ 434) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 44 إلى 48]

فقال قوم: كان ذلك في شرِعِهِمْ، والقول عنْدي في ذلك: أنَّ مريم أُمِرَتْ بفَصْلَيْنِ ومَعْلَمَيْنِ مِن مَعَالِمِ الصلاة، وهما طُولُ القيامِ، والسُّجُودُ، وخُصَّا بالذكْرِ لشرفهما، وهذانِ يَخْتَصَّان بصلاتها مفْرَدةً وإِلاَّ فمن يصلِّي وراء إِمامٍ، فليس يقال له: أَطِلْ قِيَامَكَ، ثم أمرتْ بعدُ بالصَّلاة في الجماعةِ، فقيل لها: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ، وقُصِدَ هنا مَعْلَمٌ آخر من مَعَالِمِ الصلاةِ لئلاَّ يتكرَّر اللفظ، ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظمٌ في ركْعَةٍ واحدةٍ، واللَّه أعلم. وقال ص: قوله: وَارْكَعِي، الواو: لا ترتّب، فلا يسأل، لِمَ قُدِّم السجود، إِلا من جهة علْمِ البيانِ، وجوابه أنه قدّم لأنه أقربُ ما يكونُ العَبْدُ فيه مِنْ ربِّه، فكان أشْرَفَ، وقيل: كان مقدّما في شرعهم. اهـ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 48] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ... الآية: هذه المخاطبة لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والإِشارة بذلك إِلى ما تقدَّم ذكْرُهُ من القصصِ، والأنباء: الأخبار، والغَيْبُ: ما غَاب عن مدارك الإِنسان، ونُوحِيهِ: معناه: نُلْقِيهِ في نَفْسِك في خفاءٍ، وَحَدُّ الوَحْيِِ: إِلقاء المعنى في النَّفْس في خفاءٍ، فمنه بالمَلَكِ، ومنه بالإِلهام، ومنه بالإِشارة، ومنه بالكِتَابِ. وفي هذه الآية بيان لنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم إِذ جاءهم بغُيُوب/ لا يعلمها إِلا مَنْ شاهدها، وهو لَمْ يَكُنْ لديهم، أوْ مَنْ قرأها في كتبهم، وهو صلّى الله عليه وسلّم أُمِّيٌّ من قومٍ أُمِّيِّينَ، أوْ: من أعلمه الله بها، وهو ذاك صلّى الله عليه وسلّم، ولَدَيْهِمْ: معناه: عندهم ومَعَهُمْ. وقوله: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ... الآية: جمهورُ العلماء على أنه استهام لأخذِها والمنافَسَةِ فيها، فروي أنهم أَلْقَوْا أقلامَهُمُ الَّتي كانوا يَكْتُبُونَ بها التوراةَ في النَّهْرِ، فروي أنَّ قَلَمَ زكريَّا صاعد الجرية، ومضَتْ أقلام الآخَرِينَ، وقيل غير هذا، قُلْتُ: ولفظ ابْنِ العربيّ في «الأحكام» قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فَجَرَتِ الأَقْلاَمُ وَعَلاَ قَلَمُ زَكَرِيَّا» «1» اهـ، وإِذا ثبت الحديث،

_ (1) ينظر: «تفسير القرطبي» (4/ 86) .

فلا نظر لأحد معه. ويَخْتَصِمُونَ: معناه: يتراجَعُونَ القَوْلَ الجهيرَ في أمْرها. وفي هذه الآية استعمال القُرْعَةِ، والقُرعَةُ سُنَّة، «وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إذا سافر، أقرع بين نسائه» «1» وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ» «2» . واختلف أيضاً، هل الملائكةُ هنا عبارةٌ عن جِبْرِيلَ وحْده أوْ عن جماعةٍ من الملائكة؟ ووَجِيهاً: نصبٌ على الحال، وهو من الوَجْهِ، أيْ: له وجْهٌ ومنزلةٌ عند اللَّه، وقال البخاريُّ: وجيهاً: شَريفاً اهـ. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ: معناه: مِنَ اللَّه تعالى، وكلامه في المَهْدِ: آيةٌ دالَّة على براءة أُمِّه، وأَخبر تعالى عنه أنَّه أيضًا يكلِّم الناس كَهْلاً، وفائدةُ ذلك أنَّه إِخبار لها بحَيَاتِهِ إلى سِنِّ الكهولة، قال جمهورُ النَّاس: الكَهْلُ الذي بَلَغَ سِنَّ الكهولةِ، وقال مجاهد: الكَهْلُ: الحليمُ قال ع «3» : وهذا تفسيرٌ للكُهُولة بعَرضٍ مصاحِبٍ لها في الأغلب، واختلف النَّاسُ في حَدِّ الكهولة، فقيل: الكَهْلُ ابن أَرْبَعِينَ، وقيل: ابنُ خَمْسَةٍ وثلاثينَ، وقيل: ابن ثلاثةٍ وثلاثين، وقيل: ابن اثنين وثلاثينَ، هذا حدُّ أَوَّلِهَا، وأمَّا آخرها، فاثنان وخمسونَ، ثم يدْخُلُ سنُّ الشيخوخة. وقولُ مَرْيَمَ: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ: استفهام عن جهة حَمْلها، واستغراب للحَمْلِ على بَكَارتها، و «يَمْسَسْ» : معناه: يَطَأ ويُجَامِع. ص: والبَشَر يُطْلَقُ على الواحِدِ والجمع. اهـ.

_ (1) أخرجه البخاري (5/ 218) ، كتاب «الهبة» ، باب هبة المرأة لغير زوجها، الحديث (2593) ، ومسلم (4/ 2130) ، كتاب «التوبة» ، باب في حديث الإفك، الحديث (56/ 2770) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 295- 296) كتاب «عشرة النساء» ، باب قرعة الرجل بين نسائه إذا أراد السفر، حديث (8931) ، وابن الجارود في (723) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله عن عائشة قالت: «كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج في سفر، أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. (2) تقدم. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 437) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 49 إلى 51]

والكلامُ في قولِهِ: كَذلِكِ كالكلامِ في أمر زكريَّا، وجاءَتِ العبارةُ في أمر زكريَّا: «يَفْعَلُ» ، وجاءت هنا: «يَخْلُقُ» من حيث إِنَّ أمر زكريَّا داخلٌ في الإِمكان الذي يتعارَفُ، وإنْ قَلَّ، وقصَّة مريم لا تتعارَفُ البتَّة، فلفظ الخَلْق أقربُ إِلى الاِختراعِ، وأدَلُّ عليه. وقوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً: معناه: إِذا أراد إِيجاده، والأمر واحدُ الأمور، وهو مَصْدَرٌ سُمِّيَ به، والضميرُ في «لَهُ» عائدٌ على الأمْر والقول على جهة المخاطبة. وقوله: كُنْ: خطابٌ للمَقْضِيِّ. وقوله: فَيَكُونُ بالرفع: خطابٌ للمُخْبَر. وقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ ... الآية: الكِتَابُ هنا: هو الخَطُّ باليد، وهو مصدر: كَتَبَ يَكْتُبُ قاله جمهور المفسّرين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 49 الى 51] وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) وقوله: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، أي: ويجعله رسولاً، وكانت رسالةُ عيسى- عليه السلام- إلى بني إِسرائيل مبيِّناً حُكْمَ التوراة، ونَادِباً إِلى العَمَل بها، ومُحَلِّلاً أشياءَ ممَّا حرم فيها كَالثُّرُوبِ ولُحُومِ الإِبل، وأشياء من الحِيتَانِ والطَّيْر/، ومن أول القول لِمَرْيم إِلى قوله: إِسْرائِيلَ: خطابٌ لمريم، ومن قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ إِلى قوله: مُسْتَقِيمٌ: يحتملُ أنْ يكون خطاباً لمريم على معنى: يَكُونُ من قوله لِبَنِي إِسرائيل كَيْتَ وَكَيْتَ، ويكون في آخر الكلام محذوفٌ يدُلُّ عليه الظاهرُ، تقديره: فجاء عيسى بني إِسرائيل رسولاً، فقال لهم ما تقدَّم ذكْرُهُ، ويحتملُ أنْ يكون المحذوفُ مقدَّراً في صَدْرِ الكلامِ بعد قوله: إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، فيكون تقديره: فجاء عيسى كما بَشَّر اللَّهُ رسولاً إلى بني إِسرائيل بأنِّي قد جئتكم، ويكون قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ليس بخِطَابٍ لِمَرْيَمَ، والأول أظهر. وقوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ ... الآية: قرأ نافعٌ: «إِنِّي أَخْلُقُ» بكسر الهمزة، وقرأ باقي السَّبْعة بفَتْحها، فوجه قراءةِ نافعٍ إِمَّا القَطْعُ والاستئناف، وإِما أنه فسَّر الآية بقوله: إِنِّي، كما فسر المَثَلَ في قوله: كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: 59] ووجْه قراءة الباقين البَدَلُ

من «آية» كأنه قال: وجئْتكم بِأَنِّي أخلْقُ، وأَخْلُقُ: معناه: أقدّر وأهيئ بيَدِي. ص: كَهَيْئَةِ: الهيئةُ: الشَّكْل والصُّورة، وهو مصدر: هَاءَ الشَّيْءُ يَهِيىءُ هَيْئَةً، وَهَيَّأَ، إِذا ترتَّب واستقر على حالٍ مَّا، وتعدِّيه بالتضْعيف، قال تعالى: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الكهف: 16] اهـ. وقرأ نافعٌ وحْده: «فَيَكُونُ طَائِراً» بالإِفراد أي: يكون طائراً من الطيورِ، وقرأ الباقونَ: «فَيَكُونُ طَيْراً» بالجمع وكذلك في «سورة المائدة» والطير: اسمُ جمعٍ، وليس من أبنيةِ الجُمُوع، وإِنما البنَاءُ في جَمْعِ طائرٍ: أَطْيارٌ، وجَمْعُ الجَمْعِ: طُيُورٌ. وقوله: فَأَنْفُخُ فِيهِ، ذكَّر الضميرَ لأنه يحتملُ أنْ يعود على الطِّينِ المهيّأ، ويحتملُ أنْ يريد: فأنفُخُ في المذكور، وأنَّثَ الضميرَ في «سورة المائدة» لأنه يحتمل أنْ يعود على الهيئة، أوْ على تأنيثِ لَفْظ الجَمَاعة، وكَوْنُ عيسى يخلُقُ بيده، وينفُخُ بِفِيهِ، إِنما هو ليبيِّن تلبُّسه بالمعجزةِ، وأنها جاءَتْ من قِبَلِهِ، وأمَّا الإِيجاد من العَدَمِ، وخَلْقُ الحياةِ في ذلك الطِّينِ، فمِنَ اللَّهِ تعالى وحده، لا شريك له. ورُوِيَ في قَصَصٍ هذه الآية، أنَّ عيسى- عليه السلام- كانَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيُّ الطَّيْرِ أَشَدُّ خِلْقَةً، وَأَصْعَبُ أنْ يحكى؟ فيَقُولُونَ: الخُفَّاشُ لأَنَّهُ طَائِرٌ لاَ رِيشَ لَهُ، فَكَانَ يَصْنَعُ مِنَ الطِّينِ خَفَافِيشَ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَطِيرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَمُعَايَنَتِهِمْ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: «هَذَا سَاحِرٌ» أُبْرِئُ معناه: أزيل المرض، والْأَكْمَهَ: هو الَّذِي يُولَدُ أعمى مضمومَ العَيْنَيْنِ قاله ابن عَبَّاسٍ وقتادة «1» ، قال ع «2» : والأَكْمَهُ في اللغة: هو الأعمى، وقد كان عيسى- عليه السلام- يبرىءُ بدعائِهِ، ومَسْحِ يدِهِ على كل عاهة، ولكنَّ الاحتجاج على بني إِسرائيل في معنى النبوَّة لا يقومُ إِلاَّ بالإِبراء من العِلَلِ التي لا يُبْرِىءُ منها طبيبٌ بوجْهٍ، ورُوِيَ في إِحيائه الموتى أنه كان يَضْرِبُ بعَصَاهُ الميِّتَ، أو القَبْرَ، أو الجُمْجُمَةَ فَيَحْيَى الإِنسانُ، ويكلِّمه بإِذن اللَّه، وفي قصص الإِحياء أحاديثُ كثيرةٌ لا يوقَفُ على صحَّتها، وآياتُ عيسى- عليه السلام- إِنما تَجْرِي فيما يُعَارِضُ الطِّبَّ لأن علْمَ الطِّبِّ كان شَرَفَ النَّاس في ذلك/ الزّمان،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 275) برقم (7086) ، (7087) عن قتادة، وابن عباس. وذكره ابن عطية (1/ 440) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 57) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق الضحاك عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 440) . [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 إلى 54]

وشُغْلَهُمْ، وحينئذ أُثِيرَتْ فيه العجائبُ، فلما جاء عيسى- عليه السلام- بغرائبَ لا تقتضيها الأمزجةُ وأصولُ الطِّبِّ وذلك إِحياءُ الموتى، وإِبراء الأكْمَهِ والأَبْرَصِ، عَلِمَتِ الأطبَّاء أن هذه القوَّة من عند اللَّه، وهذا كأمْرِ السَّحَرَةِ مع موسى، والفصحاء مع نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ووقع في التواريخِ المُتَرْجَمَة عن الأطبَّاء أنَّ جَالِينُوسَ كانَ في زمنِ عيسى- عليه السلام-، وأنه رحَل إِلَيْهِ مِنْ رُومِيَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ ذلك. وقوله: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ... الآية: قال مجاهدٌ وغيره: كان عيسى- عليه السلام- مِنْ لَدُنْ طفوليَّته، وهو في الكُتَّابِ، يخبرُ الصِّبْيان بما يفعل آباؤهم في منازِلِهِمْ، وبما يُؤْكَلُ من الطعامِ، ويُدَّخَرُ، وكذلك إلى أنْ نُبِّئى، فكان يقول لكلِّ من سأله عن هذا المعنى: أَكَلْتَ البارحةَ كَذَا، وادخرت كذا «1» ، وقال قتادةُ: معنَى الآية: إِنما هو في نزول المائدةِ علَيْهم، وذلك أنَّها لما نزلَتْ، أخذ عليهم عَهْدَ أنْ يَأْكُلُوا ولا يَخْبَأَ أَحدٌ شيئاً، ولا يدَّخره ولا يَحْمِله إلى بيته، فَخَانُوا، وجعلوا يُخَبِّئُون، فكان عيسى- عليه السلام- يُخْبِرُ كلَّ أحدٍ عمَّا أكل، وعمَّا ادخر في بَيْته من ذلك، وعوقبوا على ذلك «2» . وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ: تحذيرٌ، ودعاءٌ إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ. وقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ: إشارةٌ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، لأن ألفاظه جمعتِ الإِيمان والطَّاعاتِ، والصِّرَاطُ: الطريقُ، والمُسْتَقِيم: الذي لا اعوجاج فيه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 54] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) وقوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ... الآية: قبل هذه الآية محذوفٌ، به يتمُّ اتساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى كما بَشَّر اللَّه به، فقالَ جميعَ ما ذُكِرَ لبنِي إسرائيل، فَلَمَّا أَحَسَّ، ومعنى: أَحَسَّ: عَلِمَ من جهة الحَوَاسِّ بما سَمِعَ من أقوالهم في تكذيبه، ورأى من قرائن أحوالهم، وشدَّة عدَاوتِهِم، وإعراضهم، قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وقوله: إِلَى اللَّهِ: يحتمل معنيين:

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 278) برقم (7098) بنحوه، وذكره ابن عطية (1/ 440) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 279) برقم (7104) ، وذكره ابن عطية (1/ 440) .

أحدهما: مَنْ ينصرنِي فِي السَّبيل إلى اللَّه. والثاني: أنْ يكون التقديرُ: مَنْ يضيفُ نُصْرته إلى نصرة اللَّهِ لِي، فإلى دَالَّة على الغاية في كِلاَ التقديرَيْن، وليس يُبَاحُ أنْ يُقَالَ: «إلى» بمعنى «مع» كما غلط في ذلك بَعْضُ الفقهاءِ في تَأْويلِ قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] ، فقال: «إلى» بمعنى «مَعَ» ، وهذه عُجْمَة. والحواريُّون قَوْمٌ مرَّ بهم عيسى صلّى الله عليه وسلّم، فدَعَاهم إلى نصرِهِ واتباع ملَّته، فأجَابوه، وقَامُوا بذلك خَيْرَ قيامٍ، وصَبَرُوا في ذاتِ اللَّه، واختلف، لِمَ قِيلَ لهم حواريُّون؟ فقال ابنُ جُبَيْرٍ: لبياضِ ثيابِهِمْ «1» ، وقال أبو أرْطاةَ: لأنَّهم كانوا قَصَّارِينَ يَحُورُونَ الثِّياب، أيْ: يبيِّضونها «2» ، وقال قتادة: الحواريُّون: أصفياء الأنبياء الَّذِينَ تَصْلُحُ لهم الخلافةُ «3» ، وقال الضَّحَّاك نحوه «4» ، قال ع «5» : وهذا القولُ تقريرُ حالِ القومِ، وليس بتَفْسِيرِ اللَّفْظَة، وعلى هذا الحدّ شبه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابن عَمَّتِهِ بِهِمْ في قوله: «وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ» . والأقوال الأَوَلُ هي تفسيرُ اللفظة إذ هي من الحَوَر/، وهو البَيَاضُ، حَوَّرْتُ الثَّوْبَ: بَيَّضْته ومنْه الحُوَاري، وقد تسمِّي العرب النِّسَاءَ السَّاكِنَاتِ في الأمْصَارِ: الحَوَارِيَّاتِ لغلبة البَيَاض علَيْهِنَّ ومنه قول أبي جلدة اليشكريّ «6» : [الطويل]

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 285) برقم (7120) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 395) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 442) . (2) أخرجه الطبري (3/ 285) برقم (7121) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 442) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 285) برقم (7122) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 306) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 442) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 63) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 442) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 442) . (6) أبو جلدة بن عبيد الله اليشكري، من بني عدي بن جشم، من يشكر، شاعر نعته ابن قتيبة ب «الخبيث» ، كان مولعا بالشراب، من أهل «الكوفة» . خرج مع ابن الأشعث (عبد الرّحمن بن محمد) وقتله الحجاج، وقيل: مات في طريق «مكة» . له شعر وأخبار، وكان يهاجي زيادا الأعجم، وفي حماسة ابن الشجري قصيدة له في تحريض أهل العراق على الثورة بعد قيام ابن الأشعث على الحجاج. ينظر: «الأعلام» (2/ 133) .

فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا ... وَلاَ تَبْكِنَا إلاَّ الْكِلاَبُ النَّوَابِحُ «1» وقولُ الحواريِّين: وَاشْهَدْ يحتملُ أنْ يكون خطَاباً لعيسى- عليه السلام-، أي: اشهد لَنَا عنْدَ اللَّهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ خطَاباً لله تعالى كقوله صلّى الله عليه وسلّم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «اللَّهُمَّ، اشهد» ، وقولهم: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ يريدون: الإنجيل، وآياتِ عيسى، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ، أي: في عِدَادِ مَنْ شهد بالحَقِّ مِنْ مؤمني الأمم، ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرِينَ بعيسى- عليه السلام-، فقال: وَمَكَرُوا، يريدُ في تحيُّلهم في قتله بزعمهم فهذا هو مَكْرُهُمْ، فجازاهم اللَّه تعالى بأنْ طرح شَبَهَ عيسى على أحد الحواريِّين في قول الجمهور، أو على يهوديٍّ منهم كَانَ جَاسُوساً، وأعقبَ بَنِي إسرائيل مذلَّةً وهَوَاناً في الدُّنيا والآخرة، فهذه العُقُوبة هي التي سَمَّاها اللَّه تعالى مَكْراً في قوله: وَمَكَرَ اللَّهُ، وذلك مَهْيَعٌ «2» أنْ تسمَّى العقوبةُ باسم الذنب. وقوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ: معناه: فاعلُ حقٍّ في ذلك، وذكر أبو القَاسِمِ القُشَيْرِيُّ في «تحبيره» ، قال: سُئِلَ مَيْمُونٌ، أحسبه: ابن مِهْرَانَ «3» عن قولِهِ تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فقال: تخليتُهُ إياهم، مع مَكْرهم هو مَكْرُهُ بهم. اهـ. ونحوه عن الجُنَيْدِ «4» ، قال الفَرَّاء: المَكْرُ من المخْلُوقِ الْخِبُّ والحِيلَة، ومِنَ الإله الاِسْتِدْرَاجُ، قال الله

_ (1) البيت لأبي جلدة اليشكري كما ذكر المصنف وهو من شعراء الدولة الأموية. من قصيدة قالها الشاعر، تحريضا وتحضيضا على قتال أهل «الشام» وهو يرمي أهل الشام وأنصار معاوية بالكفر والتنصّر، ويصف نفسه وجماعته أنهم أهل بداوة وخشونة، ومعنى البيت: قل للنساء الحضريات يبكين غيرنا فلسنا ممن عرف بالحضر على الفراش، بل نحن من أهل البدو والمحاربة، فلا تبكي علينا إلا الكلاب التي تساق معنا في البدو، أو الكلاب التي جرت عادتهن أن يأكلن قتلانا في المحاربة. والبيت في «مجاز القرآن» (1/ 95) ، و «جامع البيان» (6/ 451) ، و «معاني القرآن» للزجاج (1/ 423) ، و «الكشاف» (1/ 432) ، و «الجمهرة» (1/ 230) ، (2/ 146) ، والأساس (حور) ، (ص 146) ، و «اللسان» (ص 1043) ، الطبري (6/ 450) . (2) المهيع: هو الطريق الواسع المنبسط، وهو مفعل من التهيع، وهو الانبساط. ينظر: «لسان العرب» (4738) (هيع) . (3) ميمون بن مهران الرقي، أبو أيوب: فقيه من القضاة، كان مولى لامرأة ب «الكوفة» ، وأعتقته، فنشأ فيها، ثم استوطن الرقة (من بلاد الجزيرة الفراتية) فكان عالم الجزيرة، وسيدها، واستعمله عمر بن عبد العزيز على خراجها وقضائها، وكان على مقدمة الجند الشامي، مع معاوية بن هشام بن عبد الملك، لما عبر البحر غازيا إلى «قبرس» ، سنة 108 هـ، وكان ثقة في الحديث، كثير العبادة. توفي سنة (117) هـ. ينظر «الأعلام» (7/ 342) . (4) الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز، أبو القاسم: صوفي من العلماء بالدين. مولده ومنشؤه ووفاته ببغداد، أصل أبيه من «نهاوند» وعرف بالخزاز لأنه كان يعمل الخز. قال أحد معاصريه: ما رأت-

[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 إلى 58]

تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [القلم: 44] قال ابن عبَّاس: كُلَّما أحْدَثُوا خطيئةً، أحدثنا لهم نعمة. اهـ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 58] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) وقوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ... الاية: اختلف في هذا التِّوفِّي. فقال الرَّبيع: هي وفاةُ نَوْمٍ «1» ، وقال الحَسَن وغيره: هو توفِّي قَبْضٍ وتَحْصِيلٍ، أي: قابضك منَ الأرْضِ، ومحصِّلك في السماءِ «2» وقال ابنُ عبَّاس: هي وفاةُ مَوْتٍ «3» ، ونحوه لمالك في «العَتَبِيَّة» ، وقال وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ: توفَّاه اللَّه بالمَوْتِ ثلاثَ ساعاتٍ، ورفعه فيها، ثُمَّ أحياه بعد ذلك «4» ، وقال الفَرَّاء: هي وفاةُ مَوْتٍ «5» ، ولكنَّ المعنى: إني متوفِّيك في آخر أمْرِكَ عنْد نزولِكَ وقَتْلِك الدَّجَّال، ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخير. قال ع «6» : وأجمعتِ الأمة على ما تضمَّنه الحديثُ المتواتر «7» منْ أنَّ عيسى- عليه

_ - عيناي مثله، وهو أول من تكلم في علم التوحيد، وقال ابن الأثير: إمام الدنيا في زمانه، له رسائل، منها: «دواء الأرواح» مخطوط، توفي في (297) هـ. ينظر: «وفيات الأعيان» (1/ 117) ، و «حلية» (10/ 255) ، و «صفة الصفوة» (2/ 235) ، و «تاريخ بغداد» (7/ 241) ، و «طبقات السبكي» (2/ 28) ، و «طبقات الحنابلة» (89) ، «الأعلام» (2/ 141) . (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 288) برقم (7129) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 397) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 308) ، وابن عطية (1/ 442) . [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 288) برقم (7131) بنحوه، وذكره ابن عطية (1/ 444) . (3) ذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 396) ، وابن عطية (1/ 444) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 289) برقم (7138) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 308) ، وابن عطية (1/ 444) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 64) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 444) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 444) . (7) والحديث المتواتر هو ما رواه جمع يحيل العقل تواطؤهم على الكذب عادة من أمر حسّيّ، أو حصول الكذب منهم اتّفاقا، ويعتبر ذلك في جميع الطّبقات إن تعدّدت. -

السلام- في السَّمَاءِ حَيٌّ، وأنه يَنْزِلُ في آخِرِ الزَّمَانِ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيُفِيضُ العَدْلَ، وَيُظْهِرُ هَذِهِ المِلَّةَ مِلَّةَ محمّد صلّى الله عليه وسلّم ويحجّ البَيْتَ، ويَعْتَمِرُ، ويبقى في الأَرْضِ أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُمَيتُهُ اللَّهُ تعالى «1» .

_ - وشروط التّواتر: 1- أن يكون رواته عددا كثيرا. 2- أن يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، أو أن يحصل الكذب منهم اتّفاقا عادة. 3- أن يرووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء في كون العقل يمنع من تواطؤهم على الكذب، أو حصوله منهم اتّفاقا عادة. 4- أن يكون مستند انتهائهم الإدراك الحسّيّ بأن يكون آخر ما يئول إليه الطريق ويتم عنده الإسناد- أمر حسيّ مدرك بإحدى الحواسّ الخمس الظاهرة من الذوق، واللّمس، والشم، والسّمع، والبصر. ثم إنه من المتّفق عليه عند العلماء، وأرباب النّظر أنّ القرآن الكريم لا تجوز الرّواية فيه بالمعنى، بل أجمعوا على وجوب روايته لفظة لفظة، وعلى أسلوبه، وترتيبه، ولهذا كان تواتره اللفظي لا يشكّ فيه أدنى عاقل، أو صاحب حسّ، وأما سنّة رسول الله، فقد أجازوا روايتها بالمعنى لذلك لم تتّحد ألفاظها، ولا أسلوبها، ولا ترتيبها. فإذن يكون الحديث متواترا تواترا لفظيّا، أو معنويّا، إذا تعددت الرّواية بألفاظ مترادفة، وأساليب مختلفة في التّمام والنقص، والتقديم والتّأخير في الواقعة الواحدة، حتى بلغت مبلغ التّواتر. ومن ناحية أخرى، فإذا تعدّدت الوقائع، واتفقت على معنى واحد، دلّت عليه تارة بالتّضمّن، وتارة بالالتزام حتّى بلغ القدر المشترك في تلك الوقائع المتعددة مبلغ التّواتر فإنه حينئذ يكون متواترا تواترا معنويا، لا خلاف في ذلك. ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 231) ، «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 566) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (2/ 14) ، «نهاية السول» للأسنوي (3/ 54) ، «منهاج العقول» للبدخشي (2/ 296) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (95) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (2/ 95) ، «المنخول» للغزالي (231) ، «المستصفى» له (1/ 132) ، «حاشية البناني» (2/ 119) ، «الإبهاج» لابن السبكي (2/ 263) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (3/ 206) . (1) أخرجه البخاري (4/ 483) في البيوع: باب قتل الخنزير (2222) ، (5/ 144) في المظالم: باب كسر الصليب وقتل الخنزير (2476) و (6/ 566) في أحاديث الأنبياء: باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام (3448) ، ومسلم في الإيمان: باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم (242- 155) ، (243- ... ) ، وأبو داود (2/ 520) في الملاحم: باب ذكر خروج الدجال (4324) ، والترمذي (4/ 439) في الفتن باب ما جاء في نزول عيسى ابن مريم عليه السلام (2233) ، وابن ماجة (2/ 1363) في الفتن: باب فتنة الدجال، وخروج عيسى ابن مريم ... (4078) ، وأحمد (2/ 272، 290، 394، 406، 437، 482، 538) . وعبد الرزاق (20840، 20844، 20845) ، والحميدي (2/ 468) برقم (1097، 1098) ، وأبو يعلى في «مسنده» (5877) من طرق عن أبي هريرة رفعه: «لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 إلى 61]

قال ع «1» : فقول ابن عباس: هي وفاةُ مَوْتٍ لا بدَّ أنْ يتمِّم إما على قول وهْبِ بن مُنَبِّهٍ، وإما على قول الفَرَّاء. وقوله تعالى: وَرافِعُكَ إِلَيَّ عبارةٌ عَنْ نَقْلِهِ من سُفْلٍ إلى عُلْو، وإضافه اللَّه سبحانه إضافةُ تشريفٍ، وإلا فمعلومٌ أنه سبحانه غَيْرُ متحيِّزٍ في جهةٍ، وَمُطَهِّرُكَ، أي: مِنْ: دعاوى الكَفَرَةِ ومعاشَرَتِهِمْ. وقوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ... الآية: قال جمهورُ المفسِّرين بعموم اللفظ/ في المتّبعين، فتدخل في ذلك أمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأنها مُتَّبِعَةٌ لعيسى قاله قتادة وغيره «2» وكذلك قالوا بعموم اللفظِ في الكَافِرِينَ، فمقتضَى الآيَةِ إعلامُ عيسى- عليه السلام- أنَّ أهْلَ الإيمانِ به، كما يجب، هم فوق الذين كَفَرُوا بالحُجَّة، والبُرْهَان، والعِزِّ والغَلَبَةِ، ويظْهَرُ منْ عبارة ابن جُرَيْج وغيره أنَّ المراد المتبعون لَهُ في وقْتِ استنصاره، وهم الحواريُّون «3» . وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ خَطَابٌ لعيسى، والمرادُ: الإخبار بالقيامة، والحَشْرِ، وباقي الآيةِ بيِّن، وتوفيةُ الأجور هي قَسْم المَنَازِلِ في الجَنَّة، فذلك هو بحَسَب الأعمال، وأما نَفْسُ دخولِ الجَنَّةَ، فبرحْمَةِ اللَّه وتفضُّله سبحانه. وقوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ ... الآية: «ذَلِكَ» : إشارة إلى ما تقدّم من الأنباء، ونَتْلُوهُ: معناه: نسرده، ومِنَ الْآياتِ: ظاهره آيات القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ: من المعجزاتِ والمُسْتَغْرَبَاتِ أن تأتيهم بهذه الغُيُوبِ من قبلنا، وبسبب تلاوتنا، والذِّكْرِ: ما ينزلُ من عند اللَّه. قال ابن عبّاس: الذّكر: القرآن، والْحَكِيمِ: الذي قد كمل في حكمته «4» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 61] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)

_ (1) ينظر «المحرر الوجيز» (1/ 444) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 445) . (3) ذكره ابن عطية (1/ 445) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 293) برقم (7155) ، وذكره ابن عطية (1/ 446) .

وقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ ... الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: سبَبُ نزولها مُحَاجَّة نصارى نَجْرَانَ في أمر عيسى، وقولُهم: يا محمَّد، هل رأَيْتَ بَشَراً قَطُّ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، أَوْ سَمِعْتَ بِهِ «1» ، ومعنى الآية أنَّ المَثَلَ الذي تتصوَّره النفُوسُ والعقولُ من عيسى هو كَالمُتَصَوَّرِ من آدَمَ إذ الناسُ مُجْمِعُونَ على أنَّ اللَّه تعالى خَلَقَهُ مِنْ ترابٍ من غير فَحْلٍ، وفي هذه الآية صحَّةُ القياس. وقوله تعالى: ثُمَّ قالَ ترتيبٌ للأخبار لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، المعنى: خَلَقَهُ من تُرَابٍ، ثم كان مِنْ أمره في الأزَلِ أنْ قال له: كُنْ وقْتَ كذا. وقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، أي: هذا هو الحقّ، والْمُمْتَرِينَ: هم الشاكّون، ونهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عبارةٍ اقتضت ذَمَّ الممترين وهذا يدلُّ على أنَّ المراد بالامتراء غَيْرُهُ ونُهِيَ عن الامتراء، مع بُعْده عنه على جهة التثْبِيتِ والدَّوام على حاله. وقوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ، أي: في عيسى، ويحتملُ في الحقِّ، والعِلْمُ الذي أشير إلَيْه بالمجيء هو ما تضمَّنته هذه الآياتُ المتقدِّمة. وقوله: فَقُلْ تَعالَوْا: استدعاء للمباهلة «2» ، وتَعالَوْا: تَفَاعَلُوا من العُلُوِّ، وهي كلمةٌ قُصِدَ بها أولاً تحسينُ الأدَب مع المدعوِّ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوّه، وللبهيمة، ونَبْتَهِلْ: معناه: نَلْتَعِن، ويقال: عَلَيْهِمْ بهلة اللَّه، والابتهال: الجِدُّ في الدُّعاء بالبهلة، روى محمَّد بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ وغيره: «إن رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، لما دَعَا نصارى نَجْرَانَ إلى المباهلة، قالوا: دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتِكَ بما نَفْعَلُ، فَذَهَبُوا إلَى العَاقِب، وهو ذُو رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عَبْدَ المَسِيحِ، مَا ترى، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النصارى، وَاللَّهِ، لَقَدْ عَرَفْتُمْ أنَّ محمَّداً النَّبيُّ المُرْسَلُ، ولَقَدْ جَاءَكُمْ بِالفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لاَعَنَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيًّا، فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلاَ نَبَتَ/ صَغِيرُهُمْ، وَأَنَّهُ الاستئصال إنْ فَعَلْتُمْ، فَإنْ أَبَيْتُمْ إلاَّ إلْفَ دِينِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عيْهِ مِنَ القَوْلِ في صاحبكم، فوادعوا الرّجل،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 293) برقم (7157) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (3/ 446) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 66) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس. (2) المباهلة: الملاعنة، يقال: باهلت فلانا، أي: لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. ينظر: «لسان العرب» (375) . [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 إلى 64]

وانصرفوا إلى بِلاَدِكُمْ حتى يُرِيَكُمْ زمن رَأْيه، فأتوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالُوا: يَا أَبَا القَاسِمِ، قَدْ رَأَيْنَا أَلاَّ نُلاَعِنَكَ، وَأَنْ نبقى على دِينِنَا، وَصَالَحُوهُ على أَمْوَالٍ، وَقَالُوا لَهُ: ابعث مَعَنَا رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا، يَحْكُم بَيْنَنَا فِي أَشْيَاء قَدِ اختلفنا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِنَا فَإنَّكُمْ عِنْدَنَا رِضًى» «1» . قال ع «2» : وفي ترك النصارَى الملاعَنَةَ لعلمهم بنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم شاهد عظيم على صحّة نبوّته صلّى الله عليه وسلّم عندهم، ودعاءُ النِّساء والأبناء أهَزُّ للنفوسِ، وأدعى لرحمة اللَّه للمُحِقِّين، أو لغضبه على المُبْطِلِينَ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 64] إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ... الآية: هذا خبرٌ من اللَّه تعالى، جزمٌ مؤكَّد، فَصَل به بين المختَصِمَيْن، والإشارةُ بهذا هي إلى ما تقدَّم في أمر عيسى- عليه السلام-، والقصص معناه الإخبار. وقال ص: إِنَّ هذا لَهُوَ: هذا، إشارةً إلى القرآن. اهـ. واختلف المفسِّرون من المُرَاد بأهْلِ الكِتَابِ هنا. فروى قتادة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنهم يهودُ المدينَة «3» . وقال ابنُ زَيْدٍ وغيره: المرادُ نصارى نجران «4» . قال ع «5» : والذي يظهر لي أنَّ الآية نزلَتْ في وَفْد نَجْرَان، لكن لفظُ الآية يعمُّهم، وسواهم من النصارى واليهود، وقد كتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ، وكذا

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 298) برقم (7177) ، وذكره ابن عطية (1/ 447) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 448) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 300) برقم (7187) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 448) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 71) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 300) برقم (7192) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 448) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 448) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 إلى 68]

ينبغي أنْ يدعى بها أهل الكِتَابِ إلى يوم القيامة، «والكلمةُ» هنا عند الجمهور: عبارةٌ عن الألفاظ التي تتضمَّن المعانِيَ المدعوَّ إليها «1» ، وهي ما فسر بعد ذلك، وهذا كما تسمِّي العربُ القصيدةَ «كَلِمَةً» ، وقوله: سَواءٍ نعتٌ للكلمةِ، قال قتادةُ وغيره: معناه: إلى كلمةٍ عَدْلٍ «2» ، وفي مُصْحَف ابنِ مَسْعود: «إلى كلمةٍ عَدْلٍ» «3» كما فسر قتادة، قال ع «4» : والذي أقوله في لفظة سَواءٍ: إنها ينبغي أنْ تفسَّر بتفسير خاصٍّ بها في هذا الموضِعِ، وهو أنه دعاهم إلى معانٍ، جميعُ الناسِ فيها مُسْتَوُونَ. وقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ هو في موضعِ خفضٍ على البَدَلِ مِنْ كَلِمَةٍ، أو في موضعِ رفعٍ بمعنى هِيَ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّه، واتخاذُ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتبَ، أشدُّها: اعتقادهم الألوهيَّة، وعبادتهم لهم كَعُزَيْرٍ، وعيسى، ومريمَ، وأدنى ذلك: طاعتهم لأساقفتهم في كلِّ ما أَمَرُوا بِهِ مِنَ الكُفْر والمعاصِي، والتزامهم طاعتهم شرعاً. م: فَإِنْ تَوَلَّوْا: أبو البقاءِ: تَوَلَّوْا: فعلٌ ماضٍ، ولا يجوزُ أنْ يكون التقديرُ: «تَتَوَلَّوا» لفساد المعنى لأنَّ قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا خطابٌ للمؤمنين، وتَوَلَّوْا للمشركينَ. اهـ. وقوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ: أمر بالإعلان بمخالفتهم، ومواجهتهم بذلك وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد. [سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 68] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ ... الآية: قال ابن عبّاس

_ (1) الكلمة، والكلمة، والكلمة، مثل كبد وكبد وكبد. قال أبو منصور: ... تقع على الحرف الواحد من حروف الهجاء، وتقع على لفظة مؤلفة من جماعة حروف ذات معنى، وتقع على قصيدة بكمالها وخطبة بأسرها. ينظر: «لسان العرب» (3922) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 301) برقم (7193) وذكره ابن عطية (1/ 449) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 71) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن قتادة. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 449) ، (4) ينظر المصدر السابق.

وغيره: اجتمعت نصارى نَجْرَانَ، وأحبارُ يَهُودَ عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبارُ: ما كان إبراهيمُ إلاَّ يهوديًّا، وقالتِ النصارى: ما كان إبراهيمُ إلاَّ نصرانيًّا/، فأنزل اللَّه الآية «1» . ومعنى قوله تعالى: فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، أي: على زعمكم، وفسَّر الطبريُّ «2» هذا الموضع بأنه فيما لهم به علْمٌ من جهة كتبهم، وأنبيائِهِمْ ممَّا أيقنوه، وثَبَتَتْ عندهم صحَّته، قال ع «3» : وذهب عنه (رحمه الله) أنَّ ما كان هكذا، فلا يحتاجُ معهم فيه إلى محاجَّة لأنهم يجدونه عند محمَّد صلّى الله عليه وسلّم كما كان هناك على حقيقته. قُلْتُ: وما قاله الطبريُّ أَبْيَنُ، وهو ظاهر الآية، ومن المعلومِ أن أكثر احتجاجاتهم إنَّما كانَتْ تعسُّفاً، وجَحْداً للحَقِّ. وقوله تعالى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ... الآية: أخبر اللَّه تعالى في هذه الآية عن حقيقة أمر إبراهيم- عليه السلام-، ونفى عنه اليهوديَّةَ والنصرانيَّةَ، والإشراكَ، ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكَّداً أن أَوْلَى النَّاسِ بإبراهيم هم القومُ الَّذين اتبعوه، فيدخلُ في ذلك كُلُّ من اتبع الحنيفيةَ في الفترات وهذَا النَّبِيُّ: يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه بعث بالحنيفيّة السّمحة، والَّذِينَ آمَنُوا: يعني: بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، وسائرِ الأنبياء على ما يجبُ ثم أخبر سبحانه أنه وليُّ المؤمنين وعداً منْهُ لهم بالنَّصْر في الدنيا والنعيم في الآخرة روى عبد الله بن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي إبْرَاهِيمُ» ، ثِمَّ قَرَأَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ ... الآية «4» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 303) برقم (7198) ، وذكره ابن عطية (1/ 450) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 72) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس. (2) ينظر: «الطبري» (3/ 304) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 451) . (4) أخرجه الترمذي (5/ 223) ، كتاب «التفسير» ، باب من سورة آل عمران، حديث (2995) ، والطبري في «تفسيره» (6/ 498- شاكر) رقم (7216) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 444) ، والبزار كما في «تفسير ابن كثير» (1/ 372) كلهم من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود به. وأخرجه الحاكم (2/ 292) من طريق محمد بن عبيد الطنافسي عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم (2/ 553) من طريق الواقدي عن سفيان به. وذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 63) رقم (1677) من طريق روح بن عبادة عن سفيان بهذا-

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 إلى 71]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وقوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ، قال مَكِّيٌّ: قِيلَ: إن هذه الآية عُنِيَ بها قُرَيْظَةُ، والنَّضِيرُ، وبَنُو قَيْنُقَاع، ونصارى نَجْرَانَ. ص: قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ: وَدَّ: بمعنى تمنى، ويستعملُ معها: «أَنْ، ولَوْ» ، ورُبَّمَا جمع بينهما نَحْوُ: «وَدِدتُّ أَنْ لَوْ فَعَلَ» ، ومصدره الوَدَادَةُ، والاسْم منه الوُدُّ، وبمعنى: أَحَبَّ، فيتعدى كتَعَدِّي أَحَبَّ، ومصدره: مَوَدَّة، والاسم منه وُدٌّ، وقد يتداخَلاَنِ في الاسم والمصدر اه. وقوله تعالى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ: إعلامٌ بأن سوء فعلهم عائدٌ عليهم، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالُّون، ثم أَعْلَمَ تعالى أنهم لا يشعُرُونَ بذلك، أي: لا يتفطَّنون، ثم وقفهم تعالى موبِّخاً لهم على لسان نبيِّه، والمعنى: قُلْ لهم، يا محمَّدُ: لأيِّ سببٍ تكفرون بآياتِ اللَّه التي هي آياتُ القرآن، وأنتم تَشْهَدُونَ أنَّ أمره وَصِفَةَ محمّد في

_ - الإسناد. ومن هذا نعلم أنه اتفق أبو أحمد الزبيري ومحمد بن عبيد وروح بن عبادة والواقدي على رواية هذا الحديث عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود. وقد خالفهم ابن مهدي ويحيى القطان وأبو نعيم ووكيع، فرووه عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن مسعود، فأخرجه أحمد (1/ 429- 430) من طريق عبد الرّحمن بن مهدي عن سفيان به. وأخرجه (1/ 400- 401) من طريق وكيع عن سفيان به. والترمذي (5/ 224) من طريق وكيع أيضا. وأخرجه الترمذي (5/ 223) كتاب «التفسير» ، باب من سورة آل عمران، حديث (2995) ، والطبري في «تفسيره» (6/ 499- شاكر) رقم (7217) ، والحاكم (2/ 553) كلهم من طريق أبي نعيم عن سفيان به. وقال الترمذي: هذا أصح من حديث أبي الضحى عن مسروق، وأبو الضحى اسمه مسلم بن صبيح. وأخرجه الخطيب (4/ 222) من طريق معاوية بن هشام عن سفيان به. وقد رجح الترمذي رواية أبي الضحى عن ابن مسعود، وكذلك رجحه أبو زرعة وأبو حاتم. فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 63) رقم (1677) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه أبو أحمد الزبيري وروح بن عبادة عن سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وَلِيِّي منهم وخليلي أبي إبراهيم» ، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. فقالا جميعا: هذا خطأ رواه المتقنون من أصحاب الثوري عن الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلا مسروق. اهـ. وقد رجح الشيخ أحمد شاكر الطريقين في «تعليقه على الطبري» بكلام متين، فلينظر. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 إلى 74]

كتابكم قال هذا المعنى قتادةُ وغيره «1» . ويحتملُ أنْ يريد بالآياتِ ما ظَهَرَ على يده صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات. قُلْتُ: ويحتملُ الجميع من الآيات المتلوّة والمعجزات التي شاهدوها منه صلّى الله عليه وسلّم. وقال ص: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: جملةٌ حاليَّةٌ، ومفعول «تَشْهَدُونَ» : محذوفٌ، أي: أنها آيات اللَّه، أو ما يدلُّ على صحَّتها من كتابكم، أوْ بمثلها من آيات الأنبياء. اهـ. وقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ: معناه: تَخْلِطُونَ: تَقُولُ: لَبَسْتُ الأَمْرَ بفتح الباءِ: بمعنى خَلَطْتُهُ ومنه قوله تعالى: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] . وفي قوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توقيفٌ علَى العنادِ ظاهرٌ. وباقى الآية تقدّم بيانه في «سورة البقرة» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وقوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ ... الآية/ أخبر اللَّه سبحانه في هذه الآيةِ أنَّ طائفة من اليهودِ مِنْ أحبارهم ذهَبَتْ إلى خديعة المسلمين بهذا المَنْزَع، قال قتادة وغيره: قال بَعْضُ الأحبار: لنظهر الإيمان بمحمَّد صَدْر النَّهار ثم لنكْفُر به آخر النهار، فسيقول المُسْلِمُون عنْد ذلك: ما بَالُ هؤلاءِ كَانُوا مَعَنا ثم انصرفوا عَنَّا، ما ذاك إِلاَّ لأنهم انكشفت لهم حقيقةٌ في الأمر، فيشكُّون، ولعلَّهم يَرْجِعُون عن الإِيمان «2» بمحمَّد، قال الإِمام الفَخْر «3» : وفي إِخبار اللَّه تعالى عن تواطئهم على هذه الحِيلَةِ من الفائدة وجوه:

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 307) برقم (7215) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 400) بنحوه، وابن عطية (1/ 452) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 75) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 308) برقم (7220) بنحوه، وذكره الماوردي (1/ 401) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 315) ، وابن عطية (1/ 453) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 373) . (3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 84) .

الأولُ: أنَّ هذه الحِيلَةَ كَانَتْ مخفيَّةً فيما بينهم، فلما أَخْبَرَ بها عنهم، كان إخباراً بمغيَّب، فيكون مُعْجِزاً. الثاني: أنه تعالى، لما أطْلَعَ المؤمنينَ على تواطئهم على هذه الحيلة، لَمْ يحصل لهذه الحيلة أثرٌ في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإِعلام، لأمكن تأثيرها في قَلْب من ضَعُفَ إِيمانه. الثالث: أنَّ القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة، صار ذلكَ رَادِعاً لهم عن الإِقدام على أمثالها من الحِيَلِ والتَّلْبِيسِ اهـ. وذكر تعالى عن هذه الطائفةِ مِنْ أَهْل الكتابِ أنهم قالوا: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ولا خلافَ أن هذا القول هو مِنْ كلام الطائفةِ، واختلف النَّاسُ في قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، فقال مجاهد وغيره مِنْ أهل التأويل: الكلامُ كلُّه من قول الطائفة لأتْباعهم «1» . وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراضٌ بَيْن الكلامَيْن قال ع «2» : والكلامُ على هذا التأويل يحتملُ معانِيَ: أحدها: ولا تصدِّقوا وتؤْمنوا إلاَّ لمن جاء بِمِثْلِ دينِكُمْ حذاراً أنْ يؤتى أحدٌ من النبوَّة والكرامة مِثْلَ ما أوتيتم، وحِذَاراً أنْ يحاجُّوكم بتصديقِكُمْ إيَّاهم عنْدَ ربِّكم، إذا لم تستمرُّوا عليه، وهذا القولُ على هذا المعنى ثمرةُ الحَسَدِ والكُفْر، مع المعرفة بصحّة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويحتملُ الكلام أنْ يكون معناه: ولا تُؤْمنوا بمحمَّد، وتُقِرُّوا بنبوَّته إذ قد علمتم صحَّتها إلا لليهود الّذين هم منكم، وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ: صفَةٌ لحالِ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فالمعنى: تستَّروا بإقراركم أن قَدْ أوتيَ مِثْلَ ما أوتيتم، أو فإنهم (يعنون العربَ) يحاجُّونكم بالإقرار عند ربِّكم. وقرأ ابنُ كَثيرٍ وحْده مِنْ بَيْنِ السبعة: «آنْ يُؤتى» بالمد: على جهة الاستفهام الَّذي هو تقريرٌ «3» ، وفسر أبو عليٍّ قراءة ابن كثيرٍ على أنَّ الكلام كلّه من قول الطائفة إلّا

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 311) برقم (7242) عن قتادة قال: هذا قول بعضهم لبعض. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 454) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 454) . (3) قال الأزهري: ومن قرأ بالمد فهو استفهام معناه الإنكار، وذلك أن أحبار اليهود قالوا لذويهم: أيؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ أي: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. -

الاعتراض الذي هو: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فإنه لا يختلفُ أنَّه من قول الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلا يجوزُ مع الاستفهام أنْ يحمَلَ: «آن يؤتى» على ما قبله مِنَ الفَعْلِ لأن الاستفهامَ قاطعٌ، فيجوزُ أنْ تكونَ «أَنْ» في موضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، وخبرُهُ محذوفٌ، تقديره: تُصدِّقون أو تعترفُون أو تذكِّرونه لغيركم، ونحو هذا ممَّا يدلُّ عليه الكلام. قال ع «1» : ويكونُ «يحاجُّوكم» على هذا معطوفاً على: «أنْ يؤتى» . قال أبو عَلِيٍّ: ويجوز أنْ يكون موضع «أنْ» نَصْباً، فيكونُ المعنَى: أتشيعونَ أو تَذكُرُون أنْ يؤتى أحدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 76] ، فعلى كلا الوجهَيْن/ معنَى الآية توبيخٌ من الأحبارِ للأْتباعِ على تصديقهم بأنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم نَبِيٌّ مبعوثٌ. قال ع «2» : ويكون قوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ في تأويل نصْب «أنْ» بمعنى: أو تريدونَ أنْ يحاجُّوكم. وقال السُّدِّيُّ وغيره: الكلام كله من قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إلى آخر الآية: هو مما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله لأمَّته «3» . وحكَى الزَّجَّاج «4» وغيره أنَّ المعنى: قُلْ إن الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحدٌ مِثْلَ ما أوتيتم. ومعنى الآية على قول السدِّيِّ: أيْ: لم يعط أحدٌ مثْلَ حظِّكم، وإلاَّ فليحاجَّكم مَنِ ادعى سوى ذلك، أو يكون المعنى: أو يحاجُّونكم على معنى الازدراء باليَهُود كأنه قال: أو هَلْ لهم أنْ يحاجُّوكم، أو يخاصمُوكُمْ فيما وهبَكُم اللَّه، وفضَّلكم به، وقال قتادةُ والرَّبيع: الكلام كله من قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إلى آخر الآية هو مما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله للطائفة.

_ - ينظر: «معاني القراءات» (1/ 260) ، و «السبعة» (207) ، و «الكشف» (1/ 147) ، و «الحجة» (3/ 52) ، و «حجة القراءات» (165) ، و «إعراب القراءات» (1/ 114) ، و «العنوان» (80) ، و «شرح الطيبة» (4/ 160) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 482) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 455) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 455) . (3) أخرجه الطبري (3/ 312) برقم (7248) ، وذكره ابن عطية (1/ 456) ، والسيوطي (2/ 76) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي. (4) «معاني القرآن» (1/ 430) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 78]

قال ع «1» : ويحتملُ أنْ يكون قوله: أَنْ يُؤْتى بدلاً من قوله: هُدَى اللَّهِ. قلْتُ: وقد أطالوا الكلامَ هنا، وفيما ذكرناه كفايةٌ. وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ في الآية تكذيبٌ لليهود في قولهم: لَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ أحداً مِثْلَ ما أتى بني إسرائيل من النبوَّة والشَّرف، وباقي الآية تقدَّم تفسير نظيره. [سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 78] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) وقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ... الآية: أخبر تعالى عن أهْل الكتاب أنهم قسْمَانِ في الأمانةِ، ومَقْصِدُ الآية ذمُّ الخَوَنَةِ منْهم، والتفنيدُ لرأيهم وكَذِبِهِمْ على اللَّه في استحلالهم أموالَ العَرَبِ. قال الفَخْرَ «2» وفي الآية ثلاثةُ أقوال: الأول: أنَّ أهل الأمانةِ منهم الَّذين أسْلَمُوا، أمَّا الذين بَقُوا عَلَى اليهوديَّة، فهم مصرُّون عَلَى الخيَانَة لأن مذهبهم أنَّه يحلُّ لهم قَتْلُ كلِّ من خالفهم في الدِّينِ، وأَخْذُ ماله. الثَّاني: أنَّ أهل الأمانة منهم هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهودُ. الثالث: قال ابنُ عَبَّاس: أوْدَعَ رجلٌ عبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ أَلْفاً ومِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فأدَّى إلَيْه، وأودَعَ آخَرُ فِنْحَاصاً اليهوديَّ ديناراً، فخانه، فنزلَتِ الآية. اهـ «3» . قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامِهِ» «4» : قال الطبريُّ «5» : وفائدةُ هذه الآية النهي عن ائتمانهم

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 456) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 88) . (3) ذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 317) . [.....] (4) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 275) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 315) بنحوه.

على مالٍ، وقالَ شيْخُنا أبو عبدِ اللَّهِ المغربيُّ: فائدتُها ألاَّ يؤُتَمَنُوا على دِينٍ يدُلُّ عليه ما بعده في قوله: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ... الآية، والصحيحُ عندي: أنها في المالِ نصٌّ، وفي الدِّينِ تنبيهٌ، فأفادَتِ المعنيين بهذَيْنِ الوجهَيْنِ. قال ابنُ العربيِّ: فالأمانةُ عظيمةُ القَدْرِ في الدِّينِ، ومن عظيمِ قَدْرها أنها تقفُ على جَنَبَتَيِ الصِّراطِ لا يُمَكَّنُ من الجواز إلا مَنْ حفظها، ولهذا وجَبَ علَيْكَ أن تؤدِّيها إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنْ خانك، فتقابل المعْصِيَةَ بالمَعْصية وكذلك لا يجوزُ أنْ تَغْدُرَ مَنْ غَدَرَكِ. قال البخاريُّ: باب إثْمِ الغَادِرِ للْبَرِّ والفَاجِرِ. اهـ. والقِنْطَارُ في هذه الآية: مثالٌ للمالِ الكَثيرِ، يَدْخُلُ فيه أكثر من القِنْطَارِ وأقلُّ، وأَمَّا الدينار، فيحتملُ أنْ يكون كذلك مثالاً لما قَلَّ، ويحتملُ أنْ يريد أنَّ منهم طبقةً لا تخون إلا في دينار فما زاد، ولم يُعْنَ/ لذكْرِ الخائنَين في أقَلَّ إذ هم طَغَامٌ حُثَالَةٌ، ودَامَ: معناه: ثبت. وقوله: قائِماً: يحتملُ معنيين: قال قتادة، ومجاهد، والزَّجَّاج «1» : معناه: قَائِماً على اقتضاءِ حَقِّك «2» ، يريدون بأنواع الاقتضاءِ من الحَفْزِ والمُرَافَعَةِ إلى الحاكِمِ مِنْ غَيْر مراعاة لهيئة هذا الدِّائِم. وقال السُّدِّيُّ وغيره: معنى قَائِماً: على رأسه «3» . وقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ... الآية: الإشارة ب «ذَلِكَ» إلى كونهم لا يؤدُّون الأمانة، أي: يقولون نحن من أهل الكتاب، والعرب أُمِّيُّونَ أَصْحَابُ أوثانٍ، فأموالهم لنا حلالٌ، متى قَدَرْنا على شيْءٍ منها، لا حُجَّة عَلَيْنَا في ذلك، ولا سبيلَ لمعترضٍ. وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذمٌّ لبني إسرائيل بأنهم يَكْذِبُونَ علَى اللَّه سبحانه في غير مَا شَيْءٍ، وهم عالمون بمواضع الصّدق.

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (1/ 433) . (2) أخرجه الطبري (3/ 315) برقم (7258) ، (7259) عن قتادة، وبرقم (7260) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (1/ 458) ، والسيوطي (2/ 77) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) أخرجه الطبري (3/ 316) برقم (7262) ، وذكره ابن عطية (1/ 458) ، والسيوطي (2/ 77) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.

قال ص: وَهُمْ يَعْلَمُونَ: جملةٌ حاليَّةٌ. اهـ. ثم ردَّ اللَّه تعالى في صَدْر قولهم: لَيْسَ عَلَيْنا بقوله: بَلى أي: عليهم سبيلٌ، وحُجَّةٌ، وتِبَاعَةٌ، ثُمَّ أخبر على جهة الشرط أنَّ مَنْ أوفى بالعَهْد، واتقى عقُوبةَ اللَّهِ في نَقْضه، فإنه محبوبٌ عند اللَّه. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ... الآية: آية وعيدٍ لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة، وهي آية يدخُلُ فيها الكُفْر فما دونه من جَحْد الحَقِّ وخَتْرِ «1» المواثيقِ، وكلٌّ يأخذ من وعيدها بحَسَب جريمتِهِ. قال ابنُ العربِيِّ في «أحكامه» «2» : وقد اختلف الناسُ في سَبَب نزول هذه الآيةِ، والذي يصحُّ من ذلك: أنَّ عبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امرئ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية، قال: فجاء الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابن عَمٍّ لِي، وفِي رِوَايَةٍ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليهود أرض، فجحدني، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ» ، قُلْتُ: إذَن يَحْلِفَ، يَا رسول الله، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وذَكَرَ الحديث «3» . اهـ. وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ... الآية: يَلْوُونَ: معناه: يحرِّفون ويتحيَّلون لتبديل المعانِي من جهة اشتباه الألفاظ، واشتراكها، وتشعّب

_ (1) الختر: شبيه بالغدر والخديعة، وقيل: هو الخديعة بعينها، وقيل: هو أسوأ الغدر وأقبحه، وفي التنزيل العزيز: كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان: 32] . ينظر: لسان العرب» (1099) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 277- 278) . (3) أخرجه البخاري (5/ 280) ، كتاب «الشهادات» ، باب اليمين على المدعى عليه، حديث (2669، 2670) ، ومسلم (1/ 122- 123) كتاب «الإيمان» ، باب من اقتطع حق امرئ مسلم بيمين فاجرة، حديث (220/ 138) ، وأبو داود (4/ 41) كتاب «الأقضية» ، باب إذا كان المدعى عليه ذميا، حديث (3621) ، والترمذي (5/ 224) كتاب «التفسير» باب (4) حديث (2996) ، وابن ماجة (2/ 778) كتاب «الأحكام» ، باب البينة على المدعي، حديث (2322) . والحميدي (1/ 53) رقم (95) ، والطيالسي (1/ 246) رقم (1216) ، وأبو عوانة (1/ 38- 39) باب بيان الأعمال التي يستوجب فاعلها عذاب الله، وأبو يعلى (9/ 50- 51) رقم (5114) ، والبيهقي (10/ 178) كلهم من طريق أبي وائل عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان» فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 إلى 80]

التأويلات كقولهم: راعِنا [البقرة: 104] ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء: 46] ونحو ذلك، وليس التبديلُ المحْضُ بِلَيٍّ، وحقيقةُ اللَّيِّ في الثِّيَابِ والحِبَالِ ونحوها، وهو فَتْلُها وإراغتها ومنه: لَيُّ العُنُق، ثم استعمل ذلك في الحُجَج، والخُصُوماتِ والمُجَادلاتِ، والكِتَابُ في هذا الموضع: التوراةُ، والضميرُ في «تَحْسَبُوهُ» للمسلمين. وقوله: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: نفْيٌ أنْ يكون منزَّلاً من عند اللَّه كما ادعوا، وهو من عند اللَّه، بالخَلْق، والاختراع، والإيجاد، ومنهم بالتكسّب. [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وقوله تعالى: مَا كانَ لِبَشَرٍ ... الآية: معناه: النفْيُ التامُّ لأنا نقطع أنَّ اللَّه لا يؤتي النبوّة للكذبة والمدّعين، والْكِتابَ هنا اسم جنس، والْحُكْمَ: بمعنى الحكمة ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحُكْماً» «1» وقال الفَخْر «2» : هنا اتفق أهْلُ اللغة والتفْسير على أنَّ هذا الحكم هو العلْم، قال تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12] يعني: العلم والفهم. اهـ. «وثُمَّ» : في قوله: ثُمَّ يَقُولَ: معطيةٌ تعظيمِ الذنْبِ في القولِ بعد مُهْلة من هذا الإنعام، وقوله: عِباداً: جمع «عَبْدٍ» ، ومن جموعه عَبِيد، وعِبِدَّى. قال ع «3» : والذي أستقْرَيْتُ/ في لفظة العِبَادِ، أنه جَمْعُ عَبْدٍ، متى سيقَتِ اللفظةُ في مضمارِ الترفيعِ، والدلالةِ على الطاعة، دون أنْ يقترن بها معنى التَّحْقير، وتصغير الشأن، وأما العبيد، فيستعمل في التحقير.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 721) ، كتاب «الأدب» ، باب ما جاء في الشعر، حديث (5011) ، والترمذي (5/ 126) ، كتاب «الأدب» ، باب ما جاء إن من الشعر حكمة، حديث (2845) وابن ماجة (2/ 1236) ، كتاب «الأدب» ، باب الشعر، حديث (3756) ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (872) ، وأحمد (1/ 269، 303، 309، 313، 327، 332) ، وأبو يعلى (4/ 220) رقم (2332) ، والبيهقي (10/ 241) ، كتاب «الشهادات» ، باب شهادات الشعراء، كلهم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 98) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 461) .

قال ص: ونوقش ابْنُ عطيَّة بأنَّ «عِبِدَّى» : اسْمُ جمعٍ، وتفريقه بيْن عِبَادٍ وعَبِيدٍ لا يصحُّ. اهـ. قلتُ: وقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الفرقان: 17] ونحوه يوضِّحه. اهـ. ومعنى الآيةِ: ما كان لأحَدٍ من النَّاسِ أنْ يَقُولَ: اعبدوني، واجعلوني إلَهاً، قال النَّقَّاشُ وغيره: وهذه الإِشارة إلى عيسى- عليه السلام-، والآية رادَّة على النصارى، وقال ابنُ عَبَّاس وجماعةٌ من المفسّرين: بل الإشارة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسببُ نزولِ الآيةِ أنَّ أبا رافِعٍ القُرَظِيَّ قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ اجتمعت الأحبارُ من يهودَ، والوَفْدُ مِنْ نصارى نَجْرَانَ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّمَا تُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ وَنَتَّخِذَكَ إلَهاً، كَمَا عَبَدَتِ النصارى عيسى، فَقَالَ الرَّئِيسُ مِنْ نصارى نَجْرَانَ: أَوَ ذَاكَ تُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ، وَإلَيْهِ تَدْعُونَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَعَاذَ اللَّهِ! مَا بِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَلاَ إلَيْهِ دَعَوْتُ» ، فنزلَتِ الآية، قال بعْضُ العلماءِ: أرادَتِ الأحبار أن تلزم هذا القول محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا تلا علَيْهِمْ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] وإنَّما معنى الآيةِ: فاتبعوني فيما أدْعُوكُمْ إليه مِنْ طاعة اللَّهِ، فحرَّفوها بتأوُّلهم، وهذا مِنْ نوع لَيِّهِمُ الكتابَ بألسنتهم، قال الفَخْر «1» وقال ابنُ عبَّاس: إن الآية نزَلَتْ بسبب قولِ النَّصَارَى: المَسِيحُ ابن اللَّهِ، وقولِ اليهود: عُزَيْرٌ ابن اللَّه «2» وقيل: إن رجلاً من المسلِمِينَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَسْجُدُ لَكَ؟ فَقَالَ- عليه السلام-: «مَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلاَّ لِلَّهِ» «3» . قيلَ: وقوله تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يقوِّي هذا التأويل. اهـ. وقوله تعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ... الآيةَ: المعنى: ولكنْ يقول: كونُوا ربانيِّين، وهو جَمْعُ رَبَّانِيٍّ، قال قومٌ: منْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ من حيثُ هو عَالِمٌ ما علمه، عَامِلٌ بطاعته، معلِّم للناس ما أُمِرَ به، وزِيدَتْ فيه النُّونُ مبالغةً، وقال قومٌ: منسوبٌ إلى الرّبَّان، وهو معلِّم الناس، مأخوذ من: رَبِّ يَرُبُّ، إِذا أصلح، وربى، والنُّون أيضا زائدة

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 96) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 323) برقم (7294) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 320) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 462) ، وابن كثير في «تفسيره» (1/ 377) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 82) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس. (3) أخرجه ابن حبان (1291- موارد) بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (1159) ، والبيهقي (7/ 291) ، مختصرا. [.....]

كما زيدَتْ في غَضْبَان، وعَطْشَان «1» ، وفي البخاريِّ: الرَّبَّانِيُّ الذي يُرَبِّى النَاس بصغارِ العِلْمِ قبل كِبارِهِ. قال ع «2» : فجملةُ ما يُقَالُ في الرَّبَّانِيِّ: أنه العالمُ بالرَّبِّ والشرعِ، المصيبُ في التقديرِ من الأقوال والأفعال الَّتي يحاولُها في النَّاس، وقوله: بِما كُنْتُمْ: معناه: بسَبَبِ كونكُمْ عالمينَ دارِسِينَ، ف «مَا» : مصدريةٌ، وأسند أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: العِلْمُ عِلْمَانِ، علْمٌ فِي القَلْب، فَذَلِكَ العِلْمُ النَّافِعُ، وعِلْمٌ في اللسان، فذلك حُجَّة اللَّه (عزَّ وجَلَّ) على ابن آدَمَ «3» ، ومِنْ حديثِ ابن وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «هَلاَكُ أُمَّتِي عَالِمٌ فَاجِرٌ، وعَابِدٌ جَاهِلٌ، وَشَرُّ الشِّرَارِ جَبَّارُ العُلَمَاءِ، وَخَيْرُ الخِيَارِ خِيَارُ العُلَمَاءِ» «4» . اهـ.

_ (1) والربّانيّون جمع ربّانيّ، وفيه قولان: أحدهما: أنه منسوب إلى الرّبّ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة، كرقباني، وشعراني، ولحياني للغليظ الرقبة، والكثير الشعر، والطويل اللحية، ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب، أمّا إذا نسبوا إلى الرقبة، والشعر، واللحية من غير مبالغة قالوا: رقبي وشعري ولحوي، هذا معنى قول سيبويه. والثاني: أنه منسوب إلى ربّان، والربّان هو المعلّم للخير ومن يسوس الناس ويعرّفهم أمر دينهم، فالألف والنون دالّتان على زيادة الوصف كهي في عطشان، وريّان، وجوعان، ووسنان، وتكون النسبة على هذا في الوصف نحو أحمريّ، قال: أطربا وأنت قنّسريّ ... والدّهر بالإنسان دوّاريّ وقال سيبويه: «زادوا ألفا ونونا في الرّباني أرادوا تخصيصا بعلم الرب دون غيره من العلوم، وهذا كما قالوا: شعراني، ولحياني، ورقباني» وفي التفسير: «كونوا فقهاء علماء» ، ولمّا مات ابن عباس قال محمد ابن الحنفية: «مات اليوم ربّانيّ هذه الأمة» . ينظر: «الكتاب» (2/ 89) و «الدر المصون» (2/ 147- 148) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 462) . (3) أخرجه الدارمي (1/ 102) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 235) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1150) ، عن الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. وأخرجه الخطيب (4/ 346) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» رقم (88) . من طريق الحسن عن جابر مرفوعا. وأخرجه ابن الجوزي في «العلل» (89) ، من طريق أبي الصلت الهروي، عن يوسف بن عطية الصفار، عن قتادة، عن الحسن، عن أنس مرفوعا. والحديث ضعيف. (4) ذكره ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1162) من حديث ابن وهب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 85]

وقرأ جمهورُ النَّاس: «تَدْرُسُونَ» بضم الرَّاء: من دَرَسَ، إذا أَدْمَنَ قراءةَ الكِتَابِ، وكرَّره. وقرأ نافع وغيره: «وَلاَ يَأْمُرُكُمْ» برفع الراء: على القَطْع «1» قال سِيبَوَيْهِ: المعنى لا يأمركم اللَّه، وقال ابْنُ جُرَيْجٍ وغيره: المعنى: ولا يأمركم هذا البَشَر الذي أُوتِيَ هذه النعَمَ، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم «2» ، وأما قراءةُ مَنْ نَصَب الراء، وهو حمزةُ وغيره، فهي عَطْفٌ على قوله: أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ، المعنى: ولا له أنْ يأمركم قاله أبُو عَلِيٍّ وغيره «3» ، وهو الصوابُ، لا ما قاله الطَّبَرِيُّ «4» من أنَّها عطْفٌ على قوله: ثُمَّ/ يَقُولَ، والأربابُ في هذه الآية: بمعنى الآلهة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 85] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ: المعنى: واذكر يا محمَّد إذْ، فيحتملُ أن يكون أخذ هذا الميثاق حين أَخرج بني آدم مِنْ ظَهْر آدم نَسَماً، ويحتملُ أنْ يكون هذا الأخْذُ على كلِّ نبيٍّ في زمنه، ووقت بعثه، والمعنى: إنَّ اللَّه تعالى أخذ ميثاقَ كُلِّ نبيٍّ بأنه ملتزمٌ هو ومن آمَنَ به الإيمانَ بمَنْ أتى بعده من الرُّسُل، والنّصر له، وقال ابن عبّاس: إنما

_ (1) ينظر: «السبعة» (213) ، و «الكشف» (1/ 350) ، و «الحجة» (3/ 57) ، و «معاني القراءات» (1/ 264) ، و «حجة القراءات» (168) ، و «العنوان» (80) ، و «إعراب القراءات» (1/ 116) ، و «شرح طيبة النشر» (4/ 161) ، و «شرح شعلة» (319) ، و «إتحاف» (1/ 483) . (2) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (3/ 327) برقم (7320) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 321) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 463) ، والسيوطي في «الدر المنثور» بنحوه (2/ 83) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 463) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 327) .

أخذ اللَّه ميثاقَ النَّبيِّين على قومهم، فهو أخذ لميثاقِ الجميع «1» ، وقال عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ (رضي اللَّه عنه) : لَمْ يبعثِ اللَّهُ نَبِيًّا آدَمَ فَمَنْ بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمّد صلّى الله عليه وسلّم: لَئِنْ بُعثَ، وهو حيٌّ، لَيُؤْمِنَنَّ به، ولينصُرَنَّه «2» ، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآيةَ، وقاله السُّدِّيُّ «3» . وقرأ حمزةُ: «لِمَا» بكسر اللام «4» ، وهي لامُ الجَرِّ، والتقديرُ لأجْلِ ما آتيناكم إذْ أنتم القادَةُ والرءوس، ومَنْ كان بهذه الحال، فهو الذي يُؤْخَذُ ميثاقُهُ، و «ما» في هذه القراءةِ بمعنَى «الَّذِي» ، والعائدُ إلَيْها من الصِّلَة، تقديره: آتيناكموه، و «مِنْ» : لبيان الجنس، وثُمَّ جاءَكُمْ ... الآية: جملةٌ معطوفةٌ على الصِّلة، ولا بُدَّ في هذه الجملة مِنْ ضميرٍ يعودُ على الموصُول، وإنما حذف تخفيفاً لطول الكلام، وتقديره عند سيبويه: رَسُولٌ بِهِ مصَدِّقٌ لِمَا معَكُمْ، واللامُ فِي: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هي اللامُ المتلقِّية للقَسَمِ الذي تضمَّنه أخْذُ الميثاقِ، وفصل بَيْن القَسَم والمُقْسَم عليه بالجارِّ والمجرورِ، وذلك جائِزٌ، وقرأ سائِرُ السَّبْعة «لَمَا» بفتح اللام، وذلك يتخرَّج على وجهين: أَحدهما: أنْ تكون «مَا» موصولةً في مَوْضع رفع بالابتداء، واللاَّمُ لامُ الابتداء، وهي متلقِّية لما أُجْرِيَ مُجْرَى القَسَم من قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ، وخَبَرُ الابتداءِ قولُهُ: لَتُؤْمِنُنَّ، ولَتُؤْمِنُنَّ: متعلِّق بقَسَمٍ محذوفٍ، فالمعنى: واللَّهِ، لَتُؤْمِنُنَّ، قاله أبو عَلِيٍّ «5» وهو متَّجِه بأنَّ الحَلِفَ يقع مرَّتين. والوجْهُ الثاني: أنْ تكونَ «ما» للجزاءِ شرْطاً، فتكون في موضع نصبٍ بالفعلِ الذي

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 330) برقم (7324) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 406) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 322) ، وابن عطية (1/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 84) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 330) برقم (7326) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» بنحوه (1/ 406) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 322) ، وابن عطية (1/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 84) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 330) برقم (7329) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 406) ، وابن عطية (1/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 84) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) ينظر: «السبعة» (213) ، و «الكشف» (1/ 351) ، و «الحجة» (3/ 62) ، و «إعراب القراءات» (1/ 116) ، و «شرح الطيبة» (4/ 161) ، و «معاني القراءات» (265) ، و «شرح شعلة» (320) ، و «إتحاف» (1/ 483) ، و «العنوان» (80) . (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 464) .

بعْدَهَا، وهو مجزومٌ، و «جَاءَكُمْ» : معطوفٌ في موضع جزمٍ، واللام الداخلَةُ على «مَا» ليسَتِ المتلقِّية للقَسَمِ، ولكنها الموطِّئةُ المُؤْذِنَةُ بمجيءِ لامِ القَسَم، فهي بمَنْزِلَة اللاَّم في قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ [الأحزاب: 60] لأنها مؤذِنَةٌ بمجيء المتلقِّية للقسم في قوله: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الأحزاب: 60] وكذلك هذه مؤذنةٌ بمجيء المتلقِّية للقَسَمِ في قوله: «لَتُؤْمِنُنَّ» . وقرأ نافعٌ وحْده: «آتَيْنَاكُمْ» ، بالنُّون، وقرأ الباقون: «آتَيْتُكُمْ» بالتاء «1» ، ورَسُول في هذه الآية: اسمُ جنسٍ، وقال كثيرٌ من المفسرين هو نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ... هذه الآية: هي وصْفُ توقيفِ الأنبياء- عليهم السلام- على إِقرارهم بهذا الميثاق، والتزامهم له، وَأَخَذْتُمْ في هذه الآية: عبارةٌ عمَّا تحصَّل لهم من إيتاء الكُتُبِ والحِكْمة، فَمِنْ حيْثُ أخذ عليهم، أخذوا هم أيضًا، وقال الطَّبَرِيُّ «2» : أَخَذْتُمْ في هذه الآية: معناه: قَبِلْتُمْ، والإصْر: العَهْد لا تَفْسِير له في هذا الموضع إلا ذَلِكَ «3» . وقوله تعالى: فَاشْهَدُوا يحتملُ معنَيَيْنِ: أحدهما: فاشهدوا/ على أممكم المؤمنينِ بكُمْ، وعلى أنْفُسِكُمْ بالتزام هذا العَهْد، قاله الطَّبَرِيُّ، وجماعة «4» . والمعنى الثاني: بُثوا الأمْرَ عنْد أممكم، واشهدوا به، وشهادةُ اللَّهِ على هذا التأويل هي إعطاء المُعْجَزَاتِ، وإقرارُ نبوّاتهم، هذا قول الزّجّاج وغيره «5» .

_ (1) وحجة نافع قوله تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [الإسراء: 55] ، وقوله سبحانه: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ [الصافات: 117] ، ونحوه. ينظر: «حجة القراءات» (168) ، و «السبعة» (214) ، و «الحجة» (3/ 69) ، و «معاني القراءات» (1/ 265) ، و «إعراب القراءات» (1/ 116) ، و «شرح شعلة» (319) ، و «العنوان» (80) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (1/ 484) . [.....] (2) ينظر: «الطبري» (3/ 332) . (3) وأصل الإصر: الثّقل والشّدّ. والإصر- أيضا-: الذنب. والإصر- أيضا-: والأصر ما عطفك على شيء. ينظر: «لسان العرب» (86، 87) . (4) ينظر: «الطبري» (3/ 333) . (5) ينظر: «معاني القرآن» (1/ 437) .

وقال ع «1» : فتأمَّل أنَّ القول الأول هو إيداعُ الشهادةِ واستحفاظها، والقولُ الثَّانِي هو الأمر بأدائها، وحَكَمَ تعالى بالفِسْقِ على مَنْ تولى مِنَ الأمم بَعْدَ هذا الميثاق، قاله عليُّ بْنُ أبي طَالِبٍ، وغيره «2» ، وقرأ أبو عَمرٍو: «يَبْغُونَ» بالياء مِنْ أَسْفَلُ مفْتُوحَة «3» ، و «تَرْجِعُونَ» بالتَّاء من فوقُ مضمومةً، وقرأ عاصمٌ بالياءِ من أسفَلُ فيهما، وقرأ الباقُون بالتَّاء فيهما، ووجوه هذه القراءاتِ لا تخفى بأدنى تأمُّل. وتبغون: معناه: تَطْلُبُونَ. قال النوويِّ: ورُوِّينَا في كتاب ابن السُّنِّيِّ، عن السَّيِّدِ الجليلِ المُجْمَعِ على جلالته وحِفْظِهِ ودِيَانَتِهِ وَوَرَعِهِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ دِينَارٍ البَصْرِيِّ الشَّافِعِيِّ المشهور «4» أنه قَالَ: لَيس رجُلٌ يكونُ على دابَّة صَعْبَةٍ، فيقول في أذنها: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، إلا وقَفَتْ بإذن اللَّه تعالى. وروِّينَا في كتاب ابن السّنّيّ، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إذَا انفلتت دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ فلاة، فليناد: يا عباد الله، احبسوا، يَا عِبَادَ اللَّهِ، احبسوا، فَإنَّ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ فِي الأَرْضِ حَاضِراً سَيَحْبِسُهَا «5» . قال النَّوويُّ «6» : حكى لِي بعُضْ شُيُوخِنا أَنَّهُ انفلتت لَهُ دابّة أظنّها بغلة، وكان يعرف

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 466) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 333) برقم (7337) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 466) . (3) وهي رواية حفص عن عاصم، وحجتهما أن الخطاب قد انقضى بالفصل بينه وبين ذلك بقوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ ... الآية، ثم إن المعنى حينئذ: اليهود. ينظر: «السبعة» (214) ، و «الكشف» (1/ 253) ، و «العنوان» (80) ، و «الحجة للقراء السبعة» (3/ 69) ، و «حجة القراءات» (170) ، و «شرح شعلة» (320) ، و «شرح الطيبة» (4/ 162) ، و «إتحاف» (1/ 484) ، و «معاني القراءات» (1/ 267) . (4) يونس بن عبيد بن دينار الإمام القدوة، الحجة، أبو عبد الله العبدي، مولاهم البصري، من صغار التابعين وفضلائهم. رأى أنس بن مالك، وحدث عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وعكرمة، قال علي بن المديني: له نحو مائتي حديث، وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال أحمد وابن معين والناس: ثقة. ينظر: «السير» (6/ 288) ، «طبقات ابن سعد» (7/ 260) ، «الكامل» (5/ 487) ، «حلية الأولياء» (3/ 15- 27) . (5) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» ، حديث (542) . (6) ينظر: «حلية الأبرار» (ص 257) .

هذا الحديثَ، فقالَهُ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ في الحَالِ، وكنْتُ أَنَا مرَّةً مع جماعةٍ، فانفلتت منَّا بهيمةٌ، فَعَجَزُوا عَنْها، فَقُلْتُهُ، فوقَفَتْ في الحال بغَيْر سَبَبٍ سوى هذا الكلامِ. اهـ. وأَسْلَمَ: معناه: استسلم، عند الجمهور. واختلفوا في معنى قوله: طَوْعاً وَكَرْهاً، فقال مجاهد: هذه الآيةُ كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] فالمعنى: أنَّ إقرار كلِّ كافرٍ بالصانعِ هو إسلامٌ كرهاً «1» ، ونحوه لأبي العالية، وعبارته: كُلُّ آدمِيِّ، فقد أقرَّ على نفسه بأنَّ اللَّه رَبِّي، وأنا عبده، فمَنْ أشرك في عبادته، فهو الذي أسلم كرهاً، ومن أخلَص، فهو الذي أسلم طَوْعاً «2» . قال ع «3» : والمعنى في هذه الآية يفهم كلُّ ناظر أنَّ الكره خاصٌّ بأهل الأرض. وقوله سبحانه: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ: توقيفٌ لمعاصرِي نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم من الأحبار والكفّار. قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ... الآية: المعنى قل يا محمّد، أنت وأمّتك: آمَنَّا بِاللَّهِ ... الآية، وقد تقدَّم بيانها في «البقرة» ، ثم حكم تعالى في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ ... الآيةَ بأنه لا يقبل من آدمي دِيناً غير دين الإسلام، وهو الَّذي وافَقَ في معتقداته دِينَ كُلِّ مَنْ سمي من الأنبياء- عليهم السلام-، وهو الحنيفيَّة السَّمْحة، وقال بعض المفسِّرين: إن مَنْ يَبْتَغِ ... الآيةَ، نزلَتْ في الحارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ «4» ، قُلْتُ: وعلى تقدير صحَّة هذا القول، فهي تتناولُ بعمومها من سواه إلى يوم القيامة.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 334) برقم (7340) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 85) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (2) ذكره ابن عطية (1/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 86) . وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 467) . (4) الحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري الأوسي، ووقع لابن عبد البر الحارث بن سويد، ويقال: ابن مسلم المخزومي، ارتدّ ولحق بالكفار فنزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً. ينظر: «الإصابة» (1/ 671- 672) ، «أسد الغابة» ت (899) . [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 إلى 89]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) وقوله تعالى: / كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ... الآيات: قال ابنُ عَبَّاس: نَزَلَتْ هذه الآياتُ من قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ في الحارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ الأنْصَارِيِّ، كان مُسْلِماً، ثم ارتد وَلحِقَ بالشرك، ثم نَدِمَ، فأرْسَلَ إلى قومه أن سلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فنزلَتِ الآياتُ إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا، فأرسلَ إلَيْهِ قومُهُ، فأسْلَمَ «1» ، قال مجاهدٌ: وحَسُنَ إسْلاَمُهُ «2» ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ أيضًا والحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ: نَزلَتْ في اليهود والنّصارى، شهدوا ببعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وآمنوا به، فلَمَّا جاء من العَرَب، حَسَدُوه، وكَفَرُوا «3» به، ورجَّحه الطبري «4» . وقال النقِّاش: نزلَتْ في طُعَيْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ «5» . قال ع «6» : وكُلُّ مَنْ ذُكِرَ، فألفاظ الآيةِ تعمُّه. وقوله تعالى: كَيْفَ: سؤالٌ عن حال لكنَّه سؤال توقيفٍ على جهة الاستبعادِ للأمْر، فالمعنى أنهم لشدَّة هذه الجرائِمِ يبعد أنْ يهديَهُم اللَّه جميعًا، وباقي الآيةِ بيِّن. قال الفَخْر «7» : واستعظم تعالى كُفْرَ هؤلاء المرتدِّين بَعْدَ حصولِ هذه الخِصَالِ الثَّلاث لأن مثل هذا الكُفْر يكونُ كالمعانَدَة والجُحُود وهذا يدلُّ على أنَّ زَلَّة العالِمِ أقبح من زلّة الجاهل. اهـ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 93] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 338) برقم (7358) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 468) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 87) ، وعزاه للنسائي، وابن حبان، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» ، من طريق عكرمة. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 468) . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 88) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (4) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 320) . (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 468) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 468) . (7) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 112) .

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ... الآية: قال أبو العَالِيَة رفيع: الآية في اليهود كفروا بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم بعد إيمانهم بصفاته، وإقرارِهِمْ أنها في التَّوراة، ثم ازدادوا كُفْراً بالذُّنوبِ الَّتي أصابوها في خلاف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الافتراءِ، والبَهْتِ، والسَّعْي على الإسلام، وغير ذلك «1» . قال ع «2» : وعلى هذا الترتيبِ يَدْخُلُ في الآية: المرتدُّون اللاحقون بقُرَيْش، وغيرُهم. وقال مجاهد: معنى قوله: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً، أي: أتموا على كُفْرهم، وبلغوا المَوْت «3» به. قال ع «4» : فيدخُلُ في هذا القولِ: اليهودُ، والمرتدُّون، وقال السُّدِّيُّ نحوه «5» ، ثم أخبر تعالى أنَّ توبة هؤلاءِ لَنْ تقبَل، وقد قررت الشريعةُ أنَّ توبة كلِّ كافر تقبل، فلا بُدَّ في هذه الآيةِ مِنْ تخصيصٍ تُحْمَلُ عليه، ويصحُّ به نَفْيُ قبولِ التَّوبة، فقال الحسن وغيره: المعنى: لَنْ تُقْبَلَ توبتُهم عنْدَ الغَرْغَرَةِ والمعاينة، وقال أبو العاليَةِ: المعنى: لَنْ تُقْبَلَ توبتْهم مِنْ تلك الذُّنُوبِ الَّتي أصابُوها مع إقامتهم على كفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم «6» . قال ع «7» : وتحتملُ الآية عنْدي أنْ تكونَ إشارةً إلى قومٍ بأعيانهم من المرتدِّين، وهم الذين أشار إلَيْهم بقوله سبحانه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً [آل عمران: 86] ، فأخبر عنهم أنَّه لا

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 341) برقم (7374، 7375) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 408) ، وأسنده لأبي العالية، وذكره أيضا ابن عطية (1/ 469) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 88) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 469) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 470) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 88) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 470) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 342) برقم (7381) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 88) ، وعزاه لابن جرير. (6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 470) . (7) ينظر: المصدر السابق. [.....]

تكونُ منهم توبَةٌ، فيتصوَّر قبولها فكأنه أخبر عن هؤلاء المعيَّنين أنهم يموتون كُفَّاراً، ثم أخبر الناسَ عَنْ حُكْم كلِّ مَنْ يموت كافراً، والمِلْء: ما شُحِنَ به الوعاء، وقوله: وَلَوِ افْتَدى بِهِ، قال الزَّجَّاج «1» : المعنى: لَنْ يقبلَ منْ أحدهم إنفاقُهُ وتقرُّباته في الدُّنْيَا، ولو أنفق مِلْءَ الأرْض ذَهَباً، ولو افتدى أيضًا به في الآخرة، لَنْ يقبَل منْه، قال: فأَعْلَمَ اللَّهُ أنه لا يُثِيبُهُم على أعمالهم من الخَيْر، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب. قال ع «2» : وهذا قولٌ حسَنٌ، وقال قوم: الواو زائدةٌ، وهذا قولٌ مردودٌ، ويحتملُ المعنى نفْيَ القَبُول على كلِّ وجه، ثم خص مِنْ تلك الوجوهِ أليقها وأحراها بالقَبُول، وباقي الآية وعيدٌ بَيِّن، عافانا اللَّه من عقابِهِ، وخَتَمَ لنا بما خَتَمَ به للصَّالحين من عباده/. وقوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... الآية: خطابٌ لجميعِ المؤمنين، فتحتملُ الآية أنْ يريد لَنْ تنالوا بِرَّ اللَّه بكُمْ، أي: رحمتَهُ ولُطْفَه، ويحتملُ أنْ يريد لَنْ تنالوا درجَةَ الكمالِ مِنْ فعْلِ البِرِّ حتى تكونُوا أبراراً إلاَّ بالإنفاقِ المُنْضَافِ إلى سائر أعمالكم. قال ص: قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ: «مِنْ» : للتبعيضِ تدلُّ عليه قراءةُ عبْد اللَّهِ: «بَعْضِ مَا تُحِبُّونَ» «3» اهـ. قال الغَزَّالِيُّ: قال نافعٌ: كانَ ابْنُ عُمَرَ مريضاً، فاشتهى سَمَكَةً طَرِيَّةً، فحملتْ إلَيْه على رغيفٍ، فقام سائلٌ بالبابِ، فأمر بدفعها إلَيْه، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أيّما امرئ اشتهى شَهْوَةً، فَرَدَّ شَهْوَتَهُ، وآثَرَ على نَفْسِهِ غفر الله له» «4» اهـ من «الإحياء» .

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (1/ 441) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 470) . (3) ينظر: «الكشاف» (1/ 385) ، و «البحر المحيط» (2/ 546) ، و «الدر المصون» (2/ 166) . (4) ذكره الهندي في «الكنز» (43112) ، وعزاه للدار قطني في الأفراد، وأبي الشيخ في «الثواب» . وقال الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (3/ 257) : أخرجه ابن حبان في «الضعفاء» ، وأبو الشيخ في «الثواب» من حديث ابن عمر بسند ضعيف. اهـ. والحديث أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 138) ، من طريق عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع، عن ابن عمر به. وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع، والمتهم به عمرو بن خالد، قال وكيع: كان في جوارنا يضع الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يروي موضوعات كذبه أحمد، ويحيى. واعلم أن جهلة المتزهدين بنوا على مثل هذا الحديث الواهي، فتركوا كل ما تشتهيه النفس، فعذبوا أنفسهم لمجاهدتها في ترك كل ما يشتهى من المباحات، وذلك غلط لأن للنفس حقّا، ومتى ترك كل ما-

قال ع «1» : وبسبب نزول هذه الآيةِ تَصَدَّقَ أبو طَلْحَةَ بحائِطِه المسمى بَيْرَحاً، وتصدَّق زيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بفَرَسٍ كان يحبُّها، وكان عبد اللَّه بنُ عُمَرَ يشْتَهِي أكْلَ السُّكَّر باللّوز، فكان يَشْتَرِي ذلك، ويَتصدَّق به «2» . قال الفَخْر «3» : والصحيحُ أنَّ هذه الآية في إيتاء المالِ على طريق النَّدْب، لا أنها في الزكاة الواجِبَةِ. اهـ. وقوله سبحانه: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ شرطٌ وجوابٌ فيه وعْد، أي: عليمٌ مُجَازٍ به، وإن قَلَّ. وقوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية إخبار بمغيّب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعلمه إلا اللَّه، وعُلَماءُ أهْلِ الكِتَابِ، وحِلاَّ: معناه: حَلاَلاً، والآيةُ ردُّ على اليهودِ في زَعْمهم أنَّ كُلَّ ما حَرَّموه على أنفسهم أنه بأمر اللَّه تعالى في التوراة، فأكذبهم اللَّه تعالى بهذه الآية، وقوله سبحانه: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ، أي: فهو محرَّم عليهم في التَّوْراة، لا هذه الزوائد التي افتروها. وقال الفَخْر «4» : قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ، المعنى: أنَّ قَبْلَ نُزُولِ التوراةِ كان حَلاَلاً لبني إسرائيل كُلُّ أنواعِ المطْعُوماتِ سوى ما حرَّمه إسرائيلُ على نفسه، فأما بعد نزولِ التوراةِ، فلم يَبْقَ الأمرُ كذلك، بل حَرَّم اللَّه عليهمْ أنواعاً كثيرةً بسبب بَغْيِهِمْ، وذلك هو عَيْنُ النَّسْخِ الذي هُمْ له منكرون. اهـ.

_ - تشتهيه أثر في صورتها ومعناها. أما في صورتها، فإن جسدها قد بني على أخلاط وفي باطنها طبيعة مستحثة على ما يصلحها، فإذا قلّت عندها الرطوبة مالت إلى المرطبات، وإذا كثرت فيها طلبت المنشفات، طلبا لإصلاح بدنها، فإذا منعت ما ركبت عليه من طلب الملائم كان ذلك مضادا لحكمة الواضع، ومبالغة في أذى النفس. وأما في معناها ينكمد برد أغراضها إذ نيل أغراضها يقوي حاستها، فلا ينبغي أن يترك من أغراضها، إلا ما خاف من تناوله، إما الملائم أو التثبط عن الطاعة، أو فوات خيرها، وإنما المنع من ترك شهواتها على الإطلاق. وأما إذا اشتهت شيئا من فضول العيش، فآثرت به، فالثواب حاصل، وذلك داخل في قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 471) . (2) ذكره ابن عطية (1/ 471) . (3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 118) . (4) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 123) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 94 إلى 97]

قال ع «1» : ولم يختلفُ فيما علمتُ أنَّ سبَبَ تحريمِ يَعْقُوبَ ما حرَّمه على نَفْسِهِ هو بمَرَضٍ أصابه، فَجَعَلَ تحريمَ ذلِكَ شُكْراً للَّه، إنْ شُفِيَ، وقيل: هو وَجَعُ عِرْقِ النّسا، وفي حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ عِصَابَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، قَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، مَا الَّذِي حَرَّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّه! هَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً، فَطَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْراً، إنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ، لَيُحْرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إلَيْهِ لُحُومَ الإبِلِ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إلَيْهِ أَلْبَانَهَا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ، نَعَمْ» «2» . قال ع «3» : وظاهرُ الأحاديثِ والتفاسيرِ في هذا الأمْرِ أنَّ يعقوبَ- عليه السلام- حَرَّم لُحوم الإبلِ وألْبَانَهَا، وهو يحبُّها تقرُّباً بذلك إذْ ترك الترفُّه والتنعُّم من القُرَبِ، وهذا هو الزهْدُ في الدُّنْيا، وإليه نَحَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ (رضي اللَّه عنه) بقوله: «إيَّاكُمْ وهذه المَجَازِرَ فإنَّ لها ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الخَمْرِ» ومِنْ ذلك قولُ أبِي حَازِمٍ الزاهِدِ، وقدْ مَرَّ بسُوقِ الفَاكِهَةِ، / فرأى مَحَاسِنَهَا، فقَالَ: مَوْعِدُكَ الجَنَّةُ، إنْ شاء الله. وقوله عز وجلّ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ ... الآية: قال الزَّجَّاج «4» : وفي هذا تعجيز لهم، وإقامة للحجة عليهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 94 الى 97] فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) وقوله سبحانه: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، أي: مِنْ بعد ما تبيَّن له الحَقُّ، وقيامُ الحُجَّة، فهو الظَّالِمُ. وقوله: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ، أي: الأمر كما وصَفَ سبحانه، لا كما تَكْذُبونَ، فإن كنتم تَعْتزونَ إلى إبراهيم، فاتبعوا ملَّته على ما ذكر الله.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 473) . (2) رواه الطبري (7402) عن ابن عباس، وزاد السيوطي في «الدر» (2/ 92) فعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. وأخرجه الطبري (7400) عن الضحّاك. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 473) . (4) ينظر: «معاني القرآن» (1/ 444) .

وقوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...... الآية: لا مِرْيَة أنَّ إبراهيم- عليه السلام- وضع بيْتَ مكة، وإنما الخلافُ، هَلْ هو وضع بَدْأَةً أوْ وُضِعَ تجديداً؟ وقال الفَخْر «1» : يحتمل أولاً في الوضْعِ والبناءِ، ويحتملُ أنْ يريد أولاً في كونه مباركاً، وهذا تحصيلُ المفسِّرين في الآية. اهـ. قال ابن العربيِّ في «أحكامِهِ» «2» وكونُ البَيْتِ الحَرَامِ مُبَارَكاً، قيل: بركَتُهُ ثوابُ الأعمال هناك، وقيل: ثوابُ قاصِدِيهِ، وقيل: أمْنُ الوَحْش فيه، وقيل: عُزُوفُ النفْسِ عن الدنيا عِنْدَ رؤيته، قال ابنُ العربيِّ «3» : والصحيحُ عِنْدَي أنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كلِّ وجْهٍ مِنْ وجوه الدنْيَا والآخرة وذلك بجميعه موجودٌ فيه. اهـ. قال مالكٌ في سماعِ ابن القاسِمِ من «العتبية» : بَكَّة موضعُ البَيْت، ومَكَّة غيره مِنَ المواضعِ، قال ابن القاسِمِ: يريد القَرْيَةَ «4» ، قلتُ: قال ابنُ رُشْدٍ في «البيان» «5» : أرى مالكاً أخَذَ ذلك مِنْ قول اللَّه عزَّ وَجَلَّ لأنه قال تعالى في بَكَّة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً، وهو إنما وضع بموضعه الَّذي وُضِعَ فيه لا فيما سواه من القرية، وقال في «مَكَّة» وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح: 24] وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البَيْتَ. اهـ. وقوله سبحانه: فِيهِ، أي: في البيت آياتٌ بَيِّناتٌ، قال ع «6» : والمترجِّح عندي أنَّ المَقَامَ وأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلاَ مثالاً ممَّا في حَرَمِ الله من الآيات وخصّا بالذكر لعظمهما، ومَقامُ إِبْراهِيمَ: هو الحَجَرُ المعروفُ قاله الجمهور، وقال قوم: البيتُ كلُّه مقامُ إبراهيم، وقال قومٌ: الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيم، والضميرُ في قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ عائدٌ على البَيْت في قول الجمهور، وعائد على الحرم

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 125) . [.....] (2) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 2830) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 283- 284) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 474) . (5) صاحب «البيان» هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي. وكتاب «البيان» هو كتاب «البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل» ، وهي مستخرجة العتبي المسماة «العتبية» ، وهو كتاب عظيم نيف على عشرين مجلدا. ينظر: «شجرة النور» (1/ 129) ، و «هدية العارفين» (2/ 85) ، و «الديباج المذهب» (2/ 248) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 475) .

في قول مَنْ قَالَ: مقامُ إبراهيم هو الحرم. وقوله: كانَ آمِناً قال الحَسَنُ وغيره: هذه وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهلية، إذا دخَلَ أحدٌ الحَرَمَ، أَمِنَ، فلا يُعْرَضُ له، فأما في الإسلام، فإن الحرم لا يَمْنَعُ مِنْ حَدٍّ مِنْ حدودِ اللَّه، وقال يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ: معنى الآية: ومَنْ دخل البيتَ، كان آمناً من النَّار، وحكى النقَّاش عن بَعْض العُبَّاد، قال: كُنْتُ أطوفُ حوْلَ الكعبةِ لَيْلاً، فقلْتُ: يا رَبِّ، إنّك قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، فمماذا هو آمنٌ؟ فسمعتُ مكلِّماً يكلِّمني، وهو يقولُ: مِنَ النَّارِ، فنظَرْتُ، وتأمَّلت، فما كان في المكان أحد، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «1» : وقول بعضهم: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً من النار- لا يصحُّ حمله على عمومه، ولكنه ثَبَتَ أنَّ مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ «2» ، والحَجُّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجنّة «3» . قال ذلك كلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهـ.

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 285) . (2) أخرجه البخاري (3/ 382) ، كتاب «الحج» ، باب فضل الحج المبرور، حديث (1521) ، (4/ 25) ، كتاب «المحصر» ، باب قوله الله تعالى: فَلا رَفَثَ، حديث (1819) ، وباب قول الله (عز وجل) : وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، حديث (1820) . ومسلم (2/ 983) ، كتاب «الحج» ، باب في فضل الحج والعمرة، حديث (438/ 1350) . والنسائي (5/ 14) ، كتاب «الحج» ، باب فضل الحج. والترمذي (3/ 176) ، كتاب «الحج» ، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، حديث (81) . وابن ماجة (2/ 964- 965) ، كتاب «المناسك» ، باب فضل الحج والعمرة، حديث (2889) . وأحمد (2/ 248، 410، 484) ، والطيالسي (1/ 202- منحة) رقم (975) . والدارمي (2/ 31) ، كتاب «المناسك» ، باب في فضل الحج والعمرة، وأبو يعلى (11/ 61) رقم (6198) . وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 316) . وابن خزيمة (4/ 131) رقم (2514) ، وابن حبان رقم (3702- الإحسان) . والبيهقي (5/ 67) ، كتاب «الحج» ، باب لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/ 222) ، والحميدي (2/ 440) رقم (1004) ، والبغوي في «شرح السنة» (4/ 4- بتحقيقنا) . كلهم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. (3) أخرجه البخاري (3/ 698) في العمرة: باب العمرة، وجوب العمرة وفضلها (1773) ، ومسلم (2/ 983) في الحج: باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (437- 1349) ، والنسائي (5/ 115) في الحج: باب فضل العمرة. والترمذي (3/ 272) في الحج، باب ما ذكر في فضل العمرة (933) . وابن ماجة (1/ 964) في المناسك: باب فضل الحج والعمرة (2888) . وأحمد (2/ 246، 261، 262) ، والدارمي (2/ 31) في المناسك: باب في فضل الحج والعمرة، من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرّحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة مرفوعا: «العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... الآية: هو فرضُ الحجِّ في كتابِ اللَّه بإجماع، وقرأ حمزةُ، والكِسَائيُّ، وحَفْص عن عاصِمٍ: «حَجُّ الَبْيتِ» بكَسْر الحاء، وقرأ الباقُونَ بفتحها «1» ، / فَبِكَسْر الحاء: يريدُون عَمَلَ سَنَةٍ واحدةٍ، وقال الطبريُّ «2» : هما لُغَتَانِ الكَسْر: لُغَةُ نَجْدٍ، والفتْحُ لغة أهل العَالِيَةِ. وقوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «مَنْ» : في موضعِ خَفْضٍ بدلٍ من «النَّاس» ، وهو بدلُ البَعْض من الكلِّ، وقال الكسائيُّ وغيره: هي شَرْطٌ في موضع رفعٍ بالابتداء، والجوابُ محذوفٌ، تقديره: فَعَلَيْهِ الحِجُّ ويدلُّ عليه عطْفُ الشرطِ الآخَرِ بعده في قوله: وَمَنْ كَفَرَ، وأسند الطبريُّ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً، فَلَمْ يَحُجَّ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا «3» ، وذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ قوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كلامٌ عامٌّ لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ، ولا غَيْرِ ذلك، بل إذا كان مستطيعاً غَيْرَ شاقٍّ على نفسه، فقد وجَبَ علَيْه الحَجُّ، وإليه نحا مَالِكٌ في سماع أَشْهَبَ، وقال: لا صِفَةَ في هذا أبْيَنُ ممَّا قال الله تعالى. هذا أنْبَلُ الأقوال، وهذه مِنَ الأمور التي يتصرَّف فيها فِقْهُ الحال، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائدٌ على البيت، ويحتملُ عَلَى الحِجِّ. وقوله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ، قال ابن عبَّاس وغيره: المعنى: مَنْ زعم أنَّ الحَجَّ ليس بفَرْضٍ عليه «4» ، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأَ هذه الآيةَ، فقَالَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ تَرَكَهُ، كَفَرَ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من تركه، لا

_ (1) ينظر: «السبعة» (214) ، و «الكشف» (1/ 253) ، و «الحجة» (3/ 71) ، و «العنوان» (80) ، و «حجة القراءات» (170) ، و «إعراب القراءات» (1/ 117) ، و «شرح شعلة» (320) ، و «شرح الطيبة» (4/ 162) ، وإتحاف» (1/ 485) ، و «معاني القراءات» (1/ 268) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 366) . (3) أخرجه الدارمي (2/ 29) ، كتاب «الحج» ، باب من مات ولم يحج. وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 251) ، من طريق شريك، عن ليث، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة مرفوعا. ومن هذا الوجه أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 210- بتحقيقنا) ، وقال: لا يصح. وأعله بالمغيرة بن عبد الرّحمن، قال يحيى: ليس بشيء. وفيه ليث، وقد ضعفه ابن عيينة، وتركه يحيى القطان، ويحيى بن معين، وابن مهدي، وأحمد. قلت: ولا وجه لإعلاله بالمغيرة لأنه توبع على هذا الحديث، تابعه الدارمي، ومحمد بن أسلم، عن أبي نعيم في «الحلية» . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 367) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 411) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 330) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 101) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 101]

يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، ومَنْ حَجَّهُ لاَ يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَهُوَ ذَلِكَ» «1» ، وقال بمعنى هذا الحديثِ ابْنُ عبَّاس وغيره، وقال السُّدِّيُّ وجماعة مِنْ أهْل العلْم. معْنَى الآيةِ: مَنْ كَفَر بأنْ وَجَد ما يَحُجُّ به، ثم لَمْ يَحُجَّ، قال السُّدِّيُّ: مَنْ كان بهذه الحالِ، فهو كافرٌ «2» ، يعني: كُفْرَ مَعْصية، ولا شكَّ أنَّ مَنْ أنعم اللَّه علَيْه بمالٍ وصحَّة، ولم يَحُجَّ، فقد كَفَر النِّعْمَةَ، وقال ابنُ عُمَر وجماعةٌ: معنى الآيةِ: ومن كَفَر باللَّه واليومِ الآخِرِ، قال الفَخْر «3» : والأكثرون هم الذين حَمَلُوا الوعيدَ على مَنْ ترك اعتقادَ وُجُوبَ الحجِّ، وقال الضَّحَّاك: لما نَزلَتْ آية الحَجِّ، فأعْلَمِ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بذَلِكَ أَهْلَ المِلَلِ، وقَالَ: «إنَّ اللَّه تعالى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الحَجُّ، فحُجُّوا» ، فَآمَنَ بِهِ المُسْلِمُونَ وَكَفَرَ غَيْرُهُم «4» فَنَزَلَتِ الآيةُ، قَالَ الفَخْرُ «5» : وهذا هو الأقوى، واللَّه أعلم. اهـ. ومعنى قوله تعالى: غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ: الوعيدُ لِمَنْ كفر، والقَصْدُ بالكلامِ: فَإنَّ اللَّه غنيٌّ عنهم، ولكن عمَّم اللفظ ليَبْرَعَ المعنى، وتنتبه الفِكَرُ لقدرته سبحانه، وعظيم سلطانه، واستغنائه عن جميعِ خَلْقِهِ لا ربّ سواه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 101] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) وقوله عزّ وجلّ: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ. هذه الآياتُ: توبيخٌ لليهود المعاصرين للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والكتابُ: التوراةُ، وآياتُ اللَّه يحتملُ أنْ يريدَ بها القُرآن، ويحتملُ العلاماتِ الظاهرةَ على يَدَيِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقوله

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 368) رقم (7509) ، عن أبي داود نفيع. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 101) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 480) . [.....] (3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 135) . (4) أخرجه الطبري (7/ 49- 50) برقم (7516) ، وسعيد بن منصور رقم (515) . كلاهما من طريق جويبر عن الضحاك به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 101) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (5) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 135) .

سبحانه: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ وعيدٌ محض، قال الطبريّ «1» : هاتان الآيتان: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وما بعدهما إلى قوله: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] ، نزلَتْ بسبب رَجْلٍ من اليهودِ، حاول الإغراء بَيْن الأوس والخَزْرَج، قال ابنُ إسْحَاق: حدَّثني الثِّقَةُ عَنْ زَيْدِ بنِ أسْلَم، قال: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ اليَهُودِيُّ، وكان شَيْخاً قَدْ عَسَا فِي الجَاهِلِيَّةِ عَظِيمَ الكُفْر، شَدِيدَ الضِّغْن على المُسْلمين/، والحَسَدِ لهم على نَفَرٍ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ، وَهُمْ في مَجْلِسٍ يتحدَّثُونَ، فغَاظَهُ مَا رآه مِنْ جماعَتِهِمْ وصَلاَحِ بَيْنِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ بينَهُمْ مِنَ العَدَاوَةِ، فَقَالَ: قَدِ اجتمع مَلأ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ البِلاَدِ، واللَّهِ، مَا لَنَا مَعَهُمْ، إذَا اجتمع مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَر فَتًى شَابًّا مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: اعمد إلَيْهِمْ، واجلس مَعَهُمْ، وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثَ، وَمَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ أَيَّامِ حَرْبِهِمْ، وَأَنْشِدْهُمْ مَا قَالُوهُ مِنَ الشِّعْرِ فِي ذَلِكَ، فَفَعَلَ الفتى، فَتَكَلَّمَ القَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَتَفَاخَرُوا، وَتَنَازَعُوا حتى تَوَاثَبَ رَجُلاَنِ مِنَ الحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكَبِ أوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ مِنَ الأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْر مِنَ الخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلاَ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ شِئْتُمْ، وَاللَّهِ، رَدَدْنَاهَا الآنَ جَذَعَةً، فَغَضِبَ الفَرِيقَانِ، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلاَحَ السِّلاَح! مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةُ، يُرِيدُونَ: الحَرَّةَ، فَخَرَجُوا إليها وتحاوز النَّاسُ على دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الجاهليّة، وبلغ ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ المُهَاجرِينَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، اللَّه اللَّه، أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ «2» ، وَوَعَظَهُمْ، فَعَرَفَ القَوْمُ أَنَّهَا نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَلْقُوا السِّلاَحَ، وَبَكَوْا، وَعَانَقَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً مِنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، وانصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَاسِ بْنِ قيسٍ، وما صَنَعَ هذه الآيات. وقال الحَسَنُ وغيره: نزلَتْ في أحْبَار اليَهُود الَّذِينَ يَصُدُّون المُسْلِمِينَ عَنِ الإسلام، ويَقُولُون: إن محمَّداً ليس بالموصُوفِ في كتابنا «3» . قال ع «4» : ولا شَكَّ في وقوعِ هَذيْن الشيئَيْن، وما شاكَلَهما مِنْ أفعال اليهودِ وأقوالِهِمْ، فَنَزَلَتِ الآياتُ في جميعِ ذلك، ومعنى «تَبْغُونَ» أي: تطلبون لها الاعوجاجَ

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 371) . (2) ينظر: «السيرة النبوية» (2/ 197- 198) . والحديث أخرجه الطبري (4/ 16) بسنده. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 375) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 481) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 إلى 104]

والانفسادَ، وأنْتُمْ شُهَدَاءُ: يريدُ جَمْعَ شاهِدٍ على ما في التوراة من صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وصدقه، وباقي الآية وعيد. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ ... الآية: خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، والإشارة بذلك وقْتَ نزوله إلى الأوْسِ والخَزْرَجِ بسبب نَائِرَةِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ. قال ص: قوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ، ردَّ: بمعنى صَيَّر، فيتعدى إلى مفعولَيْنِ الأول: الكافُ، والثاني: الكافِرِينَ كقوله: [الوافر] فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السّود بيضا ... وردّ وجوههنّ البيض سودا «1» اهـ. ويَعْتَصِمْ: معناه: يتمسَّك، وعُصِمَ الشَّيءُ، إذا مُنِعَ وحُمِيَ ومنه: قوله: يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: 43] وباقي الآية بيّن. [سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 104] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، قال ابن مسعود: «حَقَّ تُقَاتِهِ» : هو أنْ يُطَاع فلا يُعْصَى، وأنْ يُذْكَر فلا ينسى، وأنْ يُشْكَر فلا يكفر «2» ، وكذلك عبّر

_ (1) وقبله: رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سهرن له سمودا وهو لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه (ص 143- 144) و «تخليص الشواهد» (ص 443) و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (ص 941) و «المقاصد النحوية» (2/ 417) ولأيمن بن خريم في ديوانه (ص 126) ولفضالة بن شريك في «عيون الأخبار» (3/ 76) و «معجم الشعراء» (ص 309) وللكميت بن معروف في «ذيل الأمالي» (ص 115) وبلا نسبة في «شرح الأشموني» (1/ 159) و «شرح ابن عقيل» (ص 217) و «لسان العرب» (3/ 219) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 375) برقم (7534: 7541) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 332- 333) ، وابن عطية (1/ 483) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 105) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «الناسخ» ، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه.

الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَم «1» ، وقتادةُ، والحَسَنُ، قالتْ فرقة: نزلَتِ الآيةُ على عمومِ لفظها مِنْ لزومِ غاية التقوى حتى لا يقع الإخْلاَلُ في شَيْء من الأشياءِ، ثم نُسِخَ ذلك بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، وبقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] وقالت جماعة: لاَ نَسْخَ هنا، وإنَّما المعنى: اتقوا اللَّهَ حَقَّ تقاته فِي ما استطعتم، وهذا هو الصحيحُ، وخرَّج الترمذيُّ، عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ، وهي: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي الدُّنْيَا، لأفْسَدَتْ على أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ، فَكيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ؟» قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وخرَّجه ابنُ ماجة أيضاً «2» اهـ. وقوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: معناه: دُومُوا على الإسلام حتى يوافيكم المَوْتُ، وأنتم علَيْه، والحَبْلُ في هذه الآيةِ مستعارٌ، قال ابنُ مسعودٍ: حبْلُ اللَّهِ الجماعةُ، وروى أنس بن مالك، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ افترقوا على إحدى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلاَّ واحدة،

_ (1) الرّبيع بن خيثم، الثوري، أبو يزيد الكوفي، مخضرم، عن ابن مسعود، وأبي أيوب، وعمرو بن ميمون، وعنه الشعبي، وإبراهيم النّخعي، وأبو بردة، قال له ابن مسعود: لو رآك النبي صلّى الله عليه وسلّم لأحبّك، توفي سنة أربع وستين، وكان لا ينام الليل كله، رحمه الله تعالى. ينظر: «الخلاصة» (1/ 318- 319) ، و «تهذيب الكمال» (1/ 403) ، و «تهذيب التهذيب» (3/ 242) ، و «الكاشف» (1/ 304) ، و «طبقات ابن سعد» (6/ 10، 96، 118) ، و «سير الأعلام» (4/ 258) ، و «الثقات» (4/ 224) . (2) أخرجه الترمذي (4/ 706- 707) ، كتاب «صفة جهنم» ، باب ما جاء في صفة شراب أهل النار، حديث (2585) . وابن ماجة (2/ 1446) ، كتاب «الزهد» ، باب صفة النار، حديث (4325) ، والنسائي في «التفسير» (1/ 316) ، رقم (90) ، وأحمد (1/ 301، 338) ، والطيالسي (2/ 16- منحة) رقم (195) ، وابن حبان (2611- موارد) ، والحاكم (2/ 294، 451- 452) . والبيهقي في «البعث والنشور» رقم (596) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 68) ، رقم (11068) ، وفي «الصغير» (2/ 51) . كلهم من طريق شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 60) . وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر. وقد جاء هذا الحديث موقوفا على ابن عباس: أخرجه أحمد (1/ 338) ، وابن أبي شيبة (13/ 161) رقم (15991) . والبيهقي في «البعث والنشور» (597) ، من طريق الأعمش، عن أبي يحيى القتات، عن ابن عباس موقوفا، وأبو يحيى القتات، قال الحافظ: ليّن الحديث.

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هَذِهِ الوَاحِدَةُ؟ قَالَ: فَقَبَضَ يَدَهُ، وَقَالَ: الجَمَاعَةُ، وقرأ «1» : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» ، وقال قتادةُ وغيره: حبْلُ اللَّهِ الَّذي أمر بالاعتصام به: هو القُرآن «2» ، ورواه أبو سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» ، وقال ابنُ زَيْدٍ: هو الإسلام «4» ، وقيل غير هذا ممَّا هو كلُّه قريبٌ بعضُهُ مِنْ بعض. وقوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا: يريد: التفرُّقَ الَّذي لا يتأتى معه الائُتلافُ، كالتفرُّقِ بالفتن، والافتراقِ في العقائد، وأما الافتراقُ في مسائل الفروعِ والفِقْه، فلَيْسَ بداخلٍ في هذه الآيةِ، بل ذلك هو الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «خلاف أمّتي رحمة» «5» ، وقد اختلفت الصّحابة

_ (1) أخرجه ابن ماجة (2/ 1322) ، كتاب «الفتن» ، باب افتراق الأمم، حديث (3993) ، من حديث أنس. وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 239) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 378) ، وذكره الماوردي بنحوه في «تفسيره» (1/ 412) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 333) ، وابن عطية (1/ 483) . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 107) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن جرير. [.....] (4) ذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 414) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 483) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 108) . (5) قال السخاوي في «المقاصد» (ص 26- 27) : أخرجه البيهقي في «المدخل» من حديث سليمان ابن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» ، ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي في مسنده بلفظه سواء، وجويبر ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع، وقد عزاه الزركشي إلى كتاب «الحجة» لنصر المقدسي مرفوعا من غير بيان لسنده ولا صحابيه، وكذا عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب «العلم والحكم» بدون بيان بلفظ: «اختلاف أصحابي رحمة لأمتي» قال: وهو مرسل ضعيف، وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بغير إسناد، وفي «المدخل» له من حديث سفيان عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد قال: اختلاف أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم رحمة لعباد الله. ومن حديث قتادة أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: ما سرني لو أن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا إذا علم هذا. وقد قرأت بخط شيخنا: إنه (يعني هذا الحديث) حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب في «المختصر» في مباحث القياس بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس» ، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في «غريب الحديث» مستطردا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده، ثم ذكر شيخنا شيئا مما تقدم في عزوه.

في الفُرُوع أشَدَّ اختلافٍ، وهم يَدٌ واحدةٌ على كُلِّ كافرٍ. وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ... الآية: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الخطاب إنما هو للأوس والخَزْرَج كما تقدَّم، وكانَتِ العداوةُ قد دامَتْ بين الحَيَّيْنِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً حتى رفَعَها اللَّه بالإسلام، فجاء النَّفَر الستَّةُ من الأنْصَارِ إلى مكَّة حُجَّاجاً، فعرض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نَفْسَهُ علَيْهم، وتَلاَ عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنَ القُرآنِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ مَعَ قَبَائِلِ العَرَبِ، فَآمَنُوا بِهِ، وَأَرَادَ الخُرُوجَ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قَدِمْتَ بَلَدَنَا على مَا بَيْنَنَا مِنَ العَدَاوَةِ وَالحَرْبِ، خِفْنَا أَلاَّ يَتِمَّ مَا نُرِيدُهُ بِكَ، وَلَكِنْ نَمْضِي نَحُنُ، وَنُشِيعُ أَمْرَكَ، وَنُدَاخِلُ النَّاسَ، وَمَوْعِدُنَا وَإيَّاكَ العَامُ القَابِلُ، فَمَضَوْا، وَفَعَلُوا، وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ فِي العَامِ القَابِلِ، فَكَانَتِ العَقَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَكَانُوا اثني عَشَرَ رَجُلاً فِيهِمْ خَمْسَةٌ مِنَ السِّتَّةِ الأَوَّلِينَ، ثُمَّ جَاءُوا مِنَ العَامِ الثَّالِثِ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ العَقَبة الكبرى، حَضَرَهَا سَبْعُونَ، وَفِيهِمُ اثنا عَشَرَ نَقِيباً. ووصْفُ القصَّة مستوعبٌ في السِّيرِ، ويسَّر اللَّه تعالى الأنصار للإسلام بوجْهَيْن: أحدهما: أنَّ بني إسرائيل كانُوا مجاوِرِينَ لهم، وكانوا يقولُونَ لِمَنْ يتوعَّدونه من العَرَبِ: يُبْعَثُ لَنَا الآنَ نَبِيٌّ نَقْتُلُكُمْ معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمَ، فلمَّا رأَى النَّفَر من الأنصار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال بعضُهم لبعضٍ: هذا، واللَّهِ، النَّبيُّ الَّذِي تَذْكُرُه بَنُو إسرائيل، فلا تُسْبَقَنَّ إلَيْهِ. والوجْهُ الآخرُ: الحَرْبُ الَّتي كَانَتْ ضرَّسَتْهم، وأفْنَتْ سراتهم، فَرَجوْا أنْ يجمع اللَّه به كلمتهم، فكان الأمر كما رَجَوْا، فعدَّد اللَّه سبحانَهُ علَيْهم نعمَتَهُ في تأليفهم بعد العَدَاوة، وذَكَّرهم/ بها قال الفَخْر «1» : كانَتِ الأنصارُ قَبْلَ الإسلام أعداءً، فلما أكرمهم اللَّه [سبحانه] «2» بالإسلام، صاروا إخواناً في اللَّه متراحِمِينَ. واعلم أنَّ كلَّ مَنْ كان وجهه إلى الدنيا، كان معادياً لأكثر الخَلْق، ومَنْ كان وجهه إلى خدمة المولى سبحانه، لَمْ يكُنْ معادِياً لأحدٍ لأنه يَرَى الكُلَّ أسيراً في قبضة القَضَاء والقَدَر، ولهذا قيل: إن العارف، إذا أَمَرَ، أَمَرَ برفْقٍ، ونَصَحَ لاَ بِعُنْفٍ وعُسْر، وكيف، وهو مُسْتَبْصِرٌ باللَّه في القَدَر. اهـ. وقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ عبارة عن الاستمرار.

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 143) . (2) سقط من أ.

قال ص: «أصْبَحَ» : يستعملُ لاتصافِ الموصوفِ بصفَتِهِ وقْتَ الصَّباحِ، وبمعنى «1» «صَارَ» ، فلا يلحظ فيها وقْت الصباح، بل مطْلَق الانتقال والصيرورةِ مِنْ حالٍ إلى حالٍ، وأَصْبَحَ: هنا بمعنى صَارَ، وما ذكره ابنُ عطية «2» مِنْ أنَّ «أَصْبَحَ» لِلاستمرارِ، لم يذهَبْ إليه أحَدٌ من النَّحْوِيِّين. اهـ. قلْتُ: وفيما ادَّعاه نَظَرٌ، وهي شهادةٌ على نَفْيٍ. وكلامٍ. ع «3» : واضحٍ من جهة المعنى، والشَّفَا: حَرْفُ كلِّ جِرْمٍ له مهوى كالحفرة، والبِئْر، والجُرُفِ، والسَّقْفِ، والجِدَار، ونحوه، ويضافُ في الاستعمالِ إلى الأعلى كقوله: شَفا جُرُفٍ [التوبة: 109] ، وإلى الأسفلِ كقوله: شَفا حُفْرَةٍ فشبَّه اللَّه كفرهم الذي كانوا عليه بالشَّفَا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنّم دأبا، فأنقذهم اللَّه منها بالإسلام. وقوله تعالى: فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، أي: مِنَ النَّار، ويحتمل من الحُفْرة، والأول أحسن، قال العراقيّ: أنقذكم، أي: خلَّصكم. اهـ. وقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ: أَمْرَ اللَّه سبحانه الأمَّةَ بأنْ يكونَ منْها علماءُ يَفْعَلُونَ هذه الأفعالَ على وجوهها، ويحْفَظُونَ قوانينَها، ويكون سائِرُ الأمَّة مُتَّبِعِينَ لأولئك، إذ هذه الأفعالُ لا تكُونُ إلاَّ بعلْمٍ واسعٍ، وقد عَلِمَ اللَّه سبحانه أنّ الكلّ

_ (1) أصبح من أخوات «كان» ، فإذا كانت ناقصة كانت مثل «كان» في رفع الاسم ونصب الخبر، وإذا كانت تامة رفعت فاعلا واستغنت به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول: «أصبح زيد» أي دخل في الصباح، ومثلها في ذلك «أمسى» ، قال تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: 17] وقوله: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ [الصافات: 137] وفي أمثالهم: «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنّه مصبح» لأنّ القين- وهو الحدّاد- ربما قلّت صناعته في أحياء العرب فيقول: أنا غدا مسافر، ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيم ويترك السفر، فأخرجوه مثلا لمن يقول قولا ويخالفه، فالمعنى أنه مقيم في الصباح، وتكون بمعنى «صار» عملا ومعنى كقوله: 1379- فأصبحوا كأنّهم ورق جف ... ف فألوت به الصّبا والدّبور أي: صاروا. و «إخوانا» خبرها، وجوّزوا فيها هنا أن تكون على بابها من دلالتها على اتّصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح، وأن تكون بمعنى «صار» ، وأن تكون التامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصة على بابها فالأظهر أن يكون «إخوانا» خبرها. ينظر: «الدر المصون» (2/ 178) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 484) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 485) .

لا يكُونونَ علماء، ف «مِنْ» هنا: للتبعيضِ، وهو تأويلُ الطبريِّ «1» وغيره. وذهب الزَّجَّاج «2» وغيرُ واحدٍ إلى أنَّ المعنى: ولتكونوا كلُّكم أمةً يدْعُونَ، و «مِنْ» : لبيانِ الجنْس، ومعنى الآية على هذا: أمر الأمة بأنْ يَدْعُوا جميعَ العَالَمِ إلى الخَيْر، فيَدْعُون الكُفَّار إلى الإسلامِ، والعُصَاةَ إلى الطاعةِ، ويكونُ كلُّ واحدٍ في هذه الأمور على منزلته من العلْمِ والقدرةِ، وروى الليثُ بْنُ سَعْدٍ «3» ، قال: حدَّثني محمَّدُ بْنُ عَجْلاَن «4» ، أنَّ وَافِداً النَّضْرِيَّ أَخْبَرَهُ عَنْ أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «لَيُؤْتَيَنَّ بِرِجَالٍ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ لِمَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّهِ، يَكُونُونَ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ قال: هُمُ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ، وَيُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ، وَيَمْشُونَ فِي الأَرْضِ نُصْحاً، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ يُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ؟! قَالَ: يَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، فَإذَا أَطَاعُوهُمْ، أَحَبَّهُمُ اللَّهُ تعالى» «5» اهـ من «التذكرة» «6» للقرطبيّ.

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 385) بنحوه. (2) ينظر: «معاني القرآن» (1/ 452) . (3) ليث بن سعد بن عبد الرّحمن الفهمي، مولاهم، الإمام، عالم «مصر» وفقيهها ورئيسها، عن سعيد المقبري، وعطاء، ونافع، وقتادة، والزهري وصفوان بن سليم، وخلائق. وعنه ابن عجلان، وابن لهيعة، وهشيم، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأمم. قال ابن بكير: هو أفقه من مالك. وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما وجبت عليه زكاة قط. وثقه أحمد وابن معين والناس. قال ابن بكير: ولد سنة أربع وتسعين، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائة. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 371) . (4) محمد بن عجلان القرشي، أبو عبد الله المدني، أحد العلماء العاملين. عن أنس، وأبي حازم، والأعرج، وعكرمة، وطائفة. وعنه عبد الوهاب بن بخت، ومنصور، وشعبة، والثوري، ومالك، وخلق. وثقه أحمد وابن معين. وذكره البخاري في الضعفاء. حمل به ثلاث سنين. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. روى له البخاري تعليقا، ومسلم متابعة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 438) ، و «تهذيب الكمال» (3/ 1242) ، و «الكاشف» (3/ 77) ، و «تقريب التهذيب» (2/ 190) ، و «لسان الميزان» (7/ 368) . (5) أخرجه العقيلي (4/ 331) ، وابن عدي في «الكامل» (7/ 92- 93) ، من طريق الليث بن سعد، عن جابر بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال. وأسند العقيلي عن البخاري قوله: واقد بن سلامة النضري لم يصح حديثه. وذكره العقيلي، وابن الجارود في «الضعفاء» ، وقال الحافظ في «اللسان» : ضعفوه. ينظر: «لسان الميزان» (6/ 215) . (6) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (2/ 620) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 105 إلى 109]

قال ع «1» : قال أهْلُ العلْمِ: وفَرَضَ اللَّه سبحانه بهذه الآية الأَمْرَ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيَ عن المُنْكَر، وهو مِنْ فروضِ الكفاية «2» ، إذا قام به قائمٌ، سقَطَ عن الغَيْر، وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً، فَلْيُغَيِّرهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَان «3» والناسُ في الأمر بالمعروفِ وتغْييرِ المُنْكَرِ على مراتِبَ، فَفَرْضُ العلماءِ فيه تنبيهُ الولاةِ، وحَمْلُهُمْ على جَادَّة العلْمِ، وفرضُ الولاةِ تَغْييره بقوَّتهم وسلطانِهِمْ/، ولهم هي اليَدُ، وفَرْضُ سائر الناسِ رَفْعُهُ إلى الولاةِ والحُكَّام بعد النَّهْيِ عنه قولاً، وهذا في المُنْكَرِ الذي له دَوَامٌ، وأما إنْ رأى أحَدٌ نازلةٌ بديهيَّةً مِنَ المُنْكَرِ كالسَّلْبِ والزِّنَا ونحوه، فيغيِّرها بنَفْسِهِ، بحَسَب الحالِ والقدرةِ، ويَحْسُنُ لكلِّ مؤمن أنْ يعتمل في تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، وإنْ ناله بَعْضُ الأذى ويؤيِّد هذا المَنْزَعَ أنَّ في قراءة عثمانَ وابْنِ مسْعودٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ: «يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، وَيَسْتَعِينونَ اللَّهَ على مَا أَصَابَهُمْ» «4» ، فهذا وإنْ لم يثبتْ في المُصْحَفِ، ففيه إشارةٌ إلى التعرُّض لما يصيبِ عَقِيبَ الأمْر والنهْيِ كما هو في قوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] . [سورة آل عمران (3) : الآيات 105 الى 109] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 486) . [.....] (2) «الفرض» و «الواجب» عند غير الحنفية لفظان مترادفان اصطلاحا على مفهوم واحد، هو الفعل الذي طلبه الشارع من المكلف طلبا جازما، سواء كان الطلب بدليل قطعي كالكتاب والسنة المتواترة، أو كان بدليل ظني كخبر الآحاد، ومن هنا يمكن أن نقول: ينقسم الواجب باعتبار فاعله إلى فرض عين، وفرض كفاية، وفرض الكفاية: هو الفعل الذي طلب الشارع حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله. ومعناه: أن فرض الكفاية هو الفعل المطلوب حصوله في الجملة، أي من غير نظر بالإصالة إلى الفاعل، وإنما المنظور إليه أولا وبالذات إنما هو الفعل. أما الفاعل، فلا ينظر إليه إلا تبعا للفعل ضرورة توقف حصوله على فاعل. ولذا كان فعل البعض كافيا في تحصيل المقصود منه والخروج عن عهدته، ومن هنا سمي «فرض كفاية» . (3) أخرجه مسلم (1/ 69) في الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، (78- 79) (49) ، وأبو داود (1/ 366) في الصلاة: باب الخطبة يوم العيد (1140) ، و (2/ 526) ، في الملاحم: باب الأمر والنهي (4340) ، والترمذي (4/ 407- 408) في الفتن: باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب (2172) ، والنسائي (8/ 111- 112) في الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان، وابن ماجة (2/ 406) ، في إقامة الصلاة: باب ما جاء في صلاة العيدين (1275) ، وأحمد (3/ 20، 49، 52- 53) ، والبيهقي (3/ 296- 297) ، (6/ 94- 95) ، (7/ 266) ، (10/ 90) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا به. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 486) ، و «البحر المحيط» (3/ 24) .

وقوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا ... الآية: قال ابن عبَّاس: هي إشارة إلى كلِّ مَنِ افترق من الأمَمِ في الدِّين، فأهلكهم الافتراقُ «1» ، وقال الحسنُ: هي إشارة إلى اليهودِ والنصارى «2» . قلتُ: وروى أبو داوُدَ في سُنَنِهِ، عن معاويةَ بْنِ أبي سُفْيَان، قال: قَالَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ افترقوا على ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ على ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ، وَهِيَ الجَمَاعَةُ» «3» ، وروى أبو هريرة نحوه، ولم يَذْكُرِ النَّار «4» اهـ. وقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... الآية: بياضُ الوُجُوهِ: عبارةٌ عن إشراقِها واستنارتها وبِشْرِها برحمة اللَّهِ قاله الزَّجَّاج «5» وغيره. وقوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ: تقريرٌ وتوبيخٌ متعلِّق بمحذوف، تقديره: فيقالُ لهم: أكفرتم، وفي هذا المَحْذُوفِ جوابُ «أمَّا» ، وهذا هو فحوَى الخطَابِ، وهو أنْ يكون في

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» بنحوه (3/ 386) ، وذكره ابن عطية (1/ 486) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 386) ، وذكره ابن عطية (1/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 110) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه أبو داود (2/ 608) ، كتاب «السنة» ، باب شرح السنة، حديث (4597) ، وأحمد (4/ 102) . والطيالسي (2/ 211- منحة) برقم (2754) ، والدارمي (2/ 241) ، كتاب «السير» ، باب في افتراق هذه الأمة، والحاكم (1/ 128) من حديث معاوية. وصححه الحاكم. (4) أخرجه أبو داود (2/ 608) ، كتاب «السنة» ، باب شرح السنة، حديث (4596) ، والترمذي (5/ 25) ، كتاب «الإيمان» ، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، حديث (2640) ، وابن ماجة (2/ 1321) ، كتاب «الفتن» ، باب افتراق الأمم (3991) ، والحاكم (1/ 128) ، وابن حبان (1834) ، من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مسلم. ووافقه الذهبي. والحديث صححه ابن حبان. (5) ينظر: «معاني القرآن» (1/ 453) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 إلى 112]

الكلام شيْءٌ مقدَّر لا يستغنِي المعنى عنه كقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ [البقرة: 184] المعنى: فَأَفْطَرَ، فَعِدَّةٌ. وقوله تعالى: بَعْدَ إِيمانِكُمْ يقتضي أنَّ لهؤلاء المذكورين إيماناً متقدِّماً، واختلف أهل التأويل في تَعْيِينِهِمْ، فقال أُبيُّ بْنُ كَعْبٍ: هم جميعُ الكُفَّارِ، وإيمانهم هو إقرارهم يَوْمَ قِيلَ لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» [الأعراف: 172] وقال أكثر المتأوِّلين: المراد أهل القبْلَة مِنْ هذه الأمة، ثم اختلفوا، فقال الحسَنُ: الآية في المنافقين «2» ، وقال قتادة: هي في أهْل الرَّدة «3» ، وقال أبو أُمَامة: هي في الخَوَارج «4» . وقوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الإشارة ب «تِلْكَ» إلى هذه الآياتِ المتضمِّنة تعذيبَ الكُفَّار، وتَنْعِيمَ المؤمنين، ولَمَّا كان في هذا ذكْرُ التعذيبِ، أخبر سبحانه أنه لا يريدُ أنْ يقع منه ظُلْمٌ لأحدٍ من العبادِ، وإذا لم يردْ ذلك، فلا يوجد ألبتة لأنه لا يَقَعُ من شيء إلاَّ ما يريده سُبْحانه، وقوله: بِالْحَقِّ: معناه بالإخبار الحَقِّ، ويحتمل أنْ يكون المعنى: نَتْلُوهَا عَلَيْكَ مضمَّنة الأفعال التي هِيَ حَقٌّ في نفسها من كرامةِ قومٍ، وتعذيبِ آخرينَ، ولما كان للذِّهْنِ أنْ يقف هنا في الوَجْه الذي به خَصَّ اللَّه قومًا بعملٍ يرحمهم مِنْ أجله، وآخرين بعملٍ يعذِّبهم عليه، ذكر سبحانه الحُجَّة القاطعة في مِلْكِهِ جميعَ المخلوقاتِ، وأنَّ الحَقَّ أَلاَّ يعترض علَيْه وذلك في قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... الآية/. [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 387) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 410) ، وابن عطية (1/ 487) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 112) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 387) برقم (7603) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 410) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 487) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 386) برقم (7599) ، وابن عطية، في «تفسيره» (1/ 487) ، والسيوطي بنحوه في «الدر المنثور» (2/ 112) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 387) برقم (7601) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 340) ، وابن عطية (1/ 487) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 112) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.

وقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... الآية: اختلفَ في تأويل هذه الآية. فقيل: نزلَتْ في الصحابة، وقال الحسَنُ بْنُ أبي الحَسَن وجماعةٌ مِنْ أَهْل العلْمِ: الآيةُ خطَابٌ لجميع الأمة بأنهم خير أمة أخرجَتْ للنَّاس «1» ويؤيِّد هذا التأويلَ كونُهم شهداءَ عَلَى النَّاس. وأمَّا قوله: «كُنْتُمْ» على صيغة المُضِيِّ فإنها التي بمعنَى الدَّوامِ كما قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: 73] وقال قوم: المعنى: كنتم فِي عِلْمِ اللَّه، وهذه الخَيْريَّة التي خَصَّ اللَّه بها هذه الأمَّة، إنما يأخذ بحَظِّه منها مَنْ عمل بهذه الشُّروط مِنَ الأمر بالمعروفِ، والنَّهْيِ عن المنكر، والإيمانِ باللَّه ممَّا جاء في فَضْل هذه الأمَّة ما خرَّجه مُسْلِمٌ في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامةِ» وفي رواية: «السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة» وفي رواية: «نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ القيامة، المقتضي لَهُمْ قَبْلَ الخَلاَئِقِ» ، وفي رواية: «المَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ» «2» . اهـ. وخرَّج ابن مَاجَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «نَحْنُ آخرُ الأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبَ، يقال: أين الأمّة الأمّيّة ونبيّها، فَنَحْنُ الآخرُونَ الأَوَّلُونَ» «3» ، وفي روايةٍ عن ابن عَبَّاس: «فتُفَرِّجُ لَنَا الأَمَمُ عَنْ طَرِيقَنَا، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ، فَتَقُولُ الأُمَمُ: كَادَتْ هَذِهِ الأَمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا» «4» ، وخَرَّجهُ أيضاً أبو داود الطَّيَالِسِيُّ في مسنده بمعناه. اهـ من «التذكرة» «5» . ورَوَى أبو داودَ في سننِه، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ أبي شيبة، عن أبيه، عن أبي

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» بنحوه (3/ 391) ، ولفظه «قال: قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة» ، والأثر ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 489) . (2) أخرجه مسلم (2/ 585) ، كتاب «الجمعة» ، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث (19/ 885) . [.....] (3) أخرجه ابن ماجة (2/ 1434) ، كتاب «الزهد» ، باب صفة أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حديث (4290) . وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 317) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (4) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 282) . (5) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 377) .

موسى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الفِتَنُ، وَالزَّلاَزِلُ، وَالقَتْل» «1» اهـ، وقد ذكرنا هذا الحديثَ أيضاً عن غَيْر أبي داود، وهذا الحديثُ ليس هو على عمومه في جميعِ الأمَّة لثبوت نُفُوذِ الوعيدِ في طائفةٍ من العُصَاة. اهـ. وقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وما بعده: أحوالٌ في موضعِ نصبٍ. وفي الحديثِ: «خَيْرُ النَّاسِ أتُقَاهُمْ لِلَّهِ، وَآمَرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ» «2» ، رواه البغويُّ في «منتخبه» . اهـ من «الكوكب الدري» . وقوله سبحانه: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: تنبيهٌ على حال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وأخيهِ، وثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وغيْرِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ. وقوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، أي: إلا أَذًى بالألسنة فَقَطْ، وأخبر سبحانه في قوله: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ، بخبر غَيْب، صحَّحه الوجود، فهي من آيات نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفائدةُ الخَبَرِ هي في قولِهِ: ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ، أي: لا تكونُ حَرْبُ اليهودِ معكم سِجَالاً، وخص الأدبار بالذِّكْر دون الظَّهْرِ، تَخْسِيساً للفَارِّ، وهكذا هو حيثُ تصرَّفَ. وقوله تعالى: ضُرِبَتْ: معناه: أُثْبِتَتْ بشدَّةٍ وإلزامٍ، وهذا وصْفُ حالٍ تقرَّرت على اليهودِ في أقطار الأرْضِ قبل مَجِيء الإسلام، وثُقِفُوا: معناه أُخِذُوا بحالِ المذْنِبِ المستحِقِّ الإهلاك، وقوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ في الكلامِ محذوفٌ يدركُهُ فهُمْ السامعِ، تقديره: فلا نجاة لهم مِنَ القَتْلِ أو الاستئصال إلاَّ بحَبْلٍ، وهو العَهْدُ. وقوله: ذلِكَ إشارةٌ إلى الغَضَب، وضَرْب الذلَّة والمَسْكَنَة، وباقي الآية تقدّم تفسير نظيره.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 507) ، كتاب «الفتن» ، باب ما يرجى في القتل، حديث (4278) ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: ثنا كثير بن هشام، ثنا المسعودي، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى مرفوعا. وسقط في السند عند المؤلف كثير، والمسعودي، وسعيد بن أبي بردة. (2) أخرجه أحمد (6/ 431- 432) ، من حديث درة بنت أبي لهب. وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 266) : رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 إلى 114]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 114] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وقوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس (رضي اللَّه عنهما) : لمَّا أسلم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ، وثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ/، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ومَنْ أَسْلَمَ من اليهود معهم، قال الكُفَّار من أحْبَارِ اليهودِ: مَا آمن بمحمَّد إلاَّ شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا خِيَاراً، ما تَرَكُوا دِينَ آبائِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ: لَيْسُوا سَواءً ... الآية «1» ، وقالَ مثلَهُ قتادةُ، وابنُ جُرَيْجٍ «2» ، وهو أصح التأويلات في الآية. واختلفَ في قوله: قائِمَةٌ، فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: معناه: قائمةٌ على كتابِ اللَّهِ، وحُدُودِهِ مهتديةٌ «3» ، وقال السُّدِّيُّ: القائمةُ: القانِتَةُ المُطيعةُ «4» ، وهذا كلُّه يرجع إلى معنى وَاحِدٍ، ويحتمل أنْ يراد ب قائِمَةٌ: وَصْفُ حال التالين في آناء الليلِ، ومَنْ كانت حاله هذه، فلا محالة أنه معتدلٌ عَلَى أمر الله، وآياتِ اللَّهِ في هذه الآيةِ: هي كُتُبُهُ، والآناءُ: السَّاعاتُ، واحِدها إنْيٌ بكسر الهمزة، وسكونِ النون، وحكم هذه الآية لا يتَّفقُ في شَخْص شَخْصٍ بأنْ يكون كلُّ واحدٍ يصلِّي جميعَ ساعاتِ الليلِ، وإنما يقوم هذا الحُكْمُ من جماعةِ الأمَّة إذ بعضُ الناسِ يَقُومُ أول الليلِ، وبعضهم آخِرَهُ، وبعضُهُم بَعْدَ هَجْعَةٍ، ثم يعودُ إلى نَوْمِهِ، فيأتي مِنْ مجموعِ ذلك في المُدُنِ والجَمَاعَاتِ عِمَارةُ آناء الليلِ بالقيامِ، وهكذا كان صَدْرُ هذه الأمَّة، وعُرْفُ النَّاسِ القيامُ في أول الثُّلُثِ الآخرِ مِنَ الليلِ، أو قبله بشَيْء، وحينئذٍ: كان يقوم الأكثر، والقيام طولَ الليلِ قليلٌ، وقد كان في الصالِحِينَ مَنْ يلتزمه، وقد ذكر اللَّه سبحانه القَصْدَ من ذَلِكَ في «سُورة المُزَّمِّلِ» ، وقِيامُ الليلِ لقراءةِ العِلْمِ المبتغى به وجْهُ اللَّهِ داخلٌ في هذه الآيةِ، وهو أفضلُ من التنفُّل لِمَنْ يُرْجَى انتفاعُ المسلمِينَ بعلْمه، قُلْتُ: وقد تقدَّم في أوَّل السُّورة: ما جاء من التأويل في حديث النّزول،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 398) برقم (7642) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 417) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 343) ، وابن عطية (1/ 492) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 115) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن عساكر. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 399) برقم (7644) ، (7645) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 399) برقم (7651) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 417) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 400) برقم (7652) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 492) ، والسيوطي بنحوه في «الدر المنثور» (2/ 116) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

فلنذكُرِ الآن الحديثَ بكَمَالِهِ، لما فيه من الفوائد: روى أبو هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبَّنَا تَبَارَكَ وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» «1» رواه الجماعةُ، أعني: الكتبَ الستَّة البخاريَّ، ومُسْلِماً، وأبا داوُدَ، والتِّرمذيَّ، والنَّسائيَّ، وابْنَ مَاجَة، وفي بعضِ الطُّرُق «2» : «حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ» ، زاد ابْنُ ماجَة: «فَلِذَلِكَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الصَّلاَةَ آخِرَ اللَّيْلِ على أَوَّلِهِ» . وعن عمرو بْنِ عَبَسَة «3» أَنَّهُ سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فإنِ استطعت أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَكُنْ» «4» . رواه أبو داوُد، والتِّرمذيُّ، والنَّسَائِيُّ، والحَاكِمُ في «المستدرك» ، واللفظُ للتِّرمذيِّ، وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مُسْلِمٍ. اهـ من «السلاح» . وعن أبي أُمَامَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ، ودُبُرَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ» «5» ، رواه الترمذيُّ والنسائيُّ، وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ، وفي روايةٍ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ أرجى» ، أو نحو هذا. اهـ من «السلاح» .

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) عمرو بن عبسة، السّلمي، أبو نجيح، صحابي مشهور. له ثمانية وأربعون حديثا. عنه أبو أمامة، وشر حبيل بن السّمط. قال الواقدي: أسلم ب «مكة» ثم رجع إلى بلاد قومه حتى مضت «بدر» و «أحد» و «الخندق» و «الحديبية» و «خيبر» ، ثم قدم «المدينة» . قال أبو سعيد: يقولون: إنه رابع أو خامس في الإسلام. ينظر: «الخلاصة» (2/ 290) ، و «تهذيب الكمال» (2/ 1040) ، و «تهذيب التهذيب» (8/ 69) ت (107) ، و «الجرح والتعديل» (6/ 241) ، و «الثقات» (3/ 269) ، (4/ 251) ، و «أسد الغابة» (4/ 251) ، و «الاستيعاب» (3/ 1193) . (4) أخرجه الترمذي (5/ 569- 570) ، كتاب «الدعوات» باب (119) ، حديث (3579) ، والنسائي (1/ 279- 280) كتاب «الصلاة» ، باب النهي عن الصلاة بعد العصر، حديث (572) ، وابن خزيمة (2/ 182) . وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. (5) أخرجه الترمذي (5/ 526- 527) ، كتاب «الدعوات» ، باب (79) ، حديث (3499) من طريق عبد الرّحمن بن سابط عنه به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 115 إلى 116]

ومما يدْخُلُ في ضِمْنِ قوله سبحانه: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أن يكون المرءُ مغْتَنِماً للخَمْس كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اغتنم خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ» «1» فَيَكُونُ متى أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ خَيْراً، بادر إليه، ولم يسوِّف نفسه بالأمل، فهذه أيضاً مسارعةٌ في الخيرات، وذكر بعض النَّاس قال: دخلْتُ معَ بَعْضِ الصَّالحين في مَرْكَبٍ، فقُلْتُ له: ما تقُولُ (أصْلَحَكَ اللَّه) في الصَّوْمِ في السَّفر؟ فقال لي: إنها المبادرةُ، يا ابْنَ الأخِ، قال المحدِّث: فجاءني، واللَّهِ، بجوابٍ ليس من أجوبة الفُقَهَاء/. قال ص: قوله: مِنَ الصَّالِحِينَ: «مِنْ» : للتبعيض، ابنُ عطية: ويحسُنُ أيضاً أنْ تكون لبيانِ الجنْس، وتعقِّب بأنه لم يتقدَّم شيء فيه إبهام، فيبين جنسه. اهـ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 115 الى 116] وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) وقوله تعالى: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، أي: فلَنْ يعطى دونكم، فلا تثابُونَ عليه، وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: وعد ووعيد. [سورة آل عمران (3) : آية 117] مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) وقوله تعالى: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ ... الآية: وقع في الآية التشبيهُ بين شيئَيْن وشَيْئَيْن، وتَرَكَ مِنْ كلٍّ منهما ما دلَّ عليه الكلام، وهذه غايةُ الإيجازِ والبلاغةِ، وجمهور المفسّرين على أن نْفِقُونَ يراد به الأموال التي كانُوا ينفقُونَها في التحنُّث، أي: يبطلها كفْرهم كما تبطل الريح الزرْعَ، والصِّرُّ: البَرْدُ الشديدُ المُحْرِقُ لكلِّ ما يهبّ عليه، والحرث: شامل للزرع والثمار.

_ (1) أخرجه الحاكم (4/ 306) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 263) رقم (10248) من طريق عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» رقم (2) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (4/ 148) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 263) رقم (10250) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 276، 277- بتحقيقنا) عن عمرو بن ميمون الأودي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. والمرسل ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (4/ 443) ، وعزاه لأحمد في «الزهد» ، وقال: بإسناد حسن.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 إلى 119]

وقوله سبحانه: رْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... الآية: مِنْ أَهْلِ العِلْم من يرى أنَّ كل مصائبِ الدنيا، فإنما هي بمعاصِي العبيدِ، وينتزع ذلك مِنْ غير ما آية في القرآن، فيستقيم على قوله أنَّ كلَّ حرثٍ تحرقُهُ ريحٌ، فإنما هو لِمَنْ قد ظلم نفْسَه، والضميرُ في قوله: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ للكفَّار الذين تقدَّم ضميرهم في نْفِقُونَ ، وليس هو للقوم ذوي الحرث. [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 119] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً، أي: لا تتَّخذوا من الكفَّارِ، واليهودِ، والمنافقينَ أخلاَّء تأنَسُونَ بهم في الباطنِ، وتفاوضونهم في الآراء. وقوله سبحانه: مِنْ دُونِكُمْ، يعني: مِنْ دُونِ المؤمنين. وقوله سبحانه: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبالًا: معناه: لا يقصِّرون لكم فيما فيه فسادٌ عليكم، تقُول: ما أَلَوْتُ فِي كَذَا، أيْ: ما قصَّرت، بل اجتهدت، والخبالُ: الفسادُ، قال ابن عبَّاس: كان رجالٌ من المؤمنين يواصِلُون رجالاً من اليهودِ للْحِلْفِ والجِوَارِ الذي كان بَيْنهم في الجاهليَّة، فنزلَتِ الآية في ذلك «1» ، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً، وقتادة، والرَّبِيع، والسُّدِّيُّ: نزلَتْ في المنافقين «2» . قال ع «3» : ويدخُلُ في هذه الآية استكتاب أهل الذِّمَّة، وتصريفُهم في البَيْع والشِّراء، ونَحْو ذلك، و «ما» في قوله: مَا عَنِتُّمْ: مصدريةٌ، فالمعنى: وَدُّوا عَنَتَكُمْ، والعَنَتُ: المشقَّة والمكروه يلقاه المرءُ، وعَقَبَةٌ عَنُوتٌ، أي: شاقَّة. قال ص: قال الزجَّاج «4» : عَنَتَكُمْ، أي: مشقَّتَكُم، وقال ابنُ جرير «5» : ضلالكم،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 407) برقم (7678) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 344) ، وابن عطية (1/ 496) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 118) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 407، 408) برقم (7680- 7684) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 496) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 496) . (4) ينظر: «معاني القرآن» (1/ 462) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 408) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 120 إلى 122]

وقال الزُّبَيْدِيُّ: العَنَتُ: الهلاك. اهـ. وقوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، أي: فهم فوق المستَتِر الَّذي تبدو البغضاءُ في عينيه، وخصَّ سبحانه الأفواه بالذكْرِ دون الألسنة إشارةً إلى تشدُّقهم وثَرْثَرَتِهِمْ في أقوالهم هذه، ثمَّ قال سبحانه للمؤمنين: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ تحْذيراً وتنبيهاً، وقد عَلِمَ سبحانه أنهم عقلاء، ولكن هذا هَزٌّ للنفوس، كما تقول: إنْ كُنْتَ رَجُلاً، فافعل كذا وكذا. وقوله: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ: الضمير في «تُحِبُّونهم» للذين تقدَّم ذكْرُهم في قوله: بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، قال: ص: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، قال أبو البقاء: الكِتَاب، هنا: جنس، أيْ: بالكتب كلِّها. اهـ. وقوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ: عبارةٌ عن شدَّة الغيظِ، مع عدم القُدْرة على إنفاذه ومنه قولُ أبي طَالِبٍ: [الطويل] ................ ... يَعَضُّونَ غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ «1» وقوله سبحانه: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ قال فيه الطبريُّ «2» ، وكثيرٌ من المفسِّرين: هو دعاءٌ عليهم، وقال قومٌ: بل أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمَّتَه أنْ يواجهُوهم بهذا فعلَى/ هذا زال معْنَى الدعاء، وبَقِيَ معنى التقْرِيعِ. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ: وعيد وذات الصدور: ما تنطوي عليه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 120 الى 122] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

_ (1) عجز بيت، وصدره: وقد صالحوا قوما علينا أشحّة ... ............... .. وهو في ديوان أبي طالب (101) ، و «السيرة النبوية» (1/ 272) ، و «الروض الأنف» (2/ 13) ، و «البحر المحيط» (3/ 44) ، و «الدر المصون» (2/ 197) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 412، 413) .

وقوله سبحانه: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... الآية: الحَسَنَةُ والسيِّئة في هذه الآية: لفظ عامٌّ في كل ما يَحْسُنُ ويَسُوء، قلْتُ: ويجبُ على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة وَرُوِّينا في «كتاب الترمذيِّ» ، عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ (رضي اللَّه عنه) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأخِيكَ، فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ» «1» اهـ. والكَيْد: الاحتيالُ بالأباطيل، وقوله تعالى: وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق: 16] من باب تسمية العقوبة باسم الذَّنْب. وقوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ هذا ابتداءُ عتْبِ

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 662) ، كتاب «صفة القيامة» ، باب (54) ، حديث (2506) ، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 213- 214) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (5/ 186) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 53- 54) رقم (127) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (917) كلهم من طريق القاسم بن أمية الحذاء: ثنا حفص بن غياث عن برد بن سنان عن مكحول عن واثلة بن الأسقع. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ومكحول قد سمع من واثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك، وأبي هند الداري، ويقال: إنه لم يسمع من أحد من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا من هؤلاء الثلاثة. اهـ. وقال أبو نعيم: غريب من حديث برد ومكحول، لم نكتبه إلا من حديث حفص بن غياث. وقال ابن حبان: هذا لا أصل له من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال في ترجمة القاسم: شيخ، يروي عن حفص بن غياث المناكير الكثيرة، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. اهـ. وفيما قاله ابن حبان نظر فقد قال الحافظ في «التقريب» (2/ 115) : بصري صدوق، ضعفه ابن حبان بلا مستند. قلت: وقد توبع القاسم على هذا الحديث: فأخرجه الترمذي (4/ 662) كتاب صفة القيامة: باب (54) حديث (2506) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (9/ 95- 96) ، وأبو الشيخ في «الأمثال» (202) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 315) رقم (6777) كلهم من طريق عمر بن إسماعيل بن مجالد عن حفص بن غياث به. ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 224) . وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعمر بن إسماعيل لا يعد. وقال يحيى: ليس بشيء، كذاب، رجل سوء، خبيث، وقال الدارقطني: متروك. اهـ. وقال الحافظ في «التقريب» (2/ 52) : متروك. وله متابع آخر: أخرجه المخلص في «فوائده» كما في «اللآلئ» (2/ 228) من طريق فهد بن حيان عن حفص بن غياث به. وفهد بن حيان: قال البخاري: سكتوا عنه، وقال أيضا: يتكلمون فيه. وقال العجلي: ضعيف الحديث. وذكره الدارقطني في «الضعفاء والمتروكين» . ينظر: «التاريخ الصغير» (2/ 331، 344) ، و «الثقات» للعجلي (1157) ، و «الضعفاء والمتروكين» للدار قطني (436) .

المؤمنين في أَمْر أُحُدٍ، وفيه نزلَتْ هذه الآياتُ كلُّها، وكان من أمر غزوة أُحُدٍ أَنَّ المُشْرِكِينَ اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجُلٍ، وقصدوا المدينةَ ليأخذوا بثأرهم في يوم بَدْرٍ، فنزلوا عند أُحُدٍ يوم الأربعاء، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ، سنَةَ ثلاثٍ من الهجرةِ، على رأس أَحَدٍ وثلاثين شهرًا من الهجْرة، وأقاموا هنالك يوم الخميس، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة يدبِّر وينتظرُ أمْرَ اللَّهِ سبحانه، فلَمَّا كان في صَبِيحَة يَوْم الجُمُعة، جَمَعَ رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم النَّاس واستشارهم، وأخبرهم أنه كان يرى بقرًا تُذْبَح، وثَلْماً في ذُبَابِ سَيْفه، وأنَّهُ يُدْخِلُ يده في دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وأنه تأوَّلها المدينةَ، وقال لهم: أرى ألاَّ نخرج إلى هؤلاء الكُفَّارِ، فقال له عبدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ: أَقِمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ تَخْرُجْ إلَيْهِمْ بِالنَّاسِ، فَإنْ هُمْ أَقَامُوا، أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ، وإنِ انْصَرَفُوا، مَضَوْا خَائِبِينَ، وَإنْ جَاءُونَا إلَى المَدِينَةِ، قَاتَلْنَاهُمْ فِي الأَفْنِيَةِ وَرَمَاهُمُ النّساء والصّبيان بالحجارة من الآطام «1» ، فو الله، مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوٌّ فِي هَذِهِ المَدِينَةِ إلاَّ غَلَبْنَاهُ، وَلاَ خَرَجْنَا مِنْهَا إلى عَدُوٍّ إلاَّ غَلَبَنَا، فَوَافَقَ هَذَا الرَّأْيُ رَأْيَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، ورَأْيَ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وقَالَ قَوْمٌ مِنْ صُلَحَاءِ المُؤْمِنِينَ مِمَّنْ فَاتَتْهُ بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخرج بِنَا إلى عَدُوِّنَا، وَشَجَّعُوا النَّاسَ، وَدَعَوْا إلَى الحَرْبِ، فَقَامَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلى بِالنَّاسِ صَلاَةَ الجُمُعَةِ، وَقَدْ حَشَّمَهُ هَؤُلاَءِ الدَّاعُونَ إلَى الحَرْبِ، فَدَخَلَ إثْرِ صَلاَتِهِ بَيْتَهُ، وَلَبِسَ سِلاَحَهُ، فَنَدِمَ أُولَئِكَ القَوْمُ، وَقَالُوا: أَكْرَهْنَا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا خرج عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فِي سِلاَحِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ، إنْ شِئْتَ، فَإنَّا لاَ نُرِيدُ أنْ نُكْرِهَكَ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ لَبِسَ سِلاَحَهُ أَنْ يَضَعَهَا حتى يُقَاتِل، ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّاسِ، وَسَارَ حتى قَرُبَ مِنْ عَسْكَرِ المُشْرِكِينَ، فَعَسْكَرَ هُنَالكَ، وَبَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ غَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ، وَعَصَانِي، فَلَمَّا كَانَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمَ السَّبْتِ، اعتزم النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى المَسِيرِ إلى مُنَاجَزَةِ المُشْرِكِينَ، فَنَهَضَ وَهُوَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، فانخزل عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ بِثَلاَثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ مُنَافِقٍ وَمُتَّبِعٍ، وَقَالُوا: نَظُنُّ أَنَّكُمْ لا تلقون قتالا، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فِي سبْعِمِائةٍ/ فَهَمَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو حَارِثَةَ مِنَ الأَوْسِ وَبَنُو سَلِمَةَ مِنَ الخَزْرَجِ بالانْصِرَافِ، وَرَأَوْا كَثَافَةَ المُشْرِكِينَ، وَقِلَّةَ المُسْلِمِينَ، وَكَادُوا أَنْ يَجْبُنُوا، وَيَفْشَلُوا، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ تعالى، وَذَمَّ بَعْضُهُمْ بعضا، ونهضوا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى أَطَلَّ عَلَى المُشْرِكِينَ فَتَصَافَّ النَّاسُ، وَكَانَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ أَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ «2» ، وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً، وَجَعَلَهُمْ يَحْمُونَ الجَبَلَ وراء المسلمين،

_ (1) واحدها: أطم، وهي حصون مبنية بحجارة. ينظر: «لسان العرب» (93) . (2) عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري، أخو خوّات بن جبير. -

[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 إلى 125]

وَأسْنَدَ هُوَ إلَى الجَبَلِ، فَلَمَّا اضطرمت نَارُ الحَرْبِ، انكشف المُشْرِكُونَ، وانهزموا، وَجَعَلَ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ يَشْدُدْنَ فِي الجَبَلِ، وَيَرْفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قَدْ بَدَتْ خَلاَخِيلُهُنَّ، فَجَعَلَ الرُّمَاةُ يَقُولُونَ: الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ قَالَ لَهُمْ: لاَ تَبْرَحُوا مِنْ هُنَا، وَلَوْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ: اتقوا اللَّهَ واثبتوا كَمَا أَمَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ، فَعَصَوْا، وَخَالَفُوا، وانصرفوا يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَ المُسْلِمِينَ لِلْخَيْلِ، وَجَاءَ خَالِدٌ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ مِنْ خَلْفِ المُسْلِمِينَ، حَيْثُ كَانَ الرُّمَاةُ، فَحَمَلَ عَلَى النَّاسِ، وَوَقَعَ التَّخَاذُلُ، وَصِيحَ فِي المُسْلِمِينَ مِنْ مُقَدِّمَتِهِم، وَمِنْ سَاقَتِهِمْ، وَصَرَخَ صَارِخٌ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَتَخَاذَلَ النَّاسِ، واستشهد مِنَ المُسْلِمِينَ سَبْعُونَ، وَتَحَيَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي أَعْلَى الجَبَلِ، وَتَحَاوَزَ النَّاسُ» . هَذَا مختصرٌ من القصَّة يتركَّب عليه تفسيرُ الآياتِ، وأمْرِ أُحُدٍ مستوعَبٌ في السِّيَرِ، وليس هذا التعليقُ ممّا يقتضي ذكره، وتُبَوِّئُ: معناه: تُعَيِّنُ لهم مقاعدَ يتمكَّنون فيها، ويثْبُتُون، وقوله سبحانه: مَقاعِدَ: جمعُ مَقْعَدٍ، وهو مكانُ القعود، وهذا بمنزلة قولك: مَوَاقِف، ولكنَّ لفظة القُعُود أدلُّ على الثبوتِ، ولا سيَّما أنَّ الرماة إنما كانوا قُعُوداً، وكذلك كانَتْ صفوفُ المسلمين أولاً والمُبَارِزَةُ والسَّرعَان «1» يَجُولُون. قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ، أي: ما تقولُ: وما يقالُ لك وقت المشاورة وغيره، وهَمَّتْ: معناه: أرادَتْ، ولم تَفْعَلْ، والفَشَل: في هذا الموضع: هو الجُبْن الذي كاد يلحق الطَّائفتين، ففي البُخَاريِّ وغيره، عَنْ جَابِرٍ، قال: نزلَتْ هذه الآيةُ فينا إذ همَّت طائفتان في بَنِي سَلِمَةَ وبَنِي حَارِثَةَ، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما «2» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 125] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ... لمّا أمر الله سبحانه بالتوكّل

_ - قال البخاريّ: حديثه في أهل «المدينة» ، شهد العقبة وبدرا، واستشهد بأحد، وكان أمير الرماة. ينظر: «الإصابة» (4/ 31) . (1) سرعان الناس وسرعانهم: أوائلهم المستبقون إلى الأمر. ينظر: «لسان العرب» (1995) . (2) أخرجه البخاري رقم (4558) . [.....]

عليه، ذَكَّر بأَمْر بَدْرٍ الذي كان ثَمَرَتُهُ التوكُّلَ عَلَى اللَّه سبحانه، والثِّقَةَ به. وقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ: معناه: قليلون، واسم الذُّلِّ في هذا الموضع: مستعارٌ إذ نسبتهم إلى عدوِّهم، وإلى جميعِ الكفَّار في أقطار الأرض تَقْتَضِي عند المتأمِّل ذِلَّتَهُمْ، وأنهم مغلوبُونَ رَوَى ابن عمرو «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلاَثِمِائَةٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ، إنَّهُمْ حُفَاةٌ، فاحملهم، اللَّهُمَّ إنَّهُمْ عُرَاةٌ، فاكسهم، اللَّهُمَّ، إنَّهُمْ جِيَاعٌ، فَأَشْبِعْهُمْ» ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فانقلبوا حِينَ انقلبوا، وَمَا فِيهِمْ رجُلٌ إلاَّ قَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أوْ جمَلَيْنِ، واكتسوا، وَشَبِعُوا» «1» رواه أبو داود، والحاكمُ في «المستدرك على الصَّحيحَيْن» ، واللفظ له، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخَيْن. اهـ من «السلاح» . وقوله سبحانه: إِذْ/ تَقُولُ: العاملُ في «إذ» فعلٌ مضمرٌ، ويحتملُ أنْ يكون العاملُ «نَصَرَكُمْ» ، وعلى هذا قولُ الجمهورِ أَنَّ هذا القولَ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ ببَدْرٍ، قال ابنُ عبَّاس: لم تقاتِلِ الملائكةُ في يَوْمٍ من الأيامِ إلا يَوْمَ بَدْرٍ، وكانوا يكونون في سائرِ الأيام عدَداً ومَدداً لا يَضْرِبُون «2» ، قال الشَّعْبِيُّ: وهم يحضرون حروبَ المُسْلمين إلى يَوْمِ القيامة، وقال قتادة: أمد اللَّه المؤمنين يَوْمَ بَدْر بخَمْسَة آلاف «3» ، قال عِكْرِمَةُ: كان الوعْدُ يوْمَ بدرٍ، فلم يصْبروا يَوْمَ أُحُدٍ، ولا اتقوا، فلم يُمَدُّوا، ولَوْ مُدُّوا، لَمْ يهزموا «4» ، وقال الضَّحَّاك، وابنُ زيدٍ: إنما كان هذا الوعدُ والمقالة للمؤمنين يوم أحُدٍ، ففَرَّ الناس، ووَلَّوْا مدبرين، فلم يمدَّهم اللَّه، وإنما مُدَّوا يوم بدر بألفٍ من الملائكة مُرْدِفِينَ «5» ، والفَوْرُ: النهوضُ المُسْرِعُ إلى الشيء مأخوذ من فَوْرِ القِدْرِ، والماءِ ونحوِهِ ومنه: الفور في الحجّ والوضوء

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 88) ، كتاب «الجهاد» باب في نفل السرية تخرج من المعسكر، حديث (2747) ، والحاكم (2/ 132- 133) ، والبيهقي (9/ 57) كتاب «السير» ، باب قسم الغنيمة في دار الحرب، من حديث عبد الله بن عمرو. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 422) برقم (7749) ، وذكره ابن عطية (1/ 503) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 423) برقم (7753) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 124) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 424) برقم (7758) ، وذكر ابن عطية في «تفسيره» (1/ 503) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 124) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 503) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 124) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 126 إلى 129]

ومُسَوِّمِينَ: معناه: مُعْلِمِينَ بعَلاَماتٍ، وروي أنَّ الملائكةَ أَعْلَمَتْ يَوْمَ بَدْرٍ بعمائمَ بِيضٍ إلاَّ جِبْرِيل فإنه كان بِعَمَامَةٍ صَفْرَاءَ على مثالِ عَمَامَةِ الزُّبَيْرِ بن العوّام «1» ، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ للمسلمينَ يَوْمَ بَدْرٍ: «سُوِّمُوا فَإنَّ المَلاَئِكَةَ قد سوّمت» «2» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 126 الى 129] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) وقوله سبحانه: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ: الضميرُ في جَعَلَهُ اللَّهُ: عائدٌ على الإنزال والإمداد، ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا بهِ، وتطمئنَّ به قلوبكم، وترون حِفَايَةَ اللَّه بكم، وإلا فالكثرةُ لا تُغْنِي شيئًا إلاَّ أنْ ينصر اللَّه، واللاَّمُ في قوله: لِيَقْطَعَ متعلِّقة بقوله: وَمَا النَّصْرُ، ويحتمل أنْ تكون متعلِّقة ب جَعَلَهُ فيكون قَطْع الطَّرف إشارةً إلى مَنْ قتل ببَدْرٍ على قول ابن إسحاق وغيره، أو إلى «3» من قتل بأحد على ما قال السُّدِّيُّ «4» ، وقتل من المشركين ببَدْرٍ سبعون، وقُتِلَ منهم يوم أحد اثنان وعِشْرُونَ رجُلاً، والطرف الفريق. وقوله سبحانه: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: معناه يُخْزِيَهُمْ والكَبْتُ: الصرع لليَدَيْن. وقال ص: الكَبْت: الهزيمة، وقيل: الصَّرْع لليدين اهـ.

_ (1) الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. أبو عبد الله القرشي. الأسدي. حواري الرسول صلّى الله عليه وسلّم وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وهو صحابي مشهور، وفضائله كثيرة لا يتسع المقام للكلام عنها. قتل بعد منصرفه يوم الجمل في جمادى الأولى سنة (36) ، وله ست أو سبع وستون سنة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 249) ، و «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 188) ، و «الإصابة» (3/ 5) ، و «الاستيعاب» (2/ 510) ، و «التاريخ الكبير» (3/ 409) ، و «حلية الأولياء» (1/ 809) ، و «الكاشف» (1/ 320) ، و «الرياض المستطابة» (74) ، و «المصباح المضيء» (1/ 114) ، و «الرياض النضرة» (2/ 351) ، و «البداية والنهاية» (7/ 449) ، و «بقي بن مخلد» (84) و «الأنساب» (1/ 216) ، و «صفة الصفوة» (1/ 342) ، و «سير أعلام النبلا» (1/ 41) . (2) أخرجه سعيد بن منصور (2/ 360) رقم (2861) عن عمير بن إسحاق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 505) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 430) برقم (7799) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 422) ، وابن عطية في «تفسيره» (1/ 505) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 إلى 132]

وقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ... الآية: رُويَ في سبب هذه الآية أنَّه لما هزم أصحابه صلّى الله عليه وسلّم، وشُجَّ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، جَعَلَ يَمْسَحُ وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ» ، وفي بعض طُرُق الحَدِيثِ: «كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللَّه» ، فَنَزَلَتِ الآيةُ، فقيلِ لَهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أي: عواقب الأمور بيد اللَّه، فامض أنْتَ لشأْنِكَ، ودُمْ على الدعاء إلى ربِّك. قلت: وقد فعل ذلك صلّى الله عليه وسلّم ممتثلاً أَمْرَ ربِّه، قال عِيَاض: رُوِيَ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، شَقَّ ذَلِكَ على أَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِياً، وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهد قَوْمِي، فإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» «1» ، ورُوِيَ عن عُمَر (رضي اللَّه عنه) أنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كلامه: بِأَبِي وَأُمِّي أنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ دَعَا نُوحٌ على قَوْمِهِ، فَقَالَ: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ [نوح: 26] الآية وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنَا، لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، فَلَقَدْ وُطِيءَ ظَهْرُكَ، وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ، وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَتُكَ، فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلاَّ خَيْراً، فَقُلْتَ: «اللَّهُمَّ، اغفر لِقَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» اهـ. قال الطبريُّ «2» وغيره من المفسِّرين: أَوْ يَتُوبَ عطْفٌ على يَكْبِتَهُمْ والمعنى: أوْ يَتُوبَ عليهم، فَيَسْلَمُونَ/ أو يُعَذِّبَهم، إنْ تَمَادَوْا على كفرهم فإنهم ظالمون، ثم أكَّد سبحانه معنى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بذكْرِ الحُجَّةِ السَّاطعة في ذلك، وهي ملكه الأشياء، فقال سُبْحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أي: فله سبحانه أنْ يفعل بحَقِّ ملكه ما يشاء، لا اعتراض علَيْه ولا معقِّب لحُكْمه، وذَكَر سبحانَهُ: أنَّ الغُفْران أو التَّعْذيب، إنما هو بمشيئَتِهِ، وبحَسَب السَّابق في علْمه، ثم رجى سبحانه في آخر ذلك تأنيسا للنّفوس. [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ... الآية. قال ع «3» : هذا النهْيُ عن أَكْلِ الربا اعترَضَ أثناء قِصَّة أُحُدٍ، ولا أحفظ سببا في ذلك

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2006- 2007) ، كتاب «البر والصلة» ، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، حديث (87/ 2599) عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله: ادع على المشركين. قال: «إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة» . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 431) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 506) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 إلى 134]

مرويًّا، ومعناه: الرِّبَا الذي كانت العربُ تُضعِّف فيه الدَّيْن، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في «سورة البقرة» . وقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، أي: أنهم المقصودُ، والمراد الأوَّل، وقد يدخُلُها سواهم من العُصَاة، هذا مذْهَبُ أهل العلْمِ في هذه الآية، وحكَى الماوَرْدِيُّ «1» وغيره، عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أَكَلَة الرِّبا، إنما توعَّدهم اللَّهُ بنارِ الكَفَرة، لا بنار العُصَاة. وقوله سبحانه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، قال محمَّد بْنُ إسحاق: هذه الآية من قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ هي ابتداءُ المعاتبةِ فِي أمر أُحُدٍ، وانهزام مَنْ فَرَّ، وزوال الرماة عن مراكزهم «2» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 134] وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وقوله تعالى: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، قرأ نافعٌ، وابنُ عامِرٍ: سارعوا بغَيْر «واوٍ» وكذلك هي في مصاحِفِ أهل المدينة والشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، والمُسَارَعَة: المبادرةُ، وهي مفاعلة إذ الناس كأن كلَّ واحِدٍ يُسْرِعُ لِيَصِلَ قبل غيره، فَبَيْنَهُمْ في ذلك مُفَاعَلَةٌ أَلاَ ترى إلى قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [البقرة: 148] ، والمعنى: سارعوا بالطَّاعة، والتقوى، والتقرُّب إلى ربِّكم إلى حالٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فيها، قلْتُ: وحقٌّ على مَنْ فَهِمَ كلامَ ربِّه أنْ يبادر ويُسَارع إلى ما ندبه إلَيْه ربُّه، وألاَّ يتهاوَنَ بترك الفضائِلِ الواردَةِ في الشّرع، قال النوويّ- رحمه الله-: اعلم أنه ينبغِي لِمَنْ بلغه شيْءٌ في فضائلِ الأعمال أنْ يعمل به، ولو مَرَّةً ليكون مِنْ أهله، ولا ينبغي أنْ يتركه جملةً، بل يأتي بما تيسَّر منه لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتّفق على صحّته: «وإذا

_ (1) علي بن محمد بن حبيب، القاضي أبو الحسن الماوردي، البصري، أحد أئمة أصحاب الوجوه، تفقه على أبي القاسم الصيمري، وسمع من أبي حامد الأسفراييني، قال الخطيب: كان ثقة، من وجوه الفقهاء الشافعيين. وقال الشيرازي: وله مصنفات كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الفقه والأدب، وكان حافظا للمذهب. ومن تصانيفه: «الحاوي» . قال الأسنوي: ولم يصنف مثله، والأحكام السلطانية والتفسير المعروف بالنكت والعيون وغيرها. مات سنة 450. انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 230) ، و «تاريخ بغداد» (12/ 102) ، و «طبقات السبكي» (3/ 303) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 435) برقم (7828) . [.....]

أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فافعلوا مِنْهُ مَا استطعتم» «1» . انتهى من «الحلية» . وقوله سبحانه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أي: كعرض السموات والأرض، قال ابنُ عبَّاس في تفسير الآية: تقرن السمواتُ والأرَضُونَ بعضها إلى بعض كما تبسطُ الثيابُ، فذلك عَرْضُ الجَنَّة ولا يَعْلَمُ طولَهَا إلا اللَّه سبحانه «2» وفي الحديث الصحيح عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَسَيَأْتِي عَلَيْهَا يَوْمٌ يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهَا كَمَا تَزْدَحِمُ الإبِلُ، إذَا وَرَدَتْ خُمُصاً ظِمَاءً» «3» . وفي الصحيح: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها» «4» فهذا كلّه يقوّي

_ (1) أخرجه البخاري (130/ 264) ، كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» ، باب الاقتداء بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حديث (7288) ، ومسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، حديث (131/ 1337) ، وأحمد (2/ 258) ، والحميدي (2/ 477) رقم (1125) ، وأبو يعلى (11/ 195) رقم (6305) كلهم من طريق أبي الزِّنَادِ عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» . ومن طريق أبي الزناد أخرجه البغوي في «شرح السنة» (1/ 177- بتحقيقنا) . وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة: فأخرجه مسلم (2/ 975) كتاب «الحج» ، باب فرض الحج مرة في العمر، حديث (412/ 1337) ، والنسائي (5/ 110) كتاب «الحج» ، باب وجوب الحج، وأحمد (2/ 447- 448، 457، 467، 508) ، وابن خزيمة (4/ 129) رقم (2508) من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الرزاق (11/ 220) رقم (20374) ، ومسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، (131/ 1337) ، وأحمد (2/ 313) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 176- بتحقيقنا) من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (2/ 247، 428، 517) ، والحميدي (2/ 477) رقم (1125) ، وابن حبان (2097- الإحسان) من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، حديث (131/ 1337) ، والترمذي (5/ 45- 46) كتاب «العلم» ، باب في الانتهاء عما نهى عنه سول الله صلّى الله عليه وسلّم، حديث (2679) من طريق همام بن المنبه عن أبي هريرة. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 436) برقم (7829) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 128) ، وعزاه لابن جرير. (3) تقدم تخريجه. (4) أخرجه البخاري (8/ 495) كتاب «التفسير» ، باب تفسير سورة الواقعة، حديث (4881) ، ومسلم (4/ 2175) كتاب «الجنة وصفة نعيمها» ، باب أن في الجنة شجرة، حديث (7/ 2826) ، وأحمد (2/ 257، 418) ، والحميدي (2/ 479) رقم (1131) ، وابن حبان (7411- الإحسان) ، وأبو نعيم في «صفة الجنة» (403) ، والبيهقي في «البعث» (268) ، وابن الجوزي في «مشيخته» (ص 183) كلهم من طريق-

قولَ ابْنِ عَبَّاسِ، وهو قولُ الجُمْهور: «إنَّ الجنَّة أَكْبرُ من هذه المخلوقاتِ المذْكُورة، وهي ممتدَّة على السَّماء حيْثُ شاء/ اللَّه تعالى، وذلك لا يُنْكَرُ، فإن في حديث النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَمَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ» «1» . قال ع «2» : فهذه مخلوقاتٌ أعظم بكثير جدًّا من السمواتِ والأرضِ، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ مِنْ ذلك كلِّه، قلتُ: قال الفَخْر: «3» وفي الآية وجْه ثانٍ أنَّ الجنَّة التي عرضُها مثْلُ عَرْضِ السمواتِ والأرضِ، إنما تكونُ للرَّجُل الواحدِ لأن الإنسان يَرْغَبُ فيما يكون مِلْكاً له، فلا بُدَّ أَنْ تصير الجَنَّة المملوكة لكلِّ أحد مقْدَارُها هكذا. اهـ. وقُدْرَةُ اللَّه تعالى أوسع، وفَضْلُه أعظم، وفي «صحيح مسلم» ، والترمذيِّ، مِنْ حديث المُغَيرة بْنِ شُعْبَة «4» (رضي اللَّه عنه) : «في سُؤَال موسى رَبَّهُ عَنْ أدنى أَهْلِ الجنّة

_ - أبي الزِّنَادِ عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه البخاري (6/ 368) كتاب «بدء الخلق» ، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث (3252) ، وأحمد (2/ 482) من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عبد الرّحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة به. وأخرجه مسلم (4/ 2175) كتاب «الجنة وصفة نعيمها» ، باب أن في الجنة شجرة، حديث (6/ 2826) ، والترمذي (4/ 579) كتاب «صفة الجنة» ، باب ما جاء في صفة شجر الجنة، حديث (2523) ، وأحمد (2/ 452) ، والطبري في «تفسيره» (27/ 183) ، وابن أبي داود في «البعث» (67) ، وأبو نعيم في «صفة الجنة» (401) . من طريق الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به. وأخرجه ابن ماجة (2/ 1448) كتاب «الزهد» ، باب صفة الجنة، حديث (4335) ، وأحمد (2/ 438) ، والدارمي (2/ 338) من طريق محمَّد بنِ عَمْرٍو عن أَبي سَلَمَةَ عن أبي هريرة. وأخرجه الطيالسي (2/ 242- منحة) رقم (2833) ، وأحمد (2/ 455، 462) ، والدارمي (2/ 338) كتاب «الرقاق» ، باب في أشجار الجنة، والطبري (27/ 183) من طريق شعبة عن أبي الضحاك عن أبي هريرة به. (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 508) . (3) ينظر: «الفخر الرازي» (9/ 6) . (4) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس.. أبو عبد الله. معروف ب «مغيرة الرأي» . قال ابن الأثير: أسلم عام الخندق، وشهد «الحديبية» ، وله في صلحها كلام مع عروة بن مسعود.. وكان موصوفا بالدهاء، قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات. وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير. توفي ب «الكوفة» سنة (50 هـ) . -

مَنْزِلَةً، وَأَنَّهُ رَجُلٌ يَأْتِي بَعْدَ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: أترضى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الخَامِسَةِ: رَضِيتُ، أيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ، أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشتهت نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ» «1» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البخاريِّ من طريقِ ابْنِ مسعودٍ (رَضِيَ اللَّه عَنه) : «إنَّ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّة، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادخل الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ، الجَنَّةُ ملأى، فَيَقُولُ لَهُ: إنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مَرَّاتٍ» «2» . اهـ. وفي «جامع التِّرمذيِّ» ، عن ابنِ عُمَرَ (رضي اللَّه عنهما) ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً ... » «3» الحديثَ، قال أبو عيسى، وقد روي هذا الحديث من غير وَجْهٍ، مرفوعًا وموقوفًا، وفي الصَّحيحِ ما معناه: «إذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، تبقى فِيهَا فَضْلَةٌ، فَيُنْشِيءُ اللَّهُ لَهَا خَلْقاً» ، أَوْ كما قال. اهـ. قال ع «4» : وخص العرض بالذِّكْر لأنه يدلُّ متى ما ذُكِرَ علَى الطُّولِ، والطُّولُ إذا ذكر لا يدُلُّ على قَدْر العَرْض، بل قد يكونُ الطَّويلُ يَسِيرَ العَرْضِ كالخَيْطِ ونحوه. ثم وصف تعالى المتَّقِينَ الذين أعدَّتّ لهم الجنَّةُ بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ

_ - ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 247) ، و «الإصابة» (6/ 131) ، و «الثقات» (3/ 382) ، و «الاستبصار» (97) ، و «الأعلام» (7/ 277) ، و «الاستيعاب» (4/ 1445) ، و «الكاشف» (3/ 168) ، و «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 91) ، و «العقد الثمين» (7/ 255) ، و «الجرح والتعديل» (8/ 224) ، و «التاريخ الكبير» (7/ 316) ، و «تاريخ جرجان» (295) . (1) أخرجه مسلم (1/ 581، 582- الأبي) ، كتاب «الإيمان» ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث (312/ 189) ، والترمذي (5/ 347) كتاب «تفسير القرآن» ، باب «ومن سورة السجدة» ، حديث (3198) . وقال الترمذي: حسن صحيح. (2) أخرجه البخاري (13/ 482) ، كتاب «التوحيد» ، باب كلام الرب (عز وجل) يوم القيامة مع الأنبياء، حديث (7511) . (3) أخرجه الترمذي (4/ 688) ، كتاب «صفة الجنة» ، باب (17) ، حديث (2553) من حديث ابن عمر. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 509) . [.....]

، وهما اليُسْر والعُسْر، قاله ابن عَبَّاس «1» . إذ الأغلَبُ أنَّ مع اليُسْر النَّشَاطَ، وسرورَ النفْسِ، ومع العُسْر الكراهيَةَ، وضُرَّ النفس، وكَظْمُ الغَيْظ: ردُّه في الجَوْفِ، إذا كاد أنْ يخرج من كثرته، ومنعه: كظْمٌ له، والكِظَامُ: السَّيْر الذي يشدُّ به فَمُّ الزِّقِّ، والغَيْظُ: أصْلُ الغضَبِ، وكثيراً ما يتلازمَانِ ولذلك فسَّر بعض الناس الغَيْظَ بالغَضَب، وليس تحريرُ الأمر كذلك، بل الغيظُ حالٌ للنفس، لا تظهر على الجوارح، والغضبُ حالٌ لها تظهر في الجوارحِ وفِعْلٍ مَّا ولا بدَّ ولهذا جاز إسناد الغَضَب إلى اللَّه سبحانه إذ هو عبارة عن أفعاله في المغْضُوب علَيْهم، ولا يسند إلَيْه تعالى الغَيْظُ. ووردَتْ في كظْمِ الغيظ، ومِلْكِ النفْسِ عند الغضب أحاديثُ، وذلك من أعظم العباداتِ، وجهادِ النفسِ، ففي حديثِ أبِي هريرة (رضي الله عنه) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً، وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ، مَلأَهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً» ، إلى غير ذلك من الأحاديثَ، قُلْتُ: وروى أبو داوُدَ، والترمذيُّ عن معاذِ بْنِ أَنَس «2» (رضي اللَّه عنه) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً، وَهُوَ يَقْدِرُ على أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ على رُءُوسِ الخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، حتى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ» «3» ، قَالَ أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. اهـ. وفي روايةٍ أخرى لأبي داود: «مَلأهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جمال،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 437) برقم (7837) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 509) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 128) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) هو: معاذ بن أنس، الجهني، حليف الأنصار. قال أبو سعيد بن يونس: صحابي كان ب «مصر» و «الشام» ، روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. وله رواية عن أبي الدرداء وكعب الأحبار. روى عنه ابنه سهل بن معاذ وحده. وذكر أبو أحمد العسكري ما يدل على أنه بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 193) ، والإصابة» (6/ 106) ، و «الثقات» (3/ 370) ، و «الاستيعاب» (3/ 1402) ، و «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 80) ، و «بقي بن مخلد» (93) ، و «الكاشف» (3/ 153) ، و «الجرح والتعديل» (8/ 245) ، و «تهذيب الكمال» (3/ 1338) ، و «تهذيب التهذيب» (10/ 186) . (3) أخرجه أبو داود (2/ 662) ، كتاب «الأدب» ، باب من كظم غيظا، حديث (4777) ، والترمذي (4/ 656) كتاب «صفة القيامة» ، باب (48) ، حديث (2493) ، وابن ماجة (2/ 1400) كتاب «الزهد» ، باب الحلم، حديث (4186) ، وأحمد (3/ 440) ، والبيهقي (8/ 161) كتاب قتال أهل البغي. كلهم من طريق سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 إلى 136]

وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، - قَالَ بِشْرٌ: أَحْسِبُهُ قَالَ: تَوَاضُعاً-، كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ» «1» ، وحدَّث الحافظُ أَبو الفَضْلِ محمَّد بنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيُّ «2» بسنده، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من كفّ غضبه، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ، وَمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنِ اعتذر إلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ» «3» . اهـ من «صفوة التَّصوُّف» . والعَفْوُ عَنِ النَّاسِ: من أجلِّ ضروبِ فعْلِ الخَيْرِ، ثم قال سبحانه: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فعم أنواع البرِّ، وظَاهر الآية أنَّها مدْحٌ بفعل المندوب. [سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ... الآية: ذكر سبحانه في هذه الآيةِ صِنْفاً هو دُون الصِّنف الأول، فألحقهم بهم برَحْمته ومَنِّه، وهم التَّوَّابون، وروي في سَبَب نُزُول هاتَيْن الآيتَيْن أن الصحابَةَ (رضي اللَّه عنهم) ، قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا حِينَ كَانَ المُذْنِبُ مِنْهُمْ يُصْبِحْ، وَعُقُوبَتُهُ مَكْتُوبَةٌ على بَابِ دَارِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً، وَعِوَضاً مِنْ ذَلِكَ الفِعْلِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ» «4» . ورُوِيَ أَنَّ إبليسَ بكى، حين نزَلَتْ هذه الآيةُ، والفاحشةُ لفظٌ يعمُّ جميع المعاصِي، وقد كثر استعماله في الزِّنا حتى فسر السُّدِّيُّ الفاحشَةَ هنا بالزِّنَا «5» ، وقال قومٌ: الفاحشة

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 663) ، كتاب «الأدب» ، باب من كظم غيظا، حديث (4778) من طريق سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به. (2) محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الشيباني، ابن القيسراني، أبو الفضل: رحالة مؤخر، من حفاظ الحديث، كان مولده ب «بيت المقدس» سنة 448 هـ ووفاته ب «بغداد» 507 هـ، له كتب كثيرة، منها: «تاريخ أهل الشام، ومعرفة الأئمة منهم والأعلام» ، و «معجم البلاد» ، و «صفوة التصوف» . ينظر: «الأعلام» (6/ 171) ، و «وفيات الأعيان» (1/ 486) ، و «ميزان الاعتدال» (3/ 75) ، و «لسان الميزان» (5/ 207) . (3) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 73) ، وقال رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه عبد السلام بن هلال، وهو ضعيف. (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 137) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن مسعود. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 439) برقم (7846) ، وذكره ابن عطية (1/ 510) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 137) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

هنا: إشارةٌ إلى الكبائِرِ، وظُلْمُ النَّفْس: إشارةٌ إلى الصَّغائر، واستغفروا: معناه: طلبوا الغُفْران. قال النوويُّ: وَرُوِّينَا في سنن ابْنِ ماجة بإسنادٍ جيدٍ، عن عبد اللَّه بْنُ بُسْرٍ «1» (بضم الباء) ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ استغفارا كَثِيراً» «2» انتهى من «الحلية» . وذَكَرُوا اللَّهَ: معناه: بالخَوْفِ من عقابِهِ، والحَيَاءِ منه إذ هو المُنْعِمُ المتطَوِّل، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ اعتراضا موقِّفاً للنفْس، داعياً إلى اللَّه مرجِّياً في عفوه، إذا رجع إلَيْه، وجاء اسم «اللَّهِ» مرفوعًا بعد الاستثناء، والكلامُ موجَبٌ حملاً على المعنى إذ هو بمعنى، ومَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّه، وعن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ (رضي اللَّه عنه) ، قَالَ: حدَّثني أبو بكر رضي اللَّه عنه، وصَدَقَ أبو بكر، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْباً، ثُمَّ يَقُومُ، فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قرأَ هذه الآيةَ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ... إلى آخر الآية» رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن

_ (1) عبد الله بن بسر. أبو صفوان. وقيل: أبو بسر. المازني. الحمصي. قال ابن الأثير في «الأسد» : صلى القبلتين. وضع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يده على رأسه ودعا له. صحب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو وأبوه وأمه وأخوه عطية وأخته الصماء. وروى عنه الشاميون، منهم: خالد بن معدان، ويزيد بن خمير، وسليم بن عامر، وراشد بن سعد، وغيرهم. وهو آخر من مات ب «الشام» من الصحابة. توفي سنة (88) وله (94 سنة) ، وقيل: مات ب «حمص» سنة (96) وله (100 سنة) . ينظر: «أسد الغابة» (3/ 186) ، و «الإصابة» (4/ 40) ، و «الثقات» (3/ 232) ، و «الاستيعاب» (3/ 874) ، و «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 300) ، و «الأعلام» (4/ 74) ، و «الرياض المستطابة» (205) ، و «التاريخ الكبير» (3/ 14) ، و «الصغير» (2/ 76) ، و «التاريخ» لابن معين (2/ 45) ، و «الطبقات الكبرى» (7/ 463) . (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1256) ، كتاب «الأدب» ، باب الاستغفار، حديث (3818) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 118) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ثواب ذلك، حديث (10289) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 440) رقم (647) من طريق محمد بن عبد الرّحمن عن عبد الله بن بسر مرفوعا. قال البوصيري في «الزوائد» (3/ 196) : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. اهـ. وللحديث شاهد من حديث عائشة: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 395) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (9/ 11) ، والبيهقي في «الشعب» (1/ 440) رقم (646) من طريق منصور بن صفية عن أمه عن عائشة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن سب الأموات، وقال: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا» .

ماجه، وابن حبان في «صحيحه» ، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: حديثٌ حَسَن «1» انتهى من «السلاح» . وقوله سبحانه: وَلَمْ يُصِرُّوا: الإصْرَارُ: هو المُقَامُ على الذّنب، واعتقاد العودة

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 476- 477) ، كتاب «الصلاة» ، باب في الاستغفار، حديث (1521) ، والترمذي (5/ 228) كتاب «التفسير» ، باب سورة آل عمران، حديث (3006) ، وابن ماجة (1/ 446) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في أن الصلاة كفارة، حديث (1395) ، وأحمد (1/ 2، 10) ، والحميدي (1، 4) ، والمروزي في «مسند أبي بكر» رقم (9، 10، 11) ، وأبو يعلى (1/ 11) رقم (1) ، وابن حبان (2/ 389، 390- الإحسان) رقم (623) كلهم من طريق عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي بن أبي طالب عن أبي بكر الصديق به. وأخرجه أحمد (1/ 8- 9) من طريق شعبة عن عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة عن أسماء أو ابن أسماء به. وقال الترمذي: هذا حديث قد رواه شعبة وغير واحد عن عثمان بن المغيرة فرفعوه، ورواه مسعر وسفيان عن عثمان بن المغيرة فلم يرفعاه، وقد رواه بعضهم عن مسعر فأوقفه ورفعه بعضهم، ورواه سفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة، فأوقفه، ولا نعرف لأسماء بن الحكم حديثا إلا هذا. اهـ. والحديث صححه ابن حبان. وكذلك الدارقطني فقد تكلم على هذا الحديث في «العلل» (1/ 176- 180) فقال: رواه عثمان بن المغيرة، ويكنى أبا المغيرة، وهو عثمان بن أبي زرعة، وهو عثمان الأعشى. رواه عن علي بن ربيعة الوالبي عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي بن أبي طالب. حدث به عنه كذلك مسعر بن كدان وسفيان الثوري، وشعبة، وأبو عوانة، وشريك، وقيس، وإسرائيل، والحسن بن عمارة، فاتفقوا في إسناده إلا أن شعبة من بينهم شك في أسماء بن الحكم، فقال: عن أسماء أو أبي أسماء أو ابن أسماء، وخالفهم علي بن عابس، فرواه عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي، ووهم فيه قال ذلك عنه عبد الله بن وهب. وخالفه عبيد الله بن يوسف الجبيري، فرواه عن علي بن عابس عن عثمان عن رجل عن علي. وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي، واختلف عنه، فرواه عبد الوهاب بن الضحاك العرضي عن إسماعيل بن عياش عن أبان بن أبي عياش عن أبي إسحاق الهمداني قال: سمعت علي بن أبي طالب عن أبي بكر. وخالفه عبد الوهاب بن نجدة عن إسماعيل فقال فيه: عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن أبي بكر. وخالفهم موسى بن محمد بن عطاء، رواه عن إسماعيل بن عياش عن شعبة عن أبي إسحاق عن علي عن أبي بكر، لم يذكر بينهما أحدا، وموسى هذا متروك الحديث، مقدسي يعرف بأبي طاهر المقدسي، ورواه داود بن مهران الدباغ عن عمر بن يزيد قاضي المدائن عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي عن أبي بكر، وخالفه الفرج بن اليمان، رواه عمر بن يزيد عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي عن أبي بكر. وروى هذا الحديث أبو المثنى سليمان بن يزيد، واختلف عنه، فحدث به عبد الله بن حمزة الزبيري عن عبد الله بن نافع الصائغ عن أبي المثنى عن المغيرة بن علي عن علي عن أبي بكر، ووهم فيه-

[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 إلى 143]

إليه، وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ، قال السُّدِّيُّ: معناه: وهم يعلَمُونَ أنهم/ قد أَذْنَبُوا «1» ، وقال ابنُ إسحاق: معناه: وهم يعلمون بمَا حَرَّمْتُ عليهم «2» ، وقيل: وهم يعلَمُونَ أنَّ بابِ التوبة مفتوحٌ، وقيل: وهم يعلمون أنِّي أعاقب عَلَى الإصرار، ثم شَرَّك سبحانه الطَّائفَتَيْنِ المذكورتَيْن في قوله: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ... الآية. قال ص: قوله: وَنِعْمَ المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ، أي المغفرة والجنّة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 143] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وقوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... الآية: الخطابُ للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكُمْ أنْ ظَهَرَ الكُفَّار المكذِّبون عليكم بِأُحُدٍ، فإن العاقبة للمتَّقين، وقديماً ما أدال اللَّه المُكَذِّبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيْفَ هلَك المكذِّبون بَعْدَ ذلك، فكذلك تكُونُ عاقبةُ هؤلاءِ، وقال النَّقَّاش: الخِطَابُ ب قَدْ خَلَتْ للكُفَّار. قال ع «3» : وذلك قَلِقٌ، وخَلَتْ: معناه: مضَتْ، والسُّنَن: الطرائِقُ. وقال ابنُ زَيْد: سُنَنَ: معناه: أمثال «4» ، وهذا تفسيرٌ لا يخُصُّ اللفظة، وقوله: فَانْظُروا هو عند الجمهورِ مِنْ نظر العين، وقال قوم: هو بالفكر.

_ - وإنما رواه أبو المثنى عن المقبري، واختلف عن المقبري فيه، فقال مسلم بن عمرو الحذاء: عن ابن نافع عن ابن المثنى سليمان بن يزيد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن علي عن أبي بكر. وأحسنها إسنادا وأصحها ما رواه الثوري ومسعر ومن تابعهما عن عثمان بن المغيرة. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 442) برقم (7863) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 511) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 139) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 443) برقم (7864) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 511) . [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 511) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 444) برقم (7871) ، وذكره ابن عطية (1/ 512) .

وقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ، يريد به القُرآن قاله الحَسَن وغيره «1» ، وقال جماعة: الإشارة ب «هذا» إلى قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ. وقال الفَخْر «2» : يعني بقوله: هذا بَيانٌ ما تقدَّم من أمره سبحانه، ونَهْيِهِ، ووعدِهِ، ووعيدِهِ، وذكرِهِ لأنواع البيِّنات والآيات. انتهى. ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوَهَنِ، وهو الضَّعْف، وأنَّسهم بأنهم الأعلَوْنَ أصْحَابُ العاقبة، ومِنْ كَرَمِ الخُلُقِ ألاَّ يَهِنَ الإنسانُ في حربه، إذا كان مُحِقًّا، وإنما يحسن اللِّين في السّلم والرضى، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ» «3» ، وقوله سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إخبار بعُلُوِّ كلمة الإسلام، هذا قول الجمهور، وهو ظاهر اللفظ. قال ص: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: في موضِعِ نصبٍ على الحال. وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: المقصدُ هزُّ النفوسِ، وإقامتها، ويترتَّب من ذلك الطَّعْنُ على من نجم في ذلك اليَوْم نِفَاقُهُ أو اضطرب يقينه، أي: لا يتحصَّل الوعد إلاَّ بالإيمان، فالزموه، ثم قال تعالى تسليةً للمؤمنين: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، والأُسْوَةُ مسلاة للبَشَر ومنه قول الخَنْسَاء: [الوافر] وَلَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي ... على إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِن ... أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي «4» والقَرْح: القَتْل والجِرَاحْ قاله مجاهدٌ وغيره «5» . وقوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ، أخبر سبحانه على جهة التسلية أنَّ

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 444) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 426) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 139) ، وعزاه لابن جرير. (2) ينظر: «الفخر الرازي» (9/ 11) . (3) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (6/ 272) رقم (8127) من طريق يزيد بن عياض عن صفوان بن سليم عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا. وقال البيهقي: تفرد به يزيد بن عياض، وليس بالقوي، وروي من وجه آخر صحيح مرسلا. ثم أخرجه عن مكحول برقم (8128) مرسلا بلفظ «المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ استناخ على صخرة» . (4) ينظر: «ديوان الخنساء» (62) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 448) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 140) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

الأيام على قديم الدهر وغابِرِه أيضاً إنما جعلَهَا دُولاً بيْنَ البَشَر، أي: فلا تُنْكِرُوا أنْ يدَالَ عليكم الكفَّار. وقوله تعالى «1» : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، تقديره: وليَعْلَم اللَّهُ الذين آمنوا فعل ذلك، والمعنى: ليظهر في الوجود إيمانُ الذين قَدْ علم اللَّه أزلاً أنهم يؤمنون وإلاَّ فقد علمهم في الأزَلِ، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ: معناه أهْل فَوْز في سَبِيلِهِ، حسْبما وَرَدَ في فضائلِ الشهداءِ، وذَهَب كثيرٌ من العلماء إلى التَّعْبير عن إدَالَةِ المؤمنين بالنَّصْر، وعن إدالة الكفّار بالإدالة، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذلك حديثٌ «أنَّهُمْ يُدَالُونَ كَمَا تُنْصَرُونَ» والتمحيصُ: التنقيةُ، قال الخليل: التَّمْحِيصُ: التخليص من العَيْب، فتمحيصُ المؤمنينَ/ هو تنقيتُهم منَ الذُّنُوب، والمَحَقُ: الإذهاب شيْئاً فشيْئاً ومنه: مَحَاقُ القَمَر، وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ... الآية: حَسِبْتُم: معناه: ظَنَنْتُم، وهذه الآيةُ وما بعدها عَتْبٌ وتقريعٌ لطوائفَ مِنَ المؤمنين الَّذينَ وقَعَتْ منهم الهَنَوَاتُ المشْهورة في يَوْمِ أُحُدٍ، ثم خاطب اللَّه سبحانَهُ المؤمنين بقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، والسبب في ذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ في غزوةِ بَدْرٍ، يريدُ عِيرَ قُرَيْشٍ مبادراً، فلم يوعب النَّاس معه إذ كان الظنُّ أنه لا يلقى حَرْباً، فلَمَّا قضَى اللَّه ببَدْرٍ ما قضى، وفاز حاضِرُوها بالمَنْزِلة الرَّفيعةِ، كان المتخلِّفون من المؤمنين عنْها يتمنَّوْن حُضُور قتالِ الكُفَّار ليكونَ منْهُمْ في ذلك غَنَاء يُلْحِقُهُمْ عِنْدَ ربِّهم ونبيِّهم بمنزلةِ أهْل بَدْر، فلمَّا جاء أمْر أُحُدٍ، لم يَصْدُقْ كُلُّ المؤمنين، فعاتبهم اللَّه بهذه الآية، وألزمهم تمنِّيَ المَوْتِ من حيثُ تَمَنَّوْا أسبابه، وهو لقاءُ العَدُوِّ ومُضَارَبَتُهم، وإلاَّ فنَفْسُ قَتْل المُشْرِك للمُسْلِم لا يجُوزُ أنْ يتمنى من حيث هو قَتْلٌ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادةِ والتّنعيم، قُلْتُ: وفي كلام ع «2» : بعضُ إجمالٍ، وقد ترجم البخاريُّ تَمَنِّيَ الشهادةِ، ثم أسند عن أبي هريرة، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدتُّ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» وخرَّجه أيضًا مسلمٌ «3» ، وخرَّج البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديث

_ (1) في أ: سبحانه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 515) . (3) أخرجه البخاري (6/ 144) ، كتاب «الجهاد» ، باب الجعائل والحملان في السبيل، حديث (2972) -

[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 إلى 146]

أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ (عَزَّ وجَلَّ) خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا، وأَنَّ الدُّنْيَا لَهُ وَمَا فِيهَا، إلاَّ الشَّهِيدَ، لِمَا يرى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلُ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يرى مِنَ الكَرَامَةِ» . اهـ «1» . فقد تبيَّن لك تمنِّي القَتْلِ في سبيل اللَّه بهذه النُّصُوصِ لما فيه من الكرامة. وصَوَابُ كلام ع «2» : أنْ يقول: وإِنما يتمنَّى القتلُ للواحقه من الشَّهادةِ والتنْعِيمِ. وقوله سبحانه: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، يريد: رأيتم أسبابه، وقوله: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: تأكيدٌ للرؤية، وإخراجِها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 146] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... الآية: هذا استمرار في عتبهم، وإقامةُ الحُجَّة علَيْهم: المعنى أنَّ محمدًا- عليه السلام- رسُولٌ كسائرِ الرُّسُلِ قد بَلَّغ كما بلَّغوا، ولزمكم أيُّها المؤمنُونَ العَمَلُ بمُضَمَّن الرسالة، وليسَتْ حياته وبَقَاؤه بَيْنَ أظهركم شَرْطاً في ذلك لأنه يَمُوتُ كما مَاتَتِ الرُّسُل قبله، ثم توعَّد سبحانه المُنْقَلِبَ على عَقِبَيْهِ بقوله: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لأن المعنى: فإنما يضرُّ نفسه، وإياها يوبق، ثم وعد الشاكِرِينَ، وهم الذين صدَقُوا، وصَبَرُوا، ومَضَوْا في دينهم، ووفّوا لله

_ -، ومسلم (1495- 1496) كتاب «الإمارة» باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، حديث (3- 1/ 1876) ، ومالك في «الموطأ» (2/ 465) كتاب «الجهاد» ، باب الترغيب في الجهاد، حديث (4) . (1) أخرجه البخاري (6/ 18) ، كتاب «الجهاد» ، باب الحور العين وصفتهن، حديث (2795) ، ومسلم (3/ 1498) كتاب «الإمارة» ، باب فضل الشهادة، حديث (109/ 1877) ، والترمذي (4/ 151) ، كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء في ثواب الشهداء، حديث (1643) ، من طريق حميد عن أنس به. وأخرجه البخاري (6/ 39) كتاب «الجهاد» باب تمني الجهاد، حديث (2817) ، ومسلم (3/ 1498) ، كتاب «الإمارة» ، باب فضل الشهادة، حديث (109/ 1877) من طريق قتادة عن أنس به. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 515) .

بعدهم كسعدِ بْنِ الرَّبيع «1» ، ووصيته يومئذٍ للأنصار، وأَنَسِ بْنِ النَّضرِ «2» ، وغيرهما، ثم يَدْخُلُ في الآية الشاكرون إلى يوم القيامةِ، وقال عليٌّ (رضي اللَّه عنه) في تفسير هذه الآية «3» : الشاكِرُونَ الثَّابِتُونَ على دِينِهِمْ أبو بَكْر، وأصحابه، وكان يقولُ: أبُو بَكْرٍ/ أَمِيرُ الشَّاكِرِينَ إشارة منه إلى صَدْعِ أبي بَكْر بهذه الآيةِ يوم موت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وثبوتِهِ في ذلك المَوْطِن، وثبوتِهِ في أمْرِ الرِّدَّة، وسائرِ المواطنِ التي ظَهَرَ فيها شُكْرُهُ، وشُكْرُ الناس بسببه، ثم أخبر عزَّ وجلَّ عن النفوسِ أنها إنما تَمُوتُ بَأجَلٍ مَكْتُوبٍ محتومٍ عند اللَّه تعالى، أي: فالجُبْنُ والخَوَرُ لا يزيدُ في الأجَلِ، والشَّجَاعَةُ والإقدامُ لا ينقصُ منه، وفي هذه الآية تقويةٌ للنفوس في الجهادِ، وفيها ردٌّ على المعتزلة في قَوْلِهِمْ بِالأَجَلَيْنِ. وقوله سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ... الآية، أي: نؤت من شئْنا منها ما قُدِّرَ له يبيِّن ذلك قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] ، وقرينةُ الكلامِ تقتضي أنه لا يؤتى شيْئاً من الآخرة لأنَّ مَنْ كانَتْ نيَّته من عمله مقصورةً على طَلَب الدُّنْيا، فلا نَصِيبَ له في الآخرة، والأعمال بالنيَّات، وقرينةُ الكلامِ مِنْ قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها لا تمنع أنْ يؤتى نصيباً من الدنيا، قال ابنُ فُورَكَ في قوله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ: إشارة إلى أنه ينعِّمهم بِنعَمِ الدُّنْيا، لا أنهم يقصرون عَلَى الآخرة «4» . ثم ضَرَب سبحانه المثل للمؤمنينَ بمَنْ سَلَف مِنْ صالح الأمم الذين لم يَثْنِهِمْ عن دينهم قَتْلُ الكُفَّار لأنبيائِهِمْ، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ... الآية: وفي «كَأَيِّنْ» لغاتٌ، فهذه اللغة أصلها «5» لأنها كافُ التشبيه دخلت على «أيّ» ، و «كأيّن» في

_ (1) سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الأغرّ بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، الأنصاريّ، الخزرجيّ، أحد نقباء الأنصار. ينظر: «الإصابة» (3/ 49) . [.....] (2) أنس بن النضر بن ضمضم الأنصاري، الخزرجي، عمّ أنس بن مالك خادم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ينظر: «الإصابة» (1/ 281) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 455) برقم (7937) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 516) ، والسيوطي بنحوه في «الدر المنثور» (2/ 145) ، وعزاه لابن جرير. (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 518) . (5) هذه اللفظة قيل: مركبة من كاف التشبيه ومن «أيّ» ، وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من «كم» الخبرية، ومثلها في التركيب وإفهام التكثير: «كذا» في قولهم: «له عندي كذا كذا درهما» والأصل: كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسم إشارة، فلمّا ركّبا حدث فيهما معنى التكثير، وكم الخبرية و «كأيّن» و «كذا» كلّها بمعنى واحد، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر ألا ترى أنّ «لولا» حدث لها معنى جديد. «وكأيّن» من حقّها على هذا أن يوقف عليها بغير نون لأنّ التنوين يحذف وقفا، إلا أنّ-

هذه الآية في موضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، وهي بمنزلة «كَمْ» ، وبمعناها تعطى في الأغلب التكثيرَ، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو: «قُتِلَ» مَبْنياً لما لم يسمَّ فاعله، وقرأ «1» الباقُونَ «قَاتَلَ» ، فقوله: «قُتِلَ» ، قال فيه جماعةٌ من المفسِّرين، منهم الطَّبريُّ «2» : إنه مستند إلى ضميرِ «نَبِيٍّ» ، والمعنى عندهم أنَّ النبيَّ قُتِلَ، ونحا إليه ابنُ عَبَّاس، وإذا كان هذا، ف «رِبِّيُّونَ» مرتفعٌ بالظرف بلا خلاف، وهو متعلِّق بمحذوفٍ، وليس متعلِّقاً ب «قُتِلَ» ، وقال الحَسَن بْنُ أبي الحَسَن وجماعة: إنَّ «قُتِلَ» إنما هو مستندٌ إلى قوله: «رِبِّيُّون» ، وهم المقتولُونَ «3» ، قال الحَسَن، وابنُ جُبَيْر: لم يقتل نبيٌّ في حَرْبٍ «4» قطُّ. قال ع «5» : فعلى هذا القول يتعلَّق قوله: «مَعَهُ» ب «قُتِلَ» ورجح الطبريّ «6» القول الأوّل بدلالة نازلة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنَّ المؤمنين إنما تخاذلوا يَوْم أحد، لما قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّد، فضرب المَثَل بنَبِيٍّ قُتِلَ، وترجيحُ الطبريِّ حسن ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم من قوله: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران: 144] وحجة من قَرَأَ «قَاتَلَ» : أنها أعمُّ في المدح لأنه يدخل فيها مَنْ قتل، ومن بقي.

_ - الصحابة كتبتها: «كأيّن» بثبوت النون، فمن ثمّ وقف عليها جمهور القراء بالنون اتباعا لرسم المصحف. ووقف أبو عمرو وسورة بن مبارك- عن الكسائي- عليها: «كأي» من غير نون على القياس. واعتلّ الفارسي لوقف النون بأشياء طوّل بها، منها: أنّ الكلمة لمّا ركّبت خرجت عن نظائرها، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغات خمس: أحدها: «كأيّن» وهي الأصل. والثانية: «كائن» بزنة «كاعن» . اللغة الثالثة: «كأين» بياء خفيفة بعد الهمزة على مثال: كعين. اللغة الرابعة: «كيئن» بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة. واللغة الخامسة: «كئن» على مثال كع، ونقلها الداني قراءة عن ابن محيصن. ينظر: «الدر المصون» (2/ 224- 225- 226) . (1) وحجة من قرأ «قتل» : أن ذلك نزل معاتبة لمن أدبر عن القتال يوم أحد، إذ صاح صائحهم: قتل محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما تراجعوا كان اعتذارهم أن قالوا: سمعنا «قتل محمد» ، فنزلت. انظر: «البحر المحيط» (2/ 516) ، و «الدر المصون» (2/ 133) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 460) . (3) ذكره ابن عطية (1/ 520) . (4) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (1/ 428) عن الحسن، وذكره (أيضا) البغوي في «تفسيره» (1/ 360) ، وابن عطية (1/ 520) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 520) . (6) ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 461) .

قال ع «1» : ويحسُنُ عندي على هذه القراءةِ استناد الفعْلِ إلى الربِّيِّين، وقوله: رِبِّيُّونَ، قال ابن عباس وغيره: معناه: جموعٌ كثيرةٌ، وهو الرِّبَّة «2» (بكسر الراء) ، وهي الجماعة الكثيرة، وروي عنِ ابن عَبَّاس والحسنِ بْنِ أبي الحَسَن وغيرهما: إنهم قالوا: ربِّيونَ: معناه: علماء «3» ويقوِّي هذا القولَ قراءةُ مَنْ قرأَ: رِبِّيُّونَ «4» (بفتح الراء) ، منسوبون إلى الرَّبِّ إما لأنهم مطيعُونَ له، أوْ مِنْ حيث إنهم علماء بما شَرَع. وقوله سبحانه: وَمَا اسْتَكانُوا، ذهبتْ طائفةٌ من النحاة «5» إلى أنَّه من السُّكُون، وذهَبَتْ طائفة إلى أنه مأخوذٌ مِنْ: «كَانَ، يَكُونُ» ، وأصلُهُ: استكونوا، والمعنى: أنهم لم يَضْعُفوا، ولا كانوا/ قريباً من ذلكَ، قلْتُ: واعلم (رحمك اللَّه) أنَّ أصْلَ الوَهَنِ والضَّعْفِ عن الجِهَادِ، ومكافحةِ العَدُوِّ هو حُبُّ الدنيا، وكراهيةُ بَذْلِ النفوس لله، وبذل مهجها للقتل

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 520) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 462) برقم (7960) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 360) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (1/ 147) ، وعزاه للعوفي. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 462) برقم (7963) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 428) ، وابن عطية (1/ 521) . [.....] (4) ورواها قتادة عن ابن عباس. ينظر: «شواذ ابن خالويه» (ص 29) ، و «المحتسب» (1/ 173) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 520) ، و «البحر المحيط» (3/ 80) ، و «الدر المصون» (2/ 229) ، و «القرطبي» (4/ 148) . (5) فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه استفعل من الكون والكون: الذّلّ، وأصله: استكون، فنقلت حركة الواو على الكاف، ثم قلبت الواو ألفا. وقال الأزهريّ وأبو عليّ: «هو من قول العرب: «بات فلان بكينة سوء» على وزن «جفنة» أي: «بحالة سوء» فألفه على هذا من ياء، والأصل: استكين، ففعل بالياء ما فعل بأختها. الثاني: قال الفراء: «وزنه افتعل من السكون، وإنما أشبعت الفتحة فتولد منها ألف» . وردّ على الفراء بأنّ هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمة نحو: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان إليه استكانة، وبأنّ الإشباع لا يكون إلا في ضرورة. وكلاهما لا يلزمه: أمّا الإشباع، فواقع في القراءات السبع كما سيمرّ بك، وأمّا ثبوت الألف في تصاريف الكلمة، فلا يدلّ أيضا لأنّ الزائد قد يلزم ألا ترى أنّ الميم في تمندل وتمدرع زائدة، ومع ذلك هي ثابتة في جميع تصاريف الكلمة قالوا: تمندل يتمندل تمندل تمندلا فهو متمندل ومتمندل به، وكذا تمدرع، وهما من النّدل والدّرع. وعبارة أبي البقاء أحسن في الردّ فإنه قال: «لأنّ الكلمة في جميع تصاريفها ثبتت عينها، والإشباع لا يكون على هذا الحدّ» . ولم يذكر متعلّق الاستكانة والضعف فلم يقل «فما ضعفوا عن كذا، وما استكانوا لكذا» للعلم به أو للاقتصار على الفعلين نحو: كُلُوا وَاشْرَبُوا ليعمّ ما يصلح لهما. ينظر: «الدر المصون» (2/ 229- 230) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 147 إلى 148]

في سَبيلِ اللَّهِ ألا ترى إلى حال الصَّحابة (رضي اللَّه عنهم) ، وقلَّتِهِمْ في صَدْرِ الإسلامِ، وكيف فتح اللَّه بهم البلاد، ودان لدِينِهِمُ العباد، لما بَذَلُوا للَّه أنفسَهُمْ في الجهاد، وحالِنا اليَوْمَ، كما ترى عددُ أهْل الإسلام كثيرٌ، ونكايتهم في الكُفَّار نَزْرٌ يسيرٌ، وقد روى أبو دَاوُدَ في «سننه» عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تتداعى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: ومِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، ولَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ» «1» . اهـ، فانظر (رحمك اللَّه) ، فهل هذا الزمانُ إلا زماننا بعَيْنه، وتأمَّل حال ملوكنا، إنما هِمَّتهم جمْعُ المالِ مِنْ حرامٍ وحلالٍ، وإعراضُهم عَنْ أمْر الجهاد، فإنا للَّه وإنا إليه راجعُونَ على مصاب الإسلام. [سورة آل عمران (3) : الآيات 147 الى 148] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) وقوله تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ... الآية: هذه الآيةُ في ذكْر الرِّبِّيِّين، أي: هذا كان قولَهُم، لا ما قاله بعضُكم، يا أصْحَاب محمَّد: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: 154] ، إلى غير ذلك ممَّا اقتضته تلْكَ الحَالُ مِن الأقوال، قُلْتُ: وهذه المقالَةُ ترجِّح القولَ الثانِيَ في تفْسير الرِّبِّيِّينَ إذ هذه المقالةُ إنما تَصْدُرُ من علماء عارفينَ باللَّه. قال ع «2» : واستغفار هؤلاءِ القَوْمِ الممْدُوحِينَ فِي هذا المَوْطِنِ يَنْحُو إلى أنهم رَأَوْا أَنَّ ما نزل مِنْ مصائبِ الدُّنْيا إنما هو بِذُنُوبٍ من البَشَرِ كما نزلَتْ قصَّة أُحُدٍ بعصيان من عصى، وقولهم: ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا: عبارتان عن معنًى قريبٍ بعضُهُ من بعضٍ جاء للتأكيد، ولتعمَّ مناحي الذنوبِ وكذلكَ فسَّره ابنُ عبَّاس وغيره «3» ، وقال الضَّحَّاك: الذنوبُ عامُّ، والإسرافُ في الأمر، أريدَ به الكبائرُ خاصَّة، فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 514) ، كتاب «الملاحم» ، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام، حديث (4297) من طريق أبي عبد السلام عن ثوبان به. وأخرجه أحمد (5/ 278) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 182) من طريق أبي أسماء الرحبي عن ثوبان به. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 522) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 522) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 إلى 152]

بأن أظهرهم على عدُوِّهم، وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ: الجَنَّة بلا «1» خلاف. قال الفَخْر «2» : ولا شَكَّ أنَّ ثوابَ الآخِرَةِ هي الجَنَّة، وذلك غَيْرُ حاصلٍ في الحالِ، فيكون المرادُ أنَّه سبحانه، لَمَّا حكم لهم بحصولها في الآخرة، قام حُكْمُهُ لهُمْ بذلك مَقَامَ الحُصُول في الحالِ، ومحمل قوله: فَآتاهُمُ أنه سيؤتيهم. وقيل: ولا يمتنع أنْ تكون هذه الآية خاصَّةً بالشهداء، وأنه تعالى في حال نزول هذه الآية، كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة. انتهى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 152] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: المنافقين الذين خَيَّبوا المسلمين، وقالوا في أمر أُحُد: لو كان محمَّد نبيًّا، لم ينهزم. وقوله سبحانه: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ هذا تثبيتٌ لهم، وقوله سبحانه: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ سبب هذه الآيةِ أنه لما ارتحَلَ أبُو سُفْيان بالكفَّار، رجع النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينةِ، فتجهَّز، واتبع المشركِينَ، وكان مَعْبَدُ بْنُ أبي مَعْبَدٍ الخُزَاعِيُّ «3» قد جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ سَاءَنَا مَا أَصَابَكَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ تَمِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم/، ثُمَّ رَكِبَ مَعْبَدٌ حتى لَحِقَ بِأَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا رأى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَداً، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ، يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي أصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ قَدِ اجتمع مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ، ونَدِمُوا على مَا صَنَعُوا، قَالَ: وَيْلَك! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ، مَا أَرَاكَ أَنْ ترحل حتّى ترى نواصي الخيل، قال: فو الله، لقد

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 522) . (2) ينظر: «الفخر الرازي» (9/ 24) . (3) معبد بن أبي معبد الخزاعي. ذكره ابن منده، وذكر سيف في «الفتوح» ، والطبري من طريق ابن المثنى بن حارثة لما توجه خالد بن الوليد إلى الشام قاسمه العساكر فكان معبد بن أبي معبد ممن بقي مع المثنى بن حارثة من الصحابة. ينظر: «الإصابة» (6/ 133) .

أَجْمَعْنَا الكَرَّةَ إلَيْهِمْ، قَالَ: فَإنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذلك، وو الله، لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ على أَنْ قُلْتُ فِيهِمْ شِعْراً، قَالَ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ «1» : [البسيط] كَادَتْ تَهُدُّ مِنَ الأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالجُرْدِ الأَبَابِيلِ «2» تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لاَ تَنَابِلَةٍ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلاَ مِيلٍ مَعَازِيلِ «3» فَظَلْتُ عَدْواً أَظُنُّ الأَرْضَ مَائِلَة ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ «4» إلى آخر الشِّعْر، فألقى اللَّه الرُّعْبَ في قلوبِ الكفَّارِ، وقالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّة «5» : لاَ تَرْجِعُوا فإني أرى أنه سيكُونُ للقَوْمِ قِتَالٌ غَيْرُ الذي كَانَ، فنَزَلَتِ الآيةُ في هذا الإلقاء، وهي بَعْدُ متناولَةٌ كلَّ كافرٍ قال الفَخْر «6» : لأنه لا أحد يخالفُ دِينَ الإسلام، إلا وَفِي قلبه خَوْفٌ من الرُّعْب، إما عند الحَرْب، وإما عند المُحَاجَّة. انتهى. وقوله سبحانه: بِما أَشْرَكُوا، هذه باءُ السَّبَبِ، والسُّلْطَانُ: الحُجَّة والبُرْهَان. قال ص: قوله: وَبِئْسَ، المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: النار [انتهى] .

_ (1) ينظر: «السيرة» لابن هشام (3/ 103) . وبعده: فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل إني نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لاوخش تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل (2) تهد: تسقط لهول ما رأت من أصوات الجيش وكثرته. والجرد: الخيل العتاق. والأبابيل: الجماعات. (3) تردى: تسرع. والتنابلة: القصار. والميل: جمع أميل، وهو الذي لا رمح أولا ترمى معه وقيل: هو الذي لا يثبت على السرج. والمعازيل: الذين لا سلاح معهم. (4) العدو: المشي السريع. وسموا: علوا وارتفعوا. (5) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جدح. أبو وهب، وقيل: أبو أمية القرشي، الجمحي. روى عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن الحارث، وعامر بن مالك، وطاوس. قتل أبوه يوم بدر كافرا. وهرب هو يوم فتح «مكة» ثم عاد إليها بعد أن أخذ أمانا من النبيّ، وأعار النبيّ سلاحا يوم حنين، وحضرها مشركا، ثم أسلم، وحسن إسلامه، وكان من المؤلفة قلوبهم، وكان من أشراف قريش في الجاهلية وأحد المطعمين. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 23) ، و «الإصابة» (3/ 246) ، و «الثقات» (3/ 191) ، و «نقعة الصديان» (300) ، و «الاستيعاب» (2/ 718) ، و «الاستبصار» (93، 115) ، و «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 266) ، و «الطبقات الكبرى» (5/ 449) ، و «سير النبلاء» (2/ 562) ، و «المعرفة والتاريخ» (1/ 309) ، و «التاريخ الكبير» (4/ 304) ، و «الجرح والتعديل» (4/ 1846) ، و «الثقات» (3/ 191) ، و «الكاشف» (2/ 29) ، و «العبر» (1/ 50) ، و «الأعلام» (3/ 205) ، و «تهذيب الكمال» (2/ 608) ، و «تهذيب التهذيب» (4/ 424) ، و «تقريب التهذيب» (1/ 367) . (6) ينظر: «الفخر الرازي» (9/ 27) . [.....] .

وقوله سبحانه: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، جاء الخطَابُ لجميعِ المؤمنينَ، وإن كانَتِ الأمور التي عاتبهم سبحانه علَيْها، لم يقَعْ فيها جميعُهم ولذلك وجوهٌ من الفصاحةِ، منْها: وعْظ الجميع، وزجْرُه إذ مَنْ لم يفعلْ مُعَدٌّ أنْ يفعل إن لم يزجر، ومنها: السَّتْر والإبقاء على من فعل، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد وَعَدَ المؤمِنِينَ النَّصْرَ يَومَئِذٍ على خبر اللَّه إنْ صَبَرُوا وجَدُّوا، فصَدَقَهُم اللَّه وعْدَه وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صَافَّ المشركين يومئذ، ورتَّب الرماة، على ما قَدْ ذكَرْناه قَبْلَ هذا، واشتعلت نارُ الحَرْب، وأبلى حمزةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وأَبُو دُجَانَةَ «1» ، وعليٌّ، وعَاصِمُ بْنُ أَبِي الأَقْلَحِ «2» ، وغيرُهم، وانهزم المشركُونَ، وقُتِلَ منهم اثنان وعشْرُونَ رجُلاً، فهذا معنى قوله عز وجل: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، والحَسُّ: القتل الذَّريعُ، يقال: حَسَّهُمْ إذا استأصلهم قتْلاً، وحَسَّ البَرْدُ النَّباتَ. وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، يحتملُ أنْ تكونَ «حتى» غايةً كأنه قال: إلى أنْ فشلتم، والأظهر الأقوى أنَّ «إذا» على بابها تحتاجُ إلى الجوابِ، ومَذْهَبُ الخَلِيلِ، وسِيبَوَيْهِ، وفُرْسَانِ الصِّنَاعة أنَّ الجوابَ محذوفٌ يدلُّ عليه المعنى، تقديرُهُ: انهزمتم، ونحوه، والفَشَل: استشعار العَجْزِ، وترْكُ الجِدِّ، والتَّنَازُعُ هو الَّذي وقَعَ بَيْنَ الرماةِ، وَعَصَيْتُمْ: عبارةٌ عن ذَهَابِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الرماة، وتأمَّل (رحمك اللَّه) ما يوجبه الركُونُ إلى الدنيا، وما يَنْشَأُ عنها من الضَّرَرِ، وإذا كان مَثَلُ هؤلاءِ السَّادة على رِفْعَتِهِمْ وعظيمِ منزلتهم، حَصَلَ لهم بسببها مَا حَصَلَ مِنَ الفَشَل والهزيمةِ، فكيف بأمثالنا، وقد حذَّرَ الله عز وجلّ ونبيُّه- عليه السلام- من الدُّنْيا وآفاتها بما لا يخفى على ذي لُبٍّ، وقد ذكرنا في هذا «المُخْتَصَرِ» جملةً كافيةً لمَنْ وفَّقه اللَّه، وشَرَح صدْره، وقد خرَّج البَغَوِيُّ في «المسند المنتخب» له، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ تُفْتَحُ الدُّنْيَا على أَحَدٍ إلاَّ أَلْقَتْ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القيامة» «3» . انتهى من «الكوكب الدري» .

_ (1) أبو دجانة الأنصاري: اسمه سماك بن خرشة، وقيل: ابن أوس بن خرشة، متفق على شهوده بدرا. وقال علي: إنه استشهد باليمامة، وأسند ابن إسحاق من طريق يزيد بن السكن أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما التحم القتال ذبّ عنه مصعب بن عمير (يعني يوم أحد) ، حتى قتل، وأبو دجانة سماك بن خرشة حتى كثرت فيه الجراحة. وقيل: إنه ممن شارك في قتل مسيلمة. ينظر: «الإصابة» (7/ 99- 100) . (2) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، واسم أبي الأقلح: قيس بن عصمة بن النّعمان بن مالك بن أميّة بن صبيعة بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف، الأنصاريّ، جدّ عاصم بن عمرو بن الخطاب لأمّه، من السّابقين الأولين من الأنصار. ينظر: «الإصابة» (3/ 460) . (3) أخرجه أحمد (1/ 16) ، والبزار (3609- كشف) من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا. وقال المنذري في «الترغيب» (4/ 83) ، رواه أحمد بإسناد حسن، والبزار، وأبو يعلى. وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 236) : رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى في «الكبير» ، وإسناده حسن.

وقال- عليه السلام- للأنْصَارِ لما تعرَّضوا له إذْ سمعوا بقُدُوم أبي عُبَيْدةِ بمالِ البَحْرَيْنِ: «أبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فو الله، مَا الفَقْرَ أخشى عَلَيْكُم! وَلَكِنِّي أخشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُم كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» ، أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ والترمذيُّ، واللفظ له، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ «1» . انتهى. واعلم (رحمك اللَّه) أنَّ تيسير أسْبَابِ الدُّنْيا مع إعراضك عن أمر آخرتك، ليس ذلك من علاماتِ الفَلاَحِ وقد روى ابنُ المُبَارك في «رقائقه» ، قال: أخبرنا ابْنُ لَهِيعَةَ «2» ، قال: حدَّثني سعيدُ بنُ أَبِي سَعِيدٍ «3» أنَّ رجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا؟ قَالَ: «إذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وابتغيته، يُسِّرَ لَكَ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا، وابتغيته، عُسِّرَ عَلَيْكَ، فَأَنْتَ على حَالٍ حَسَنَةٍ، وَإذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وابتغيته، عُسِّرَ عَلَيْكَ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وابتغيته، يُسِّرَ لَكَ، فَأَنْتَ على حَالٍ قَبِيحَةٍ» «4» . انتهى، فتأمَّله راشداً، وقولَه: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَّا تُحِبُّونَ، يعني: هزيمةَ المشركين، قال الزُّبَيْر «5» : واللَّه، لَقَدْ رأيتُنِي أنْظُرُ إلى خَدَمِ هنْدِ بنت عتبة «6» ،

_ (1) تقدم تخريجه. (2) عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي الغافقي، أبو عبد الرّحمن المصري، قاضيها وعالمها. عن عطاء، والأعرج، وعكرمة، وخلق. وعنه شعبة، وعمرو بن الحارث، والليث، وابن وهب، وخلق. قال أحمد: احترقت كتبه وهو صحيح الكتاب. قال مسلم: تركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي. قال يحيى بن بكير: مات سنة 174 هـ. ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 92) ، و «تهذيب الكمال» (2/ 727) ، و «الكاشف» (2/ 122) ، و «ميزان الاعتدال» (2/ 475، 483) ، و «طبقات ابن سعد» (7/ 204) . (3) سعيد بن أبي سعيد المقبري، أبو سعيد المدني، أرسل عن أم سلمة، وعن أبيه، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس، وخلق. وعنه عمرو بن شعيب، وأيوب بن موسى، وعبيد الله بن عمر، والليث، وهو أثبت الناس فيه، قال ابن خراش: ثقة جليل، قال الواقدي: اختلط قبل موته بثلاث سنين. قال ابن سعد: مات سنة ثلاث وعشرين، وقال أبو عبيد: سنة خمس وعشرين ومائة. ينظر: «تهذيب الكمال» (1/ 490) ، و «الثقات» (4/ 278) ، و «الخلاصة» (1/ 380) ، و «لسان الميزان» (7/ 229) . (4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 29) رقم (88) ووقع في «الزهد» : «شعيب بن أبي سعيد» . (5) أخرجه الطبري (3/ 470) برقم (8008) ، وذكره ابن عطية (1/ 525) . (6) هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّة، والدة معاوية بن أبي سفيان، شهدت أحدا، وفعلت ما فعلت بحمزة، ثم كانت تؤلّب على المسلمين إلى أن جاء الله بالفتح فأسلم زوجها ثم أسلمت هي يوم الفتح وقصّتهما (في قولها عند بيعة النساء: وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ فقالت: وهل تزني الحرّة؟) ينظر: «الإصابة» (8/ 346) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 إلى 155]

وصواحِبِهَا مشَمِّراتٍ هَوَارِبَ، ما دُونَ أخْذِهِنَّ قليلٌ، ولا كثيرٌ إذ مالَتِ الرماةُ إلى العَسْكَر حين كَشَفْنَا القَوْمَ عَنه، يريدون النَّهْبَ، وخَلَّوْا ظهورَنَا للخَيْلِ، فَأُوتِينَا مِنْ أَدْبَارنا، وصَرَخَ صَارِخٌ أَلاَ إنَّ محمَّداً قد قُتِلَ، وانكفأ علينا القومُ. وقوله سبحانه: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، يعني بهم الذين حَرَصُوا على الغنيمة، وكان المالُ همَّهم قاله ابنُ عَبَّاسٍ «1» ، وسائرُ المفسِّرين، وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ مسْعود: ما كنتُ أرى أنّ أحدا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يريدُ الدنيا حتى نَزَلَ فينا يَوْمَ أُحُدٍ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» . وقوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إخبارٌ عن ثبوتِ مَنْ ثَبَتَ من الرُّماة، مع عبد اللَّه بن جُبَيْر امتثالا للأمْر حتى قُتِلُوا، ويدخلُ في هذا أنَسُ بْنُ النَّضْر، وكلُّ من جَدَّ ولم يضطرب من المؤمنين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 155] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) وقوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ العامل في إذ قوله: «عفا» ، وقراءة «3» الجمهور «تصعدون» (بضم التاء، وكسر العين) من: أصْعَدَ، ومعناه: ذَهَبَ في الأَرْضِ، والصعيدُ: وجهُ الأرض، ف «أَصْعَدَ» : معناه: دَخَلَ في الصَّعيد كما أنّ «أصبح» : دخل في الصّباح.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 472) برقم (8023) بنحوه، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 525) ، والسيوطي في «الدر المنثور» بنحوه (2/ 152) ، وعزاه لابن جرير. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 472) برقم (8023) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 362) ، وابن عطية (1/ 525) ، والسيوطي في «تفسيره» (2/ 152) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 525) ، و «البحر المحيط» (3/ 89) ، و «الدر المصون» (2/ 233) .

وقوله سبحانه: وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ مبالغةٌ في صفةِ الانهزامِ، وقرأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ «1» : «على أُحُدٍ» (بضم الألف والحاء) ، يريد الجَبَلَ، والمعنيّ بذلك نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان على الجَبَلِ، والقراءةُ الشهيرةُ أقوى لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكُنْ علَى الجَبَلِ إلاَّ بعد ما فَرَّ الناسُ، وهذه الحالُ مِنْ إصعادهم إنَّما كانتْ، وهو يدعوهم، ورُوِيَ أنَّه كان يُنَادِي صلّى الله عليه وسلّم: «إلَيَّ، عِبَادَ اللَّهِ» ، والناسُ يفرُّون، وفي قوله تعالى: فِي أُخْراكُمْ: مدح له صلّى الله عليه وسلّم فإن ذلك هو موقِفُ الأبطالِ في أعْقَابِ النَّاس ومنه قولُ الزُّبِيْرِ بْنِ باطا «2» : ما فَعَل مقدِّمتُنا إذَا حَمَلْنا، وحَامِيَتُنَا إذَا فَرَرْنَا وكذلك كان صلّى الله عليه وسلّم أشْجَعَ الناسِ ومنه قولُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ «3» /: كِنَّا إذا احمر البَأْسُ، اتقيناه برَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: فَأَثابَكُمْ: معناه: جازاكُمْ على صنيعكم، واختلف في معنى قوله تعالى: غَمًّا بِغَمٍّ، فقال قوم: المعنى: أثابكم غَمًّا بسبب الغمِّ الذي أدخلتموه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسائرِ المسلمينَ بفَشَلكم، وتَنَازُعِكم، وعِصْيَانكم. قال قتادة، ومجاهد: الغَمُّ الأول: أنْ سَمِعُوا أَلاَ إنَّ محمّدا قد قتل، والثاني: القتل والجراح «4» . وقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ، أي: من الغنيمة، ولا ما أصابكم، أي: من القَتْل والجِرَاحِ، وذُلِّ الانهزام، واللامُ من قوله: «لكَيْ لاَ» متعلِّقة ب «أثَابَكُمْ» ، المعنى: لتعلموا أنَّ ما وقَعَ بكُمْ إنما هو بجنايَتِكُمْ، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادةُ البَشَر أنَّ جانِيَ الذنْبِ يَصْبِرُ للعقوبة، وأكْثَرُ قَلَقِ المعاقَبِ وحُزْنِهِ، إنما هو مع ظَنِّه البراءةَ بنَفْسه، ثم ذكر سبحانه أمْرَ النُّعَاس الذي أَمَّنَ به المؤمنِينَ، فغشي أهْل الإخلاص، قُلْتُ: وفي صحيح البخاريِّ» ، عن أنسٍ أنَّ أبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِينَا النُّعَاسُ، ونَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أحد، قال:

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 526) ، و «البحر المحيط» (3/ 90) ، و «الدر المصون» (1/ 234) . (2) قال السهيلي: «هو الزبير، بفتح الزاي وكسر الباء، جد الزبير بن عبد الرّحمن المذكور في «الموطأ» في كتاب النكاح. واختلف في الزبير بن عبد الرّحمن فقيل: الزبير، بفتح الزاي وكسر الباء، كما سمي جده، وقيل: الزبير» . [.....] (3) سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله. وقيل: اسم أبيه وهب، وقيل غير ذلك. أول مشاهده «الحديبية» ، وكان من الشجعان، ويسبق الفرس عدوا، وبايع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند الشّجرة على الموت. ينظر: «طبقات ابن سعد» (4/ 305) ، و «الإصابة» (3/ 127) ، و «أسد الغابة» (ت 2179) ، و «طبقات خليفة» (689) ، و «الخلاصة» (126) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 1/ 229) ، و «تهذيب التهذيب» (4/ 150) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 479) برقم (8059) ، (8061) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 526) .

فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ «1» ، ونحْوه عن الزُّبَيْر «2» ، وابنِ مسْعود «3» ، «والواوُ» في قوله: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، واو الحال، ذَهَب أكثر المفسِّرين إلى أنَّ اللفظة من الهَمِّ الذي هو بمعنَى الغَمِّ والحُزْن. وقوله سبحانه: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ: معناه: يظنُّون أنَّ دين الإسلام ليس بحقٍّ، وأنَّ أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم يضمحلُّ. قلْتُ: وقد وردَتْ أحاديثُ صِحَاحٌ في الترغيبِ في حُسْن الظَّنِّ باللَّه عزَّ وجلَّ، ففي «صحيح مسلم» ، وغيره، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حاكِياً عن اللَّه عزَّ وجلَّ يقولُ سبْحَانه: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ... » «4» الحديثَ، وقال ابْنُ مَسْعود: واللَّه الَّذِي لاَ إله غيره، لا يُحْسِنُ أحَدٌ الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ إلا أعطاه اللَّهُ ظنَّه، وذلك أنَّ الخَيْر بيده، وخرَّج أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيب بسنده، عن أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ» «5» اهـ. وقوله:

_ (1) أخرجه البخاري (7/ 422) ، كتاب «المغازي» ، باب: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ، حديث (4068) ، (8/ 76) كتاب «التفسير» ، باب أَمَنَةً نُعاساً، حديث (4562) ، والترمذي (5/ 229- 230) كتاب «التفسير» ، باب ومن سورة آل عمران، حديث (3008) ، وأحمد (4/ 29) ، وابن حبان (7180) ، والطبري في «تفسيره» (3/ 484) رقم (8075، 8076) ، والطبراني في «الكبير» (5/ 95- 96) رقم (4699، 4700) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» . (3/ 273- 274) كلهم من طريق قتادة عن أنس به. وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه الترمذي (5/ 229) ، كتاب «التفسير» ، باب ومن سورة آل عمران، حديث (3007) ، وابن سعد في «الطبقات» (3/ 505) ، وابن أبي شيبة (14/ 406- 407) ، والطبري في «تفسيره» (3/ 483- 484) رقم (8074) ، والحاكم (2/ 297) ، والبيهقي في «الدلائل» (3/ 272) ، وأبو نعيم في «الدلائل» ص (367) كلهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن سعد (3/ 505) ، والطبري في «تفسيره» (3/ 483) رقم (8073) من طريق حميد عن أنس. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 155) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وللحديث شاهد من حديث الزبير بن العوام: أخرجه الترمذي (5/ 229) كتاب «التفسير» ، باب ومن سورة آل عمران، حديث (3007) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير به بنحو حديث أنس. (2) ينظر الحديث السابق. (3) ينظر الحديث السابق. (4) تقدم تخريجه. (5) تقدم تخريجه.

ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ: ذهب الجمهورُ إلى أنَّ المراد مدَّة الجاهليَّة القديمَة قَبْل الإسلام، وهذا كقوله سبحانه: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [الفتح: 26] وتَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ [الأحزاب: 33] وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المراد في هذه الآيةِ ظَنُّ الفِرْقَةِ الجاهليَّة، وهم أبو سُفْيَانَ ومن معه، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أُبَيٍّ ابن سَلُولَ: قُتِلَ بَنُو الخَزْرَجِ، فَقَالَ: وهلْ لنا من الأمْرِ من شَيْء، يريدُ أنَّ الرأْيَ ليس لنا، ولو كان لَنَا منْهُ شيْءٌ، لسمع مَنْ رأينا، فلم يَخْرُجْ، فلم يُقْتَلْ أحدٌ منا. وقوله «1» سبحانه: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراضٌ أثناء الكلامِ فصيحٌ، ومضمَّنه الردُّ عليهم، وقوله سبحانه: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ... الآية: أخبر تعالى عنهم على الجُمْلة دُونَ تَعْيين، وهذه كانَتْ سُنَّتَهُ في المنافقينَ، لا إله إلا هو. وقوله سبحانه: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا هاهُنا هي مقالةٌ سُمِعَتْ من مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ المغموصِ «2» عليه بالنِّفَاق، وباقي الآية بيِّن. وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ: اللام في «ليبتلي» متعلِّقة بفعلٍ متأخِّرٍ، تقديره: وليبتليَ وليمحِّصَ فعْلَ هذه الأمور الواقعة، والابتلاءُ هنا/ الاختبار. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ قال عُمَرُ (رضي اللَّه عنه) : المرادُ بهذه الآية جميعُ مَنْ تولى ذلك اليَوْمَ عن العدُوِّ «3» . وقيل: نزلَتْ في الذين فرّوا إلى المدينة.

_ (1) ذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 156) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج. (2) معتّب بن قشير بن مليل بن زيد بن العطاف بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن الأوس، الأنصاريّ، الأوسيّ. ذكروه فيمن شهد العقبة. وقيل: إنه كان منافقا، وإنه الذي قال يَوْمَ أحُدٍ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: 154] وقيل: إنه تاب. وقد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا. ينظر: «الإصابة» (6/ 137) ، و «أسد الغابة» ت (5017) ، و «الاستيعاب» ت (2485) ، و «المؤتلف والمختلف» (219) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 529) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 157) ، وعزاه لابن جرير عن كليب عنه به.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 إلى 158]

قال ابنُ زَيْد: فلا أدْري، هل عُفِيَ عن هذه الطائفةِ خاصَّة، أمْ عن المؤمنين جميعاً «1» . وقوله تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا: ظاهره عند جمهور المفسِّرين: أنه كانَتْ لهم ذنوبٌ عاقبهم اللَّه علَيْها بتَمْكين الشيطان من استزلالهم بوسوسَتِهِ وتخويفِهِ، والفَرَارُ مِنَ الزَّحْفِ «2» من الكبائر بإجماعٍ فيما عَلِمْتُ، وقَدْ عده صلّى الله عليه وسلّم في السّبع الموبقات «3» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ ... الآية: نَهَى اللَّه المؤمنِينَ أنْ يكونوا مثل الكفَّار المنافقين في هذا المعتقَدِ الفاسِدِ الذي هو أنَّ من سافر في تجارةٍ ونحوها، ومَنْ قَاتَلَ فَقُتِلَ، لو قعد في بَيْته لعاش، ولم يَمُتْ في ذلك الوَقْتِ الذي عَرَّض فيه نَفْسه للسَّفَر أو للقِتَال، وهذا هو مُعْتَقَدُ المعتزلة في القَوْل بالأَجَلَيْنِ، أو نحو منه، وصرّح بهذا المقالة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيٍّ المُنَافِقُ، وأصحابه قاله مجاهد

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 530) . (2) قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15- 16] في هذه الآية ينهى الله المؤمنين عن الفرار من الكفار إذا التقوا بهم في القتال، وحكمة ذلك أن الفرار كبير المفسدة وخيم العاقبة لأن الفارّ يكون كالحجر يسقط من البناء.، فيتداعى ويختل نظامه لهذا عدّ الشارع الحكيم الفرار من الزحف من أكبر الجنايات، وقد توعد الله المقاتلين الذين يولون العدوّ ظهورهم، فقال: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ... الآية. وفي الفرار من العدو عار يجعل الحياة بغيضة عند النفوس الأبيّة، قال يزيد بن المهلّب: «والله إني لأكره الحياة بعد الهزيمة» . وقال بعض العلماء: إن هذا النهي خاصّ بوقعة بدر. وبه قال نافع والحسن وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب، والضحاك، ونسب إلى أبي حنيفة كما حكاه القرطبي. وقال الجمهور (وهو المروي عن ابن عبّاس) : إن تحريم الفرار من الصف عند الزحف باق إلى يوم القيامة في كلّ قتال يلتقي فيه المسلمون والكفار. (3) تقدم تخريجه.

وغيره «1» ، والضَّرْبُ في الأرض: السيرُ في التِّجَارة، وغُزًّى: جمعُ غازٍ. وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ الإشارةُ ب «ذَلِكَ» إلى هذا المعتقد الَّذى جعله اللَّه حَسْرةً لهم لأن الذي يتيقن أنَّ كل قَتْل ومَوْت، إنما هو بأجَلٍ سابقٍ يجدُ برد اليأسِ والتسليمِ للَّه سبحانه على قلبه، والذي يَعْتَقِدُ أنَّ حميمه لو قعد في بَيْته، لم يَمْتُ، يتحسَّر ويتلهَّف وعلى هذا التأويل، مَشَى المتأوِّلونَ، وهو أظهرُ مَا في الآية، والتحسُّرُ: التلهُّفُ على الشيء، والغَمُّ به. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ توكيدٌ للنهيْ في قوله: لاَ تَكُونُوا ووعيدٌ لمن خالفه، ووَعْدٌ لمن امتثله. وقوله سبحانه: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ اللامُ في وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ هي المؤذنةُ بمَجِيءِ القَسَمِ، واللامُ في قوله: لَمَغْفِرَةٌ هي المتلقِّية للقَسَمِ، والتقديرُ: واللَّهِ، لمغفرةٌ وترتَّب المَوْتُ قبل القَتْل في قوله تعالى: مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا مراعاةً لترتُّب الضَّرْب في الأرض والغَزْو، وقدَّم القَتْل هنا لأنَّه الأشرف الأهمُّ، ثم قدَّم المَوْتَ في قوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لأنها آية وعظٍ بالآخرةِ والحَشْرِ، وآيةُ تزهيدٍ في الدنْيَا والحَيَاةِ، وفي الآيةِ تحقيرٌ لأمر الدنيا، وحضٌّ على طَلَبِ الشهادةِ، والمعنى: إذا كان الحَشْر لا بُدَّ في كِلاَ الأمْرَيْن، فالمضيُّ إليه في حالِ شهادةٍ أولى وعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ «2» ، أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ على فِرَاشِهِ» ، رواه الجماعةُ إلاَّ البخاريَّ «3» ، وعن أنَسٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 530) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 158) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....] (2) سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة. قيل: أبو الوليد، وأبو ثابت، وأبو سعيد، وقيل: أبو سعد. أو أبو عبد الله. الأوسي. الأنصاري. بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله، وثبت يوم أحد، وكان يرمي بالنبل عن رسول الله. وصحب علي بن أبي طالب، واستخلفه عليّ على «المدينة» حين سار إلى «البصرة» ، وشهد معه «صفين» ، وولاه بلاد فارس. روى عنه ابناه أبو أمامة، وعبد الملك. وروى عنه عبيد بن السياق، وأبو وائل، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى. مات ب «الكوفة» سنة (38 هـ) . وينظر: «أسد الغابة» (2/ 470) ، و «الإصابة» (3/ 139) ، و «الثقات» (3/ 169) ، و «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 243) ، و «الاستيعاب» (2/ 662) ، و «بقي بن مخلد» (78، 903) . (3) أخرجه مسلم (3/ 1517) ، كتاب «الإمارة» ، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، حديث (157/ 1909) ، وأبو داود (1/ 476) ، كتاب «الصلاة» ، باب في الاستغفار، حديث (1520) ، والترمذي (4/ 183) ، كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء فيمن سأل الشهادة، حديث (1653) ، -

[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 إلى 160]

«مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقاً، أُعْطِيِهَا، وَلَوْ لَمْ تُصْبْهُ» «1» ، انفرد به مُسْلم. انتهى من «سلاح المؤمن» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 160] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وقوله سبحانه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ: معناه: فبرحمةٍ، قال القُشَيْريُّ في «التحبير» : واعلَمْ أنَّ اللَّه سبحانه يحبُّ من عباده مَنْ يرحم خَلْقه، ولا يرحم العبد إلاَّ إذا رحمه اللَّه سبحانَهُ، قال اللَّه تعالى لنبيِّه- عليه السلام-: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ. انتهى. قال ع «2» : ومعنى هذه الآيةِ التقريعُ لكلِّ مَنْ أخلَّ يومَ أُحُدٍ بمَرْكزه، أي: كانوا يستحقُّون الملام منْكَ، ولكنْ برحمةٍ منه سُبْحَانه/ لِنْتَ لهم، وجَعَلَكَ على خُلُقٍ عظيمٍ، وبعَثَكَ لتتميمِ محاسنِ الأخلاق، ولو كُنْتَ فظًّا غليظَ القَلْب، لانفضوا مِنْ حولك، وتفرَّقوا عَنْكَ، والفَظُّ: الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفته صلّى الله عليه وسلّم في الكُتُب المُنزَّلة: «لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ وَلاَ صَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ» «3» ، والفَظَاظة: الجَفْوة في المعاشرة قولاً وفعلاً، وغِلَظُ القَلْب: عبارةٌ عن تجهُّمِ الوجْهِ، وقلَّةِ الانفعالِ في الرغَائِبِ، وقلَّةِ الإشفاقِ والرَّحْمةِ، والانفضاضُ: افتراق الجموع. وقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... الآية: أمر سبحانه نبيَّه- عليه السلام- بهذه الأوامر التي هِيَ بتدريجٍ بليغٍ، فأمره أنْ يعفو عَنْهم فيما له عليهم من حقّ، ثمّ

_ - والنسائي (6/ 36- 37) كتاب «الجهاد» ، باب مسألة الشهادة، وابن ماجة (2/ 935) كتاب «الجهاد» ، باب القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى، حديث (2797) ، والدارمي (2/ 205) كتاب «الجهاد» ، باب فيمن سأل الله الشهادة، وابن حبان (3192) ، والبيهقي (9/ 169- 170) كتاب «السير» ، باب تمني الشهادة ومسألتها، والطبراني في «الكبير» (6/ 72) رقم (5550) كلهم من طريق عبد الرّحمن بن شريح عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن جده مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إِلا من حديث عبد الرّحمن بن شريح. (1) أخرجه مسلم (3/ 1517) ، كتاب «الإمارة» ، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، حديث (156/ 1908) من حديث أنس بن مالك. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 533) . (3) تقدم.

يستغفر لهم فيما للَّه علَيْهم مِنْ تَبِعَةٍ، فإذا صاروا في هذه الدَّرَجَة، كانوا أهلاً للاستشارة. قال ع «1» : ومَنْ لا يستشيرُ أهل العِلْمِ والدِّين، فعَزْلُه واجبٌ، هذا ممَّا لا خلافَ فيه، وقد وردَتْ أحاديثُ كثيرةٌ في الاستشارة، ومُشَاورته- عليه السلام- إنما هي في أمور الحَرْب والبُعُوث ونحوه من أشخاصِ النَّوَازِلِ، فأما في حلالٍ، أو حرامٍ، أو حَدٍّ، فتلك قوانينُ شَرْعٍ، ما فرَّطنا في الكتابِ مِنْ شيء، والشورى مبنيَّة على اختلافِ «2» الآراءِ، والمُسْتَشِيرُ ينظر في ذَلِكَ الخلافِ، ويتخيَّر، فإذا أرشده اللَّه إلى ما شاء منْهُ، عزم علَيْه، وأنفذه متوكِّلاً على اللَّه إذ هو غايةُ الاجتهادِ المَطْلُوب منه، وبهذا أمر اللَّه تعالى نبيَّه في هذه الآيةِ، وصِفَةُ المُسْتشارِ في الأحكامِ أنْ يكونَ عالماً ديِّناً، وقلَّما يكونُ ذلك إلاَّ في عاقلٍ، فقَدْ قال الحَسَنُ ابْنُ أبِي الحَسَنِ: ما كَمَلَ دِينُ امرئ لَمْ يَكْمَلْ عَقْلُهُ «3» . قال ع «4» : والتوكُّل على اللَّه سبحانه وتعالى مِنْ فروض الإيمانِ وفصولِهِ، ولكنَّه مقترنٌ بالجِدِّ في الطاعاتِ، والتَّشْميرِ والحَزَامَةِ بغايةِ الجُهْدِ، وليس الإلقاء باليدِ وما أشبهه

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 534) . (2) الشورى: مصدر بمعنى التشاور، يقال: تشاور القوم إذا اجتمعوا على الأمر ليستشير كل واحد منهم صاحبه، ويستخرج ما عنده من رأي، من قولهم: شرت الدابة: إذا عرضتها على مشتريها ليبلوها وينظر ما عندها، وبالعرض يعلم خيرها وشرها، فكذلك بالتشاور يعلم خير الأمور وشرها. والشورى دعامة الحكومة الإسلامية، وعليها مدار انتظامها وحسن سلوكها وسعادتها، فأعدل الحكومات هي الحكومة الشورية، لذلك عنى الله (سبحانه وتعالى) بأمرها حتى قرر أصولها، في كثير من آيات الذكر الحكيم، وأمر بها رسوله المعصوم، قال تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] ، فامتدحهم بأن أمرهم شورى بينهم وقرنوه بأصل الإيمان، وهو الاستجابة إلى الله، وبأقوى أركانه وهو الصلاة، وفي هذا تنويه بشأنها، وإعلاء من أمرها، وتنبيه على أنها من أصول الإسلام ودعائمه. وقال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] . روي عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: «قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده» . وقال البيضاوي في تفسيرها: عاملهم معاملة العفو والصفح فيما يختص بك، واطلب المغفرة لهم، واستظهر برأيهم، وشاورهم في أمر الحرب وفي كل ما تصح فيه المشاورة لتطييب نفوسهم ولتمهيد سنة المشاورة لأمتك. ينظر: «الخلافة» لشيخنا عبد الفتاح الجوهري. (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 534) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 534) .

بتوكُّل، وإنما هو كما قال- عليه السلام-: «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ» . وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ هذه غايةٌ في الرِّفْعة، وشَرَفِ المنزلةِ، وقد جاءت آثار صحيحةٌ في فَضْل التوكُّلِ وعظيمِ منزلةِ المتوكِّلين، ففي «صحيح مُسْلِمٍ» عن عمران بن حصين أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالُوا: مَنْ هُمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ، وَلاَ يَستَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ، «1» وخَرَّج أبو عيسَى التِّرمذيُّ، عن أبي أُمَامَةَ، قَالَ: سمعتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِل الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي» ، وخرَّجه ابن ماجة أيضاً «2» ، وخرَّج أبو بَكْرٍ البَزَّارُ، وأبو عَبْدِ اللَّهِ التِّرمذيُّ الحكيمُ، عنْ عبد الرحمنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصديقِ (رضي اللَّه عنه) ، قَالَ: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلاَّ استزدته قَالَ: قَدِ استزدته، فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعِينَ الأَلْفَ سَبْعِينَ أَلْفاً، فقالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلاَّ استزدته، فَقَالَ: قَدِ استزدته، فَأَعْطَانِي هَكَذَا، وفَتَحَ أَبُو وَهْبٍ يَدَيْهِ، قَالَ أَبُو وَهْبٍ: قَالَ هِشَامٌ: هَذَا مِنَ اللَّهِ لاَ يدرى، مَا عَدَدُهُ» «3» ، وخرَّج أبو نُعَيْمٍ، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الجَنَّة/ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنَا، قَالَ: وَهَكَذَا، وَأَشَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنَا، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ النَّاسَ الجَنَّةَ بحفنة واحدة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صدق عمر» «4» . اهـ من

_ (1) أخرجه مسلم (1/ 198) ، كتاب «الإيمان» ، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، حديث (218/ 371) ، وأحمد (4/ 436، 441) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 327- بتحقيقنا) . (2) أخرجه الترمذي (4/ 626) ، كتاب «صفة القيامة» ، باب (12) ، حديث (2437) ، وابن ماجة (2/ 1433) كتاب «الزهد» ، باب صفة أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حديث (4286) ، وأحمد (5/ 268) . (3) أخرجه البزار كما في «مجمع الزوائد» (10/ 413- 414) ، وقال الهيثمي: رواه أحمد، والبزار، والطبراني بنحوه، وفي أسانيدهم القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد، وموسى بن عبيد هذا هو مولى خالد بن عبد الله بن أسيد، ذكره ابن حبان في «الثقات» . والقاسم بن مهران ذكره الذهبي في «الميزان» ، وأنه لم يرو عنه إلا سليم بن عمرو النخعي، وليس كذلك، فقد روى عنه هذا الحديث هشام بن حسان، وباقي رجال إسناده محتج بهم في الصحيح. (4) أخرجه أحمد (3/ 193) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 344- 345) من طريق أبي هلال عن قتادة عن أنس مرفوعا. وقال أبو نعيم: غريب من حديث قتادة عن أنس (رضي الله عنه) ، تفرد به أبو هلال، واسمه محمد بن سليم الراسبي، ثقة بصري. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 إلى 163]

«التذكرة» «1» ، وما وقَعَ من ذكْرِ الحَثْيَةِ والحَفْنَةِ لَيْسَ هو على ظاهره، فاللَّه سبحانه منزَّه عن صفَاتِ الأجْسَامِ. وقوله تعالى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أيْ: يترككم، والخذل الترك، والضميرُ في: مِنْ بَعْدِهِ يعودُ على اسمِ اللَّهِ، ويحتملُ على الخذل. [سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 163] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) وقوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، قرأ ابنُ كَثِيرٍ «2» ، وأبو عَمْرٍو، وعاصم: «أَنْ يَغُلَّ» بفتح الياء، وضم الغين، وقرأ باقي السبعة: «أَنْ يُغَلَّ» بضم الياء، وفتح الغين، واللفظةُ بمعنى الخِيَانة في خَفَاءِ، تقولُ العربُ: أَغَلَّ الرَّجُلُ يُغِلُّ إغْلاَلاً، إذا خان، واختلفَ عَلَى القراءة الأولى، فقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: نزلَتْ بسبب قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ من المغانمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فقال بعضُ النَّاس: لعلَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم أَخَذَهَا «3» ، فقيلَ: كانت هذه المَقَالَةُ مِنْ مؤمِنٍ لم يَظُنَّ في ذلك حَرَجاً. وقيل: كانَتْ من منافِقين، وقد رُوِيَ أن المفقود إنما كَانَ سَيْفاً، قال النَّقَّاش: ويقال: إنما نزلَتْ لأن الرماة قالوا يوم أُحُدٍ: الغنيمةَ الغنيمةَ، فإنا نخشى أن يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ أَخَذ شيئاً، فهو له «4» ، وقال ابْنُ إسحاق: الآية إنما أنزلَتْ، إعلاماً بأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئاً مما أُمِرَ بتبليغه «5» . وأمَّا على القراءة الثانيةِ، فمعناها عند الجمهور، أي: ليس لأحدٍ أنْ يغل النبيَّ، أيْ: يخونه في الغنيمة لأنَّ المعاصِيَ تَعْظُمُ بحَضْرته لتعيين توقيره.

_ (1) ينظر: «التذكرة» (2/ 504) . (2) ينظر: «السبعة» (218) ، و «الحجة» (3/ 94) ، و «حجة القراءات» (179، 180) ، و «إعراب القراءات» (1/ 122) ، و «العنوان» (81) ، و «شرح شعلة» (325) ، و «إتحاف» (1/ 493) ، و «معاني القراءات» (1/ 279) . (3) أخرجه الترمذي (5/ 230) كتاب «التفسير» باب ومن سورة آل عمران حديث (3009) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (4) ذكره ابن عطية (1/ 535) . (5) ذكره ابن عطية (1/ 535) .

قال ابن العربي «1» في «أحكامه» : وهذا القول هو الصحيحُ، وذلك أنَّ قوماً غَلُّوا من الغنائمِ، أو هَمُّوا، فأنزل اللَّه تعالَى الآية، فنهاهُمُ اللَّه عن ذلك، رواه الترمذيُّ. انتهى. وقوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية: وعيدٌ لِمَنْ يغل من الغنيمة، أو في زكاته بالفَضِيحَة يَوْمَ القيامة على رءوس الأَشهاد، قال القرطبيُّ في «تذكرته» «2» : قال علماؤنا (رحمهم اللَّه) في قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ: إنّ ذلك على الحقيقة كما بيّنه صلّى الله عليه وسلّم، أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذَّباً بحمله وثِقَلِهِ، ومروَّعاً بصوته، وموبَّخاً بإظهار خيانته. انتهى. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا الْخَائِطَ وَالمَخِيطَ فَإنَّ الغُلُولَ عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ على أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» «3» رواه مالكٌ في «الموطَّأ» ، قال أبو عُمَرَ في «التمهيد» : الشَّنَار: لَفْظَةٌ جامعةٌ لمعنَى العَارِ وَالنَّارِ، ومعناها الشَّيْن، والنَّار يريد أن الغلول شَيْنٌ وعارٌ ومنْقَصَة في الدُّنْيا، وعذابٌ في الآخرة. انتهى، وفي الباب أحاديثُ صحيحةٌ في الغُلُولِ، وفي مَنْعِ الزكاة. وقوله سبحانه: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ، أي: الطاعة الكفيلة بِرضْوَان اللَّه. قال ص: «أَفَمَنْ» : استفهام، معناه: النَّفْيُ، أي: ليس مَنِ اتبع مَا يَئُولُ به إلى رِضَا اللَّه تعالى عَنْه فباء برضَاه، كَمَنْ لم يَتَّبِعْ ذلك فباء بسَخَطه. انتهى. وقوله سبحانه: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ قال ابنُ إسحاق وغيره: المراد بذلك الجَمْعَانِ المذكورانِ أهل الرِّضْوان، وأصحاب السَّخَط «4» ، / أيْ: لكلِّ صِنْفٍ منهم تَبَايُنٌ في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النَّار أيضاً، وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ ما ظاهره: أن المراد بقوله: «هم» ، إنما هو لمتبعي الرضْوان «5» ، أي: لهم درجاتٌ كريمةٌ عند ربهم، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: هُمْ ذَوْو دَرَجَاتٍ، والدرجاتُ: المنازلُ بعضها أعلى من بعض في المَسَافة، أو في التكرمة، أو في العذاب، وباقي الآية وعد ووعيد.

_ (1) ينظر: «الأحكام» لابن العربي (1/ 301) . (2) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 399) . (3) أخرجه مالك (2/ 457- 458) ، كتاب «الجهاد» ، باب ما جاء في الغلول، حديث (22) عن عبد الرّحمن بن سعيد عن عمرو بن شعيب مرسلا. وأخرجه أبو داود (2/ 70) (2694) ، والنسائي (6/ 262- 263) ، وأحمد (2/ 184) ، والبيهقي (6/ 336- 337) من طريق عمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جَدِّه موصولا. (4) ذكره ابن عطية (1/ 536) . (5) ذكره ابن عطية (1/ 537) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 إلى 165]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 165] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... الآية: اللام في «لقد» : لام القسم، و «منّ» في هذه الآية: معناه: تطوَّل وتفضَّل سبحانه، وقد يقال: «مَنَّ» بمعنى كَدَّرَ مَعْرُوفَهُ بالذِّكْرِ، فهي لفظةٌ مشتركة، وقوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أي: في الجنْسِ، واللسانِ، والمُجَاورةِ، فكونه مِنَ الجنْسِ يوجبُ الأنْسَ به، وكونُه بِلِسانِهِمْ يوجِبُ حُسْنَ التفهيم، وكونُه جَاراً ورَبِيًّا يوجِبُ التصديقَ والطُّمأنينة إذ قد خَبَرُوه وعَرَفُوا صِدْقَه وأمانته، ثم وقَف اللَّه سبْحانه المؤمنين عَلَى الخَطَإ في قَلَقِهِمْ للمُصِيبة الَّتي نزلَتْ بهم، وإعراضهم عمَّا نزل بالكفّار، فقال: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ، أي: يوم أُحُدٍ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها، أيْ: يوم بَدْر إذ قتل من الكُفَّار سبعون، وأسر سَبْعُون، هذا تفْسِيرُ ابنِ عَبَّاس «1» ، والجمهورِ. وقال الزَّجَّاج «2» : وَاحِدُ المِثْلَيْن: هو قتْلُ السبعينَ يَوْمَ بَدْر، والثاني: هو قتل اثنين وعشرين يَوْمَ أحد، ولا مَدْخَل للأسرى لأنهم قد فدوا. وأَنَّى: معناها: كَيْفَ، وَمِنْ أَيْنَ، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، أي: حين خالفتم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الرأْيِ حينَ رأى أنْ يقيمَ بالمَدينة، ويترك الكُفَّار بَشَّر مَحْبِسٍ، فأبيتم إلا الخُرُوجِ، وهذا هو تأويلُ الجمهور، وقالَتْ طائفة: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ: إشارةٌ إلى عصيانِ الرُّمَاة، وتسبيبهم الهَزيمة عَلَى المؤمنين، وقال عليٌّ والحَسَن: بل ذلك لِمَا قَبِلُوا الفِدَاءَ يَوْمَ بدر «3» وذلك أنَّ اللَّه سبحانه أخبرهم على لسانِ نبيِّه بَيْنَ قَتْل الأسرى أو يأخذوا الفِدَاءَ على أنْ يُقْتَلَ منْهم عدَّة الأسرى، فاختاروا أَخْذَ الفدَاءِ، ورَضُوا بالشَّهَادةِ، فقُتِلَ منهم يوْمَ أحدٍ سَبْعُونَ، قلْتُ: وهذا الحديثُ رواه الترمذيُّ عنْ عليٍّ (رضي اللَّه عنه) ، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ أحمدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُودِيُّ: وعَنِ الضَّحَّاك: أَنَّى هذا، أي: بأيّ ذنب هذا؟

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 508) برقم (8185) ، وذكره ابن عطية (1/ 538) ، والسيوطي (2/ 166) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ينظر: «معاني القرآن» (1/ 488) . (3) أخرجه الطبري (3/ 509) برقم (8190) عن علي، وذكره ابن عطية (1/ 538) ، والسيوطي (2/ 166) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن، ولابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه، وابن مردويه عن علي.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 إلى 167]

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ «1» : قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ عقوبةً لمعصيتكم لنبيِّكم- عليه السلام-. انتهى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) وقوله سبحانه: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، يعني: يوم أُحُد. وقوله سبحانه: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، أيْ: ليعلم اللَّه المؤمن مِنَ المُنَافق، والإشارة بقوله سبحانه: نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ: هي إلى عَبْد اللَّه بن أبَيٍّ وأصحابه، حين انخزل بنَحْو ثُلُث النَّاسِ، فمشى في إثرهم عبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزَامٍ أبُو جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فقَالَ لهم: اتقوا اللَّهَ، ولا تَتْرُكُوا نبيَّكم، وقاتلوا في سَبيلِ اللَّهِ، أو ادفعوا، ونحْوَ هذا من القولِ، فقال له ابْنُ أُبَيٍّ: ما أرى أَنْ يكُونَ قِتَالاً، ولو علمْنا أنْ يكُونَ قتَالٌ، لكنا معكم، فلما يَئِسَ منهم عبْدُ اللَّهِ، قال: اذهبوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيْغُنِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْكُمْ، ومضى مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاستشهد. وقوله تعالى: أَوِ ادْفَعُوا، قال ابنُ جُرَيْجٍ وغيره: معناه: كَثِّروا السوادَ، وإنْ لم تقاتِلُوا/، فيندفع القَوْم لكثرتِكُمْ «2» ، وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قولَ عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «أو ادفعوا» : استدعاء للقتَالِ حميَّةً إذ ليسوا بأهْلٍ للقتال في سبيل اللَّه، والمعنى: قاتلوا في سبيل اللَّه، أو قاتلوا دفاعاً عن الحَوْزَة ألا ترى أنَّ قُزْمَانَ قَالَ في ذلك اليَوْمِ: واللَّهِ، ما قاتلْتُ إلاَّ على أحساب قَوْمِي، وقَوْلِ الأنصاريِّ يومئذ لَمَّا أرسلَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ في الزُّروع: أترعى زُرُوعَ بَنِي قيلة، ولمّا نضارب. [سورة آل عمران (3) : الآيات 168 الى 172] الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

_ (1) ذكره ابن عطية (1/ 538) ، والسيوطي (2/ 166) ، وعزاه لابن المنذر. [.....] (2) ذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 435) ، وابن عطية (1/ 539) .

وقوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا، الَّذِينَ بدل من الَّذِينَ المتقدِّم، لِإِخْوانِهِمْ، أي: لأجْلِ إخوانهم، أوْ في شأنِ إخوانهم المقتولِينَ، ويحتمل أنْ يريد: لإخوانهم الأحياءِ مِنَ المُنَافِقِينَ، ويكون الضميرُ في «أَطَاعُونَا» للمقتولين، وقَعَدُوا: جملةٌ في موضِعِ الحالِ، معترضةٌ أثْنَاءَ الكلامِ، وقولهم: لَوْ أَطاعُونا، يريدون: في ألاَّ يخرُجُوا، وباقِي الآيةِ بَيِّن. ثم أخْبَرَ سبحانه عن الشهداءِ أنهم في الجنَّة أحياءٌ يرزقون، وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ عَلَى الشُّهَدَاءِ، فَيَقُولُ: يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ، فَأَزِيدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا، لاَ فَوْقَ مَا أَعْطَيْتَنَا، هَذِهِ الجَنَّةُ نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ، لَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنَا إلَى الدُّنْيَا، فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ، فَنُقْتَلُ مَرَّةً أخرى، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّكُمْ لاَ تُرَدُّونَ» «1» ، والأحاديثُ في فَضْل الشُّهَداء كثيرةٌ. قال الفَخْر «2» : والرواياتُ في هذا البابِ كأنَّها بلَغَتْ حدَّ التواتر، ثم قَالَ: قال بعْضُ المفسِّرين: أرواحُ الشُّهَدَاءِ أحياءٌ، وهي تركَعُ وتَسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ إلى يَوْمِ القِيامةِ. انتهى. والعقيدةُ أنَّ الأرواحَ كلَّها أحياء، لا فرق بَيْن الشهداءِ وغيرهم في ذلك إلاَّ ما خَصَّص اللَّه به الشُّهداءَ مِنْ زيادَةِ المَزِيَّة والحياةِ الَّتِي ليْسَتْ بمكيَّفة، وفي «صحيح مسْلِمٍ» ، عن مَسْرُوقٍ قال، سَأَلْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فقال: أَمَّا أَنَا، فَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذلك، فقال، يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقةٌ بِالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ ... » «3» الحديثَ إلى آخره اهـ. ومن الآثار الصحيحةِ الدالَّة على فَضْلِ الشُّهداءِ ما رواه مالكٌ في «الموطَّإ» أنه بلَغَهُ أنَّ عمرو بْنَ الجَمُوحِ «4» ، وعبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأنصارِيَّيْنِ ثُمَّ السُّلَمِيَّيْنِ كَانَا قد حفر السّيل

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1502) ، كتاب «الإمارة» ، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، حديث (121/ 1887) . (2) ينظر: «الفخر الرازي» (9/ 73) . (3) تقدم تخريجه. (4) عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاري، السلمي. من سادات الأنصار، واستشهد بأحد. قال ابن إسحاق في «المغازي» : كان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة، وشريفا من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يعظّمه، فلما أسلم فتيان بني سلمة منهم ابنه معاذ، -

قبرهما، وكان قَبْرُهما ممَّا يَلِي السَّيْلَ، وكانا في قَبْرٍ واحدٍ، وهما مِمَّن استشهد يَوْمَ أُحُدٍ، فحفر عنهما ليغيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا، فَوُجِدَا لم يُغَيَّرا، كأنما ماتا بالأمْسِ، وكان أحدُهُما قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ على جُرْحِهِ، فَدُفِنَ، وهو كذلك، فَأُمِيطَتْ يده عَنْ جُرْحِهِ، ثم أرْسِلَتْ، فَرَجَعَتْ، كما كانَتْ، وكان بَيْنَ أُحُدٍ، وبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وأربعون سنَةً، قال أبو عمر في «التمهيد» : حديثُ مالكٍ هذا يتَّصلُ من وجوهٍ صحاحٍ بمعنى واحدٍ متقاربٍ، وعبد اللَّه بن عمرو هذا هو والدُ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وعَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ هو ابنُ عَمِّه، ثم أسند أبو عمر، عن جابرِ بنِ عبْدِ اللَّهِ، قال: لما أراد معاويةُ أنْ يُجْرِيَ العَيْنَ بأُحُدٍ، نُودِيَ بالمدينةِ: مَنْ كان له/ قتيلٌ، فليأت قتيله، قال جابرٌ: فأتيناهم، فأخرجْنَاهم رطَاباً يَتَثَنَّوْنَ، فأصابَتِ المِسْحَاةُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فانفطرت دَماً، قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: «لاَ يُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مُنْكَرٌ أَبداً» وفي رواية: «فاستخرجهم- يعني: معاويةَ-، بعد سِتٍّ وأربعين سنَةً لَيِّنَةً أجسادُهم، تتثنى أطرافهم» ، قال أبو عمر: الذي أصابَتِ المِسْحَاةُ أصبُعَهُ هو حمزةُ (رضي اللَّه عنه) . ثم أسند عَنْ جابِرٍ قال: رأَيْتُ الشهداءَ يَخْرجُونَ على رِقَابِ الرجَالِ كأنهم رجَالٌ نُوَّمٌ حتى إذا أَصَابَتِ المِسْحَاةُ قَدَمَ حمزةَ (رضي اللَّه عنه) : «فانثعبت دَماً» انتهى. وقوله سبحانه: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ... الآية: معناه: يُسَرُّونَ، ويَفْرَحُونَ، وذهَبَ قتادة وغيره إلى أنَّ استبشارهم هو أنهم يقولُونَ: إخواننا الذين تركْنَاهم خَلْفَنَا في الدنيا يُقَاتِلُونَ في سَبيل اللَّه مع نبيِّهم، فيستشهدُونَ، فينالُونَ مِنَ الكرامَةِ مِثْلَ ما نِلْنَا نَحْنُ، فيسرُّون لهم بذلك إذْ يحصُلُونَ لا خَوْفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» ، وذهب فريقٌ من العلماءِ إلى أَنَّ الإشارة في قوله: بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا، إلى جميع المؤمنين الَّذِينَ لم يلحقوا بهم في فَضْل الشهادة وذَلك لِمَا عايَنُوا من ثوابِ اللَّهِ، فهم فرحون لأنفسهم بما

_ - ومعاذ بن جبل، كانوا يدخلون على صنم عمرو فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، فيغدو عمرو فيجده منكبّا لوجهه في العذرة، فيأخذه ويغسله ويطيّبه، ويقول: لو أعلم من صنع هذا بك لأخزيّنه، ففعلوا ذلك مرارا، ثم جاء بسيفه فعلّقه عليه، وقال: إن كان فيك خير فامتنع، فلما أمسى أخذوا كلبا ميتا فربطوه في عنقه، وأخذوا السيف، فأصبح فوجده كذلك، فأبصر رشده وأسلم، وقال في ذلك أبياتا منها: تالله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن ينظر: «أسد الغابة» ت (3891) ، و «الاستيعاب» ت (1925) ، و «الإصابة» (4/ 506) ، و «سير أعلام النبلاء» (1/ 25211) . (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 541) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 إلى 174]

آتاهم اللَّه مِنْ فضله، ومُسْتَبْشِرُون للمؤمنين أنَّهم لا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُونَ ثم أكَّد سبحانه استبشارهم بقوله: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ، ثم بيَّن سبحانه بقوله: وَفَضْلٍ، أنَّ إدخالَهُ إياهم الجَنَّةَ هو بفَضْل مِنْه، لا بعملِ أَحَدٍ، وأمَّا النعمة في الجَنَّة، والدَّرجاتُ، فقد أخبر أنَّها على قَدْر الأعمال. قُلْتُ: وخرَّج أبو عبد اللَّهِ الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ «1» صَاحِبُ ابن المبارَكِ في «رقائقه» ، بسنده، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العَاصِي «أنَّ الشُّهداءَ فِي قِبابٍ مِنْ حَرِيرٍ فِي رِياضٍ خُضْرٍ، عِنْدَهُمْ حُوتٌ وَثَوْرٌ، يَظَلُّ الحُوتُ يُسَبِّحُ فِى أَنْهَارِ الجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ رائِحَةٍ فِي أَنْهَارِ الجَنَّةِ، فَإذَا أمسى وَكَزَهُ الثَّوْرُ بقَرْنِهِ، فَيُذْكِيهِ، فَيَأْكُلُونَ لَحْمَهُ، يَجِدُونَ فِي لَحْمِهِ طَعْمَ كُلِّ رَائِحَةٍ، وَيَبِيتُ الثَّوْرُ فِي أَفْنَاءِ الجَنَّةِ، فَإذَا أَصْبَحَ، غَدَا عَلَيْهِ الحُوتُ، فَوَكَزَهُ بِذَنَبِهِ، فَيُذْكِيهِ، فَيَأْكُلُونَ، فَيَجِدُونَ فِي لَحْمِهِ طَعْمَ كُلِّ رَائِحَةٍ فِي الجَنَّةِ، ثُمَّ يَعُودُونَ، وَيَنْظُرُونَ إلى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ... » الحديثَ. انتهى. مختصرًا، وقد ذكره صاحب «التذكرة» مطوَّلاً. وقرأ الكِسَائِيُّ: «وَإنَّ اللَّهَ» بكسر «2» الهمزة على استئناف الإخبار، وقرأ باقي السبعة بالفتْحِ على أنَّ ذلك داخلٌ فيما يُسْتبشر به، وقوله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا يحتملُ أنْ يكون صفَةً للمؤمنين على قراءة مَنْ كَسَر الألف من «إنَّ» ، والأظهر أنَّ الذين ابتداءٌ، وخبره في قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ ... الآية، والمستجيبُونَ للَّه والرسولِ: هم الذين خرَجُوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد في طلب قريش. [سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 174] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) وقوله سبحانه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ... الآية: «الذين» : صفةٌ للمحسنين، وهذا القولُ هو الذي قاله الركْبُ من عبد القيس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) الحسين بن الحسن بن حرب السلمي، أبو عبد الله المروزي، ثم المكي. عن ابن المبارك، وهشيم، وابن عيينة، ويزيد بن زريع، وخلق. وعنه الترمذي وابن ماجة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 224) . (2) ينظر: «السبعة» (219) ، و «الحجة» (3/ 98) ، و «حجة القراءات» (182) ، و «إعراب القراءات» (1/ 122) ، و «العنوان» (81) ، و «شرح الطيبة» (4/ 178) ، و «شرح شعلة» (326) ، و «إتحاف» (1/ 494) ، و «معاني القراءات» (1/ 280) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 175 إلى 178]

وأصحابه حِينَ حَمَّلَهُمْ أبُو سُفْيَانَ ذلكَ، «فالنَّاسُ» الأوَّلُ هُمُ الرَّكْبُ، و «النَّاسُ» الثَّانِي عَسْكَر قُرَيْش هذا قول/ الجمهورِ، وهو الصوابُ، وقولُ مَنْ قال: إن الآية نزلَتْ في خروجِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى بدر الصّغرى لميعاد أبي سفيان، وإِنَّ النَّاسَ هنا هو نُعيْمُ بْنُ مسعودٍ- قولٌ ضعيفٌ، وعن ابنِ عَبَّاسٍ أنه قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ» قَالَهَا إبْرَاهِيمُ- عليه السلام-، حين ألقى في النّار، وقالها محمّد صلّى الله عليه وسلّم حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، رواه مسلم. والبخاريّ «1» . انتهى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 175 الى 178] إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) وقوله سبحانه: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ ... الآية: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الرَّكْب عن رسالة أبِي سُفْيَان، ومِنْ جَزَعِ مَنْ جَزِعَ من الخَبَر. وقرأ الجمهورُ «2» : «يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ» ، قالَ قوم: معناه: يخوِّف المنافقينَ، ومَنْ في قلبه مرضٌ، وحكى أبو الفَتْحِ بْنُ جِنِّي «3» ، عن ابن عَبَّاس أنه قرأ «يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ» ، فهذه قراءةٌ ظهر فيها المفعولانِ، وهي مفسِّرة لقراءة الجَمَاعة، وفي قراءة أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ» ، وفِي كتاب «القَصْد إلى اللَّه تعالى» للمحاسِبِيِّ «4» ، قال: وكلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره حياءً منه عزَّ وجلّ أن يخافوا معه سواه. انتهى.

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 77) كتاب «التفسير» ، باب الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ، حديث (4563) عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 544) ، و «البحر المحيط» (3/ 125) ، و «الدر المصون» (2/ 263) . (3) ينظر: «المحتسب» (1/ 177) . (4) الحارث بن أسد، أبو عبد الله المحاسبي، قال ابن الصلاح: ذكره أبو منصور التميمي في الطبقة الأولى من الشافعية فيمن صحب الشافعي. قال ابن قاضي شهبة: أحد مشايخ الصوفية. توفي سنة 243 هـ. ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 59) ، و «طبقات الفقهاء» للعبادي (ص 27) ، و «ميزان الاعتدال» (1/ 199) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 179 إلى 180]

وقوله سبحانه: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، والمسارعة في الكُفْر: هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله، والجِدُّ في ذلك، وسَلَّى اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- بهذه الآية عنْ حالِ المنافقين والمجاهِرِين إذ كلُّهم مسارعٌ، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً: خبرٌ في ضِمْنِهِ وعيدٌ لهم، أي: وإنما يضرُّون أنفسهم، والحَظُّ: إذا أطلق، فإنما يستعملُ في الخير، وقوله سبحانه: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ: نُمْلِي: معناه: نُمْهِلُ ونَمُدُّ في العمر، والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ إملاءنا للذين كَفَرُوا خَيْراً لهم، فالآيةُ ردٌّ على الكفَّار في قولهم: إنَّ كوننا مموَّلِينَ أصحّة دليل على رضا الله بحالتنا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 179 الى 180] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) وقوله تعالى: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ، أيْ: ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، مُشْكِلاً أمرَهُم حتى يميز بعْضَهُم مِنْ بعض بما يظهره مِنْ هؤلاء وهؤلاء في «أُحُدٍ» من الأفعال والأقوال، هذا تفسيرُ مجاهد وغيره «1» . وقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، أي: في أمر أُحُدٍ، وما كان من الهزيمة وأيضاً: فما كان اللَّه ليطلعكم على المنافقين تصريحاً وتسميةً لهم، ولكنْ بقرائنِ أفعالهم وأقوالهم. قال الفَخْر «2» : وذلك أنَّ سنة اللَّه جاريةٌ بأنَّه لا يُطْلِعُ عوامَّ الناس على غَيْبِهِ، أي: لا سبيلَ لكم إلى معرفة ذلك الإمتياز إلاَّ بامتحانات كما تقدَّم، فأمَّا معرفةُ ذلك على سبيلِ الإطلاعِ مِنَ الغَيْبِ، فهو من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. انتهى. وقال الزَّجَّاج «3» وغيره: رُوِيَ أنَّ بعض الكُفَّار قال: لِمَ لا يكون جميعنا أنبياء،

_ (1) ذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 439) بنحوه، وذكره أيضا ابن عطية في «تفسيره» (1/ 546) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 184) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....] (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» لفخر الدين الرازي (9/ 90) . (3) ينظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (1/ 492) .

فنزلت هذه الآية، ويَجْتَبِي: معناه: يَخْتَارُ ويصْطَفِي، وقوله سبحانه: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية: قال السُّدِّيُّ وجماعةٌ من المتأوِّلين: الآية نزلَتْ في البُخْل بالمال، والإنفاقِ في سبيل اللَّه، وأداء الزكاة المفْرُوضَة، وَنحْو ذلك، قال: ومعنى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ هو الذي ورد/ في الحديثِ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ، فَيَسْأَلَهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ، فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إلاَّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ حتى يُطَوَّقَه» «1» ، قُلْتُ: وفي البخاريّ وغيره، عنه صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْخُذُ بلَهْزَمَتَيْهِ، يَعْنِي: شِدْقَيهِ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ هذه الآيةَ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... «2» الأية. قلْتُ: واعلم أنه قد وردَتْ آثار صحيحةٌ بتعذيبِ العُصَاة بنَوْعٍ مَا عَصَوْا به كحديث: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَهُوَ يَجَأُ نَفْسَهُ بِحَدِيدَتِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ في نار جهنّم» «3» ، ونحو ذلك.

_ (1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (2/ 322) رقم (2343) من حديث جرير بن عبد الله. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 157) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» و «الكبير» ، وإسناده جيد. وله شاهد من حديث حجير بن بيان: ذكره الحافظ في «المطالب العالية» (3/ 314) رقم (3568) ، وعزاه لأبي بكر بن أبي شيبة. (2) أخرجه البخاري (3/ 315) ، كتاب «الزكاة» ، باب إثم مانع الزكاة، حديث (1403) من حديث أبي هريرة. (3) أخرجه البخاري (10/ 258) ، كتاب «الطب» ، باب شرب السم والدواء..، حديث (5778) ، ومسلم (1/ 103) كتاب «الإيمان» ، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، حديث (109/ 175) ، وأبو داود (2/ 400) كتاب «الطب» ، باب في الأدوية المكروهة، حديث (3872) ، والترمذي (4/ 386) كتاب «الطب» ، باب ما جاء فيمن قتل نفسه بسم أو غيره، حديث (2043، 2044) ، والنسائي (4/ 66- 67) كتاب «الجنائز» ، باب ترك الصلاة على من قتل نفسه، وابن ماجة (2/ 1145) ، كتاب «الطب» ، باب النهي عن الدواء الخبيث، حديث (3460) ، وأحمد (2/ 254، 478) ، والدارمي (2/ 192) كتاب «الديات» ، باب التشديد على من قتل نفسه، وابن حبان (5986- الإحسان) ، وابن منده في «الإيمان» (627، 628، 629) ، والبيهقي (8/ 23- 24) كتاب «الجنايات» ، باب التغليظ على من قتل نفسه، كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 291- 292) وقال: رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير عبد الله بن جنادة، وهو ثقة. حديث سلمان: -

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 182]

قال الغَزَّالِيُّ في «الجَوَاهِرِ» : واعلم أنَّ المعانِيَ في عالم الآخرة تستتبعُ الصُّور، ولا تَتْبَعُها، فيتمثَّل كلُّ شيء بصورة تُوَازِي معناه، فيُحْشَرُ المتكبِّرون في صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ مَنْ أَقْبَل وأَدْبَر، والمتواضِعُون أعزَّاء. انتهى، وهو كلام صحيحٌ يشهد له صحيحُ الآثارِ ويؤيِّده النظَرُ والإعتبار، اللَّهم، وفِّقنا لما تحبُّه وترضاه. قال ابنُ العَرَبِيِّ «1» في «أحكامه» : قال عُلَماؤنا: البُخْل: مَنْعُ الواجبِ، والشُّحُّ: منع المستحَبِّ، والصحيحُ المختارُ أنَّ هذه الآيةَ في الزكاة الواجبَة لأنَّ هذا وعيدٌ لمانعيها، والوعيدُ إذا اقترن بالفعْلِ المأمورِ به، أو المنهيِّ عنه، اقتضى الوجوبَ أو التحريمَ. انتهى. وتعميمها في جميع أنْواع الواجب أحسن. وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خطابٌ على ما يفهمه البشر، دَالٌّ على فناء الجميعِ، وأنه لا يبقى مَالِكٌ إلّا الله سبحانه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) وقوله سبحانه: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ... الآية: نزلَتْ بسبب فِنْحَاصٍ اليَهُودِيِّ وأشباهه كَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وغيره، لمَّا نزلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الحديد: 11] ، قالوا: يستقرضُنا ربُّنا، إنما يَسْتَقْرِضُ الفَقِيرُ الغَنِيَّ، وهذا مِنْ تحريف اليهودِ للتأويل علَى نحو ما صَنَعُوا في تَوْرَاتِهِمْ. وقوله تعالى: قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا: دالٌّ على أنَّهم جماعةٌ. وقوله تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا ... الآية: وعيدٌ لهم، أي: سنُحْصِي عليهم قولَهُمْ، ويتصلُ ذلك بفعل آبائهم مِنْ قَتْل الأنبياءِ بغَيْر حَقٍّ. وقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ أي: وبأنَّ الله ليس بظلّام للعبيد.

_ - أخرجه الحاكم (3/ 604) والطبراني في «الكبير» (6183) كلاهما من طريق سعيد بن محمد الوراق عن موسى الجهني عن زيد بن وهب عن سلمان به وصححه الحاكم. وتعقبه الذهبي فقال: الوراق تركه الدارقطني وغيره. وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 292) : رواه الطبراني وفيه سعيد بن محمد الوراق، وهو متروك. (1) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 303) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 183 إلى 184]

قال ص: قيل: المراد هنا نفْيُ القليلِ والكثيرِ مِنَ الظُّلْم كقول طَرَفَةَ «1» : [الطويل] . وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً ... وَلَكِنْ متى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ «2» ولا يريدُ: أنه قدْ يحلُّ التلاعَ قليلاً. وزاد أبو البقاءِ وجْهاً آخر، وهو أنْ يكون على النَّسَبِ، أي: لا ينسب سبحانه إلى ظُلْمٍ، فيكون من باب بَزَّاز وعَطَّار. انتهى، قلتُ: وهذا القولُ أحْسَنُ ما قيل هنا، فمعنى وما ربُّكَ بظَلاَّم، أي: بذي ظلم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 183 الى 184] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) وقوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا ... الآية: هذه المقالَةُ قالَتْها أحْبَارُ اليهودِ مدافعةً لأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: إنَّك لم تأْتِنَا بقُرْبان تأكله النار، فنَحْنُ قد عُهِدَ إلَيْنا ألاَّ نُؤْمِنَ لك.

_ (1) طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، البكري، الوائلي، أبو عمرو: شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. ولد في بادية «البحرين» ، وتنقل في بقاع «نجد» . واتصل بالملك عمرو بن هند، فجعله في ندمائه، ثم أمر بقتله لأبيات بلغ الملك فيها أن طرفة هجاه بها. وأشهر شعره معلقته. ومطلعها: «لخولة أطلال ببرقة ثهمد» . وقد شرحها كثيرون من العلماء. كان غير فاحش القول في شعره خاصة في الهجاء. توفي سنة 60 قبل الهجرة. انظر: «التبريزي» (4/ 8) ، و «جمهرة أشعار العرب» (32، 83) ، و «الأعلام» (3/ 225) . (2) وهذا البيت من معلقة طرفة. وقد عابه المرزباني في كتاب «الموشح» وقال: المصراع الثاني غير مشاكل للأول. ينظر: «ديوانه» (ص 29) و «خزانة الأدب» (9/ 66، 67، 471) و «الكتاب» (3/ 78) وبلا نسبة في «شرح شذور الذهب» (ص 435) و «مغني اللبيب» (2/ 606) . والحلّال: مبالغة الحالّ، من الحلول، وهو النّزول. والأحسن أن يكون «فعّال» للنّسبة، أي لست بذي حلول. و (التّلاع) : جمع تلعة، وهو مجرى الماء من رءوس الجبال إلى الأودية. قال ابن الأنباريّ: والتّلعة من الأضداد، تكون ما ارتفع، وما انخفض. والمراد هنا الثاني، وهو سيل ماء عظيم. و (أرفد) بكسر الفاء لأنه مضارع رفده رفدا من باب ضرب، أي أعطاه أو أعانه. والرّفد بالكسر اسم منه. وأرفده بالألف مثله. وترافدوا: تعاونوا. واسترفدته: طلبت رفده. قال الزوزني: المعنى: إنّي لست ممّن يستتر في التّلاع مخافة الضّيف أو غدر الأعداء إيّاي، ولكن أظهر وأعين القوم إذا استعانوا بي، إمّا في قرى الضيف، وإمّا في قتال الأعداء.

[سورة آل عمران (3) : آية 185]

وقوله تعالى: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ مِنْ أمْر القُرْبان، والمعنى: أنَّ هذا منكم تعلُّل/ وتعنُّت، ولو أتيتُكُمْ بقُرْبَان، لتعلَّلتم بغَيْرِ ذلك، ثم أَنَّسَ سبحانه نبيَّه بالأُسْوة والقُدْوة فيمن تقدَّم من الأنبياء. قال الفَخْر «1» : والمرادُ بِالْبَيِّناتِ المعجزاتُ. انتهى. وَالزُّبُرِ: الكتابُ المكتوبُ، قال الزَّجَّاج «2» : زَبَرْتُ: كَتَبْتُ. [سورة آل عمران (3) : آية 185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ... الآية: وعظ فيه تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولأمته عن أمْرِ الدُّنْيا وأهلِها، ووَعْدٌ بالفلاحِ في الآخرةِ فبالفكْرة في المَوْت يَهُونُ أمر الكُفَّار وتكذيبُهم، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ، أي: على الكمالِ، ولا محَالَة أنَّ يوم القيامةِ تَقَعُ فيه توفية الأجور، وتوفية العقوبات، وزُحْزِحَ: معناه: أبعد، والمَكَانُ الزَّحْزَاحُ: البعيدُ، وفازَ: معناه: نجا من خطره وخوفه، والْغُرُورِ: الخَدْعُ، والتَّرْجِيَةُ بالباطل والحياةِ الدنيا، وكُلُّ ما فيها من الأموالِ هي متاعٌ قليلٌ يخدَعُ المرء، ويمنِّيه الأباطيلَ وعلى هذا فسَّر الآيةَ جمهور المفسّرين، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، ثم تَلاَ هذه الآيةَ، قُلْتُ: وأسند أبو بَكْر بْنُ الخَطِيبِ، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ قَطُّ إلاَّ التاط «3» مِنْهَا بِخِصَالٍ ثَلاَثٍ: أَمَلٌ لاَ يَبْلُغُ مُنْتَهَاهُ، وَفَقْرٌ لاَ يُدْرِكُ غِنَاهُ، وشغل لا ينفكّ عناه» «4» . انتهى. [سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، والمعنى: لتختبرنَّ ولتمتحننَّ في أموالكم بالمَصَائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله،

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» للإمام فخر الدين الرازي (9/ 101) . (2) ينظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (1/ 495) . (3) يعني لصق بقلبه، ويقال للشيء، إذا لم يوافق صاحبه: ما يلتاط، ولا يلتاط هذا الأمر بصفرى، أي: لا يلزق بقلبي، وهو يفتعل من اللوط. ينظر: «لسان العرب» (4099) . (4) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (3/ 336) .

[سورة آل عمران (3) : آية 187]

وفي سَائِرِ تَكَاليفِ الشَّرْع، والابتلاء في الأنفس بالمَوْتِ، والأمراضِ وفَقْدِ الأحبَّة، قال الفَخْر «1» : قال الواحديُّ «2» : اللام في لَتُبْلَوُنَّ: لامُ قسمٍ. انتهى. وقوله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... الآية: قال عِكْرِمَةُ وغَيْره: السبَبُ في نزولها أقوالُ فِنْحَاص «3» ، وقال الزُّهْريُّ «4» وغيره: نزلَتْ بسبب كَعْب بن الأشْرفِ حتى بعث إلَيْه رسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم مَنْ قتله، والأذَى: اسمٌ جامعٌ في معنى الضَّرَر، وهو هنا يشملُ أقوالهم فيما يَخُصُّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه مِنْ سبٍّ، وأقوالهم في جِهَة اللَّه سبحانه، وأنبيائه، وندَبَ سبحانه إلى الصبْرِ والتقوى، وأخبر أنه مِنْ عَزْم الأمور، أي: مِنْ أشدِّها وأحسنها، والعَزْمُ: إمضاءُ الأَمْر المُرَوَّى المُنَقَّح، وليس ركوب الرأي دون رويّة عزما. [سورة آل عمران (3) : آية 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... الآية: توبيخ لمعاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم هو مع ذلك خَبَرٌ عامٌّ لهم ولغيرهم، قال جمهورٌ من العلماء: الآية عامَّةٌ في كلِّ من علَّمه اللَّه عِلْماً، وعلماءُ هذه الأمَّة داخلُونَ في هذا الميثاقِ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ، أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» «5» ، والضميرُ في: لَتُبَيِّنُنَّهُ، وَلا تَكْتُمُونَهُ: عائدٌ على الْكِتابَ، والنَّبْذُ: الطَّرْح، وأظهر الأقوال في هذه الآيةِ أنَّها نزلَتْ في اليهودِ، وهم المعْنِيُّون، ثم كلِّ كاتمٍ من هذه الأمَّة يأخذ بحظِّه من هذه المَذَمَّةِ.

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» للرازي (9/ 103) . [.....] (2) علي بن أحمد بن محمد، أبو الحسن الواحدي، كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما، وأما التفسير فهو إمام عصره فيه، أخذ التفسير عن أبي إسحاق الثعلبي، واللغة عن أبي الفضل العروضي صاحب أبي منصور الأزهري والنحو عن أبي الحسن القهندزي. صنف الوسيط، والبسيط والوجيز، ومنه أخذ الغزالي هذه الأسماء، وله «أسباب النزول» ، وغير ذلك. مات سنة 468. ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 256) ، و «الأعلام» (5/ 59) ، و «وفيات الأعيان» (2/ 464) . (3) أخرجه الطبري (3/ 541) برقم (8316) ، وذكره ابن عطية (1/ 550) . (4) أخرجه الطبري (3/ 542) برقم (8317) ، وعبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 142) ، وذكره ابن عطية (1/ 551) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 189) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (5) تقدم تخريجه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 188 إلى 190]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 188 الى 190] لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) وقوله سبحانه: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ... الآية: ذهبتْ جماعة إلى أن الآية في المنافقين، وقالت جماعة كبيرة: إنما نزلَتْ في أهْل الكتاب أحبارِ/ اليهودِ، قال سعيدُ بن جُبَيْر «1» : الآية في اليهود، فَرِحُوا بما أعطَى اللَّه آل إبراهيم من النبوَّة والكتابِ، فهم يقولونَ: نحن على طريقهم، ويحبُّون أن يُحْمَدُوا بذلك، وهم ليسوا على طريقهم «2» ، وقراءةُ سعيدِ «3» بنِ جُبَيْر: «بما أُوتُوا» بمعنى «أُعْطُوا» (بضم الهمزة والطاء) وعلى قراءته يَستقيمُ المعنَى الذي قال، والمفازةُ مَفْعَلَةٌ من فَازَ يَفُوزُ، إذا نَجَا، وباقي الآية بيِّن. ثم دلَّ سبحانه على مواضِع النظرِ والعبرةِ، فقالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، أي: تَعَاقُب الليل والنَّهار إذ جعلهما سبحانه خِلْفِةً، ويدخل تحت اختلافهما قِصَرُ أحدِهِمَا وطولُ الآخَرِ، وبالعكْسِ، واختلافُهُما بالنُّور والظَّلام، والآياتُ: العلاماتُ الدالَّة على وحدانيَّتِهِ، وعظيمِ قُدْرته سُبْحانه. قال الفَخْر «4» : واعلم أنَّ المقصود من هذا الكتَابِ الكريمِ جَذْبُ القلوبِ والأرْوَاحِ عن الإشتغالِ بالخَلْقِ والإستغراقِ في معرفة الحقِّ، فلمَّا طال الكلامُ في تَقْرير الأحكامِ، والجوابِ عن شُبُهَاتِ المُبْطِلِين، عاد إلى إثارة القُلُوب بِذِكْرِ ما يدلُّ على التوحيدِ والكِبْرِيَاءِ والجَلاَل، وذِكْرِ الأدعية، فختم بهذه الآياتِ بنَحْو ما في «سورة البقرة» . انتهى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 191 الى 192] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 546) برقم (8336) ، وذكره ابن عطية (1/ 552) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 191) ، وعزاه لابن جرير. (2) أخرجه الطبري (3/ 546) برقم (8337) ، وذكره ابن عطية (1/ 552) ، وذكره السيوطي في «الدر» (2/ 192) ، وعزاه لابن جرير. (3) وقرأ بها علي فيما روي عنه. ينظر: «الكشاف» (1/ 451) ، و «مختصر الشواذ» (30) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 552) . (4) ينظر: «مفاتيح الغيب» للرازي (9/ 109) .

وقوله سبحانه: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً: الّذين: في موضع خفض صفة لِأُولِي الْأَلْبابِ، وهذا وصف ظاهره استعمالُ التحميدِ والتَّهْليلِ والتَّكْبير ونَحْوه مِنْ ذكر اللَّه، وأنْ يحضر القلب اللسان وذلك من أعْظَمِ وجوه العبادَاتِ، والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ، وابنُ آدم متنقِّلٌ في هذه الثلاثِ الهيئاتِ، لا يَخْلُو في غالب أمْرِه مِنْها فكأنها تحصرُ زمنه، وكذلك جَرَّتْ عائشةُ (رضي اللَّه عنها) إلى حصر الزَّمَن في قَوْلها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَذْكُرُ اللَّهَ على كُلِّ أَحْيَانِهِ» . قلت: خرَّجه أبو داود «1» ، فدخَلَ في ذلك كونه على الخَلاَءِ وغيره. وذهَبَ جماعةٌ إلى أنَّ قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إنما هو عبارةٌ عن الصَّلاة، أي: لا يضيِّعونها، ففي حال العُذْر يصلُّونها قعوداً، وعلى جُنُوبهم، ثم عَطَف على هذه العبادةِ التي هِيَ ذكُرْ اللَّه باللسان، أو الصَّلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمةٍ، وهي الفِكْرَةُ في قُدْرة اللَّه تعالى ومخلوقاتِهِ، والعِبَرُ التي بَثَّ. [المتقارب] وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ على أَنَّهُ وَاحِدُ «2» قال الغَزَّالِيُّ: ونهايةُ ثمرة الدِّين في الدُّنيا تَحْصيلُ معرفة اللَّه، وتحصيلُ الأُنُس بذكْرِ اللَّهِ تعالى، والأنسُ يَحْصُلُ بدوامِ الذِّكْر، والمعرفَةُ تحصُلُ بدوامِ الفِكْرِ. انتهى من «الإحياء» . ومَرَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم على قومٍ يتفكَّرون في اللَّه، فَقَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ فَإنَّكُمْ لاَ تَقْدُرُونَ قَدْرَهُ» «3» . قال ع «4» : وهذا هو قَصْدُ الآية في قوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) وقبله: ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد البيت لأبي العتاهية في ديوانه (122) ، و «المحتسب» (1/ 153) . (3) أخرجه أبو القاسم الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (1/ 174) ، وأبو الشيخ في «العظمة» (1/ 216) رقم (5) عن ابن عباس مرفوعا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 110) ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في كتاب «التفكر» ، والأصبهاني في «الترغيب والترهيب» . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 555) .

وقال بعض العلماء: المتفكِّر في ذاتِ اللَّهِ كَالنَّاظر في عَيْنِ الشمْسِ لأنه سبحانه لَيْسَ كمثله شيء، وإنما التفكُّر وانبساط الذِّهْن في المخلوقاتِ، وفي أحوالِ الآخِرَةِ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ» «1» وقال ابن عبَّاس، وأبو الدَّرْدَاء: فكْرَةُ ساعَةٍ خيُرٌ من قيامِ لَيْلَةٍ «2» ، وقال سَرِيٌّ السَّقطِيُّ «3» : فكرةُ ساعةٍ خَيْرٌ من عبادة سَنَةٍ، ما هو إلاَّ أنْ تحلَّ أطناب خَيْمَتِكَ، فَتَجْعَلها في الآخِرَةِ «4» ، وقال الحَسَنُ بْنُ أَبي الحَسَن: الفكْرةُ مِرآةُ المُؤْمنِ/، ينظر فيها إلى حسنَاتهِ وسيِّئاته «5» ، وأخذ أبو سليمان الدَّارانِيُّ «6» قَدَح الماء ليتوضَّأ لصلاة الليلِ، وعنده ضيْفٌ، فرآه لما أدخَلَ أصبعه في أُذُنِ القَدَح، أقام كذلك مفكِّراً حتى طلع الفَجْر، فقال له: ما هذا يَا أبا سليمان؟ فَقَالَ: إني لما طَرَحْتُ أصبعي في أُذُنِ القَدَحِ، تذكَّرت قول اللَّه سُبْحَانه: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر: 71] ،

_ (1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (3/ 66- 68) رقم (2688) من طريق أبي رجاء الحبطي محمد بن عبد الله: ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب. وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 283) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو رجاء الحبطي، واسمه محمد بن عبد الله، وهو كذاب. (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 509) ، والبيهقي في «الشعب» (1/ 118) كلاهما عن أبي الدرداء. كما أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (1/ 297- 298) برقم (42) ، وذكره الديلمي في «مسند الفردوس» (2/ 110) برقم (2216) عن ابن عباس، وفي طريق ابن عباس «ليث بن أبي سليم» وهو ضعيف. والأثر ذكره السيوطي في «الدر» (2/ 195) ، وعزاه لأبي الشيخ في «العظيمة» . [.....] (3) سري بن المغلس السقطي، أبو الحسن: من كبار المتصوفة. بغدادي المولد والوفاة. وهو أول من تكلم في «بغداد» بلسان التوحيد وأحوال الصوفية، وكان إمام البغداديين وشيخهم في وقته. وهو خال الجنيد، وأستاذه. قال الجنيد: ما رأيت أعبد من السريّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعا إلا في علة الموت. من كلامه: «من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز» توفي سنة 253. ينظر: «الأعلام» (3/ 82) ، و «الوفيات» (1/ 200) ، و «صفة الصفوة» (2/ 209) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 555) . (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 555) . (6) عبد الرّحمن بن سليمان بن أبي الجون العنسيّ الدمشقيّ، محدّث رحّال. روى عن: ليث، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي خالد، والأعمش، وعمرو بن شراحيل الدّاراني. وعنه: إسماعيل بن عيّاش من أقرانه، ومحمد بن عائذ، وأبو توبة الحلبي، وصفوان بن صالح، وهشام بن عمّار، وجماعة. وثّقه دحيم وقال أبو حاتم: لا يحتج به. توفي سنة نيف وتسعين ومائة. ينظر ترجمته في: «التاريخ الكبير» (5/ 289) .، و «ميزان الاعتدال» (2/ 567) ، و «سير أعلام النبلاء» (10/ 186) ، و «تهذيب التهذيب» (6/ 188- 189) .

فتفكَّرت في حالِي، وكيف أتلَقَّى الغُلَّ، إنْ طُرِحَ في عُنُقِي يوم القيامة، فما زلْتُ في ذلك حتى أُصْبِحَ. قال ع «1» : وهذه نهايةُ الخَوْف، وخَيْرُ الأمور أوساطها، وليس علماء الأمَّة الذين هم الحُجَّة على هذا المنهاج، وقراءةُ علْمِ كتابِ اللَّه ومَعَانِي سُنَّة رسُوله لِمَنْ يفهم ويرجى نَفْعُه أفضَلُ من هذا، لكنْ يَحْسُنُ ألاَّ تخلُوَ البلاد مِنْ مثل هذا. قال ع «2» : وحدثني أبي (رحمه اللَّه) ، عَنْ بعضِ علماءِ المَشْرق، قال: كنتُ بائتًا في مسجد الإقدامُ ب «مَصْرَ» فصلَّيْتُ العَتَمَةَ، فرأَيْتُ رجلاً قد اضطجع في كساءٍ له، حتى أصبح، وصلَّينا نَحْنُ تلك اللَّيْلَة، وسَهِرْنَا، فلَمَّا أُقِيمَتْ صلاةُ الصُّبْح، قام ذلك الرجُلُ، فاستقبل القبْلَةَ، وصلى مع النَّاس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلَمَّا فرغَتِ الصلاةُ، خرَجَ، فتبعْتُهُ لأعظَهُ، فلَمَّا دنوْتُ منه، سَمِعْتُهُ، وهو ينشد: [المنسوح] مُنْسَجِنُ الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِر ... مُنْتَبِهُ القَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ مُنْبَسِطٌ فِي الغُيُوبِ مُنْقَبُض ... كَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفاً ناكِرْ يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَر ... فَهْوَ مَدَى اللَّيْلِ نَائِمٌ سَاهِرْ قال: فعلمتُ أنه مِمَّن يعبدُ اللَّهَ بالفِكْرة، فانصرفت «3» عنه. قال الفَخْر «4» : ودلَّتِ الآية على أنَّ أعلى مراتب الصِّدِّيقين التفكُّر. انتهى. وفي «العتبية» : قال مالكٌ: قيلَ لأمِّ الدَّرْداء: ما كان أَكْثَر شأن أبي الدَّرْداء؟ قَالَتْ: كان أَكْثَرُ شَأْنِهِ التفكُّرَ. قال مالكٌ: وهو مِنَ الأعمال، وهو اليَقِينُ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قال ابنُ رُشْدٍ: والتفكُّر مِنَ الأعمال كما قاله مالك (رحمه اللَّه) ، وهو مِنْ أشرف الأعمال لأنه مِنْ أعمال القُلُوب التي هي أشْرَفُ الجوارحِ أَلاَ ترى أنه لا يُثَابُ أحدٌ على عملٍ مِنْ أعمال الجَوَارح مِنْ سائر الطَّاعات، إلاَّ مع مشارَكَةِ القُلُوبِ لها بإخلاص النِّيَّة للَّه (عَزَّ وجَلَّ) في فعلها. انتهى من «البيان والتحصيل» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 555) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 555) . (3) وهذا الفعل غير مشروع لأنه يخالف الكتاب والسنة لأن التفكر الذي يجعل العبد يعبد الله (عز وجل) على غير نهجه، فباطل وغير مأجور عليه العبد. (4) ينظر: «تفسير الرازي» (1/ 122) .

قال ابنُ بَطَّال «1» : إن الإنسان إذا كَمُل إيمانه، وكَثُر تفكُّره، كان الغالِبُ علَيْه الإشفاقَ والخَوْف. انتهى. قال ابنُ عطاءِ اللَّهِ: الفِكْرَةُ سَيْر القَلْب في ميادين الاعتبار، والفَكْرَةِ سِرَاجُ القَلْب، فإذا ذَهَبَتْ، فلا إضاءة له. قُلْتُ: قال بعض المحقِّقين: وذلك أن الإنسان إذا تفكَّر، عَلِم، وإذا عَلِمَ، عَمِلَ. قال ابنُ عَبَّاد «2» : قال الإمام أبو القاسم القُشَيْريُّ (رحمه اللَّه) : التفكُّر نعتُ كلِّ طالب، وثمرتُهُ الوصولُ بشرط العِلْمِ، ثم فِكْرُ الزاهدين: في فناءِ الدنيا، وقلَّةِ وفائها لطلاَّبها فيزدادُونَ بالفِكْرِ زهْداً، وفِكْرُ العابدين: في جَميلِ الثوابِ، فيزدادُونَ نَشَاطاً ورغبةً فيه، وفِكْرُ العارفين: في الآلاء والنعماء فيزدادُونَ محبَّةً للحَقِّ سبحانه. انتهى. وقوله تعالى: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذا باطِلًا، أي: يقولُونَ: يا ربَّنا على النداء، ما خلَقْتَ هذا باطلاً، يريد: لغير غايةٍ منصوبةٍ، بل خلقْتَهُ، وخلَقْتَ البشر لينظروا فيه فيوحِّدوك، ويعبدوك فَمَنْ فعل ذلك نَعَّمْتَهُ، ومَنْ ضَلَّ عن ذلك عَذَّبته، وقولهم: سُبْحانَكَ، أي: تنزيهاً لك عمَّا/ يقول المُبْطِلُون، وقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، أي: فلا تفعلْ ذلك بِنَا، والخِزْيُ: الفضيحةُ المُخْجِلَةُ الهادِمَة لقَدْرِ المرء. قال أنَسُ بنُ مالكٍ، والحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن، وابنُ جُرَيْج، وغيرهم: هذه إشارة إلى من يَخْلُدُ في النَّار، وأمَّا مَنْ يخرج منها بالشفاعةِ والأَمان، فليس بمُخْزًى، أي: وما أصابه

_ (1) شارح «صحيح» البخاري، العلامة أبو الحسن عليّ بن خلف بن بطال البكريّ، القرطبي، ثم البلنسي، ويعرف ب «ابن اللّجّام» . أخذ عن: أبي عمر الطّلمنكي، وابن عفيف، وأبي المطرّف القنازعي، ويونس بن مغيث. قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة، عني بالحديث العناية التامة شرح «الصحيح» في عدة أسفار، رواه الناس عنه، واستقضي بحصن «لورقة» . توفي في صفر سنة تسع وأربعين وأربعمائة. تنظر ترجمته في: «ترتيب المدارك» (4/ 827) ، و «الديباج المذهب» (3/ 105- 106) ، و «شجرة النور الذكية» (1/ 115) ، و «سير أعلام النبلاء» (18/ 47) . (2) محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي، الحميري، الرندي، أبو عبد الله، المعروف ب «ابن عباد» : متصوف باحث. من أهل «رندة» بالأندلس. تنقل بين «فاس» و «تلمسان» و «مراكش» و «سلا» و «طنجة» ، واستقر خطيبا للقرويين ب «فاس» . وتوفي بها. له كتب، منها «الرسائل الكبرى» في التوحيد والتصوف ومتشابه الآيات، و «غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية» ، و «كفاية المحتاج» و «الرسائل الصغرى» . ينظر: «الأعلام» (5/ 299) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 193 إلى 194]

من عذابِهَا، إنما هو تمحيصٌ لذنوبه «1» . وقوله سبحانه: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ: هو من قول الدّاعين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 193 الى 194] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) وقوله سبحانه: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ ... الآية: حكايةٌ عن أولي الألباب، قال أبو الدرداء «2» : يرحم اللَّه المؤمنينَ ما زالُوا يقولُونَ: رَبَّنَا رَبَّنَا، حتَّى استجيب لهم، قال ابن جريج «3» وغيره: المنادي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال محمَّد بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: المنادِي كتابُ الله «4» ، وليس كلّهم رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وسمعه، وقولهم: مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، معناه: على أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، وقولهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ: إشارةٌ إلى قولِه تعالى: يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] فهذا وعده تعالى، وهو دالٌّ على أنَّ الخِزْيَ إنما هو مع الخلود. قال ص: قال أبو البقاء: الميعاد مصدر بمعنى الوعد. انتهى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 195 الى 198] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 552) برقم (8356- 8359) عن أنس، وابن المسيب، والحسن، وابن جريج بألفاظ متقاربة، وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 142) عن ابن المسيب بلفظ: «هذه خاصة لمن لا يخرج منها» ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 386) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 556) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 196) عن أنس، وابن المسيب، وابن جريج، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (2) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» «المحرر الوجيز» (1/ 556) . (3) أخرجه الطبري (3/ 53) برقم (8363- 8364) ، عن ابن جريج وابن زيد، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 443) ، والبغوي في «التفسير» (1/ 386) عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وذكره ابن عطية (1/ 556) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 196) ، عن ابن جريج وابن زيد، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (3/ 553) برقم (8361) ، (8362) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 442) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 386) ، وابن عطية (1/ 556) .، والسيوطي في «الدر» (2/ 196) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب في «المتفق والمفترق» . [.....]

وقوله سبحانه: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ... الآية: استجاب بمعنى أَجَابَ، رُوِيَ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ (رضي اللَّه عنها) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّجَالَ فِي الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ «1» الآيةُ. وهِيَ آية وعدٍ مِنَ اللَّه، أي: هذا فعلُهُ سبحانه مع الذي يَتَّصِفُونَ بما ذكر، قال الفَخْر «2» : رُوِيَ عن جعفرٍ الصادِقِ أنه قال: مَنْ حَزَبَهُ أمْرٌ فقال خَمْسَ مَرَّاتٍ: ربَّنا- أنجاه اللَّه ممَّا يخاف، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية قَالَ: لأنَّ اللَّه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: رَبَّنَا خَمْسَ مرَّاتٍ، ثم أخبر أنه استجاب لَهُم. انتهى. وقوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، يعني: في الأجْرِ، وتقبُّلِ الأعمالِ، أي: أنَّ الرجَالَ والنساء في ذلك على حدٍّ واحدٍ، قال الفَخْر «3» : قوله سبحانه: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، أي: شِبْهُ بَعْضٍ، أو مثلُ بعضٍ، والمعنى: أنه لا تفاوُتَ في الثواب بَيْن الذَّكَر والأنثى إذا استَوَوْا في الطَاعة وهذا يدُلُّ على أن الفَضْل في باب الدِّين، إنما هو بالأعمال، لا بِسِرِّ صفاتِ العامِلِينَ لأن كونهم ذكراً أو أنثى، أوْ مِنْ نَسَبٍ خسيسٍ أو شريفٍ- لا تأثير له في هذا الباب. انتهى. وبَيَّن سبحانه حَالَ المهاجِرِينَ، ثم الآيةُ بَعْدُ تنسحبُ على كلِّ مَنْ أُوذِيَ في اللَّه، وهاجر أيضًا إلى اللَّه إلى يوم القيامة. وقوله سبحانه: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ: عبارةٌ فيها إلزامُ الذَّنْب للكفَّار، واللامُ في قوله: لَأُكَفِّرَنَّ: لامُ القَسَمِ، وثَواباً: مصدرٌ موكِّد، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ... الآية: نُزِّلَتْ: لاَ يَغُرَّنَّكَ في هذه الآيةِ مَنْزِلَةَ: «لا تَظُنَّ» أنَّ حال الكُفَّار حسنةٌ، والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمَّته، والتقلُّب: التصرُّف في التجاراتِ، والأرباحِ، والحروب، وسائر الآمال

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 555) ، وذكره البغوي في «تفسيره» «معالم التنزيل» (1/ 386- 387) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (9/ 12) . (3) ينظر: «تفسير الرازي» (9/ 123) . .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 199 إلى 200]

وقوله: نُزُلًا: معناه تَكْرِمَةً. وقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ يحتملُ أن يريد: خَيْرٌ مِمَّا هؤلاءِ فيه، من التقلُّب والتنعُّم، ويحتمل أنْ يريد: خَيْرٌ ممَّا هم فيه في الدّنيا، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ/، وَجَنَّةُ الكَافِرِ» «1» قال القاضِي ابْنُ الطَّيِّب: هذا بالإضافة إلى ما يصير إلَيْه كلُّ واحد منْهما في الآخرةِ، وقيل: المعنى أنها سِجْنُ المؤمن لأنها موضعُ تَعَبِهِ في الطاعة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 199 الى 200] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، قال جابر بن عبد اللَّه وغيره: هذه الآيةُ نَزَلَتْ بسبب أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ سُلْطَانِ الحبشة، آمن باللَّه، وبمحمَّد- عليه السلام-، وأصحمة «2» : تفسيره بالعربيّة:

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2272) ، كتاب «الزهد» ، باب (1/ 2956) ، والترمذي (4/ 486) كتاب «الزهد» ، باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن، حديث (2324) ، وابن ماجة (2/ 1378) ، كتاب «الزهد» ، باب مثل الدنيا، حديث (4113) ، وأحمد (2/ 323، 389، 485) ، وفي «الزهد» (ص 37) ، وابن حبان (687، 688) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 350) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (142) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 325- بتحقيقنا) كلهم من طريق العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن عن أبِيهِ عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وللحديث شواهد من حديث ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسلمان: حديث ابن عمر: أخرجه البزار (3654- كشف) ، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/ 340) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» رقم (143) ، والبيهقي في «الزهد الكبير» (449، 458) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 401) عن ابن عمر: والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 292) وقال: رواه البزار بسندين أحدهما ضعيف، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم. حديث عبد الله بن عمرو: أخرجه أحمد (5/ 68) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» رقم (144) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 177، 185) ، وابن المبارك في «الزهد» (598) ، والحاكم (4/ 315) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 326- بتحقيقنا) . (2) أخرجه الطبري (3/ 559) برقم (8376) ، وعبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 144) عن قتادة، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 444) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 388) عن ابن عباس، وجابر، وأنس، وقتادة، وذكره ابن عطية (1/ 559) ، وذكره السيوطي في «الدر» (2/ 200) عن جابر وغيره.

عَطِيَّة قاله سفيان وغيره، وقال قومٌ: نزلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ «1» ، وقال ابنُ زَيْدٍ ومجاهدٌ: نَزَلَتْ في جميعِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب «2» . وقوله سبحانه: لاَ يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا: مدحٌ لهم، وذَمٌّ لسائر كفَّار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم مكاسبَ الدُّنْيا على آخرتهم، وعلى آياتِ اللَّهِ سُبْحانه، ثم خَتَمَ اللَّه سُبْحانه السُّورة بهذه الوَصَاةِ التي جَمَعَتِ الظُّهورَ في الدنيا علَى الأعداء، والفَوْزَ بنعيمِ الآخرةِ، فحضَّ سبحانه على الصبْرِ على الطاعات، وعنِ الشهواتِ، وأَمَرَ بالمصابرةِ، فقيل: معناه مصابرةُ الأعداء قاله زيدُ بْنُ أسلم «3» ، وقيل: معناه مصابَرَةَ وعْدِ اللَّهِ فِي النَّصْر قاله محمدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ «4» ، أي: لا تسأَمُوا وانتظروا الفرج، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «انتظار الفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ» «5» . قال الفَخْر «6» : والمصابرةُ عبارةٌ عن تحمُّل المكارِهِ الواقعة بَيْن الإنسان، وبَيْن الغَيْر. انتهى. وقوله: وَرابِطُوا: معناه عند الجُمْهُور: رَابِطُوا أعداءكم الخَيْلَ، أي: ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، قلْتُ: وروى مسلمٌ في «صحيحه» ، عن سلمان، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وإنْ مَاتَ جرى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّان» «7» ، وخَرَّجَ الترمذيُّ، عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ على عَمَلِهِ إلاَّ الَّذِي مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 560) برقم (8382) عن ابن جريج، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 388) عن ابن جريج، والماوردي في «تفسيره» (1/ 445) ، وابن عطية (1/ 559) . (2) أخرجه الطبري (3/ 560) برقم (8384) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 388) ، والماوردي (1/ 445) ، وابن عطية (1/ 559) . (3) ذكره ابن عطية (1/ 559) . (4) ينظر المصدر السابق. (5) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» رقم (44، 45) من حديث ابن عمرو ابن عباس. (6) ينظر: «مفاتيح الغيب» للرازي (9/ 126) . (7) أخرجه مسلم (3/ 1520) كتاب «الإمارة» باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، حديث (163/ 1913) من حديث سلمان.

صحيحٌ «1» ، وخرَّجه أبو داود بمعناه، وقال: «ويُؤْمَنُ مِنْ فَتَّانِي القَبْرِ» «2» ، وخرَّجه ابنُ ماجة بإسناد صحيح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وأجرى عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ، وَيَبْعَثُهُ اللَّهُ آمناً مِنَ الفَزَعَ» «3» ، وروى مسلم والبخاريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا» «4» . انتهى. وجاء في فَضْل الرباطِ أحاديثُ كثيرةٌ يطُولُ ذكْرها. قال صاحبُ «التَّذْكرة» : وروى أبيُّ بن كَعْب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان- أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ عند الله وأعظم أجرا» ، أراه قال: «من عِبَادَةِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا ... » «5» الحديثَ ذكره القرطبيُّ مسنداً. انتهى. والرباط: هو الملازمةُ في سَبيلِ اللَّهِ أصلها مِنْ رَبَطَ الخَيْلَ، ثم سُمِّيَ كلُّ ملازمٍ لثَغْرٍ من ثُغُور الإسلام/ مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظةُ مأخوذةٌ من الرَّبْط، قلْتُ: قال الشيخُ زيْنُ الدينِ العِرَاقِيُّ في «اختصاره لغريب القرآن» لأبي حَيَّان: معنى: رابطوا:

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 165) ، كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء في فضل من مات مرابطا، حديث (1621) ، وأبو داود (2/ 12) ، كتاب «الجهاد» ، باب في فضل الرباط، حديث (2500) ، وأحمد (6/ 20، 22) ، وسعيد بن منصور (2/ 194) رقم (2414) ، وابن حبان (1624- موارد) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 102) ، والحاكم (2/ 72) ، والطبراني في «الكبير» (18/ 311) رقم (802) كلهم من طريق أبي هانىء الخولاني عن عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد به. وقال الترمذي: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان. (2) ينظر الحديث السابق. [.....] (3) أخرجه ابن ماجة (2/ 924) ، كتاب «الجهاد» ، باب فضل الرباط في سبيل الله، حديث (2767) . وقال البوصيري في «الزوائد» (2/ 391) ، هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (4) تقدم تخريجه. (5) أخرجه ابن ماجة (2/ 924- 925) كتاب «الجهاد» ، باب فضل الرباط في سبيل الله، حديث (2768) . قال المنذري في «الترغيب» (2/ 203) : وآثار الوضع ظاهرة عليه. ولا عجب فراويه عمر بن صبح الخراساني. وقال البوصيري في «الزوائد» (2/ 392- 393) : هذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن يعلى وشيخه عمر بن صبح، ومكحول لم يدرك أبي بن كعب، ومع ذلك فهو مدلس.

دُومُوا واثبتوا، ومتى ذكَرْتُ العِرَاقِيَّ، فمرادِي هذا الشيخُ. انتهى. وروى ابنُ المبارك في «رقائقه» ، أنَّ هذه الآيةَ: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا، إنما نزلَتْ في انتظار الصَّلاةِ خَلْفَ الصلاة قاله أبو سَلَمَةَ بْنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ولم يكُنْ يومئذٍ عَدُوٌّ يرابَطُ فيه «1» . انتهى. وقوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: ترجٍّ في حقِّ البَشَر، والحمد لله حقّ حمده.

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 562) برقم (8394) ، والحاكم في مستدركه (2/ 301) وصححه، ووافقه الذهبي، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 389) ، وابن عطية (1/ 560) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 201) ، وعزاه لابن مردويه.

تفسير سورة النساء مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم تفسير سورة النّساء مدنيّة إلّا آية واحدة نزلت بمكّة عام الفتح، وهي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ... [النساء: 58] الآية: وفي البخاريُّ: عَن عائشَة (رضي الله عنها) أنَّها قالت: ما نزلت سورة النّساء إلّا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تعني: قد بنى بها «1» . [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... الآية: في الآية تنبيهٌ على الصانع، وعلى افتتاحِ الوجودِ، وفيها حضٌّ على التواصل لحرمةِ هذا النَّسَب، والمرادُ بالنَّفْس آدم صلّى الله عليه وسلّم، وقال: واحِدَةٍ على تأنيث لفظ النّفس، وزَوْجَها، يعني: حَوَّاء، قال ابن عَبَّاس وغيره: خَلَق اللَّه آدم وَحِشاً في الجنة وحده، ثم نام، فانتزع اللَّهُ إحدى أضلاعه القصيرى مِنْ شِمَاله «2» ، وقيل: مِنْ يمينه، فَخَلَقَ منها حَوَّاء، ويعضد هذا- الحديث الصحيح في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ ... » الحديث «3» ، وَبَثَّ: معناه: نَشَرَ كقوله تعالى: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] أي: المنتشر، وفي تكرير الأمر بالتقوى

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 3) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 205) ، وعزاه للبخاري. (2) ذكره ابن عطية (2/ 4) . (3) أخرجه البخاري (6/ 418) في أحاديث الأنبياء: باب خلق آدم وذريته (3331) ، و (9/ 160) في النكاح: باب المداراة مع النساء (5184) ، وباب الوصاة بالنساء (5186) ، ومسلم (2/ 1090- 1091) في الرضاع، باب الوصية بالنساء (1468) ، والترمذي (3/ 493- 494) في الطلاق: باب ما جاء في مداراة النساء (1188) ، وأحمد (2/ 428، 449، 497) ، والدارمي (2/ 148) في النكاح: باب مداراة الرجل أهله، من طرق عن أبي هريرة رفعه- واللفظ لمسلم-: «أن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها» . وقال الترمذي: حسن صحيح، وإسناده جيد. ويشهد له حديث سمرة رواه أحمد (5/ 8) ، وحديث أبي ذر عند أحمد (5/ 150- 151) ، والدارمي (2/ 147- 148) وحديث عائشة رواه أحمد (6/ 279) .

تأكيد لنفوس المأمورين، وتَسائَلُونَ: معْنَاه: تتعاطَفُون به، فيقول أحدكم: أسألكَ باللَّه، وقوله: وَالْأَرْحامَ، أي: واتقوا الأرحَامَ، وقرأ حمزةُ «والأَرْحَامِ» (بالخفض) عطفًا على الضميرِ كقولهم: أسألك باللَّه وبالرَّحِمِ قاله مجاهد وغيره. قال ع «1» : وهذه القراءةُ عند نحاة البَصْرة لا تَجُوز لأنه لا يجوزُ عندهم أنْ يعطف ظَاهِرٌ على مضمرٍ مخفوضٍ إلا في ضرورة الشِّعْرِ كقوله: [البسيط] ................ ... فاذهب فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ «2» لأن الضميرَ المخفوضَ لا ينفصلُ فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرفٍ، واستسهلَ بعضُ النحاة هذه القراءة. انتهى كلام ع. قال ص: والصحيحُ جوازُ العَطْف على الضميرِ المجرورِ من غير إعادة الجَارِّ كمذهب الكوفيِّين، ولا تُرَدُّ القراءة المتواترةُ بمثل مذهب البصريّين «3» ، قال: وقد أمعنّا

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 4) . (2) عجز بيت، وصدره: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... ............... ........... وهو بلا نسبة في «الإنصاف» (ص 464) و «خزانة الأدب» (5/ 123- 126 128، 129، 131) و «شرح الأشموني» (2/ 430) و «الدرر» (2/ 81) (6/ 151) و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 207) و «شرح ابن عقيل» (ص 503) و «شرح عمدة الحافظ» (ص 662) و «شرح المفصّل» (3/ 78، 79) و «الكتاب» (2/ 392) و «اللمع في العربية» (ص 185) و «المقاصد النحوية» (4/ 163) و «المقرب» (1/ 234) و «همع الهوامع» (2/ 139) . (3) اختلف النحاة في العطف على الضمير المجرور على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الجمهور من البصريين-: وجوب إعادة الجار إلا في ضرورة. الثاني: أنه يجوز ذلك في السّعة مطلقا، وهو مذهب الكوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيون. والثالث: التفصيل، وهو إن أكّد الضمير جاز العطف من غير إعادة الخافض نحو: «مررت بك نفسك وزيد» ، وإلا فلا يجوز إلا ضرورة، وهو قول الجرميّ. والذي ينبغي أنه يجوز مطلقا لكثرة السماع الوارد به، وضعف دليل المانعين واعتضاده بالقياس. أما السّماع: ففي النثر كقولهم: «ما فيها غيره وفرسه» بجرّ «فرسه» عطفا على الهاء في «غيره» . وقوله: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ في قراءة جماعة كثيرة، منهم حمزة. وفي النظم وهو كثير جدا، فمنه قول العباس بن مرداس: [الوافر] أكرّ على الكتيبة لا أبالي ... أفيها كان حتفي أم سواها وأمّا القياس فلأنه تابع من التوابع الخمسة، فكما يؤكّد الضمير المجرور ويبدل منه فكذلك يعطف عليه. وينظر: «الدر المصون» (1/ 529- 531) ، و «البحر المحيط» (2/ 155) .

[سورة النساء (4) : الآيات 2 إلى 3]

الكلام عليه في قوله تعالى: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 217] انتهى، وهو حسنٌ، ونحوه للإمام الفَخْر «1» . وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً: ضرْبٌ من الوعيدِ، قال المُحَاسِبِيُّ: سألتُ أبا جَعْفَرٍ محمدَ بْنَ موسى، فقلْتُ: أجمل حالاتِ العارفين ما هِيَ؟ فقال: إن الحال التي تَجْمَعُ لك الحالاتِ المَحْمُودةَ كلَّها في حالةٍ واحدةٍ هي المراقبةُ، فَألْزِمْ نفْسَكَ، وقَلْبَكَ دَوَامَ العِلْمِ بنَظَرِ اللَّه إليك في حركَتِك، وسكونِكِ، وجميعِ أحوالِكِ/ فإنَّك بعَيْنِ اللَّهِ (عزَّ وجلَّ) في جميعِ تقلُّباتك، وإنَّك في قبضته حيث كُنْتَ، وإنَّ عين اللَّه على قلبك، ونَاظِرٌ إلى سِرِّك وعلانيتِكَ، فهذه الصفةُ، يا فتى، بحْرٌ ليس له شطٌّ، بَحْر تجري منْه السواقِي والأنهارُ، وتسيرُ فيه السُّفُن إلى معادِنِ الغنيمةِ. انتهى من كتاب «القصد إلى الله سبحانه» . [سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وقوله سبحانه: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ... الآية: قال ابنُ زَيْدٍ: هذه مخاطبةٌ لِمَنْ كانَتْ عادتُهُ من العَرَب ألاَّ يَرِثَ الصَّغيرُ من الأولاد «2» ، وقالتْ طائفة: هذه مخاطبةٌ للأوصياءِ. قال ابنُ العَرَبِيِّ «3» : وذلك عند الابتلاء والإرشاد. انتهى. وقوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، قال ابن المسيِّب وغيره: هو ما كان يفعله بعضهم من إبدال الشاة السَّمينة مِنْ مال اليتيم بالهَزِيلة مِنْ ماله، والدِّرْهَمِ الطَّيِّبِ بالزِّائِفِ، وقيل «4» : المراد: لا تأكلوا أموالهم خبيثًا، وتَدَعُوا أموالكم طيبًا، وقيل غيرُ هذا. والطَّيِّب هنا: الحلالُ، والخبيث: الحرام.

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (9/ 129) . (2) أخرجه الطبري (3/ 571) برقم (8446) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 5) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 208) ، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 308) . (4) أخرجه الطبري (3/ 571) برقم (8441) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 5) والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 208) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]

وقوله: إِلى أَمْوالِكُمْ: التقدير: ولا تُضِيفُوا أموالهم إلى أموالكم في الأكْل، والضميرُ في «إنَّهُ» : عائدٌ على الأَكْلِ، والحُوبُ: الإثم قاله ابن عباس وغيره «1» وتَحَوَّبَ الرَّجُلُ، إذا ألْقى الحُوبَ عن نَفْسه، وكذلك تَحَنَّثَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ فَإن هذه الأربعة بخلافِ «تَفَعَّلَ» كلِّه لأنَّ «تَفَعَّلَ» معناه: الدُّخُول في الشَّيْء ك «تَعَبَّد» ، و «تَكَسَّبَ» ، وما أشبهه ويلحق بهذه الأربعةِ «تَفَكَّهُونَ» في قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: 65] أي: تطرّحون الفاكهة عَنْ أنفسكم. وقوله تعالى: كَبِيراً: نصٌّ على أنَّ أكل مال اليتيم مِنَ الكَبَائر. وقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ... الآية: قال أبو عبيدة: خفتم هاهنا بمعنى أيْقَنْتُمْ. قال ع «2» : وما قاله غيرُ صحيحٍ، ولا يكون الخَوْفُ بمعنى اليَقِينِ بوجْهٍ، وإنما هو من أَفْعَالِ التوقُّع، إلاَّ أنه قد يَمِيلُ فيه الظنُّ إلى إحدى الجِهَتَيْنِ قُلْتُ: وكذا رَدَّ الدَّاوُودِيُّ على أبي عْبَيْدة، ولفظه: وعن أبي عُبَيْدة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا: مجازه: أيْقَنْتُمْ «3» ، قال أبو جعفر «4» : بل هو على ظاهر الكلمة. انتهى. وتُقْسِطُوا: معناه: تَعْدِلُوا يقال: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إذا عَدَلَ، وقَسَطَ إذا جَار قالتْ عائشةُ (رضي اللَّه عنها) : نزَلَتْ هذه الآيةُ في أولياء اليتامَى الَّذِينَ يُعْجِبُهم جمالُ وليَّاتهم، فيريدُونَ أنْ يبخَسُوهُنَّ في المَهْر لمكانِ وَلاَيَتِهِمْ عَلَيْهِنَّ، فقيل لهم: اقسطوا في مهورِهِنَّ، فمَنْ خَافَ ألاَّ يُقْسطَ، فليتزوَّج ما طَابَ له مِنَ الأجنبيَّات اللَّوَاتِي يُكَايِسْنَ «5» في حقوقِهِنَّ، وقاله ربيعة. قال الحسَنُ وغيره: ما طابَ: معناه «6» ما حلّ.

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 6) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 6) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 6) . (4) ينظر: الطبري (3/ 579) . (5) الكيس: الخفّة والتّوقّد، والكيّس: العاقل، ويقال: كايست فلانا فكسته أكيسه كيسا: أي غلبته بالكيس، وكنت أكيس منه. ينظر: «لسان العرب» (3966، 3967) . (6) أخرجه الطبري (3/ 577) برقم (8479) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 7) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 210) ، وعزاه لابن جرير.

وقيلَ: «ما» ظرفيةٌ، أي: ما دُمْتُم تستحسنُون النِّكَاحَ، وضُعِّفَ قُلْتُ: وفي تضعيفه نَظَرٌ، فتأمَّله. قال الإمام الفَخْر: وفي تفسير «1» مَا طابَ بِما حَلَّ- نَظَرٌ وذلك أنَّ قوله تعالى: فَانْكِحُوا: أمْرُ إباحةٍ، فلو كان المرادُ بقوله: مَا طابَ لَكُمْ، أي: ما حَلَّ لكم- لتنزَّلت الآية منزلةَ ما يُقَالُ: أبَحْنَا لكم نِكَاحَ مَنْ يكون نكاحُها مباحاً لكم، وذلك يُخْرِجُ الآيةَ عن الفائدةِ، ويصيِّرها مُجْمَلَةً لا محالةَ، أما إذا حَمَلْنا «طَابَ» على استطابةِ النَّفْسِ، ومَيْلِ القلبِ، كانَتِ الآيةُ عامَّة دخَلَها التخْصيصُ، وقد ثَبَتَ في أصول الفقْهِ أنه إذا وقع التعارُضُ بَيْن الإجمال/ والتَّخْصِيص، كان رَفْع الإجمال أولى لأنَّ العامَّ المخصَّص حُجَّةٌ في غَيْر محلِّ التخصيص «2» ، والمُجْمَلُ لا يكونُ حجّة أصلا. انتهى، وهو حسن، و

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (10/ 141) . (2) اقتضت حكمة الله أن تكون التكاليف المشروعة في كتابه وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم موضوعة على طريقة العموم وكثيرا ما تكون كذلك في البعض، وعلى طريقة الخصوص في البعض الآخر.. غير أن أغلب ما احتواه القرآن من عام وما اشتملت عليه السنة منه قد تطرق إليه التخصيص، فأخرجه عن عمومه وشموله لجميع الأفراد.. وحكم العام قبل التخصيص دال على أفراده قطعا عند البعض، وظنّا عند آخرين ... ودليل التخصيص تارة يكون عقلا، وتارة يكون كلاما، وتارة لا يكون عقلا ولا كلاما، كالحس، والزيادة، والنقصان، فإن كان المخصص هو العقل، كان العام قطعيا في الباقي إذ ليس فيه ما يورث الشبهة لأن ما يقتضي العقل إخراجه فهو مخرج وغيره باق على ما كان إذ هو في حكم الاستثناء لكنه حذف اعتمادا على العقل، فمثلا ليس في قوله الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] ونظائر ذلك- شبهة في دلالته مع خروج الصبي والمجنون بالعقل، وإلا لما أجمعوا على كفر من جحد العمل بمقتضى الخطابات الواردة بالفرائض من مثل ما معنا، وليس لقائل أن يقول: من الجائز أن تكون قطعيتها بواسطة الإجماع لأنا نقول: هذه الخطابات قطعية قبل أن يتحقق الإجماع. هكذا أطلق صدر الشريعة في «توضيحه» ، ولم يفصل بين ما إذا كان المخرج بالعقل معلوما أو مجهولا إذ العقل قد يقتضي إخراج بعض معلوم، وقد يقتضي إخراج بعض مجهول، بأن يكون الحكم مما يمتنع على الكل دون البعض مثل: «الرجال في الدار» . وقد نبه صاحب «التلويح» وغيره على أن المخرج به إن كان مجهولا فهو لا يصلح حجة حتى يتبين المراد منه لأن جهالة المخرج أورثت جهالة في الباقي.. ولا شك أن القول بالقطعية إنما يكون على مذهب من يرى قطعية العام قبل التخصيص، أما من يرى ظنيته فظاهر أنه يكون ظنيا بعده كما كان قبله لأن الاحتمال الذي كان من أجله الحكم بالظنية عندهم باق بعد التخصيص بالعقل، فالحق أن إطلاق القول بالقطعية ليس على ما ينبغي، اللهم إلا إن كان الإطلاق بناء على مذهبه. وإن كان المخصص غير العقل والكلام فالظاهر أنه لا يبقى قطعيا لاختلاف العادات وخفاء الزيادة والنقصان وعدم إطلاع الحس على تفاصيل الأشياء، اللهم إلا أن يعلم القدر المخصوص قطعا. -

مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: موضعها من الإعراب نَصْبٌ على البدل من «مَا طَابَ» ، وهي نكراتٌ لا تنصرف لأنها معدولة وصفة.

_ - وإن كان المخصص كلاما وكان مبهما كما لو قال: «أحسن إلى الناس» ثم يقول عقيب ذلك: «لا تحسن إلى بعضهم» ، وكما لو قال: «اقتلوا المشركين إلا بعضهم» ، فقد نقل الآمدي في «الإحكام» اتفاق الكل على أنه لا يبقى حجة على معنى أن يتوقف في الاحتجاج به حتى يجيء البيان لأنه قد صار مجملا، وقد جرى على هذا النحو من حكاية الاتفاق العضد حيث قال: قد اختلف في العام المخصص بمبين هل هو حجة فيما بقي أم لا، أما المخصص بمجمل نحو هذا العام مخصوص أو لم يرد به كل ما يتناوله، فليس حجة بالاتفاق. وحكى في «إرشاد الفحول» أن ممن نقل الإجماع على هذا جماعة، منهم: القاضي أبو بكر، وابن السمعاني، والأصفهاني.. وفي حكاية الاتفاق في هذا المقام نظر، ففي «المسلّم» وقال الجمهور: العام المخصوص بمبهم ليس حجة خلافا لفخر الإسلام. قال شارحه: «والإمام شمس الأئمة، والقاضي الإمام أبي زيد، وأكثر معتبري مشايخنا في المستقل بل لا مخصص عندهم إلا هو، فإنه عندهم حجة ظنية، وقيل: إذا كان المخصص مستقلا مبهما يسقط المبهم، ويبقى العام كما كان، وإليه مال أبو المعين من الحنفية. وعبارة «كشف الأسرار» على «البزدوي» : والصحيح من المذهب أن العام يبقى حجة بعد الخصوص، معلوما كان المخصص أو مجهولا، إلا أن فيه ضرب شبهة. ثم حكى أن القاضي الإمام أبا زيد ذكر في «التقويم» أن الذي ثبت عنده من مذهب السلف أنه يبقى على عمومه بعد التخصيص. وفي «أصول الجصاص» : «والذي عندي من مذهب أصحابنا في هذا المعنى أن تخصيص العموم لا يمنع الاستدلال به فيما عدا المخصوص، وعليه يدل أصولهم واحتجاجهم للمسائل» . ونقل صاحب «إرشاد الفحول» عن الزركشي في «البحر» أن ما نقلوه من الاتفاق، فليس بصحيح. وقال المحلّي بعد حكاية الخلاف في المعين: وما اقتضاه كلام الآمدي وغيره من الاتفاق على أنه في المبهم غير حجة مدفوع بنقل ابن برهان وغيره الخلاف فيه. والذي تطمئن النفس إليه بصدد حكاية الاتفاق على عدم الحجية إن خص بمبهم وأقوال من نقلنا عنهم الخلاف في الحجية أن حكاية الاتفاق على عدم حجيته فيما كان غير مستقل، يرشح ذلك تمثيل الأسنوي بعد أن ذكر ما قاله الآمدي وغيره من الاتفاق على عدم الحجية بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: 1] فإن المخصص فيه مبهم غير مستقل، ولذلك قال البدخشي: العام إن خص بغير مستقل من اللفظ مبهم نحو: «اقتلوا المشركين إلا بعضهم» ، فليس بحجة وفاقا، لأن المجموع كلام واحد لكون الغير المستقل بمنزلة وصف قائم بالأول، فتسري جهالته إليه، فيتوقف على البيان. اهـ. فخص موضع الوفاق بالمخصص المبهم غير المستقل.. أما المستقل فمما تقدم نعلم أن للأصوليين فيه أقوالا ثلاثة: الأول: عدم الحجية مطلقا، وإليه ذهب الجمهور ... الثاني: حجية ظنية، وإليه ذهب فخر الإسلام، وشمس الأئمة، والقاضي الإمام أبو زيد. الثالث: سقوط المبهم كأن لم يكن وبقاء العام كما كان من كونه حجة قطعية كما هو عند الحنفية، أو ظنية كما هو عند الشافعية، وإليه مال أبو المعين من الحنفية. -

وقوله: فَواحِدَةً، أي: فانكحوا واحدةً أو ما ملَكَتْ أيْمَانُكُم، يريد به الإماءَ، والمعنى: إنْ خَافَ ألاَّ يَعْدِلَ في عِشْرةٍ واحدةٍ، فما ملكت يمينه، وأسند المِلْكَ إلى اليمين إذ هي صفةُ مَدْحٍ، واليمينُ مخصوصةٌ بالمحاسِنِ أَلاَ ترى أنّها المنفقة كما قال

_ - ونذكر آراءهم في المخصص المبين وهي كما جاءت في كتبهم من تقدم منهم ومن تأخر ستة أقوال: الأول: فمن ذاهب إلى أنه حجة في الباقي، وهم الجمهور، غير أن الذين يرون قطعية العام قبل التخصيص يرون ظنيته هنا به. الثاني: ومن ذاهب إلى أنه ليس بحجة مطلقا فيما بقي، وإليه ذهب أبو ثور في رواية، وفي أخرى أنه ليس بحجة إلا في أخص الخصوص، وهو رأي الكرخي والجرجاني وعيسى بن أبان، كذا في «التحرير» . وفي «أصول الجصاص» : كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول في العام إذا ثبت خصوصه: سقط الاستدلال باللفظ، وصار حكمه موقوفا على دلالة أخرى من غيره، فيصير بمنزلة اللفظ المجمل المفتقر إلى البيان. وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ إذا أوجب التخصيص، فيقول: إن الاستثناء غير مانع من بقاء حكم اللفظ فيما عدا المستثنى لأن الاستثناء لا يجعل اللفظ مجازا ولا يزيله عن حقيقته. ودلالة التخصيص من غير جهة اللفظ تجعل اللفظ مجازا وتزيله عن حقيقته لأن الحقيقة هي العموم، وكان يقول: هذا مذهب، ولا يمكنني أن أعزيه إلى أصحابي. وكان محمد بن شجاع يذهب هذا المذهب، وقد ذكره في بعض كتبه. اهـ. ثالثا: ومنهم من ذهب إلى أن العام إن كان منبئا عن الباقي ودالا عليه بسرعة، كلفظ «المشركين» في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] إذا خص بأهل الذمة، كان حجة لأن المراد من «المشركين» بعد تخصيصه بأهل الذمة ظاهر ينتقل الذهن بسرعة إلى أن المراد منه حينئذ المربيون. وأما إذا كان لا يدل عليه بسرعة لا يكون حجة لتوقفه على البيان، وذلك كلفظ «السارق» في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] فإنه بعد تخصيصه بذي الشبهة لا يعلم المراد منه لأنه يحتمل سرقة نصاب وغيره، من حرز أم لا، فيحتاج إلى بيان الشارع، فلا ينتقل الذهن إلى سارق نصاب من حرز قبل بيان الشارع. وإلى هذا الرأي ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي. رابعا: وقال القاضي عبد الجبار: إن كان العام قبل التخصيص ظاهرا لا يتوقف على البيان ولا يحتاج إليه، فهو حجة كما في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فإنه بين في أفراده قبل إخراج أهل الذمة. وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه، فليس بحجة كما في قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء: 77] فإنه لا يدري المراد منه قبل بيان الشارع بقوله وفعله، بل هو مفتقر إلى البيان قبل إخراج الحائض، ولذلك بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفعله فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وهذا المذهب قريب من سابقه. خامسا: ومن الناس من ذهب إلى أنه حجة في أقل الجمع، وهو اثنان أو ثلاثة- على الخلاف- ولا يكون حجة فيما زاد على ذلك. قال في «إرشاد الفحول» : حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر وابن القشيري، وقال: إنه تحكم. وقال الصفي الهندي: لعله قول من لا يجوز تخصيص التثنية، وحكى الغزالي في «المستصفى» أن فريقا من القدرية ذهبوا إلى هذا المذهب. سادسا: وذهب البلخي (وهو ممن يرى أن الدليل المتصل كالشرط والصفة تخصيص) إلى أن العام إن خص بمتصل فهو حجة نحو: «اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة» ، وإن خص بمنفصل لم يكن حجة. وإذا ما علمنا أن البلخي يرى المتصل تخصيصا، وأن الكرخي لا يراه- يظهر لنا الفرق بين ما ذهب إليه-

[سورة النساء (4) : الآيات 4 إلى 5]

- عليه السلام-: «حتى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» «1» ، وهي المعاهِدَةُ المُبَايِعَة. قال ابن العَرَبِيِّ «2» : قال علماؤُنَا: وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ مِلْكَ اليمينِ لا حَقَّ له في الوَطْءِ والقَسْمِ «3» لأنَّ المعنى: فَإنْ خفتم ألاَّ تعدِلُوا في القَسْم، فواحدةٌ، أو ما مَلَكَتْ أيمانكم، فجعل سبحانه مِلْكَ اليمينِ كلَّه بمنزلةِ الوَاحِدَة، فانتفى بذلك أنْ يكون للأَمَةِ حَقٌّ في وَطْءٍ أوْ قَسْم. انتهى من «الأحكام» . وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا، أدنى: معناه: أقرب ألاَّ تعولُوا، أيْ: ألاَّ تميلوا، قاله ابن عباس وغيره «4» ، وقالَتْ فرقة: معناه: أدنى ألاَّ يكثر عِيَالُكُمْ «5» ، وقَدَحَ في هذا الزَّجَّاج وغيره. [سورة النساء (4) : الآيات 4 الى 5] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ... الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الآيةُ خطابٌ للأزواج «6» وقال أبو صَالِحٍ: هي خطابٌ لأوليَاءِ النِّسَاءِ لأنَّ عادَةَ بَعْض العرب

_ - البلخي وما ذهب إليه الكرخي، ويكون للتفصيل وجه عند البلخي، ولا وجه له عند الكرخي، وعليه فما في «التقرير والتحبير» شرح «التحرير» من أن قول البلخي هو بعينه قول الكرخي غير وجيه، اللهم إلا باعتبار المآل والنتيجة إذ على المذهبين المنفصل يجعل العام غير حجة في الباقي، والمتصل يجعله حجة وإن سماه البلخي تخصيصا دون الثاني. ينظر: «العام» لشيخنا محمد حسن ص 217 وما بعدها. (1) تقدم تخريجه، وهو حديث: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظل إلا ظله» . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 314) . (3) القسم والنشوز: القسم: بفتح القاف مع سكون السين بمعنى العدل بين الزوجات في المبيت، وهو المراد هنا، ومع فتح السين: اليمين، وبكسر القاف مع سكون السين بمعنى: الحظ، والنصيب، ومع فتح السين: جمع قسمة، وقد تطلق على النصيب أيضا. [.....] (4) أخرجه الطبري (3/ 582) برقم (8502) ، (8503) . وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 8) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 211) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في «المصنف» ، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس. (5) أخرجه الطبري (3/ 583) برقم (8507) عن ابن زيد، وذكره البغوي (1/ 392) عن الشافعي. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 8) عن زيد بن أسلم، وابن زيد، والشافعي. وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 211) ، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد. (6) ذكره ابن عطية الأندلسي في «المحرر الوجيز» (2/ 8) .

كانَتْ أنْ يأكل وليُّ المرأة مَهْرها، فرفَعَ اللَّه ذلكَ بالإسْلام «1» ، وقيل: إن الآية في المتشاغِرِينَ «2» الذين يتزوَّجون امرأةً بأخرى، فُأمِرُوا أنْ يضربوا المهور.

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 583) برقم (8512) ، وذكره البغوي (1/ 392) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 8) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 212) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) الشّغار في اللغة: الرفع، من قولهم: شغر البلد عن السلطان، إذا خلا عنه لخلوه عن الصداق، أو لخلوه عن بعض الشرائط. وقيل: مأخوذ من قولهم: شغر الكلب برجله، إذا رفعها ليبول، كأن كلّا من الوليين يقول للآخر: لا تدفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك. وفي التشبيه بهذه الهيئة القبيحة تقبيح للشغار وتغليظ على فاعله. وأما معناه شرعا، فهو أن يزوج الرجل موليته على أن يزوجه الآخر موليته ليس عنهما صداق. وقد قال عياض عن بعض العلماء: كان الشغار من نكاح الجاهلية يقول: شاغرني وليتي بوليتك، أي عاوضني جماعا بجماع. وقسم علماء المالكية الشغار إلى ثلاثة أقسام: الأول: صريح الشغار، وهو أن يقول الرجل لصاحبه: زوجني ابنتك مثلا على أن أزوجك ابنتي مثلا من غير صداق. الثاني: وجه الشغار، وهو أن يقول له زوجني ابنتك بمائة على أن أزوجك ابنتي بمائة. الثالث: المركب منهما، وهو أن يقول له: زوجني ابنتك بلا شيء على أن أزوجك ابنتي بمائة، فالصريح هو الخالي من الصداق من الجانبين، والوجه هو المسمى فيه الصداق من الجانبين، والمركب هو المسمى فيه لواحدة دون الثانية. ويحرم الإقدام عليه بجميع أنواعه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا شغار في الإسلام» . ولما كان المالكية قد قسموا الشغار إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة نبين الحكم عندهم في هذه الأقسام: أما صريح الشغار فقالوا: يفسخ مطلقا قبل الدخول وبعده، ولو ولدت الأولاد، ولا شيء للمرأة قبل الدخول، ولها بعده صداق المثل، وأما وجه الشغار، فقالوا: يفسخ قبل الدخول، ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل. وأما المركب منهما، فيفسخ قبل الدخول في كل، ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت نكاح المسمى لها بعد الدخول بالأكثر من المسمى وصداق المثل، ويفسخ نكاح من لم يسم لها، ولها صداق المثل. وقد اختلف الفقهاء في نكاح الشغار هل هو صحيح أو فاسد وحصر الخلاف في مسألتين: المسألة الأولى: إذا لم يسميا صداقا لواحدة منهما، بل يجعلان بضع كل صداقا للأخرى، وهو المسمى بصريح الشغار. وقد اختلف الفقهاء في صحة هذا النكاح وفساده. فذهب المالكية والحنابلة والظاهرية والشافعية إلى القول بفساد النكاح في هذه الحالة، إلا أن الشافعية كما يفهم مما جاء في كتبهم يقولون: إن محل فساد النكاح في هذه الحالة إذا جعل بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى. وأما إذا لم يجعل بضع كل منهما صداقا للأخرى، فالأصح عندهم الصحة للنكاحين. وذهب الحنفية إلى القول بصحة النكاح، وأنه يجب لكل واحدة منهما مهر مثلها، وحكي هذا عن عطاء، وعمرو بن دينار، ومكحول، والزهري، والثوري. استدل الحنفية ومن معهم بما يأتي: قالوا: لما جعلا بضع كل منهما صداقا للأخرى، فقد سميا ما لا-

..

_ - يصلح صداقا، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة، وإذا كان الأمر كذلك صح النكاح، ووجب مهر المثل، كما لو سميا خمرا أو خنزيرا، فيكون حاصل هذا الدليل أن فساده من جهة المهر، وفساد المهر لا يوجب فساد العقد. ويرد هذا الدليل بأن الفساد هنا ليس من جهة المهر بل فساده من جهة أن أوقفه على شرط فاسد يوجب فساد العقد إذ فيه التشريك في البضع لأن كل واحد منهما جعل بضع موليته موردا للنكاح وصداقا للأخرى، فأشبه تزويجها من رجلين، وهو باطل، فكذلك ما هنا، على أن هذا معقول في مقابلة النص، وهو باطل. واستدل المالكية ومن معهم بالسنة والمعقول: أما السنة، فأولا ما روي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشغار» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الشغار، والنهي يدل على فساد المنهي عنه فوجب أن يكون الشغار فاسدا. وهذا الذي روي عن أبي هريرة روي مثله أيضا صحيحا مسندا عن ابن عمر فقد روي عنه أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الشغار. متفق عليه. وروي أيضا من طريق جابر وأنس. ثانيا: ما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا شغار في الإسلام» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا شغار في الإسلام» وهذا يحتمل أمرين نفي وجود الشغار في الإسلام، ونفي صحته، ولا شك أن وجوده في الإسلام دافع فتعين حمل الكلام على نفي الصحة. وأما المعقول، فقد قالوا فيه: إن كان واحد منهما جعل بضع موليته موردا للنكاح وصداقا للأخرى، وذلك يوجب فساد العقد كما لو زوج موليته من رجلين. وقد قيل للمالكية ومن معهم في الأحاديث ما يأتي: أولا: إن النهي عن نكاح الشغار، ونكاح الشغار هو النكاح الخالي عن العوض، وما هنا نكاح بعوض وهو مهر المثل فلا يكون شغارا. وترد هذه المناقشة بأن القول بأن هذا نكاح بعوض وهو من المثل غير مستقيم فإن مهر المثل إنما أوجبتموه أنتم لتصحيح مذهبكم، وذلك أن الواقع في العقد إنما هو جعل بضع كل منهما في مقابلة بضع الأخرى. وثانيا: أن النهي يحمل على الكراهة. ويرد هذا بأن الأصل في النهي أن يكون للتحريم، ولا يحمل على الكراهة إلا لدليل، ولا دليل هنا، لا سيما أن الشغار كان من أنكحة الجاهلية، فرفعه الإسلام، ولذلك قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا شغار في الإسلام» . وأما تفرقة الشافعية بين ما إذا جعل بضع كل منهما صداقا للأخرى وبين ما إذا لم يجعل بضع كل منهما صداقا للأخرى حيث حكموا بالفساد في الصورة الأولى دون الثانية، فتفرقة غير ظاهرة فإن نفي الصداق معناه جعل بضع كل منهما صداقا للأخرى، ولو لم يصرحا بذلك. المسألة الثانية: إذا سميا لكل واحدة منهما صداقا، وهو المسمى ب «وجه الشغار» ، أو سميا لواحدة منهما دون الأخرى، وهو «المركب منهما» . اختلف الفقهاء في صحة النكاح وفساده في هذه الحالة أيضا: فذهب المالكية والظاهرية إلى القول بالفساد في هذه الحالة أيضا، وهو الصحيح من مذهب الشافعية، قال ابن شهاب الدين الرملي: ولو سميا أو أحدهما مالا مع جعل البضع صداقا كأن قال: وبضع كل وألف صداق الأخرى بطل في الأصح لبقاء معنى التشريك، والثاني: يصح لأنه ليس على صورة تفسير الشغار ولأنه لم يخل عن المهر. -

..

_ - وذهب الحنابلة إلى التفصيل، فقالوا: إذا سميا صداقا لكل واحدة صح النكاح، ولهم في المهر روايتان، فقيل: تفسد التسمية، ويجب مهر المثل لأن كل واحد منهما لم يرض بالمسمى إلا بشرط أن يزوج وليته صاحبه، فينقص المهر لهذا الشرط، وهو باطل، فإذا احتجنا إلى ضمان النقص صار المسمى مجهولا فبطل. وعند بطلان المسمى يرجع إلى مهر المثل. والرواية الثانية: أنه يجب المسمى لأنه ذكر قدرا معلوما يصح أن يكون مهرا، فصح. وأما إن سميا صداقا لواحدة دون الأخرى، فقيل: يفسد النكاح فيهما، وقيل: يفسد في التي لم يسمّ لها صداق، ويصح في التي سمى لها مهر. استدل الحنابلة ومن وافقهم على القول بصحة النكاح إذا سميا لكل واحدة منهما مهرا- بما روي عن ابن عمر- (رضي الله عنهما) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن الشغار» والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، ليس بينهما صداق. ووجه الدلالة من هذا: أنهم قالوا: إن الشغار المنهي عنه هو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته ليس بينهما صداق. وأما إذا وجد فيه صداق كما هنا، فليس هو من الشغار المنهي عنه، وإذا لم يكن كذلك فيكون صحيحا. ويرد هذا الدليل بأن تفسير الشغار الواقع في الحديث ليس هو من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو من قول مالك وصل بالمتن المرفوع. وقيل: هو من قول نافع، فقد روى الإسماعيلي من حديث محرز بن عون ومعن بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن الشغار» - قال محرز: قال مالك: والشغار هو أن يزوج الرجل ابنته إلى آخره. وقال في صحيح مسلم من غير طريق مالك أن تفسير الشغار من قول نافع. وإذا ثبت أن تفسير الشغار ليس من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلا يكون فيه حجة. وأما المالكية ومن وافقهم، فقد استدلوا بما روي عن الأعرج أن العباس بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أنكح ابنته عبد الرّحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وأنكحه عبد الرّحمن ابنته، وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره أن يفرق بينهما، وقال معاوية في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ووجه الدلالة من هذا: أن معاوية أمر بفسخ هذا النكاح مع أنه سمي فيه الصداق لكل واحدة منهما، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم يعرف له منهم مخالف فدل ذلك على فساده، وإلا لما أمر معاوية بفسخه، ولما أقر عليه. فإن قال قائل: إن هذا اجتهاد من معاوية، وعدم إنكار من حضر من الصحابة لا يدل على الرضى والموافقة فإن السكوت في المسائل الاجتهادية لا يكون دليلا على الرضى. يجاب عن هذا بأن معاوية قال في كتابه: إن هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقد نسبه إلى الرسول لا إلى اجتهاده، وعلى ذلك يحمل سكوت من حضر من الصحابة على موافقتهم له بأن هذا من الشغار الذي نهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وأما وجه قول الحنابلة فيما إذا سميا لإحداهما مهرا دون الأخرى على رواية أن النكاح يفسد فيهما. فقد قالوا: إنه فسد في إحداهما، فوجب أن يفسد في الأخرى لأن نكاح كل واحدة منهما متوقف على نكاح الأخرى. وأما على رواية فساد نكاح التي لم يسم لها مهر دون الأخرى، فذلك لأن نكاح التي لم يسم لها خلا من المهر، بخلاف نكاح الأخرى فيفسد. وأما الثانية، فيصح نكاحها لأن فيه تسمية وشرطا، فأشبه ما لو-

قال ع «1» : والآية تتناوَلُ هذه التأويلاتِ الثَّلاثَ، ونِحْلَةَ، أي: عطيَّة منْكم لهُنَّ، وقيل: نِحْلَة: معناه: شِرْعَة مأخوذٌ من النِّحَل، وقيل: التقديرُ: نِحْلَةً مِنَ اللَّه لَهُنَّ قال ابنُ العَرَبِيِّ: وذلك أنَّ النحلة في اللُّغة: العطيَّةُ عنْ غَيْرِ عِوَضٍ. انتهى. وقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ... الآية: الخطابُ حَسْبَما تقدَّم مِنَ الاختلاف، والمعنى: إنْ وَهَبْنَ غيْرَ مكرَهَاتٍ، طيِّبةً نفوسُهنَّ، والضميرُ في «مِنهُ» يعود علَى الصَّدَاقِ قاله عكرمةُ وغيره «2» ، «ومَنْ» : تتضمَّن الجنس هاهنا ولذلك يجوزُ أنْ تهب المَهْر كلَّه. وقوله تعالى: هَنِيئاً مَرِيئاً: قال اللغويُّون: الطعامُ الهَنِيءُ هو السَّائِغُ المستحسَنُ الحميدُ المَغَّبةِ: وكذلك المريءُ. وقوله سبحانه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ، قال أبو موسَى الأشعريُّ وغيره: نَزَلَتْ في كلِّ مَنِ اقتضى الصِّفَة الَّتي شرط اللَّهُ مِنَ السَّفَهِ، كان من كان «3» ، وقولُه: أَمْوالَكُمُ، يريد: أموالَ المخاطَبِينَ قاله أبو مُوسَى الأشعريُّ، وابنُ عبَّاس، والحَسَنُ، وغيرهم «4» ، وقال ابنُ جُبَيْر: يريدُ أموالَ السُّفَهاء، وأضافها إلى المخاطَبِينَ، إذ هى كأموالهم، وقِياماً جمع قِيمَة «5» . وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها ... الآية: قيل: معناه: فيمن تلزم الرّجل نفقته،

_ - سمى لكل واحدة منهما. ويرد هذا بأن الأولى فساد نكاحهما معا لتوقف نكاح كل على نكاح الأخرى، كما هو القول الأول. والنظر في الأدلة ومناقشاتها يقضي بترجيح مذهب من قال بفساد نكاح الشغار مطلقا، سواء أذكر في كل ذلك صداق لكل واحدة منهما أو لإحداهما دون الأخرى أو لم يذكر في شيء من ذلك صداق. وذلك لأن الجميع يصدق عليه شغار، وقد نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الشغار، خصوصا أن الشغار كان من أنكحة الجاهلية، فجاء الإسلام بهديه. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 8) . (2) أخرجه الطبري (3/ 584) برقم (8514) بلفظ «المهر» . وذكره ابن عطية (2/ 9) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 212) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (3) وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 9) . (4) أخرجه الطبري (3/ 588- 591) ، برقم (8557) ، (8562) عن ابن عباس، وبرقم (8546) عن أبي موسى الأشعري، وبرقم (8543) عن الحسن. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 9) (5) أخرجه الطبري (3/ 590) برقم (8559) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 9) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 214) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة النساء (4) : الآيات 6 إلى 7]

وقيل: في المحجورين من أموالهم، ومَعْرُوفاً: قيل: معناه: ادعوا لهم، وقيل: معناه: عِدُوهُمْ وَعْداً حَسَناً، أي: إنْ رَشَدتُّمْ، دَفَعْنا لكُمْ أموالكم، ومعنى اللفظة: كُلُّ كلام تعرفه النفُوسُ، وتأنس إليه، ويقتضيه الشّرع. [سورة النساء (4) : الآيات 6 الى 7] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى ... الآية: الابتلاء: الاختبار، وبَلَغُوا النِّكاحَ: معناه: بَلَغُوا مَبْلَغَ الرجَالِ بِحُلُمٍ أوْ حَيْضٍ، / أوْ غَيْرِ ذلك، ومعناه: جَرِّبوا عقولهم، وقرائحهم، وتصرّفهم، وآنَسْتُمْ: معناه: عَلِمْتُمْ، وشَعَرْتُمْ، وخَبَرْتُمْ، ومالكٌ (رحمه اللَّه) يرى الشّرطين البلوغ «1» ...

_ (1) البلوغ طور من أطوار الحياة، به يستعد الشخص لأداء وظيفته النوعية وهي التناسل، وقريب من هذا قول المارزي: هي قوة تحدث للشخص تنقله من حال الطفولة إلى غيرها. وللبلوغ علامات يعرف بها، بعضها خاص بالإناث، والبعض الآخر يشترك فيه الإناث والذكور، فالقسم الأول: الحمل، والحيض. والقسم الثاني: ثلاثة أنواع: الأول: خروج المني منهما في اليقظة أو النوم، ويدل لذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاث عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن المجنون حتّى يفيق، وعن الصّبيّ حتّى يحتلم» وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: «خذ من كلّ حالم دينارا» ، وقول الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 59] الآية. الثاني: نبات شعر العانة على فرج الذكر والأنثى. وخالف في ذلك أبو حنيفة (رضي الله عنه) فلم يره علامة للبلوغ مستندا إلى أن شعر العانة شعر نبت على الجسم كغيره من الشعور، فلا يصلح علامة على البلوغ كغيره. أمّا الجمهور، فإنه استند إلى ما ورد من أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، وحكم سعد بأن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذراري، وفي ذلك يقول عطية القرظي: عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة، فشكوا فيّ، فأمر النبيّ (عليه السلام) أن ينظر هل أنبت بعد، فنظروا إليّ فلم يجدوني أنبت بعد، فألحقوني بالذرية. فأنت ترى أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) جعل الإنبات فارقا بين المقاتلة والذرية، فكان علامة على البلوغ إذ لا يقتل إلّا من بلغ. وكذلك ثبت أن عمر (رضي الله عنه) كتب إلى بعض عمّاله ألّا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي. ويعني بذلك من نبتت عانته فدل ذلك على أن نبات شعر العانة علامة على البلوغ لأن الجزية لا تؤخذ إلّا ممن بلغ. وأيضا فقد ورد أن غلاما من الأنصار شبب بامرأة-[.....]

والرُّشد «1» المختَبَرَ «2» ، وحينئذٍ يدفع المال. قال ع» : والبلوغُ لم تَسُقْهُ الآيةُ سِيَاقَ الشَّرْط، ولكنَّها حالةُ الغالِبِ على بني آدم أنْ تَلْتَئِمَ عقولُهم فيها، فهو الوقْتُ الذي لا يُعْتَبَرُ شَرْط الرُّشْد إلاَّ فيه، فقال: إذا بلغ ذلك الوقْتَ، فلينظُرْ إلى الشرط، وهو الرُّشْد حينئذٍ وفصاحةُ الكلامِ تدُلُّ على ذلك لأنَّ التوقيتَ بالبلوغِ جاء ب «إذَا» ، والمشروطُ جاء ب «إنْ» التي هي قاعدةُ حروفِ الشرطِ، «وإذا» ليستْ بحَرْفِ شرطٍ إلاَّ في ضرورة «4» الشِّعْر، قال ابنُ عَبَّاس: الرُّشْد في العقلِ

_ - في شعره، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب، فلما كشف عن مؤتزره لم يجده أنبت فقال: «لو أنبت الشعر لحددتك» . فكل ذلك يفيد أن نبات شعر العامة علامة من علامات البلوغ. وأمّا ما قاله أبو حنيفة، فغير ظاهر فإن شعر العانة قد امتاز عن غيره من الشعور بأنه لا ينبت إلا عند البلوغ، أما غيره، فقد يتقدم البلوغ كشعر الجسد، وقد يتأخر عنه كشعر اللحية والشارب. ينظر: «نظام الحجر» لشيخنا: سليمان رمضان عثمان. (1) أمّا الرشد، فقال كثير من العلماء: إنه الصلاح في المال وحسن التصرف فيه وتثميره وتنميته. وذهب الشافعي وجماعة إلى أن المراد به الصلاح في المال والدين. أما طرق معرفته، فتختلف باختلاف أحوال المختبر نفسه، فهي في الذكور الذين يخالطون الناس في الأسواق وغيرها، تختلف عنها في الإناث اللاتي لا يخالطن الناس في الأسواق. والأمر في معرفة الرشد ليس من السهولة بالدرجة التي تظن، فالذين يخالطون الناس في الأسواق يختبرون بدخول الأسواق ومخالطة من فيها حتى يشاهدون ما يجري بين الناس من بيع أو شراء، فينكرون على المغبون، ويغبطون الرابح، وبذلك تحصل لهم الخبرة، ويثبت لهم الرشد. والذين لا يختلطون بالناس في الأسواق ممّن يسمّون بالطبقة العليا يدفع إليهم نفقة قليل من الزمن ليرى كيف ينفقونها ويتصرفون فيها، فإن أحسنوا النظر في تصرفها، فقد استبان رشدهم، وثبت استقامة نظرهم، وإلا فهم على السفه وعدم الرشد. أمّا الإناث فيختبرن بدفع قليل من المال لشراء ما يلزم للبيت من حاجيات الطهي وما إلى ذلك من كل ما يختص به النساء، عادة، فإن تبين من صنيعهن حسن التصرف واستقامة النظر، فقد تحقق رشدهن. ينظر: «نظام الحجر» لشيخنا سليمان رمضان عثمان. (2) لم يختلف العلماء في أن الصبي إذا بلغ رشيدا زال الحجر عنه، ووجب دفع ماله إليه، وإنما اختلفوا في وقت اختباره ومعرفة متى يحسن التصرف. فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه: إن الاختبار قبل البلوغ والمعنى: وبعد التمييز. وذهب مالك إلى أن الاختبار بعد البلوغ. ينظر: «نظام الحجر» لشيخنا سليمان رمضان عثمان. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 10) . (4) ظاهر عبارة بعضهم أنّ «إذا» ليست بشرطية، قال: «وإذا ليست بشرطية لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر، وقال: «فعلوا ذلك مضطرين» ، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، -

وتدبيرِ المَالِ لا غَيْرُ «1» وهو قولُ ابنِ القَاسِمِ في مَذْهَبنا. وقال الحَسَنُ، وقَتَادة: الرُّشْد في العَقْلِ والدينِ «2» وهو روايةٌ أيضًا عن مالك. وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا: نهي منه سبحانَه للأوصياء عَنْ أَكْل أموالِ اليتامى بغَيْر الواجبِ المُبَاح لهم، والإسْرَافُ: الإفراط في الفَعْل، والسَّرَف: الخَطَأُ في مواضع الإنفاق، وبِدَاراً: معناه: مُبَادَرَةً كِبَرِّهم، أيْ أنَّ الوصِيَّ يستغنمُ مالَ مَحْجُورِهِ، وأَنْ يَكْبَرُوا: نَصْبٌ ب «بِدَار» ، ويجوز أنْ يكونَ التقديرُ مخافةَ أنْ يَكْبَرُوا. وقوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، يقال: عَفَّ الرجُلُ عَنِ الشَّيْء، واستعف، إلا أَمْسَكَ، فَأُمِرَ الغنيُّ بالإمساك عَنْ مالِ اليتيمِ وأبَاحَ اللَّه للوصيِّ الفقيرِ أنْ يأكُلَ مِنْ مالِ يتيمه بالمَعْروف. واختلف العلماءُ في حَدِّ المعروف، فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: إنما يأكل الوصيُّ بالمعروف إذا شَرِبَ مِنَ اللَّبَنَ، وأَكَلَ مِنَ التَّمْر بما يهنأ الجَرْبَاء، ويلطُّ الحَوْض، ويُجِدُّ التمْر، وما أشبهه «3» ، قُلْتُ: يقال للقَطِرَانِ: الهَنا في لغة العرب كذا رأيته مَنْصُوصاً عليه.

_ - وبأنه يليها الفعل ظاهرا أو مضمرا، واحتجّ الخليل على عدم شرطيّتها بحصول ما بعدها ألا ترى أنك تقول: «أجيئك إذا احمرّ البسر» ، ولا تقول: «إن احمرّ» . قال الشيخ: «وكلامه يدل على أنها تكون ظرفا مجردا ليس فيها معنى الشرط، وهو مخالف للنحويين فإنهم كالمجمعين على أنها ظرف فيها معنى الشرط غالبا، وإن وجد في عبارة بعضهم ما ينفي كونها أداة شرط، فإنما يعني أنها لا يجزم بها لا أنها لا تكون شرطا» . وقدّر بعضهم مضافا قال: «تقديره: بلغوا حدّ النكاح أو وقته، والظاهر أنه لا يحتاج إليه إذ المعنى: صلحوا للنكاح. والفاء في قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ جواب «إذا» ، وفي قوله: فَادْفَعُوا جواب «إن» . ينظر: «الدر المصون» (2/ 312) . (1) أخرجه الطبري (3/ 594) برقم (8585) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 11) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 214) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. وذكره في (2/ 215) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (3/ 594) برقم (8583) عن قتادة، وبرقم (8584) عن الحسن. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 11) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 215) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن الحسن. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 11) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 216) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، والبيهقي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي (2/ 11) ، وعزاه لمالك، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والنحاس في «ناسخه» عن القاسم بن محمد عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : آية 8]

وقوله تعالى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ: أمْرٌ من اللَّه تعالى بالتحرُّز والحَزْم، وهذا هو الأَصْل في الإشهاد في المَدْفُوعات كلِّها إذا كان حَبَسَهَا أوَّلاً معروفاً. قال ع «1» : والأظهر أنَّ حَسِيباً هنا: معناه: حَاسِباً أعمالكم، ومجازياً بها، ففِي هذا وعيدٌ لكلِّ جاحدِ حَقٍّ. وقوله سبحانه: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... الآية: قال قتادة وغَيْره: سبَبُ نزولِ هذه الآيةِ أنَّ العرب كَانَ منْها مَنْ لا يُوَرِّثُ النساءَ، ويقولونَ: لا يَرِثُ إلاَّ مَنْ طَاعَنَ بالرُّمْحِ، وقَاتَلَ بالسَّيْف «2» . [سورة النساء (4) : آية 8] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وقوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ... الآية: اختلف فِيمَنْ خُوطِبَ بهذه الآية، فقيل: الخطابُ للوارِثِينَ، وقيل: للمحتَضَرِينَ والمعنى: إذا حضَرَكُم المَوْتُ، أيَّها المؤمنون، وقَسَمْتم أموالكم بالوصيَّة، وحَضَرَكُمْ مَنْ لا يرثُ مِنْ ذوي القرابةِ، واليتامى، فارزقوهم منه قاله ابن عبَّاس وغيره «3» . واختلف، هَلْ هِيَ منسوخةٌ بآية المواريثِ، أو هِيَ مُحْكَمَةٌ؟ وعلى أنَّها مُحْكَمَةٌ، فهل الأمر على الوُجُوب، فيعطى لهم ما خَفَّ، أو على النَّدْب؟ خلافٌ. والضميرُ في قوله: فَارْزُقُوهُمْ، وفي قوله: لَهُمْ: عائدٌ على الأصنافِ الثلاثةِ، والقولُ المعروفُ: كلُّ ما يتأَنَّس بِهِ مِنْ دعاءٍ، أو عدة، أو غير ذلك. [سورة النساء (4) : آية 9] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) وقوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ... الآية: اختلف، من المراد

_ (1) ينظر: «المحرر» (2/ 12) . (2) أخرجه الطبري (3/ 604) برقم (8657) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 396) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 12) . (3) أخرجه الطبري (3/ 608) برقم (8689) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 13) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 219) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : آية 10]

في هذه الآيةِ؟ فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: المرادُ: مَنْ حَضَر ميتاً حين يوصِّي، فيقول له: قَدِّم لنفسكَ، وأعْطِ لفلانٍ وفلانٍ، ويؤذِي الورثَةَ بذلك «1» ، فكأنَّ الآية تَقُولُ لهم: كَمَا كُنْتُمْ تَخْشَوْنَ على ورثَتِكُمْ وذرِّيَّتكم بَعْدَكُم، فكذلك فاخشوا على ورثة غَيْرِكُمْ/، ولا تَحْمِلُوه على تبذيرِ مالِهِ، وتَرْكِهِمْ عالَةً، وقال مقسَم وحضرميٌّ: نزلَتْ في عكسِ ذلك، وهو أنْ يقول للمُحْتَضَرِ: أمْسِكْ على ورثَتِكَ، وأَبْقِ لِوَلَدِكَ، ويَنْهَاهُ عَنِ الوصيَّة، فيضرّ بذلك ذوي القربى، واليتامى، والمساكينَ، وكلَّ من يستحقُّ أن يوصى له «2» فقيل لهم: كما كُنْتُمْ تَخْشَوْنَ على ذرِّيتكم، وتُسِرُّون بأنْ يحسن إلَيْهم فكذلك فَسَدِّدوا القَوْلَ في جهة اليتامى والمساكين. قال ع «3» : والقولانِ لاَ يَطَّرِدَانِ في كلِّ الناس، بل الناسُ صِنْفَانِ يصلُح لأحدهما القَوْلُ الواحدُ، وللآخَرِ القولُ الثَّاني وذلك أنَّ الرجل، إذا ترك ورثةً أغنياء، حَسُنَ أنْ يُنُدَبَ إلى الوصية، ويُحْمَلَ على أنْ يقدِّم لنفسه، وإذا ترك ورثةً ضعفاء مقلِّين، حَسُن أنُ يُنْدَبَ إلَى التَّرْكِ لهم، والاحتياطِ فإنَّ أجْره في قَصْد ذلك كأجره في المَسَاكينِ، فالمراعى إنما هو الضَّعْفُ، فيجب أنْ يُمَالَ معه. وقال ابنُ عَبَّاس أيضاً: المرادُ بالآية: ولاة الأيْتَامِ «4» ، فالمعنى: أحسنوا إلَيْهم، وسدِّدوا القول لهم، واتقوا اللَّه في أكْل أموالهم كما تخافُونَ على ذُرِّيَّتِكُمْ أَنْ يُفْعَلَ بهم خِلافُ ذلك. وقالَتْ فرقةٌ: بل المرادُ جميعُ الناسِ، فالمعنى: أمرهم بالتقوى في الأيْتَامِ، وَأَوْلاَد النَّاسِ، والتَّسْديد لهم في القَوْل، وإن لم يكُونُوا في حُجُورهم كما يريدُ كُلَّ أحدٍ أنْ يَفْعَلَ بولده بَعْده، والسديدُ: معناه: المصيب للحقّ. [سورة النساء (4) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 611) برقم (8709) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 13) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 219) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (3/ 613) برقم (8718) ، (8719) عن مقسم، وبرقم (8720) عن حضرمي. وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 13) عنهما. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 13) . (4) أخرجه الطبري (3/ 614) برقم (8721) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 14) .

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ... الآية: أكْثَرُ النَّاس أنَّ الآية نزلَتْ في الأوصياء الذين يأكُلُون ما لم يُبَحْ لهم مِنْ أموال اليتامى، وهي تتناوَلُ كُلَّ آكل، وإنْ لم يكُنْ وصيًّا، وورد في هذا الوعيدِ أحاديثُ منها: حديثُ أبِي سَعِيدٍ الخدريّ، قال: حدّثنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ قَوْماً لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الإبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْراً مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً» «1» . قُلْتُ: تأمَّل (رحمك اللَّه) صَدْرَ هذه السورةِ معظمه إنَّما هو في شأن الأجوفَيْنِ البَطْنِ والفَرْجِ مع اللسان، وهما المُهْلِكَانِ، وأعْظَمُ الجوارحِ آفةً وجنايةً على الإنسان، وقد رُوِّينَا عن مالكٍ في «الموطأ» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ اثنين، وَلَجَ الجَنَّةَ: مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» «2» . قَالَ أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» : ومعلوم أنه أراد صلّى الله عليه وسلّم ما بَيْن لَحْيَيْهِ: اللسان، وما بَيْنَ رجلَيْه: الفَرْج، واللَّه أعلم. ولهذا أردَفَ مالكٌ حديثه هذا بحَدِيثِهِ عَنْ زيْد بنِ أَسْلَمَ، عن أبيه أنَّ عمر بن الخطَّاب دَخَلَ على أبِي بَكْرٍ (رضي اللَّه عنه) ، وهو يَجْبِذُ لِسَانَهُ، فَقَالَ له عُمَر: مَهْ، غَفَرَ اللَّه لَكَ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إن هذا أوْرَدَنِي المَوَارِدَ «3» ، قال أبو عمر: وفي اللسان آثار كثيرةٌ، ثم قال أبو عُمَر: وعَنْ أبي هُرَيْرة: إنَّ أكْثَرَ ما يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأجْوَفَانِ: البَطْن، والفَرْج، ثم أسند أبو عُمَر عن سهل بن سعد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي بِمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وأَضمَنْ لَهُ الجَنَّة» «4» ، ومن طريق جابر نحوه. انتهى. والصّلى: هو التسخُّن بقُرْب النَّار أو بمباشرتها، والمُحْتَرِقُ الذي يذهبه الحرق ليس

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 615) برقم (8725) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 221) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 987- 988) كتاب «الكلام» ، باب ما جاء فيما يخاف من اللسان، حديث (11) من حديث عطاء بن يسار مرسلا. (3) أخرجه مالك المصدر السابق (12) . وأخرجه هناد بن السري في «الزهد» (2/ 531) برقم (1093) ، ووكيع في «الزهد» برقم (287) . (4) أخرجه البخاري (11/ 314) ، كتاب «الرقاق» ، باب حفظ اللسان، حديث (6474) ، والترمذي (4/ 524) كتاب «الزهد» ، باب ما جاء في حفظ اللسان، حديث (2408) ، وأحمد (5/ 333) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 336- بتحقيقنا) .

[سورة النساء (4) : آية 11]

بصَالٍ/ إلاَّ في بدء أمره، وأهْلُ جهنَّم لا تُذْهِبُهم النَّار، فهم فيها صَالُونَ (أعاذنا اللَّه منها بجُودِهِ وكَرَمِهِ) ، والسعير: الجَمْر المُشْتَعِلُ. وهذه آية من آياتِ الوَعيد، والَّذي يعتقدُه أهل السُّنَّة أنَّ ذلك نافذٌ على بعض العُصَاة لَئِلاَّ يقع الخَبَر بخلافِ مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم. [سورة النساء (4) : آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... الآية: تتضمَّن الفرضَ والوُجُوبَ، قيل: نَزَلَتْ بسبب بنَاتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. وقيل: بسبب جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه. وقوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي: حظ مثل حظ الأنثيين. وقوله: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، معناه: اثنتين فَمَا فَوْقَهما تَقْتَضِي ذلكَ قُوَّةُ الكلامِ، وأما الوقوفُ مع اللفظ، فيسقطُ معه النصُّ على الاثنتين، ويثبت الثُّلُثَانِ لهما بالإجماع، ولم يحفظْ فيه خلاف إلاَّ ما رُوِيَ عن ابْن عَبَّاس أنه يرى لهما النِّصْفَ، ويثبت لهما أيضًا ذلك بالقياسِ على الأختين «1» وبحديث التّرمذيّ «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى للابنتين بالثّلثين» «2» .

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 15) . (2) أخرجه أحمد (3/ 352) ، وأبو داود (3/ 316) كتاب «الفرائض» ، باب ميراث الصلب، حديث (2892) ، والترمذي (4/ 414) كتاب «الفرائض» ، باب ميراث البنات، حديث (2092) ، وابن ماجة (2/ 908) كتاب «الفرائض» ، باب فرائض الصلب، حديث (2720) ، وابن سعد (3/ 2/ 78) ، والحاكم (4/ 333- 334) كتاب «الفرائض» ، باب إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض. والبيهقي (6/ 216) كتاب «الفرائض» ، باب توريث ذوي الأرحام، كلهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله!! هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلا يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال: «يقضي الله في ذلك» . فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» . قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. -

وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ: المعنى: ولاَ وَلَدُ وَلَدٍ، ذكَراً كان أو أنثى، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، أي: وللأبِ الثُّلُثَانِ. وقوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، أي: كانوا أشقَّاء أو للأب أو للأم، والإجماعُ على أنهم لا يأخُذُونَ السُّدُسَ الذي يحجبون الأمَّ عنه وكذا أجْمَعُوا على أنَّ أخَوَيْنِ فصاعدًا يحجُبُون «1» الأمَّ عنه إلاَّ ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عَبَّاس مِنْ أنَّ الأخوَيْنِ في

_ - وقال الترمذي: حسن صحيح. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 222) ، وعزاه إلى ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، ومسدد، والطيالسي، وابن أبي عمر، وابن منيع، وابن أبي أسامة، وأبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عن جابر. (1) هو لغة: المنع، وشرعا: منع شخص معين عن ميراثه إما كله أو بعضه بوجود شخص آخر. والمراد بقولنا «عن ميراثه» : أن يقوم به سبب الإرث كالقرابة، فيمنع عنه. وقولنا: «إما كله أو بعضه» ، (أو) فيه للتنويع لا للشك. فالأول حجب الحرمات، والثاني حجب النقصان. ولهذا المبحث شأن عظيم في الفرائض، فمن لم يعرف الحجب لا يعد عالما بالفرائض، ويحرم عليه أن يفتي فيها. وهو في حد ذاته قسمان: أ: حجب بالأوصاف، وهي الموانع السابقة التي هي الرق والقتل ... إلخ. ب: حجب بالأشخاص، وهو المراد من عبارة الفرضيين عند إطلاقهم لفظ الحجب. وهذا على نوعين: 1- حجب حرمان 2- حجب نقصان والورثة في الحجب على ثلاثة أصناف: الأول: أن يكون كل من الحاجب والمحجوب عصبة. وفي هذه الحالة قد يكون الحجب حجب حرمان كما إذا كانا في جهة واحدة، ولكن أحدهما أقرب درجة من الآخر، فإن الأقرب يحجب الأبعد. وقد يكون حجب نقصان كالعصبتين المتساويتين في القرب كالابنين مثلا فإن كل واحد منهما يحجب عن ميراث الكل إلى البعض بوجود الآخر. الثاني: إذا كانا من أهل السهام، وفي هذه الحالة أيضا يكون حجب حرمان ونقصان، فالأول: كما إذا اجتمع أولاد الأم مع البنات وبنات الابن. والثاني: كالأم مع البنات والأخوات. والأخت لأب مع الشقيقة. الثالث: إذا كان أحدهما عاصيا والآخر ذا فرض: ولا يخلو الحال من أن يكون الحاجب ذا سهم والمحجوب عصبة، فيحجب العصبة حينئذ حجب نقصان بذي السهم، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ فإنه لو لم تكن الأنثى لصار جميع المال للذكر، وبوجود الأنثى انتقص نصيبه. أو يكون الحاجب عصبة والمحجوب ذا سهم. وفي هذه الحالة قد يكون الحجب حجب نقصان، كما إذا ترك الميت أختين شقيقتين وأختين لأم وأم، فالمسألة في الأصل في سننه، وتعول بسدسها إلى سبعة، ويكون للأختين الثلثان: «أربعة» من سبعة، فلو ترك معهما أخا شقيقا لكان لهما معه ثلاثة من ستة. وقد يكون حجب حرمان كبنت الابن مع الابن أو كأخ شقيق مع الأخت لأب. انظر: «المواريث» لشيخنا وهبة إبراهيم.

[سورة النساء (4) : الآيات 12 إلى 14]

حُكْمِ الواحد «1» . وقدَّم الوصيةَ في اللفظ اهتماما بها، وندباً إليها إذ هي أقلُّ لزوماً من الدَّيْن وأيضاً: قدَّمها لأنَّ الشرع قد حضَّ عليها فلا بُدَّ منها، والدَّيْنُ قد يكُونُ وقَدْ لا يكُونُ وأيضاً: قدَّمها إذْ هي حظُّ مساكينَ وضِعَافٍ، وأخَّر الدَّيْن لأنه حقُّ غريمٍ يَطْلُبه بقوَّة، وله فيه مقالٌ، وأجمعَ العلماءُ على أنَّ الدَّيْن مقدَّم على «2» الوصيَّة، والإجماعُ على أنه لا يوصى بأكْثَرَ مِنَ الثلث، واستحب كثيرٌ منهم أَلاَّ يبلغ الثلث. وقوله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ رفْعٌ بالابتداء، والخَبَرُ مضمرٌ، تقديره: هم المَقْسُوم عليهم، أو هم المُعْطُونَ، وهذا عَرْضٌ للحكمة في ذلك، وتأنيسٌ للعرب الَّذين كانُوا يورِّثون على غير هذه الصِّفَة. قال ابن زَيْد: لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً، يعني: في الدنيا والآخرة «3» ، قال الفَخْر «4» : وفي الآية إشارةٌ إلى الانقيادِ إلى الشَّرْعَ، وتَرْكِ ما يميل إليه الطّبع. انتهى. [سورة النساء (4) : الآيات 12 الى 14] وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 17) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 223) ، وعزاه لابن جرير، والحاكم، وصححه، والبيهقي في «سننه» . (2) من الحقوق التي تثبت على العبد الديون المرسلة في الذمة، فتقدم على الوصية، وسميت مرسلة لأنها أرسلت، أي أطلقت عن تعلقها بعين التركة. ويجب تقديم دين الله على دين الآدمي إذا مات ولم يؤدهما ثم ضاقت التركة عنهما لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «دين الله أحق بالقضاء» . أما قبل الموت، فإن كان محجورا عليه قدم دين الآدمي جزما، ولو اجتمع عليه ديون لله (تعالى) قدمت الزكاة إن كان النصاب موجودا، وإلا فتستوي الحقوق. وإنما قدمت الديون المرسلة في الذمة على الوصية، لأن تلك الديون حق واجب على الميت، فقضاؤه مقدم، والوصية تبرع فلذا أخرت. ينظر: «المواريث» لشيخنا وهبة إبراهيم. (3) أخرجه الطبري (3/ 624) برقم (8746) ، وذكره البغوي (1/ 403) ، وابن عطية (2/ 18) . (4) ينظر: «مفاتيح الغيب» (9/ 177) . [.....]

وقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ... الآية: الولَدُ هنا في هذه الآية، وفي التي بعدها: هُمْ بَنُو الصُّلْب، وبَنُو ذُكُورِهِمْ، وإن سَفَلُوا، والكَلاَلَةُ: خُلُوُّ المَيِّتِ عَنِ الوَالِدِ والوَلَدِ هذا هو الصحيحُ. وقوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ... الآية: الإجماع على الأُخُوَّة في هذه الآيةِ للأمِّ، وأما حُكْم سائر الإِخوة سواهم، فهو المذكور في آخر السورة. وقرأ «1» سعدُ بْنُ أبي وَقَّاص «2» : «وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ لأُمِّهِ» ، والأنثى والذَّكَر في هذه النَّازلة سواءٌ، بإجماع. وقوله سبحانه: غَيْرَ مُضَارٍّ، قال ابن عبَّاس: «الضِّرَارُ في الوصية من الكبائر» ورواه «3» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ ضَارَّ فِي وَصِيَّتِهِ، أَلْقَاهُ اللَّهُ تعالى في واد في جهنّم» «4» .

_ (1) ينظر: «الكشاف» (1/ 486) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 19) ، و «البحر المحيط» (3/ 198) ، و «الدر المصون» (2/ 326) ، وفيه: «من أم» . (2) هو: سعد بن مالك (واسم مالك: أبي وقاص) بن أهيب (وقيل: وهيب) بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. أبو إسحاق. القرشي. الزهري. أحد العشرة المبشرين بالجنة وآخرهم موتا. وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أول من كوف ب «الكوفة» ، روى عن النبيّ كثيرا، روى عنه بنوه: إبراهيم، وعامر، ومصعب، وعمر، ومحمد، وعائشة. وروى عنه من الصحابة: عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن سمرة. وروى عنه من كبار التابعين: سعيد بن المسيب، وأبو سعيد الهندي، وقيس بن أبي حازم، وعلقمة، والأحنف، وغيرهم. وهو صحابي مشهور كتب في سيرته مؤلفات كثيرة. توفي سنة (55) ، وقيل: سنة (58) ، وقيل: (51) ، وقيل: (57) . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 366) ، و «الإصابة» (3/ 83) ، و «بقي بن مخلد» (16) ، و «صيانة مسلم» (240) ، و «التبصرة والتذكرة» (3/ 206) ، و «الزهد الكبير» (113) ، و «التعديل والتجريح» (1300) ، و «الزهد» لوكيع (98) ، و «الأنساب» (1/ 35) ، و «تفسير الطبري» (8/ 8772) ، و «تقريب التهذيب» (1/ 290) ، و «تهذيب التهذيب» (3/ 483) ، و «تاريخ بغداد» (1/ 144) . (3) أخرجه الطبري (3/ 630) برقم (8784) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 227) ، وعزاه للنسائي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة في «المصنف» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. (4) لم نقف عليه بهذا اللفظ.

[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 16]

قال ع «1» : ووجوه المُضَارَّةِ كثيرةٌ مِنْ ذلك: أنْ يُقِرَّ بحَقٍّ ليس عليه، أو يُوصِيَ بأكْثَرَ من ثلثه، أو لوارِثِهِ. قال ص: غَيْرَ مُضَارٍّ: منصوبٌ على الحالِ: أي: غَيْرَ مُضَارٍّ ورثَتَهُ. انتهى. قلت: وتقدير أبي «2» حَيَّان: «وَرَثَتَهُ» يأباه فصاحَةُ ألفاظِ الآية إذ مقتضاها العمُوم، فلو قال: «غَيْرَ مُضَارٍّ وَرَثَةً، أو غَيْرَهم» ، لكان أحْسَنَ، لكن الغالبَ مُضَارَّة الورثة، فلهذا قَدَّرهم/. وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ... الآية: «تِلْكَ» : إشارةٌ إلى القِسْمة المتقدِّمة في المواريث، وباقي الآية بيّن. [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) وقوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ... الآية: الفَاحِشَةُ في هذا الموضِعِ: الزِّنَا، وقوله: مِنْ نِسائِكُمْ، إضافةٌ في معناها الإسلام، وجعل اللَّه الشهادة علَى الزِّنَا خاصَّة لا تَتِمُّ إلا بأربعةِ شُهَدَاءَ، تَغْلِيظاً على المُدَّعي، وسَتْراً على العبادِ. قلت: ومن هذا المعنى اشتراط رُؤْية كَذَا في كَذَا كَالمِرْوَدِ في المُكْحُلَة. قال ع «3» : وكانَتْ أولُ عقوبة الزُّنَاةِ الإمْسَاكَ في البُيُوت، ثم نُسِخَ ذلك بالأذَى الَّذي بَعْده، ثم نُسِخَ ذلك بآية النُّور وبالرَّجْمِ في الثَّيِّب قاله عبادة بنُ الصَّامت وغيره «4» ، وعن عِمْرَانَ بْنِ حصين أنه قال: كنّا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْهُ، وَوَجْهُهُ مُحْمَرٌّ، فَقَالَ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» ، خرَّجه مُسْلِم «5» ، وهو خَبَرٌ آحادٌ، ثم ورد في الخَبَر المتواتِرِ أنّ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 20) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (3/ 198) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 21) . (4) وسيأتي حديثه وحديث عمران بن حصين. (5) أخرجه مسلم (3/ 1316) ، كتاب «الحدود» ، باب حد الزنى، حديث (12/ 1690) ، وأبو داود (4/ 569- 570) كتاب «الحدود» ، باب في الرجم، حديث (4415) ، والترمذي (4/ 41) كتاب «الحدود» ، باب الرجم على الثيب، حديث (1434) ، والدارمي (2/ 181) ، كتاب «الحدود» ، باب في-

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رَجَمَ، وَلَمْ يَجْلِدْ «1» ، فَمَنْ قال: إن السُّنَّة المتواترة تنسخ ...

_ - تفسير قول الله تعالى: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وأحمد (5/ 313، 317، 318، 320- 321) ، وابن أبي شيبة (10/ 8) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 298- منحة) رقم (1514) ، وابن الجارود في «المنتقى» (810) ، والطبري في «تفسيره» (4/ 198) ، وابن حبان (4408، 4409، 4410، 4426- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 134) ، وفي «مشكل الآثار» (1/ 92) ، والبيهقي (8/ 210) كتاب «الحدود» ، باب جلد الزانيين ورجم الثيب، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 113) من طرق عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت به. والحديث أخرجه الشافعي (2/ 77) كتاب «الحدود» ، باب الزنا، حديث (252) ، والطيالسي (1/ 298- منحة) رقم (1514) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 327) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 457- بتحقيقنا) من طريق الحسن عن عبادة بن الصامت دون ذكر حطان بن عبد الله. قلت: ولعل ذلك من تدليسات الحسن. فأسقط حطان بن عبد الله، ورواه عن عبادة دون واسطة. تنبيه: وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة (2/ 852) كتاب «الحدود» ، باب حد الزنا، حديث (2550) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن حطان بن عبد الله عن عبادة بن الصامت. قال الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (4/ 247) : هذا وهم والله أعلم- فإن المحفوظ بهذا الإسناد حديث حطان. اهـ. وقد روى هذا الحديث الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا....» الحديث. أخرجه أحمد (3/ 476) . قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 456) رقم (1370) : سألت أبي عن حديث رواه الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا..» الحديث، قال أبي: هذا خطأ، إنما رواه الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اهـ. ومن هذا الطريق ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 267) ، وقال: رواه أحمد، وفيه الفضل بن دلهم، وهو ثقة ولكنه أخطأ في هذا الحديث. (1) تواتر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم ماعزا والغامدية، ورجم يهوديين. وإليك تخريج هذه الأحاديث: حديث رجم ماعز: ورد حديث رجم ماعز عن جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهم: ابن عباس، وجابر، وأبو هريرة، وبريدة، وجابر بن سمرة، وأبو سعيد الخدري، ونعيم بن هزال، وأبو بكر الصديق، وأبو ذر، ورجل من الصحابة، وسهل بن سعد، وأبو برزة، وسعيد بن المسيب مرسلا، والشعبي أيضا مرسلا. 1- حديث عبد الله بن عباس: أخرجه مسلم (3/ 1320) كتاب «الحدود» ، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (19/ 1693) ، وأبو داود (4/ 579) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4425) ، والترمذي (4/ 35) كتاب «الحدود» ، باب التلقين في الحد، حديث (1427) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 279) كتاب «الرجم» ، باب الاعتراف بالزنا أربع مرات، حديث (7171، 7172، 7173) ، وأحمد (1/ 245، -

_ - 314، 328) ، وعبد الرزاق (7/ 324) رقم (13344) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 299- منحة) رقم (1520) ، وأبو يعلى (4/ 453) رقم (2580) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 142) باب الاعتراف بالزنى الذي يجب به الحد ما هو، كلهم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لماعز بن مالك: «أحق ما بلغني عنك» ؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: «بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان» ، قال: نعم. قال: فشهد أربع شهادات، ثم أمر به، فرجم» . وللحديث طريق آخر عن ابن عباس: أخرجه البخاري (12/ 138) كتاب «الحدود» ، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت؟، حديث (3824) ، وأبو داود (4/ 58) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4427) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 278- 279) كتاب «الرجم» ، باب مسألة المعترف بالزنا عن كيفيته، حديث (7169) ، وأحمد (1/ 238، 270) ، والدارقطني (3/ 121) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (131، 132) ، والبيهقي (8/ 226) كتاب «الحدود» ، باب من قال: لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات، وابن حزم في «المحلى» (11/ 179) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 467- بتحقيقنا) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 338) رقم (11936) ، كلهم من طريق جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» ؟ قال: لا يا رسول الله قال: «أنكتها؟» - لا يكني- قال: فعند ذلك أمر برجمه. وأخرجه أبو داود (4/ 578) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4421) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 279) كتاب «الرجم» ، باب مسألة المعترف بالزنا عن كيفيته، حديث (7170) كلاهما من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن ماعز بن مالك أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنه زنى، فأعرض عنه، فأعاد عليه مرارا، فأعرض عنه، فسأل قومه: «أمجنون هو؟» قالوا: ليس به بأس قال: «أفعلت بها» ؟ قال: نعم فأمر به أن يرجم، فانطلق به فرجم ولم يصل عليه. وأخرجه أحمد (1/ 289، 325) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 278) كتاب «الرجم» ، باب مسألة المعترف بالزنا عن كيفيته، حديث (7168) ، والدارقطني (3/ 122) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (133) كلهم من طريق عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن الأسلمي أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعترف بالزنا فقال: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» . واللفظ للنسائي في «الكبرى» . (2) حديث جابر: أخرجه البخاري (12/ 129) كتاب «الحدود» ، باب الرجم بالمصلى، حديث (6820) ، ومسلم (3/ 1318) كتاب «الحدود» ، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (16/ 1691) ، وأبو داود (4/ 580) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4430) ، والترمذي (4/ 28) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، حديث (1429) ، والنسائي (4/ 62- 63) كتاب «الجنائز» ، باب ترك الصلاة على المرجوم، وأحمد (3/ 323) ، وابن الجارود رقم (813) ، والدارقطني (3/ 127- 128) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (146) كلهم من طريق عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 320) ، رقم (13337) عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر أن رجلا من أسلم جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاعترف عنده بالزنى، ثم اعترف فأعرض عنه، ثم اعترف فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أبك جنون؟» قال: لا، قال: «أحصنت؟» قال: نعم قال: فأمر-

..

_ - به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: خيرا، ولم يصل عليه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أما البخاري فقال في روايته: «وصلّى عليه» ، وقد رواه من طريق محمود بن غيلان عن عبد الرزاق به. قال الحافظ في «الفتح» : (12/ 133) : قوله: «وصلّى عليه» هكذا وقع هنا عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، وخالفه محمد بن يحيى الذهلي وجماعة عن عبد الرزاق، فقالوا في آخره: «ولم يصل عليه» قال المنذري في حاشية السنن: رواه ثمانية أنفس عن عبد الرزاق، فلم يذكروا قوله: «وصلّى عليه» قلت: قد أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق، ومسلم عن إسحاق بن راهويه، وأبو داود عن محمد بن المتوكل العسقلاني، وابن حبان من طريقه: زاد أبو داود والحسن بن علي الخلال والترمذي عن الحسن بن علي المذكور، والنسائي وابن الجارود عن محمد بن يحيى الذهلي، زاد النسائي ومحمد بن رافع ونوح بن حبيب والإسماعيلي، والدارقطني من طريق أحمد بن منصور الرمادي زاد الإسماعيلي: ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدبري ومحمد بن سهل الصغاني، فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس خالفوا محمودا، منهم من سكت عن هذه الزيادة، ومنهم من صرح بنفيها. اهـ. قلت: وعليه، فزيادة «وصلّى عليه» زيادة شاذة، تفرد بها محمود بن غيلان، وخالف فيها الثقات. وقد رواه ابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر، أن رجلا من «أسلم» أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فحدثه أنه زنى، فشهد على نفسه أنه زنى أربعا، فأمر برجمه، وكان قد أحصن. أخرجه الدارمي (2/ 176) كتاب «الحدود» ، باب الاعتراف بالزنا من طريق أبي عاصم عن ابن جريج به. وللحديث طريق آخر عن جابر: أخرجه أبو داود (4/ 577) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4420) من طريق محمد بن إسحاق قال: ذكرت لعاصم بن عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك، فقال لي: حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: حدثني ذلك من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهلّا تركتموه» من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم قال: ولم أعرف هذا الحديث. قال: فجئت جابر بن عبد الله، فقلت: إن رجالا من أسلم يحدثون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: «ألا تركتموه» وما أعرف الحديث، قال: يا ابن أخي، أنا أعلم الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به، فرجمناه، فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبرناه قال: «فهلا تركتموه وجئتموني به؟» ليستثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه، فأما لترك حدّ، فلا. قال: فعرفت وجه الحديث. 3- حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (12/ 136) كتاب «الحدود» ، باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت؟ حديث (6825) ، ومسلم (3/ 1318) كتاب «الحدود» ، باب من اعترف على نفسه بالزنا، حديث (16/ 1691) ، وأحمد (2/ 453) ، والبيهقي (8/ 219) كتاب «الحدود» ، باب من أجاز أن لا يحضر الإمام، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 465، 466- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن-

..

_ - سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرّحمن، أن أبا هريرة، قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أبك جنون؟» قال: لا يا رسول الله، فقال: «أحصنت؟» قال: نعم يا رسول الله، قال: «اذهبوا، فارجموه» . وللحديث طريق آخر عن أبي هريرة: أخرجه الترمذي (4/ 27) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، حديث (1428) ، وابن ماجة (2/ 854) كتاب «الحدود» ، باب الرجم، حديث (2554) ، وأحمد (2/ 286- 287، 450) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (819) ، وابن حبان (2422- الإحسان) ، والحاكم (4/ 336) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 465- بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: جاء ماعز بن مالك الأسلمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الأيمن، فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الأيسر، فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه فقال: إني قد زنيت، قال ذلك أربع مرات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انطلقوا به، فارجموه» فانطلقوا به، فلما مسته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل في يده لحي جمل فضربه به فصرعه، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «فهلا تركتموه» . وقال الترمذي: حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان. وقال البغوي عقبه: هذا حديث متفق على صحته. وهو وهم، فهو متفق على صحته من حديث أبي هريرة، ولكن ليس من هذا الطريق. وللحديث طريق ثالث عن أبي هريرة: أخرجه أبو داود (4/ 579) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4429) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 276- 277) كتاب «الرجم» ، باب استقصاء الإمام على المعترف عنده بالزنا، حديث (7164) ، وأبو يعلى (10/ 524- 525) رقم (6140) كلهم من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير عن ابن عم لأبي هريرة عن أبي هريرة، أن ماعز بن مالك جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه حتى قالها أربعا، فلما كان في الخامسة قال: «زنيت؟» قال: نعم، قال: «وتدري ما الزنى؟» قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: «ما تريد إلى هذا القول؟» قال: أريد أن تطهرني قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والعصا في الشيء؟» قال: نعم يا رسول الله. قال: فأمر برجمه، فرجم، فسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب. فسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا، ثم مر بجيفة حمار فقال: «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا جيفة هذا الحمار» .. قالا: غفر الله لك يا رسول الله، وهل يؤكل هذا؟ قال: «فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه، والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة يتقمص فيها» . -[.....]

..

_ - وهذا إسناد ضعيف لجهالة ابن عم أبي هريرة. لكن أخرجه عبد الرزاق (7/ 322) رقم (13340) عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير عن عبد الرّحمن بن الصامت عن أبي هريرة به. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أبو داود (4/ 579) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4428) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 277) كتاب «الرجم» ، باب ذكر استقصاء الإمام علي المعترف عنده بالزنا، حديث (7165) ، وابن الجارود رقم (814) ، وابن حبان (1513- موارد) ، والدارقطني (3/ 196- 197) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (339) ، والبيهقي (8/ 227) كتاب «الحدود» ، باب من قال: لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات. وقد أخرجه ابن حبان (1514- موارد) من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الزبير به. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (4/ 277) كتاب «الرجم» ، حديث (7166) من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير. وصححه ابن حبان. وقال النسائي: عبد الرّحمن بن الهضهاض ليس بمشهور. قلت: ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/ 297) ، والبخاري في «تاريخه الكبير» (5/ 361) ، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في «الثقات» . 4- حديث بريدة: أخرجه مسلم (3/ 1321) كتاب «الحدود» ، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (22/ 1695) ، وأبو داود (4/ 581) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، والنسائي في «الكبرى» (4/ 276) كتاب «الرجم» ، باب كيف الاعتراف بالزنا، حديث (7163) ، وأحمد (5/ 347- 348) ، والدارقطني (3/ 91- 92) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (39) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 468، 469- بتحقيقنا) كلهم من طريق غيلان بن جامع عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! طهرني، فقال: «ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبيّ مثل ذلك. حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فيم أطهرك؟» فقال: من الزنى. فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبه جنون؟» فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أزنيت؟» فقال: نعم. فأمر به فرجم. فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك. لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم جلوس، فسلم ثم جلس، فقال: «استغفروا لماعز بن مالك» ، قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» ، قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهرني. فقال: «ويحك! ارجعي فاستغفري الله، وتوبي إليه» ، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك. قال: «وما ذاك؟» ، قالت: إنها حبلى من الزنى. فقال: «آنت» قالت: نعم. فقال لها: «حتى تضعي ما في بطنك» . قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: قد وضعت الغامدية. فقال: «إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه» -

..

_ - فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها. قال الدارقطني: (حديث صحيح) . وقال النسائي: (هذا صالح الإسناد) . 5- حديث جابر بن سمرة: أخرجه مسلم (3/ 1318- 1319) كتاب «الحدود» ، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث (17/ 1692) ، وأبو داود (4/ 578) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4422) ، والدارمي (2/ 176- 177) كتاب «الحدود» باب الاعتراف بالزنا، وأحمد (5/ 91، 99، 102، 103) ، وعبد الرزاق (7/ 324) رقم (13343) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 299- منحة) رقم (1522) ، وأبو يعلى (13/ 443- 444) رقم (7446) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 142) كتاب «الحدود» ، باب الاعتراف بالزنى، والبيهقي (8/ 226) كتاب «الحدود» ، باب من قال: لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات، من طرق عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حاسرا ما عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه قد زنى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فلعلك؟» قال: لا والله إنه قد زنى الآخر، قال: فرجمه ثم خطب، فقال: «ألا كلما نفروا في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة، أما إن أمكنني الله من أحد منهم لأنكلن عنهن» . وللحديث طريق آخر: أخرجه البزار (2/ 218، 219- كشف) رقم (1556) حدثنا صفوان بن المغلس، ثنا بكر بن خداش، ثنا حرب بن خالد بن جابر بن سمرة عن أبيه عن جده قال: جاء ماعز إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض بوجهه، ثم جاءه من قبل وجهه، فأعرض عنه، فجاءه الثالثة، فأعرض عنه، ثم جاءه الرابعة، فلما قال له ذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا إلى صاحبكم، فإن كان صحيحا فارجموه» فسئل عنه فوجد صحيحا، فرجم، فلما أصابته الحجارة حاضرهم، وتلقاه رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلحي جمل، فضربه به فقتله، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إلى النار. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلا إنه قد تاب توبة لو تابها أمة من الأمم تقبل منهم» . قال الهيثمي في «الكشف» : له حديث في الصحيح بغير هذا السياق. وذكره هو في «المجمع» (6/ 270- 271) ، وقال: قلت: لسمرة حديث في الصحيح بغير سياقه، رواه البزار عن شيخه صفوان بن المغلس ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. 6- حديث أبي سعيد: أخرجه مسلم (3/ 1320- 1321) كتاب «الحدود» ، باب فيمن اعترف على نفسه بالزنى، حديث (20/ 1694) ، وأبو داود (4/ 581) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4431) ، وأحمد (3/ 2- 3) كلهم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد أن رجلا من «أسلم» يقال له: ماعز بن مالك أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني أصبت فاحشة فأقمه عليّ، فرده النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرارا، قال: ثم سأل قومه؟ فقالوا: ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد، قال: فرجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأمرنا أن نرجمه قال: فانطلقنا به إلى «بقيع الغرقد» قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظم، والمدر، والخزف، قال: فاشتد، واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد-

..

_ - الحرة (يعني الحجارة) حتى سكت، ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا من العشي فقال: «أو كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا له نبيب كنبيب التيس، عليّ أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به» قال: فما استغفر له، ولا سبه. 7- حديث نعيم بن هزال: أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 71) كتاب «الحدود» ، باب الزاني كم مرة يرد، حديث (8816) ، وأحمد (5/ 216- 217) ، وأبو داود (4/ 573) كتاب «الحدود» ، باب رجم ماعز بن مالك، حديث (4419) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 290- 291) كتاب «الرجم» ، باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع، حديث (7205) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 201- 202) رقم (530، 531) ، والحاكم (4/ 363) كتاب «الحدود» ، باب الحفر عند الرجم، والبيهقي (8/ 228) كتاب «الحدود» ، باب المعترف بالزنا يرجع عن إقراره، وابن حزم في «المحلى» (11/ 177) كلهم من طريق يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال: كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بما صنعت، لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجا، فأتاه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأقم عليّ كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأقم عليّ كتاب الله. حتى قالها أربع مرات. قال صلّى الله عليه وسلّم: إنك قد قلتها أربع مرات، فيمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم قال: فأمر به أن يرجم، فأخرج به إلى «الحرة» ، فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع، فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك، فقال: «هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه» . وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والحديث أعله ابن حزم بالإرسال. قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص 292) : نعيم بن هزال الأسلمي مختلف في صحبته، أخرج له أبو داود والنسائي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد روى عنه عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عبد البر: هو أولى بالصواب، ولا صحبة لنعيم، وإنما الصحبة لأبيه. قلت: والحديث فيه اختلاف كثير. اهـ. 8- حديث أبي بكر الصديق: أخرجه أحمد (1/ 8) ، وأبو يعلى (1/ 42، 43) رقم (40، 41) ، والبزار (2/ 217- كشف) رقم (1554) من طريق جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن عبد الرّحمن بن أبزى عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأتاه ماعز بن مالك، فاعترف بالزنى، فرده، ثم عاد الثانية، فرده، ثم عاد الثالثة، فرده، فقلت: إن عدت الرابعة رجمك، فعاد الرابعة، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحبسه، ثم أرسل فسأل عنه. قالوا: لا نعلم إلا خيرا، فأمر برجمه. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 269) ، وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، ولفظه: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رد ماعزا أربع مرات، ثم أمر برجمه. والطبراني في «الأوسط» إلا أنه قال: ثلاث مرات. وفي أسانيدهم كلها جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف. 9- حديث أبي ذر: أخرجه أحمد (5/ 179) ، والبزار (2/ 217، 218- كشف) رقم (1555) كلاهما من طريق-

..

_ - الحجاج بن أرطأة عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن المقدم عن نسعة بن شداد عن أبي ذر قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فأتاه رجل فقال: إن الآخر زنى، فأعرض عنه ثلاث مرات، ثم ربّع، فأمرنا فحفرنا له حفيرة ليست بالطويلة، فرجم، فارتحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا، فسرنا حتى نزلنا منزلا، فسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا ذر ألم تر إلى صاحبكم قد غفر له وأدخل الجنة» . قال البزار: لا نعلم أحدا رواه بهذا اللفظ إلا أبو ذر، وعبد الملك معروف، وعبد الله بن المقدام ونسعة لا نعلمهما ذكرا إلا في هذا الحديث. والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (6/ 269) وقال: رواه أحمد والبزار، وفيه الحجاج بن أرطأة، وهو مدلس. 10- حديث رجل من الصحابة: أخرجه النسائي في «الكبرى» (4/ 289) كتاب «الرجم» ، باب كيف يفعل بالرجل، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك، حديث (7201) من طريق سلمة بن كهيل. قال: حدثني أبو مالك عن رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربع مرات، كل ذلك يرده، ويقول: «أخبرت أحدا غيري» ، ثم أمر برجمه، فذهبوا به إلى مكان يبلغ صدره إلى حائط، فذهب يثب فرماه رجل............» الحديث. 11- حديث سهل بن سعد: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 271) عنه قال: شهدت ماعزا حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجمه، فاتبعه الناس يرجمونه، حتى لقيه عمر بالجبانة، فضربه بلحي جمل فقتله. وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو كذاب. 12- حديث أبي برزة الأسلمي: أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 78) كتاب «الحدود» ، باب في الزاني كم مرة يرد، حديث (8831) ، وأحمد (4/ 423) ، وأبو يعلى (13/ 426) رقم (7431) من طريق مساور بن عبيد قال: حدثني أبو برزة قال: رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منا يقال له ماعز بن مالك. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 268) ، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 13- مرسل سعيد بن المسيب: أخرجه النسائي في «الكبرى» (4/ 281) كتاب «الرجم» ، باب اختلاف الزهري وسعيد بن المسيب في هذا الحديث، من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن رجلا من «أسلم» جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له: إن الآخر قد زنى، فقال له أبو بكر: هل ذكرت ذلك لأحد غيري؟ قال: لا، قال: فاستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده، فأتى عمر فقال له مثل ما قاله لأبي بكر فقال له عمر ما قال له أبو بكر، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الآخر قد زنى، قال سعيد: فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات، كل ذلك يعرض عنه حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله فقال: «أيشتكي؟ أبه جنة؟» فقالوا: والله إنه لصحيح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبكر أم ثيب؟» قال: بل ثيب، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجم. 14- مرسل الشعبي: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 538) كتاب «الحدود» ، باب في الزاني كم مرة يرد، حديث (2877) من طريق جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: شهد ماعز على نفسه أربع مرات أنه قد زنى، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن-

القُرآن «1» ، جعَلَ رَجْمَ الرسول دُونَ جَلْدٍ ناسخاً لجَلْدِ الثيِّب، وهذا الذي عليه الأَمَّة أنَّ السُّنَّة المتواترة تَنْسَخُ القُرآن إذ هما جميعاً وحْيٌ من اللَّه سبحانَهُ، ويوجِبَانِ جميعاً العِلْم والعَمَل. ويتَّجه عندي في هذه النَّازلة بعَيْنها أنْ يُقَالَ: إن الناسِخَ لِحُكْمِ الجَلْد هو القرآن المتَّفَقُ على رَفْعِ لفظه، وبقاءِ حُكْمه في قوله تعالى: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فارجموهما أَلْبَتَّةَ» ، وهذا نصٌّ في الرجم، وقد قَرَّره عمر على المِنْبر بمَحْضَر الصَّحابة، والحديثُ بكماله في مُسْلم، والسُّنَّةُ هي المبيِّنة، ولفظُ «البخاريِّ» : «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الرَّجْمُ لِلثَّيِّب، وَالجَلْدُ لِلْبِكْرِ» «2» . انتهى. وقوله تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ... الآية: قال مجاهدٌ وغيره: الآيةُ الأولى في النساء عموماً، وهذه في الرِّجال، فعقوبةُ النِّساء الحَبْسُ، وعقوبةُ الرِّجَالِ الأذى «3» ، وهذا قولٌ يقتضيه اللَّفْظ، ويستوفي نصُّ الكلام أصنافَ الزُّنَاة عامَّة ويؤيِّده مِنْ جهة اللفظ قولُه في الأولى: مِنْ نِسائِكُمْ، وقوله في الثانية: مِنْكُمْ، وأجمع العلماءُ على أنَّ هاتين الآيتين منُسْوخَتَانِ كما تقدّم.

_ - يرجم. وقصة ماعز في الزنا ورجمه قد عدها الحافظ السيوطي متواترة، فذكرها في كتابه «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» (ص 59) رقم (82) ، وعزاها إلى الشيخين عن جابر بن عبد الله وابن عباس ومسلم عن بريدة وجابر بن سمرة وأبي سعيد، وأبي داود عن اللجلاج ونعيم بن هزال وأبي هريرة، والنسائي عن رجل من الصحابة ومن مرسل ابن المسيب، وأحمد عن أبي بكر الصديق وأبي ذر، وابن أبي شيبة في «المصنف» عن نصر والد عثمان، ومن مرسل عطاء بن يسار والشعبي، وأبي مرة في سننه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف. (1) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 109) ، و «البرهان لإمام الحرمين» (2/ 1307) ، و «سلاسل الذهب» للزركشي (302) ، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 139) ، و «نهاية السول» للأسنوي (2/ 578) ، و «منهاج العقول» للبدخشي (2/ 252) ، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (88) ، و «التحصيل من المحصول» للأرموي (2/ 23) ، و «المنخول» للغزالي (292) ، و «والمستصفى له» (1/ 124) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (3/ 139) ، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 111) ، و «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 392) ، و «إحكام الفصول في أحكام الأصول» للباجي (418) ، و «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (4/ 505) ، و «التحرير» لابن الهمام (388) ، و «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود ابن عمر التفتازاني (2/ 36) ، و «ميزان الأصول» للسمرقندي (2/ 1006) ، و «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (3/ 60) . (2) تقدم تخريجه. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 22) .

[سورة النساء (4) : الآيات 17 إلى 18]

[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) وقوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ... الآية. قال ص: التوبةُ: مبتدأٌ على حذفِ مضافٍ، أي: قَبُولُ التوبةِ. انتهى. قال ع «1» : «إنَّمَا» : حاصرةٌ، وهو مَقْصد المتكلِّم بها أبداً، فقد تصادِفُ من المعنى ما يقتضي العَقْلُ فيه الحَصْر كقوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: 171] ، وقد لا تصادف ذلك كقوله: «إنَّمَا الشُّجَاعُ عَنْتَرَةُ» ، وهي في هذه الآية حاصرةٌ إذ ليستِ التوبةُ إلا لهذا الصِّنْف المذكور، وتصحُّ التوبة، وإن نَقَضَها التائِبُ في ثانِي حَالٍ بمعاودَةِ الذنْبِ، فإنَّ التوبة الأولى طاعةٌ قد انقضت وصحَّت، وهو محتاجٌ بعد مواقعة الذَّنْب إلى توبةٍ أخرى مستأنَفَةٍ، وتصحُّ أيضاً التوبةُ من ذَنْب مع الإقامة على غيره من غير نَوْعِهِ، خلافاً للمُعْتَزِلَة «2» في قولهم: لا يكُونُ تائباً مَنْ أقام على ذَنْب. وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ، أي: على فَضْلِ اللَّه ورحْمتِهِ لعبادِهِ، وهذا نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ» ، إنما معناه: ما حقُّهم على فَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، والعقيدةُ أنَّه لا يجبُ على اللَّه/ تعالى شيْءٌ عقلاً، والسُّوءَ في هذه الآية: يعمُّ الكُفْرَ والمعاصِيَ، وقوله تعالى: بِجَهالَةٍ: معناه: بسفاهةٍ، وقلَّةِ تحصيلِ أدى إلى المعصية، وليس المعنى أنْ تكونَ الجَهَالَةُ بِأنَّ ذلِك الفِعْلَ معصيةٌ لأنَّ المتعمِّد للذُّنوبِ كان يخرج من التّوبة، وهذا

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 21) . (2) كان للحسن البصري تلميذ يتلقى عليه، فلما سمعه يقرر أن مرتكب الكبيرة مذنب عاص إن لم يتب، فأمره لربه إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عقابا لا خلود معه في النار، وأن أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى. عند ذلك خالف أستاذه في هاتين المسألتين، واعتزل مجلس أستاذه إلى مجلس آخر يقرر في المسألة الأولى أنه ليس بمؤمن ولا بكافر، بل هو واسطة بينهما، فلا هو بمؤمن لأن الإيمان عقيدة وعمل، ولا بكافر، ويقرر في الثانية أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية بإقدار من الله تعالى، عند ذلك قال الحسن: اعتزلنا واصل، فسموا «معتزلة» لذلك، ثم كثر أتباع واصل، وصار لهم مذهب معروف في مسائل كثيرة، منها: وجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي، ومنها نفي الصفات القديمة، ومنها مسألة الحسن والقبح العقليين، ومسألة الصلاح والأصلح. ينظر: «مذكرة الشيخ» ، صالح موسى شرف.

فاسدٌ إجماعاً، وما ذكرتُهُ في الجَهَالة قاله أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذَكَرَ ذلك عَنْهم أبو العَالِيَةِ «1» ، وقال قتادةُ: اجتمع أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أنَّ كلَّ مَعْصِيَةٍ، فَهِيَ بِجَهَالَةٍ، عَمْداً كانَتْ أو جهلاً «2» وقال به ابنُ عَبَّاس، ومجاهد، والسُّدِّيُّ، وروي عن مجاهدٍ والضَّحَّاك أنهما قالا: الجَهَالَةُ هنا العَمْد «3» ، وقال عِكْرِمَةُ: أمور الدنيا كلُّها جهالة «4» . قال ع «5» : يريد الخاصَّة بها الخارِجَةَ عَنْ طاعة اللَّه سبحانه، وهذا المعنى عندي جَارٍ مع قوله تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الحديد: 20] . واختلف المتأوِّلون في قوله تعالى: مِنْ قَرِيبٍ. فقال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ: معنى ذلك: قَبْلَ المَرَضِ والموتِ «6» ، وقال الجمهورُ: معنى ذلك قَبْلَ المعايَنَةِ للملائِكَةِ والسَّوْق، وأن يُغْلَبَ المَرْءُ على نفسه، وروى أبو قِلاَبَةَ «7» أنَّ اللَّه تعالى لَمَّا خَلَقَ آدم فَرَآهُ إبْلِيسُ أَجْوَفَ، ثُمَّ جرى لَهُ مَا جرى، ولُعِنَ وَأُنْظِرَ، قَالَ: وَعِزَّتِكَ، لاَ بَرِحْتُ مِنْ قَلْبِهِ، مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ، فقَالَ اللَّه تعالى: «وَعِزَّتِي لاَ أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا دَام فِيهِ الرُّوحُ» «8» . قال ع «9» : فابنُ عبَّاس (رضي اللَّه عنه) ذكَرَ أحسن أوقات التوبة، والجمهور حدّوا

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 640) برقم (8833) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 24) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 231) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري (3/ 640) برقم (8834) ، وذكره البغوي (1/ 407) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 24) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 232) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير. (3) أخرجه الطبري (3/ 641) برقم (8841) ، (8842) عن مجاهد وبرقم (8843) عن الضحاك، وذكره البغوي (1/ 407) عن مجاهد. وابن عطية (2/ 24) عنهما. (4) أخرجه الطبري (3/ 641) برقم (8844) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 24) . [.....] (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 24) . (6) أخرجه الطبري (3/ 642) برقم (8845) عن السدي، وبرقم (8846) عن ابن عباس. وذكره البغوي (1/ 407) عن السدي، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 24) عنهما. (7) عبد الله بن زيد بن عمرو بن عامر الجرمي، أبو قلابة البصري، أحد الأئمة، نزل «الشام» عن عائشة في «مسلم» و «النسائي» . وعن عمر مرسلا، وحذيفة، وابن عباس، وأبي هريرة، ومعاوية وخلق. وعنه مولاه أبو رجاء، وقتادة، وأيّوب، وخالد الحذّاء، وعاصم الأحول وخلق. قال أيوب: أبو قلابة من الفقهاء ذوي الألباب. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. قال خليفة: مات بالشام سنة أربع ومائة، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع. ينظر: «الخلاصة» (2/ 58) . (8) أخرجه الطبري (3/ 643) برقم (8854) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 24) . (9) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 25) .

آخر وقتها «1» ، وروى بَشِيرُ بْنُ كَعْب، والحَسَنُ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تعالى يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، وَيُغْلَبْ على عَقْلِهِ» «2» . قال ع «3» : لأنَّ الرجاءَ فيه باقٍ، ويصحُّ منه النَّدَمِ والعَزْم على التركِ، وقوله تعالى: مِنْ قَرِيبٍ، إنما معناه: مِنْ قريبٍ إلى وقْت الذَّنْبِ، ومُدَّةُ الحياةِ كلِّها قريبٌ، والمبادرةُ في الصِّحَّة أفضلُ، قلت: بل المبادرة واجبَةٌ. وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً، أي: بمَنْ يتوبُ، ويُيَسِّره هو سبحانه للتَّوْبَة حَكِيماً: فيما ينفذه من ذلكَ، وفي تَأْخِيرِ من يُؤَخِّر حتى يَهْلِكَ، ثم نفى بقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ... الآية: أنْ يدخُلَ في حُكْم التائبين مَنْ حضره موتُهُ، وصار في حَيِّز اليأس كما كان فرعونُ حِينَ صار في غَمْرة المَاءِ، والغَرَقِ، فلم ينفعْهُ ما أظهره من الإيمان وبهذا قال ابنُ عَبَّاس وجماعةُ المفسِّرين «4» . قال ع «5» : والعقيدةُ عندي في هذه الآيات: أن مَنْ تاب مِنْ قريبٍ، فله حُكْمُ التائب، فَيَغْلِبُ الظَّنُّ عليه أنه ينعَّم ولا يعذَّب هذا مذهبُ أبي المَعَالِي وغيره. وقال غيرهم: بل هو مغفُورٌ له قطعاً لإخبار اللَّه تعالى بذلك، وأبو المَعَالِي يجعل تلْكَ الأخبار ظَوَاهِرَ مشروطةً بالمَشِيئَةِ، ومَنْ لَم يَتُبْ حتى حضره المَوْت، فليس في حُكْم التائبين، فإنْ كان كافراً، فهو يخلَّد، وإن كان مؤمناً، فهو عاصٍ في المشيئة، لكنْ يَغْلِبُ الخَوْفُ عليه، ويَقْوَى الظنُّ في تعذيبه، ويُقْطَعُ من جهة السمْع أنَّ مِنْ هذه الصَّنِيفَةِ مَنْ يَغْفِرُ اللَّه تعالى لَهُ تفضُّلاً منه لا يعذِّبه. وأَعْلَمَ اللَّه تعالى أيضاً أنَّ الذين يموتُونَ، وهم كفَّار فلا مُستعْتَبَ لهم، ولا توبةَ في الآخِرَةِ. وقوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً: إنْ كانتِ الإشارة إلى الذين يموتُونَ، وهم كفَّار، فقَطْ، فالعذَابُ عذَابُ خلودٍ مؤبَّد، وإنْ كانَتِ الإشارة إليهم وإلى مَنْ ينفذ علَيْه الوعيدُ مِمَّنْ لا يتُوبُ إلاَّ مع حضورِ المَوْت/، فهو في جهة هؤلاء عذاب لا خلود معه،

_ (1) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 25) . (2) تقدم تخريجه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 25) . (4) أخرجه الطبري (3/ 645) برقم (8863) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 25) .

[سورة النساء (4) : الآيات 19 إلى 21]

وأَعْتَدْنا معناه: يسّرناه وأحضرناه. [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ... الآية: قال ابن عَبَّاس: كانوا في الجاهليَّة، إذا مات الرجُلُ كانَ أولياؤه أحَقَّ بامرأته من أهلها، إن شاءوا تزوّجها أحدهم، وإن شاءوا زوّجوها من غيرهم، وإن شاءوا مَنَعُوهَا الزَّوَاج، فنزلَتِ الآيةُ في ذلِكَ «1» . وقال بعضُ المتأوِّلين: معنى الآية: لا يحلُّ لكم عَضْل النساءِ اللواتِي أنْتُم أولياء لهنَّ، وإمساكُهُنَّ دون تزويجٍ حتى يَمُتْنَ، فتورَثُ أموالُهُنَّ. قال ع «2» : فعلى هذا القولِ: فالموروث مالُهَا، لا هِيَ وروي نَحْوَ هذا عن ابْنِ عَبَّاس «3» . وقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ... الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره: هي أيضاً في أولئك الأولياء الذين كَانُوا يَرِثُون المرأةَ، لأنهم كانوا يتزوَّجونها إذا كانَتْ جميلةً، ويمسِكُونها حتى تموتَ إذا كانت دميمةً «4» وقال نحوَهُ الحَسَن، وعِكْرِمَة، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً: هي في الأزواج في الرَّجُل يُمْسِكُ المرأَةَ، ويسيءُ عِشْرتها حتى تَفْتَدِيَ منه فذلك لا يحلُّ له «5» ، وقَالَ مثلَهُ قتادةَ «6» ، وهو أقوى الأقوال ودليل ذلك: قوله:

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 647) برقم (8870) ، وذكره البغوي (1/ 408) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 234) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 26) . (3) أخرجه الطبري (3/ 647) برقم (8874) ، وذكره البغوي (1/ 408) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 234) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (3/ 649) برقم (8883) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 27) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 234) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....] (5) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 27) . (6) أخرجه الطبري (3/ 650) برقم (8886) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 27) .

إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ، وإذا أتَتْ بفاحشةٍ، فليس للوليِّ حَبْسُهَا حتَّى يذهب بمالِهَا إجماعاً من الأُمَّة، وإنما ذلك للزَّوْج على ما سنبيِّنه الآن (إن شاء اللَّه) ، وكذلك قوله: عاشِرُوهُنَّ ... إلى آخر الآية، يظهر منه تقويةُ ما ذكرته. واختلِفَ في معنى «الفَاحِشَةِ» هنا، فقال الحسَنُ بنُ أبي الحَسَن: هو الزِّنَا «1» ، قال أبو قِلاَبَةَ: إذا زنَتِ امرأة الرجُلِ، فلا بأس أنْ يُضارَّها، ويَشُقَّ عليها حتى تَفْتَدِيَ منْه، وقال السُّدِّيُّ: إذا فعلْنَ ذلك، فَخُذُوا مهورَهُنَّ «2» . قلْتُ: وحديثُ المتلاعنَيْن يضعِّف هذا القول لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فَذَاكَ بِمَا استحللت مِنْ فَرْجِهَا ... » الحديث «3» . وقال ابنُ عبَّاس وغيره: الفاحشةُ في هذه الآية: البُغْضُ والنُّشُوز فإذا نَشَزَتْ، حلَّ له أنْ يأخذ مالَهَا «4» . قال ع «5» : وهو مذهبُ مالكٍ. وقال قوم: الفاحشةُ: البَذَاء باللِّسان، وسوءُ العِشْرة قولاً وفعلاً، وهذا في معنَى النُّشُوز. قال ع «6» : والزنا أصعَبُ علَى الزَّوْج من النُّشُوز والأذى، وكُلُّ ذلك فاحشةٌ تُحِلُّ أَخْذَ المالِ. وقوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ: أمرٌ يعمُّ الأزواجَ والأولياءَ، ولكنَّ المتلبِّس في الأغلب بهذا الأمر الأزواجُ، والعِشْرَةُ: المخالطةُ والممازجة. وقوله تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً،

_ (1) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 409) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 28) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 236) ، وعزاه لابن جرير. (2) أخرجه الطبري (3/ 652) برقم (8898) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 28) . (3) سيأتي تخريج أحاديث اللعان في محلها، وهي في سورة «النور» . (4) أخرجه الطبري (3/ 652) برقم (8900) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 28) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 235) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 28) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 28) .

قال السُّدِّيُّ: الخيرُ الكثيرُ في المرأة الولَدُ «1» ، وقال نحوَهُ ابْنُ عَباس» . قال ع «3» : ومِنْ فصاحة القرآن العمومُ الذي في لفظَةِ «شَيْء» لأنه يطَّرد هذا النَّظَرُ في كلِّ ما يكرهه المرءُ ممَّا يجمُلُ الصبْرُ عليه، ويحسُنُ، إذ عاقبةُ الصَّبْرِ إلى خيرٍ، إذا أريد به وَجْهُ اللَّهِ. وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ... الآية: لما مضى في الآية المتقدِّمة حُكْمُ الفِرَاقِ الذي سبَبَهُ المرأةُ، وأنَّ للزوج أخْذَ المالِ منْها، عَقَّبَ ذلك بِذكْرِ الفِراقِ الذي سبَبَه الزَّوْجُ، والمَنْع من أخْذ مالها مع ذلك. وقال بعضُ النَّاس: يؤخَذُ من الآية جوازُ المُغَالاة بالمُهُور، وقال قوم: لا تُعْطِي الآيةُ ذلك لأن التمثيل إنما جاء على جهة المبالغةِ «4» . والبُهْتان: مصدر في موضعِ الحالِ، ومعناه: مُبْهتاً، ثم وعظ تعالى عباده، وأَفْضى: معناه: بَاشَرَ، وقال مجاهدٌ وغيره: الإفْضَاءُ في هذه الآية: الجماعُ «5» ، قال ابنُ عَبَّاس: ولكنَّ اللَّه كريمٌ يَكْنِي «6» . واختلف في المراد بالميثاقِ الغَليظِ. فقال الحسن وغيره: / هو قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «7» [البقرة: 229] وقال مجاهدٌ، وابنُ زَيْدٍ: الميثاقُ الغليظُ: عُقْدةُ النِّكاحِ «8» ، وقول الرّجل:

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 655) برقم (8911) ، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (1/ 409) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 28) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 236) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (3/ 655) برقم (8912) ، وذكره ابن عطية (2/ 28) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 28) . (4) ومن أقبح العادات أن يطلب والد العروس من الزوج ما يعجز عن دفعه، فيضطر إلى بيع ما يملك أو الاستدانة من غيره، فيبتدىء صفحة حياته الجديدة بالهم والشقاء المستمر، وهذا من دواعي إحجام بعض الشباب عن الزواج، وفي الحديث الشريف «أقلهن صداقا أكثرهن بركة» . ينظر: «أحكام الصداق» لشيخنا محمد جوهر. (5) أخرجه الطبري (3/ 656) برقم (8918) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 30) . (6) أخرجه الطبري (3/ 656) برقم (8915) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 30) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 238) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....] (7) أخرجه الطبري (3/ 657) برقم (8927) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 30) . (8) أخرجه الطبري (3/ 658) برقم (8928- 8932) عن مجاهد، وبرقم (8933) عن زيد. وذكره ابن-

[سورة النساء (4) : آية 22]

نَكَحْتُ، ومَلَكْتُ النِّكاحَ، ونحوه، فهذه التي بها تستحلُّ الفرُوج. وقال عكرمة، والرَّبيع: الميثاقُ الغليظُ يفسّره قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «استوصوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» «1» . [سورة النساء (4) : آية 22] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ: سبب الآيةِ ما اعتادته بعضُ قبائلِ العَرَبِ أنْ يَخْلُفَ ابنُ الرَّجُلِ على امرأةِ أَبِيهِ، وقد كان في العَرَب من تَزَوَّجَ ابنته، وهو حَاجِبُ بْنُ زُرارة «2» . واختلف في مقتضى ألفاظ الآية. فقالَتْ فرقةٌ: قوله: مَا نَكَحَ، يريد: النساءَ، أي: لا تنكحوا النساءَ اللواتي نكَحَ آباؤكم، وقوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، معناه: ولكنْ ما قَدْ سَلَفَ، فَدَعُوهُ، وقال بعضهم: المعنى: لكنْ ما قد سَلَفَ، فهو مَعْفُوٌّ عنكم لِمَنْ كان واقَعَهُ، فكأنه قال: ولا تفعلوا، حَاشَا ما قد سَلَفَ، وقالتْ فرقة: معناه: لا تَنْكِحُوا كَمَا نَكَح آباؤكم مِنْ عقودهم الفاسدةِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ منْكم من تلك العقود الفاسدة، فمباح لكم إلا قامة علَيْه في الإسلامِ، إذا كان ممَّا يقرِّر الإسلامُ عَلَيْه، وقيل: إلا ما قد سَلَفَ، فهو معفوٌّ عنكم، وقال ابن زَيْدٍ: معنى الآية: النهي عن أن يطأ الرجُلُ امرأةً وطئها الأبُ، إلاَّ ما سَلَفَ من الآباءِ في الجاهليَّة مِنَ الزِّنا بالنساءِ، لا على وجه المُنَاكَحَةِ، فذلك جائزٌ لكُمْ لأنَّ ذلك الزنَا كَانَ فاحشةً، والمَقْتُ: البُغْض والاحتقار، بسبب رذيلة يفعلها الممقُوتُ، وَساءَ سَبِيلًا: أي: بئْسَ الطريقُ والمنهجُ لِمَنْ يسلكه إذ عاقبته إلى عذاب اللَّه. قال ص: «سَاءَ» للمبالغةِ فِي الذمِّ ك «بِئْسَ» ، وسَبِيلاً: تفسيرُهُ، والمخصوص

_ - عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 30) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 238) ، وعزاه لابن أبي شيبة عن مجاهد. (1) تقدم تخريجه. (2) حاجب بن زرارة بن عدس، الدارمي التميمي، من سادات العرب في الجاهلية. كان رئيس تميم في عدة مواطن. وهو الذي رهن قوسه عند كسرى على مال عظيم ووفى به. وحضر يوم شعب جبلة (من أيام العرب المعروفة) قبل 19 أو 17 سنة من مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأدرك الإسلام وأسلم. وبعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على صدقات بني تميم، فلم يلبث أن مات نحو 3 هـ. تنظر ترجمته في: «الأعلام» (2/ 153) .

[سورة النساء (4) : آية 23]

بالذمِّ محذوفٌ، أي: سبيلُ هذا النكاحِ كقوله تعالى: بِئْسَ الشَّرابُ [الكهف: 29] ، أي: ذلِكَ الماءُ انتهى. [سورة النساء (4) : آية 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وقوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... الآية: حُكْمٌ حرَّم اللَّه به سبعاً من النَّسَب، وسِتًّا من بَيْنِ رضاعٍ وصهْرٍ، وأَلْحَقَتِ السنةُ المتواترةُ سابِعَةً، وهي الجَمْعُ بَيْنَ المرأةِ وعَمَّتها «1» ، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابْنِ عَبَّاس أنه قال: حرّم من النّسب

_ (1) وقد اختلف العلماء في الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها: فذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء إلى القول بحرمة الجمع بينهما، وعلى ذلك فمن كان تحته امرأة وعقد على عمتها أو خالتها كان النكاح فاسدا يجب فسخه مطلقا. وذهبت الرافضة، والخوارج، وبعض الشيعة، وعثمان البتي إلى القول بجواز الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وعليه فمن كان عنده امرأة، ثم عقد على عمتها أو خالتها كان النكاح صحيحا. استدل الخوارج والروافض بقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] . ووجه الدلالة من الآية الكريمة، أنهم قالوا: إن الله (سبحانه وتعالى) لم يذكر في التحريم بالجمع إلا الجمع بين الأختين، ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فدخلت المرأة وعمتها أو خالتها فيما أحل الله، وإذا حلت المرأة على عمتها أو خالتها، فيكون نكاحها عليها صحيحا. يقال لهم في هذا الدليل: إن قولكم بأن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ عام يشمل المرأة على عمتها أو خالتها غير صحيح لأن العموم في الآية مخصص بالأحاديث الصحيحة المشهورة التي تلقتها الأمة بالقبول. وأما الجمهور فقد استدلوا بالسّنّة والمعقول: أما السنة: فأولا ما روي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بين المرأة وخالتها» ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها بقوله: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها» الحديث، وهو خبر لفظا نهي معنى، فيكون الجمع بينهما حراما، وحيث حرم الجمع، فلو نكحهما معا بطل نكاحهما، وإن نكحهما مرتبا بطل نكاح الثانية لأن الجمع حصل بها. ثانيا: ما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها، ولا على بنت أختها» ، وفي بعض الروايات: «لا الصّغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصّغرى» ، فهذه الأحاديث بلغت حد الشهرة، وتلقتها الأمة بالقبول، وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل فوجب استعمال حكمها مع الآية فيكون قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ مستعملا فيما عدا الأختين-

سَبْعٌ، ومن الصِّهْرَ سَبْعٌ، وتلا هذه الآية «1» ، وقال عمرو بن سالم مِثْلَ ذلك، وجعل السابعةَ قولَهُ تعالى: وَالْمُحْصَناتُ «2» [النساء: 24] . وقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، أي: سواءٌ دَخَلَ بالبنْتِ، أو لم يَدْخُلْ، فبالعَقْدِ علَى البنْتِ حُرِّمَتِ الأُمُّ هذا الذي عليه الجمهورُ «3» . وقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ذَكَرَ الأغلَبَ من هذه الأمور إذ هذه

_ - وعدا من بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحريم الجمع بينهن، ولما كانت الأحاديث لا يعلم تاريخ ورودها، وجب أن تحمل على المقارنة، فتكون مخصصة لعموم الآية، ويكون الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها حراما. وأما المعقول، فقد قالوا: إن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها يفضي إلى القطيعة، والقرابة المحرمة للنكاح، إنما كانت محرمة لإفضائها إلى القطيعة، فيكون حراما لأن المفضي إلى الحرام حرام. وحيث بطل دليل المخالفين، وثبتت أدلة الجمهور ترجح لنا مذهبهم، وهو حرمة نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وأنه إذا وقع فالنكاح فاسد واجب الفسخ. (1) أخرجه الطبري (3/ 662) برقم (8945: 8950) ، وذكره ابن عطية (2/ 31) ، وابن كثير (1/ 469) ، والسيوطي (2/ 240- 241) . (2) أخرجه الطبري (3/ 662) برقم (8951) ، وذكره ابن عطية (2/ 31) . (3) ذهب الأئمة الأربعة إلى القول بعدم اشتراط الدخول بالبنت في تحريم الأم، وهو مذهب جمهور الصحابة، وأكثر أهل العلم عليه، حتى كان من قواعدهم المشهورة قولهم: «العقد على البنات يحرم الأمّهات» وعلى ذلك يحرم على الرجل أن يتزوج بأم من عقد عليها، ولم يدخل بها، وإذا حصل، وتزوج بها كان النكاح باطلا يجب فسخه. وذهب داود الظاهري وبشر المريس والزبير ومجاهد إلى القول بأنه لا يحرم على الرجل أن يتزوج بأم من عقد عليها ولم يدخل بها لأن العقد على البنت عندهم لا يحرم الأم حتى يصحبه دخول. وعلى هذا لو عقد على أم من عقد عليها ولم يدخل بها يكون النكاح صحيحا. استدل داود الظاهري ومن معه بقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: 23] ووجه الدلالة من هذه الآية: أنهم قالوا: إن الله (سبحانه) ذكر أمهات النساء، وعطف عليها الربائب، ثم أعقبهما بذكر الشرط، وهو الدخول فينصرف الشرط إليهما. ومما يؤيد أن الشرط راجع إليهما جميعا أنه روي عن علي بن أبي طالب ذلك، وقالوا أيضا: يصح أن يكون الموصول، وهو قوله تعالى: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ صفة للجملتين، فيتقيدا بالدخول، ويصير معنى الآية هكذا: وأمّهات نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ وربائبكم اللّاتي في حجوركم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ، يقال للظاهرية ومن معهم في الآية: إن محل رجوع الشرط المذكور في آخر كلمات الآية معطوف بعضها على بعض للجميع إذا كان مصرحا به، وأما الصفة المذكورة في آخر الكلام فتصرف إلى ما يليها فقط فإنك إذا قلت مثلا: جاءني محمد وخالد العالم، فإن صفة العلم تقتصر على خالد فقط، وقوله تعالى: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وصف بالدخول، فيقتصر على ما يليه فقط، وأما رواية أن علي بن أبي طالب قال ذلك فإنه رواها عنه خلاس بن عمر الهجري، وقد ضعفها العلماء. قال القرطبي: وحديث خلاس عن-

حالةُ الرَّبِيبَةِ في الأكْثَر، وهي محرَّمة، وإن لم تكُنْ في الحِجْرِ، ويقالُ: حِجْرٌ (بكسر الحاء، وفَتْحِها) ، وهو مقدَّم ثَوْبِ الإنسان وما بَيْنَ يديه منه، ثم استعملت اللفظةُ في الحفظ والسّتر. وقوله: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، قال ابن عبَّاس وغيره: الدخُولُ هنا الجماع «1» ،

_ - علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة والقول بأن الموصول يصح أن يكون صفة للجملتين باطل لأنه لو كان وصفا لهما للزم أن يكون وصفا لمعمولي عاملين مختلفين لأن العامل في «أمهات نسائكم» الإضافة، وفي «نسائكم» حرف الجر، وهو «من» ، فلو كان الدخول صفة لهما لأدى إلى اختلاف العامل في الصفة، واختلاف العامل على معمول واحد باطل، كالعطف على معمولي عاملين مختلفين، فتعين أنه ليس صفة عائدة إليهما، بل يجب أن يكون صفة لواحد منهما، وما يليه أولا، على أن الاحتياط في الفروج يقضي أن يجعل شرطا في الربيبة فقط. وأما الجمهور فقد استدلوا بالكتابة، والسنة والمعقول: أما الكتاب، فقول الله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ووجه الدلالة من الآية: أنهم قالوا: إن الله (سبحانه وتعالى) ذكر تحريم أمهات النّساء مطلقا من غير قيد بالدخول، فتحرم أمهات النّساء ولو لم يدخل بهن، ومما يؤيد إطلاق الآية الكريمة ما روي عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال في هذه الآية: «المرأة مبهمة، فأبهموا ما أبهم الله» أي أطلقوا ما أطلقه الله، وعمموا حكمها في كل حال، ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها. وأيضا فإن المعقود عليها يصدق عليها أنها من نسائه، فتدخل في قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. وأما السنة، فأولا: ما روي عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا نكح الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فله أن يتزوج ابنتها، وليس له أن يتزوج الأم» . وثانيا: ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نكح الرّجل المرأة، فلا يحلّ له أن يتزوّج أمّها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإن تزوّج الأمّ فلم يدخل بها ثمّ طلّقها، فإن شاء تزوّج البنت» أخرجاه في الصحيحين. فهذه الأحاديث صريحة في عدم حل أم الزوجة مطلقا، دخل بها، أو لم يدخل. وأما المعقول، فإنهم قالوا: إن هذا النكاح يفضي إلى قطيعة الرحم لأنه إذا طلق البنت، وتزوج أمها حملها ذلك على الضغينة التي هي سبب لقطيعة الرحم، وكل ما يفضي إلى قطيعة الرحم تحرمه الشريعة الإسلامية، لذلك نجدها تحرم الجمع بين المرأة وأختها، وبين المرأة وبنتها خوفا من قطيعة الرحم، وهذا المعنى يستوي فيه ما إذا دخل بالبنت، وما إذا لم يدخل بها بخلاف الأم حيث قلنا: لا تحرم بنتها بمجرد العقد عليها لأن إباحة نكاح البنت بعد العقد على أمها لا يفضي إلى القطيعة المحرمة، وذلك لما هو معروف عن الأم من الشفقة على بنتها، فهي تؤثرها على نفسها بخلاف البنت، فإنها لا تؤثر أمها على نفسها. يتبين لنا من بيان الأدلة ومن مناقشة أدلة المخالفين للجمهور رجحان مذهب الجمهور، لقوة أدلتهم، وسلامتها من الطعن، وعدم قوة معارضة غيرها لها. (1) أخرجه الطبري (3/ 664) برقم (8959) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 32) ، وابن كثير (1/ 471) بنحوه، والسيوطي (2/ 243) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.

وجمهورُ العلماءِ يقُولُون: إنَّ جميعَ أنواعِ التلذُّذ بالأُمِّ يُحَرِّمُ الإبنةَ كما يحرِّمها الجماعُ، والحلائلُ: جمع حليلة لأنها تحلّ مع الزَّوْج حيث حَلَّ، فهي فَعِيلَةٌ بمعنى فَاعِلَةٍ، وذهب الزَّجَّاج «1» وقومٌ إلى أنَّها مِنْ لفظة «الحَلاَلِ» ، فهي حليلةٌ بمعنى مُحَلَّلَةٍ. وقوله تعالى: الَّذِينَ/ مِنْ أَصْلابِكُمْ يخرُج مَنْ كانَتِ العربُ تتبنَّاه مِمَّنْ ليس للصُّلْب، وحُرِّمَتْ حليلةُ الابن مِنَ الرَّضَاعِ، وإنْ لم يكُنْ للصُّلْب بالإِجماع المستند إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» «2» . وقوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ: لفظٌ يعمُّ الجمْعَ بنكاحٍ وبملك يمين، وأجمعتِ الأمَّة على مَنْع جَمْعِهِمَا بنكاحٍ، ولا خلافَ في جواز جمعهما بالملك «3» ،

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 35) . (2) أخرجه مالك (2/ 601) كتاب «الرضاع» ، باب رضاعة الصغير، حديث (1) ، والبخاري (5/ 300) كتاب «الشهادات» ، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، حديث (2644) ، ومسلم (2/ 1068) كتاب «الرضاع» ، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، حديث (2/ 1444) ، والنسائي (6/ 102- 103) كتاب «النكاح» ، باب لبن الفحل، والدارمي (2/ 155- 156) كتاب «النكاح» ، باب ما يحرم من الرضاع. وعبد الرزاق (7/ 476) رقم (13952) ، وأحمد (6/ 178) ، وابن الجارود (687) ، وأبو يعلى (7/ 338) رقم (4374) ، والبيهقي (7/ 159) كتاب «النكاح» ، باب ما يرحم من نكاح القرابة والرضاع ... كلهم من طريق عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرّحمن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» وله لفظ آخر مطولا. وللحديث طريق آخر عن عائشة: أخرجه مالك (2/ 607) كتاب «الرضاع» ، باب جامع ما جاء في الرضاعة، حديث (15) ، والشافعي (2/ 19- 20) كتاب «النكاح» ، باب ما جاء في الرضاع، حديث (59) ، وعبد الرزاق (7/ 477) رقم (13954) ، وأحمد (6/ 44، 51) ، وأبو داود (2/ 545- 546) كتاب «النكاح» ، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، حديث (2055) ، والترمذي (3/ 453) كتاب «الرضاع» ، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، حديث (1147) ، وابن ماجة (1/ 623) كتاب «النكاح» ، باب يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، حديث (1937) . والنسائي (6/ 99) ، والدارمي (2/ 156) كتاب «النكاح» ، باب ما يحرم من الرضاع. وسعيد بن منصور (1/ 273) رقم (953) ، وابن حبان (4209- الإحسان) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 86) رقم (304) ، والبيهقي (7/ 159) كتاب «النكاح» ، باب ما يحرم من نكاح القرابة والرضاع. والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 333) من طرق عن عروة عن عائشة مرفوعا بلفظ: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» . وقال الترمذي: حسن صحيح. [.....] (3) أجمع المسلمون على أنه يحرم على الرجل أن يجمع بين الأختين بعقد نكاح، فمن كان عنده امرأة ثم عقد على أختها، فالعقد فاسد باتفاق المسلمين، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وهذا نص واضح لإفادة التحريم حيث إنه معطوف على أُمَّهاتُكُمْ والعطف يقتضي-

ومذْهَبُ مالكٍ أنَّ له أنْ يَطَأَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، والكَفُّ عن الأخرى موكولٌ إلى أمانَتِهِ، فإن أراد وطْءَ الأخرى، فيلزمه أنْ يحرِّم فَرْجَ الأولى بعتْقٍ، أو كتابةٍ، أو غَيْرِ ذلك وثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنه نهى أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» «1» ، وأجمعت الأُمَّة على ذلك.

_ - الشركة ولأن الجمع بينهما يفضي إلى قطيعة الرحم، وهي حرام، والمفضي إلى الحرام حرام، كما اتفقوا على أنه لو عقد عليهما معا في عقد واحد كان النكاح فاسدا، وكذلك إذا عقد عليهما، ولم تعلم السابقة منهما بطل نكاحهما إذ ليس تخصيص إحداهما بالبطلان في هذه الحالة بأولى من الأخرى. (1) هذا الحديث تواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورواه عنه جماعة من أصحابه رضوان الله عليهم، وهم: أبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وأبو الدرداء، وسمرة بن جندب، وعتاب بن أسيد، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص. وإليك تخريج أحاديثهم: حديث أبي هريرة: وله طرق كثيرة عنه، وقد رواه عنه جماعة من أصحابه، وهم: عامر الشعبي، والأعرج، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وقبيصة بن ذؤيب، وابن سيرين، وعراك بن مالك، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله، وعبد الملك بن يسار، وإبراهيم، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية. طريق الشعبي: علقه البخاري (9/ 160) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (5108) ، ووصله أبو داود (2/ 553) كتاب «النكاح» ، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، حديث (2065) ، والترمذي (3/ 433) كتاب «النكاح» ، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، حديث (1126) ، والنسائي (6/ 98) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها. والدارمي (2/ 136) كتاب «النكاح» ، باب الحال التي يجوز للرجل أن يخطب فيها. وأحمد (2/ 426) ، وعبد الرزاق (6/ 262) رقم (10758) ، وابن أبي شيبة (4/ 246) ، وسعيد بن منصور (1/ 208) رقم (652) ، وابن الجارود رقم (685) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 78- 79) رقم (273) ، وأبو يعلى (11/ 516- 517) رقم (6641) ، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص 392) ، والبيهقي (7/ 166) كتاب «النكاح» ، باب ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها. كلهم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 225- 226) من طريق ابن بزيع عن سليم مولى الشعبي عن الشعبي عن أبي هريرة مرفوعا به. طريق الأعرج: أخرجه مالك (2/ 532) كتاب «النكاح» ، باب ما لا يجمع بينه من النساء، حديث (20) ، والبخاري (9/ 160) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (5109) ، ومسلم (2/ 1028) كتاب-

وقوله تعالى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ: استثناء منقطعٌ، معناه: لكنْ ما قد سَلَفَ من ذلك، ووقع وأزالَهُ الإِسلام، فإن اللَّه تعالى يغفره، والإسلام يجبّه.

_ - «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، حديث (33/ 1408) ، والشافعي في «مسنده» (2/ 18) كتاب «النكاح» ، باب الترغيب في التزوج (50) ، والنسائي (6/ 96) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها، والدارمي (2/ 136) كتاب «النكاح» ، باب الحال التي يجوز للرجل أن يخطب فيها. وأحمد (2/ 465) ، وسعيد بن منصور (1/ 209) رقم (654) ، ومحمد بن نصر في «السنة» (ص 78) رقم (270، 271) ، والبيهقي (7/ 165) كتاب «النكاح» ، باب ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها. طريق أبي سلمة: أخرجه مسلم (2/ 1029) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، حديث (37/ 1408) ، والنسائي (6/ 97) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها، وسعيد بن منصور (1/ 208) رقم (650) ، وأحمد (2/ 229، 423) ، وعبد الرزاق (6/ 261) رقم (10755) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 78) رقم (269) . طريق قبيصة بن ذؤيب: أخرجه البخاري (9/ 160) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها (5110) ، ومسلم (2/ 1028) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، حديث (35/ 1408) ، وأبو داود (2/ 554) كتاب «النكاح» ، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، حديث (2066) ، والنسائي (6/ 96- 97) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها. وأحمد (2/ 401، 452، 518) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 78) برقم (272) ، والبيهقي (7/ 165) كتاب «النكاح» ، باب ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها. طريق ابن سيرين: أخرجه مسلم (2/ 1029) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، حديث (38/ 1408) ، والترمذي (3/ 433) كتاب «النكاح» ، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها (1125) ، والنسائي (6/ 98) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها. وابن ماجة (1/ 621) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (1929) ، وأحمد (1/ 474) ، وعبد الرزاق (6/ 261) رقم (10753) ، والطبراني في «المعجم الصغير» (1/ 88) ، وابن عدي في «الكامل» (1/ 416) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 307) ، والبيهقي (7/ 165) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. طريق عراك بن مالك: أخرجه مسلم (2/ 1028) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، حديث (34/ 1408) ، والنسائي (6/ 97) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها. والبيهقي (7/ 165) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها. وأخرجه النسائي (6/ 97) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها من طريق عراك بن مالك والأعرج معا عن أبي هريرة مرفوعا به. -

[سورة النساء (4) : الآيات 24 إلى 25]

[سورة النساء (4) : الآيات 24 الى 25] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

_ - طريق عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله: أخرجه ابن نصر في «السنة» (ص 78) رقم (272) من طريق عقيل عن الزهري عنهما عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنه نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها. طريق عبد الملك بن يسار: أخرجه النسائي (6/ 17) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 79) رقم (278) من طريق بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الملك بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» . طريق إبراهيم: أخرجه سعيد بن منصور (1/ 208) رقم (653) ثنا هشيم أنا المغيرة عن إبراهيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما صحفتها وللتزوج فإنما لها ما كتب لها» . طريق سعيد بن المسيب وأبي العالية: ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 419- 420) رقم (1263) قال: سمعت أبي يقول: حدثنا هارون بن محمد بن بكار عن أبيه عن سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب وأبي العالية عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يتزوج الرجل [المرأة] على عمتها أو على خالتها. قال أبي: يروي هذا الحديث ابن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية وسعيد بن المسيب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. قالا: بلغنا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينكح» وهو أشبه، وابن أبي عروبة أحفظ. اهـ. وطريق ابن أبي عروبة أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (4/ 37) وقال: المراسيل في هذا الحديث أولى. وقد اختلف على قتادة في هذا الحديث: فأخرجه العقيلي (4/ 37) من طريق أبي عاصم ثنا همام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها» . قال العقيلي: وقد قيل: عن أبي عاصم عن همام عن قتادة عن سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسل اهـ. وقد خالفه محمد بن بلال: أخرجه العقيلي (4/ 37) ، والبزار (2/ 165- كشف) من طريقه: ثنا هشام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها. قال البزار: لا نعلمه عن سمرة إلا من هذا الوجه، ولا نعلم رواه عن همام إلا محمد بن بلال ويعلى بن-

وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ عطْفاً على المُحَرَّمَاتِ، قيل: والتحصّن التمنّع، ومنه

_ - عباد، ومحمد أثبت من يعلى. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 266) وقال: رواه البزار، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ، ورجال البزار ثقات. حديث جابر: أخرجه البخاري (9/ 160) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (5108) ، والنسائي (6/ 98) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وأحمد (3/ 338) ، والطيالسي (1/ 308- منحة) رقم (1567) ، وعبد الرزاق (6/ 262) رقم (10759) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 79) رقم (273) ، وأبو يعلى في «مسنده» (3/ 408) رقم (1890) ، وابن عدي في «الكامل» (2/ 660) ، والبيهقي (7/ 166) كتاب «النكاح» ، باب الجمع بين المرأة وعمتها. من طريق عاصم بن سليمان عن الشعبي عن جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها. وقد خالفه داود بن أبي هند، فرواه عن الشعبي عن أبي هريرة- وقد مر تخريجه-. قال البيهقي: الحافظ يرون رواية عاصم خطأ. وقد رده الحافظ ابن حجر في «الفتح» (9/ 60) ، فقال: وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة. وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، والحديث محفوظ أيضا من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده. اهـ. وقد تابع أبو الزبير الشعبي على هذا الحديث: أخرجه النسائي (6/ 98) كتاب «النكاح» ، باب تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وابن جميع في «معجم الشيوخ» (ص 118- 119) رقم (69) و (ص 252- 253) رقم (212) من طريقين عن أبي الزبير عن جابر به. حديث علي بن أبي طالب: أخرجه أحمد (1/ 77- 78) ، وأبو يعلى (1/ 297) رقم (360) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 80) رقم (283) ، والبزار (2/ 164- كشف) رقم (1434) من طريق ابن لهيعة: ثنا عبد الله بن هبيرة عن عبد الله بن زرير عن علي بن أبي طالب، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها. قال البزار: لا نعلمه عن علي إلا بهذا الإسناد. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 266) ، وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. حديث عبد الله بن مسعود: أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (10/ رقم 9801) ، والبزار (2/ 165- كشف) رقم (1435) من طريق المنهال بن خليفة عن خالد بن سلمة عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله عن ابن مسعود مرفوعا بلفظ: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفىء ما في صحفتها» . قال البزار: لا نعلمه عن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد. -

الحِصْن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه مِنْ وُجُوه الاِمتناعِ، وأَحْصَنَتْ نَفْسَهَا، وأَحْصَنَهَا غيْرُها، والإحْصَانُ تستعمله العَرَبُ في أربعةِ أشياءَ، وعلى ذلك تصرَّفَتِ اللفظة في كتاب

_ - وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 266) : رواه الطبراني في «الكبير» ، وإسناده منقطع بين المنهال بن خليفة وعمرو بن الحارث بن أبي ضرار، ورجالهما ثقات اهـ. وهذا الكلام فيه نظر فإن المنهال لم يروه هنا عن عمرو بن الحارث، إنما رواه عن خالد بن سلمة عن عمرو بن الحارث. حديث عبد الله بن عمرو: أخرجه أحمد (2/ 179، 182، 189، 207) عن محمد بن جعفر عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» . قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 266) : ورجاله ثقات. وأخرجه محمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 80) رقم (280) من طريق الحسين بن ذكوان، وابن عدي في «الكامل» (5/ 328) من طريق الحكم، كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وللحديث طريق آخر عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استند إلى بيت، فوعظ الناس وذكرهم. قال: «لا يصلي أحد بعد العصر حتى الليل، ولا بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي رحم مسيرة ثلاث، ولا يعقد من امرأة على عمتها ولا على خالتها» . قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 266) : رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط» ... ورجال الجميع ثقات، إلا أن إسناد الطبراني الأول فيه محمد بن أبي ليلى، وهو ضعيف. حديث عبد الله بن عمر: أخرجه البزار (2/ 165- كشف) رقم (1436) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 80) رقم (284) من طريق كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. قال البزار: لا نعلم رواه عن الزهري هكذا إلا جعفر، ولا عنه إلا كثير. وقال الهيثمي في «المجمع» (40/ 266) : ورواه الطبراني في «الأوسط» ، والبزار ... ، ورجالهما رجال الصحيح. وقد أعل هذا الحديث أبو حاتم فقال ابنه في «العلل» (1/ 402- 403) رقم (1205) : سألت أبي عن حديث رواه كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى أن يجلس الرجل على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن تنكح المرأة على عمتها. قال أبي: هذان الحديثان خطأ يرويه عن جعفر عن رجل عن الزهري هكذا، وليس هذا من صحيح حديث الزهري، أما حديث «نهى أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها» فإن عقيلا رواه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وقبيصة بن ذؤيب عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو أشبه. وأما قصة المائدة، فهو مفتعل، ليس من حديث الثقات. وللحديث طريق آخر عن ابن عمر: أخرجه أبو يعلى في «معجم شيوخه» (ص 281) رقم (248) من طريق موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها. وموسى بن عبيدة الربذي: قال البخاري: منكر الحديث. (الضعفاء- 345) . وقال النسائي: ضعيف. (الضعفاء والمتروكين- 581) ، وكذلك ضعفه الدارقطني، فذكره في «الضعفاء» -

اللَّهِ عزَّ وجلَّ: فتستعملُهُ في الزَّوَاجِ لأنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ منعة وحفظ، وتستعمله في الحرِّيَّة

_ - (517) ، وقال: لا يتابع على حديثه. وقال الترمذي في «السنن» (3039) : موسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل. وقال البزار (1823- كشف) : لم يكن حافظا للحديث لتشاغله بالعبادة فيما نرى اهـ. فالحديث بهذا الإسناد ضعيف. حديث ابن عباس: أخرجه أحمد (1/ 372) ، وأبو داود (2/ 544) كتاب «النكاح» ، باب ما يكره أن يجمع من النساء، حديث (2067) ، والترمذي (3/ 432) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها. ومحمد بن نصر المروزي (ص 80) رقم (284) ، وابن حبان (1275- موارد) من طريق عكرمة عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين الخالتين والعمتين. واللفظ لأبي داود، وزاد ابن حبان قال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» . وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن حبان. حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه أحمد (3/ 67) ، وابن ماجة (1/ 621) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، حديث (1930) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 79) رقم (277) من طريق محمد بن إسحاق حدثني يعقوب بن عبد الله بن عتبة عن سليمان بن يسار عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن نكاحين: أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. قال الحافظ البوصيري في «الزوائد» (2/ 100) : هذا إسناد ضعيف لتدليس ابن إسحاق، وقد عنعنه. اهـ. قلت: وكلام البوصيري فيه نظر لأن ابن إسحاق صرح بالتحديث عند المروزي في «السنة» ، فالسند حسن. وللحديث طريق آخر: فأخرجه أبو محمد البخاري في «مسند أبي حنيفة» كما في «جامع المسانيد» للخوارزمي (2/ 103) بسنده عن أبي حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تتزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها» . ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (4/ 166) . وقال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه عطية، وهو ضعيف. وقد وثق، وفيه ضعيف آخر لا يذكر. حديث أبي موسى الأشعري: أخرجه ابن ماجة (1/ 621) كتاب «النكاح» ، باب لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، حديث (1931) : حدثنا جبارة بن المغلس، ثنا أبو بكر النهشلي، حدثني أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» . قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 100) هذا إسناد فيه جبارة بن المغلس وهو ضعيف. من طريق جبارة بن المغلس أخرجه أيضا أبو يعلى في «مسنده» (13/ 193) رقم (7225) ، وفي «معجم-

لأنَّ الإماء كان عُرْفُهُنَّ في الجاهليَّة الزِّنَا، والحُرَّةُ بخلافِ ذلك ألا ترى إلى قول هند:

_ - شيوخه» (ص 168) رقم (124) . حديث أبي الدرداء: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 267) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» . وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه راويان لم يسميا. حديث سمرة بن جندب: تقدم تخريجه أثناء حديث أبي هريرة، فليراجع. حديث عتاب بن أسيد: أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (17/ رقم 426) من طريق عبد العزيز بن محمد عن موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد عن عتاب بن أسيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» . قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 263- 264) : رواه الطبراني، وفيه موسى بن عبيدة الربذي هو ضعيف. واختلف على موسى في هذا الحديث: فأخرجه أبو يعلى في «معجم شيوخه» (ص 281) رقم (248) ، وابن عدي في «الكامل» (6/ 335) من طريق عبد الرّحيم بن سليمان عن موسى بن عبيدة الربذي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها. وزاد ابن عدي: ونهى عن الشغار، والشغار أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لهما صداق. حديث عائشة: أخرجه أبو يعلى (8/ 197- 198) رقم (4757) ، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص 80) رقم (282) من طريق عبيد الله بن عبد الرّحمن بن موهب قال: سمعت مالك بن محمد بن عبد الرّحمن قال: سمعت عمرة بنت عبد الرّحمن عن عائشة قالت: وجد في قائم سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابان في أحدهما: «ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» . ولفظ أبي يعلى مطولا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 295) وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير مالك بن أبي الرجال، وقد وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد. وذكره أيضا ابن حجر في «المطالب العالية» (1486) ، وعزاه لأبي يعلى. حديث سعد بن أبي وقاص: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 21) من طريق مؤمل بن إسماعيل: ثنا الثوري عن خالد بن سلمة المخزومي عن سعيد بن المسيب عن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» . قال ابن عدي: كذا قال لنا فيه ابن صاعد: عن سعيد بن المسيب، وقال غيره: عن محمد بن ميمون عن عيسى بن طلحة عن سعد، هكذا رواه عن ابن ميمون إبراهيم بن موسى التوزي. وحدثناه أحمد بن محمد بن سعيد عن عبد الله بن أبي سعد الوراق عن ابن ميمون كذلك، وهذا الحديث عن عيسى بن طلحة عن سعد أشبه من سعيد بن المسيب عن سعد لأنه قد روي عن عيسى بن-

«وهَلْ تَزْنِي الحُرَّةُ» ، وتستعمله في الإسلام لأنه حافظٌ، وتستعمله في العِفَّة «1» لأنها إذا ارتبط بها إنسانٌ، وظهرَتْ على شَخْصٍ مَّا، وتخلَّق بها، فهي مَنَعَةٌ وحفْظٌ. وحيثما وقعتِ اللفظة في القرآن، فلا تجدُها تخرُجُ عن هذه المعانِي، لكنَّها قد تقوى فيها بعضُ هذه المعانِي دُونَ بَعْض كما سيأتي بيانُهُ في مكانه (إن شاء اللَّه) . فقوله سبحانه في هذه الآية: وَالْمُحْصَناتُ قال فيه ابنُ عَبَّاس وغيره: هنَّ ذواتُ الأزواجِ، محرَّماتٌ إلاَّ ما ملكَتِ اليمينُ بِالسَّبْيِ «2» ، ورُوِيَ عن ابنِ شِهَابٍ أنه سُئِلَ عن هذه الآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ، فقال: نرى أنه حَرَّم في هذه الآية ذَوَاتِ الأزواجِ، والعَفَائِفَ مِنْ حَرَائِرَ ومملوكاتٍ، ولم يحلَّ شيءٌ من ذلك إلاَّ بنكاحٍ، أو شراءٍ، أو تملُّك «3» ، وهذا قولٌ حَسَنٌ عَمَّم لفظَ الإحصانِ، ولَفْظَ ملكِ اليمين، وذلك راجعٌ إلى أنَّ اللَّه حَرَّم الزنا، قال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وغيره: قوله سبحانه: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: إشارةٌ إلى ما ثبت من القرآن من قوله سبحانه: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «4» [النساء: 3] وفي هذا بعد،

_ - طلحة عن سعد موقوفا ومرسلا اهـ. وقد خولف مؤمل في هذا الحديث خالفه عبد الرزاق وأبو عامر، فروياه عن الثوري عن خالد بن سلمة المخزومي عن عيسى بن طلحة قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة. أخرجه عبد الرزاق (6/ 263) رقم (10767) ، وأبو داود في «المراسيل» (ص 182) رقم (208) . (1) قال صاحب «لسان العرب» : العفة: الكف عما لا يحل ويجمل: عف عن المحارم والأطماع الدّنيّة يعف عفة، وعفّا، وعفافا، وعفافة، فهو عفيف. وعفّ أي: كف، وتعفف، واستعفف وأعفه الله، وفي التنزيل: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً [النور: 33] فسّره ثعلب فقال: ليضبط نفسه بمثل الصوم، وفي الحديث: «من يستعفف يعفّه الله» أي: من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها. وقيل: الاستعفاف: الصبر، والنزاهة عن الشيء ومنه الحديث: «اللهمّ إنّي أسألك العفّة والغنى إلخ ... » . وعرف علماء الأخلاق فضيلة العفة بتعاريف متعددة مختلفة أهمها ما يأتي: أولا: عرفها حجة الإسلام الغزالي فقال: هي تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشّرع. ثانيا: عرفها محيي الدين بن العربي: بأنها ضبط النّفس عن الشهوات وقسرها على الاكتفاء بما يقيم الجسد، ويحفظ صحته. والّذي ألاحظه على هذين التعريفين قصر العفة على شهوات البدن فقط، مع أنها تتناول ملاذ الروح أيضا. (2) أخرجه الطبري (4/ 3) برقم (8962) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 34- 35) ، والسيوطي (2/ 246- 247) بنحوه. (3) أخرجه الطبري (4/ 8) برقم (9012) ، وذكره ابن عطية (2/ 35) ، والسيوطي (2/ 248) بنحوه، وعزاه لابن جرير عن ابن شهاب. (4) أخرجه الطبري (4/ 11) برقم (9018) ، (9019) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 36) ، وابن كثير-[.....]

والأظْهَرُ أنَّ قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجِزِ بَيْنَ الناسِ، وبَيْنَ ما كانَتِ الجاهليةُ تفعله. قال الفَخْر «1» : وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: مصْدَرٌ من غير لفظ الفَعْلِ، قال الزَّجَّاج: ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصُوباً على جهة الأَمْرِ، ويكون عَلَيْكُمْ خبراً له، فيكون المعنَى: الزموا كتابَ اللَّهِ. انتهى. وفي «التمهيد» لأبي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: أي: حكمه فيكُمْ وقضاؤُه عليكم. انتهى. وقوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَراءَ ذلِكُمْ، قال عطاء وغيره: المعنى: وأُحِلَّ لكم ما وراء مَنْ حُرِّم «2» ، قلْتُ: أي: على ما علم تفصيله من الشريعة. قال ع «3» : وأَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ: لفظ يجمع/ التزوّج والشراء، ومُحْصِنِينَ: معناه: متعفِّفين، أي: تُحْصِنُونَ أنفسكم بذلك، غَيْرَ مُسافِحِينَ، أي: غَيْرَ زُنَاةٍ، والسِّفَاحُ: الزنا. وقوله سبحانه: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، قال ابن عَبَّاس وغيره: المعنى: فإذا استمتعتم بالزوْجَة، ووَقَعَ الوطْء، ولو مرَّةً، فقد وجَب إعطاء الأجْرِ، وهو المهر «4» كلُّه، وقال ابنُ عَبَّاس أيضاً وغيره: إن الآية نزلَتْ في نكاح «5» ...

_ - (1/ 474) بنحوه، والسيوطي (2/ 249) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (1) ينظر: «تفسير الرازي» (10/ 35) . (2) أخرجه الطبري (4/ 12) برقم (9024) ، وذكره ابن عطية (2/ 36) ، وابن كثير (1/ 474) ، والسيوطي (2/ 249) ، وعزاه لابن جرير عن عطاء. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 36) . (4) أخرجه الطبري (4/ 13) برقم (9029) ، وذكره ابن عطية (2/ 36) ، والسيوطي (2/ 250) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس. (5) أصل المتعة في اللغة: الانتفاع، يقال: تمتعت بكذا، واستمتعت بمعنى، والاسم المتعة. قال الجوهري: ومنه: متعة النكاح، ومتعة الطلاق، ومتعة الحج لأنه انتفاع، والمراد بالمتعة هنا أن يتزوج الرجل المرأة مدة من الزمن، سواء أكانت المدة معلومة مثل أن يقول: زوجتك ابنتي مثلا شهرا. أو مجهولة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي إلى قدوم زيد الغائب، فإذا انقضت المدة، فقد بطل حكم النكاح، وإنما سمى النكاح لأجل بذلك لانتفاعها بما يعطيها، وانتفاعه بقضاء شهوته، فكان الغرض منها مجرد التمتع دون التوالد وغيره من أغراض النكاح. -

..

_ - وقد كانت المتعة منتشرة عند العرب في الجاهلية، فكان الرجل يتزوج المرأة مدة ثم يتركها من غير أن يرى العرب في ذلك غضاضة، فلما جاء الإسلام أقرهم على ذلك في أول الأمر، ولم نعلم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة إلا في غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة فقد روي عن علي (رضي الله عنه) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن متعة النّساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة» واستمر الأمر على ذلك، حتى فتح «مكة» حيث ثبت أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أباحها ثلاثة أيام، وفي بعض الروايات أنه أباحها يوم «أوطاس» ، ولكن الحقيقة أن ذلك كان في يوم الفتح، ومن قال: يوم «أوطاس» ، فذلك لاتصالها بها، ثم حرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إلى يوم القيامة. فيعلم من هذا أن المتعة كانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت في خيبر، ثم أبيحت يوم الفتح، ثم حرمت بعد ذلك إلى يوم القيامة، فتكون المتعة مما تناولها التحريم والإباحة مرتين.. وقد نشأ من هذا الاختلاف في المتعة بين الصحابة، فمنهم من يرى أن إباحة المتعة قبل خيبر كانت للضرورة وللحاجة، ثم لما ارتفعت الحاجة في خيبر نهى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم لما تجددت الحاجة عام الفتح أذن فيها، ولما ارتفعت الحاجة نهى عنها، وعليه فتكون المتعة مباحة عند الحاجة، وبهذا كان يقول ابن عباس (رضي الله عنهما) إلا أنه رجع عنه كما سيأتي بيانه. ومنهم من يرى أن نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة يوم خيبر كان نسخا لها، ثم رفع النسخ في يوم الفتح ثلاثة أيام، ثم نسخت بعد ذلك إلى يوم القيامة، وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة. وقد اختلف الفقهاء بعد ذلك في المتعة هل هي محرمة، فتكون من الأنكحة الفاسدة، أو مباحة، فتكون من الأنكحة الصحيحة. فذهب الجمهور إلى القول بتحريمها، وأنها من الأنكحة الفاسدة التي تفسخ مطلقا قبل الدخول وبعده، وهو مذهب الأئمة الأربعة. وذهب الإمامية من الشيعة إلى القول بإباحة نكاح المتعة إلى يوم القيامة، بل منهم من تغالى في ذلك وقال: إنها قربة، وعليه فالخلاف في المتعة بين الجمهور والإمامية. ولما لم أجد كتابا من كتب الإمامية أثق به لأستطيع استيفاء الكلام على مذهبهم في المتعة رأيت أن أكتفي بما قاله شرف الدين الصنعاني، وهو من علماء الشيعة فإنه بعد أن ذكر الحديث عن علي قال ما نصه: «والحديث يدل على تحريم نكاح المتعة للنهي عنه، وهو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم، وغايته إلى خمسة وأربعين يوما، ويرتفع النكاح بانقضاء الوقت المذكور في المنقطعة الحيض، والحائض بحيضتين، والمتوفى عنها بأربعة أشهر وعشر، ولا يثبت لها مهر ولا نفقة، ولا توارث، ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر، ولا نسب يثبت به إلا أن يشترط، وتحرم المصاهرة بسببه» . هكذا ذكره في بعض كتب الإمامية وإنا أذكر دليل الإمامية والرد عليه: استدل الإمامية على القول بإباحة المتعة بالكتاب، والأثر، والمعقول، والإجماع. أما الكتاب، فقول الله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء: 24] فإنهم حملوا الاستمتاع في الآية على المتعة، وقالوا: المراد بقوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أجر المتعة، ومما يؤيد أن الآية في المتعة قراءة أبي وابن عباس: «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل» ، فهي صريحة في المتعة. وأما الأثر: فأولا: بما روي أن ابن عباس كان يفتي بالمتعة، ووجه الدلالة من هذا أنهم قالوا: لو لم تكن-

..

_ - المتعة مباحة لما أفتى بها ابن عباس إذ لا يليق بمثله أن يفتي بها مع أنها محرمة. وثانيا: بما روي عن جابر (رضي الله عنه) قال: تمتعنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم نهانا عمر. ووجه الدلالة من هذا: أن جابرا (رضي الله عنه) أخبر أنهم استمتعوا في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي خلافة أبي بكر، وفي صدر من خلافة عمر، وهذا يدل على أن المتعة مباحة، وإنما نهى عنها عمر من باب السياسة الشرعية. وأما المعقول: فقد قالوا: إنها منفعة خالية من جهات القبح، ولا نعلم فيها ضررا عاجلا، ولا آجلا، وكل ما هذا شأنه فهو مباح، فالمتعة مباحة. وأما الإجماع: فإنهم قالوا: أجمع أهل البيت على إباحتها. وتناقش هذه الأدلة التي تمسك بها الإمامية بما يأتي: أما الآية، فيقال لهم فيها: إنها بمعزل عن الدلالة لكم إذ هي محمولة على النكاح الدائم، وما يجب للمرأة من المهر كاملا إذ استمتع بها الزوج، ويؤيد هذا أنها وردت في سياق الكلام على النكاح بالعقد المعروف بعد الكلام على أجناس يحرم التزوج بها. وتسمية المهر أجرا لا يدل على أنه أجر المتعة، فقد سمي المهر أجرا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب: 50] أي: مهورهن، وكقوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن، وأما قراءة أبيّ وابن عباس، فهي شاذة، والقراءة الشاذة لا تعارض القطعي، وهي الآية الدالة على التحريم، وهي قوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ مع أن الدليلين إن تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما، ويقال لهم فيما روي عن ابن عباس أنه ثبت رجوعه عنه، وقد كان يفتي بها أولا لأنه فهم من نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنها يوم خيبر، ثم إباحتها يوم الفتح، ثم نهيه عنها بعد ذلك- أن الإباحة كانت للضرورة، والنهي عند ارتفاعها يؤيد ذلك ما روي عن شعبة عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس سئل عن متعة النساء، فرخص فيها، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة، فقال ابن عباس: نعم فإنه يعلم من هذا أن ابن عباس كان يتأول في إباحة نكاح المتعة لمضطر إليه، ثم توقف بعد ذلك لما ثبت له النسخ. ومما يؤيد رجوع ابن عباس ما أخرجه الترمذي، أن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] و [المعارج: 30] فقال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام. وقد روى رجوعه أيضا البيهقي وأبو عوانة في صحيحه، وروي عنه أنه قال عند موته: «اللهمّ إنّي أتوب إليك من قولي في المتعة والصرف، وعليه فلا يصح الاحتجاج بفتوى ابن عباس، وقد رجع عنها» . ويقال لهم في أثر جابر: إن قوله: «تمتعنا إلخ ... » يحمل على أن من تمتع لم يبلغه النسخ، حتى نهى عنها عمر، أو يكون جابر (رضي الله عنه) قال ذلك لفعلهم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم لم يبلغه النسخ، حتى نهى عنها عمر، فاعتقد أن الناس باقون على ذلك لعدم الناقل عنده، والقول بأن عمر هو الذي نهى عنها، وأن ذلك من قبيل السياسة الشرعية غير مسلم فإن عمر إنما قصد الإخبار عن تحريم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونهيه عنها، إذ لا يجوز أن ينهى عما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أباحه وبقي على إباحته. ومما يؤيد أن نهيه-

..

_ - عنها ليس من قبيل السياسة الشرعية، بل إنه نهى عنها لما علم نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما روي من طريق سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر قال: صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها، لا أوتى بأحد نكحها إلّا رجمته» . ويقال لهم في المعقول: لا نسلم أنها منفعة خالية من جهات القبح، ولا ضرر فيها في الآجل ولا في العاجل، بل الضرر متحقق فيها فإن فيها امتهان المرأة، وضياع الأنساب فإنه مما لا شك فيه أن المرأة التي تنصب نفسها ليستمتع بها كل من يريد تصبح محتقرة في أعين الناس، وأيضا فهو معقول في مقابلة النص، وهو باطل. ويقال لهم في الإجماع: أولا: إن إجماع أهل البيت (على فرض إجماعهم) ليس بحجة، فما بالك والإجماع لم يصح عنهم؟! فهذا زيد بن علي، وهو من أعلمهم يوافق الجمهور، ثم إن الإمام عليا (رضي الله عنه) وهو رأس الأئمة عندهم يقول بتحريمها، فقد روي من طريق جويرية عن مالك بن أنس عن الزهري أن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، والحسن بن محمد حدثاه عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: إنك رجل تائه- أي: مائل- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة. وأما الجمهور، فقد استدلوا على تحريم نكاح المتعة بالكتاب، والسنة، والمعقول، والإجماع: أما الكتاب: فقول الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون: 5- 6] و [المعارج: 29- 30] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنها أفادت أن الوطء لا يحله إلا في الزوجة والمملوكة وامرأة المتعة لا شك أنها ليست مملوكة ولا زوجة. أما أنها ليست مملوكة، فواضح. وأما أنها ليست زوجة، فلأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله (تعالى) : وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: 12] الآية. وبالاتفاق لا توارث بينهما. وثانيا: لثبت النسب، بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» وبالاتفاق لا يثبت النسب. وثالثا: لوجبت العدة عليها لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة: 234 و 240] الآية. وأما السنة: فأولا: ما روى مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عن أبيهما عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية» ووجه الدلالة من الحديث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، فيكون نكاح المتعة فاسدا. والحديث يدل على نسخ ما تقدم من إباحتها. ثانيا: ما روي عن سبرة الجهني أنه غزا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في متعة النساء، وذكر الحديث إلى أن قال: فلم أخرج منها حتى حرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي رواية أنه كان مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلي سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» رواه أحمد ومسلم ووجه الدلالة من الحديث أنه يدل برواياته على تحريم نكاح المتعة، وقد جاء في الرواية الثانية التصريح بتحريمها إلى يوم القيامة، فيكون ذلك نسخا لإباحتها، وإذا ثبت ذلك فهي من الأنكحة الفاسدة. وأما المعقول: فقد قالوا: إن النكاح لم يشرع لقضاء الشهوة، بل شرع لأغراض ومقاصد يتوسل به إليها. واقتضاء الشهوة بالمتعة لا يقع وسيلة إلى المقاصد التي من أجلها شرع النكاح، فلا يكون مشروعا. -

..

_ - وأما الإجماع: فقد قالوا: إن الأمة امتنعت عن العمل بالمتعة مع ظهور الحاجة إلى ذلك، وما ذلك إلا لعلمهم بنسخها. وقد نوقشت أدلة الجمهور بما يأتي: أما حديث علي، فقد قيل لهم فيه: إنه وقع فيه كلام، حتى زعم ابن عبد البر أن ذكر النهي بيوم خيبر غلط. وقال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أهل السير ورواة الآثار. والذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري. وقد أشار ابن القيم إلى تقرير هذا التقديم والتأخير فقال: وأما نكاح المتعة، فثبت عنه أنه أحلها عام الفتح، وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح، واختلف هل نهى عنها يوم خيبر على قولين، والصحيح أن النهي إنما كان عام الفتح، وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية وإنما قال علي لابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن متعة النساء، ونهى عن الحمر الأهلية محتجا عليه في المسألتين، فظن بعض الرواة أن التقييد بيوم خيبر راجع إلى الفعلين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضهم أحد الفعلين، وقيده بيوم خيبر. وترد هذه المناقشة بأن أصحاب الزهري قد اتفقوا على أن نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة يوم خيبر، وهم حفاظ ثقات، وزيادة الحافظ الثقة تقبل. ولهذا قال عياض تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه، والقول بأنه وقع في لفظ الزهري تقديم وتأخير يخالفه ظاهر الحديث فإن ظاهره أن عام خيبر ظرف لتحريم نكاح المتعة. ومما يؤيد هذا الظاهر حديث ابن عمر الذي أخرجه البيهقي بإسناد قوي أن رجلا سأل عبد الله بن عمر عن المتعة، فقال: حرام، قال: فإن فلانا يقول فيها، فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمها يوم خيبر، وما كنا مسافحين. والذي يظهر أن القائلين بأن النهي يوم خيبر إنما كان عن لحوم الحمر الأهلية يحاولون بذلك استبعاد أن تكون المتعة قد نسخت مرتين لأنه ثبت النهي عنها يوم الفتح، ومعلوم أن يوم الفتح بعد خيبر، إذ أن خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وغزوة الفتح في السنة الثامنة فيلزم من ذلك نسخها مرتين. ونحن نرى أن لا داعي لهذه المحاولة ما دام الحديث ظاهرا في أن يوم خيبر ظرف لتحريم نكاح المتعة، ولا مانع من نسخها مرتين، ولها نظير في الشريعة الإسلامية، وهو مسألة القبلة فقد نسخت مرتين، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفا لليهود، وامتحانا للمسلمين الذين اتبعوه بمكة، ثم حول إلى الكعبة ثانيا. وقيل لهم في حديث سبرة الجهني: أن القول بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرمها إلى يوم القيامة معارض بما روي عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة في حجة الوداع كما عند أبي داود. وترد هذه المناقشة بأن هذا اختلف فيه عن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح لأنهم في فتح مكة شكوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم العزوبة، فرخص لهم فيها مدة ثم نسخها، وعلى تسليم صحة النهي عنها في حجة الوداع، فنقول: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعاد النهي في حجة الوداع ليسمعه من لم يكن سمعه قبل، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعي تحليلها. ويقال لهم في الإجماع: إنه غير مسلم فقد ثبت الجواز عن ابن عباس كما ثبت عن جماعة من التابعين. -

المُتْعة «1» ، قال ابنُ المُسَيَّب: ثم نُسِختْ «2» . قال ع «3» : وقد كانَتِ المتعةُ في صَدْرِ الإسلامِ، ثم نهى عنها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ، أي: مِنْ حَطٍّ أو تأخيرٍ بعد استقرار الفَريضَةِ، ومَنْ قال بأنَّ الآية المتقدِّمة في المُتْعَة، قال: الإشارةُ بهذه إلى أنَّ ما تراضَيَا علَيْه من زيادةٍ في مُدَّة المتعة، وزيادة في الأجر جائز.

_ - ويجاب عن هذا بأن ابن عباس صح عنه أنه رجع عن القول بحل المتعة، كما قدمنا فانعقد الإجماع على تحريمها. وأما خلاف بعض التابعين فإنه إن صح عنهم لم يضر بعد تقرر التحريم قبل حدوثهم. يتبين لنا من بيان الأدلة ومناقشاتها رجحان مذهب الجمهور من أن المتعة حرام، وهي من الأنكحة الفاسدة لقوة أدلتهم، وأنه لا عبرة بمخالفة الإمامية لما تبين من بطلان ما تمسكوا به من الأدلة. هذا وقد نسب بعض العلماء القول بصحة نكاح المتعة إلى إمام دار الهجرة (رضي الله عنه) قال صاحب «الهداية» من الحنفية: «ونكاح المتعة باطل، وهو أن يقول لامرأة: أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال» وقال مالك (رحمه الله) : «هو جائز» . وهذه النسبة باطلة فإن الإمام مالكا (رضي الله عنه) لم يقل بإباحة نكاح المتعة، ولا قال به أحد المالكية فإنهم جميعا اتفقوا على تحريم نكاح المتعة. ولأجل مخالفة هذه النسبة لمذهب المالكية نجد بعض علماء الحنفية أنكرها على صاحب «الهداية» . قال ابن نجيم في «البحر الرائق» : وما في «الهداية» من نسبته إلى مالك، فغلط كما ذكره الشارحون. والموجود في كتب المالكية إنما هو فيمن نكح نكاحا مطلقا، ونيته ألا يمكث معها إلا مدة نواها، فقالوا: إن ذلك جائز، وليس هو بنكاح متعة ولو علمت المرأة بنيته. وهذا لم ينفرد به المالكية بل قال به الجمهور، إلا ما روي عن الأوزاعي فقد قال: هذا نكاح متعة، ولا خير فيه. وقد قال الإمام مالك: ليس هذا من الجميل، ولا من أخلاق الناس. فإن قيل: ما الفرق بين هذا النكاح الذي نوى فيه الرجل الإقامة معها مدة نواها، وبين نكاح المتعة الذي قالت به الإمامية وقلتم ببطلانه؟؟ نقول: الفرق بينهما واضح، وهو أن نكاح المتعة الذي قلنا ببطلانه، والذي قالت به الإمامية دخلا فيه على تحديده بمدة معينة أو غير معينة. وأيضا فهو نكاح لا تترتب عليه أحكام النكاح من التوارث ولحوق النسب ووجوب العدة بخلاف هذا، فإنه وإن نوى الإقامة معها مدة إلا أنهما لم يدخلا على ذلك، وهو نكاح تترتب عليه آثاره، ففرق بينهما، غاية الأمر أنه نوى الإقامة معها مدة نواها، وهذا لا يضر لأن الرجل بيده الطلاق، فله أن يطلق في أي وقت شاء. ينظر: «الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير» (4/ 22) ، و «زاد المعاد» (4/ 8) ، و «الهداية» (2/ 384) . (1) أخرجه الطبري (4/ 14) برقم (9037) بنحوه، وذكره البغوي (1/ 414) ، وابن عطية (2/ 36) ، والسيوطي (2/ 250) بنحوه، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ذكره ابن عطية (2/ 36) ، والسيوطي (2/ 251) بنحوه، وعزاه لأبي داود في «ناسخه» ، وابن المنذر، والنحاس، والبيهقي. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 37) . [.....]

وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الطَّوْل هنا: السَّعَة في المالِ «1» وقاله مالِكٌ في «المُدَوَّنة» ، فعلى هذا التأويلِ لا يصحُّ للحُرِّ أنْ يتزوَّج الأَمَةَ إلاَّ باجتماع شرطَيْنِ: عَدَمِ السَّعَةِ في المالِ، وخَوْفِ العَنَتِ، وهذا هو نصُّ مالك في «المدوَّنة» . قال مالك في «المُدَوَّنة» : «ولَيْسَتِ الحُرَّة تحته بِطَوْل، إنْ خَشِيَ العَنَتَ» ، وقال في «كتاب محمَّد» ما يقتضِي أنَّ الحُرَّة بمثابة الطَّوْل. قال الشيخُ أبو الحَسَن اللَّخْمِيُّ: وهو ظاهرُ القرآن، ونحوه عنِ ابْنِ حَبيبٍ «2» . وقال أبو حنيفة: وجودُ الحُرَّة تحته لا يَجُوزُ معه نكاحُ الأَمَةِ وقاله «3» الطَّبَرِيُّ، وتقولُ: طَالَ الرَّجُلُ طَوْلاً (بفتح الطاء) إذا تفضَّل، ووَجَدَ، واتسع، وطُولاً (بضمها) : في ضِدِّ القصر، والْمُحْصَناتُ في هذا الموضع: الحرائرُ- والفتاةُ، وإن كَانَتْ في اللغة واقعةً على الشَّابَّة، أَيَّةً كانَتْ، فعرفها في الإماء، وفتى كذلك، والْمُؤْمِناتِ في هذا الموضع: صفةٌ مشترطةٌ عند مالك، وجمهور أصحابه، فلا يجوزُ نكاحُ أمةٍ كافرةٍ «4»

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 17) برقم (9052) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 37) ، والسيوطي (2/ 253) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ذكره ابن عطية (2/ 37) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 18) . (4) اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب إلى جوازه مع كونه خلاف الأولى الحنفية وأحمد في رواية، وهو المنقول في «العتبية» و «الواضحة» من سماع ابن القاسم عن مالك. وذهب الشافعية والحنابلة في ظاهر مذهبهم، والمالكية في المشهور عندهم إلى القول بعدم جواز التزوج مطلقا. استدل المانعون بالكتاب: أولا: قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] وجه الدلالة: أن الآية دلت على تحريم المشركات. والكتابية مشركة، فيحرم نكاحها حرة كانت أو أمة لاندراجها تحت العموم، لا أن الله (تعالى) خص الحرائر بالحل بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5] إذ المراد بالمحصنات الحرائر، فبقيت الإماء على أصل المنع وعدم الحل كالوثنيات والمجوسيات. ونوقش بأن المستدل منع فيما تقدم أن تكون الكتابية مشركة، ونفى إرادة الكتابية من لفظ «المشركات» في قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ، وكيف يصح هذا وقد خصهن العرف باسم آخر ولم يطلق عليهم اسم الشرك؟! يؤيده خصوصية كل منهما باللفظ، والعطف في أسلوب القرآن، فإن الأخير يقتضي المغايرة. ولو سلمنا اندراجهن تحت عموم المشركات وإرادتهن من اللفظ، فقد خرجن بالاتفاق على تخصيص هذا العموم بحل الحرائر من الكتابيات بآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، فلم تبق الآية على-

عندهم قُلْتُ: والعلَّة في مَنْعِ نكاحِ الأَمَةِ ما يئول إليه الحال من استرقاق الولد.

_ - عمومها فلا يحتج بها. ثم ما تقدم على القول بتفسير المحصنات بالحرائر. أما إن فسرت بالعفائف (كما جرى عليه الحنفية استنادا إلى أن الإحصان في كلام العرب عبارة عن المنع، وهو يحصل بالحرية والإسلام) . فاسم العفائف متناول للحرائر والإماء، فيكنّ في الحكم سواء. وحيث وقع الاتفاق على حل الحرائر، فالإماء كذلك لعدم الفصل في الدليل المبيح. وثانيا من الكتاب: قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: 25] دلت الآية على أن حل المتزوج بالإماء مشروط بشرطين هما إيمانهن وعدم قدرة المتزوج بهن على طول الحرة، فإذا انتفى الإيمان منهن (وهو أحد الشرطين) بأن كن كتابيات انتفى الحكم، وهو الحل، فيحرم نكاحهن بناء على أن الحكم متى علق بشرط أو أضيف إلى مسمى بوصف خاص، أوجب نفي الحكم عند عدم الشرط أو الوصف، فكان انتفاء الشرطين أو أحدهما وهو الإيمان مفيدا لتحريم الإماء. ونوقش بأن هذه الآية غاية ما تفيد وجود الحكم عند وجود الشرط، أما نفي الحكم عند نفي الشرط، فلم تتعرض له الآية، فلا دلالة فيها على التحريم إذ اللفظ لا يدل على خلاف الموضوع له. وغاية درجات الوصف إذا كان مؤثرا أن يكون علة، ولا تأثير للعلة في نفي الحكمة لأن عدم العلة لا يصلح أن يكون علة لعدم الحكم لكون العدمي لا يكون علة لحكم عدمي ولا وجودي، وعلى ذلك فالآية أفادت حل الإماء المؤمنات عند الشرط لا تحريم الكتابيات. ولو سلمنا للمستدل حجية المفهوم، فمقتضى مفهوم الآية عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الكراهة أو الحرمة لأنه لا دلالة للأعم على أخص بخصوصه. وعليه يجوز ثبوت الكراهة أو الحرمة على السواء لا ثبوت الحرمة بعينها، لكن لما كانت الكراهة أقل تعينت، وإليها مالت الحنفية. وصرح بذلك صاحب «البدائع» منهم. فإن قال قائل: إن الوصف بالإيمان يدل على الحرمة عند عدمه، فتحرم الأمة الكتابية لعدم تحقق وصف الإيمان فيها. ولهذا نظير معتبر متفق عليه وارد في القرآن الكريم هو قوله تعالى في كفارة القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء: 92] فقد وقع الاتفاق على عدم إجراء الرقبة الكافرة في هذه الكفارة لكونها مقيدة بالإيمان، فكأنهم اعتبروا الوصف الوارد في الآية. أجيب بأن تحرير الرقبة في كفارة القتل لم يشرع إلا مقيدة بالإيمان، بخلاف النكاح فقد شرح مطلقا ومقيدا. واستدل المانعون بالمعقول من وجهين: الوجه الأول: أن نكاح الإماء في الأصل ثبت ضرورة وما ثبت بالضرورة يقتصر على قدرها الوارد به النص. وقد ورد النص بحل الحرائر والإماء المؤمنات لكون الضرورة مرتفعة بهما، فلا تحل الإماء الكتابيات لعدم ورود النص بذلك. أما أن نكاح الإماء ثابت ضرورة، فلما فيه من تعريض الولد للرق الذي هو موت حكما، فكان كالإهلاك حسّا إذ به يخرج الشخص عن أن يكون منتفعا به في حق نفسه ملحقا بالعجماوات في البيع والشراء، وهلاك الجزء من غير ضرورة لا يجوز. والوجه الثاني: هو أن التزوج بالإماء الكتابيات يؤدي إلى تعريض ولد الحر المسلم لرق الكافر لأن الولد ينشأ رقيقا برق أمه، فإذا كانت الأم مملوكة لكافر وتزوجها حر مسلم نشأ الولد رقيقا برق أمه، -

وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، ومعناه: واللَّهُ أعلمُ ببَوَاطِنِ الأمور، ولكم ظواهرُها، فإذا كانَتِ الفتاةُ ظاهِرُها الإيمانُ، فنكاحها صحيح، وفي اللفظ

_ - مسلما بإسلام أبيه، مملوكا لكافر هو سيد أمه. ولا شك أن هذا التعريض محظور شرعا، فيحظر ما أفضى إليه، وهو التزوج بالأمة الكتابية إذ أن ما يفضي إلى المحظور يكون محظورا. ونوقش المعقول بوجهيه: بأن على تسليم كون نكاح الإماء فيه تعريض الولد للرق لا يفضي إلى التحريم بل يفيد الكراهة إذ لو كان محرما لما أجاز الشارع للعبد أن يتزوج بأمتين مع وجود العلة المذكورة في نكاحه، كما أن تحصيل الولد رقيقا مسلما أولى من عدم تحصيله أصلا لأن فيه تكثير المقرين بالوحدانية الأمر الذي هو المقصود الأصلي من النكاح. أما كون الولد حرا بعد كونه مسلما، فهو كمال يرجع إلى أمر دنيوي. وفي إمكان المتزوج بالأمة الكتابية عدم تحصيل الولد أصلا بنكاح من لا تلد فلا يتحقق المانع، فلا تحرم. أما كون النكاح فيه تعريض ولد الحر المسلم لرق الكافر، فهذا غير مطرد، ومؤثر في بعض الحالات دون بعض، وغاية ما يفيد الكراهة لا الحرمة. وهناك معقول ثالث: استدل به المانعون هو أن الأمة الكتابية جمعت بين نقصين مؤثرين في منع النكاح هما الكفر والرق، فيحرم نكاحها كالحرة المجوسية، حرمت لاجتماع نقصي الكفر وعدم الكتاب فيها. ونوقش: بأن المانع من نكاح الحرة المجوسية هو تغليظ كفرها بعدم الانتماء إلى نبي أو كتاب منزل، فأشبهت المشركة، ولا كذلك الأمة الكتابية فظهر الفرق بينهما. واستدل المجيزون بالكتاب والمعقول: أولا: الكتاب، وهو قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] الآية، وقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] . وجه الدلالة: أن العمومات التي اشتملت عليها هذه الآيات أفادت حل النكاح بالنساء مطلقا من غير تقييد بحرائر أو إماء بإيمان أو غير إيمان. ذلك لأن الآية أفادت حل النساء المستطابة مطلقا من غير تقيد بحرية أو غيرها. والآية الثانية أفادت حل المملوكات، وهو بإطلاقه شامل للكتابيات وغيرها. والآية الثالثة إنّما يتم الاستدلال بها على المطلوب إذا فسّرت المحصنات بالعفائف لأن العفيفة كما تكون حرة تكون أمة. دل عليه استثناؤها من المحصنات في قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 24] ، فكان لفظ «المحصنات» متناولا للإماء كما هو متناول للحرائر. ونوقش: بأن هذه العمومات المستدل بها مراد بها الحرائر دون الإماء، شهد بذلك سياق الآيات ففي سياق قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ وقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء: 4] والمملوكة سيدها هو المتولي قبض مهرها، فكان هذا دليلا على خصوصية الحرائر بالآية لأنهن اللائي يقبضن مهورهن. وكذا قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 3] سيق لبيان عدم اشتراط العدل في نكاح المملوكات دون الحرائر. أما قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فلا دلالة فيها على حل نكاح الإماء لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معان مختلفة، وليس بعام حتى يجري على مقتضى لفظه، فكان مجملا موقوفا على البيان معناه. ووقوع الاتفاق على أن حل الحرائر من الكتابيات مستفاد من الآية مشعر بورود بيان يفيد ذلك. أما الإماء، فعدم البيان في حقهن مبق لهن على أصل المنع والتحريم. وأجيب: بأن دعوى سوق العمومات في الحرائر دون الإماء لا تمنع دلالة العمومات على حل الإماء-

أيضاً: تنبيهٌ على أنهُ ربَّما كان إيمانُ أَمَةٍ أَفْضَلَ مِنْ إيمانِ بعضِ الحرائرِ، فلا تَعْجَبُوا بمعْنَى الحُرِّيَّة، والمَقْصِدُ بهذا الكلامِ أنَّ الناس سواءٌ، بَنُو الحرائرِ، وبَنُو الإمَاءِ، أكرمهم عنْدَ اللَّهِ أتقاهُمْ، وفي هذا توطئَةٌ لنفوسِ العَرَبِ التي كانَتْ تَسْتَهْجِنُ ولَدَ الأَمَةِ. وقوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، معناه: بولايةِ أربابِهِنَّ المالكين، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، أي: مُهُورَهُنَّ، بِالْمَعْرُوفِ: معناه: بالشَّرْع والسُّنَّة، ومُحْصَناتٍ: الظاهرُ أنه بمعنى عفيفاتٍ. قال ص: مُحْصَنَاتٍ: منصوبٌ على الحَالِ، والظَّاهِرُ أنَّ العَامِلَ وآتُوهُنَّ، ويجوزُ أَنْ يَكُونَ العامِلُ: فانكحوهن مُحْصَنَاتٍ، أي: عفائفَ. انتهى. والمسافِحَاتُ: الزوانِي المتبذِّلاتُ اللَّوَاتِي هُنَّ سُوقٌ للزِّنا، ومتَّخِذَاتُ الأخدانِ هنَّ المُسْتَتِرَاتُ اللواتِي يصحبن واحداً واحداً، ويَزْنينَ خفيةً، وهذان كانا نَوْعَيْن في زنا الجاهليَّة قاله ابنُ عبَّاس وغيره «1» .

_ - الكتابيات إذ ليس هناك ما يمنع ثبوت حكم بسياق اللفظ وآخر بإشارته. وما استندوا إليه من الاتفاق على حل الحرائر لا ينهض حجة لهم لأن التحريم لا يثبت إلا بنص، فما لم يرد يكون حكم العموم جاريا على أفراده، وهاهنا كذلك، فتكون العمومات متناولة للحرائر والإماء على أن الراجح إرادة العفائف من المحصنات لا غيرها في هذا المقام، كما روي هذا عن جماعة من السلف. وأيده كون العفة من معاني الإحصان، وورود القرآن الكريم بذلك، وما عدا هذا المعنى من معاني الإحصان فغير مراد لعدم قيام الدليل، وحيث كانت العفة هي المرادة وهي صادقة على الحرائر والإماء، وجب اعتبار عموم العفة في تناولها للحرائر والإماء، فوجب القول بحل الإماء الكتابيات لأنها من أفراد العام في الآية. واستدلوا ثانيا بالمعقول، وهو قياس الأمة الكتابية على الأمة المسلمة بجامع جواز وطء كل منهما بملك اليمين، فحيث جاز نكاح الأمة المسلمة اتفاقا، جاز كذلك نكاح الأمة الكتابية. ونوقش: بأن وطء الإماء بملك اليمين أقل شأنا من وطئهن بملك النكاح. وثبوت الحكم في الأدنى غير مستلزم ثبوته في الأعلى، ولذا كانت الأمة المسلمة يجوز وطؤها بملك اليمين، وعند وجود حرة تحت الزوج يمتنع، ولو كانت حرة لا أمة لجاز النكاح. وأجيب: بأن ما استظهر به من منع نكاح الأمة المسلمة عند وجود حرة، لا يصلح علة في جميع الأحوال، بل هو علة لجواز الأمة منفردة غير مجموعة إلى غيرها، ومن هنا كانت الأمة المسلمة يجوز وطؤها بملك اليمين، ويجوز نكاحها منفردة، وحين تكون تحت الزوج حرة يمتنع نكاحها من جهة أخرى هي جمعها مع حرة. ينظر: «أثر الاختلاف في الأحكام» لشيخنا بدران أبو العينين. (1) أخرجه الطبري (4/ 22) برقم (9076) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 39) ، والسيوطي (2/ 254) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ ... الآية، أي: تزوَّجْن، قال الزُّهْرِيُّ وغيره: فالمتزوِّجة محدودةٌ بالقرآن، والمُسْلِمَةُ غير المتزوِّجة محدودةٌ بالحديث، وفي مسلمٍ والبخاريُّ، «أنه قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الأَمَةُ إذَا زَنَتْ، ولَمْ تُحْصَنْ» ، فأوْجَبَ/ علَيْها الحدَّ» والفاحشة «1» ، هنا الزّنا.

_ (1) أخرجه البخاري (4/ 369) كتاب «البيوع» ، باب بيع العبد الزاني، حديث (2153) ، ومسلم (3/ 1329) كتاب «الحدود» ، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث (33/ 1704) ، ومالك (2/ 826) كتاب «الحدود» ، باب جامع ما جاء في الزنا، حديث (14) ، وأبو داود (2/ 556) كتاب «الحدود» ، باب في الأمة تزني ولم تحصن، حديث (4469) ، وابن ماجة (2/ 857) كتاب «الحدود» ، باب إقامة الحدود على الإماء، حديث (2565) ، والدارمي (2/ 181) كتاب «الحدود» ، باب في المماليك يقيم عليهم سادتهم الحدود دون السلطان، وأحمد (4/ 116، 117) ، والشافعي في «الأم» (6/ 135) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 300- منحة) رقم (1528) ، والحميدي (2/ 355) رقم (812) ، وعبد الرزاق (7/ 393) رقم (13598) ، وابن أبي شيبة (9/ 513) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (821) ، وابن حبان (4427- الإحسان) ، والطبراني في «الكبير» (5/ 238) رقم (5201، 5202، 5203، 5204، 5205، 5206، 5207) ، والدارقطني (3/ 162) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (236) ، والبيهقي (8/ 242) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في حد المماليك، كلهم من طريق عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة. والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (1/ 300- منحة) رقم (1527) من طريق زمعة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن زيد بن خالد الجهني- وحده- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، فإن عادت فليجلدها، فإن عادت فليجلدها، فإن عادت فليبعها ولو بضفير من شعر» . وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة وحده، وسيأتي تخريجه مع ماله من الشواهد: أخرجه البخاري (4/ 432) كتاب «البيوع» ، باب بيع العبد الزاني، حديث (2152) ، ومسلم (3/ 1328) كتاب «الحدود» ، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث (30/ 1703) ، وأحمد (2/ 494) ، وأبو داود (2/ 566) كتاب «الحدود» ، باب في الأمة تزني ولم تحصن، حديث (4470) ، والحميدي (2/ 463) رقم (1082) ، والشافعي (2/ 79) كتاب «الحدود» ، باب الزنا، حديث (256) ، وعبد الرزاق (7/ 392) رقم (13597، 13599) ، وأبو يعلى (11/ 419) رقم (6541) ، والدارقطني (3/ 160- 161) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (236) ، والبيهقي (8/ 242) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في حد المماليك، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 471- بتحقيقنا) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري- قال بعضهم: عن أبيه- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت الأمة فتبين زناها، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة، فليبعها ولو بحبل من شعر» . قلت: وقع في هذا الإسناد اختلاف فقد رواه الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وقد وافقه على ذلك محمد بن إسحاق. ورواه بعضهم عن سعيد عن أبي هريرة دون ذكر أبيه، كإسماعيل وعبيد الله بن عمر وأيوب بن موسى ومحمد بن عجلان وعبد الرّحمن بن إسحاق، ووقع-

قال ص: وجوابُ: «إذَا» : «فإنْ أتَيْنَ» ، وجوابه. انتهى.

_ - في رواية عبد الرّحمن تصريح سعيد بسماعه عن أبي هريرة فقال: سمعت أبا هريرة قال الحافظ في «الفتح» (12/ 172) : ووافق الليث على زيادة قوله: «عن أبيه» محمد بن إسحاق، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، ووافق إسماعيل [ابن أمية] على حذفه عبيد الله بن عمر العمري عندهم، وأيوب بن موسى عند مسلم والنسائي، ومحمد بن عجلان وعبد الرّحمن بن إسحاق عند النسائي، ووقع في رواية عبد الرّحمن المذكور عن سعيد سمعت أبا هريرة ... اهـ. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة: أخرجه الترمذي (4/ 37) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في إقامة الحد على الإماء، حديث (1440) ، والنسائي في «الكبرى» (4/ 299) كتاب «الرجم» ، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت كلاهما من طريق أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثلاثا بكتاب الله، فإن عادت فليبعها ولو بحبل من شعر» . قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. اهـ. وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي صالح عن أبي هريرة به. أخرجه النسائي في «الكبرى» (4/ 299) كتاب «الرجم» ، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (7242) . وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 358) من طريق سعد بن سعيد عن سفيان عن الأعمش عن حبيب عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت الأمة فاجلدوها، فإن عادت فاجلدوها، فإن عادت فاجلدوها، فإن عادت فبيعوها ولو بضفير» . قال ابن عدي: ذكر الأعمش غير محفوظ، إنما هو عن الثوري عن حبيب نفسه، وهذه الأحاديث التي ذكرتها لسعد بن سعيد عن الثوري وعن غيره مما ينفرد فيها سعد عنهم، وقد صحب سعد الثوري بجرجان في بلده، روى عنه غرائب، وسأله عن مسائل كثيرة، فتلك المسائل معروفة عنه، ولسعد غير ما ذكرت من الأحاديث غرائب وأفراد غريبة تروى عنهم، وكان رجلا صالحا، ولم تؤت أحاديثه التي لم يتابع عليها من تعمّد منه فيها أو ضعف في نفسه ورواياته إلا لغفلة كانت تدخل عليه، وهكذا الصالحين، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما، لأنهم كانوا غافلين عنه، وهو من أهل بلدنا، ونحن أعرف به. اهـ. وسعد ذكره الذهبي في «المغني في الضعفاء» (1/ 254) رقم (2343) وقال: سعد بن سعيد الساعدي عن الثوري، وهاه أبو نعيم. اهـ. قلت: وقد خالفه عبد الرّحمن بن مهدي، فرواه عن الثوري عن حبيب عن أبي صالح عن أبي هريرة، ولم يذكر فيه الأعمش. أخرجه النسائي (4/ 299- الكبرى) كتاب «الرجم» ، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (7241) عن محمد بن بشار- بندار- عن عبد الرّحمن بن مهدي به. وينظر: «تحفة الأشراف» (9/ 342) . وللحديث شواهد عن عائشة، وابن عمر، وعبد الله بن زيد. 1- حديث عائشة: أخرجه ابن ماجة (2/ 857) كتاب «الحدود» ، باب إقامة الحدود على الإماء، حديث (2566) ، -

والْمُحْصَناتِ في هذه الآية: الحَرَائِرُ إذ هي الصفَةُ المَشْرُوطة في الحدِّ الكامِلِ، والرَّجْمُ لا يتنصَّف، فلم يُرَدْ في الآية بإجماع، والعَنَتُ في اللغة: المَشَقَّة. قال ابنُ عباسٍ وغيره: والمَقْصِدُ به هنا الزنا «1» .

_ - والنسائي في «الكبرى» (4/ 303) كتاب «الرجم» ، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (7264) كلاهما من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عمار بن أبي فروة أن محمد بن مسلم حدثه أن عروة حدثة أن عمرة بنت عبد الرّحمن حدثته أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زنت الأمة فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير» . وقد رواه عروة وعمروة عن عائشة: أخرجه النسائي في «الكبرى» (4/ 303) كتاب «الرجم» ، باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت، حديث (7265) ، وابن عدي في «الكامل» (5/ 74) كلاهما من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمار بن أبي فروة أن محمد بن مسلم حدثه أن عروة وعمرة حدثاه أن عائشة حدثتهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:.. فذكره. وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (3/ 324) من طريق الليث عن حبيب عن عمار بن أبي فروة، أن محمد بن مسلم حدثه أن عمرة بنت عبد الرّحمن حدثته أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:.. فذكر الحديث. قلت: وهذا كله من ضعف عمار بن أبي فروة فمرة يرويه عن محمد عن عروة عن عمرة عن عائشة ومرة يرويه عن محمد عن عروة وعمرة عن عائشة، ومرة يرويه عن محمد عن عمرة عن عائشة. والحديث ذكره البوصيري في «الزوائد» (2/ 310) ، وقال: هذا إسناد ضعيف عمارة- كذا قال، والصواب عمار- ابن أبي فروة قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وذكره العقيلي وابن الجارود في «الضعفاء» ، وذكره ابن حبان في «الثقات» فما أجاد اهـ. 2- حديث ابن عمر: ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 455) رقم (1366) فقال: سألت أبي عن حديث رواه مسلم بن خالد عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زنت أمة أحدكم فاجلدوها ... » الحديث قال أبي: هذا خطأ إنما هو ما رواه بشر بن المفضل عن إسماعيل بن أمية عن المقبري عن أبي هريرة. اهـ. 3- حديث عبد الله بن زيد: أخرجه النسائي في «الكبرى» (4/ 298) كتاب «الرجم» ، باب حد الزاني البكر، حديث (7238) من طريق أبي أويس عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه (وكان شهد بدرا) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولن بضفير» . قال النسائي: أبو أويس ضعيف، وإسماعيل ابنه أضعف منه. قلت: وعم عباد بن تميم هو عبد الله بن زيد كما في «تحفة الأشراف» (4/ 340) للحافظ المزي. وفي «التحفة» قول النسائي: أبو أويس ليس بالقوي. (1) أخرجه الطبري (4/ 27) برقم (9113) ، (9114) ، وذكره ابن عطية (2/ 39) ، والسيوطي (2/ 255) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : الآيات 26 إلى 28]

وقوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني: عَنْ نكاحِ الإماء قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «1» : وهذا نَدْبٌ إلى التَّرْك وعِلَّتُهُ مَا يؤَدِّي إلَيْه نكاحُ الإِماءِ مِن استرقاق الوَلَدِ ومِهْنَتِهنَّ. [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ... الآية: التقديرُ عندَ سيبَوَيْهِ: يريد اللَّهُ لأنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ، ويَهْدِيَكُمْ، بمعنى: يُرْشِدَكُمْ، والسُّنَنُ: الطُّرُقُ، ووجوهُ الأمورِ، وأَنحاؤُها، والَّذِينَ مِنْ قبلنا: هم المؤمِنُونَ مِنْ كُلِّ شريعةٍ. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ... الآية: مَقْصِدُ هذه الآيةِ الإخبارُ عن إرَادَة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فقُدِّمَتْ إرادةُ اللَّه تعالى تَوْطِئَةً مُظْهِرة لفسَادِ إرادة مُتَّبِعِي الشهواتِ، واختلف المتأوِّلون في تَعْيينِ مُتَّبِعِي الشَّهَوَات، فقال مجاهدٌ: هم الزناةُ «2» ، وقال السُّدِّيُّ: هم اليهودُ والنصارى «3» ، وقالَتْ فرقة: هم اليهودُ خاصَّة لأنَّهم أرادوا أنْ يتبعهم المُسْلِمُونَ في نِكَاحِ الأَخَوَاتِ مِنَ الأب، وقال ابنُ زَيْد: ذلك على العمومِ في هؤلاءِ، وفي كُلِّ متَّبعِ شهوةٍ «4» ورجَّحه الطبريُّ «5» . وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... الآية: أي: لَمَّا علمنا ضَعْفَكُمْ عَنِ الصَّبْر عن النِّساء، خَفَّفنا عَنْكم بإباحة الإماء، قاله مجاهدٌ وغَيْره «6» ، وهو ظاهرُ مقصودِ الآيةِ، ثم بَعْدَ هذا المَقْصِدِ تَخْرُجُ الآية مَخْرَجَ التفضُّلِ لأنها تتناوَلُ كُلَّ ما خفَّفه اللَّه سبحانَهُ عَنْ عباده، وجعله الدِّينَ يُسْراً، ويقع الإخبار عن ضَعْف الإنسان عامّا حسبما هو

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 29) برقم (9129) ، وذكره ابن عطية (2/ 39) . (2) أخرجه الطبري (4/ 31) برقم (9130- 9131- 9132- 9133) بنحوه، وذكره البغوي (1/ 417) ، وابن عطية (2/ 40) ، والسيوطي (2/ 257) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....] (3) أخرجه الطبري (4/ 31) برقم (9134) ، وذكره البغوي (1/ 417) ، وابن عطية (2/ 40) ، والسيوطي (2/ 257) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (4/ 31) برقم (9135) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 40) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 39) . (6) أخرجه الطبري (4/ 32) برقم (9136) ، وذكره ابن عطية (2/ 40) ، وابن كثير (1/ 479) ، والسيوطي (2/ 257) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 31]

في نَفْسه ضعيفٌ يستَمِيلُهُ هواه في الأغْلَب. [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 31] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً ... الآية: الاستثناء منقطعٌ، المعنى: لكنْ إنْ كانَتْ تجارةً، فكُلُوها، وأخْرَجَ البخاريُّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللَّه» «1» . انتهى. وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، أجمع المتأوِّلون على أنَّ المقصودَ بهذه الآية النهْيُ عن أنْ يقتُلَ بعْضُ الناسِ بَعْضاً، ثم لفظها يتناوَلُ أنْ يقتل الرجُلُ نَفْسَهُ بقَصْدٍ منه للقتل، أو بأنْ يحملها على غَرَرٍ، رُبَّمَا ماتَ مِنْهُ، فهذا كلُّه يتناوله النَّهْيُ، وقد احتج عمرو بن العاصي بهذه الآيةِ حين امتنع مِنَ الاغتسال بالمَاءِ الباردِ خَوْفاً على نفسه منه، فقرّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتجاجه «2» .

_ (1) أخرجه البخاري (5/ 53، 54) ، كتاب «الاستقراض» ، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها وإتلافها، حديث (2387) ، وابن ماجة (2/ 806) ، كتاب «الصدقات» ، باب التشديد في الدين، حديث (2411) ، وأحمد (2/ 361، 417) ، والبيهقي (5/ 354) ، والبغوي في «شرح السنة» (4/ 351 بتحقيقنا) ، كلهم من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (1/ 454) ، كتاب «التيمم» ، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض، تعليقا في أول الباب، وأحمد (4/ 203) ، وأبو داود (1/ 338) ، كتاب «الطهارة» ، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، الحديث (334) ، والدارقطني (1/ 178) ، كتاب «الطهارة» ، باب التيمم، الحديث، والحاكم (1/ 177) ، كتاب «الطهارة» ، والبيهقي (1/ 225) ، كتاب «الطهارة» ، باب التيمم في السفر إذا خاف الموت، فأما أحمد فمن طريق ابن لهيعة، وأما الباقون، فمن طريق جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرّحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص قال: «احتملت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا عمرو.. صليت بأصحابك وأنت جنب؟! فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء: 29] فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئا» . ورواه أبو داود (335) ، والدارقطني (1/ 178) ، كتاب «الطهارة» ، باب التيمم (13) ، الحاكم (1/ 177) ، والبيهقي (1/ 225) من طريق عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرّحمن بن جبير عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرو بن العاص كان على-

وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً ... الآية: اختلف في المُشَارِ إلَيْه ب «ذَلِكَ» . فقال عطاء: «ذَلِكَ» عائدٌ على القَتْل لأنه أقربْ مَذْكُور، وقالتْ فرقةٌ: «ذلك» عائدٌ على أَكْلِ المالِ بالباطِلِ، وقَتْلِ النَّفْسِ، وقالَتْ فرقةٌ: «ذَلِكَ» : عائدٌ على كُلِّ ما نُهِيَ عَنْه مِنْ أوَّل السورةِ، وقال الطبريُّ «1» : «ذَلِكَ» عائدٌ على ما نُهِيَ عنه مِنْ آخر وعيدٍ، وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء: 19] لأنَّ كلَّ ما نهي عنه قبله إلى أول السُّورة، قُرِنَ به وعيدٌ. قال ابنُ العَرَبيِّ «2» في «أحكامه» : والقول الأول أصحُّ، وما عداه محتملٌ. انتهى. والعدوانُ: تَجَاوُزُ الحَدِّ. قال ص: عُدْواناً وَظُلْماً: مصدرانِ في مَوْضِعِ الحال، / أي: متعدّين وظالِمِينَ، أبو البقاء: أو مفعولٌ من أجله. انتهى. واختلف العلماءُ في «3» الكبائِرِ. فقال ابنُ عبَّاس وغيره: الكبائرُ: كلُّ ما وَرَدَ علَيْه وعيدٌ بنارٍ، أو عذابٍ، أو لَعْنَةٍ، أو

_ - سرية ... فذكر الحديث. وفيه: «فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلّى بهم» ، وليس فيه ذكر التيمم. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، والذي عندي أنهما عللاه بحديث جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب. اهـ. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس: أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 234) رقم (11593) من طريق يوسف بن خالد السمتي: ثنا زياد بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلّى بالناس وهو جنب، فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكروا ذلك له، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن ذلك فقال: يا رسول الله خشيت أن يقتلني البرد، وقد قال الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فسكت عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 267) ، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب. (1) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 39) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 411) . (3) ينظر الكلام على الكبائر في: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 279) ، و «منهاج العقول» للبدخشي (2/ 344) ، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (100) ، و «حاشية البناني» (2/ 152) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (3/ 49) ، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 175) ، و «أعلام الموقعين» لابن القيم (4/ 305) ، و «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (3/ 45) .

ما أشبه ذلك «1» . وقال ابن عبَّاس أيضاً: كلُّ ما نَهَى اللَّه عنه، فَهُوَ كَبِيرٌ «2» ، وعلَى هذا القول أئمَّة الكلامِ القاضِي، وأبو المَعَالِي، وغَيْرُهما قالوا: وإِنما قيل: صغيرةٌ بالإِضافة إِلَى أكبر منها، وإِلاَّ فهي في نفسها كبيرةٌ منْ حيْثُ المَعْصِيُّ بالجميع واحدٌ، واختلف العلماءُ في هذه المسألة، فجماعةٌ من الفقهاءِ والمحدِّثين يَرَوْنَ أنَّ باجتنابِ الكبَائرِ تُكَفَّر الصغائرُ قطْعاً، وأما الأصوليُّون، فقَالُوا: مَحْمَلُ ذلك علَى غَلَبة الظَّنَّ، وقُوَّةِ الرجاءِ، لا علَى القَطْع، ومَحْمَلُ الكبائرِ عند الأصوليِّين في هذه الآيةِ أجناسُ الكُفْر، والآيةُ التي قَيَّدت الحُكْمَِ، فتردُّ إِلَيْها هذه المُطْلَقات كلُّها: قوله تعالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] . وكَرِيماً: يقتضي كَرَمَ الفضيلةِ، ونَفْيَ العيوب كما تقول: ثَوْبٌ كريمٌ، وهذه آية رجاء، ورَوى أبو حاتم الْبُسْتِيُّ في «المُسْنَدِ الصَّحِيح» له، عن أبي هريرةَ وأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم جَلَسَ علَى المِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه» ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثم سَكَتَ، فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَبْكِي حَزِيناً لِيَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤَدِّي الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَجْتَنِبُ الكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمانِيَةُ أَبْوَابِ مِنَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى إِنَّها لَتُصَفِّقُ، ثُمَّ تَلاَ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ... «3» الآية» . انتهى من «التذكرة» للقرطبيِّ، ونحوُهُ ما رواه مُسْلِمٌ، عن أبي هريرةَ، قَالَ: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةَ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» «4» قال القرطبيُّ «5» : وعلَى هذا جماعةُ أهل التأويل، وجماعةُ الفقهاءِ، وهو الصحيحُ أنَّ الصغائر تُكَفَّرُ باجتنابِ الكبائرِ قَطْعاً بِوَعْدِ اللَّهِ الصِّدْق، وقولِهِ الحَقِّ سبحانه، وأما الكَبَائِرُ، فلا تكفِّرها إِلا التوبةُ منْهَا. انتهى. قلْتُ: وفي «صحيح مُسْلِمٍ» ، عن أبي هريرة (رضي اللَّه عنه) أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 44) برقم (9213) ، وذكره ابن عطية (2/ 43- 44) ، وابن كثير (1/ 486) ، والسيوطي (2/ 261) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (4/ 43) برقم (9202) ، وذكره ابن عطية (2/ 44) ، وابن كثير (1/ 486) ، والسيوطي (2/ 261) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في «الشعب» . (3) أخرجه النسائي (5/ 8) ، كتاب «الزكاة» ، باب وجوب الزكاة، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 316) ، وابن خزيمة (315) ، وابن حبان (1748) ، والبيهقي (10/ 187) كلهم من طريق سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر عن صهيب مولى العتواريين عن أبي هريرة مرفوعا. (4) تقدم تخريجه. [.....] (5) ينظر: «تفسير القرطبي» (5/ 104) .

[سورة النساء (4) : الآيات 32 إلى 33]

قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . انتهى «1» . [سورة النساء (4) : الآيات 32 الى 33] وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) وقوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ... الآية: سَبَبُ الآيةِ أنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: لَيْتَنَا اسْتَوَيْنَا مَعَ الرِّجالِ في المِيرَاثِ، وشَارَكْنَاهُمْ في الغَزْوِ، ورُوِيَ أنَّ أمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ ذَلِكَ، أو نحوه «2» ، وقال الرِّجَالُ: لَيْتَ لَنَا فِي الآخِرَةِ حَظّاً زَائِداً عَلَى النِّسَاءِ كَمَا لَنَا عَلَيْهِنَّ فِي الدُّنْيَا، فنزلَتِ الآية. قال ع «3» : لأنَّ في تَمَنِّيهم هذا تحكُّماً على الشِّريعة وتطرُّقاً إِلى الدَّفْع في صَدْر حَكْم اللَّه تعالَى، فهذا نَهْيٌ عن كُلِّ تَمَنٍّ بخلاف حُكْم شرعيٍّ، وأما التمنِّي في الأعمال الصَّالحة، فذلك هو الحَسَن، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «وَدِدتُّ أنَ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أحياء، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا ... » الحديث «4» . وفي غير موضع ولقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32] . قال القُشَيْرِيُّ: سمعْتُ الشيخ أبا عَلِيٍّ يقولُ: مِنْ علاَمَاتِ المَعْرفة أَلاَّ تسأل حوائجَكَ، قَلَّتْ أَوَ كَثُرَتْ إِلاَّ مِنَ اللَّهِ تعالَى مِثْلُ موسَى اشتاق إِلَى الرُّؤْية، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ، واحتاج مرَّةً إِلى رغيفٍ، فقال: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24]

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 300) والثوري في «تفسيره» (ص 241- 242) كلاهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة به. وأخرجه أحمد (6/ 301) والطبراني في «الكبير» (23/ 298) رقم (665) من طريق عبد الله بن رافع عن أم سلمة وأخرجه أحمد (6/ 305) والنسائي في «الكبرى» (6/ 431) كتاب «التفسير» ، باب قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ حديث (11405) والطبراني في «الكبير» (23/ 294) رقم (650) من طريق عثمان بن حكيم ثنا عبد الرّحمن بن شيبة عن أم سلمة به والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 379) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه والفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 44- 45) . (4) تقدم تخريجه.

انتهى من «التحبير» . وقوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ... الآية: قالَتْ فرقة: معناه: من الأجْر، والحسناتِ، فكأنه قِيلَ للنَّاس: لا تَتَمَنَّوْا في أمرٍ مخالف لما حكم اللَّه بِهِ لاختيارٍ تَرَوْنَهُ أَنْتُمْ، فإِن اللَّه تعالَى قَدْ جَعَلَ لكلِّ أحدٍ نصيباً من الأجْر والفَضْلِ بحَسَب اكتسابِهِ فيما شَرَعَ لَهُ، وهذا قولٌ حَسَن، وفي تعليقه سبحانه النَّصِيبَ بالاِكتسابِ حَضٌّ علَى العَمَل، وتنبيهٌ على كَسْب الخير. وقوله سبحانه: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، قال ابنُ جُبَيْر وغيره: هذا في فَضْل العباداتِ، والدِّينِ، لا في فضل الدنيا «1» ، وقال الجُمْهُور: ذلك على العمومِ، وهو الذي يقتضيه اللفظ، فقوله: وَسْئَلُوا اللَّهَ يقتضي مفْعولاً ثانياً، تقديره: واسألوا اللَّهَ الجَنَّة أو كثيراً من فضله. وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ... أي: ولكلِّ أحدٍ، قال ابنُ عَبَّاس وغيرهِ: المَوَالِي هنا العَصَبَةُ والوَرَثَةُ، والمعنَى: ولكلِّ أحدٍ جعلْنا موالِيَ يَرِثُونَ ممَّا تَرَكَ الوالدان والأقربُونَ. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ رفْعٌ بالاِبتداءِ، والخَبَرُ في قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. واختُلِفَ من المراد ب «الَّذِينَ» . فقال الحسن وابنُ عبَّاس وابنُ جُبَيْر وغيرهم: هم الأحْلاَفُ، فإِنَّ العرب كانَتْ تتوارَثُ بالحِلْفِ، ثم نُسِخَتْ بآيَات الأنْفَالِ: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2» [الأنفال: 75] . وقال ابنُ عباس أيضاً: هم الذين كَانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخَى بينهم، كانوا يتوارَثُونَ بهذه الآيةِ حتى نُسِخَ ذلك بما تقدَّم «3» . وقال ابنُ المسيَّب: هم الذين كانوا يتبنّون «4» .

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 51) برقم (9254) ، وذكره البغوي (1/ 421) ، بنحوه، وابن عطية (2/ 45) ، والسيوطي (2/ 267) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. (2) أخرجه الطبري (4/ 54) برقم (9267- 9269- 9268) ، وذكره ابن عطية (2/ 46) ، وابن كثير (1/ 489) ، والسيوطي (2/ 268) بنحوه. (3) أخرجه البخاري (4580) . (4) أخرجه الطبري (4/ 57) برقم (9289) ، وذكره ابن عطية (2/ 46) .

[سورة النساء (4) : آية 34]

قال ع «1» : ولفظةُ المُعَاقَدَةِ والأَيْمَانِ ترجِّح أنَّ المراد الأحلاف. [سورة النساء (4) : آية 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وقوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ بناء مبالَغَةٍ، وهو من القِيَامِ على الشيْءِ والاِستبدادِ بالنَّظَر فيه، وحِفْظِهِ، فقيامُ الرِّجَال «2» على النساء هو علَى هذا الحدِّ، وتعليلُ ذلك بالفضيلة والنَّفَقةِ يقتضي أنَّ للرجالِ علَيْهِنَّ استيلاءً، قال ابنُ عَبَّاس: الرِّجَالُ أمراء على النِّسَاءِ. قال ابنُ العَرَبِّيِّ «3» في «أحكامه» : وللرِّجَالِ عليهنَّ درجةٌ لفَضْلِ القَوَّامِيَّة، فعلَيْه أنْ يَبْذُلَ المَهْرَ والنَّفَقَةَ، وَحُسْنَ العِشْرة، وَيَحْجُبَهَا ويأمُرَهَا بطَاعَةِ اللَّه تعالَى، ويُنْهِيَ إِلَيْهَا شَعَائِرَ الإِسلامِ مِنْ صلاةٍ، وصيامٍ وما وَجَب عَلَى المُسْلمين، وعلَيْها الحِفْظُ لمالِهِ، والإِحسانُ إِلَى أهْلِهِ، والاِلتزامُ لأَمْرِهِ في الحجبة وغيرها إِلاَّ بإِذنه، وقَبُولُ قولِهِ في الطَّاعات. انتهى. و «ما» مصدريةٌ في الموضِعَيْنِ، والصَّلاَحُ في قوله: فَالصَّالِحاتُ هو الصلاح في الدّين، وقانِتاتٌ: معناه: مطيعاتٌ لأزواجِهِنَّ، أو لِلَّهِ في أزواجِهِنَّ، حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ: معناه: لكلِّ ما غاب عَنْ عَلْم زَوْجِها ممَّا اسْتُرْعِيَتْهُ، وروى أبو هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ، إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا» ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية «4» . وقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ: «ما» : مصدريةٌ، تقديره: بِحِفْظِ اللَّه، ويصحُّ أنْ تكون بمعنى «الَّذِي» ويكون العائدُ في «حَفِظَ» ضميرَ نَصْبِ، أي: بالذي حَفِظَهُ اللَّهُ، ويكون المعنَى: إِمَّا حِفْظُ اللَّهِ ورعايَتُه الَّتي لا يَتِمُّ أمْرٌ دونها، وإِما أوامره ونَوَاهيه للنساء، فكأنها حِفْظُهُ، بمعنى أنَّ النساء يَحْفَظْنَ بإِزاء ذلك وبقدره. وقوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ... الآية: النُّشُوزُ: أنْ تتعوَّج المرأة، ويرتفع خلقها/، وتستعلي على زوجها «5» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 46) . (2) في أ: الرجل. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 416) . (4) أخرجه أبو داود الطيالسي (2325) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. (5) أخرجه الطبري (4/ 60) برقم (9301) ، وذكره ابن عطية (2/ 47) ، وابن كثير (1/ 491) ، والسيوطي (2/ 271) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. عن ابن عباس. [.....]

وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ: قال ابن عبَّاس: يضاجِعُها، ويولِّيها ظَهْرَهُ، ولا يجامِعُهَا «1» ، وقال مجاهدٌ: جنبوا مُضاجَعَتَهُنَّ «2» ، وقال ابنُ جُبَيْر: هي هِجْرة الكلام، أيْ: لا تكلِّموهُنَّ، وأعرضوا عَنْهُنَّ «3» ، فيقدَّر حذفٌ، تقديره: واهجروهُنَّ في سبب المَضَاجِعِ، حتَّى يُرَاجِعْنَهَا. م: قوله: فِي الْمَضاجِعِ، ذكر «4» أبو البقاءِ فيه وجْهَيْن «5» : الأول: أنَّ «في» علَى بابها مِنَ الظرفية، أي: اهجروهنَّ في مواضِعِ الاِضطجاعِ، أي: اتركوا مضاجَعَتَهُنَّ دون تَرْك مكالمتهن. الثاني: أنَّها بمعنى السَّبَب، أي: اهجروهنَّ بِسَبَبِ المَضَاجِعِ كما تقول: في هذه الجنايةِ عُقُوبَةٌ. انتهى، وكونُها للظرفيَّة أظهرُ، واللَّه أعلم. والضَّربُ في هذه الآية: هو ضَرْبُ الأدب غَيْرُ المُبَرِّح، وهو الذي لا يَكْسِرُ عَظْماً، ولا يَشِينُ جارحة، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اضْرِبُوا النِّسَاءَ إِذا عَصَيْنَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ» قال عطاء: قُلْتُ عَبَّاسٍ: مَا الضَّرْبُ غَيْرُ المُبَرِّحِ؟ قَالَ: بِالشِّرَاكِ وَنَحْوِه «6» . قال ابن العربي «7» في «أحكامه» : قوله عز وجل: وَاضْرِبُوهُنَّ ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً، لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلاَّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِع، وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِن انْتَهَيْنَ، فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ» «8» . وفي هذا دليلٌ علَى أنَّ الناشز لا نَفَقَةَ لها ولا كسوة، وأنّ الفاحشة هي

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 66) برقم (9349) ، (9353) ، وذكره البغوي (1/ 423) بنحوه، وابن عطية (2/ 48) ، وابن كثير (1/ 492) ، والسيوطي (2/ 277) ، وعزاه لابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (4/ 67) برقم (9359) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 48) ، وابن كثير (1/ 492) ، والسيوطي (2/ 277) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة. (3) ذكره ابن عطية (2/ 48) . (4) في أ: قال. (5) في أ: تقدير. (6) أخرجه الطبري (4/ 71) رقم (9387- 9388) ، وذكره ابن عطية (2/ 48) ، والسيوطي (2/ 278) ، وعزاه لابن جرير عن عطاء قال: قلت لابن عباس. (7) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 420) . (8) أخرجه الترمذي (3/ 67) في الرضاع: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163) ، وابن ماجة (1/ 594) في النكاح، باب حق المرأة على الزوج (1851) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 372) في عشرة-

البَذَاءُ ليس الزِّنَا كما قال العلماء، ففسَّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الضرْبَ، وبَيَّن أنه لا يكونُ مُبَرِّحاً، أي: لا يَظْهَر له أثَرٌ على البدن. انتهى. قال ع «1» : وهذه العظةُ والهَجْر والضَّرْب مراتبُ، إِنْ وقعتِ الطاعةُ عنْدَ إِحداها، لم يتعدَّ إلى سائرها، وتَبْغُوا: معناه: تطلبوا، وسَبِيلًا: أي: إِلى الأذَى، وهو التعنيتُ والتعسُّف بقَوْلٍ أو فعلٍ، وهذا نهْيٌ عن ظُلْمِهِنَّ، وحَسُنَ هنا الاِتصافُ بالعلوِّ والكِبْر، أي: قَدْرُهُ سبحانه فَوْقَ كُلِّ قدْرٍ، ويده بالقُدْرة فَوْق كلِّ يدٍ فلا يستعلي أحدٌ بالظُّلْم على امرأتِهِ، فاللَّه تعالَى بالمرصاد، وينظر إِلَى هذا حديثُ أبي مسعودٍ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمِي، فَسَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مسعود، فصرفت وجهي، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عليك منك على هذا العبد ... » الحديث «2» .

_ - النساء، باب كيف الضرب (9169/ 1) من طريق الحسين بن علي عن زائدة عن شبيب بن غرقدة البارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص حدثني أبي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلا، إلا أن لكم من نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» ، وهذا لفظ النسائي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ويشهد له حديث حكيم بن معاوية عن أبيه أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: «يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت» . رواه أبو داود (2/ 244) في النكاح: باب في حق المرأة على زوجها (2142) ، وابن ماجة (1/ 593- 594) في النكاح: باب حق المرأة على الزوج (1850) ، والنسائي في التفسير (1/ 381) (124) ، وأحمد (4/ 446، 447) ، (5/ 3، 5) ، والطبراني في «الكبير» (19/ 999- 1002، 1034، 1038، 1039) ، وابن حبان (1286- موارد) ، والحاكم (2/ 187- 188) ، والبيهقي (7/ 295، 305، 466- 467) والبغوي في «شرح السنة» (5/ 119) برقم (2323) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 48) . (2) أخرجه مسلم (3/ 1280- 1281) ، كتاب «الأيمان» ، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، حديث (34/ 1659) ، وأبو داود (2/ 762) ، كتاب «الأدب» ، باب في حق المملوك، حديث (5159) ، والترمذي (4/ 335) كتاب «البر والصلة» ، باب النهي عن ضرب الخدم وشتمهم، حديث (1948) ، وأحمد (4/ 120، 5/ 273، 274) ، وعبد الرزاق (17959) ، والبيهقي (8/ 10) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 245) رقم (684) . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

[سورة النساء (4) : آية 35]

[سورة النساء (4) : آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا ... الآية: اختلف من المأمور بالبَعْثَةِ. فقيل: الحُكَّام «1» ، وقيل: المُخَاطَب الزَّوْجَانِ، وإِليهما تقديمُ الحَكَمَيْنِ، وهذا في مَذْهب مالك، والأول لربيعةَ وغيره، ولا يُبْعَثُ الحَكَمَانِ إِلاَّ مع شدَّة الخوْفِ والشِّقَاقِ، ومذهبُ مالك وجمهورِ العُلَمَاءِ: أنَّ الحَكَمَيْن يَنْظُران في كلِّ شيء، ويحملان على الظَّالم، ويُمْضِيَان ما رَأَياه مِنْ بقاء أو فراقٍ، وهو قولُ عليَّ بنِ أبي طالب في «المدوَّنة» وغيرها «2» . وقوله: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً، قال مجاهد وغيره: المرادُ الحَكَمَانِ، أي: إِذا نَصَحَا وقَصَدَا الخَيْرَ، بُورِكَ في وَسَاطتهما «3» ، وقالتْ فرقةٌ: المرادُ الزَّوْجَان، والأول أظهرُ، وكذلك الضميرُ في بَيْنِهِما، يحتمل الأمرين، والأظهر أنه للزّوجين، والاتصاف بعليم خبير: يناسب ما ذكر من إرادة الإصلاح. [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 37] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ... العبادة/: التذلُّل بالطَّاعة، وإِحساناً، مصدرٌ، والعاملُ فيه فِعلٌ، تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدين إِحساناً، وَبِذِي القُرْبَى: هو القريبُ النَّسَبِ مِنْ قِبَلِ الأبِ والأُمِّ، قال ابنُ عبَّاس وغيره: والجَارُ ذو القربَى: هو القريبُ النَّسَبِ، والجَارُ الجُنُبِ: هو الجَارُ الأجنبيُّ «4» ، وقالَتْ فرقة: الجَارُ ذو

_ (1) في أ: الحاكم. (2) أخرجه الطبري (4/ 74) برقم (9408- 9409) ، وذكره البغوي (1/ 424) بنحوه، وابن عطية (2/ 49) ، والسيوطي (2/ 279) ، وعزاه للشافعي في «الأم» ، وعبد الرزاق في «المصنف» ، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» ، عن عبيدة السلماني. (3) أخرجه الطبري (4/ 79) برقم (9431) ، وذكره ابن عطية (2/ 49) ، والسيوطي (2/ 280) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد. [.....] (4) أخرجه الطبري (4/ 80- 82) برقم (9438: 9449) ، وذكره ابن عطية (2/ 50) ، وابن كثير (1/ 494) ، والسيوطي (2/ 282) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» من طرق، عن ابن عباس.

القربَى: هو الجارِ القريبُ المَسْكنِ منْكَ، والجار الجُنُب هو البعيدُ المَسْكن منْكَ، والمُجَاورة مراتِبُ بعضُها أَلْصَقُ من بعض أدناها الزَّوْجَة. قال ابنُ عباس وغيره: الصَّاحِبُ بالجَنْبِ: هو الرفيقُ في السَّفَر «1» . وقالَ عليُّ بنْ أبي طَالِبِ، وابنُ مَسْعود، وابنُ أبي لَيْلَى وغيرهم: هو الزوجَةُ «2» ، وقال ابنُ زَيْدٍ: هو الرجلُ يعتريكَ ويُلِمُّ بك لتنفعه «3» ، وأسند الطبريُّ «أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وهُمَا عَلَى راحلتين، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غَيْضَةً «4» ، فَقَطَعَ قَضِيبَيْنِ، أَحَدُهَمَا مُعْوَجٌّ، وخَرَجَ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ القَوِيمَ، وَحَبَسَ هُوَ المُعْوَجَّ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: كُنْتَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَقَّ بِهَذَا، فَقَالَ لَهُ: «يَا فُلاَنُ، إِنَّ كُلَّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ الآخَرَ، فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ، وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهِارٍ» «5» ، قلْتُ: وأسند الحافظ محمَّد بن طاهر المقدسيّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» «6» . انتهى من «صفوة التصوُّف» . وفي الحديثِ الصحيح، عنِ ابن عمر، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» ، أخرجه البخاريُّ، وأخرجه أيضاً من طريق عائشة (رضي الله عنها) «7» انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 83) برقم (9458) ، وذكره ابن عطية (2/ 51) ، وابن كثير (1/ 495) ، والسيوطي (2/ 284) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الشعب» عن ابن عباس. (2) ذكره ابن عطية (2/ 51) . (3) أخرجه الطبري (4/ 85) برقم (9482) ، وذكره البغوي (1/ 425) ، وابن عطية (2/ 51) . (4) الغيضة: هي الشجر الملتف. ينظر: «النهاية» (3/ 402) . (5) أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 85) برقم (9483) . (6) أخرجه الترمذي (4/ 333) ، كتاب «البر والصلة» ، باب ما جاء في حق الجوار، حديث (1944) ، وابن حبان (2051- موارد) ، وابن خزيمة (2539) ، وأحمد (2/ 167- 168) ، والحاكم (1/ 443) ، والدارمي (2/ 215) من حديث عبد الله بن عمرو. (7) ورد ذلك من حديث عائشة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، وحديث جابر بن عبد الله، ومحمد بن مسلمة، ورجل من الأنصار: فأما حديث عائشة، فأخرجه البخاري (10/ 455) في الأدب: باب الوصاة بالجار (6014) ، وفي «الأدب المفرد» (99) ، ومسلم (4/ 2025) في البر والصلة: باب الوصية بالجار، والإحسان إليه (140- 2624) . وأبو داود (2/ 760) في الأدب: باب في حق الجوار (5151) ، والترمذي (4/ 293) في البر والصلة: باب ما جاء في حق الجوار (1942) ، وابن ماجة (2/ 1211) في الأدب: باب حق الجوار (3673) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 26- 27) ، وأحمد (6/ 52، 238) ، والخرائطي-

وابنُ السَّبِيلِ: المسافرُ، وسُمِّيَ ابْنُهُ للزومه له، وما ملكت أيمانكم: هم العبيد الأرقّاء.

_ - في «مكارم الأخلاق» (ص 36) ، والبيهقي (7/ 27) من طرق عن عمرة عنها به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها. وأخرجه أحمد (6/ 91، 125، 187) ، وأبو يعلى (4590) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 307) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (ص 36) ، والخطيب في «التاريخ» (4/ 187) من طريق زبيد عن مجاهد عنها. وأما حديث ابن عمر، فأخرجه البخاري (6015) ، ومسلم (141/ 2625) ، وأحمد (2/ 85) ، والطبراني في «الكبير» (12/ 360) (13340، 3343) ، والخرائطي (ص 37) ، والبيهقي (7/ 27) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 470) برقم (3381) من طريق عمر بن محمد عن أبيه عنه مرفوعا. وكذا رواه البخاري في «الأدب المفرد» (102) . وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه أبو داود (5152) ، والترمذي (1943) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (103) ، وأحمد (2/ 160) ، والحميدي (2/ 270- 271) برقم (593) ، والخرائطي (ص 37) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 306) من طريق مجاهد عنه به. وعند الحميدي «عن مجاهد بن جبر عن محرر بن قيس بن السائب أن عبد الله بن عمرو ... » . وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيضا. وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه ابن ماجة (3674) ، وأحمد (2/ 305، 445) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 306) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عنه به. وقال البوصيري في «الزوائد» (2/ 164) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. ورواه أحمد: (2/ 259، 514) ، وابن حبان (2052- موارد) ، وابن أبي شيبة (8/ 546- 547) برقم (5472) ، والبزار (2/ 381) برقم (1898) ، وابن عدي (3/ 949) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 470) برقم (3382) من طريق شعبة عن داود بن فراهيج عنه به. وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 159) : رواه البزار، وفيه داود بن فراهيج، وهو ثقة، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. وأما حديث أبي أمامة، فأخرجه أحمد (5/ 267) ، والخرائطي (37) عن بقية بن الوليد حدثنا محمد بن زياد سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. وكذا رواه الطبراني في «الكبير» (8/ 130) برقم (7523) . وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 168) ، رواه الطبراني، وإسناده جيد. وأخرجه الطبراني (7630) من طريق يحيى بن أبي كثير عن شداد أبي عمار عن أبي أمامة به، ولفظه لفظ حديث عائشة. وقال الهيثمي (8/ 167) : رواه أحمد والطبراني بنحوه، وصرح بقية بالتحديث، فهو حديث حسن. وأما حديث أنس فأخرجه الخرائطي مطولا (ص 36) عن الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عنه. -

قال ابنُ العَرَبِيّ «1» في «أحكامه» : وقد أمر اللَّه سبحانه بالرِّفْقِ بهم، والإِحسانِ إِلَيْهم وفي «الصحيح» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إِخْوَانُكُمْ مَلَّكَكُمُ اللَّهُ رِقَابَهُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُونَ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ، فأعينوهم» » . انتهى.

_ - وأخرجه البزار (1899- كشف الأستار) عن محمد بن ثابت عن أبيه عن أنس. وقال الهيثمي (8/ 168) : فيه محمد بن ثابت بن أسلم، وهو ضعيف. وأما حديث زيد بن ثابت فرواه الطبراني في «الكبير» (5/ 151) (4914) ، وفي «الأوسط» (254- مجمع البحرين) من طريق عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن زيد بن ثابت به مرفوعا. وقال الهيثمي: فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو ثقة، وفيه ضعف. وبقية رجاله رجال الصحيح. وأما حديث جابر، فأخرجه البزار (1897) عن زياد بن عبد الله: ثنا الفضل بن مبشر عن جابر بنحوه. وقال الهيثمي: فيه الفضل بن مبشر، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات. وأما حديث محمد بن مسلمة: فأخرجه الطبراني في «الكبير» (19/ 234- 235) ، والبيهقي في «الدلائل» (7/ 77) من طريق محمد بن المثنى قال: حدثنا عباد بن موسى، قال: حدثنا يونس عن الحسن عن محمد بن سلمة به مطولا. وقال الهيثمي: فيه عباد بن موسى السعدي. وقد ذكر ابن أبي حاتم عباس بن مؤنس، وروى عنه اثنان، فإن كان هذا ابن مؤنس، فرجاله ثقات، وإلا فلم أعرفه. وأما حديث الأنصاري، فأخرجه أحمد (5/ 32، 365) ، والطحاوي (4/ 27) ، والخرائطي (ص 35- 36) من طريق هشام عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عنه. (1) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 431) . (2) أخرجه البخاري (1/ 106) في الأيمان: باب المعاصي من أمر الجاهلية (30) ، و (5/ 206) في العتق: باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «العبيد إخوانكم، فأطعموهم مما تأكلون» ، (2545) ، و (10/ 480) في الأدب: باب ما ينهى عن السباب واللعن (6050) . ومسلم (3/ 1282- 1283) في الأيمان: باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس (38- 40/ 1661) ، وأبو داود (2/ 761) في الأدب: باب في حق المملوك (5158) ، والترمذي (4/ 294- 295) في البر والصلة: باب ما جاء في الإحسان إلى الخدم (1945) ، وابن ماجة (2/ 1216- 1217) في الأدب: باب الإحسان إلى المماليك (3690) ، وأحمد (5/ 158) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (187) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 356) ، والبيهقي (8/ 7) من طريق المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد، وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة. فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلقيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية. قلت: يا رسول الله. من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. -

[سورة النساء (4) : الآيات 38 إلى 39]

ونفَى سبحانه محبَّته عَمَّنْ صفته الخُيَلاءُ والفَخْر، وذلك ضَرْبٌ من التوعُّد، يقال: خَالَ الرَّجُلُ يَخُولُ خَوْلاً، إِذا تكبَّر وأُعْجِبَ بنفسه، وخَصَّ سبحانه هاتين الصفتين هنا إذا مقتضاهما العُجْبُ والزَّهْو، وذلك هو الحَامِلُ عَلَى الإِخلال بالأصْنَافِ الذين تَقدَّم أَمْرُ اللَّه بالإِحسان إِلَيْهم. وقوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ... الآية: قالتْ فرقةٌ: «الذين» في موضعِ نَصْبٍ بدلٍ مِنْ «مَنْ» في قوله: مَنْ كانَ مُخْتالًا، ومعناه على هذا: يبخَلُونَ بأموالهم، ويأمرون الناس، يَعْنِي: إِخوانَهُمْ ومَنْ هو مَظِنَّة طاعتهم بالبُخْل بالأموال أَنْ تُنْفَقَ في شَيْءٍ من وُجُوه الإِحسان إِلى مَنْ ذَكَر، وَيَكْتُمُونَ مَآ آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، يعني: مِنَ الرِّزْقِ والمالِ، فالآيةُ، إِذَنْ، في المؤمنين، أي: وأما الكافِرُونَ فأعدَّ لهم عذاباً مُهِيناً، وروي أنَّ الآية نزلَتْ في أحبارِ اليَهُود بالمدينةِ إذ كتموا أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبخلوا به، والتوعّد بالعذاب المهين لهم، وأَعْتَدْنا: معناه يَسَّرْنَا وأحْضَرْنَا، والعَتِيدُ: الحَاضِرُ، والمُهِينُ: الذي يَقْتَرِنُ به خِزْيٌ وذُلٌّ، وهو أنْكَى وأشدّ على المعذّب. [سورة النساء (4) : الآيات 38 الى 39] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ... الآية: «الَّذِينَ» في موضعِ رَفْعٍ على القطع، والخبرُ محذوفٌ، وتقديره، بعد «اليوم الآخر» : مُعَذَّبُونَ.

_ - ويشهد له حديث أبي اليسر، رواه مسلم (4/ 2301- 2303) في الزهد: باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (74- 3006، 3007) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (181) ، والطبراني في «الكبير» (19/ 168- 169) برقم (379) ، والطحاوي (4/ 356) ، وابن أبي شيبة (7/ 11) من طريق حاتم بن إسماعيل: ثنا يعقوب بن مجاهد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه. كما يشهد له حديث جابر، رواه البخاري في «الأدب المفرد» (182) ، (192) من طريق مروان بن معاوية: ثنا الفضل بن مبشر قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوصي بالمملوكين خيرا، ويقول: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم من لبوسكم، ولا تعذبوا خلق الله» . ويشهد له أيضا حديث يزيد بن جارية، رواه أحمد (4/ 35- 36) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 364) عن سفيان عن عاصم (يعني ابن عبيد الله) عن عبد الرّحمن بن يزيد عن أبيه. وقال الهيثمي في المجمع (4/ 237) : رواه أحمد والطبراني عن يزيد بن جارية، وفيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف. ويشهد له حديث رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رواه البخاري في «الأدب المفرد» (184) ، وأحمد (5/ 58) .

[سورة النساء (4) : آية 40]

والصحيحُ الذي علَيْهِ الجمهورُ أنَّ هذه الآيةَ في المُنَافِقِينَ/، والقَرِينُ: فَعِيلٌ بمعنى فَاعِلٍ من المُقَارنة، وهي الملاَزَمَةُ والاِصْطحَاب، والإِنسان كلُّه يقارنُه الشَّيْطان لَكِنَّ الموفَّقَ عاصٍ له. وقوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... الآية: التقديرُ: وأيُّ شيء عَلَيْهم، لو آمنوا، وفي هذا الكلام تفجُّع مَّا عليهم، واستدعاءٌ جميلٌ يقتضي حَيْطَةً وإِشفاقاً، وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً: إِخبارٌ يتضمَّن وعيداً، وينبِّه علَى سُوء تواطُئِهِمْ، أي: لا ينفعهم كَتْمٌ مع عِلْمِ الله بهم. [سورة النساء (4) : آية 40] إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ... الآية: مِثْقَال: مِفْعَال من الثّقل، والذَّرَّة: الصغيرةُ الحَمْرَاءُ مِنَ النَّمْلِ، ورُوِيَ عنِ ابْنِ عبَّاس أنه قال: الذَّرَّة: رأسُ النملةِ «1» ، وقرأ ابنُ عَبَّاس: «مِثْقَالَ نَمْلَةٍ» قال قتادةُ عن نَفْسه «2» ، ورواه عَنْ بعض العلماء: لأَنْ تَفْضُلَ حَسَنَاتِي علَى سَيِّئاتِي بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيا جميعاً. وقوله سبحانه: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً: التقديرُ: وإِنْ تك زِنَةُ الذَّرَّةِ، وفي «صحيح مُسْلم» وغيره، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّم، وَتَحِلُّ الشّفاعة، ويقولون: اللَّهُمَّ، سَلِّمْ سَلِّمْ» ، وفيه: «فَيَمُرُّ المُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ العَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمخْدُوشَّ «3» مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ «4» فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا خَلُصَ المُؤْمِنُونَ مَنَ النَّارِ، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الحَقِّ مِنَ المُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا، كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجَّونَ، فَيُقَالَ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقَاً كَثِيراً، قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدتُّمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خلقا كثيرا، ثمّ

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 91) برقم (9506) ، وذكره ابن عطية (2/ 53) ، والسيوطي (2/ 290) بلفظ «نملة» ، وعزاه لابن المنذر. [.....] (2) أخرجه الطبري (4/ 91) برقم (9504) ، (9505) ، وذكره السيوطي (2/ 290) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (3) خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه. ينظر: «النهاية» (2/ 14) . (4) أي: مدفوع. وتكدّس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. ينظر: «النهاية» (4/ 155) .

يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَداً مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدتُّمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَداً مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْراً» ، وكان أبو سعيدٍ الخدريُّ يَقُولُ: إِن لم تصدِّقوني في هذا الحديث، فاقرءوا إِن شئْتُمْ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: «شَفَعَتِ المَلاَئِكَةُ، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ ... » الحديثَ. انتهى. ولفظُ البخاريِّ: «فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، إِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجُوا فِي إِخْوَانِهِم ... » «1» الحديثَ. وقرأ نافع وابنُ كَثيرٍ: «حَسَنَةٌ» «2» (بالرفع) على تمام «كَانَ» ، التقدير: وإِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ، ويُضَاعِفْهَا: جوابُ الشرطِ، وقرأ «3» ابن كَثِيرٍ: «يُضَعِّفْهَا» ، وهو بناء تكثيرٍ يقتضِي أكْثَرَ مِنْ مرَّتين إِلَى أقصَى ما تريدُ مِنَ العدد، قال بعضُ المتأوِّلين: هذه الآيةُ خُصَّ بها المهاجِرُون لأن اللَّه تعالَى أعلَمَ في كتابه أنَّ الحَسَنَةَ لكُلِّ مؤُمِنٍ مضاعَفَةً عَشْرَ مرارٍ، وأَعْلَمَ في هذه الآيةِ أنها مُضَاعَفَةٌ مراراً كثيرةً حَسْبما رَوَى أبو هُرَيْرة من أنّها تضاعف ألفي ألف مرّة «4» ، وروى غيره: أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ «5» ، وقال بعضُهم: بَلْ وعد بذلك جَمِيعَ المؤمنينَ. قال ع «6» : والآيةُ تعمُّ المؤمنين والكافرين، فأمَّا المؤمنُونَ، فَيُجَازونَ في الآخِرَةِ على مثاقِيلِ الذَّرِّ، فما زاد، وأمَّا الكافِرُونَ، فما يَفْعَلُونه مِن خَيْر، فإِنه تقع عليه المكافأة بنعم

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «الحجة» (3/ 160) ، و «حجة القراءات» (203) ، و «إعراب القراءات» (133) ، و «العنوان» (84) ، و «شرح الطيبة» (4/ 206) ، و «شرح شعلة» (339) ، و «إتحاف» (1/ 511) ، و «البحر المحيط» (3/ 257) ، و «الدر المصون» (2/ 362) ، و «معاني القراءات» (1/ 308) . (3) ينظر: «السبعة» (233) ، و «حجة القراءات» (203) ، و «الحجة» (3/ 161) ، و «العنوان» (84) ، و «إعراب القراءات» (1/ 134) ، و «إتحاف» (1/ 512) . (4) ذكره ابن عطية (2/ 54) ، وابن كثير (1/ 498) ، والسيوطي (2/ 291) ، وعزاه لابن أبي شيبة عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة.. فذكره. (5) ذكره ابن عطية (2/ 54) . (6) انظر: «المحرر الوجيز» (2/ 54) .

[سورة النساء (4) : الآيات 41 إلى 42]

الدنيا/، ويأتُونَ يَوْمَ القيامةِ، ولا حَسَنَةَ لَهُمْ، قلْتُ: وقد ذكرنا في هذا المُخْتَصَر من أحاديثِ الرَّجَاء، وأحاديثِ الشَّفَاعَةِ جملةً صالحةً لا تُوجَدُ مجتمعةً في غَيْره على نَحْوِ ما هِيَ فيه، عَسَى اللَّهُ أَنْ ينفَعَ به النّاظر فيه، ومن أعظم أحاديثِ الرَّجَاءِ ما ذَكَره عياضٌ في «الشِّفَا» قال: ومن حديث أنس: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «لأَشْفَعَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَكْثَرَ مِمَّا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ» «1» . انتهى. وهذا الحديثُ أخرجه النِّسائِيُّ، ولفظه: «إِنِّي لأَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَكْثَرَ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ ... » الحديث. انتهى من «الكوكب الدّرّيّ» . ومِنْ لَدُنْهُ: معناه: مِنْ عنده، والأَجْرُ العظيمُ: الجَنَّة قاله ابنُ مَسْعود «2» وغيره، وإِذا مَنَّ اللَّه سبحانه بتفضُّله علَى عَبْده، بَلَغَ به الغايَةَ، اللهمّ منّ علينا بخير الدّارين بفضلك. [سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) وقوله جلَّت قدرته: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ... الآيةَ: لما تقدَّم في التي قَبْلَها الإِعلامُ بتَحْقيق الأحكام يوم القيامة، حَسُنَ بعد ذلك التَّنْبِيهُ على الحالَةِ الَّتي يُحْضَرُ ذلك فيها، ويُجَاءُ فيها بالشُّهَدَاءِ على الأُمَمِ، ومعنى الآيةِ: أنَّ اللَّه سبحانه يأتي بالأنبياءِ شُهَدَاءَ عَلَى أُمَمِهِمْ بالتَّصْديق والتَّكْذيب، ومعنى الأُمَّة في هذه الآية: جميعُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْه مَنْ آمَنَ منهم، ومَنْ كَفَر، وكذَلِكَ قال المتأوِّلون: إن الإشارة ب «هؤلاء» إلى كفّار قريش وغيرهم، وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ، فَاضَتْ عَيْنَاهُ، وكذلك ذَرِفَتْ عَيْنَاهُ- عليه السلام- حِينَ قَرَأَهَا عليه ابْنُ مَسْعُودٍ حَسْبَما هو مذكورٌ في الحديثِ الصَّحِيح، وفي «صحيحِ البخاريِّ» ، عن عُقْبَةَ بنِ عامر، قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى المَيِّتِ بَعد ثمان سنين، كالمُوَدِّع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر، فقال: إنِّي بَيْنَ أَيْدِيِكُمْ فَرَطٌ، وأَنا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الحَوْضُ وإِنَّي لأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هذا، وإِنِّي لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكُمُ الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. «3»

_ (1) ينظر: «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» (35) . (2) أخرجه الطبري (4/ 94) برقم (9514) ، وذكره ابن عطية (2/ 54) ، والسيوطي (2/ 290- 291) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود. (3) حديث عقبة بن عامر: -

[سورة النساء (4) : آية 43]

وقوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى قالت فرقة معناه: تنشق الأرض، فيحصلون فيها، ثم تتسوَّى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا ترابا كالبهائم. وقوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً: معناه، عند طائفة: أن الكفار، لما يرونه من الهول وشِدَّة المخاوف، يودون لو تسوى بهم الأرض، فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم استأنف الكلام، فأخبر أنهم لا يكتمون الله حديثا، لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فيقول الله سبحانه: «كذبتم» ثم تنطق جوارحهم، فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس «1» . وقالت طائفة: الكلام كله متصل وودّهم ألا يكتموا الله حديثا إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] والرسول في هذه الآية الجنس، شرِّف بالذكر، وهو مفرد دلَّ على الجمع. [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ... الآية: نزَلَتْ قبل تحريم الخَمْر، وجمهورُ المفسِّرين على أن المراد سُكْر الخَمْر إلاَّ الضَّحَّاك، فإنه قال: المُرَادُ سُكْر النَّوْمِ، وهذا قولٌ ضعيفٌ، والمرادُ ب «الصَّلاة» هنا/ الصلاةُ المعروفةُ. وقالَتْ طائفةٌ: الصلاة هنا المرادُ بها موضع الصلاة، والصلاة معا.

_ - أخرجه البخاري (3/ 209) ، كتاب «الجنائز» ، باب الصلاة على الشهيد، الحديث (1344) ، ومسلم (4/ 1796) ، كتاب «الفضائل» ، باب إثبات حوض نبينا، الحديث (31) ، وأبو داود (3/ 551) ، كتاب «الجنائز» ، باب الميت يصلى على قبره بعد حين، الحديث (3223) ، والنسائي (4/ 61- 62) ، كتاب «الجنائز» ، باب الصلاة على الشهداء، والدارقطني (2/ 78) ، كتاب «الجنائز» ، باب الصلاة على القبر، في صلاته صلّى الله عليه وسلّم على شهداء أحد بعد ثمان سنين. (1) أخرجه الطبري (4/ 96- 97) برقم (9522: 9524) ، وذكره البغوي (1/ 430) بنحوه، وابن عطية (2/ 55) ، وابن كثير (1/ 499) ، والسيوطي (2/ 292- 293) . [.....]

قال ابنُ العربيِّ في «الأحكام» «1» : ورُوِيَ في سبب نزولِ هذه الآيةِ عن عَلِيٍّ (رضي اللَّه عنه) أنه قَالَ: صَنَعَ لنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَاماً، فَدَعَانَا، وسَقَانَا مِنَ الخَمْرِ- يَعْنِي: وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا- قَالَ: فَأَخَذَتِ الخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَقَدَّمُونِي، فَقَرَأْتُ: قُلْ يا أيّها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَّعْبُدُ ما تعبدون، قال: فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ... الآية: خرَّجه الترمذيُّ وصحَّحه. انتهى «2» . وقوله: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، قال عليُّ بن أبي طالب (رضي اللَّه عنه) وغيره: عَابِرُ السَّبِيلِ: المُسَافِرُ «3» . وقال ابنُ مسعودٍ وغيره: عابر السَّبيل هنا: الخَاطِرُ في المَسْجِد، وعَابِرُ سَبِيلٍ هو مِنَ العبور، أي: الخطور والجَوَازُ «4» ، والمريضُ المذكورُ في الآية هو الحَضَرِيُّ، وأصل الغائِطِ ما انخفض مِنَ الأرض، ثم كَثُر استعماله في قضاء الحَاجَةِ. واللَّمْسُ في اللغةِ لَفْظٌ يقعُ لِلَّمْسِ الَّذي هو الجِمَاعُ، ولِلَّمْسِ الذي هو جَسُّ اليدِ والقُبْلَةُ ونَحْوُهُ، واختلف في موقِعِهَا هنا، فمالكٌ (رحمه اللَّه) يقولُ: اللفظةُ هنا تقتضِي الوَجْهَيْنِ، فالملامِسُ بالجِمَاعِ يتيمَّم، والملامِسُ باليد يتيمَّم، ومعنى قوله سبحانه: فَتَيَمَّمُوا: اقصدوا، والصَّعِيدُ «5» في اللغة: وَجْه الأرضِ قاله الخليل وغيره، واختلف

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 433) . (2) أخرجه الطبري (4/ 98) برقم (9527) ، وذكره ابن عطية (2/ 56) ، وابن كثير (1/ 500) ، والسيوطي (2/ 293- 294) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والحاكم وصححه. (3) أخرجه الطبري (4/ 100) برقم (9542) ، وذكره البغوي (1/ 431) ، وابن عطية (2/ 57) ، وابن كثير (1/ 501) ، والسيوطي (2/ 294- 295) وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة في «المصنف» ، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن علي. (4) ذكره البغوي (1/ 431) ، وابن عطية (2/ 57) ، والسيوطي (2/ 295) ، وعزاه لابن جرير عن ابن مسعود. (5) قال في «لسان العرب» : الصعيد المرتفع من الأرض.. وقيل: الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة- وقيل: ما لم يخالطه رمل، ولا سبخة- وقيل: وجه الأرض لقوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً [الكهف: 40] أي: أرضا ملساء لا نبات بها. وقال جرير: إذا تيم ثوت بصعيد أرض ... بكت من حيث لؤمهم الصعيد وقيل: الصعيد الأرض، وقيل: الأرض الطيبة، وقيل: هو كل تراب طيب- «وفي التنزيل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة: 6] » وقال «الفرّاء» في قوله: صَعِيداً جُرُزاً [الكهف: 8] : الصعيد التراب-

الفُقَهاءُ فيه من أجْلِ تقييدِ الآيةِ إياه بالطَّيِّبِ. فقالتْ طائفة: يتيمَّم بوَجْه الأرْض، تراباً كان أو رَمْلاً أو حجارةً أو مَعْدِناً أو سَبِخَةً، وجعلَتِ الطِّيب بمعنى الطَّاهر، وهذا هو مذهَبُ مالكٍ «1» ، وقالتْ طائفة منهم: الطِّيب

_ - وقال غيره: هي الأرض المستوية. وقال «الشافعي» : لا يقع اسم الصّعيد إلّا على تراب له غبار- فأما البطحاء الغليظة والرقيقة، والكثيب الغليظ- فلا يقع عليه اسم الصعيد، وإن خالطه تراب، أو صعيد، أو مدر يكون له غبار- كان الذي خالطه الصعيد ولا يتيمم.. بالنورة، ولا بالزّرنيخ، وكل هذا حجارة. وقال «أبو إسحق» : الصعيد: وجه الأرض قال: وعلى الإنسان أن يضرب بيديه وجه الأرض، ولا يبالي أكان في الموضع تراب، أو لم يكن لأن الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض، ترابا كان أو غيره. قال: ولو أن أرضا كانت كلها صخرا، لا تراب عليه، ثم ضرب المتيمم يده على ذلك الصخر لكان ذلك طهورا، إذا مسح به وجهه قال تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً [الكهف: 40] لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض. قال «الأزهري» : هذا الذي قاله «أبو إسحق» أحسبه مذهب مالك ... قال «الليث» : يقال للحديقة إذا خربت، وذهب شجرها: قد صارت صعيدا، أي أرضا مستوية لا شجر فيها قال «ابن الأعرابي» : الصعيد الأرض بعينها، والصعيد الطريق سمي بالصعيد من التراب، والجمع من كل ذلك صعدان. قال «حميد بن ثور» : وتيه تشابه صعداته ... ويفنى به الماء إلا السمل وصعد كذلك- وصعدات جمع الجمع. وفي حديث علي ... (رضوان الله عليه) - إياكم والقعود بالصعدات، إلا من أدى حقها، وهي الطرق، وهي جمع صعد وصعد.. جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات، مأخوذ من الصعيد، وهو التراب، وقيل: جمع صعدة كظلمة وهي فناء باب الدار، وممر الناس بين يديه، ومنه الحديث: «ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى» ، والصعيد الطريق يكون واسعا وضيقا، والصعيد الموضع العريض الواسع، والصعيد القبر. اهـ. ينظر «التيمم» لشيخنا جاد الرب. (1) أجمع المسلمون على جواز التيمم بتراب الحرث الطيب واختلفوا في جوازه بما عدا التراب من أجزاء الأرض المتولد عنها كالحجارة. فذهب «الشّافعيّ» إلى أنه لا يجوز التيمّم إلّا بالتراب الخالص ... وذهب مالك وأصحابه إلى أنّه يجوز التيمم بكل ما صعد على.. وجه الأرض من أجزائها من الحصباء والرمل والتراب في المشهور عنه، وزاد «أبو حنيفة» فقال: وبكل ما يتولد من الأرض مثل: الحجارة والنّون والزّرنيخ والجص والطّين والرّخام. ومنهم من شرط أن يكون التراب على وجه الأرض. وقال «الحنابلة» : لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد، كقول «الشّافعيّ» وبه قال «إسحاق» و «أبو يوسف» و «داود» . وقال أحمد: يتيمم بغبار الثوب واللبد، ونقل عن «مالك» في بعض رواياته جواز التيمم على الحشيش والثلج. وقال ابن حزم من الظاهرية: لا يجوز التيمم إلّا.. بالأرض، -

بمعنى المُنْبِتِ كما قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] ، فالصعيد عندهم هو الترابُ، وهذه الطائفةُ لا تُجِيزُ التيمُّم بغيره، فمكانُ الإجماع أنْ يتيمَّم في تُرَابٍ منبت طاهر غير منقول، ولا مغصوب، وترتيبُ القرآن الوجْهُ قبل اليدَيْنِ، وبه قال الجمهور، وفي «المدوَّنة» أنَّ التيمُّم ضربتانِ «1» ، وجمهورُ العلماء أنَّه ينتهِي في مَسْح اليدَيْن إلى المرافق «2» .

_ - ثم الأرض تنقسم إلى قسمين: تراب، وغير تراب، فأما التراب فالتيمم به جائز كان في موضعه من الأرض أو منزوعا مجهولا في إناء أو ثوب أو على يد إنسان أو حيوان، أو كان في بناء لبن، أو طابية، أو غير ذلك وأما ما عدا التراب من الحصى والحصباء والرخام والرمل والكحل والزرنيخ والجير والجص والذهب والتوتيا والكبريت والملح وغير ذلك، فإن كان شي من هذه المعادن في الأرض غير مزال عنها إلى شيء آخر، فالتيمم بكل ذلك جائز- وإن كان شيء من ذلك مزالا إلى إناء أو ثوب أو نحو ذلك لم يجز التيمم بشيء منه ولا يجوز التيمم بالآجر فإن رض حتى يقع عليه اسم التراب جاز التيمم؟ وكذلك الطين لا يجوز التيمم به، فإن جف حتى يسمى ترابا جاز التيمم به، ولا يجوز التيمم بملح انعقد من الماء كان في موضعه أو لم يكن ولا بثلج ولا بورق ولا يحشيش ولا بخشب ولا بغير ذلك، ممّا يحول بين المتيمم وبين الأرض. ينظر: «التيمم» لشيخنا جاد الرب. (1) والأصح عند الشافعي: وجوب ضربتين، وإن أمكن مسح الوجه واليدين بضربة واحدة بأن يأخذ خرقة كبيرة، ويضرب بها التراب، ثم يمسح ببعضها وجهه، وبباقيها يديه. وإنما كان الأصح وجوب ضربتين لخبر أبي داود، والحاكم: «التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» . ينظر: «التيمم» لجاد الرب. (2) اختلفوا في القدر الواجب مسحه في اليدين على ثلاثة مذاهب: الأول: أن الحد الواجب في ذلك هو الحد الواجب بعينه في الوضوء، وهو أن يمسحهما إلى المرفقين.. وبه قال الشافعي في «الجديد» ، ومنصوصات «القديم» وقال به من الأصحاب: ابن عمر، وجابر، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، ومن الفقهاء الليث بن سعد، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة وصاحباه. والثاني: أن الفرض هو مسح الكف فقط، وبه قال أهل الظاهر، وأهل الحديث. وبه قال مالك أيضا مع استحباب المسح إلى المرفقين، وبه قال من الصحابة ابن مسعود، وابن عباس، ومن التابعين عكرمة، ومكحول، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ورواه أبو ثور عن الشافعي في القديم. وحكاه الزعفراني على أن الشافعي في القديم كان يجعله موقوفا على صحة حديث عمار، ومنصوصه في القديم خلاف هذا. الثالث: أن الفرض المسح إلى المناكب، وهو مروي عن الزهري. ولأن الله تعالى أوجب طهارة الأعضاء الأربعة في الوضوء في أول الآية، ثم أسقط منها عضوين في التيمم في آخر الآية، فبقي العضوان في التيمم على ما ذكر في الوضوء، إذ لو اختلفا حدا في التيمم لبينه. ينظر: «التيمم» لشيخنا جاد الرب.

[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 46]

[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ... الآية: أَلَمْ تَرَ: مِنْ رؤية القَلْب، وهي عِلْمٌ بالشيء، والمراد ب «الّذين» : اليهود قاله قتادة وغيره «1» ، ثم اللفظ يتناوَلُ معهم النصارى، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بنِ التَّابُوتِ اليهوديِّ «2» ، والكتابُ: التوراةُ والإنجيلُ، ويَشْتَرُونَ: عبارةٌ عن إيثارهم الكفْرَ، وتركِهِمُ الإيمانَ، وقالتْ فرقة: أراد الَّذِينَ كانوا يُعْطُون أموالهم للأحبارِ على إقامةِ شَرْعِهِمْ، فهو شراءٌ حقيقةً، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ معناه: أنْ تَكْفُروا. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ خبرٌ في ضمنه التحذيرُ منهم، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا، أيْ: اكتفوا باللَّه وليًّا. وقوله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ هادُوا، قال بعضُ المتأوِّلين: «مِنْ» راجعةٌ على «الَّذِينَ» الأولى، وقالتْ فرقة: «مِنْ» متعلِّقة ب «نَصِيراً» ، والمعنى: ينصُرُكم من الذين هَادُوا، فعلى هذين التأويلَيْن لا يُوقَفُ في قوله: «نَصِيراً» ، وقالتْ فرقة: هي ابتداء كلامٍ، وفيه إضمارٌ، تقديره: قَوْمٌ يحرِّفون، وهذا مذهبُ أبي عَلِيٍّ، وعلى هذا التأويلِ يُوقَفُ في «نَصِيراً» ، وقول سيبَوَيْهِ أصْوَبُ/ لأنَّ إضمار الموصولِ ثقيلٌ، وإضمار الموصوفِ أسهلُ، وتحريفهم للكلامِ على وجْهَيْنِ، إما بتغييرِ اللفظِ، وقد فَعَلُوا ذلك في الأقَلِّ، وإمَّا بتغيير التَّأْويلِ، وقد فَعَلُوا ذلك في الأكْثَرِ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ «3» ، وهذا كلُّه في التوراة على قولِ الجُمْهورِ، وقالتْ طائفة: هو كَلِمُ القرآن، وقال مكّيّ: هو كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالتَّحْرِيفُ على هذا في التأويلِ. وقوله تعالى عنهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا عبارةٌ عَنْ عُتُوِّهم في كفرهم وطغيانهم فيه، وغَيْرَ مُسْمَعٍ: يتخرّج فيه معنيان:

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 119) برقم (9692) ، وذكره ابن عطية (2/ 61) . (2) أخرجه الطبري (4/ 119) برقم (9694) ، وذكره البغوي (1/ 437) ، وابن عطية (2/ 61) ، والسيوطي (2/ 300) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 120) .

[سورة النساء (4) : الآيات 47 إلى 50]

أحدُهُما: غير مأمور وغير صاغر كأنهم قالوا: غَيْرَ أَنْ تُسَمَّعَ مأموراً بذلك. والآخر: على جهة الدعاءِ، أي: لاَ سَمِعْتَ كما تَقُولُ: امض غَيْرَ مُصِيبٍ، ونحو ذلك، فكانَتِ اليهودُ إذا خاطبت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ب غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَرادَتْ في الباطِنِ الدعاءَ علَيْه، وأَرَتْ ظاهراً أنها تريدُ تعظيمَهُ، قال ابنُ عبَّاس وغيره نحوه «1» ، وكذلكَ كَانُوا يُرِيدُونَ منه في أَنْفُسِهِمْ معنَى الرُّعُونَة، وحكى مَكِّيٌّ معنى رِعَايَةِ الماشِيَةِ، ويُظْهِرُونَ منه مَعْنَى المُرَاعَاةِ، فهذا معنى لَيِّ اللسانِ، وقال الحسنُ ومُجَاهد: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أي: غير مقبول منك «2» ، ولَيًّا: أصله «لويا» ، وطَعْناً فِي الدِّينِ: أيْ: توهيناً له وإظهاراً للإستخفافِ به. قال ع: وهذا اللَّيُّ باللسانِ إلى خلافِ مَا في القَلْبِ موجُودٌ حتَّى الآن فِي بَنِي إسرائيل، ويُحْفِظُ منه في عَصْرنا أمثلة إلاَّ أنه لا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بهذا الكتَابِ. وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ ... الآية: المعنى: ولو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، وأَقْوَمَ: معناه: أعدل وأصوب، وقَلِيلًا: نعْتٌ إما لإِيمانٍ، وإما لِنَفَرٍ، أوْ قَوْمٍ، والمعنى مختلف. [سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 50] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ... الآية: هذا خطابٌ لليهودِ والنصارى، ولِما مَعَكُمْ: مِنْ شَرْعٍ ومِلَّةٍ، لا لما معهم من مُبَدَّلٍ، ومُغَيَّرٍ، والطامس: الداثر المغيَّر الأعلامِ، قالتْ طائفة: طَمْسُ الوجوهِ هنا هو خُلُوُّ الحَوَاسِّ منها، وزوالُ الخِلْقَةِ، وقال ابنُ عَبَّاس وغيره: طَمْسُ الوجُوه: أن تزال العينان

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 121) برقم (9703) ، وذكره ابن عطية (2/ 62) ، وابن كثير (1/ 507) ، والسيوطي (2/ 300) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عباس. [.....] (2) ذكره الطبري (4/ 122) برقم (9704، 9705) عن مجاهد، وبرقم (9706) عن الحسن، وابن عطية (2/ 62) ، وابن كثير (1/ 507) ، والسيوطي (2/ 300) عن مجاهد وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

خاصَّة منها، وتُرَدّ العينان في القفا، فيكون ذلك رَدًّا على الأدْبَارِ، ويَمْشِي القهقرى «1» ، وقال مالكٌ (رحمه اللَّه) : كان أول إسلام كَعْبِ الأَحْبَارِ أنَّه مَرَّ برَجُلٍ من الليل، وهو يقرأ هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا ... الآية، فوضَعَ كَفَّيْهِ على وَجْهه، وَرَجَعَ القهقرى إلى بيته، فأسْلَمَ مكَانَهُ، وقال: «واللَّهِ، لَقَدْ خِفْتُ أَلاَّ أَبْلُغَ بَيْتِي، حتى يُطْمَسَ وجهي» «2» ، وأصْحَابُ السَّبْتِ: هم الذين اعتدوا في السَّبْت في الصَّيْد حَسْبَمَا تقدَّم، قال قتادةُ وغيره: وأمر الله في هذه الآية واحدُ الأمور دالٌّ على جِنْسها لا واحدُ الأوامر، فهي عبارةٌ عن المخْلُوقَاتِ كالعَذَابِ، واللَّعْنَة هنا، أو ما اقتضاه كُلُّ موضِعٍ ممَّا يختصُّ به «3» . وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ... الآية: هذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ ببَيَانِ ما تَعَارَضَ مِنْ آيات الوعْدِ والوعيدِ، وتلخيصُ الكلامِ فيها أنْ يُقَالَ: النَّاسُ أربعةُ أصْنَافٍ: كَافِرٌ مات على كُفْره، فهذا مُخَلَّد في النَّار بإجمَاع، ومُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قطُّ، وماتَ على ذلك، فهذا في الجنة مَحْتُومٌ علَيْه حَسَبَ الخَبَرِ من اللَّه تعالى، بإجماع، وتَائِبٌ مَاتَ على توبتِهِ، فهو عنْدَ أَهْلِ السُّنَّة وجمهورِ فُقَهَاء الأُمَّة لاَحِقٌ بالمُؤْمِنِ المُحْسِنِ، إلاَّ أنَّ قانُونَ المتكلِّمين أنَّه في المَشيئَةِ، ومُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، فهذا هو موضعُ الخلاَفِ، فقالَت المُرْجِئَةُ: هو في الجنَّة بإيمانه، ولا تَضُرُّه سيئاته، وجعلوا آيات الوعيدِ كلَّها في الكُفَّار، وآياتِ الوَعْد عامَّةً في المؤْمنين تَقِيِّهِمْ وعَاصِيهِمْ، وقالتِ المعتزِلةُ: إذا كان صاحبَ كبيرةٍ، فهو في النَّار، ولا بُدَّ، وقالتِ الخوارجُ «4» : إذا كان صاحِبَ كَبيرة، أو صغيرةٍ، فهو في النَّار مخلَّد، ولا إيمان له لأنهم يَرَوْنَ كل الذنُوبِ كبائرَ، وجعلوا آيات الوَعْدِ كلَّها في المؤمِنِ الذي لم يَعْصِ قَطُّ، والمؤمِنِ التائِبِ، وقال أهْلُ السُّنَّة: هو في المشيئة، وهذه الآيةُ هي الحاكِمَةُ، وهي النصُّ في مَوْضِعِ النِّزاعِ، وذلك

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 124) برقم (9718) ، وذكره ابن عطية (2/ 63) ، والسيوطي (2/ 301) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (4/ 127) برقم (9730) ، وذكره البغوي (1/ 439) ، وابن عطية (2/ 63) ، وابن كثير (1/ 508) ، والسيوطي (2/ 301) وعزاه لابن جرير عن عيسى بن المغيرة. (3) ذكره ابن عطية (2/ 63- 64) . (4) الفرقة الثالثة: الخوارج وهم سبع فرق: المحكمية بضم الميم وكسر الكاف المشدّدة، والنهيشية، والأزارمة، والنجدات، والأصفرية بالفاء. والأباضية، وافترق الأباضية فرقا أربعا: الحفصية، اليزيدية، الحارثية، والقائلون بأنّ إتيان المأمور به طاعة وإن لم يقصد به وجه الله. والسابعة من الخوارج العجاردة وهم عشر فرق: الميمونية الحمزية، الشعيبية، الحازمية، الحليفية، الأطرافية، المعلومية، المجهولية، الصلنية، الشعالية. وتفرق الشعالية فرقا أربعا: الأخنسية، المعبدية، الشيبانية، المكرمية. ينظر: «نشر الطوالع» (389- 390) .

أنَّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فصْلٌ مجمعٌ عليه، وقوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ فَصْلٌ قاطع للمعتزلة، رادٌّ على قولهم ردًّا لا محيدَ لهم عنه، ولو وقَفْنَا في هذا الموضع مِنَ الكلامِ، لَصَحَّ قولُ «1» المرجئَةِ، فجاء قوله: لِمَنْ يَشاءُ، ردًّا عليهم مبيناً أنَّ غفران مَا دُونَ الشِّرْك إنما هو لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ بخلاف ما زَعَمُوه مِنْ أنه مغفورٌ لكلِّ مؤمنٍ، ولما حتم سبحانه على أنه لا يغفرُ الشِّرك، ذكر قُبْحَ موقعه، وقَدْرِهِ في الذُّنُوبِ، والفِرْيَةُ: أشدُّ مراتبِ الكَذِبِ قُبْحاً، وهو الإختلاقُ. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ... الآية: لا خِلاَفَ بين المتأوِّلين أنَّ المراد بالآية اليهودُ، وإنما اختلفوا في المعنَى الَّذي به زَكَّوْا أنفسهم. فقال الحسن، وقتادة: ذلك قولُهُمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] إلى غير ذلك من غُرُورِهِم «2» . قال ع «3» : فتقتضي هذه الآيةُ الغَضَّ مِنَ المُزَكِّي لنفسه بلِسَانِهِ، والإعلامَ بأنَّ الزَّاكِيَ المزكى مَنْ حَسُنَتْ أفعاله، وزَكَّاه اللَّه عزَّ وجلَّ، قال ابْنُ عَبَّاس وغيره: الفَتِيلُ: الخَيْطُ الذي في شَقِّ نواة التَّمْرة «4» ، وذلك راجعٌ إلى الكناية عن تَحْقير الشَّيْء وتصغيرِهِ، وأنَّ اللَّه لا يظلمه، ولاَ شَيْءَ دونه في الصِّغَر، فكيف بما فَوْقَهُ. وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ... الآية: يبيِّن أنَّ تزكيتهم

_ (1) المرجئة: اسم فرقة من كبار الفرق الإسلامية لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية، أي: يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، من أرجأه أي: أخره، ومنه أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الأعراف: 111] أي: أمهله وأخره أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، فهم يعطون الرجاء، وعلى هذا ينبغي أن لا يهمز لفظ المرجئة وفرقهم خمس: اليونسية، والعبيدية، والغسّانية، والثوبانية، والثومنية، كذا في شرح المواقف، وتحقيق كل في موضعه. ينظر: «كشاف اصطلاحات الفنون» (3/ 3) . (2) أخرجه الطبري (4/ 129) برقم (9738- 9739) ، وذكره البغوي (1/ 440) ، وابن عطية (2/ 65) ، وابن كثير (1/ 511) ، والسيوطي (2/ 304) عن الحسن، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 65) . (4) أخرجه الطبري (4/ 132) برقم (9757) ، وذكره ابن عطية (2/ 66) ، وابن كثير (1/ 512) ، والسيوطي (2/ 305) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

[سورة النساء (4) : الآيات 51 إلى 52]

أنفسَهُمْ كانَتْ بالباطلِ، والكَذِبِ ويُقَوِّي أنَّ التزكية كانَتْ بقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أنَّ الافتراء أعظم في هذه المقالة، وكَيْفَ يَصِحُّ أنْ تكونَ في موضِع رَفْعٍ بالاِبتداءِ، والخبر في قوله يَفْتَرُونَ وكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً خبرٌ في ضِمْنه تعجُّب وتعجيبٌ مِنْ أمْرهم. قال ص: وَكَفى بِهِ عائدٌ على الاِفتراءِ، وقيل: على الكذب. انتهى. [سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 52] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ... الآية: أجْمَعَ المتأوِّلون أنَّ المراد بها طائفةٌ من اليهود، والقَصَصُ يبيِّن ذلك، ومجموعُ ما ذكره المفسّرون في تفسيره الجِبْتِ والطَّاغُوتِ يقتضي أنَّهُ كُلُّ مَا عُبِدَ وأُطِيعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى. وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: سببها أنَّ قريشاً قالَتْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، حين وَرَدَ مكَّة: أنْتَ سَيِّدُنَا، وَسيِّدُ قَوْمِكَ، إنَّا قومٌ نَنْحَرُ الكَوْمَاءَ «1» ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَنَسْقِي الحَجِيجَ، وَنَعْبُدُ آلِهَتَنَا الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وهَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ قَطَعَ الرَّحِمَ، فَمَنْ أهدى نَحْنُ أوْ هُوَ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: أَنْتُمْ أهدى مِنْهُ، وَأَقْوَمُ دِيناً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ «2» ، فالضمير في «يَقُولُونَ» / عائد على كعْبٍ، وعلى الجماعةِ الَّتي معه من اليهودِ المُحَرِّضين على قتال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم و «الّذين كَفَرُوا» في هذه الآيةِ هم كفَّار قريشٍ، والإشارة ب «هؤلاء» إليهم والَّذِين آمنوا هم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته، وقالتْ فرقة: بل المرادُ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ وأتباعه، وهم المقصودُ من أول الآيات. قال ص: «لِلَّذِينَ» : اللامُ للتبليغِ متعلِّقة ب «يقولون» . انتهى. [سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 55] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)

_ (1) ناقة كوماء: عظيمة السّنام طويلته. ينظر: «لسان العرب» (3958) . (2) أخرجه الطبري (4/ 136- 137) برقم (9791) ، وذكره ابن عطية (2/ 66- 67) ، وابن كثير (1/ 513) .

وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ... الآية: عُرْفُ «أَمْ» أنْ تُعْطَفَ بعد استفهامٍ متقدِّم كقولك: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو؟ فَإذا وردَتْ، ولم يتقدَّمها استفهامٌ كما هي هنا، فمذهب سيبَوَيْهِ أنَّها مضمَّنةٌ معنى الإضراب عن الكلامِ الأوَّلِ، والقَطْع منه، وهي متضمِّنة مع ذلك مَعْنَى الاِستفهام، فهي بمعنى «بَلْ» مع همزةِ استفهامٍ كقول العربِ: «إنها لإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ» ، التقدير عند سيبويه: إنَّهَا لإِبِلٌ بَلْ أَهِيَ شَاءٌ؟ وَكَذَلك هذا الموضعُ: بَلْ أَلهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ، فإذا عرفْتَ هذا، فالمعنى على الأرجَحِ الذي هو مذْهَبُ سيبَوَيْهِ والحُذَّاقِ: أنَّ هذا استفهامٌ على معنى الإِنكار، أي: ألهم مُلْكٌ فإذن لَوْ كان، لَبَخِلُوا به، والنَّقِيرُ: هي النُّكْتَةُ التي في ظَهْر النَّوَاة من التَّمْر هذا قول الجمهور، وهَذَا كنايةٌ عن الغايَةِ في الحَقَارة والقِلَّة، وتُكْتَبُ «إذَنْ» بالنُّون وبالألِفِ، فالنُّونُ هو الأصْلُ ك «عَنْ» ، وَ «مِنْ» ، وجاز كتبها بالألِفِ لصحَّة الوقوفِ عليها، فأشبهَتْ نونَ التَّنْوينِ، ولا يصحُّ الوقوف على عَنْ ومِنْ. وقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ ... الآية: «أمْ» هذه على بابها من العطْفِ بعد الاِستفهام. وقال ص: أَمْ يَحْسُدُونَ: «أَمْ» أيضاً منقطعةٌ تتقدَّر ب «بَلْ» و «الهمزة» . انتهى. قلت: والظاهر ما قاله ع «1» واختلف في المراد ب «الناس» هنا. فقال ابن عبّاس وغيره: هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والفَضْلُ: النبوَّة فقط «2» ، والمعنى: فَلِمَ يخصُّونه بالحَسَد، ولا يَحْسُدُونَ آل إبراهيم في جميعِ مَا آتيناهم مِنْ هذا وغيره مِنَ المُلْك، وقال قتادة: «النَّاسُ» هنا: العَرَبُ، حَسَدَتْها بَنُو إسرائيل في أن كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منْها، والفَضْلُ على هذا التأويل هو محمَّد صلّى الله عليه وسلّم «3» ، قَالَ أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ: وقد ذَمَّ اللَّه قوماً على حَسَدهم، فقال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، ثم حدَّث بسنده، عن عمرو بن مَيْمُونٍ، قَالَ: لما رَفَع اللَّه موسى نَجِيًّا، رأى رجُلاً متعلِّقاً بالعَرْش، فقال: يا رَبِّ، مَنْ هَذَا، فقالَ: هذا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي، صَالِحٌ، إن شئت أخبرتك بعمله،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 68) . (2) ذكره البغوي (1/ 442) ، وابن عطية (2/ 68) . (3) أخرجه الطبري (4/ 141) برقم (9825) ، وذكره البغوي (1/ 442) ، وابن عطية (2/ 68) ، والسيوطي (2/ 309) وعزاه لابن جرير. [.....]

[سورة النساء (4) : الآيات 56 إلى 57]

فقال: يا رَبِّ، أخبِرْنِي، فقال: كَانَ لاَ يَحْسُدُ النَّاسَ على ما آتاهم اللَّه مِنْ فَضْله، ثم حدَّث أبو عمر بسنده، عن أنس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ» «1» وذكر عبد الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن إسماعيل بْنِ أُمَّيَةَ «2» ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «ثَلاَثٌ لاَ يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ، والظَّنُّ، وَالحَسَد! قِيلَ: فَمَا المَخْرَجُ مِنْهُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا تَطَيَّرْتَ فَلاَ تَرْجِعْ، وَإذَا ظَنَنْتَ فَلاَ تُحَقِّقْ، وَإذَا حَسَدتَّ فَلاَ تَبْغِ» «3» انتهى من «التمهيد» . وقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ اختلف في الضمير مِنْ «به» . فقال الجمهور: هو عائدٌ علَى القرآن الذي في قوله تعالى: آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: 47] فأعلم اللَّه سبحانه أنَّ منهم مَنْ آمَنَ كما أُمِرَ فلذلك/ ارتفَعَ الوعيدُ بالطَّمْسِ، ولم يَقَعْ، وصَدَّ قومٌ ثبَتَ الوعيدُ عليهم في الآخرة بقوله سبحانه: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. وقيل: هو عائدٌ على إبراهيم- عليه السلام-. وقيل: هو عائدٌ على الفَضْلِ الذي آتاه اللَّه النبيَّ- عليه السلام-، والعربَ على ما تقدَّم. [سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

_ (1) أخرجه ابن ماجة (2/ 1408) كتاب «الزهد» ، باب الحسد، حديث (4210) ، وأبو يعلى (6/ 330) رقم (3656) من طريق عيسى بن ميسرة عن أبي الزناد عن أنس به. وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 298) : هذا إسناد فيه عيسى بن أبي عيسى، وهو ضعيف. وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود (2/ 693) ، كتاب «الأدب» ، باب في الحسد، حديث (4903) عنه بلفظ: «إياكم والحسد، فإن الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ» . (2) إسماعيل بن أميّة بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي: أحد العلماء والأشراف عن أبيه، وأيوب بن خالد، وسعيد المقبري، وعنه معمر، والسّفيانان، وروح بن القاسم. قال ابن المديني: له نحو سبعين حديثا، وثقه أبو حاتم، قال ابن معين: مات سنة أربع وأربعين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 84) (480) . (3) ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 125) .

[سورة النساء (4) : آية 58]

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً ... الآية: لما تقدَّم في الآية وصْفُ المَرَدَةِ مِنْ بني إسرائيل وذِكْرُ أفعالهم وذُنُوبِهِمْ، جاءَتْ هذه الآيةُ بالوَعيدِ النَّصِّ لهم بلفظٍ جَلِيٍّ عَامٍّ لهم ولغيرهم مِمَّنْ فَعَلَ فِعْلَهم من الكفرة، واختلف في معنى تَبْدِيل الجُلُودِ. فقالت فرقةٌ: تُبَدَّلُ عليهم جُلُودٌ أغْيَارٌ إذْ نفوسُهم هي المعذَّبة، والجلودُ لا تَأْلَمُ في ذَاتِها، وقالتْ فرقة: تبديلُ الجُلُودِ هو إعادَةُ ذلك الجِلْدِ بعينِهِ الذي كان في الدُّنيا، وإنما سَمَّاه تبديلاً لأنَّ أوصافه تتغيَّر، قال الحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَن: تُبَدَّلُ علَيْهم في اليومِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ (عافَانا اللَّه مِنْ عذابِهِ برَحْمَتِهِ) «1» . ولما ذكر سبحانه وعيدَ الكُفَّار، عَقَّبَ بوَعْد المُؤْمنين بالجَنَّة على الإيمان والأعمال الصّالحة، وظَلِيلًا: معناه عند بعضهم: يَقِي الحَرَّ والبَرْدَ، ويصحُّ أنْ يريدَ أنه ظِلٌّ لا يستحيلُ ولا يتنقَّلُ، وصح وصفه بظَلِيلٍ لامتداده، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادُ المُضَمَّرُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُهَا» «2» ، وَرَأَيْتُ لِبَعْضِهِمْ مَا نَصُّهُ وذكر الطبريُّ في كتابه، قال: لما خَلَق اللَّهُ عزَّ وجلَّ الجنَّةَ، قالَ لَهَا: امتدي، فقَالَتْ: يا ربِّ، كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها: امتدي، فقالت: يا رب: كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها: امتدي، فقالت: يا رب: كم، وإلى كَمْ؟ فَقَالَ لَهَا: امتدي مِقْدَار رَحْمَتِي، فامتدت، فَهِيَ تَمْتَدُّ أَبَدَ الآبِدِينَ، فَلَيْسَ لِلجَنَّةِ طَرَفٌ كَمَا أنَّهُ لَيْسَ لِرَحْمَةِ اللَّهِ طَرَفٌ. انتهى، فهذا لا يُعْلَمُ إلا من جهة السَّمْع، فهو ممَّا اطلع عليه الطبريُّ، وهو إمامٌ حافظٌ محدِّثٌ ثقةٌ قاله الخطيبُ أحمدُ بن عليّ بن ثابت. [سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ... الآية: قال ابن

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 145) برقم (9842) ، وذكره البغوي (1/ 443) ، وابن عطية (2/ 69) ، وابن كثير (1/ 514) ، والسيوطي (2/ 311) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه البخاري (6/ 368) ، كتاب «بدء الخلق» ، باب ما جاء في صفة الجنة، حديث (3251) ، ومسلم (4/ 2175) ، كتاب «الجنة» ، باب أن في الجنة شجرة، حديث (8/ 2827) .

جريج وغيره «1» : الآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر مِفْتَاحِ الكَعْبَةِ حين أخذه من عُثْمَانَ بْنِ طَلْحة «2» ، ومن ابن عَمِّه شَيْبَة، فطلبه العَبَّاس بْنُ عَبْدِ المطَّلب «3» لِيُضِيفَ السَّدَانَةَ إلى السّقاية، فدخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكعبةَ، وكَسَرَ ما كَانَ فيها من الأوثانِ، وأخْرَجَ مَقَامَ إبراهيمَ، وَنَزَلَ عليه جِبْرِيلُ بهذه الآية، قال عمر بنُ الخَطَّاب: فخرج النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأُ هذه الآيةَ، وما كُنْتُ سَمْعْتُهَا قَبْلُ مِنْهُ، فَدَعَا عُثْمَانَ وشَيْبَةَ، فَقَالَ لَهُمَا: خُذَاهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لاَ يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلاَّ ظَالِمٌ «4» ، ثم الآيةُ بَعْدُ تتناوَلُ الوُلاَةَ فِيمَا لَدَيْهم مِنَ الأماناتِ في قِسْمة الأموال، وَردِّ الظُّلاَمَاتِ، وعَدْلِ الحكوماتِ، وتتناول مَنْ دونهم مِنَ النّاس في حفظ

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 148) برقم (9851) ، وذكره ابن عطية (2/ 70) ، والسيوطي (2/ 312) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج. (2) عثمان بن طلحة بن أبي طلحة: (عبد الله) بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة، القرشي، العبدري، حاجب البيت، قال ابن الأثير: قتل أبوه طلحة، وعمه عثمان بن أبي طلحة جميعا يوم أحد كافرين، قتل حمزة عثمان، وقتل علي طلحة مبارزة، وقتل يوم أحد منهم أيضا: مسافع، والجلاس، والحارث، وكلاب بنو طلحة كلهم إخوة عثمان بن طلحة قتلوا كفارا.. وهاجر عثمان بن طلحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هدنة الحديبية، مع خالد بن الوليد، فلقيا عمرو بن العاص قد أتى من عند النجاشي يريد الهجرة، فاصطحبوه حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآهم: «ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها» ، وأقام مع النبي بالمدينة، وشهد معه فتح مكة، ودفع إليه مفتاح الكعبة يوم الفتح، وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان وقال: «خذوها خالدة تالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم» توفّي بمكة سنة (42) ، وقيل: استشهد ب «أجنادين» . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 578) ، «الإصابة» (4/ 220) ، «الثقات» (3/ 260) ، «الاستيعاب» (3- 4/ 1034) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 373) ، «سير أعلام النبلاء» (3/ 10) ، «التاريخ الكبير» (6/ 211) . (3) العبّاس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ، عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أبو الفضل. ولد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، وضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أوّل من كساه ذلك، وكان إليه في الجاهليّة السّقاية والعمارة، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها فأسر فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكّة، فيقال: إنه أسلم، وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وثبت يوم حنين وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من آذى العبّاس فقد آذاني فإنّما عمّ الرّجل صنو أبيه» ، أخرجه الترمذيّ في قصّة. وقد حدّث عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحاديث، روى عنه أولاده، وعامر بن سعد، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم. ومات بالمدينة في رجب أو رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وكان طويلا جميلا أبيض. ينظر ترجمته في: «الإصابة» (3/ 511، 512) برقم (4525) . (4) أخرجه الطبري (4/ 148) برقم (9851) ، وذكره ابن عطية (2/ 70) ، وابن كثير (1/ 516) ، والسيوطي (2/ 312) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج.

الودائِعِ، والتحرُّز في الشهاداتِ، وغيرِ ذلك كالرجُلِ يُحَكَّمُ في نازلةٍ مَّا ونحوه، والصَّلاةُ والزكاةُ والصِّيامُ وسائرُ العباداتِ أماناتٌ للَّه تعالى، قال ابنُ العَرَبَيِّ/ في «أحكامه» : هذه الآيةُ في أداء الأمَانَةِ، والحكْم بين الناس- عامَّة في الوُلاَة والخَلْق لأنَّ كُلَّ مسلمٍ عَالِمٌ، بل كلّ مسلم حاكم، ووال، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «المُقْسِطُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَهُمُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي أنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» «1» وقال صلّى الله عليه وسلّم: «كلّكم راع وكلّكم مسئول عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وهو مسئول عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالٍ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مسئول عنه، وكلّكم راع، وكلّكم مسئول عَنْ رَعِيَّتِهِ» «2» ، فهذه الأحاديثُ الصحيحةُ تدلُّ على ما قلناه. انتهى.

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1458) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل (18/ 1827) ، والنسائي (8/ 221- 222) في آداب القضاة: باب فضل الحاكم العادل في حكمه، وأحمد (2/ 160) ، والحميدي (2/ 268- 269) برقم (588) ، وابن حبان (1538) موارد، والبيهقي (10/ 87- 88) ، والخطيب في «التاريخ» (5/ 367) ، وابن أبي شيبة (13/ 127) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 312) برقم (2464) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مرفوعا. وعند مسلم، والنسائي، وابن حبان، والخطيب، والبغوي: «سفيان بن عيينة» . وأخرجه عبد الرزاق (11/ 325) برقم (20664) ، وأحمد (2/ 159، 203) ، والحاكم (4/ 88- 89) من طريق معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجاه جميعا، وسكت عنه الذهبي. قلت: لم يخرجه سوى مسلم كما تقدم في التخريج. (2) أخرجه البخاري (5/ 84) كتاب «الاستقراض» ، باب العبد راع في مال سيده، حديث (2409) ، (5/ 211) كتاب «العتق» ، باب كراهية التطاول على الرقيق، حديث (2554) ، (5/ 215) كتاب «العتق» ، باب العبد راع في مال سيده، حديث (2558) ، (5/ 444) كتاب «الوصايا» ، باب تأويل قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ، حديث (2751) ، (9/ 163) كتاب «النكاح» ، باب قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، حديث (5188) ، (9/ 210) كتاب «النكاح» ، باب المرأة راعية في بيت زوجها، حديث (5200) ، (13/ 119) كتاب «الأحكام» ، باب قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ ... ، حديث (7138) ، ومسلم (3/ 1459) كتاب «الإمارة» ، باب فضيلة الإمام، حديث (20/ 1829) ، وأبو داود (2/ 145) كتاب «الخراج» ، باب ما يلزم الإمام من حق الرعية، حديث (2928) ، والترمذي (1705) ، وأحمد (2/ 5، 54- 55، 111، 121) ، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (1094) ، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (ص 10، 11) رقم (3، 4) ، وعبد الرزاق (11/ 319) برقم (20650) ، وأبو يعلى (10/ 199) برقم (5831) ، وابن حبان (4472، 4474) ، والبيهقي (71/ 291) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 311- بتحقيقنا) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» برقم (209) كلهم من حديث ابن عمر. وللحديث شواهد من حديث أنس، وعائشة، وأبي لبابة بن عبد المنذر. حديث أنس: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته، فالأمير راع على الناس ومسؤول عن رعيته، والرجل راع-

[سورة النساء (4) : آية 59]

ونِعِمَّا: أصله: «نَعْمَ مَا» سُكِّنت الميمُ الأولى، وأدغمتْ في الثانية، وحُرِّكَتِ العينُ لإلتقاء الساكنَيْنِ، وخُصَّتْ بالكَسْر إتباعاً للنُّون، و «ما» المردوفةُ على «نِعْمَ» إنما هي مهيِّئة لاِتصالِ الفعْلِ بها، ومع أنها موطّئة، فهي بمعنى «الذي» . [سورة النساء (4) : آية 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... الآية: لَمَّا تُقُدِّمَ إلى الولاةِ في الآية المتقدِّمة، تُقُدِّمَ في هذه إلى الرعيَّة، فأَمَرَ بطاعتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وهي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعةِ رسولِهِ، وطاعَةِ الأمراءِ على قول الجمهور، وهو قولُ ابْنِ عبَّاس وغيره «1» ، فالأَمْرُ على هذا التأويلِ هو ضدُّ النَّهْيِ ومنْهُ لفظة «الأَمِيرِ» ، وقال جابرٌ وجماعةٌ: «أُولُو الأَمْرِ» : أهل القرآن والعِلْمِ. قال عطاءٌ: طاعةُ الرَّسُولِ هي اتباع سُنَّته، يعني: بعد موته «2» ، ولفظ ابْنِ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «3» قال: قوله تعالى: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فيها قولان:

_ - على أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية لزوجها ومسؤولة عن بيتها وولدها، والمملوك راع على مولاه ومسؤول عن ماله، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... » ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 210) ، وقال: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» ، وأحد إسنادي «الأوسط» رجاله رجال الصحيح. حديث عائشة: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 210) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه أرطأة بن الأشعث وهو ضعيف جدا. وللحديث طريق آخر. أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 276) من طريق النضر بن شميل عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» . حديث أبي لبابة بن عبد المنذر: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الحيات التي في البيوت، وقال: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهله ومسؤول عنهم، وامرأة الرجل راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول ... » . قال الهيثمي في «المجمع» (5/ 210) : لأبي لبابة في الصحيح النهي عن قتل الحيات فقط، رواه الطبراني في «الأوسط» و «الكبير» ، ورجال الكبير رجال الصحيح. (1) ذكره ابن عطية (2/ 70) . (2) أخرجه الطبري (4/ 150) برقم (9857- 9858) ، وذكره ابن عطية (2/ 71) ، والسيوطي (2/ 314) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....] (3) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 451) .

[سورة النساء (4) : الآيات 60 إلى 63]

الأوَّل: قال ميمونُ بْنُ مِهْرَانَ: هم أصحاب السَّرَايَا، وروى في ذلك حديثاً، وهو اختيار البُخَاريِّ، وروي عن ابْنِ عباس أنَّها نزلَتْ في عبد اللَّه بْنِ حُذَافَة «1» ، إذْ بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سرِيَّة «2» . والثاني: هم العلماءُ، وبه قال أكثر التابِعِينَ، واختاره مالكٌ «3» والطبريُّ. والصحيحُ عِنْدِي: أنهم الأمراء والعلماء، أمَّا الأمراء فَلأنَّ الأمْرَ منهم، والحُكْمَ إلَيْهم، وأمَّا العلماء فَلأنَّ سؤالهم متعيِّن على الخَلْق، وجوابهم لازمٌ، وامتثال فَتْوَاهم واجبٌ، ويدخُلُ فيه تَأَمُّر الزَّوْج على الزَّوْجَةِ لأنَّه حاكِمٌ عليها. انتهى. وقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ... الآية: معنى التنَازُعِ أنَّ كلَّ واحدٍ ينتزعُ حُجَّة الآخَرِ ويُذْهِبُهَا، والرَّدُّ إلى اللَّه هو النَّظَرُ في كتابِهِ العزيزِ، والرّدّ إلى الرسول هو سؤاله صلّى الله عليه وسلّم في حياتِهِ، والنَّظَرُ في سُنَّته بعد وفاته، هذا قولُ مجاهد وغيرِهِ «4» ، وهو الصحيحُ. وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... الآية: فيه بعض وعيد، وتَأْوِيلًا: معناه: مآلاً في قول جماعة، وقال قتادةُ وغيره: المعنى: أحْسَنُ عاقبةً «5» ، وقالتْ فرقة: المعنى أن اللَّه ورسولَهُ أحْسَنُ نَظَراً وتأوُّلاً منكم، إذا انفردتم بتأوّلكم. [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)

_ (1) عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي: أبو حذافة أو أبو حذيفة، وأمه تميمة بنت حرثان، من بني الحارث بن عبد مناة من السابقين الأولين. يقال: شهد بدرا، ولم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق ولا غيرهما من أصحاب المغازي. وقال ابن يونس: شهد فتح مصر. ينظر: «الإصابة» (4/ 50- 53) ، «أسد الغابة» ت (2891) ، «الاستيعاب» ت (1526) ، «الثقات» (3/ 26) . (2) تقدم. (3) ينظر «تفسير الطبري» (4/ 153) . (4) أخرجه الطبري (4/ 154) برقم (9884- 9885- 9886) ، وذكره ابن عطية (2/ 71) ، وابن كثير (1/ 518) ، والسيوطي (2/ 318) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) أخرجه الطبري (4/ 155) برقم (9893) ، وذكره ابن عطية (2/ 71) ، والسيوطي (2/ 318) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن قتادة.

وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... الآية: تقولُ العربُ: زَعَمَ فُلاَنٌ كَذَا في الأَمْرِ الذي يَضْعُفُ فيه التحقيقُ، وغايةُ دَرَجَةِ الزَّعْم إذا قَوِيَ: أنْ يكون مظْنُوناً، وإذا قال سِيبَوَيْه: زَعَمَ الخَلِيلُ، فإنما يستعملُها فيما انفرد الخَلِيلُ به وكَأَنَّ أقوى رُتَبِ «زَعَمَ» أنْ تبقى معها عُهْدة الخَبَر على المُخْبِرِ. قال عامرٌ الشَّعبيُّ: / نزلَتِ الآيةُ في منافِقٍ اسمه بِشْرٌ، خاصَمَ رجلاً من اليهودِ، فدعاه اليهوديُّ إلى المُسْلِمِينَ لعلمه أنهم لاَ يَرْتَشُونَ، وكان المنافِقُ يدعو اليهودِيَّ إلى اليهودِ لعلمه أنَّهم يرتَشُونَ، فاتفقا بَعْدَ ذلك على أنْ أَتَيَا كَاهِناً كَانَ بالمدينةِ، فَرَضِيَاهُ، فنزَلَتْ هذه الآيةُ فيهما، وفي صِنْفَيْهِمَا «1» ، فالذينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم آمَنوا بما أنزل على محمَّد- عليه السلام- هم المنافِقُونَ، والذين يَزْعُمُونَ أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ من قبله هم اليهودُ، وكلٌّ قد أُمِرَ في كتابه بالكُفْر بالطَّاغوت، والطَّاغُوتُ هُنَا الكَاهِنُ المذْكُور، فهذا تأنيبٌ للصِّنْفَيْنِ. وقال ابنُ عبَّاس: الطَّاغُوتُ هنا هو كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ، وهو الذي تراضَيَا به «2» ، وقيل غير هذا. وقوله: رَأَيْتَ، هي رؤْيَةُ عَيْنٍ لمن صَدَّ من المنافقين مجاهَرَةً وتصريحاً، وهي رؤيةُ قَلْبٍ لِمَنْ صَدَّ منهم مكْراً وتخابُثاً ومُسَارَقَةَ حتى لاَ يُعْلَمَ ذلك مِنْه إلا بالقرائِنِ الصَّادِرَةِ عنه. وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، قالت فرقة: هي في المنافقينَ الَّذين احتكموا حَسْبَمَا تقدَّم، فالمعنى: فكَيْفَ بهم إذا عاقَبَهُمُ اللَّه بهذه الذُّنوب بنِقْمَةٍ منه، ثم حَلَفُوا، إنْ أردْنَا بالإحتكامِ إلى الطَّاغُوتِ إلاَّ توفيقَ الحُكْمِ وتقريبه.

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 155- 156) برقم (9896- 9898) ، وذكره البغوي (1/ 446) ، وابن عطية (2/ 72) ، والسيوطي (2/ 319) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري (4/ 157) برقم (9902) ، وذكره ابن عطية (2/ 72) ، والسيوطي (2/ 320) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي.

[سورة النساء (4) : آية 64]

وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ: تكذيبٌ لهم وتوعُّد، أي: فهو سبحانَهُ مجازيهم، فأَعْرِضْ عنهم، وعظْهم بالتَّخْوِيفِ مِنْ عذابِ اللَّه وغيره من المَوَاعظ. وقوله سبحانه: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. قال ص: أي: قل لهم خالياً بِهِمْ لأنَّ النُّصْح، إذا كان في السِّرِّ، كان أَنْجَحَ، أو: قُلْ لهم في حال أنفُسِهِمُ النَّجِسَةِ المنطويةِ على النِّفاق قولاً يَبْلُغُ منهم الزَّجْر عن العَوْد إلى ما فَعَلوا. انتهى. واختلف في «القَوْلِ البَلِيغِ» ، فقيل: هو الزجْرُ والردْعُ والكَفُّ بالبَلاَغَةِ من القَوْل، وقيل: هو التوعُّد بالقَتْل، إن استداموا حالة النِّفَاق قاله الحسن «1» ، وهذا أبْلَغُ ما يكون في نُفُوسهم، والبَلاَغَةُ مأخوذةٌ من بلوغ المراد بالقول. [سورة النساء (4) : آية 64] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ: تنبيهٌ على جلالة الرُّسُل، أي: فأنْتَ، يا محمَّد، منهم تَجِبُ طاعَتُكَ، وتتعيّن إجابة الدعوة إليك، وبِإِذْنِ اللَّهِ: معناه: بأمر الله، وظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: أيْ: بالمعصيةِ، والنِّفَاق، وعن العتبيِّ، قال: كنت جالسا عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ تعالى يَقُولُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً، وقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَعْفِياً مِنْ ذُنُوبِي، مُسْتَغْفِراً إلى رَبِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: [البسيط] يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأََكَمُ نَفْسي الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ العَفَافُ، وَفِيهِ الجُودُ وَالكَرَمُ قال: ثُمَّ انصرف، فَحَمَلَتْنِي عَيْنَايَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي: «يَا عُتْبِيُّ: الحق الأَعْرَابِيَّ، فَبَشِّرْهُ أنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ غَفَرَ لَهُ» . انتهى من «حلية النوويِّ» ، و «سُنَنِ الصَّالحين» للباجيِّ، وفيه: مُسْتَغْفِراً مِنْ ذُنُوبِي، مستشفعاً بك إلى ربّي.

_ (1) ذكره البغوي (1/ 448) ، وابن عطية (2/ 73) .

[سورة النساء (4) : الآيات 65 إلى 68]

[سورة النساء (4) : الآيات 65 الى 68] فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... الآية: قال الطبريُّ «1» : قوله: «فَلاَ» : رَدٌّ على ما تقدَّم، تقديره: فلَيْسَ الأَمْرُ كما يَزْعُمُونَ/ أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ إلَيْكِ، ثم استأنف القَسَمَ، وقال غيره: إنما قَدَّم «لا» على القَسَم اهتماما بالنهْي، وإظهاراً لقوته، قال ابنُ عطاءِ اللَّه في «التنوير» : وفي قوله سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ: دلالةٌ على أنَّ الإيمان الحقيقيَّ لا يحصُلُ إلا لمن حَكَّمَ اللَّهَ ورسولَهُ على نَفْسه، قولاً وفعلاً، وأَخْذاً وتَرْكاً، وحُبًّا وبُغْضاً فتبيَّن لك من هذا أنه لا تَحْصُلُ لك حقيقةُ الإيمان بالله إلّا بأمرين: الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره سبحانه. انتهى. وشَجَرَ: معناه اختلط والتف مِنْ أمورهم، وهو مِنَ الشَّجَرِ، شبه بالتفاف الأغصان، والحَرَجُ: الضِّيقُ والتكلُّف والمشقَّة، قال مجاهد: حَرَجاً: شَكًّا «2» . وقوله: تَسْلِيماً. مصدرٌ مؤكِّدٌ مُنْبِىءٌ عن التحقيقِ في التَّسْليمِ لأنَّ العرب إنَّما تردفُ الفعْلَ بالمصَدرِ، إذا أرادَتْ أنَّ الفعْلَ وقَعَ حقيقةً كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] قال مجاهد وغيره: المرادُ بهذه الآية مَنْ تقدَّم ذكره ممَّن أراد التحاكُمَ إلى الطاغُوتِ، وفيهِمْ نَزَلَتْ «3» ، ورجَّح «4» الطبريُّ هذا لأنه أشبه بنَسَقِ الآية، وقالَتْ طائفة: نزَلَتْ في رَجُلٍ خَاصَمَ الزُّبَيْر بْنَ العَوَّام في السَّقْيِ بماءِ «5» الحَرَّةِ كما هو مذكورٌ في البخاريِّ وغيره، وأنَّ الزُّبَيْر قالَ: فَمَا أَحْسِبُ أنَّ هذه الآيةَ نزلت إلّا في ذلك. وكَتَبْنا: معناه: فَرَضْنَا، أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: معناه: يَقْتُلُ بعضكم بعضا، وقد

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 160) . (2) أخرجه الطبري (4/ 161) برقم (9913- 9914) ، وذكره البغوي (1/ 449) ، وابن عطية (2/ 74) ، والسيوطي (2/ 343) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (4/ 162) برقم (9920) ، وذكره ابن عطية (2/ 75) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 162) . (5) حديث شراج الحرة، حديث مشهور تقدم تخريجه. [.....]

[سورة النساء (4) : الآيات 69 إلى 70]

تقدَّم نظيره في «البقرة» ، وسببُ الآية، على ما حُكيَ: أنَّ اليهود قالوا لَمَّا لم يرض المنافق بحكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَا رأَيْنَا أَسْخَفَ مِنْ هؤلاءِ يُؤْمنونَ بمحمَّد، ثم لا يرضَوْنَ بحُكْمه، ونحنُ قَدْ أمرنا بقَتْلٍ أَنْفُسِنا، ففَعَلْنا، وبَلَغَ القَتْلُ فينا سَبْعِينَ أَلْفاً، فقَالَ ثابتُ بْنُ قَيْسٍ: لَوْ كُتِبَ ذلك علَيْنا، لَفَعَلْنَاه، فنزلَتِ الآية مُعْلِمَةً بحالِ أولئكَ المُنَافِقِينَ، وأنه لو كُتِبَ ذلك علَى الأمَّة، لم يَفْعَلُوهُ، وما كان يَفْعَلُه إلا قليلٌ مؤمنُونَ محقِّقون كَثَابِتٍ، قُلْتُ: وفي «العتبية» ، عن مالكٍ، عن أبي بَكْر (رضي اللَّه عنه) نحْوُ مقالَةِ ثابِتِ بْنِ قيسٍ، قال ابْنُ رُشْدٍ: ولا شَكَّ أنَّ أبا بَكْرٍ مِنَ القليلِ الذي استثنى اللَّهُ تعالى في الآية، فلا أحد أحقُّ بهذه الصِّفَة منه. انتهى. قال ص: إِلَّا قَلِيلٌ: الجمهورُ بالرفْعِ، على البَدَلِ من واو «فَعَلُوهُ» عند البصريِّين «1» . انتهى. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ: لو أنَّ هؤلاءِ المنافِقِينَ اتعظوا وأَنَابُوا، لكان خيرا لهم وتَثْبِيتاً، معناه: يقيناً وتصديقاً، ونحو هذا، أيْ: يثبِّتهم اللَّه. ثُمَّ ذكر تعالى ما كانَ يَمُنِّ به علَيْهم من تفضُّله بالأجر، ووَصْفُهُ إياه بالعَظِيمِ مقتضٍ مَّا لا يُحْصِيه بَشَرٌ من النعيمِ المقيمِ، والصِّرَاطُ المستقيمُ: الإيمانُ المؤدِّي إلى الجنَّة، والمقصودُ تعديدُ ما كان يُنْعِمُ به عليهم سبحانه. [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) وقوله (جَلَّت عَظَمَتُهُ) : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... الآية: لما ذَكَر اللَّه سبحانه الأمر الذي لَوْ فَعَلُوه، لأَنعم علَيْهم، ذَكَر بعد ذلك ثَوَابَ مَنْ يفعله، وهذه الآيةُ تفسِّر قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وقالتْ طائفة: إنما نزلَتْ هذه الآية لَمَّا قال عبد الله بن زيد الأنصاريّ

_ (1) وقرأ ابن عامر وجماعة: «إلا قليلا» نصبا وفيه وجهان: أشهرهما: أنه نصب على الاستثناء، وإن كان الاختيار الرفع لأن المعنى موجود معه كما هو موجود مع النصب، ويزيد عليه بموافقة اللفظ. والثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: «إلا فعلا قليلا» ، قاله الزمخشري، وفيه نظر إذ الظاهر: أنّ «منهم» صفة ل «قليلا» ، ومتى حمل القليل على غير الأشخاص يقلق هذا التركيب إذ لا فائدة حينئذ في ذكر «منهم» . ينظر: «حجة القراءات» (206، 207) ، «الدر المصون» (2/ 384) .

[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 73]

- الذي أُرِيَ الأَذَانَ-: يا رَسُولَ اللَّهِ، إذا مِتَّ، وَمِتْنَا، كُنْتَ في عِلِّيِّينَ، فَلاَ نَرَاكَ، ولا نَجْتَمِعُ بِكَ، وذكَر حُزْنَهُ على ذلك، فنزلَتْ هذه الآية «1» . قال ع «2» : ومعنى أنهم مَعَهُمْ: في دارٍ واحدةٍ، ومُتَنَعَّمٍ واحدٍ، وكلُّ مَنْ فيها قَدْ رُزِقَ الرِّضَا بحالِهِ، وذهب عنه أنْ يعتقد أنه/ مفضُولٌ، وإن كنا نَحْنُ قد عَلِمْنَا من الشريعةِ أنَّ أهل الجَنَّة تختلفُ مراتبهم على قَدْر أعمالهم، وعلى قَدْر فَضْل اللَّه على مَنْ يشاء، والصِّدِّيقُ: فِعِّيلٌ مِنَ الصِّدْقِ، وقيل: من الصَّدَقَةِ، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الصِّدِّيقُونَ المُتَصَدِّقُونَ» . ولفظ الشهداءِ في هذه الآية: يَعُمُّ أنواعَ الشهداءِ. قال ص: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجُّب كأنَّه قال: وَمَا أَحْسَنَ أولئِكَ رفيقاً، وقد قدَّمنا في كلام ابْنِ الحَاجِّ ما يدلُّ على أنَّ التعجُّب لازمٌ ل «فَعُلَ» المستعْمَلِ للمدحِ والذمِّ، على كلِّ حالٍ، سواءٌ استعملت استعمال نِعْمَ أو لا. انتهى. وقوله تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ: الإشارةُ ب «ذَلِكَ» إلى كون المُطِيعِينَ مع المنعم عليهم. [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ... الآية: هذا خطابٌ للمُخْلِصِينَ من أمّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمْر لهم بجهادِ الكفَّارِ، والخُرُوجِ فِي سَبيلِ الله، وحماية الإسلام، وخُذُوا حِذْرَكُمْ: أي: احزموا واستعدّوا بأنواع الاستعداد، وانْفِرُوا: معناه: اخرجوا، وثُباتٍ: معناه جماعاتٍ متفرِّقات، وهي السَّرَايَا، والثُّبَةُ: حُكِيَ أنها فوق العشرة، وجَمِيعاً: معناه: الجيش الكثير مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هكذا قال ابنُ عبَّاس وغيره «3» . وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ إيجابٌ، والخطابُ لجماعةِ المؤمنين، والمراد ب «من» :

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 166) برقم (9929) ، وذكره ابن عطية (2/ 76) ، وابن كثير (1/ 522) ، والسيوطي (2/ 325) ، وعزاه لابن جرير عن سعيد بن جبير. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 76) . (3) أخرجه الطبري (4/ 168) برقم (9934) ، وذكره ابن عطية (2/ 77) ، وابن كثير (1/ 524) ، والسيوطي (2/ 326) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عن ابن عباس.

[سورة النساء (4) : الآيات 74 إلى 76]

المنافقُونَ، وعبَّر عنهم ب مِنْكُمْ إذ في الظاهر في عِدَادِ المُؤْمنين، واللامُ الدَّاخلةُ على «مَنْ» : لامُ التأكيدِ، والداخلةُ على: «يُبَطِّئَنَّ» : لامُ القَسَم عند الجمهور، وتقديره: وإنَّ منكم لَمَنْ، وَاللَّهِ، لَيُبَطِّئَنَّ، ويِبَطِّئَنَّ: معناه: يبطِّىءُ غَيْرَهُ، أيْ: يثبِّطهُ،. ويحمِلُه على التخلُّف عن مغازِي رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، ومُصِيبَةٌ يعني: مِنْ قتالٍ، واستشهادٍ، وإنما هي مصيبةٌ بحَسَب اعتقاد المنافقين ونَظَرِهِمُ الفاسِدِ، وإنَّما الشهادةُ في الحقيقَةِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه سبحانه لحسن مآلها، وشَهِيداً: معناه: مُشَاهِداً. وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، أي: ظَفِرْتم وغَنِمْتم، نَدِمَ المنافقُ، وقال: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً متمنِّياً شيئاً قد كان عَاهَدَ أنْ يفعله، ثم غَدَرَ في عَهْدِهِ. وقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ: التفاتةٌ بليغةٌ، واعتراض بَيْنَ القائلِ والمَقُولِ بِلفظ يُظْهِرُ زيادةً في قُبْحِ فعلهم، وقال الزّجّاج «1» : قوله: «كأن لم يكن بينكم وبينه مودة» مؤخَّر، وإنما موضعه: «فإنْ أصابَتْكُمْ مصيبةٌ» . قال ع «2» : وهذا ضعيفٌ لأنه يُفْسِدُ فصاحةَ الكَلاَم. قال ص: وقوله: فَأَفُوزَ بالنصب: هو جواب التمنّي. انتهى. [سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لاَ تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) وقوله تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ... الآية: هذا أمر من اللَّه سبحانه للمؤمنين بالجهادِ، ويَشْرُونَ هنا: معناه: يَبِيعُونَ، ثم وصف سبحانه ثوابَ المقاتِلِينَ، والأجْرُ العظيمُ: الجَنَّة. وقوله تعالى: وَما لَكُمْ لاَ تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية: «ما» : استفهامٌ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ: عطْفٌ على اسمِ اللَّهِ عزَّ وجلّ، أي: وفي سبيل المستضعفين

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (2/ 76) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 77) .

[سورة النساء (4) : الآيات 77 إلى 78]

لإستنقاذِهِمْ، ويعني ب «المستضْعَفِينَ» : مَنْ كان بمكَّة تحت إذلال كفرة قريش، وفيهم كان صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينِ» «1» ، وَالْوِلْدانِ: عبارة عن الصبيان، والْقَرْيَةِ هنا: مَكَّةٌ بإجماعٍ، والآيةُ تتناوَلُ/ المؤمنين والأسرى في حواضِرِ الشِّرْك إلى يوم القيامة. قال ابنُ العربيِّ «2» في «أحكامه» : قال علماؤُنَا (رحمهم اللَّه) : أوجَبَ اللَّهُ تعالى في هذه الآيةِ القِتَالَ لإستنقاذ الأسرى مِنْ يَدِ العدُوِّ، وقد روى الأئمّة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ» «3» . يعني: الأسيرَ، قال مالكٌ (رحمه اللَّه) : علَى النَّاسِ أَنْ يَفُكُّوا الأسرى بجميعِ أموالِهِمْ وكذلك قالُوا: عليهمْ أنْ يُوَاسُوهُمْ. انتهى. وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية: هذه الآيةُ تقتضِي تقْويَةَ قُلُوبِ المؤمِنِينَ وتَحريضَهُمْ، وقَرِينَةُ ذِكْرِ الشيطانِ بَعْدُ تدُلُّ على أَنَّ المرادَ بالطَّاغُوتِ هنا الشيطانُ، وإعلامُهُ تعالى بضَعْفِ كيدِ الشيطانِ فيه تقويةٌ لقلوب المؤمنِينَ، وتجرِئَةٌ لهم على مُقَارَعَةِ الكيدِ الضعيفِ فإنَّ العزم والحَزْم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهدّه. [سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 78] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

_ (1) أخرجه البخاري (2/ 572) ، كتاب «الاستسقاء» ، باب دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، حديث (1006) ، ومسلم (1/ 446- 447) ، كتاب «المساجد» ، باب استحباب القنوت، حديث (275/ 295) من حديث أبي هريرة. (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 459) . (3) أخرجه البخاري (6/ 193) في الجهاد: باب فكاك الأسير (3046) ، و (9/ 149) في النكاح: باب حق إجابة الوليمة والدعوة (5174) ، و (9/ 427) في الأطعمة: باب قول الله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (5373) ، (10/ 117) في المرضى: باب وجوب عيادة المريض (5649) ، و (13/ 174) في الأحكام: باب إجابة الحاكم الدعوة (7173) ، وأبو داود (2/ 204) في الجنائز: باب الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة (3105) ، وأحمد (4/ 394، 406) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 52) برقم (2136) ، والدارمي (2/ 223) ، والبيهقي (3/ 379) ، (10/ 3) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 173) برقم (1401) عن منصور عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري مرفوعا به.

وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ... الآية: اختلف المتأوِّلون، فِيمَن المرادُ بقوله: الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ. فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: كان جماعةٌ من المؤمنين قد أَنِفُوا من الذُّلِّ بمَكَّةَ قَبْلَ الهجرة، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُبِيحَ لَهُمْ مقاتَلَةَ المُشْركين، فأمرهم عَنِ اللَّهِ تعالى بكَفِّ الأيْدِي، فلَمَّا كتب عليهم القتالُ بالمدينةِ، شَقَّ ذلك على بعضهم، ولَحِقَهُمْ ما يلْحَقُ البَشَر من الخَوَرِ والكَعِّ عَنْ مقَارَعَةِ العدُوِّ، فنزلَتِ الآية فيهم. وقال ابنُ عباس أيضاً ومجاهدٌ: إنما الآيةُ حكايةٌ عنْ حالِ اليَهُود أنهم فعلوا ذلكَ مَعَ نبيِّهم في وَقْتِهِ «1» ، فمعنى الحكايةِ عنهم تقبيحُ فِعْلِهِمْ، ونَهْيُ المؤمنين عَنْ فِعْلِ مثله. وقيل: المرادُ المنافقُونَ. و «أَوْ» : تقدَّم شرحُها في «سورة البقرة» في قوله تعالى: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] لأنَّ الموضعَيْنِ سواءٌ. وقولهم: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ: رَدٌّ في صَدْر أوامرِ اللَّهِ سبحانه، وقلَّةُ استسلام له، والأَجَلُ القريبُ: يعنُونَ به موتَهُمْ على فُرُشِهِمْ هكذا قال المفسِّرون. قال ع «2» : وهذا يحسُنُ إذا كانتِ الآيةُ في اليَهُودِ أو في المنافِقِينَ، وأما إذا كانت في طَائِفَةٍ من الصحابةِ، فإنما طَلَبُوا التأخُّر إلى وَقْتِ ظُهُورِ الإسلامِ، وكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، ويُحَسِّنُ القولَ بأنها في المنافِقِينَ اطراد ذِكْرِهِمْ فيما يأتِي بَعْدُ من الآيات. وقوله سبحانه: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ... الآية: المعنى: قل، يا محمَّد، لهؤلاءِ: متاعُ الدنيا، أي: الاِستمتاعُ بالحياةِ فيها الَّذي حَرَصْتُم علَيْهِ قليلٌ، وباقي الآيةِ بيِّن. وهذا إخبارٌ منه سبحانه يتضمَّن تحقيرَ الدُّنْيا، قلْتُ: ولِمَا عَلِمَ اللَّهُ في الدنيا مِنَ الآفات، حمى منها أولياءه، ففِي الترمذيِّ عن قتادة بن النُّعْمَان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 173) برقم (9957) ، وذكره ابن عطية (2/ 79) ، وابن كثير (1/ 526) ، والسيوطي (2/ 328) ، وعزاه للنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في «سننه» من طريق عكرمة عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 80) .

«إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً، حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ المَاءَ» «1» ، قال أبو عيسى: وفي البابِ عَنْ صُهَيبٍ، وأُمِّ المُنْذِرِ، وهذا حديثٌ حسنٌ، وفي الترمذيِّ عن ابن مسعود قال: «نام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتخذنا لَكَ فراشا؟! فقال: مالي وما للدّنيا، وما أَنَا فِي الدُّنْيَا إلاَّ كَرَاكِبٍ استظل تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» «2» ، وفي الباب عن ابنِ عُمَر، وابن عبَّاس، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ/ حسنٌ صحيحٌ. انتهى. وقوله سبحانه: فِي بُرُوجٍ الأكثرُ والأصحُّ الذي علَيْه الجمهورُ: أنه أراد ب «البُرُوج» : الحُصُونَ التي في الأرْضِ المبنيَّة لأنها غايةُ البَشَر في التحصُّن والمَنَعة، فمَثَّل اللَّه لهم بها، قال قتادة: المعنى: في قصورٍ محصَّنة» وقاله ابنُ جُرَيْجٍ «4» والجُمْهُور، وبَرَّجَ: معناه: ظَهَر ومنه تبرُّج المرأة، ومُشَيَّدَةٍ: قال الزَّجَّاج «5» وغيره: معناه: مرفُوعَة مطوَّلة ومنه أَشَادَ الرَّجُلُ ذِكْرَ الرَّجُل إذا رفَعَهُ، وقالتْ طائفةٌ: مُشَيَّدَةٍ: معناه: محسَّنة بالشِّيدِ، وهو الجَصُّ، وروى النسائيَّ عن أبي هُرَيْرَة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» ، يعني: الموتَ، وخرَّجه ابنُ ماجة والترمذيُّ «6» ، وخرَّجه أبو نُعَيْمٍ

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 381) ، كتاب «الطب» ، باب ما جاء في الحمية، حديث (2036) ، والحاكم (4/ 207، 309) ، وابن حبان (2474- موارد) من حديث قتادة بن النعمان مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. (2) أخرجه الترمذي (4/ 588- 589) ، كتاب «الزهد» باب (44) رقم (2377) ، وابن ماجة (2/ 1376) ، كتاب «الزهد» ، باب مثل الدنيا، حديث (4109) ، وأحمد (1/ 441) ، والطيالسي (2/ 120- منحة) رقم (2430) ، والحاكم (1/ 310) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 102) كلهم من طريق علقمة عن ابن مسعود به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم. (3) أخرجه الطبري (4/ 175) برقم (9963) ، وذكره البغوي (1/ 454) ، وابن عطية (2/ 80) ، والسيوطي (2/ 329) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة. [.....] (4) أخرجه الطبري (4/ 175) برقم (9965) ، وذكره ابن عطية (2/ 80) . (5) ينظر: «معاني القرآن» (2/ 79) . (6) أخرجه الترمذي (4/ 479) ، كتاب «الزهد» ، باب ما جاء في ذكر الموت، حديث (2307) ، والنسائي (4/ 4) كتاب «الجنائز» ، باب كثرة ذكر الموت، وابن ماجة (2/ 1422) كتاب «الزهد» ، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4258) ، وأحمد (2/ 292- 293) ، وابن أبي شيبة (13/ 226) ، رقم (16174) ، والحاكم (4/ 321) ، وابن حبان (2559- موارد) ، ونعيم بن حماد في «زوائد الزهد» . رقم (146) ، والخطيب (9/ 470) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1/ 391) رقم (669) كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. -

الحافظُ بإسناده من حديثِ مالكِ بْنِ أنس، عن يَحْيَى بْنِ سعيدٍ، عَنِ ابنِ المُسَيَّب، عن عمر بن الخطّاب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمثله «1» ، وروى ابنُ ماجة بسَنَده، عنِ ابن عُمَرَ أنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، قَالَ: فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ استعدادا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ» ، وأخرجه مالك أيضاً «2» . انتهى من «التذكرة» «3» . وقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ... الآية: الضميرُ في تُصِبْهُمْ عائدٌ على الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وهذا يدلُّ على أنَّهم المنافقون لأن المؤمنين لا تليقُ بهم هذه المقالةُ ولأنَّ اليهودَ لم يكُونوا للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم تَحْتَ أمْرٍ، فتصيبهم بِسَبَبِهِ أَسْوَاءٌ، والمعنى: إنْ تُصِبْ هؤلاءِ المنافقين حَسَنَةٌ من غنيمةٍ أو غيرِ ذلك، رَأَوْا أنَّ ذلك بالاتفاقِ مِنْ صُنْع اللَّه، لا ببَرَكَةِ اتباعك والإيمانِ بِكَ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: هزيمةٌ، أو شدَّةُ جُوعٍ، أو غيرُ ذلكَ، قالوا: هذه بسَبَبِكَ. وقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: إعلامٌ من اللَّه سبحانه أنَّ الخيْرَ والشرَّ، والحسنَةَ والسيِّئة خَلْقٌ له، ومِنْ عنده، لا رَبَّ غيره، ولا خَالِقَ ولا مُخْتَرِعَ سواه، والمعنى: قل، يا محمّد، لهؤلاء.

_ - وللحديث شاهد من حديث أنس بن مالك. أخرجه البزار (4/ 240) رقم (3623) ، والطبراني في «الأوسط» ، وأبو نعيم (9/ 252) ، والخطيب في تاريخه (12/ 72- 73) كلهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس به. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 311) وقال: رواه البزار، والطبراني باختصار عنه، وإسنادهما حسن. اهـ. وأخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (671) من حديث ابن عمر. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 355) من طريق جعفر بن محمد بن الحسين الزهري، ثنا عبد الملك بن يزيد ثنا مالكِ بْنِ أنس عن يَحْيَى بْنِ سعيدٍ عن عمر مرفوعا، وقال أبو نعيم: غريب من حديث مالك تفرد به جعفر عن عبد الملك. اهـ. (1) ينظر: الحديث السابق. (2) أخرجه ابن ماجة (2/ 1423) ، كتاب «الزهد» ، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4259) من طريق فروة بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به، قال البوصيري في «الزوائد» (3/ 310) : هذا إسناد ضعيف، فروة بن قيس مجهول، وكذا الراوي عنه وخبره باطل، قاله الذهبي في «طبقات التهذيب» . (3) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 20) .

[سورة النساء (4) : الآيات 79 إلى 81]

ثُمَّ وبَّخهم سبحانه بالاستفهامِ عن عِلَّةِ جهلهم، وقلَّةِ فهمهم، وتحصِيلِهِمْ لما يُخْبَرُونَ به من الحقائِقِ، والْفِقْهُ في اللغةِ: الفَهْمُ، وفي الشَّرْعِ: الفهمُ في أمورِ الدِّين، ثم غَلَبَ علَيْهِ الاستعمال في علم المسائل الأحكاميّة «1» . [سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 81] ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) وقوله تعالى: مَّا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وغيرُهُ داخلٌ في المعنى، ومعنى الآية عند ابنِ عَبَّاس وغيره: على القَطْع، واستئناف الأخبارِ مِنَ اللَّه عزَّ وجلَّ بأنَّ الحسَنَةَ منْه، ومن فضله، وبأنّ السيئة من الإنسان بإذنابه، وهي من

_ (1) يطلق الفقه لغة على أقوال ثلاثة: الفهم مطلقا سواء كان المفهوم دقيقا أم غيره، وسواء غرضا لمتكلم أم غيره. والدليل على ذلك على لسان قوم شعيب: ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود: 91] ، وقوله في شأن الكفار: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء: 78] ، وقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] . فهذه الآيات تفيد أنّ الفقه هو الفهم مطلقا. ثانيا: قيل: هو الفهم للأشياء الدقيقة فقط، فلا يصح أن نقول: فقهت أن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا. وهذا القول مردود بما سبق من آيات، وبما قاله أئمة اللغة من أن الفقه هو الفهم مطلقا. ثالثا: هو فهم غرض المتكلم من كلامه، فلا يسمى لغة فهم الطير فقها، ورد هذا القول بما رد به الثاني. واصطلاحا: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية. وقال السيوطي نقلا عن بعض أصحاب الشافعي: الفقه: معرفة النظائر، وقال بعض أصحاب الشافعية أيضا: الفقه: فرق وجمع. وقال الغزالي: الفقه: عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة. وقال محمد نظام الدين محمد اللكنوي في «فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت» : الفقه: حكمة فرعية شرعية، وعرفوه بأنه: العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية. وعرفه الزركشي: بمعرفة الحوادث نصا واستنباطا. وعرفه أبو حنيفة: بمعرفة النفس مالها وما عليها. ينظر: «لسان العرب» (5/ 3450) ، «ترتيب القاموس» (3/ 513) ، «المصباح المنير» (2/ 656) ، «الأشباه والنظائر» (6) ، والقائل الشيخ قطب الدين السنباطي، «المنثور» (1/ 66) ، «المستصفى» (1/ 4) ، «التلويح على التوضيح» (1/ 5) .

اللَّه تعالى بخَلْقِهِ واختراعه، لا خالِقَ سواه سبحانه، لا شريكَ لَهُ، وفي مُصْحَفِ «1» ابنِ مَسْعودٍ: «فَمِنْ نَفْسِكَ، وَأَنَا قَضَيْتُهَا عَلَيْكَ» ، وقرأ بها ابنُ عَبَّاس «2» ، وفي رواية: «وَأَنَا قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ» ويعْضُدُ هذا التأويلَ أحاديث عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم معناها: أنَّ ما يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ من المصائِبِ، فإنما هو عقوبةُ ذنوبه «3» ، قال أبو جعفر أحمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُودِيُّ: قوله تعالى: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ: خطابٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمرادُ غيره. انتهى. وفي قوله سبحانه: / وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا، ثم تلاه بقوله: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً: توعُّدٌ للكُفَّار، وتهديدٌ تقتضيه قُوَّة الكلامِ لأن المعنى: شهيداً على مَنْ كذَّبه. وقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، فالمعنى: أنَّ الرسول- عليه السلام- إنما يأمر وينهى بيانا وتبليغا عن الله، وتَوَلَّى: معناه: أعرض، وحَفِيظاً: يحتملُ معنَيَيْنِ: أي: لِتَحْفَظَهُمْ حتى لا يقَعُوا في الكُفْر والمعاصِي ونحوه، أو لتَحْفَظَ مساوِيَهُمْ وتَحْسِبَها عليهم، وهذه الآيةُ تقتضِي الإعراضَ عَمَّنْ «4» تولى، والتَّرْكَ له، وهي قَبْلَ نزولِ القِتَالِ، وإنما كانت توطئة ورفقا من الله عز وجل حتى يستحكم أمرُ الإسلام. وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ ... الآية: نزلَتْ في المنافقينَ باتفاق المفسِّرين، المعنى: يقولُونَ لك، يا محمَّد: أَمْرُنَا طاعةٌ، فإذا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ، اجتمعوا ليلاً، وقالوا غير ما أظهروا لك، وبَيَّتَ: معناه: فَعَلَ لَيْلاً، وهو مأخوذٌ مِنْ بَاتَ أوْ مِنَ البَيْتِ لأنه مُلْتَزَمٌ باللَّيْل. وقوله: تَقُولُ: يحتملُ أنْ يكون معناه: تَقُولُ أنْتَ، ويحتملُ تَقُولُ هِيَ لَكَ، والأمْرُ بالإعراض إنَّما هو عِنْدَ معاقبتهم ومجازاتِهِمْ، وأما استمرار عِظَتِهِمْ ودَعْوتِهِم، فلازمٌ، ثم أمر سبحانه بالتوكُّل عليه، والتمسُّك بعُرْوته الوثقى ثقةً بإنجاز وعده في النّصر،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 82) ، و «البحر المحيط» (3/ 313) . (2) ورويت عن ابن مسعود، وأبي ينظر السابق. (3) أخرجه البخاري (10/ 103) ، كتاب «المرضى» ، باب ما جاء في كفارة المرض، حديث (5641، 5642) ، ومسلم (4/ 1992) ، كتاب «البر والصلة» ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، حديث (52/ 2573) عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» . (4) في أ: عمن.

[سورة النساء (4) : الآيات 82 إلى 84]

والوَكِيلُ: القائمُ بالأمورِ المُصْلِحُ لما يُخَافُ مِنْ فسادها. [سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 84] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) وقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ... الآية: المعنى: أَفلا يتدبَّر هؤلاءِ المنافقُونَ كَلاَمَ اللَّه تعالى، فتظهر لهم براهِينُهُ، وتلُوح لهم أدلَّته، قُلْتُ: اعلم (رحمك اللَّه تعالى) أنَّ تدبُّر القرآن كفيلٌ لصاحبه بكُلِّ خير، وأما الهَذْرَمَة «1» والعَجَلَةُ، فتأثيرُها في القَلْب ضعيفٌ قال النوويُّ (رحمه اللَّه) : وقد كَرِهَ جماعةٌ من المتقدِّمين الخَتْمَ فِي يومٍ وليلةٍ ويدلُّ عليه ما رُوِّينَاهُ بالأسانيدِ الصَّحيحة في سُنَن أبي دَاوُد، والتِّرمذيِّ، والنَّسَائِيِّ وغيرها، عن عبد اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنَ العَاصِي، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ» «2» . انتهى. قال ع «3» : والتدبُّر هو النظر في أعقابِ الأُمُور وتأويلاتِ الأشياءِ، هذا كلّه يقتضيه قوله سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وهذا أمرٌ بالنَّظَرِ والاستدلال، ثم عَرَّف تعالى بِمَوْقِعِ الحُجَّة، أي: لو كان مِنْ كلامِ البَشَر، لَدَخَلَهُ مَا فِي البَشَرَ من القُصُور، وظهر فيه التناقُضُ والتنافِي الَّذي لا يُمْكِنُ جَمْعُه إذ ذلك موجودٌ في كلامِ البَشَرِ، والقرآنُ منزَّه عنه إذ هو كلامُ المحيطِ بِكُلِّ شيء سبحانه. قال ع «4» : فإن عرضَتْ لأحدٍ شبهةٌ، وظنَّ اختلافا في شَيْءٍ مِنْ كتابِ اللَّه، فالواجبُ أنْ يتَّهم نَظَرَهُ ويسأَلَ مَنْ هو أعلَمُ منه. وقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ... الآية: قال جُمْهور المفسِّرين: إن الآيةَ من المنافِقِينَ حَسْبما تقدَّم، والمعنى: أنَّ المنافقين كانوا يتشوَّفون إلى

_ (1) الهذرمة: كثرة الكلام، وهذرم الرجل في كلامه هذرمة إذا خلّط فيه، ويقال للتخليط: الهذرمة، ويقال: هو السرعة في القراءة والكلام والمشي. ينظر: «لسان العرب» (4644) . (2) تقدّم تخريجه. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 83) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 83) .

سماع ما يسيء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا طَرَأَتْ لهم شبهةُ أَمْنٍ للمسلمينَ، أو فَتْحٍ عليهم، حَقَّرُوهَا وصَغَّروا شأنَها، وأذاعوا ذلك التحْقيرَ والتَّصْغِيرَ، وإذا طرأت لهم شُبْهَةُ خوفٍ للمسلمين أو مصيبة، عظّموها، وأذاعوا ذلك، وأَذاعُوا بِهِ: معناه: أَفْشَوْهُ، وهو فِعْلٌ يتعدى بحرفِ الجَرِّ وبنفسه أحياناً. وقالت فرقة: الآية نزلَتْ في المنافقين، وفِيمَنْ ضَعُفَ جَلَدُه، وقَلَّتْ تجْرِبَتُهُ مِنَ المؤمنين/ وفي الصحيحِ مِنْ حديثِ عُمَرَ بْنِ الخطَّاب (رضي اللَّه عنه) أنه جَاءَ، وَقَوْمٌ فِي المَسْجِدِ، يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم نِسَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: لاَ، قَالَ عُمَرُ: فَقُمْتُ على بَابِ المَسْجِدِ، فَقُلْتُ: أَلاَ إنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فأنزَلَ اللَّه تعالى هذه الآيةَ «1» . وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ... الآية قال: وَأَنَا الَّذِي استنبطته. وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ ... الآية: المعنى: لو أمسكوا عن الخَوْض واستقصوا الأمرِ مِنْ قِبَلِ الرسولِ، وأولِي الأمْر، وهم الأَمَرَاءُ والعُلَمَاءُ، لَعَلِمَهُ طُلاَّبُهُ مِنْ أُولِي الأمْرِ، والبَحَثَةِ عنه، وهم مستنْبِطُوهُ كَمَا يُسْتَنْبَطُ الماءُ، وهو استخراجه مِنَ الأرْضِ. وقوله سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ... الآية: خِطَابٌ لجميعِ المؤمنينَ باتفاقٍ من المتأوِّلين، وقوله: إِلَّا قَلِيلًا هو مستثنى في قول جماعةٍ من قوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا، وقال ابن عَبَّاس، وابن زَيْدٍ: ذلك مستثنًى من قوله: «أَذَاعُوا بِهِ إلاَّ قليلاً» ، ورجَّحه «2» الطبريُّ «3» ، وقال قتادة: هو مستثنًى من قوله: «يستنبطُونَهُ إلا قليلاً» «4» . ت: قال الدَّاوُوديُّ: قال أبو عُبَيْدة: وإنما كَرِهَ العلماءُ أن يجعلوا الاستثناء من

_ (1) أخرجه مسلم (2/ 1105- 1108) ، كتاب «الطلاق» ، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن، حديث (30/ 1479) . وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 333) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (4/ 186) برقم (10017- 10018) ، وذكره ابن عطية (2/ 84) ، والسيوطي (2/ 334) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 186) . (4) أخرجه الطبري (4/ 185- 186) برقم (10014- 10015) ، وذكره ابن عطية (2/ 84) ، والسيوطي (2/ 334) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة النساء (4) : الآيات 85 إلى 87]

قوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا لأنَّه لا وَجْهَ له فإنَّه لولا فَضْلُ اللَّهِ ورحْمَتُهُ، لاتبعوا الشيْطَانَ كلُّهم. انتهى، وهو حَسَنٌ، وأما قوله: «لا وَجْهَ له» ، ففيه نظَرٌ، فقد وجَّهه العلماءُ بما لا نُطِيلُ بذكْره. وقوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية: هذا أمر في ظاهر اللّفظ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَحْده، لكن لم نَجِدْ قَطُّ في خَبَرٍ، أنّ القتال فرض على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، دون الأُمَّة مُدَّةً مَّا، والمعنى، واللَّه أعلَمُ أنه خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في اللفظِ، وهو مثالُ مَا يُقَالُ لكلِّ واحدٍ في خاصَّة نَفْسه، أي: أنْتَ، يا محمَّد، وكلُّ واحدٍ من أمَّتك القولُ لَهُ: فقاتِلْ في سبيلِ اللَّه، لا تُكَلَّف إلاَّ نَفْسَكَ، ولهذا ينبغي لكلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يستَشْعِرَ أنْ يُجَاهِدَ، ولو وحْدَه ومِنْ ذلك قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وَاللَّهِ، لأُقَاتِلَنَّكُمْ حتى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي «1» » «2» ، وقولُ أبِي بَكْرٍ (رضي اللَّه عنه) وَقْتَ الرِّدَّةِ: «وَلَوْ خَالَفَتْنِي يَمِينِي، لَجَاهَدتُّهَا بِشِمَالِي» ، وعسى إذا وردَتْ من اللَّه تعالى، فقال عكرمة وغيره: هي واجِبَةٌ بفَضْلِ اللَّه ووَعْده الجميلِ «3» ، قلْتُ: أيْ: واقعٌ مَّا وعَدَ به سبحانه، والتنكيلُ: الأخْذُ بأنواع العذاب. [سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) وقوله سبحانه: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً ... الآية: قال مجاهدٌ وغيره: هي في شَفَاعَاتِ النَّاس بينهم في حوائجهم، فَمَنْ يشفعْ لينفَع، فلَهُ نصيبٌ، ومَنْ يشفعْ ليضُرَّ، فله «4» كِفْلٌ، والكِفْلُ: النَّصيبُ، ويستعمل في الخَيْرِ وفي الشَّرِّ، وفي كتاب اللَّه تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] ، وروى أبو داود، عن أبي أُمَامَةَ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفرادها عن الموت لأنها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت. وقيل: أراد حتى يفرّق بين رأسي وجسدي. ينظر: «النهاية» (2/ 390) . (2) أخرجه البخاري (5/ 388- 392) ، كتاب «الشروط» ، باب الشروط في الجهاد، حديث (2731) ، (2732) ، وأحمد (4/ 329) من حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم. (3) ذكره ابن عطية (2/ 86) . (4) أخرجه الطبري (4/ 188) برقم (10021) ، وذكره البغوي (1/ 457) ، وابن عطية (2/ 86) ، وابن كثير (1/ 531) ، والسيوطي (2/ 335) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

أنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لأحَدٍ شَفَاعَةً، فأهدى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أتى بَاباً عظيما من أبواب الرّبا» «1» . انتهى. ومُقِيتاً: معناه: قديراً ومنه قولُ الزُّبَيْر بْنِ عبدِ المُطَّلِبِ: [الوافر] وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْه ... وَكُنْتُ على إسَاءَتِهِ مُقِيتَا «2» أيْ: قديراً. وقيل: مُقِيتاً: معناه شهيداً، وقيل: حفيظاً. وذهب مقاتلٌ إلى أنه الذي يَقُوتُ كلَّ حيوان، قال الداوديّ: قال الكلبيُّ المَقِيتُ هو المُقْدِرُ بلُغَة قُرَيْشٍ. انتهى. وقوله سبحانه: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ ... الآية: قالتْ فرقةٌ: معنى الآية: تخييرُ الرَّادِّ فإذا قال البادئ: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ» ، فللرادِّ أنْ يقولَ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ» فقطْ، وهذا هو الرَّدُّ، وله أنْ يقولَ: «وعَلَيْكَ السَّلاَمُ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ» ، وهذا هو التحيَّة بأحْسَنَ، ورُوِيَ عن ابن عُمَرَ وغيره انتهاء السَّلام إلى البَرَكة، وقالَتْ فرقةٌ: المعنى: إذا حُيِّيتم بتحيةٍ، فإن نَقَص المسلِّمُ مِنَ النهاية، فحَيُّوا بأحْسَنَ منها، وإن انتهى، فردُّوها، كذلك قال عطاءٌ، والآيةُ في المؤمنين خاصَّةً، ومَنْ سَلَّم من غيرهم، فيقالُ لَهُ: «عَلَيْكَ» كما» في الحديث «4» ، وفي

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 314) ، كتاب «البيوع» ، باب في الهدية لقضاء الحاجة، حديث (3541) من طريق خالد بن أبي عمران عن القاسم عن أبي أمامة به. (2) البيت من شواهد «البحر المحيط» (3/ 316) ، و «الدر المصون» (2/ 405) ، و «الكشاف» (1/ 543) . والضغن: الحقد. والإقاتة: الاقتدار، وروى الصاغاني: أقيت، وروى بعده: يبيت الليل مرتفقا ثقيلا ... على فرش الفتاة وما أبيت وطن إليّ منه مؤذيات ... كما تؤذي الجذامير البروت (3) أخرجه الطبري (4/ 191) برقم (10040) ، وذكره ابن عطية (2/ 87) ، والسيوطي (2/ 337) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (4) قال الخطابي في «معالم السنن» (4/ 154) : هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم «بالواو» ، وكان سفيان بن عيينة يرويه: «عليكم» بحذف الواو، وهو الصواب وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والجمع بين الشيئين. وقال الحافظ: «الفتح» (11/ 48) : قال النووي: الصواب أن حذف الواو وإثباتها ثابتان جائزان وبإثباتها أجود، ولا مفسدة فيه، وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما: أنهم قالوا: عليكم الموت، فقال: وعليكم أيضا، أي: نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. -[.....]

أبي داود، والترمذيّ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَ بالسَّلاَمِ» «1» . انتهى. وأكثرُ أهل العلْمِ على أنَّ الابتداءَ بالسَّلاَمِ سُنَّةٌ مؤكَّدة، وَرَدُّه «2» فريضةٌ لأنه حقٌّ من الحقوقِ قاله الحسن وغيره، قال «3» النوويُّ: وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ فِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يَسْتَقْبِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُصَافِحُهُ، فَيُصَلِّيَانِ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ لَمْ يَتَفَرَّقَا حتى تُغْفَرَ ذُنُوبُهُمَا، مَا تقدّم منها وما تأخّر» «4» ، وروّينا

_ - والثاني: أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك، والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم. وقال البيضاوي: في العطف شيء مقدر، والتقدير: وأقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون، وليس هو عطفا على «عليكم» في كلامهم، وقال القرطبي: قيل: الواو للاستئناف، وقيل: زائدة، وأولى الأجوبة أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا. وحكى ابن دقيق العيد عن ابن رشد تفصيلا يجمع الروايتين: إثبات الواو، وحذفها فقال: من تحقق أنه قال: السام أو السلام بكسر السين فليرد عليه بحذف الواو، ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو، فيجتمع من مجموع كلام العلماء في ذلك ستة أقوال. وقال النووي تبعا لعياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو، ومن فسرها بالسامة فإسقاطها هو الوجه. قلت: بل الرواية بإثبات الواو ثابتة وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة. (1) أخرجه أبو داود (2/ 772) ، كتاب «الأدب» ، باب في فضل من بدأ بالسلام، حديث (5197) ، والترمذي (5/ 56) ، كتاب «الاستئذان» ، باب ما جاء في فضل الذي يبدأ بالسلام، حديث (2694) ، وأحمد (5/ 245، 261، 264، 269) من حديث أبي أمامة. (2) ابتداء السلام سنة عين من الواحد، ولو صبيا ولو على من ظن أنه لا يرد، ومن الجماعة سنة كفاية ورده فرض عين على الواحد عند إقباله وانصرافه، وكذا لو علمه واحد فقط من الجماعة ولو كان المسلم صبيا مميزا، وفرض كفاية إن كان على جماعة اثنين فأكثر مسلمين مكلفين وسكارى لهم نوع تمييز عالمين به ولو نساء، ولم يتحلل به من صلاة، وإن كرهت صيغته، ولو أسقط المسلم حقه لم يسقط لأن الحق لله تعالى، ولو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الفرض، كالمصلين على جنازة، وشرطه إسماع واتصال كاتصال الإيجاب بالقبول. واعلم أن ابتداء السلام أفضل من رده، وهذا من المسائل التي استثنيت من كون الفرض أفضل من التطوع، ومنها إبراء المعسر أفضل من انتظاره لكن رد ذلك العلامة ابن حجر في: «التحفة» بأن سبب الفضل في هذين: اشتمال المندوب على مصلحة الواجب، وزيادة إذ بالإبراء زال الانتظار، وبالابتداء حصل أمن أكثر مما في الجواب، أي: ففضله عليه من حيث اشتماله على مصلحة الواجب لا من ذاته، ولا من حيث كونه مندوبا، وقد وقفت للعلامة ابن علان في ذلك على هذين البيتين: الفرض أفضل من نفل وإن كثرا ... فيما عدا صور أخذها حوت دررا بدء السلام أذان والطهارة من ... قبيل وقت مع الإبرار لمن عسرا ينظر: «سبعة كتب مفيدة» ص (141، 144) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 87) ، وابن كثير (1/ 532) ، والسيوطي (2/ 338) ، وعزاه للبخاري في «الأدب المفرد» ، وابن المنذر عن ابن عباس. (4) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (193) .

[سورة النساء (4) : الآيات 88 إلى 90]

فيه عَنْ أَنسٍ أيضاً، قال: «مَا أَخَذَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِيَدِ رَجُلٍ، فَفَارَقَهُ حتى قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» «1» وَروِّينَا فيه، عَنِ البَرَاءِ بن عازِبٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ المُسْلِمِيْنَ إذَا التقيا، فَتَصَافَحَا، وتَكَاشَرَا بِوُدٍّ وَنَصِيحَةٍ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا بَيْنَهُمَا» ، وفي رواية: «إذَا التقى المُسْلِمَانِ، فَتَصَافَحَا، وَحَمِدَا اللَّهَ تعالى، واستغفرا- غفر الله عزّ وجلّ لهما» «2» . انتهى. وحَسِيباً: معناه حَفِيظاً، وهو فَعِيلٌ من الحِسَاب. وقوله سبحانه: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ... الآية: لما تقدَّم الإنذارُ والتحذيرُ الذي تضمَّنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً، تلاه الإعلامُ بصفَةِ الربوبيَّة، وحالِ الوحدانيَّة والإعلامِ بالحَشْرِ والبَعْثِ مِنَ القبور للثَّواب والعقابِ إعلاماً بقَسَمٍ، تقديره: وَحَقِّهِ وَعَظَمَتِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، والجَمعُ بمعنى الحَشْر. وقوله سبحانه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً: المعنى: لا أحَدَ أصْدَقُ من الله تعالى. [سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 90] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) وقوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... الآية: واختلف في هؤُلاَءِ المنافِقِينَ. فقال ابنُ عَبَّاس: هم قومٌ كانوا بمَكَّة أظهروا الإيمانَ لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كُتُبٍ بَعَثُوا بِهَا إلى المدينةِ، ثم خَرَجُوا مسافِرِينَ إلى الشَّام، وأعطَتْهم قريشٌ بِضَاعَاتٍ، وقالوا لهم: أنتم لا تَخَافُونَ أصْحَاب محمَّد لأنّكم تخدعونهم بإظهار الإيمان، فاتّصل خبرهم

_ (1) أخرجه ابن السني رقم (203) . (2) أخرجه أبو داود (2/ 775) ، كتاب «الأدب» ، باب في المصافحة، حديث (5211، 5212) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ، حديث (192، 194) من حديث البراء.

بالمدينَةِ، فاختلف المؤمنُونَ فيهم «1» ، فقالَتْ فرقةٌ: نَخْرُجُ إلَيْهم فإنهم منافقونَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ، لاَ سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِمْ، فنزلَتِ الآية، وعن مجاهدٍ نحوه «2» . قال ع «3» : ويَعْضُدُهُ ما في آخر الآيةِ مِنْ قوله تعالى: حَتَّى يُهاجِرُوا، وقال زيدُ بنُ ثابتٍ: نزلَتْ في عبد اللَّه بْنِ أُبيٍّ وأصحابِهِ المنافِقِينَ الذين رجعوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ أُحُدٍ، وهو في «صحيحِ البخاريِّ» مسنداً «4» ، قال ابن العربي في «أحكامه» «5» ، وهذا القول هو اختيار البخاريِّ والترمذيِّ. انتهى. قال ع «6» : وعلى هذا، فقولُه سبحانَهُ: حَتَّى يُهاجِرُوا المرادُ هَجْرُ ما نَهَى اللَّهُ عنه كما قال- عليه السلام-: «والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه» «7» ، وفِئَتَيْنِ: معناه: فرقتين، / وأَرْكَسَهُمْ: معناه: أرجعَهُمْ في كُفْرِهِمْ وضَلاَلِهِمْ، والرِّكْس: الرَّجيع ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الرَّوْثَةِ: «إنَّهَا رِكْسٌ» «8» ، وحكى النضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ والكِسَائِيُّ: رَكَسَ وأَرْكَسَ بمعنًى واحدٍ، أي: أرجَعَهم، ومَنْ قال مِنَ المتأوِّلين: أَهْلَكَهم، أو أضلَّهم، فإنَّما هو بالمعنى، وباقي الآية بَيِّنٌ.

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 195) برقم (10060) ، وذكره ابن عطية (2/ 88) ، وابن كثير (1/ 532- 533) ، والسيوطي (2/ 340) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (4/ 194- 195) برقم (10058- 10059) ، وذكره البغوي (1/ 459) ، وابن عطية (2/ 88) ، وابن كثير (1/ 533) ، السيوطي (2/ 340- 341) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 88) . (4) أخرجه البخاري (8/ 104- 105) ، كتاب «التفسير» ، باب فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ، حديث (4589) من حديث زيد بن ثابت. (5) ينظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 469) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 88) . (7) أخرجه البخاري (1/ 69) ، كتاب «الإيمان» ، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث (10) وفي (11/ 323) كتاب «الرقاق» ، باب الانتهاء عن المعاصي، حديث (6484) ، ومسلم (1/ 65) كتاب «الإيمان» ، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، حديث (64/ 40) من حديث عبد الله بن عمرو. [.....] (8) أخرجه البخاري (1/ 308) ، كتاب «الطهارة» ، باب لا يستنجي بروث، حديث (156) ، والنسائي (1/ 39- 40) كتاب «الطهارة» ، باب الرخصة في الاستطابة بحجر، وابن ماجة (1/ 114) ، كتاب «الطهارة» ، باب الاستنجاء بالحجارة، حديث (314) ، وأحمد (1/ 418) ، وأبو يعلى (9/ 63) برقم (5127) ، وابن المنذر في «الأوسط» (296) ، والبيهقي (2/ 413) من حديث ابن مسعود.

قال ص: أَرْكَسَهُمْ، أي: رَدَّهم في الكُفْر. وقال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» : أَخْبَرَ اللَّه تعالى أنه رَدَّ المنافِقِينَ إلى الكُفْر، وهو الإركَاسُ، وهو عبارةٌ عن الرجُوعِ إلى الحالَةِ المكروهَةِ كما قال في الرَّوْثَةِ: «إنَّهَا رِكْسٌ» ، أيْ: رجَعَتْ إلى حالةٍ مكروهةٍ، فنَهَى اللَّه سبحانَهُ الصحابَةَ أنْ يتعلَّقوا فيهم بظَاهِرِ الإِيمان إذ كان باطنهم الكُفْرَ، وأمرهم بقَتْلهم، حَيْثُ وجَدُوهُم. انتهى. وقولُهُ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ... الآية. قال ص: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ: استثناءٌ متَّصِلٌ من مَفْعولِ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ. انتهى. قال ع «1» : هذه الآيةُ مِنْ آياتِ المُوَادَعَةِ في أول الإسلام، ثم نُسِخَتْ بما في سورة «بَرَاءَةَ» فالآيةُ تقتضي أنَّ مَنْ وصَلَ من المشركِينَ الذين لا عهد بينهم، وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى هؤلاءِ أهْلِ العهدِ، فدخَلَ في عِدَادِهِمْ، وفَعَلَ فِعْلَهم من المُوَادَعَةِ، فلا سَبِيلَ عليه. وقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ: عطْفٌ على يَصِلُونَ، ويحتملُ أنْ يكون على قوله: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ، والمعنى في العَطْفَينِ مختلفٌ، وهذا أيضاً حُكْمٌ قبل أنْ يستحكم أمْرُ الإسلام، فكان المشرك، إذا اعتزل القتَالَ، وجاء إلى دارِ الإِسلامِ مُسَالماً كارهاً لقتالِ قَوْمِهِ مع المسلِمِينَ، ولقِتَالِ المُسْلمين مع قومه، لا سَبِيلَ عليه، وهذه نُسِخَتْ أيضاً بما في «براءة» ، ومعنى حَصِرَتْ: ضاقَتْ، وحَرِجَتْ ومنه: الحَصَرُ في القَوْل، وهو ضِيقُ الكَلاَم علَى المتكلّم، وحَصِرَتْ: في موضعِ نصبٍ على الحال، واللاَّمُ في قوله: لَسَلَّطَهُمْ جوابٌ «لو» ، والمعنى: ولو شاء اللَّه، لَسَلَّطَ هؤلاءِ الَّذين هُمْ بهذه الصِّفَة من المُسَالَمَة والمُتَارَكَة عليكم، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ، أي: إذا وقَعَ هذا، فلَمْ يقاتِلُوكم، فلا سَبِيلَ لكم عليهم، وهذا كلُّه، والذي في سورة «الممتحنة» : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ ... [الممتحنة: 8] الآية: منسوخ قاله قتادة وغيره «2» . والسَّلَمَ: الصّلح.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 90) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 91) .

[سورة النساء (4) : آية 91]

[سورة النساء (4) : آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) وقوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ... الآية: لما وصَفَ اللَّه سبحانه المحقِّقين في المْتَارَكَة وإلقاءِ السَّلَم، نَبَّهَ على طائفةٍ مخادِعَةٍ كانوا يريدُونَ الإقامَةَ في مَوَاضِعِهِمْ مع أهليهم، يقُولُونَ لهم: نَحْنُ معكم وعلى دينَكُمْ، ويقولُونَ أيضاً للمسلمين: نَحْنُ معَكُمْ، وعلى دينكم خَبْثَةً منهم وخَديعَةً، وقوله: إِلَى الْفِتْنَةِ: معناه: إلى الاِختبارِ، حُكِيَ أنهم كانُوا يَرْجِعُون إلى قومهم، فيقالُ لأحدِهِمْ: قل: رَبِّيَ الخُنْفُسَاءُ، رَبِّيَ العودُ، رَبِّيَ العَقْرَبُ، ونحوه، فيقولُهَا، ومعنى: أُرْكِسُوا: أيْ: رَجَعوا رَجْعَ ضلالةٍ، أي: أُهْلِكُوا في الإختبار بما واقَعُوهُ من الكُفْر، وهذه الآيةُ حَضٌّ على قتل هؤلاءِ المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم، وثَقِفْتُمُوهُمْ: مأخوذٌ من الثِّقَافِ، أي: ظَفرتُمْ بهم، مَغْلوبينَ متمكَّناً منْهم، والسُّلطانُ: الحُجَّة، قال عكرمةُ: حيثما وقع السلطانُ في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فهو الحجّة «1» . [سورة النساء (4) : آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ... الآية: قال جمهورُ المفسِّرين: معنى الآية: وما كان في إذْنِ اللَّه، وفي أمره للمؤمن أن يَقْتُلَ مؤمناً بوَجْهٍ، ثم استثنَى استثناء/ منقطعاً ليس من الأول، وهو الذي تكُونُ فيه «إلاَّ» بمعنى «لَكِنْ» ، والتقديرُ: لَكِنِ الخطأُ قدْ يَقَعُ، ويتَّجِهُ في معنى الآيةِ وَجْهٌ آخر، وهو أنْ تقدَّر «كَانَ» بمعنى «استقر» ، و «وُجِدَ» كأنه قال: وما وُجِدَ، ولا تقرَّر، ولا سَاغَ لمؤْمِنٍ أنْ يقتُلَ مؤمناً إلا خطأً إذ هو مغلوبٌ فيه، فيجيءُ الإستثناءُ على هذا متَّصلاً، وتتضمَّن الآية على هذا إعْظَامَ العَمْد، وبَشَاعَةَ شأنه. وقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ... الآية: حقيقةُ الخَطَإ ألاَّ يقصده بالقَتْلِ، ووجوهُ الخَطَإ كثيرةٌ لا تحصى، يربطها عدم القصد.

_ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 204) (10092) ، وابن عطية (2/ 92) .

قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الرَّقَبَةُ المؤمنةُ: هي الكَبِيرَةُ الَّتي قَدْ صَلَّتْ وعَقَلَتِ الإيمان «1» ، وقالَتْ جماعة، منهم مالكُ بْنُ أنَسٍ: يجزىءُ كُلُّ مَنْ يُحْكَم له بحُكْم الإسلام في الصلاة عليه، إنْ مات «2» ، قال مالك: ومَنْ صلى وصَامَ أحَبُّ إلَيَّ، ولا يجزىءُ ذو العَيْب الكثير كأقطع اليَدَيْنِ، أو الرجْلَيْن، أو الأعمى إجماعاً فيما علمت، ومُسَلَّمَةٌ: معناه: مؤَدَّاة مدفوعةٌ، وهي على العاقلةِ فيما جاوز ثلث الدية، وإِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا: يريدُ: أولياءَ القَتِيلِ، وقوله: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... الآية: أيْ: وإنْ كان هذا المقتولُ خطأً مؤمناً قَدْ آمَنَ، وبَقِيَ في قَوْمِهِ، وهم كَفَرَةٌ عدُوٌّ لكم، فلا ديةَ فيه، وإنما كفَّارته تحريرُ الرَّقَبة قاله ابنُ عَبَّاس «3» وغيره، وسقَطَتِ الديةُ عندهم لوجهين: أحدهما: أنَّ أولياء المقتولِ كُفَّار، فلا يصحُّ دفع الديةِ إلَيْهم. والآخر: قلَّة حُرْمَة هذا المقتولِ، فلا دِيَةَ فيه. واحتجّوا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: 72] . وقالت فرقةٌ: بل الوجْهُ في سقوط الدِّية أنَّ الأولياء كُفَّار فقطْ، وسواءٌ قُتِلَ بين أظْهُر المسلمين، أو بَيْن قومه الكُفَّار لأنه لا يصحُّ دفعها إلى الكفَّار. قال ع «4» : وقائِلُ المقالة الأولى يقول: إن قُتِلَ المؤمنُ في بَلَدِ المسلمينَ، وقومُهُ حَرْبٌ، ففيه الديةُ لبَيْتِ المالِ والكَفَّارة. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: المقتولُ من أهل العَهْدِ خطأً لا نُبَالِي، كانَ مؤْمناً أو كافراً، على عهد قومِهِ فيه الدّية والتّحرير «5» .

_ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 207) (10108) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 518) ، وابن عطية (2/ 93) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 345) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 93) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 209) (10114) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 518) ، وابن عطية (2/ 93) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 347) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر من طريق علي عن ابن عباس. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 93) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 210) (10122) ، وابن عطية (2/ 94) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 348) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي من طريق عكرمة.

[سورة النساء (4) : آية 93]

وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ ... الآية، أي: فَمَنْ لم يَجِدِ الرقَبَةَ ولا اتسع ماله لشرائها، فيجزيه صيامُ شَهُرَيْنِ متتابعةِ الأيَّامِ، لا يتخلّلها «1» فطر، وتَوْبَةً: نصْبٌ على المَصْدر، ومعناه: رجُوعاً بكُمْ إلى التّيسير والتّسهيل. [سورة النساء (4) : آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

_ (1) دلت الآية الكريمة على أن المكفر إذا لم يجد الرقبة المؤمنة، أو وجدها، ولكن عجز عن تحصيلها، فالواجب عليه حينئذ صيام شهرين متتابعين لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ [النساء: 92] ، واشتراط التتابع في الصوم هاهنا، قدر متّفق عليه بين العلماء. ما يقطع التتابع: بعد اتفاقهم على اشتراط التتابع في هذه الكفارة اختلفوا فيما بينهم، فيما يقطع به هذا التتابع، وسنبين ذلك بعد إن شاء الله. لا خلاف بين العلماء في أن من أفطر لغير عذر أثناء الشهرين، فقد انقطع تتابعه للصوم، ووجب عليه أن يستأنف الشهرين، ويلغي ما صامه. ولا خلاف بينهم أيضا في أنّ التتابع لا ينقطع بالحيض متى باشرت المرأة الصوم عقب الطهر، ولم يفصل ذلك بفاصل لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في أثناء الشهرين. إلا إذا أخرت الصوم إلى سن اليأس. وفي تأخيره إلى هذا الوقت خطر، وغرر لأنها ربما تموت قبل ذلك. واختلفوا في أمور منها: أولا: إذا تخلل صوم الكفارة شهر رمضان، فهل صوم رمضان يقطع التتابع، أو لا يقطعه، فيبني على ما صامه من الكفارة. فمذهب الشافعية، والحنفية، والظاهرية: أن التتابع ينقطع بذلك، وعليه أن يستأنف لأنه قد ترك التتابع لغير عذر إذ كان في استطاعته أن يصوم شهرين ليس بينهما رمضان خصوصا وأن الكفارة لم تجب على الفور، ولا يصح أن ينوي برمضان الكفارة لأن الزمن متعين لغيرها، والمتعين لا يقبل غيره. ومذهب الحنابلة: أن التتابع لا ينقطع بذلك علم بأن رمضان يتخلل صوم الكفارة، أم لم يعلم بذلك لأنه زمن منع الشرع من صومه عن الكفارة، فلا يقطع التتابع كزمن الحيض، والنفاس. وهذا ما لم ينو برمضان صوم الكفارة، وإلا انقطع التتابع، ولا يجزيه عن رمضان، ولا عن الكفارة. أمّا أنه لا يجزيه عن الكفارة، فلأن الزمن متعين لغيرها، ولا يقبل غير ما عين له. وأما أنه لم يجزه عن رمضان فلأنه لم ينوه، وإنما نوى غيره، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى ... » ومذهب المالكية: إن جهل تخلل رمضان لصوم الكفارة لم ينقطع التتابع بذلك لعذره بالجهل، وإن علم بذلك انقطع تتابعه لأنه كان في وسعه أن يؤخر الصوم إلى زمن لا يعترضه رمضان، والكفارة ليست واجبة على الفور، حتى يعذر بذلك، ولا يجزيه صوم رمضان عن الكفارة سواء نوى الكفارة وحدها، أو أشركها مع رمضان لأن الزمن متعين لغيرها. ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسانين.

وقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ... ألاية: المتعمِّد في لغة العربِ: القاصِدُ إلى الشيءِ، والجمهورُ أنَّ المتعمِّد كُلُّ مَنْ قَتَلَ، كان القَتْلُ بحديدةٍ أو غيرها، وهذا هو «1» الصحيحُ، ورأْيُ الشافعيِّ وغيره أنَّ القتْلَ بغير الحديدِ المشْحُوذِ هو شِبْهُ العَمْد، ورأَوْا فيه تغليظَ الدِّيَة، ومالكٌ لا يرى شِبْهَ العمدِ، ولا يقُولُ به، وإنما القَتْل عنده ما ذَكَرَه اللَّه تعالى عَمْداً أو خطأً لا غَيْرُ. وقوله تعالى: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ، تقديره عنْد أهْلِ السُّنَّة: فجزاؤُه، إنْ جَازَاهُ بذلك، أي: هو أهْلٌ لذلك، ومستحِقُّه لعظيم ذنبه. قال ع «2» : ومَنْ أقِيمَ علَيْه الحَدُّ، وقُتِلَ قَوَداً، فهو غَيْرُ مْتَّبَعٍ في الآخرةِ، والوعيدُ غيرُ نافذٍ علَيْه إجماعاً، وللحديثِ الصحيحِ، عن عُبَادة بن الصامت أنَّهُ: «مَنْ عُوقِبَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» «3» ، ومعنى الخُلُودِ هنا: مدَّةٌ طويلةٌ، إن جازاه اللَّهُ ويدلُّ على ذلك

_ (1) لغة: قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (5/ 56) : القاف والتاء واللام أصل صحيح يدل على إذلال وإماتة، والقتل مصدر يقال: قتله يقتله قتلا. وقتله إذا أماته، بضرب أو حجر أو سمّ أو علة. ورجل قتيل: مقتول، والجمع: قتلاء وقتلى وقتالى. العمد في اللغة: القصد يقال: عمدت إلى الشيء قصدته، وتعمدته: قصدت إليه أيضا، والعمد ضدّ الخطأ. عرفه الشّافعية بأنه: ما حصل بقصد الفعل العدوان، وعين الشخص بما يقتل غالبا وعرفه «أبو حنيفة» بأنه: ما تعمد فيه ضرب المقتول بسلاح، أو ما أجرى مجرى السلاح. وعرفه الصّاحبان بأنه: ما تعمّد فيه ضرب المقتول بما لا تطيق النّفس احتماله. وعرفه «ابن عرفة» فقال: العمد ما قصد به إتلاف النفس بآلة تقتل غالبا، ولو بمثقل، أو بإصابة المقتل كعصر الأنثيين، وشدة الضّغط والخنق. وزاد ابن القصار أو يطبق عليه بيتا، أو يمنعه الغذاء حتى يموت جوعا. وعرفه الحنابلة فقالوا: العمد أن يقتل قصدا بما يغلب على الظّن موته به، عالما بكونه آدميا معصوما. ينظر: «مغني المحتاج» (4/ 3) ، «شرح الدر المختار على ابن عابدين» (5/ 351) ، «شرح حدود ابن عرفة» ص (473) ، «كشاف القناع» (3/ 333) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 64) . (3) أخرجه البخاري (1/ 81) ، كتاب «الإيمان» ، باب علامة الإيمان حب الأنصار، حديث (81) ، وفي (7/ 260) كتاب «مناقب الأنصار» ، باب وفود الأنصار، حديث (3892، 3893) ، وفي (7/ 365) ، كتاب «المغازي» ، باب (12) ، حديث (3999) ، وفي (8/ 506) : كتاب «التفسير» باب إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، حديث (4894) ، وفي (12/ 85) كتاب «الحدود» ، باب الحدود كفارة، حديث (6784) ، وفي (12/ 199) كتاب «الديات» ، باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها ... ، حديث (6873) ، وفي (13/ 7) كتاب «الفتن» ، باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سترون بعدي أمورا» ، حديث (7055) ، وفي (13/ 216) كتاب «الأحكام» ، باب يبايع الإمام الناس، حديث (7199) ، وفي (13/ 216) ، باب-

سقُوطُ لَفْظِ التأبيدِ. قال ع «1» : والجمهورُ على قبولِ توبته، ورُوِيَ عن بعض العلماء أنهم/ كانُوا يَقْصِدُونَ الإغلاظَ، والتَّخْوِيفَ أحياناً، فيُطْلِقُونَ ألاَّ تُقْبَلَ توبته منهم ابن شِهَابٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ «2» ، فكان ابْنُ شِهَابٍ، إذا سأله مَنْ يفهم مِنْهُ أنَّهُ قَدْ قَتَلَ، قال له: تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ، وإذا سأله مَنْ لم يفعلْ، قال: لاَ تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ، وعن ابنِ عَبَّاس نحوه، قال الدَّاوُوديُّ وعن أبي هُرَيْرة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وَاللَّهِ، لَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَنْ أَعَانَ على قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ مَكْتُوبٌ على جَبْهَتِهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» «3» ، وعن معاويةَ، أنَّهُ سَمِعَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إلاَّ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، أَوْ مَاتَ كَافِراً» «4» ، وعن أبي هريرة أنه سُئِلَ عَنْ قَاتِلِ المُؤْمِنِ، هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، لاَ يَدْخُلُ الجَنَّة حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخيَاطِ، قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَشْرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ إلاَّ كَبَّهُمُ الله جميعا في النّار» . انتهى.

_ - بيعة النساء، حديث (7213) ، وفي (13/ 455) ، كتاب «التوحيد» ، باب المشيئة والإرادة، حديث (7468) ، ومسلم (3/ 133) كتاب «الحدود» ، باب الحدود كفارة لأهلها، حديث (41/ 1709) ، والترمذي (4/ 45) ، كتاب «الحدود» ، باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها، حديث (1439) ، والنسائي (7/ 141- 142) كتاب «البيعة» ، باب البيعة على الجهاد، حديث (4161) وفي (8/ 108- 109) كتاب «الإيمان» ، باب البيعة على الإسلام، حديث (5002) ، وأحمد (5/ 314، 320) ، والحميدي (387) ، والدارقطني (3/ 215) كتاب «الحدود والديات» ، والبيهقي (8/ 18) كتاب «الجنايات» ، باب قتل الولدان، كلهم من حديث عبادة بن الصامت. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. [.....] (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 95) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 220) برقم (10192) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 520) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 464) . (3) أخرجه ابن ماجة (2/ 874) ، كتاب «الديات» ، باب التغليظ في قتل المسلم، حديث (2620) . وقال البوصيري: في إسناده يزيد بن أبي زياد بالغوا في تضعيفه. (4) أخرجه أحمد (4/ 99) ، والنسائي (7/ 81) كتاب «تحريم الدم» ، وأبو نعيم (6/ 99) من حديث معاوية، وله شاهد من حديث أبي الدرداء. أخرجه أبو داود (4270) ، وابن حبان (51- موارد) ، والحاكم (4/ 351) . وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

[سورة النساء (4) : آية 94]

[سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... الآية: تقُولُ: ضَرَبْتُ في الأرضِ إذا سرْتَ لتجارةٍ أو غَزْوٍ، أو غيره، مقترنةً ب «في» ، وضربْتُ الأرْضَ، دون «فِي» إذا قصَدتَّ قضاء الحاجَةِ. وقال ص: ضربتم، أي: سافرتم. قال ع «1» : وسببُ هذه الآية أنَّ سريَّةً مِنْ سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقيَتْ رجُلاً له جَمَلٌ، ومُتَيَّعٌ «2» ، وقيلَ: غُنَيْمَةٌ، فسلَّم على القَوْمِ، وقال: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَحَمَلَ علَيْهِ أحدُهُمْ، فَقَتَلَهُ، واختلف في تَعْيين القَاتِلِ والمَقْتُولِ في هذه النازلة، والذي عليه الأكثر، وهو في سِيَر ابْنِ إسحَاقَ، وفي مُصنَّفِ أبي دَاوُد وغيرهما أنَّ القاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ «3» ، والمقتولَ عَامِرُ بن الأَضْبطِ «4» ، ولا خلافَ أنَّ الذي لَفَظَتْهُ الأرْضُ، حِينَ مات، هو مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَة «5» ، وقرأ جمهورُ السَّبْعة: «فَتََبَيَّنُوا» ، وقرأ «6» حمزة والكسائيُّ: «فَتَثَبَّتُوا» (بالثاء المثلَّثة) في الموضعَيْن هنا، وفي «الحجرات» ، وقرأ «7» نافع

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 96) . (2) التّبعة: اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من الحيوان، وكأنها الجملة التي للسعادة عليها سبيل، من تاع يتيع: إذا ذهب إليه. ينظر: «النهاية» (1/ 202) . (3) محلّم بن جثّامة الليثي: أخو الصعب بن جثّامة. قال ابن عبد البرّ: يقال: إنه الذي قتل عامر بن الأضبط، وقيل: إن محلما غير الذي قتل، وإنه نزل حمص ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه الذي مات في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودفن فلفظته الأرض مرة بعد أخرى. (4) عامر بن الأضبط الأشجعيّ. ذكره ابن شاهين وغيره، وساق قصّة تدلّ على أنه قتل حين أسلم قبل أن يلقى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 224) برقم (10216) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 96) . (6) وقراءة الأخوين مقصودها: أن التثبت خلاف الإقدام، والمراد التأني، فيكون التثبت أشد اختصاصا بهذا الموضع، يعضده قوله تعالى: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء: 66] ، ومما يقويه قولهم: تثبت في أمرك، ولا يكاد يقال في هذا المعنى: تبين. وحجة الباقين أن التبين ليس وراءه شيء، وقد يكون أشد من التثبت. ينظر: «السبعة» (236) ، و «الحجة» (3/ 173) ، و «حجة القراءات» (209) ، و «العنوان» (85) ، و «إعراب القراءات» (1/ 136) ، و «شرح شعلة» (342) ، و «شرح الطيبة» (4/ 211) ، وإتحاف» (1/ 518) ، و «معاني القراءات» (1/ 315) . (7) وقرأها ابن عامر وحمزة. -

[سورة النساء (4) : الآيات 95 إلى 96]

وغيره: «السَّلَمَ» ، ومعناه: الاِستسلام، أي: ألقى بيده، واستسلَم لكُمْ، وأظهر دعوتكَم، وقرأ باقي السبعة: «السَّلاَمَ» (بالألف) ، يريد: سلاَمَ ذلك المَقْتُولِ على السَّريَّة لأن سلامَهُ بتحيَّة الإسلام مُؤْذِنٌ بطاعَتِهِ، وانقياده، وفي بَعْضِ طرق عاصم: «السِّلْمَ» - بكسر السين المشدَّدة، وسكونِ اللامِ-، وهو الصُّلْح، والمعنَى المرادُ بهذه الثلاثةِ مُتَقَارِبٌ، وقرىء: «لَسْتَ مُؤْمَناً» «1» - بفتح الميم- أي: لَسْنَا نُؤَمِّنُكَ. وقوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ: عِدَةٌ منه سبحانه بما يأْتِي به مِنْ فَضْله من الحلال دون ارتكاب محْظُورٍ، أي: فلا تتهافَتُوا. واختلف في قوله: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ. فقال ابنُ جُبَيْرٍ: معناه: كذلكَ كُنْتُمْ مستخْفِينَ مِنْ قومكم بإسلامِكُمْ، فَمَنَّ اللَّه عليكم بإعزازِ دينِكم، وإظهارِ شَرِيعتكم، فَهُمُ الآنَ كذلك كلُّ واحدٍ منهم خَائِفٌ مِنْ قومه، متربِّصٌ أَنْ يَصِلَ إلَيْكم، فلم يصْلُحْ إذا وَصَل أنْ تَقْتُلُوه حتى تتبيَّنوا أَمْرَهُ «2» ، وقال ابنُ زَيْدٍ: المعنى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرةً، فَمنَّ اللَّهُ علَيْكُمْ بِأنْ أسلَمْتُمْ، فلا تُنْكِرُوا أَنْ يكُونَ هو كافراً، ثم يسلم لِحِينه «3» ، ثم وَكَّد تبارَكَ وتعالى الوصيَّةَ بالتبيُّن، وأعلم أنَّه خبيرٌ بما يعمَلُه العبادُ، وذلك منه خَبَرٌ يتضمَّن تحذيراً منه سبحانه، أي: فاحفظوا أنْفُسَكم، وجَنِّبوا الزَّلَل المُوبِقَ لكم. [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

_ - ينظر: «السبعة» (236) ، و «الحجة» (3/ 175، 176) ، و «حجة القراءات» (209) ، و «العنوان» (85) ، و «إعراب القراءات» (1/ 136، 137) ، و «شرح شعلة» (343) ، و «شرح الطيبة» (4/ 213) ، و «إتحاف» (1/ 518) ، و «معاني القراءات» (1/ 315- 316) . (1) وقرأ بها محمد بن علي، وابن مسعود، وابن عباس. ينظر: «الشواذ» ص (34) ، و «الكشاف» (1/ 552) ، ونسبها ابن عطية في المحرر (2/ 96) إلى أبي جعفر بن القعقاع، وأبي حمزة، واليماني، وزاد أبو حيان في «البحر» (3/ 342) نسبتها إلى عكرمة، وأبي العالية، ويحيى بن يعمر. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 228) وابن عطية في «تفسيره» (2/ 97) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 467) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 359) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 228) (10235) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 97) .

وقوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ... الآية: في قوله تعالى: لاَ يَسْتَوِي إبهامٌ على السَّامعِ/، وهو أبْلَغُ من تحديدِ المَنْزِلَةِ التي بَيْنَ المجاهد والقاعِدِ، فالمتأمِّل يَمْشِي مع فِكْرته، ولا يَزَالُ يتخيَّل الدرَجَاتِ بينهما، والقاعدُونَ عبارةٌ عن المتخلِّفين. قلْتُ: وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن عليِّ بْنِ أبي طالب (رضي اللَّه عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ أَعْلاَهَا الحُلَلُ، ومِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ بُلْقٌ مِنْ ذَهَبٍ مُسَرَّجَةٌ مُلْجَمَةٌ بالدُّرِّ واليَاقُوت، لاَ تَرُوثُ، وَلاَ تَبُولُ، ذَوَاتُ أَجْنِحَةٍ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فتطِيرُ بِهِمْ حَيْثُ شَاءُوا، فَيَقُولُ الَّذِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ: يأهْلَ الجَنَّة، ناصِفُونا، يا ربِّ، ما بَلَّغَ هؤلاءِ هذه الكرامَةَ؟! فَيَقُولُ اللَّه تعالى: إنهم كانُوا يَصُومُونَ، وكُنْتُمْ تُفْطِرُونَ، وَكَانُوا يقُومُونَ باللَّيْلِ وَكُنْتُمْ تَنَامُونَ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ، وَكُنْتُمْ تَبْخَلُونَ، وَكَانُوا يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ وَكُنْتُمْ تَجْبُنُونَ» «1» . انتهى. وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو «2» وحمزة: «غَيْرُ» - بالرفع- صفةً للقاعدين، وقرأ نافعٌ وغيره: «غَيْر» - بالنصب- استثناء من القاعدينَ، ورُوِيَ من غيرِ مَا طَرِيقٍ أنَّ الآية نزلَتْ: «لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ» ، فجاء ابنُ أمِّ مكتومٍ، حين سمعها، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ رُخْصَةٍ، فَإنِّي ضَرِيرُ البَصَرِ، فَنَزَلَتْ عِنْدَ ذلك غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «3» ، ...

_ (1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/ 266- 267) من طريق سعد بن طريف عن زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب مرفوعا. ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 255) . وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إحداهن: إرساله، فإن علي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب، والثانية: محمد بن مروان وهو السدي الكبير، قال ابن نمير: وهو كذاب، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتبارا. والثالثة: أظهر، وهو سعد بن طريف وهو المتهم به، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الفور. (2) ينظر: «السبعة» (237) ، و «الحجة» (3/ 179) ، وفيه ذكر رواية عن ابن كثير أنه قرأ بالنصب. وينظر: «حجة القراءات» (210) ، و «إعراب القراءات» (1/ 137) ، و «العنوان» (85) ، و «معاني القراءات» (1/ 315- 316) . (3) أخرجه البخاري (6/ 53) كتاب «الجهاد» ، باب قول الله عز وجل: لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ... ، حديث (2831) ، (8/ 108) كتاب «التفسير» ، باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حديث (4593) ، (4594) ، (8/ 638- 639) كتاب «فضائل القرآن» ، باب كاتب-

..

_ - النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حديث (4990) ، ومسلم (3/ 1508) كتاب «الإمارة» ، باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، حديث (141/ 1898) ، والترمذي (5/ 225) كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3031) ، والنسائي (6/ 10) كتاب «الجهاد» ، باب فضل المجاهدين على القاعدين، وأحمد (4/ 282، 284، 290) ، والطيالسي (2/ 17- منحة) برقم (1943) ، والطبري في «تفسيره» (5/ 229) ، وأبو يعلى (3/ 269) برقم (1725) ، والواحدي في «أسباب النزول» ، (ص 131) ، والبيهقي (9/ 23) ، باب من اعتذر بالضعف والزمانة، كلهم من طريق أبي إسحاق عن البراء بن عازب به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. والحديث: ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 361) ، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف» ، والبغوي في مجمعه. تنبيه: فات الإمام السيوطي في هذا الحديث أن يعزوه إلى مسلم وهو في صحيحه كما تقدم في أثناء التخريج. وللحديث شواهد من حديث سهل بن سعد، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وزيد بن أرقم، والفلتان بن عاصم. حديث سهل بن سعد: أخرجه البخاري (8/ 108) كتاب «التفسير» ، باب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ، حديث (4592) ، والترمذي (5/ 226) كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3033) ، والنسائي (6/ 9) كتاب «الجهاد» ، باب فضل المجاهدين على القاعدين، حديث (3099) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 87- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن سهل بن سعد أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا: أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملى عليه: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح هكذا روى غير واحد عن الزهري عن سهل بن سعد نحو هذا، وروى معمر عن الزهري هذا الحديث عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت، وفي هذا الحديث رواية رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن رجل من التابعين، رواه سهل بن سعد عن مروان بن الحكم، ومروان لم يسمع من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. اهـ. حديث زيد بن ثابت: أخرجه أبو داود (2/ 14- 15) كتاب «الجهاد» ، باب في الرخصة في القعود من العذر، حديث (2507) ، وأحمد (5/ 190- 191) ، والحاكم (2/ 81- 82) ، والطبراني في «الكبير» (5/ 132) برقم (4851) كلهم من طريق أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم سري عنه، فقال: اكتب فكتبت في كتف: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين-

قَالَ الفَلَتَانُ بْنُ عَاصِمٍ «1» (رضي اللَّه عنه) : كنّا قعودا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل علَيْه، وكان إذَا أُوحِيَ إلَيْهِ، دَامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْنَاهُ، وفَرَّغَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ لِلْكَاتِبِ: اكتب: «لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ ... » إلَى آخر الآية، قال: فقام الأعمى، فقَاَل: يا رسُولَ اللَّهِ، مَا ذَنْبُنَا؟ قَالَ: فأنزلَ اللَّهُ على رسولِهِ، فقلْنا للأعمى: إنه يَنْزِلُ عليه، قال: فَخَافَ أنْ ينزلَ فيه شيْءٌ، فبقيَ قائماً مكانَهُ، يقولُ: أَتُوبُ إلى رسُولِ اللَّهِ، حتّى فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال للكاتب:

_ - والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: اقرأ يا زيد، فقرأت: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآية كلها. قاله زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 361) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن سعد، وابن المنذر، وابن الأنباري. حديث ابن عباس: أخرجه الترمذي (5/ 225) كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3032) ، والبيهقي (9/ 47) كتاب «السير» ، باب النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية، كلاهما من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ عن بدر والخارجون إلى بدر، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش، وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة؟ فنزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر، وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة) فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس. حديث زيد بن أرقم: أخرجه الطبراني في «الكبير» (5/ 190) برقم (5053) من طريق أبي إسحاق عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، أما لي رخصة؟ قال: لا، قال ابن أم مكتوم: اللهم إني ضرير فرخص لي فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابتها. وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 12) : ورجاله ثقات. (1) الفلتان: بفتحتين، ومثناة فوقانية، ابن عاصم الجرمي، خال كليب. يعدّ في الكوفيين. قال البخاريّ: قال عاصم بن كليب: له صحبة، وكذا قال ابن السّكن، وابن أبي حاتم، وابن حبان- له صحبة، وقال البغوي: سكن المدينة. وقال ابن حبان: عداده في الكوفيين. وقال أبو عمر: يقال المنقري، والجرمي أصح. ينظر: «الإصابة» (5/ 288- 289) .

اكتب: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» ، وأهْلُ الضررِ: هم أهل الأعذار، إذ قد أضرَّت بهم حتى منعتهم الجهَادَ قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «2» . وقوله تعالى: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، هي الغايةُ في كمالِ الجهَاد، قال ابن جُرَيْجٍ: الفَضْلُ بدرجةٍ هو على القَاعِدِينَ مِنْ أهْل العذر. قال ع «3» : لأنهم مع المؤمنين بنيَّاتهم كما هو مذكورٌ في الحديثِ الصَّحيحِ. قال ابنُ جُرَيجٍ: والتفضيلُ بالأجْر العظيمِ والدرجاتِ هُوَ على القَاعِدِينَ مِنْ غير عذر «4» ، والْحُسْنى: الجنةُ التي وَعَدَهَا اللَّهُ المؤمِنِينَ وكذلك قال السُّدِّيُّ وغيره «5» . وقال ابنُ مُحَيْرِيزٍ «6» : الدرجاتُ: هي درجاتٌ في الجنَّةِ سَبْعُونَ ما بَيْنَ الدرجَتَيْنِ حُضْرُ الجَوَادِ المُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً «7» ، قُلْتُ: وفي «صحيح البُخاريِّ» ، عن أبي هريرةَ، عن رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «إنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنّة» «8» . انتهى.

_ (1) حديث الفلتان بن عاصم: أخرجه أبو يعلى (3/ 156- 157) برقم (1583) ، وابن حبان (1733- موارد) ، والطبراني في «الكبير» (18/ 334) برقم (856) ، والبزار (3/ 45- كشف) برقم (2203) كلهم من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا عاصم بن كليب حدثني أبي عن الفلتان بن عاصم به. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 231) برقم (10248) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 362) ، وعزاه لابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 98) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10260) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10259) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) . (6) عبد الله بن محيريز بضم أوله وفتح المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة مكسورة ثم تحتانية ثم معجمة، الجمحي أبو محيريز المكي نزيل الشام، عن أبي محذورة، وعبادة بن الصامت، وعنه عبد الملك بن أبي محذورة، ومكحول الزّهري، وثقه العجلي. قال الأوزاعي: من كان مقتديا فليقتد بمثل ابن محيريز، قال خليفة: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال ضمرة: في خلافة الوليد بن عبد الملك. ينظر: «الخلاصة» (2/ 98) ، «تهذيب الكمال» (2/ 739) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 22) ، «الكاشف» (2/ 128) . (7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10263) ، وذكره ابن عطية (2/ 98) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 364) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن محيرز بلفظ: قال: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين عدو الجواد المضمر سبعون سنة. [.....] (8) تقدم تخريجه.

[سورة النساء (4) : الآيات 97 إلى 100]

وقال ابن زَيْدٍ: الدرجاتُ في الآيةِ هي السّبع المذكورة في «بَرَاءَةَ» في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ... [التوبة: 120] الآية «1» . قال ع «2» : ودرجاتُ الجهادِ، لَوْ حُصِرَتْ، أكْثَرُ من هذه، لكنْ يَجْمَعُها بذْلُ النفْسِ، والاعتمال بالبَدَنِ والمالِ في أنْ تكُونَ كَلمةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، ولا شَكَّ أنَّ بحَسَب/ مراتِبِ الأعمال ودرجاتِهَا تكُونُ مراتِبُ الجَنَّة ودرجاتُها، فالأقوالُ كلُّها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس. [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ... الآية: المرادُ بهذه الآيةِ إلى قوله: مَصِيراً جماعةٌ من أهل مكَّة كانوا قد أسلموا، فَلَمَّا هاجَرَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وفُتِنَ منهم جماعةٌ، فافتتنوا، فلما كَانَ أَمْرُ بَدْرٍ، خَرَجَ منهم قومٌ مع الكُفَّار، فقُتِلُوا ببَدْرٍ، فنزلَتِ الآية فيهم. قال ع «3» : والذي يَجْرِي مع الأصولِ أنَّ مَنْ ماتَ مِنْ هؤلاء مرتدًّا، فهو كافرٌ، ومأواه جهنَّم على جهة الخلودِ المؤبدِ، وهذا هو ظاهرُ أمْرِ هؤلاءِ، وإنْ فَرَضْنا فيهم مَنْ مَاتَ مؤمناً، وأُكْرِهَ عَلَى الخُرُوجِ، أوْ ماتَ بمكَّة، فإنما هو عاصٍ في ترك الهِجْرة، مأواه جهنَّم على جهة العِصْيَانِ دُونَ خُلُودٍ. وقوله تعالى: تَوَفَّاهُمُ: يحتملُ أن يكون فعلاً ماضياً، ويحتملُ أنْ يكون مستقْبَلاً على معنى: «تَتَوَفَّاهُمْ» فحذِفَتْ إحدى التاءَيْنَ وتكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي مِنْ هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية، وظالِمِي أَنْفُسِهِمْ: نصب على الحال، أي:

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10262) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 364) ، وعزاه لابن جرير عن ابن وهب قال: سألت زيد، وذكر الأثر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 98) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 99) .

ظالميها بترك الهجرة، وتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ: معناه: تقبِضُ أرواحَهُمْ، قال الزَّجَّاج «1» ، وحُذِفَتِ النونُ مِنْ ظَالِمِينَ تخفيفاً كقوله: بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] ، وقولُ الملائكة: فِيمَ كُنْتُمْ: تقريرٌ وتوبيخٌ، وقولُ هؤلاء: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ: اعتذار غيرُ صحيحٍ إذ كانوا يستطيعُونَ الحِيَلَ، ويَهْتَدُونَ السُّبُلَ، ثم وقَفَتْهُم الملائكةُ على ذَنْبهم بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً، والأرْضُ الأولى: هي أرْضُ مكَّة خاصَّة، وأرْضُ اللَّهِ هي الأرضُ بالإطلاق، والمراد: فتهاجِرُوا فيها إلى مواضعِ الأَمْنِ، وهذه المقاوَلَةُ إنما هِيَ بعد توفي الملائكَةِ لأرواحِ هؤلاءِ، وهي دالَّة على أنهم ماتوا مُسْلِمِينَ وإلاَّ فلو ماتوا كافِرِينَ، لم يُقَلْ لهم شيءٌ مِنْ هذا، ثم استثنى سبحانه مَنْ كان استضعافه حقيقةً مِنْ زَمْنَى الرجالِ، وضَعَفَةِ النساءِ، والولدانِ، قال ابنُ عَبَّاس: «كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ» «2» ، والحِيلَةُ: لفظٌ عامٌّ لأنواع أسبَاب التخلُّص، والسَّبِيلُ: سبيلُ المدينةِ فيما قاله مجاهد وغيره «3» ، والصوابُ: أنه عامٌّ في جميع السُّبُل، ثم رَجَّى اللَّه تعالى هؤلاءِ بالعَفْو عنهم، والمُرَاغِمُ: المُتَحَوَّلُ والمَذْهَب قاله ابن عبَّاس وغيره «4» ، وقال مجاهدٌ: المُرَاغَمُ المتزحْزَحُ عمَّا يُكْرَه «5» ، وقال ابن زيْدٍ: المُرَاغَمُ: المُهَاجَرُ «6» ، وقال السُّدِّيُّ: المُرَاغَمُ: المبتغى للمعيشة «7» . قال ع «8» : وهذا كله تَفْسيرٌ بالمعنى، وأما الخاصُّ بِاللفظة، فإن المُرَاغَمَ هو موضِعُ المراغَمَةِ، فلو هاجر أَحَدٌ من هؤلاءِ المَحْبُوسِين بمكَّةَ، لأرْغَمَ أنُوفَ قريشٍ بحصوله في مَنَعَةٍ منهم، فتلكَ المَنَعَةُ هي مَوْضِعُ المراغَمَةِ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: السّعة هنا هي السّعة في

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (2/ 94) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 235) برقم (10264) ، وذكره ابن عطية (2/ 100) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 367) ، وعزاه للطبراني. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 239) برقم (10284) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 470) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد. (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 100) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 242) برقم (10307) ، وذكره ابن عطية (2/ 101) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 243) برقم (10309) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) . (7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 242) برقم (10308) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (8) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 101) .

الرِّزْقِ «1» ، وقال مالك: السَّعة: سَعَةُ البلاد «2» . قال ع «3» : وهذا هو المُشَبِهُ للفصاحة أنْ يريد سعة الأرْضِ وبذلك تكونُ السَّعَةُ في الرِّزْق، واتساع الصَّدْرِ، وغيرُ ذلك من وجوه الفَرَجِ، وهذا المعنى ظاهرٌ من قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً. قال مالكُ بْنُ أَنَسٍ (رحمه اللَّه) : الآية تُعْطِي أنَّ كلَّ مسلمٍ ينبغي لَهُ أنْ يَخْرُجُ من البلادِ الَّتي تُغَيَّرُ فيها/ السُّنَنُ، ويُعْمَلُ فيها بغَيْر الحَقِّ «4» . وقوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ... الآية حُكْمُ هذه الآية باقٍ في الجهَادِ، والمَشْيِ إلى الصلاةِ، والحَجِّ، ونحوِهِ، قلْتُ: وفي البابِ حديثٌ عن أبي أُمَامَةَ، وسيأتِي عند قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] . قال ع «5» : والآية نزلَتْ بسبب رَجُلٍ من كِنَانَةَ، وقيلَ: من خُزَاعَةَ، اسمه ضَمْرَةُ في قولِ الأكْثَرِ لما سمع قَوْلَ اللَّه تعالَى: الَّذِينَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قال: إنِّي لَذُو مَالٍ وَعَبِيدٍ، وَكَانَ مَرِيضاً، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إلَى المَدِينَةِ، فَأُخْرِجَ فِي سَرِيرٍ، فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتِ الآيةُ بسببه. قال ع «6» : ومِنْ هذه الآية رأى بعضُ العلماء أنَّ مَنْ مات من المسلمين، وقد خَرَجَ غازياً، فله سَهْمُهُ من الغنيمة، قَاسُوا ذلك علَى الأجْرِ، وَوَقَعَ: عبارةٌ عن الثُّبُوتِ، وكذلك هِيَ «وَجَبَ» لأنَّ الوقوعَ والوُجُوبَ نُزُولٌ في الأجْرَامِ بقوَّة، فشبه لازم المعانِي بذلك، وباقي الآية بيّن.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 243) برقم (10310) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 522) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لابن القاسم بلفظ: «قال: سئل مالك عن قول الله وَسَعَةً؟! قال: سعة البلاء. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 101) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 101) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 102) .

[سورة النساء (4) : آية 101]

[سورة النساء (4) : آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وقوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ... الآية: ضَرَبْتُمْ: معناه: سافَرْتم، قال مالك، والشافعيُّ، وأحمدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وابنُ رَاهَوَيْهِ: تُقْصَرُ الصلاةُ في أربعةِ بُرُدٍ، وهي ثمانيةٌ وأربعون ميلاً وحُجَّتهم أحاديثُ رُوِيَتْ في ذلك، عن ابن عمر، وابن عباس «1» . وقال الحسنُ والزُّهْريُّ: تُقْصَرُ في مسيرةِ يَوْمَيْنِ «2» ، وروي هذا أيضاً عن مالكٍ «3» ، وروي عنه: تُقْصَر في مسافة يوم ولَيلة، وهذه الأقوالُ الثلاثةُ تتقارَبُ في المعنى. والجمهورُ على جواز القَصْر في السَّفَر المباحِ. وقال عطاءٌ: لا تُقْصَر إلا في سفر طاعةٍ، وسبيلِ خيرٍ، والجمهور: أنَّه لا قَصْرَ في سفُر معصيةٍ، والجمهور أنه لا يَقْصُر المسافرُ حتى يَخْرُجَ من بُيُوت القرية، وحينئذٍ هو ضاربٌ في الأرْضِ، وهو قولُ مالك وجماعةِ المَذْهَب، وإلى ذلك في الرجوع، وقد ثبت أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعاً، وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ يَوْمٍ، «4» ويظهر مِنْ قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا أنَّ القَصْر مباحٌ أو مخيَّر فيه، وقد رَوَى ابنُ وهْبٍ، عن مالكٍ، أنَّ المسافِرَ مخيَّر فيه «5» وقاله الأَبْهَرِيُّ وعليه حُذَّاق المذْهَب، وقال مالكٌ في «المبسوط» : القَصْرُ سُنَّةٌ «6» وهذا هو الذي عليه

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) . (4) حديث أنس: أخرجه البخاري (3/ 407) كتاب «الحج» ، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، حديث (1546) ، ومسلم (1/ 480) ، كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» ، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث (11/ 690) ، مختصرا، من رواية ابن المنكدر، عنه، قال: «صلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهلّ» . وأخرجه أبو داود (2/ 375) ، كتاب «المناسك» (الحج) ، باب في وقت الإحرام، حديث (1773) ، والترمذي (2/ 431) ، كتاب «الصلاة» ، أبواب السفر، باب ما جاء في التقصير في السفر، حديث (546) ، والبيهقي (5/ 38) ، كتاب «الحج» ، باب من قال: يهل إذا انبعثت به راحلته. (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) . (6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) .

[سورة النساء (4) : آية 102]

جمهورُ المَذْهب وعليه جوابُ «المدوَّنة» بالإعادة في الوَقْت لِمَنْ أتَمَّ في سفرِه. وقال ابنُ سُحْنُون وغيره: القَصْرُ فَرْضٌ. وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية، وفي حديثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّة، قال: قُلْتُ لعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: إنَّ اللَّه تعالى يقُولُ: إِنْ خِفْتُمْ وقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فقالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فاقبلوا صَدَقَتَهُ» «1» . ويَفْتِنَكُمْ: معناه يمتحنَكُمْ بالحَمْلِ عليكم، وإشغال نفوسكم، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا صلَّى الظُّهْر بأصحابه، قال المُشْرِكُونَ: قد أَمْكَنَكُمْ محمَّد وأصحابه مِنْ ظُهورِهِمْ، هَلاَّ شَددتُّمْ عَلَيْهم، فقال قائلٌ منهم: أنَّ لَهُمْ أخرى فِي أَثَرِهَا، فأنزل اللَّهُ تعالى بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا/ إلى آخر صلاة الخوف. [سورة النساء (4) : آية 102] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ... الآية: قال جمهورُ الأُمَّة: الآية خطَابٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وكذلك جمهورُ العلماء على أنَّ صلاة الخَوْف تصلى في الحَضَر، إذا نزَلَ الخَوْف، قال الطبريُّ «2» : فَأَقَمْتَ لَهُمُ: معناه: حُدُودَهَا وهَيئَتَهَا. وقوله تعالى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ: أمر بالانقسام، أي: وسائرهم وِجَاه العَدُوِّ، ومعظم الرواياتِ والأحاديثِ على أنَّ صلاةَ الخَوْف إنما نزلَتِ الرخْصَةُ فيها في غَزْوة ذاتِ الرِّقَاعِ، واختلف من المأمورُ بأخْذ الأسلحَةِ هنا؟ فقيل: الطائفة المصلِّية، وقيل: بل الحارسة.

_ (1) أخرجه الطبري عن ابن جريج (4/ 148) برقم (9851) ، وذكره السيوطي في «الدر» (2/ 312) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. وفيه زيادة: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك. (2) ينظر: الطبري (4/ 251) .

قال ع «1» : ولفظ الآية يتناوَلُ الكلَّ، ولكن سِلاَحُ المصلِّين ما خَفَّ، قُلْتُ: ومن المعلوم أنه إذا كانَتِ الطائفةُ المصلِّيةُ هي المأمورَةَ بِأخْذِ السِّلاحِ، فالحارسَةُ من باب أحرى. واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاةَ الخَوْف وبِحَسَبِ ذلك، اختلف الفقَهَاء، فروى يزيدُ بْنُ رُومَانَ «2» ، عن صالح «3» بنِ خَوَّاتٍ، عن سهلِ بْنِ أبي «4» حَثْمَةَ أنَّهُ صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صَلاَةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعَ، فَصُفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وجَاهَ العَدُوِّ، وجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأخرى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِساً، وأتَمُّوا لأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ «5» ، وروى القاسمُ بْنُ محمَّدٍ، عن صالحِ بن

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 105) . (2) يزيد بن رومان مولى آل الزبير أبو روح المدني. عن ابن الزّبير وعروة وعنه جرير بن حازم وابن إسحاق ونافع القارئ وطائفة. قال ابن سعد: كان عالما ثقة كثير الحديث. توفي سنة ثلاثين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (3/ 169) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1532) ، «تهذيب التهذيب» (11/ 325) (625) ، «الكاشف» (3/ 277) ، «الثقات» (1581) . [.....] (3) صالح بن خوّات بفتح المعجمة: ابن جبير بن النّعمان الأنصاري المدني. عن أبيه وعنه ابنه خوّات والقاسم بن محمد. وثقه النسائي. ينظر: (1/ 459) ، «تهذيب الكمال» (2/ 595) ، «تهذيب التهذيب» (4/ 387) ، «الكاشف» (2/ 19) ، «الثقات» (4/ 372) . (4) هو: سهل بن أبي حثمة بن ساعدة بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارث بن الحرث بن عمرو بن مالك بن الأوس اختلف في اسم أبيه فقيل: عبد الله، وقيل: عبيد الله. الأوسي الأنصاري، أمه: أم الربعي بنت سالم بن عدي بن مجدعة، ولد سنة ثلاث من الهجرة، حدث عن النبيّ بأحاديث وحدث عن زيد بن ثابت، ومحمد بن سلمة، روى عنه ابنه محمد، وابن أخيه محمد بن سليمان بن أبي حثمة، وبشر بن يسار، وصالح بن خوّات بن جبير، ونافع بن جبير، وعروة وغيرهم. قال الواقدي: قبض النبيّ وهو ابن ثماني سنين، ولكنه حفظ عنه. توفي أول أيام معاوية. تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 468) ، «الإصابة» (3/ 138) ، «الثقات» (3/ 169) ، «الاستيعاب» (1/ 661) ، «الاستبصار» (245) ، «بقي بن مخلد» (108) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 243) ، «الرياض المستطابة» (110) ، «الطبقات الكبرى» (5/ 304) ، «التاريخ الكبير» (4/ 97) ، «التحفة اللطيفة» (200) ، «الوافي بالوفيات» (16/ 8) ، «إسعاف المبطأ» (194) ، «التعديل والتجريح» (1339) . (5) أخرجه البخاري (7/ 421) ، كتاب «المغازي» ، باب غزوة ذات الرقاع، الحديث (4129) ، ومسلم (1/ 575) ، كتاب «صلاة المسافرين» ، باب صلاة الخوف، الحديث (310/ 842) ، ومالك (1/ 183) ، كتاب «الخوف» ، باب صلاة الخوف، الحديث (1) ، وأحمد (3/ 448) ، وأبو داود (2/ 30) ، كتاب «الصلاة» ، باب إذا صلّى ركعة وثبت قائمة، الحديث (1238) ، والنسائي (3/ 171) ، كتاب «الخوف» ، باب صلاة الخوف، وابن الجارود (ص 90) ، كتاب «الصلاة» ، باب في صلاة الخوف، الحديث-

خَوَّاتٍ، عن سَهْلٍ هذا الحديثَ بعينه، إلا أنّه روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ صَلَّى بالطائفةِ الأخيرةِ ركْعَةً، سلَّم، ثم قضَتْ بعد سَلاَمِهِ، وبحديثِ «1» القاسمِ بنِ محمَّد، أخَذَ مالكٌ، وإليه رجَعَ بَعْدَ أنْ كان أولاً يميلُ إلى روايةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وروى عبْدُ الرزَّاق عن مجاهدٍ، قال: لَمْ يصلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاَةَ الخَوْفِ إلاَّ مرَّتَيْنِ: مرَّةً بذاتِ الرِّقَاعِ مِنْ أرض بني سُلَيْمٍ، ومرةً بعُسْفَانَ، والمشركُونَ بِضُجْنَانَ بينهم وبَيْنَ القِبْلَةِ «2» . قال ع «3» : وظاهرُ اختلاف الرّوايات عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقتضي أنَّه صلى صلاةَ الخَوْف في غير هَذيْن الموطِنَيْنِ، وقد ذكر ابنُ عبَّاس أنه كَانَ في غَزْوة ذِي قَرَدٍ صلاةَ خَوْفٍ «4» . وقوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ... الآية: المعنى: فإذا سَجَدوا مَعكَ الركعةَ الأولى، فلْيَنْصَرِفُوا هذا على بعض الهيئات المرويَّة، وقيل: المعنى: فإذا

_ - (235) ، والدارقطني (2/ 60) ، كتاب «العيدين» ، باب صلاة الخوف، الحديث (11) ، والبيهقي (3/ 253) ، كلهم من طريق مالك، عن يزيدُ بْنُ رُومَانَ، عن صالح بنِ خَوَّاتٍ به. والحديث في «الموطأ» (1/ 183) كتاب «صلاة الخوف» ، باب صلاة الخوف، حديث (1) . ومن طريقه أيضا أخرجه البغوي في «شرح السنة» (2/ 592- بتحقيقنا) . (1) أخرجه مالك (1/ 183) كتاب «صلاة الخوف» ، باب صلاة الخوف، الحديث (2) ، عن يحيى بن سعيد، عن القاسمُ بْنُ محمَّدٍ، عن صالحِ بْنِ خَوَّاتٍ: أن سهل بن أبي حثمة حدثه: أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه، ثم يقوم. فإذا استوى قائما ثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون وينصرفون والإمام، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة، ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون. وأخرجه مرفوعا: البخاري (7/ 422) ، كتاب «المغازي» ، باب غزوة ذات الرقاع، الحديث (4131) ، ومسلم (1/ 575) ، كتاب «المسافرين» ، باب صلاة الخوف، الحديث (309/ 841) ، وأبو داود (2/ 30) ، كتاب «الصلاة» ، باب يقوم صف مع الإمام، وصف وجاه العدو، الحديث (1237) ، والترمذي (2/ 40) ، كتاب «السفر» ، باب صلاة الخوف، الحديث (562) ، والنسائي (3/ 178) ، كتاب «الخوف» باب صلاة الخوف، وابن ماجة (1/ 400) ، كتاب «إقامة الصلاة» ، باب صلاة الخوف، الحديث (1259) ، وأحمد (3/ 448) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 323) ، كتاب «الصلاة» ، باب صلاة الخوف، والبيهقي (3/ 253) ، كتاب «صلاة الخوف» ، باب كيفية صلاة الخوف، كلهم من طريق عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة مرفوعا. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 105) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 106) . (4) ابن عطية في «تفسيره» (2/ 106) .

[سورة النساء (4) : آية 103]

سَجَدوا ركْعةَ القضاءِ، وهذا على رواية ابنِ أبي حَثْمَةَ، والضميرُ في قوله: فَلْيَكُونُوا، يحتملُ أنْ يكون لِلَّذِينَ سَجَدُوا، ويحتمل أن يكون للطائفةِ القائِمَةِ أولاً بإزاء العَدُوِّ، ويجيء الكلامُ وَصَاةً في حال الحَذَرِ والحَرْب. وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ ... الآية: إخبارٌ عن مُعْتَقَدِ القومِ، وتحذيرٌ من الغَفْلةِ لَئِلاَّ ينالَ العَدُوُّ أمَلَهُ، وأسْلِحَةٌ: جمعُ سلاحٍ، وفي قوله تعالى: مَيْلَةً واحِدَةً: مبالغةُ، أي: مستأصِلَةً لا يُحْتَاجُ معها إلى ثانية. وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ... الآية: ترخيصٌ. قال ابنُ عَبَّاس: نزلَتْ بسبب عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، كان مريضاً، فوضع سلاحَهُ، فعنَّفه بعْضُ النَّاس «1» . قال ع «2» : كأنهم تَلَقَّوُا الأمر بأخْذ السِّلاحِ على الوُجُوبِ، فرخَّص اللَّه تعالى في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ، وينقاسُ عليهما كُلُّ عذرٍ، ثم قوى سبحانه/ نُفُوسَ المؤمنِينَ بقوله: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. [سورة النساء (4) : آية 103] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً ... الآية: ذهب جمهورُ العلماءِ إلى أنَّ هذا الذِّكْر المأمورَ بِهِ، إنما هو إثْرَ صلاةِ الخَوْفِ على حَدِّ ما أُمِرُوا عند قضاءِ المَنَاسِكِ بذكْرِ اللَّه، فهو ذِكْرٌ باللسانِ، والطُّمَأْنينةُ في الآية: سكونُ النُّفُوسِ من الخَوْف، وقال بعضُ المتأوِّلين: المعنى: فإذا رجعتُمْ مِنْ سفركم إلى الحَضَرِ، فأقيموها تامَّةً أربعاً. وقوله تعالى: كِتاباً مَوْقُوتاً: معناه: منجَّماً في أوقاتٍ، هذا ظاهرُ اللفظ، ورُوِيَ عن ابْنِ عباس أنَّ المعنى: فَرْضاً مفْروضاً «3» ، فهما لفظانِ بمعنى واحد كرّر مبالغة.

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 113) كتاب «التفسير» ، باب وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً حديث (4599) والنسائي في «تفسيره» (141) والحاكم (2/ 308) والبيهقي (3/ 255) . وزاد السيوطي نسبته في «الدر» (2/ 214) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 107) . (3) ابن عطية (2/ 108) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 380) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

[سورة النساء (4) : آية 104]

[سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ: أي: لا تَلِينُوا وتَضْعُفوا يُقَالُ: حَبْلٌ وَاهِنٌ، أيْ: ضعيفٌ ومنه: «وَهَنَ العَظْمُ» وابتغاءُ القَوْمِ: طَلَبُهم، وهذا تشجيعٌ لنفوسِ المُؤْمنين، وتحقيرٌ لأمْر الكَفَرة، ثم تأَكَّد التشجيعُ بقوله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ، وهذا برهانٌ بَيِّنٌ، ينبغي بحَسَبِهِ أنْ تقوى نفوسُ المؤمنين، وباقي الآية بيّن. [سورة النساء (4) : آية 105] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ... الآية: في هذه الآية تشريف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتفويضٌ إليه، وتقويمٌ أيضاً على الجادَّة في الحُكْم، وتأنيبٌ مَّا على قبولِ ما رُفِعَ إلَيْه في أمْر بَنِي أُبيْرِقٍ بِسُرْعَةٍ. وقولُهُ تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ: معناه: على قوانينِ الشَّرْعِ إمَّا بوَحْيٍ ونَصٍّ أو نَظَرٍ جارٍ على سَنَنِ الوحْي، وقد تضمَّنَ اللَّه تعالى لأنبيائه العِصْمَةَ. وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً، قال الهَرَوِيُّ: خَصِيماً: أيْ: مُخَاصِماً، ولا دَافِعاً. انتهى. قال ع «1» : سببها، باتفاق من المتأولين: أمْرُ بني أُبَيْرِقٍ، وكانوا إخْوَةً: بِشْرٌ، وبَشِيرٌ، وَمُبَشِّر، وطُعَيْمَةُ، وكان بَشِيرٌ رجلاً منافقاً يهجو أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وينحل الشِّعْر لغيره، فكان المسلمونَ يَقُولُونَ: واللَّهِ، ما هو إلاَّ شِعْرُ الخَبِيثِ، فقال شعراً يتنصَّل فيه فَمِنْهُ قوله: [الطويل] أَفِي كُلِّ مَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَة ... نُحِلْتُ، وَقَالُوا: ابن الأُبَيْرِقِ قَالَهَا قال قتادةُ بنُ النُّعْمَانِ: وكان بَنُو أُبَيْرِقٍ أهْلَ فَاقَةٍ، فابتاع عَمِّي رِفَاعَةُ بن زيد «2» حملا

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 108) . (2) رفاعة بن زيد: ابن عامر بن سواد بن كعب، وهو ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاريّ الظفريّ، عم قتادة بن النّعمان. روى الترمذي والطّبريّ، من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان، قال: كان أهل بيت منّا يقال لهم بنو أبيرق، فابتاع عمّي رفاعة بن زيد جملا من الدرمك، فجعله في مشربة له، فعدا عليه من تحت الليل، فذكر الحديث بطوله في نزول قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105] وفي آخره قال قتادة: فأتيت عمي بسلاحه، وكان قد عشا في الجاهلية، وكنت أظنّ-

مِنْ دَرْمَكِ الشِّامِ، فجعله في مَشْرُبَةٍ له، وفي المَشْرُبَةِ دِرْعَانِ له، وسَيْفَانِ، فَعُدِيَ على المَشْرُبَةِ من اللَّيْلِ، فلما أصْبَحَ، أتانِي عَمِّي رفاعة، فقال: يا ابن أَخِي، أتعلَمُ أنه قَدْ عُدِيَ علَيْنا في لَيْلَتِنَا هذه، فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا، وذُهِبَ بطَعَامِنَا، وسِلاَحِنا، قال: فتحسَّسْنا في الدَّار، وسألنا، فَقِيلَ لنا: قد رأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ استوقدوا نَاراً في هذه الليلةِ، ولاَ نُرَاهُ إلاَّ على بعض طعامِكُمْ، قال: وقد كان بَنُو أُبَيْرِقٍ قالُوا، ونَحْنُ نَسْأَلُ: وَاللَّهِ، مَا نرى صَاحِبَكُمْ إلاَّ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ «1» ، رَجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاَحٌ وإسْلاَمٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ لَبِيدٌ، فاخترط سَيْفَهُ، ثُمَّ أتى بَنِي أُبَيْرِقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، فَقَالُوا: إلَيْكَ عنّا، أيّها الرّجل، فو الله، مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بهذه القصّة، فأتيته صلّى الله عليه وسلّم، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: انظر فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ «2» ، فكلَّموه في ذلكَ، واجتمع إلَيْهِ ناسٌ مِنْ أَهْلِ الدارِ، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم/ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ رِفَاعَةَ عَمَدَا إلى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إسْلاَمٍ وَصَلاَحٍ يَرْمِيَانِهِمْ بِالسَّرِقَةِ على غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال قَتَادةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: عَمَدتَّ إلى أَهْلِ بَيْتٍ، ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ، فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال: فَرَجَعْتُ، وَقَدْ وَدِدتُّ أَنْ أَخْرُجَ عَنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، فَأَتَيْتُ عَمِّي، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: اللَّهُ المُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ القُرآن: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... الآيات، قال: فالخائنون: بنو أبيرق، والبريء المرميّ

_ - إسلامه مدخولا، قال: فلما أتيته به قال: يا بن أخي، هو في سبيل الله، فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحا. قال التّرمذيّ: غريب تفرد محمد بن سلمة بوصله، ورواه غيره مرسلا، ورواه الواقديّ من طرق عن محمود بن لبيد، فذكر القصة مطولة فزاد ونقص. ينظر: «الإصابة» (2/ 407) ، «تبصير المنتبه» (3/ 851) ، «الجرح والتعديل» (3/ 2233) ، «الأعلمي» (18/ 263) ، «أسد الغابة» ت (1688) ، «الاستيعاب» ت (777) . [.....] (1) لبيد بن سهل بن الحارث بن عروة بن رزاح بن ظفر الأنصاري. وقال ابن عبد البرّ: لا أدري هو من أنفسهم أو حليف لهم. انتهى. وقد نسبه ابن الكلبيّ إلى القبيلة كما ترى، لكن قال العدوي: إنه وهم من ابن الكلبي وإنما هو أبو لبيد بن سهل- رجل من بني الحارث بن مازن بن سعد العشيرة من حلفاء الأنصار. ينظر: «أسد الغابة» ت (4528) ، «الإصابة» (5/ 504) ، «الاستيعاب» ت (2261) . (2) أسير بن عروة بن سواد بن الهيثم بن ظفر الأنصاري الظّفري. قال ابن القداح: شهد أحدا والمشاهد بعدها، واستشهد بنهاوند. ينظر: «الإصابة» (1/ 237) ، «الثقات» (3/ 15) ، «أسد الغابة» ت (677) ، «الاستيعاب» ت (63) .

[سورة النساء (4) : آية 106]

لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ، والطائفةُ التي هَمَّتْ أُسَيْرٌ وأصحابُهُ «1» . قال ع «2» : قال قتادة وغَيْرُ واحدٍ: هذه القصَّة ونحوها إنما كان صاحبُها طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، ويقال فيه: طُعَيْمَةُ. قال ع «3» : وطُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِق صرَّح بعد ذلك بالاِرتدادِ، وهَرَبَ إلى مكَّة، فرُوِيَ أنه نَقَبَ حائطَ بَيْتٍ ليسرقه، فانهدم الحائطُ عليه، فقَتَلَه، ويروى أنه اتبع قوماً من العرب، فسرقهم، فقتلوه «4» . [سورة النساء (4) : آية 106] وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، ذهب «5» الطبريُّ إلى أنَّ المعنَى: استغفر مِنْ ذَنْبِكَ في خِصَامِكَ للنَّاس. قال ع «6» : وهذا ليس بذَنْبٍ لأنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما دَافَعَ عن الظاهرِ، وهو يعتقدُ براءتهم، والمعنى: واستغفر للمؤْمنينَ مِنْ أمَّتك، والمتخاصِمِينَ بالباطل، لا أنْ تكون ذا جدالٍ عنهم، وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ، فَكثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُوَم مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: «سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» ، رواه أبو داود والتِّرمذيُّ والنسائِيُّ والحاكمُ وابنُ حِبَّانَ في «صحيحيهما» ، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ «7» ، ورواه النسائيُّ والحاكمُ أيضاً مِنْ طُرُق عن عائشة ...

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 265) برقم (10416) ، ذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 477) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 109) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 385) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 109) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 109) . (4) ذكره ابن عطية (2/ 109) . (5) ينظر الطبري (2/ 265) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 110) . (7) أخرجه الترمذي (5/ 494) ، كتاب «الدعوات» ، باب ما يقول إذا قام من المجلس، حديث (3433) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 105- 106) كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه، حديث (10230) ، والحاكم (1/ 536- 537) ، وابن حبان (2366- موارد) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 129- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. -

[سورة النساء (4) : آية 107]

وغيرها «1» . انتهى من «السلاح» . [سورة النساء (4) : آية 107] وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) وقوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، لفظ عامٌّ يندرج تحته أصحابُ النازلةِ، ويتقرَّر به توبيخُهُمْ، وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً : رفْقٌ وإبقاءٌ فإن الخَوَّان هو الذي تتكرَّر منه الخيانَةُ كَطُعَيْمَةَ بْنِ الأُبَيْرِقِ، والأَثِيمُ هو الذي يَقْصِدُها، فيخرج من هذا التشديدِ السَّاقط مرةً واحدةً، ونحو ذلك، واختيان الأَنْفُسِ هو بما يَعُودُ عليها من الإثْمِ والعقوبةِ في الدنيا والآخرة. [سورة النساء (4) : آية 108] يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) وقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ... الآية: الضميرُ في «يستخفون» للصِّنْفِ المرتكبِ للمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العموم أهْلُ الخيانةِ في النازلة المذكورةِ، وأهْلُ التعصُّب لهم، والتّدبير في خدع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والتلبيسِ عليه، ويحتملُ أَنْ يكونَ الضميرُ لأَهْلِ هذه النازلةِ، ويدْخُلُ في معنى هذا التوبيخِ كلُّ من يفعل نَحْوَ فعلهم، قال صاحبُ «الكَلِمِ الفَارِقِيَّة، والحِكمِ الحقيقيَّة» : النفوسُ المرتكبةُ للمحارِمِ المحتقبَةُ للمآثِمِ، والمَظَالِمِ شبيهةٌ بالأراقم، تملأ أفواهَهَا سُمًّا، وتقصدُ مَنْ تقذفُهُ عَلَيْه عدواناً وظلماً، تجمعُ في ضمائرها سُمُومَ شُرُورِهَا وضَرَرها، وتحتالُ/ لإلقائها على الغافَلَينَ عَنْ مكائدهَا وخُدَعِهَا. انتهى. ومعنى: وَهُوَ مَعَهُمْ ، بالإحَاطَةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، ويُبَيِّتُونَ : يدبِّرون لَيْلاً، ويحتمل أنْ تكون اللفظة مأخوذةً من البَيْت، أي: يستَتِرُونَ في تَدْبِيرِهمْ بالجُدُرَاتِ. [سورة النساء (4) : الآيات 109 الى 111] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)

_ - وصححه أيضا ابن حبان. وللحديث شاهد من حديث عائشة، أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 106) كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه، حديث (10231) . (1) ينظر الحديث السابق.

[سورة النساء (4) : الآيات 112 إلى 113]

وقوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ : خطابٌ للقوم الذين يَتَعَصَّبون لأَهْلِ الرَّيْبِ والمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العمومِ أهْلُ النازلةِ، وهو الأظهرُ عنْدِي بحُكْم التأكيدِ بهؤلاءِ، وهِيَ إشارةٌ إلى حاضِرِينَ، ومِن «مصابيح البَغَوِّي» عن أبي داود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ، حتى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الخَبَالِ حتى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» «1» ، ويروى: «مَنْ أَعَانَ على خُصُومَةٍ لاَ يَدْرِي أَحَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ، فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حتى يَنْزِعَ» . انتهى. وقوله تعالى: فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية: وعيدٌ محْضٌ، ولمَّا تمكَّن هذا الوعيدُ، وقَضَتِ العقولُ بأنْ لا مجادِلَ للَّهِ سبحانَهُ، ولا وَكِيلَ يقُومُ بأمْر العُصَاة عنده، عَقَّبَ ذلك بهذا الرَّجَاء العظيمِ، والمَهَلِ المنفسحِ، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ... الآية، وباقي الآية بيّن. [سورة النساء (4) : الآيات 112 الى 113] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ، ذهب بعضُ النَّاسِ إلى أنهما لفظانِ بمعنًى، كُرِّرَ لإختلافِ اللفْظِ، وقال الطَّبَرِيُّ «2» : إنما فَرَقَ بين الخطيئَةِ والإثْم لأنَّ الخطيئة تكُونُ عَنْ عَمْدٍ، وعن غير عَمْدٍ، والإثمُ لا يكُونُ إلا عَنْ عمد، وهذه الآية لفظها عامٌّ، ويندرجُ تحْتَ ذلك العمومِ أهْلُ النازلةِ المَذْكُورة، وبَرِيءُ النَّازِلَةِ، وهو لَبِيدٌ، كما تقدَّم، أيْ: ويتناولُ عمومُ الآية كلَّ بريءٍ. وقوله: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً : تشبيهٌ، إذ الذنوبُ ثِقْلٌ ووِزْرٌ، فهي كالمحمولات، وبُهْتاناً : معناه: كَذِباً، ثم وقَفَ اللَّه تعالى نبيَّه على مقدارِ عِصْمَتِهِ له، وأنها بفَضْل منه

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 329) ، كتاب «الأقضية» ، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها، حديث (3597) ، وأحمد (2/ 70) ، والحاكم (2/ 27) كلهم من طريق عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد عن عبد الله بن عمر مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) ينظر الطبري (4/ 274) .

[سورة النساء (4) : آية 114]

سُبْحَانه ورَحْمَتِهِ. وقوله تعالى: لَهَمَّتْ : معناه: لَجَعَلَتْهُ همَّها وشُغُلَها، حتى تنفذه وهذا يدلُّ على أنَّ الألفاظ عامَّة في غير أهْل النَّازلة، وإلاَّ فأهْلُ التعصُّب لبني أُبَيْرِقٍ قد وقَع هَمُّهم وثَبَت، ثم أخبر تعالى أنهم لا يضلُّون إلاَّ أنفسهم، وما يَضُرُّونَكَ مِنْ شيء، قُلْتُ: ثم ذكر سبحانه ما أنعم بِهِ على نبيه مِنْ إنزالِ الكتابِ، والحِكْمَةِ، وتعليمِهِ ما لم يكُنْ يعلم، قال ابنُ العربيِّ في رحلته: اعلم أنَّ علومَ القُرآنِ ثلاثةُ أقْسَامٍ: تَوْحِيدٌ، وتَذْكِيرٌ، وأَحْكَامٌ، وعلْم التذكيرِ هو معظم القُرآن، فإنه مشتملٌ علَى الوَعْد والوَعِيدِ، والخَوْف والرجاء، والقُرَبِ وما يرتبط بها، ويدْعو إليها ويكُونُ عنها، وذلك معنًى تَتَّسِعُ أبوابه، وتمتدُّ أطنابه. انتهى، وباقِي الآيةِ وعْدٌ كريمٌ لنبيِّهِ- عليه السلام-، وتقريرٌ نعمه لدَيْه سبحانه، لا إله غيره. [سورة النساء (4) : آية 114] لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وقوله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ... الآية: الضَّمِيرُ في نَجْواهُمْ: عائدٌ على النَّاس أجمع، وجاءَتْ هذه الآياتُ عامَّةَ التناولِ، وفي عمومهَا يندرجُ أصحابُ النَّازلة، وهذا من الفَصَاحة والإيجازِ المُضَمَّنِ الماضِي والغابر في عبارةٍ واحدةٍ، قال النوويُّ/ ورُوِّينا في كتابَيِ «الترمذيِّ» و «ابن ماجة» ، عن أمِّ حَبِيبَة «1» (رضي اللَّه عنها) ، عنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَال: «كُلَّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ إلاَّ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ، أوْ نَهْياً عَنْ منكر، أو ذكرا لله تعالى» «2» . انتهى.

_ (1) هي: رملة بنت أبي سفيان (صخر) بن حرب بن أمية بن عبد شمس.. أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها القرشية الأموية. أمها: صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان. ميلادها: ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاما. قال ابن الأثير في «الأسد» : كانت من السابقين إلى الإسلام، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله (بن جحش) فولدت هناك حبيبة فتنصر عبيد الله ومات بالحبشة نصرانيا، وبقيت أم حبيبة مسلمة بأرض الحبشة، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطبها إلى النجاشي.. قال ابن إسحاق: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب بنت خزيمة الهلالية. توفيت رحمها الله سنة (44) . تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 114، 315) ، «الإصابة» (8/ 84، 222) ، «الثقات» (3/ 131) ، «بقي بن مخلد» (52) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 268) ، «تقريب التهذيب» (2/ 620) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 419) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1683) ، «أعلام النساء» (1/ 397) ، «الكاشف» (3/ 471) . [.....] (2) أخرجه الترمذي (4/ 608) ، كتاب «الزهد» ، باب (62) ، حديث (2412) ، وابن ماجه (2/ 1315) ، -

[سورة النساء (4) : الآيات 115 إلى 116]

والنَّجْوَى: المسارَّة، وقد تسمى بها الجماعةُ كما يقال: قَوْمٌ عَدْلٌ، وليستِ النجوى بمَقْصُورةٍ على الهَمْسِ في الأُذُنِ، والمعروفُ لفظ يعمُّ الصدَقَةَ والإصلاحَ وغيرهما، ولكنْ خُصَّا بالذِّكْر اهتماماً إذ هما عظيمَا الغَنَاءِ في مَصَالحِ العبادِ، ثم وعد تعالى بالأجر العظيم على فعل هذه الخيرات بنيّة وقصد لرضا الله تعالى. [سورة النساء (4) : الآيات 115 الى 116] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) وقوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ... الآية: لفْظٌ عامٌّ نزَلَ بسببِ طُعْمَة بْنِ أُبَيْرِقٍ لأنه ارتدَّ وسار إلى مكَّة، فاندرجَ الإنحاءُ علَيْهِ فِي طَيِّ هذا العمومِ المتناوِلِ لمَنِ اتصف بهذه الصفاتِ إلى يوم القيامة. وقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى: وعيدٌ بأنْ يترك مع فاسِدِ اختيارِهِ في تودُّد الطاغوتِ، ثم أوجَبَ تعالى أنه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية. [سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 119] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) وقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً ... الآية: الضميرُ في يَدْعُونَ: عائدٌ على مَنْ ذكر في قوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] ، و «إنْ» : نافيةٌ بمعنى «ما» ، ويدعون: عبارةٌ مغنيةٌ موجزةٌ في معنى: يعبدون ويتخذُونَ آلهة، قُلْتُ: وفي «البخاريِّ» إِلَّا إِناثاً: يعني المَوَاتَ حَجَراً ومدَراً، وما أشبهه. انتهى، وفي مُصْحَف «1» عائشَةَ: «إلاَّ أوثَاناً» ونحوه عن ابنِ عَبَّاس «2» ، والمرادُ بالشّيطان هنا

_ - كتاب «الفتن» ، باب كف اللسان في الفتنة، حديث (3974) كلاهما من طريق محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت سعيد بن حسان المخزومي قال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة به. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس. (1) ينظر: «الشواذ» ص (35) ، و «الكشاف» (1/ 566) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 113) ، و «البحر المحيط» (3/ 367) ، و «الدر المصون» (2/ 427) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 279) برقم (10447) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 481) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 113) .

[سورة النساء (4) : الآيات 120 إلى 122]

إبليسُ قاله الجمهور، وهو الصوابُ لأنَّ سائر المقالة به تليق، ومَرِيداً: معناه: متمرِّداً عاتياً صليباً في غوايته، وأصْلُ اللعْنِ: الإبعادُ، والمفروضُ: معناه: في هذا الموضعِ المُنْحَاز، وهو مأخوذٌ من الفرضِ، وهو الحَزُّ في العود وغيره. قال ع «1» : ويحتملُ أنْ يريد واجباً إن اتَّخَذَهُ، وبَعْثُ النَّارِ هو نَصِيبُ إبْلِيسَ. وقوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ... الآية: معنى أُضِلَّنَّهُمْ: أصرفُهُمْ عن طريقِ الهدى، وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لأسوِّلَنَّ لهم، وأَمَانِيُّهُ لا تنحصرُ في نَوْعٍ واحدٍ، والبَتْكَ: القَطْع. وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ اختلف المتأوِّلون في معنى تَغْيير خَلْق اللَّه، ومِلاَكُ تفسير هذه الآية أنَّ كلَّ تغييرٍ ضَارٍّ، فهو داخلٌ في الآية، وكلّ تغييرٍ نافعٍ فهو مباحٌ، وفي «مختصر الطبريِّ» : فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، قال ابنُ عبَّاس: خَلْقَ اللَّهِ: دِينَ اللَّهِ، وعن إبراهيم، ومجاهدٍ، والحسن، وقتادَةَ، والضَّحَّاك، والسُّدِّيِّ، وابْنِ زَيْدٍ مثله «2» ، وفسَّر ابن زيد: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] ، أيْ: لِدِينِ اللَّهِ، واختارَ الطبريُّ «3» هذا القوْلَ واستدلِّ له بقوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] وأَجاز أنْ يدخل في الآية كلُّ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ مِنْ معاصيه، والتَّرْكِ لطاعته. انتهى، وهو حَسَنٌ. قال ع «4» : واللامَاتُ كلُّها للقَسَمِ. قال ص: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ، مفعوله محذوفٌ، أي: عن الهدى وكذا: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ، أي: الباطلَ وكذا وَلَآمُرَنَّهُمْ، أي: بالبَتْكِ، فَلَيُبَتِّكُنَّ وكذا: وَلَآمُرَنَّهُمْ، أي: بالتغيير، فَلَيُغَيِّرُنَّ كُلَّ ما أوجده اللَّه للطَّاعَةِ فيستعينُونَ به في المَعْصِيَةِ. انتهى. ولما ذكر اللَّه سبحانه/ عُتُوَّ الشيطانِ، وما توعَّد بهِ منْ بَثِّ مَكْرِهِ، حَذَّر تبارك وتعالى عبادَهُ بأن شرط لمن يتّخذه وليّا جزاء الخسران. [سورة النساء (4) : الآيات 120 الى 122] يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 114) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 283) برقم (10468) ، (10470، 10477، 10480، 10481) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 530) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 114) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 396) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ينظر الطبري (4/ 285) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 114) .

[سورة النساء (4) : آية 123]

وقوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، أي: يعدُهُم بأباطِيلهِ من المالِ، والجاهِ، وأنْ لا بَعْثَ، ولاَ عِقَابَ، ونَحْوِ ذلك لكلِّ أحدٍ مَّا يليقُ بحاله، ويمنِّيهم كذلك، ثم ابتدأ سبحانه الخَبَرَ عن حقيقةِ ذَلِكَ بقوله: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ثم أخْبَرَ سبحانه بمَصِيرِ المتَّخِذِينَ الشَّيْطَان وَليًّا، وتوعَّدهم بأنَّ مأُوَاهُمْ جهنَّم، لا يدافعونها بحيلة، ولا يتروّغون، ومَحِيصاً: مِنْ حَاصَ إذَا رَاغَ ونَفَرَ ومنه قولُ الشَّاعر: [الطويل] وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنَا مِنَ المَوْتِ حَيْصَة ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمدى مُتَطَاوِلُ «1» ومنْه الحديثُ: «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ» ، ولما ذكر سبحانه ما تقدَّم من الوعيد، واقتضى ذلك التحذيرَ، عقَّبَ ذلك عزَّ وجلَّ بالترغيبِ في ذِكْره حالةَ المُؤْمنين، وأعْلَمَ بصحَّة وعده، ثم قرَّر ذلك بالتَّوْقِيفِ علَيْه في قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، والقيلُ والقَوْلُ واحد، ونصبه على التمييز. [سورة النساء (4) : آية 123] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ... الاية: الأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، وهي ما يتشهَّاهُ المَرْءُ، ويُطَمِّعُ نفسه فيه، قال ابنُ عبّاس وغيره: الخطاب لأمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «2» وفي «مختصرِ الطبريِّ» ، عن مسروقٍ وغيره، قال: احتجَّ المسلمونَ وأهْلُ الكتابِ، فقال المسلمون: نَحْنُ أهدى، وقال أهْلُ الكتابِ: نَحْنُ أهدى، فأنزل اللَّه هذه الآية «3» ، وعن مجاهدٍ: قالتِ العربُ: لَنْ نُبْعَثَ، ولَنْ نُعَذَّبَ، وقالتِ اليهودُ والنصارى:

_ (1) البيت لجعفر بن علية الحارثي وقبله: فقلنا لهم تلكم إذا بعد كرّة ... تغادر صرعى نوؤها متخاذل ينظر: «ديوان الحماسة» (1/ 8) ، وينظر: «البحر المحيط» (3/ 364) ، و «الدر المصون» (2/ 428) . وإن حصنا أي: إن عدلنا وانحرفنا عن الموت، يقول: لم ندر إن حدنا عن القتال الذي فيه الموت، وعدلنا عنه، كم يكون بقاؤنا؟! فلم نحيد ونرتكب العار؟! ولعلنا إن تركنا القتال لم نعش إلا قليلا. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 288) برقم (10501) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 116) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 287) برقم (10497) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 116) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 398) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مسروق.

[سورة النساء (4) : الآيات 124 إلى 125]

لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» [البقرة: 111] ، وقالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] ، قال الطبريُّ «2» : وقول مجاهدٍ أولى بالصواب، وذلك أنَّ المسلمين لم يَجْرِ لأمانيِّهم ذِكْرٌ فيما مضى من الآيِ، وإنما جرى ذكْرُ أمانيِّ نصيبِ الشَّيْطَانِ. انتهى. وعليه عَوَّل ص: في سبب نزولِ الآية، أعني: على تأويل مجاهد. وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. قال جمهورُ النَّاس: لفظ الآية عَامٌّ، فالكافر والمؤمنُ مُجَازًى، فأما مجازاة الكافر، فالنّار، وأما مجازاة المؤمِنِ، فبِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا فَمَنْ بقي له سُوءٌ إلى الآخرة، فهو في المشيئة يغفر اللَّه لمن يشاء، ويجازي من يشاء. [سورة النساء (4) : الآيات 124 الى 125] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، دخلَتْ «من» للتبعيض إذا الصالحاتُ على الكمالِ ممَّا لا يطيقُهُ البَشَر ففِي هذا رفْقٌ بالعبادِ، لكنْ في هذا البَعْضِ الفرائضُ، وما أمْكَنَ من المندوبِ إلَيْهِ، ثم قَيَّد الأمر بالإيمان إذ لا ينفعُ عمَلٌ دونه، والنَّقِيرُ: النُّكْتَةُ التي في ظَهْر النَّواة ومنه تَنْبُتُ، وعن ابن عبَّاس: ما تَنْقُرُهُ بأصبعِكَ «3» . ثم أخبر تعالى إخباراً موقفاً على أنه لا أحسن ديناً مِمَّن أسلم وجْهَهُ للَّه، أي: أخلَص مَقْصِدَهُ وتَوَجُّهَهُ، وأحْسَنَ في أعماله، واتبع الحنيفيَّةَ ملَّةَ إبراهيمَ إمامِ العالَمِ، وقُدْوَةِ الأديانِ، ثم ذكَر سبحانه تشريفَهُ لنبيِّه إبراهيم- عليه السلام- باتخاذه خليلاً، وسمَّاه خليلاً إذ كان خُلُوصه، وعبادتُه، واجتهاده على الغايةِ الَّتي يجري إلَيْها المحبُّ المبالغ، وذهب قوم إلى أنهُ سُمِّي خليلاً من «الخَلَّة» - بفتح الخاء-، أي: لأنه أنزل خَلَّته وفاقته باللَّه تعالى، وكذلك شَرَّف اللَّه نبيَّنا محمداً صلّى الله عليه وسلّم/ بالخَلَّة كما هو مصرَّح به في الحديثِ الصحيح. [سورة النساء (4) : آية 126] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 289) برقم (10507) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 116) . (2) ينظر الطبري (4/ 290) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» . [.....]

[سورة النساء (4) : آية 127]

وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... الآية: ذكر سبحانه سَعَة ملكه وإحاطته بكل شيء، عَقِبَ ذكْر الدِّين، وتبيينِ الجادَّة منه ترغيباً في طاعته والانقطاع إليه سبحانه. [سورة النساء (4) : آية 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ... الآية: معنى قوله: يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ: أي: يبيِّن لكم حكم ما سألتم عنه. قال «1» ع: تحتملُ «ما» أنْ تكونَ في موضع رفعٍ عطفاً على اسمِ اللَّهِ عزَّ وجل، أي: ويفتيكم ما يتلى عليكم في الكتابِ، يعني: القُرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدَّم من الآية في أمْر النِّساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ... [النساء: 3] الآية، قالت عائشةُ: نزلت هذه الآية أوَّلاً، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أَمْر النساءِ، فنزلَتْ، وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ... الآية. وقوله تعالى: فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ: معناه: النهْيُ عما كانَتِ العربُ تفْعَلُه من ضَمِّ اليتيمة الجميلةِ بدُونِ ما تستحقُّه من المَهْر، ومِنْ عَضْلِ الدميمةِ الغنيَّة حتى تموتَ، فيرثها العاضلُ، والذي كَتَبَ اللَّه لهنَّ هو توفيةُ ما تستحقُّه مِنْ مَهْرٍ. وقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، أي: إنْ كانت الجاريةُ غنيَّةً جميلةً، فالرغبةُ في نكاحِهَا، وإن كانَتْ بالعَكْس، فالرغبة عَنْ نكاحها. وقوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عَطْفٌ على «يتامى النساء» ، والَّذي يتلى في المستَضْعَفِينَ مِنَ الولدان هو قولُهُ تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... [النساء: 11] الآية وذلك أن العرب كانَتْ لا تورِّثُ الصَّبِيَّةَ، ولا الصبيَّ الصغيرَ، ففرضَ اللَّه تعالى لكلِّ واحدٍ حقَّه. وقوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ: عطْفٌ أيضاً على ما تقدَّم، والذي تُلِيَ في هذا المعنى هو قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ... [النساء: 2] الآية،

_ (1) ينظر «المحرر الوجيز» (2/ 118) .

[سورة النساء (4) : آية 128]

إلى غَيْر ذلك ممَّا ذُكِرَ في مال اليتيم، والقسط: العدل، وباقي الآية بيّن. [سورة النساء (4) : آية 128] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وقوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... الآية: هذه الآيةُ حُكْمٌ من اللَّه تعالى في أمْرِ المرأةِ الَّتِي تكُونُ ذاتَ سِنٍّ ونَحْو ذلك ممَّا يرغَبُ زوجُها عَنْها، فيعرض عليها الفُرْقَة أو الصَّبْر على الأَثَرة، فتُرِيدُ هي بَقَاءَ العِصْمة، فهذه التي أَبَاحَ اللَّه بينهما الصُّلْحَ ورَفَعَ الجُنَاحَ فيه. واختلف في سَبَبِ نزولِ الآية، فقال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ: نزلَتْ في النبيِّ- عليه السلام- وسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ «1» وفي المصنَّفات: أن سَوْدَةَ لما كَبِرَتْ، وَهَبَتْ يومها لعائشة «2» ، وقال ابنُ المُسَيَّب وغيره: نزلت بسبب رافع بن خديج «3» ...

_ (1) هي: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، أم المؤمنين. القرشية. العامرية رضي الله عنها. قال ابن الأثير: تزوجها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد وفاة خديجة قبل عائشة. قاله عقيل عن الزهري.. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة توفيت آخر خلافة عمر سنة (54) . تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 157) ، «الإصابة» (8/ 117) ، «الثقات» (3/ 183) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 280) ، «تقريب التهذيب» (2/ 601) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 426) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1686) ، «أعلام النساء» (2/ 267) ، «السمط الثمين» (117) ، «الدر المنثور» (252) ، «الاستيعاب» (4/ 1867) ، «الكاشف» (3/ 473) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 249) ، كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3040) ، وأبو داود الطيالسي (1944) ، والطبري في «تفسيره» (10608) ، والبيهقي (7/ 297) كتاب «القسم والنشوز» ، باب ما جاء في قول الله عز وجل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً..، والطبراني في «الكبير» (11/ 284) رقم (11746) ، كلهم من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... ، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 410) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر. وللحديث شواهد أخرى عن عائشة. (3) هو: رافع بن خديج بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس ... أبو عبد الله. أبو خديج. الأنصاري. الأوسي. الحارثي أمه: حليمة بنت مسعود بن سنان. عرض نفسه يوم بدر على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرده لصغره، ثم أجازه يوم أحد فشهد أحد وأصيب بها، ثم الخندق وأكثر المشاهد، وشهد صفين مع علي، واستوطن المدينة، وكان عريف قومه-

وامرأتِهِ خَوْلَةَ «1» ، وقال مجاهدٌ: نزلَتْ بسبب أبي السَّنَابِلِ «2» وامرأتِهِ «3» ، ولفظُ ابنِ العربيِّ في «أحكامه» «4» : قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ... الآية: قالَتْ عائشةُ (رضي اللَّه تعالى عنها) : هِيَ المرأَةُ تكُونُ عند الرجُلِ ليس بمستكْثِرٍ منها يريدُ أنْ يفارقَهَا، فتقولُ لَهُ: أجعلُكَ مِنْ شأنِي في حِلٍّ، فنزلَتِ الآية، قال الفقيهُ أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: فرضوانُ اللَّه علَى الصِّدِّيقة المُطَهَّرة، لَقَدْ وفَّتْ بما حَمَّلها ربُّها من العَهْد في قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] انتهى. وقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظٌ عامٌّ مطلقٌ يقتضي أنَّ الصُّلّحَ الحقيقيَّ الذي تسكن إلَيْه النفوسُ، ويزولُ به الخلافُ خَيْرٌ على الإطلاق، ويندرج تحْتَ هذا العموم أنَّ صُلْحَ الزوجَيْن/ على ما ذكرنا- خيرٌ من الفُرْقَة. وقوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ معذرةٌ عن عَبِيدِهِ تعالى، أي: لا بُدَّ للإنسان بحُكْم خلقته وجِبِلَّتهِ من أنْ يشحَّ على إرادته حتى يَحْمِلَ صاحبه على بعض ما يكره، وخصَّص المفسِّرون هذه اللفظة هنا.

_ - إلى أن مات بها. وصلّى عليه ابن عمر. توفي سنة (74) وله (86 سنة) . تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 190) ، «الإصابة» (2/ 186) ، «الثقات» (3/ 121) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 173) ، «الاستيعاب» (2/ 479) ، «العبر» (1/ 83) ، «الاستبصار» (240) ، «عنوان النجابة» (80) ، «الكاشف» (1/ 30) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 50) ، «الرياض المستطابة» (69) . (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 307) برقم (10605) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 119) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 411) ، وعزاه للشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن سعيد بن المسيب. (2) أبو السنابل بن بعكك: بموحدة ثم مهملة ثم كافين، بوزن جعفر، ابن الحارث بن عميلة، بفتح أوله، ابن السباق، ابن عبد الدار القرشي العبدري، واسمه صبّة، بموحدة، وقيل: بنون. قال البغويّ: سكن الكوفة، وقال البخاري: لا أعلم أنه عاش بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: روى عنه الأسود بن يزيد النخعي، وزفر بن أوس بن الحدثان النصري. وقال ابن سعد وغيره: أقام بمكة حتى مات، وهو من مسلمة الفتح، وأخرج حديثه التّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجة، كلّهم من رواية منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عنه في قصة سبيعة. ينظر: «الإصابة» (7/ 161) ، «الكنى والأسماء» (3211) ، «تفسير الطبري» (9/ 10601) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 121) ، «تقريب التهذيب» (2/ 431) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 308) برقم (10606) ، وذكره ابن عطية (2/ 119) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 412) ، وعزاه لابن جرير. (4) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 503) .

[سورة النساء (4) : آية 129]

فقال ابنُ جُبَيْر: هو شُحُّ المرأة بالنفقة مِنْ زوجها، وبقَسْمه لها أيامَها «1» . وقال ابن زَيْد: الشحُّ هنا منه وَمِنْها قال ع «2» : وهذا حسنٌ. والشُّحُّ: الضبط على المعتَقَدَاتِ، وفي الهمم، والأموالِ، ونحو ذلك، فما أفرط منه، ففيه بعض المذمَّة، وهو الذي قال تعالى فيه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9] ، وما صار إلى حيِّزِ مَنْعِ الحقوقِ الشرعيَّة، أو الَّتي تقتضِيَها المروءةُ، فهو البُخْل، وهي رذيلةٌ، لكنها قد تكُونُ في المؤمِنِ ومنه الحديثُ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَكُونُ المُؤْمِنُ بَخِيلاً؟ قَالَ: نَعَمْ» ، وأما الشُّحُّ، ففي كلِّ أحد، وينبغي ألاَّ يفرط إلاَّ على الدِّين ويدلُّك على أنَّ الشُّحَّ في كلِّ أحد قولُهُ تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، وقوله: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9] ، فقد أثبَتَ أنَّ لكل نفسٍ شُحًّا، وقول النبيِّ- عليه السلام-: «وَأَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» «3» ، وهذا لم يُرِدْ به واحداً بعينه، وليس يجمُلُ أنْ يقال هنا: أنْ تَصَدَّقَ، وَأَنتَ صحيحٌ بخيلٌ. وقوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا: ندْبٌ إلى الإحسان في تحسين العِشْرة، والصَّبْرِ على خُلُقِ الزوجة، وَتَتَّقُوا: معناه: تتقوا اللَّه في وصيَّته بهنَّ إذ هنّ عوان عندكم. [سورة النساء (4) : آية 129] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وقوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا ... الآية: معناه: العدل التامّ على

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 310) برقم (10624) ، وذكره ابن عطية (2/ 120) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 120) . (3) أخرجه البخاري (3/ 334) في الزكاة: باب فضل صدقة الشحيح (1419) ، و (5/ 439- 540) في الوصايا: باب الصدقة عند الموت (2748) ، ومسلم (2/ 716) في الزكاة: باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (92- 93/ 1032) ، وأبو داود (2/ 126) في الوصايا: باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية (2865) ، والنسائي (5/ 68) في الزكاة: باب أي الصدقة أفضل، و (6/ 237) في الوصايا: باب الكراهية في تأخير الوصية، وابن ماجة (2/ 903) في الوصايا: باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت (2706) ، والبخاري في «الأدب المفرد» برقم (786) ، وأحمد (2/ 231، 415، 447) ، وابن خزيمة (4/ 103) ، برقم (2454) ، والبيهقي (4/ 190) ، والبغوي (3/ 423) برقم (1665) من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ ... فذكره.

[سورة النساء (4) : آية 130]

الإطلاق، والمستوِي في الأفعالِ، والأقوالِ، والمحبَّة، والجِمَاعِ، وغير ذلك، «وكان صلّى الله عليه وسلّم يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ، وَلاَ أَمْلِكُ» «1» . فوصف اللَّه سبحانه حالة البَشَر أنهم بحُكْم الخِلْقَةِ لا يملكُونَ مَيْلَ قلوبهم إلى بعضِ الأزواج، دون بعضٍ، ثم نهى سبحانه عن المَيْل كلَّ الميل، وهو أنْ يفعل فعلاً يقصِدُه من التفضيل، وهو يقدر ألاَّ يفعله، فهذا هو كلُّ المَيْل، وإن كان في أمر حقير. وقوله سبحانه: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ، أي: لا هي أيّم، ولا ذات زوج، وجاء في التي قبل: وَإِنْ تُحْسِنُوا، وفي هذه: وَإِنْ تُصْلِحُوا لأن الأولى في مندوب إليه، وفي هذه في لازم إذ يلزمه العدل فيما يملك. [سورة النساء (4) : آية 130] وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ... الآية: إنْ شَحَّ كلُّ واحدٍ من الزوجَيْن، فلم يتصالحا، لكنهما تفرَّقا بطلاقٍ، فإن اللَّه تعالى يغنِي كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بفَضْلِهِ، ولطائِفِ صُنْعه في المالِ، والعِشْرة، والسَّعَة، وجَوْدِ المراداتِ، والتمكُّن منها، والواسعُ: معناه: الذي عنده خزائن كلّ شيء. [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 133] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: تنبيهٌ على موضع الرجاءِ لهذَيْن المفترقَيْن، ثم جاء بعد ذلك قوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيهاً على استغنائه عن العباد، ومقدّمة للخبر بكونه غنيّا حميد، ثم جاء بعد

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 648) في النكاح: باب في القسم بين النساء (2134) ، والترمذي (3/ 446) في النكاح: باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140) ، وابن ماجة (1/ 634) في النكاح: باب القسمة بين النساء (1971) ، والنسائي في «عشرة النساء» (7/ 63- 64) : باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، وأحمد (6/ 144) ، وابن أبي شيبة (4/ 386- 387) ، وابن حبان (1305- موارد) ، والحاكم (2/ 187) ، والبيهقي (7/ 298) ، والدارمي (2/ 144) من حديث عائشة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

ذلك قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مقدِّمة للوعيد، فهذه وجوهُ تَكْرَارِ هذا الخبرِ الواحدِ ثلاثَ مرَّاتٍ متقاربةٍ. ت: وفي تمشيته هذه عندي نَظَرٌ، والأحْسَنُ بقاءُ الكلامِ على نَسَقِهِ فقوله (رحمه اللَّه) : «تَنْبِيه على مَوْضِعِ الرَّجَاءِ لهذين المفترقَيْن» - حَسَنٌ، وإنما الذي فيه قَلَقٌ ما بعده من توجيهه. وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ... الآية: لفظٌ عامٌّ لكل مَنْ أوتيَ كتاباً، فإنَّ وصيَّته سبحانه لعباده لم تَزَلْ منذُ أوجَدَهُمْ. ت: قال الأستاذ أبو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ «1» في «سِرَاجِ المُلُوكِ» /: ولما ضَرَبَ ابْنُ مُلْجِمٍ «2» عليًّا (رضي اللَّه عنه) ، أُدْخِلَ منزلَهُ، فاعترته غشيةٌ، ثم أفاقَ، فدعا أولاده

_ (1) هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي. الفهري. الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي ولد سنة 451 هـ 1059 م وتوفي سنة 520 هـ 1126 م، ويقال له: ابن أبي رندقة: أديب، من فقهاء المالكية، الحافظ. من أهل طرطوشة بشرقي الأندلس. تفقه ببلاده، ورحل إلى المشرق سنة 476 فحج وزار العراق ومصر وفلسطين ولبنان، وأقام مدة في الشام، وسكن الإسكندرية، فتولى التدريس واستمر فيها إلى أن توفي. وكان زاهدا لم يتشبث من الدنيا بشيء. من كتبه: «سراج الملوك- ط» و «التعليقة» في الخلافيات، وكتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي، و «بر الوالدين» و «الفتن» و «الحوادث والبدع» و «مختصر تفسير الثعلبي- خ» و «المجالس- خ» في الرباط. ينظر: «الأعلام» (7/ 133- 134) ، و «وفيات الأعيان» (1/ 479) . [.....] (2) هو عبد الرّحمن بن ملجم المرادي التدؤلي الحميري توفي سنة 40 هـ 660 م: فاتك ثائر، من أشداء الفرسان. أدرك الجاهلية، وهاجر في خلافة عمر، وقرأ على معاذ بن جبل فكان من القراء وأهل الفقه والعبادة، ثم شهد فتح مصر وسكنها فكان فيها فارس بني تدؤل، وكان من شيعة علي بن أبي طالب وشهد معه صفين. ثم خرج عليه فاتفق مع «البرك» و «عمرو بن بكر» على قتل عليّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص، في ليلة واحدة (17 رمضان) وتعهد البرك بقتل معاوية، وعمرو بن بكر بقتل عمرو بن العاص، وتعهد ابن ملجم بقتل علي، فقصد الكوفة واستعان برجل يدعى شبيبا الأشجعي، فلما كانت ليلة 17 رمضان كمنا خلف الباب الذي يخرج منه عليّ لصلاة الفجر، فلما خرج، ضربه شبيب فأخطأه، فضربه ابن ملجم فأصاب مقدم رأسه، فنهض من في المسجد، فحمل عليهم بسيفه فأفرجوا له، وتلقاه المغيرة بن نوفل بقطيفة رمى بها عليه وحمله وضرب به الأرض وقعد على صدره. وفر شبيب. وتوفي عليّ من أثر الجرح. وفي آخر اليوم الثالث لوفاته أحضر ابن ملجم بين يدي الحسن فقال له: والله لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار. فقال ابن ملجم: لو علمت أن هذا في يديك ما اتخذت إلها غيرك! ثم قطعوا يديه ورجليه، وهو لا ينفك عن ذكر الله. فلما عمدوا إلى لسانه شق ذلك عليه، وقال: وددت أن لا يزال في بذكر الله رطبا. فأجهزوا عليه، وذلك في الكوفة. وقيل: أحرق بعد قتله. ينظر: «الأعلام» (3/ 339) .

[سورة النساء (4) : الآيات 134 إلى 135]

الحَسَنَ، والحُسَيْنَ، ومحمَّداً، فقال: أوصيكُمْ بتقْوَى اللَّهِ فِي الغَيْبِ والشهادةِ، وكلمةِ الحقِّ في الرضَا والغَضَب، والقَصْدِ في الغنى والفَقْر، والعَدْلِ عَلَى الصديقِ والعَدُوِّ، والعملِ في النشاطِ والكَسَل، والرضا عن اللَّه في الشدَّة والرخَاءِ يا بَنِيَّ، ما شَرٌّ بعْدَهُ الجَنَّةُ بِشَرٍّ، وَلاَ خَيْرٌ بَعْدَهُ النَّارُ بِخَيْرٍ، وكلُّ نَعِيمٍ دُونَ الجَنَّةِ حَقِيرٌ، وَكُلُّ بَلاَءٍ دُونَ النَّارِ عافيةٌ، مَنْ أَبْصَرَ عَيْبَ نفسِهِ شُغِلَ عَنْ عَيْبِ غيره، ومَنْ رَضِيَ بقَسْم اللَّهِ لم يَحْزَنْ على ما فاته، ومَنْ سَلَّ سيْفَ بَغْيٍ قُتِلَ به، ومَنْ حَفَر لأخيهِ بِئْراً وقَعَ فيها، ومَنْ هَتَكَ حجابَ أخِيهِ، كَشَفَ اللَّهُ عوراتِ بَنِيهِ، ومَنْ نَسِيَ خطيئته، استعظم خَطِيئَةَ غَيْره، ومَنِ استغنى بعقله زَلَّ، وَمَنْ تكبَّر على الناس ذَلَّ، ومَنْ أُعْجِبَ برأْيه ضَلَّ. ومَنْ جالَسَ العلماء وُقِّرَ، ومَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ احتقر، ومَنْ دَخَل مَدَاخلَ السُّوء اتهم، ومَنْ مَزَحَ استخف بِهِ، ومَنْ أكْثَرَ مِنْ شيءٍ عُرِفَ به، ومَنْ كثُر كلامه كَثُرَ خَطَؤُهُ، ومن كثر خَطَؤُهُ قل حياؤه، ومن قَلَّ حياؤه قَلَّ ورعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ ماتَ قلبه، ومَنْ مات قلبه دخَلَ النار، يَا بَنِيَّ، الأدَبُ خَيْرُ ميراثٍ، وحُسْنُ الخُلُقِ خَيْرُ قَرِينٍ، يا بَنِيَّ، العافيةُ عَشَرَةُ أجزاءٍ: تسْعَةٌ منها في الصَّمْتِ إلاَّ عَنْ ذكر اللَّهِ، وواحدٌ في ترك مُجَالَسَةِ السُّفَهاء، يَا بَنِيَّ، زِينَةُ الفَقْر الصَّبْرُ، وزِينَةُ الغِنَى الشُّكْرُ، يا بَنِيَّ، لا شَرَفَ أعَزُّ من الإسلام، وَلاَ كَرَمَ أعَزُّ من التقوى، يا بَنِيَّ، الحِرْصُ مفتاحُ البَغْيِ، ومطيَّةُ النَّصَبِ، طوبى لمن أخْلَصَ للَّه عَمَلَهُ وعِلْمَهُ، وحُبَّهُ وَبُغْضَهُ، وأَخْذَهُ وتَرْكَهُ، وكَلاَمَهُ وَصَمْتَهُ، وقَوْلَهُ وفِعْلَهُ. انتهى. والوكيلُ: القائمُ بالأمورِ، المُنَفِّذُ فيها ما رآه، وقوله: أَيُّهَا النَّاسُ: مخاطبةٌ للحاضرين مِنَ العَرَب، وتوقيفٌ للسامعين لتَحْضُرَ أذهانهم، وقوله: بِآخَرِينَ يريدُ مِنْ نوعكم، وتحتملُ الآيةُ أنْ تكُونَ وعيداً لجميعِ بَنِي آدم، ويكون الآخرونَ مِنْ غيرِ نَوْعِهِمْ كالملائكَةِ، وقولُ الطبريِّ «1» : «هذا الوعيدُ والتوبيخُ للشافِعِينَ والمُخَاصِمِينَ في قصَّة بَنِي أُبَيْرِقٍ» - بعيدٌ، واللفظ إنما يَظْهَرُ حُسْنُ رَصْفِهِ بعمومه وانسحابه على العَالَمِ جملةٌ، أو العالم الحاضر. [سورة النساء (4) : الآيات 134 الى 135] مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)

_ (1) ينظر الطبري (4/ 318) .

وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ... الآية: أيْ: من كان لا مُرَادَ له إلاَّ في ثوابِ الدنيا، ولا يعتقدُ أنَّ ثَمَّ سواه، فليس كما ظَنَّ، بل عند اللَّه سبحانه ثوابُ الدارَيْنِ، فَمَنْ قَصَدَ الآخرة، أعطاه اللَّه مِنْ ثواب الدنيا، وأعطاه قَصْدَهُ، ومَنْ قَصَدَ الدنيا فقَطْ، أعطاه من الدنيا ما قَدَّرَ له، وكان له في الآخرة العَذَابُ، واللَّه تعالى سميعٌ للأقوال، بصيرٌ بالأعمال والنيَّات، وفي الحديث الصّحيح، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لامرىء ما نوى ... » «1» الحديث، قال

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 9) كتاب «بدء الوحي» ، باب كيف كان بدء الوحي، حديث (1) ، (5/ 190) كتاب «العتق» ، باب الخطأ والنسيان، حديث (2529) ، (7/ 267) كتاب «مناقب الأنصار» ، باب هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث (3898) ، (9/ 17) كتاب «النكاح» ، باب من هاجر أو عمل خيرا لتزوج امرأة فله ما نوى، حديث (5070) ، (11/ 580) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب النية في الأيمان، حديث (6689) ، (12/ 342- 434) كتاب «الحيل» ، باب من ترك الحيل، حديث (6953) ، ومسلم (3/ 1515) كتاب «الإمارة» ، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» ، حديث (155/ 1907) ، وأبو داود (2/ 651) ، كتاب «الطلاق» ، باب فيما عنى به الطلاق والنيات، حديث (2201) ، والنسائي (1/ 58- 59) كتاب «الطهارة» ، باب النية في الوضوء، والترمذي (4/ 179) كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء، حديث (1647) ، وابن ماجة (2/ 1413) كتاب «الزهد» ، باب النية، حديث (4227) ، وأحمد (1/ 25، 43) ، والحميدي (1/ 16- 17) برقم (28) ، وأبو داود الطيالسي (2/ 27- منحة) رقم (1997) ، وابن خزيمة (1/ 73- 74) برقم (142) ، وابن حبان (388، 389- الإحسان) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (64) ، وابن المبارك في «الزهد» (ص 62، 63) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (ص 101) برقم (206) ، وهناد بن السري في «الزهد» (2/ 440) برقم (871) ، ووكيع في «الزهد» رقم (351) ، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 369) ، وابن أبي حاتم في «مقدمة الجرح والتعديل» (ص 213) ، والدارقطني (1/ 50- 51) كتاب «الطهارة» ، باب النية، حديث (1) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 96) كتاب «الطلاق» ، باب طلاق المكره، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 42) ، وفي «تاريخ أصبهان» (2/ 115، 227) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/ 403- تهذيب) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1، 2، 1172، 1173) ، وابن حزم في «المحلى» (1/ 73) ، والبيهقي (1/ 41) كتاب «الطهارة» ، باب النية في الطهارة، وفي «معرفة السنن والآثار» (1/ 152) ، و «شعب الإيمان» (5/ 336) رقم (6837) ، و «الاعتقاد» رقم (254) ، وفي «الزهد الكبير» (ص 132) رقم (241) ، وفي «الآداب» رقم (1138) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 224، 6/ 153، 9/ 345- 346) ، والقاضي عياض في «الإلماع» (ص 54- 55) ، باب ما يلزم من إخلاص النية في طلب الحديث وانتقاد ما يؤخذ عنه، وابن جميع في «معجم شيوخه» (ص 117) رقم (66) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 54- بتحقيقنا) ، والرافعي في «تاريخ قزوين» (4/ 77) ، والنووي في «الأذكار» (ص 33) ، والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (2/ 774) ، والحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 242، 243) . كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإن لكل-

النوويُّ: بلَغَنَا عنِ ابْنِ عبَّاسٍ أنه قَالَ: «إنَّمَا يُحْفَظُ الرَّجُلُ على قَدْرِ نِيَّتِهِ» ، وقال غيره: إنما يُعْطَى الناسُ على قَدْر نيَّاتهم. انتهى.

_ - امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ. وقال أبو نعيم: هذا الحديث من صحاح الأحاديث وعيونها. اهـ. وقال ابن عساكر: هذا حديث صحيح من حديث أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب، وثابت من حديث علقمة بن وقاص الليثي لم يروه عنه غير أبي عبد الله محمد بن إبراهيم التيمي، واشتهر عنه برواية أبي سعد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني القاضي، وهو ممن انفرد به كل واحد من هؤلاء عن صاحبه، ورواه عن يحيى العدد الكثير والجم الغفير. اهـ. قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 55) : وقال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي الخشاب: رواه عن يحيى بن سعيد نحو من مائتين وخمسين إنسانا، وقال الحافظ أبو موسى: سمعت عبد الجليل بن أحمد في المذاكرة يقول: قال أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الأنصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد قلت- أي الحافظ-: تتبّعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، وقال البزار، والخطابي، وأبو علي بن السكن، ومحمد بن عتاب، وابن الجوزي، وغيرهم: إنه لا يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا عن عمر بن الخطاب ... اهـ. قلنا: وقد روى هذا الحديث غير يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، أخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 136) من طريق الربيع بن زياد أبو عمرو الضبي، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . قال ابن عدي: وهذا الأصل فيه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، وقد رواه عن يحيى أئمة الناس، وأما عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم لم يروه عنه غير الربيع بن زياد، وقد روى الربيع بن زياد عن غير محمد بن عمرو من أهل المدينة بأحاديث لا يتابع عليها اهـ. وفي الباب عن جماعة من الصحابة وهم: أبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وهزال بن يزيد الأسلمي. 1- حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه الخليلي في «الإرشاد» (1/ 233) ، والدارقطني في «غرائب مالك» ، والحاكم في «تاريخ نيسابور» ، كما في «تخريج أحاديث المختصر» لابن حجر (2/ 247- 248) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 342) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1773) ، كلهم من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، ثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» قال الخليلي: وعبد المجيد قد أخطأ في هذا الحديث الذي يرويه عن مالك في الحديث الذي يرويه مالك، والخلق عن يحيى بن سعيد الأنصاري وهو غير محفوظ-

ثم خاطَبَ سبحانه المؤمِنِينَ بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، وهو العدل، ومعنى شُهَداءَ لِلَّهِ، أيْ: لذاتِهِ، ولوجْهِهِ، ولمرضَاتِهِ سبحانه، وقولُهُ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ:

_ - من حديث زيد بن أسلم بوجه. اهـ. وقال الدارقطني: تفرد به عبد المجيد عن مالك اهـ. وقال أبو نعيم: غريب من حديث مالك عن زيد تفرد به عبد المجيد، ومشهوره وصحيحه ما في الموطأ مالك، عن يحيى بن سعيد اهـ. وقد حكم ببطلان هذا الطريق أبو حاتم الرازي فقال ولده في «العلل» (1/ 131) رقم (362) ... سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات ... » قال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، إنما هو مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اهـ. وقد أخرجه الحافظ ابن حجر في «تخرج المختصر» (2/ 247) من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز، عن مالك عن زيد ... به. وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال أيضا: وعبد المجيد وثقه أحمد، وابن معين، والنسائي، وتكلم فيه أبو حاتم، والدارقطني، وقيل: إن هذا مما أخطأ فيه على مالك، والمحفوظ عن مالك عن يحيى بن سعيد بالسند المعروف المتقدم اهـ. قلت: وقد حاول بعضهم إلصاق الخطأ بنوح بن حبيب الراوي، عن عبد المجيد كالبزار مثلا. فقال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 302) . وقال- يعني البزار-: في مسند الخدري حديث روي عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأعمال بالنية» أخطأ فيه نوح بن حبيب ولم يتابع عليه وليس له أصل عن أبي سعيد اهـ. قلت: وفي كلام البزار نظر، أما إن الحديث ليس له أصل عن أبي سعيد فهذا صواب، أما إلصاق الخطأ بنوح بن حبيب ودعواه أنه تفرد به ولم يتابع عليه فهنا الخطأ. فقد توبع نوح بن حبيب على هذا الحديث، تابعه اثنان وهما: إبراهيم بن محمد بن مروان بن هشام عند الدارقطني في «غرائب مالك» ، وعلي بن الحسن الذهلي عند الحاكم في «تاريخ نيسابور» . ينظر: «تخريج المختصر» لابن حجر (2/ 247- 248) . ومنه نعلم أن نوحا لم يتفرد به، بل تابعه اثنان، وأن الذي تفرد به هو عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وهو الذي أخطأ في الحديث. 2- حديث أنس بن مالك: أخرجه ابن عساكر في أماليه كما في «تخريج المختصر» لابن حجر (2/ 246) . وقال الحافظ: وفي سنده ضعف. وقال الحافظ العراقي في «طرح التثريب» (2/ 4) : رواه ابن عساكر من رواية يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب جدا، والمحفوظ حديث عمر. 3- حديث أبي هريرة: -

متعلِّق ب شُهَداءَ، هذا هو الظاهرُ الذي فَسَّر عليه الناس، وأنَّ هذه الشهادة المذكورةَ هي في الحُقُوق، ويحتملُ أنْ يكُونَ المعنى: شهداء للَّه بالوحْدَانيَّة، ويتعلَّق قوله: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ، ب قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ/، والتأويل الأولُ أبْيَنُ، وشهادةُ المَرْءِ على نفسه هو إقراره بالحقائِقِ. قال ص: وقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً: ضميرُ «يَكُنْ» عائدٌ إلى المشهودِ علَيْه، والضميرُ في «بِهِمَا» عائد على جِنْسَيِ الغَنِيِّ والفقيرِ. انتهى. قال ع «1» : وقوله: أَوْلى بِهِما: أيْ: هو أنظر لهما، وروى الطبريُّ «2» أنَّ هذه الآيةَ هي بِسَبَبِ نازلةِ بَنِي أُبَيْرِقٍ، وقيامِ مَنْ قَامَ فيها بغَيْر القسْطِ. وقوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى: نهْيٌ بيِّنٌ، واتباعُ الهوى مُرْدٍ مهلكٌ. وقوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا يحتملُ أنْ يكون معناه: مَخَافَةَ أنْ تَعْدِلُوا، ويكون العَدْلُ هنا بمعنَى العُدُولِ عن الحقِّ، ويحتملُ أنْ يكون معناه: مَحَبَّة أنْ تعدلوا، ويكون العدل

_ - قال العراقي في «طرح التثريب» (2/ 4) : رواه الرشيد العطار في بعض تخاريجه وهو وهم أيضا. وقال ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 246) : أخرجه الرشيد العطار في فوائده بسند ضعيف. 4- حديث علي بن أبي طالب: قال الحافظ العراقي في «طرح التثريب» (2/ 4) : رواه محمد بن ياسر الجياني في نسخة من طريق أهل البيت إسنادها ضعيف. وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 246) : أخرجه أبو علي بن الأشعث وهو واه جدا. 5- حديث هزال بن يزيد الأسلمي: أخرجه الحاكم في «تاريخ نيسابور» ، كما في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 248) في ترجمة أبي بكر محمد بن أحمد بن بالويه، من طريق محمد بن يونس، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن ابن هزال عن أبيه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ... فذكره. قال الحاكم: ذكرته لأبي علي الحافظ فأنكره جدا، وقال لي: قل لأبي بكر لا يحدث به بعد هذا. اهـ. قال الحافظ: محمد بن يونس شيخه هو الكديمي وهو معروف بالضعف، والمحفوظ بالسند المذكور قصة ماعز فلعله دخل عليه حديث في حديث، وهزال هو ابن يزيد الأسلمي وهو صحابي معروف، واسم ابنه نعيم وهو مختلف في صحبته اهـ. قلت: مما سبق تبين أن حديث «إنما الأعمال بالنيات» لم يصح إلا من حديث عمر. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 123) . (2) ينظر: الطبري (4/ 320) .

[سورة النساء (4) : آية 136]

بمعنى القَسْطِ. وقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ... الآية: قال ابن عبَّاس: هي في الخَصْمَيْن يجلسَانِ بَيْن يَدَيِ القاضِي، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُهُ لأحدهما عَلَى الآخر «1» ، وقال ابنُ زَيْد وغيره: هي في الشُّهُود يَلْوِي الشهادَةَ بلسانِهِ، أو يعرض عن أدائها «2» . قال ع «3» : ولفظ الآية يعمُّ القضاءَ والشَّهادة، والتوسُّطَ بيْنَ النَّاسِ، وكلّ إنسان مأخوذٌ بأنْ يعدل، والخُصُوم مطلُوبُونَ بعَدْلٍ مَّا في القضاة، فتأمَّله، وقد تقدّم تفسير اللّيّ، وباقي الآية وعيد. [سورة النساء (4) : آية 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: اختُلِفَ من المخاطَبِ بهذه الآية: فقيل: الخطابُ للمؤمنين، ومضمَّنُ هذا الأمرِ الثبوتُ والدوامُ، وقالتْ فرقةٌ: الخطابُ لأَهل الكتابَيْن، ورجّحه الطبريّ، وقيل: الخطاب للمنافقين، أي: يا أيها الَّذين آمنوا في الظَّاهِرِ، لِيكُنْ إيمانكم حقيقةً. وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ ... إلى آخر الآية: وعيدٌ، وخبر مضمَّنه تحذيرُ المؤمنين مِنْ حالة الكفر. [سورة النساء (4) : آية 137] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... الآية: قال مجاهدٌ، وابنُ زَيْدٍ: الآيةُ في المنافِقِينَ، فَإنَّ مِنْهُمْ مَنْ كان يؤمنُ، ثم يكْفُر، ثم يُؤْمن، ثم يَكْفُر، ثم ازداد كُفْراً بأنْ تَمَّ على نفاقِهِ حتى مات.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 322) ، برقم (10688) ، وذكره ابن عطية (2/ 123) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 413) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية» . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 323) برقم (10696) ، وذكره ابن عطية (2/ 123) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 123) .

[سورة النساء (4) : الآيات 138 إلى 139]

قال ع «1» : وهذا هو التأويلُ الراجحُ، وتأمَّل قولَهُ تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فإنها عبارةٌ تقتضي أنَّ هؤلاءِ محتومٌ علَيْهم مِنْ أوَّلِ أمرهم ولذلك تردَّدوا، ولَيْسَتْ هذه العبارةُ مِثْلَ أن يقول: لاَ يَغْفِرُ الله لَهُمْ، بل هي أشَدُّ، فتأمَّل الفَرْقَ بيْنَ العبارَتَيْنِ فإنه من دقيقِ غَرَائِبِ الفَصَاحَةِ الَّتي في كتاب الله سبحانه. [سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 139] بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ... الآية: في هذه الآيةِ دليلٌ مَّا على أنَّ التي قبلها إنما هي في المُنَافِقِينَ، ثم نصَّ سبحانه مِنْ صفاتِ المنافِقِينَ على أشدِّها ضرراً، وهي موالاتُهُم الكافِرِينَ، واطراحهم المُؤْمنينَ، ونبَّه على فسادِ ذلكَ ليدعه مَنْ عسى أنْ يَقَعَ في نَوْعٍ منه مِنَ المُؤْمنين غَفْلَةٌ، أوْ جهالةً، أوْ مسامحةً ثم وَقَفَهُمْ سبحانه على جهة التوبيخَ، فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ والإستكثار، أي: ليس الأمرُ كذلك فإن العزَّة للَّه جميعاً يؤتيها مَنْ يشاء، وقد وَعَدَ بها المؤمنينَ، وجعل العاقبة للمتَّقين، والعزَّةُ أصلُها الشِّدَّة والقُوَّة ومنه: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص: 23] أي: غلبني بشدّته. [سورة النساء (4) : آية 140] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) وقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ... الآية: مخاطبةٌ لجميعِ مَنْ أظهر الإيمان من محقِّقٍ ومنافقٍ لأنه إذا أظهر الإيمان، فقَدْ لزمه امتثال أوامر كتاب اللَّه تعالى، والإشارةُ بهذه الآية إلى قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: 68] إلى نحوِ/ هذا من الآيات، والكتابُ في هذا الموضعِ القرآنُ، وفي الآيةِ دليلٌ قويٌّ على وجوبِ تجنُّبِ أهْلِ البِدَعِ والمعاصِي، وأَلاَّ يجالَسُوا، وقد قيل: [الطويل] عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُقْتَدِ «2» وهذه المماثلةُ لَيْسَتْ في جميع الصفاتِ، ثم توعَّد سبحانه المنافِقِينَ والكافرين بجمعهم في جَهَنَّم، فتأكَّد بذلك النهْيُ عن مجالستهم وخلطتهم.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 124) . (2) ينظر البيت في «العزلة» للخطابي ص (69) وينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 126) .

[سورة النساء (4) : الآيات 141 إلى 143]

[سورة النساء (4) : الآيات 141 الى 143] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) وقوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ... الآية: هذه صفة المنافقين، ويَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ: معناه: ينتظِرُونَ دَوْرَ الدوائرِ عليكم، فإن كان فَتْحٌ للمؤْمِنِينَ، ادعوا فيه النصيبَ بحُكْمِ ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافِرِينَ نَيْلٌ من المؤمنين، ادعوا فيه النَّصِيبَ بحُكْمِ ما يبطنونه من موالاةِ الكُفَّار، وهذا حالُ المنافقين، ونَسْتَحْوِذْ: معناه: نَغْلِبُ على أمرِكِم ونَحُوطُكُمْ ومنه: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] ، معناه: غَلَبَ على أمرهم، ثم سلى سبحانه المؤمنينَ، وأنَّسهم بما وَعَدَهُم به في قوله: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أيْ: وبينهم، وينصفُكُم من جميعهم، وبقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، أيْ: يوم القيامة قاله عليٌّ (رضي اللَّه عنه) «1» وعليه جميعُ أهْل التَّأوِيلِ، والسَّبيلُ هنا: الحُجَّة والغَلَبَةُ. قلت: إِلاَّ ابنَ العَرَبِيِّ «2» لم يرتَض هذا التأويلَ، قال: وإنما معنى الآية أحَدُ ثلاثةِ وُجُوهٍ: الأول: لن يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المؤمنينَ سَبيلاً يَمْحُو به دَوْلَةَ المؤمنين، ويستبيحُ بَيْضَتَهُمْ. الثاني: لَنْ يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المُؤْمنين سبيلاً إلاَّ أنْ يتواصَوْا بالباطِلِ، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر، ويتباعدوا عن التَّوْبَةِ، فيكونُ تسليطُ العَدُوِّ مِنْ قِبَلِهِمْ، وهذا نَفِيسٌ جِدًّا. الثالث: لن يجعلَ اللَّه للكافرينَ عَلَى المؤمنينَ سبيلاً بالشَّرْع، فإن وُجِدَ ذلك، فبخلاف الشرْعِ، ونَزَعَ بهذا علماؤُنا بالإحْتجاجِ على أنَّ الكافر لا يَمْلِكُ العَبْدَ المُسْلِمَ. انتهى «3» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 331) برقم (10720) ، وذكره ابن عطية (2/ 126) . [.....] (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 510) . (3) قد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة، فذهب الشافعية، والحنابلة، والمالكية في إحدى الروايتين عن أشهب إلى القول بعدم صحة شراء الكافر له ... وذهب الحنفية، وابن القاسم من المالكية إلى القول بصحته. قالت الحنفية: ويجبر المشتري على بيعه وإزالة ملكه عنه. -

ومخادعَةُ المنافقين: هي لأولياءِ اللَّهِ، ففِي الكلامِ حَذْفُ مضَافٍ إذْ لا يقصد أحَدٌ من البشر مخادَعَةَ اللَّهِ سبحانه. وقوله تعالى: وَهُوَ خادِعُهُمْ : عبارةٌ عن عقوبَتِهِمْ، سمَّاها باسم الذَّنْب، وقال ابن

_ - احتج الحنفية: بعمومات الكتاب والسنة الواردة في حل البيع من غير فصل بين مسلم وكافر. وحيث حل الشراء للمسلم يحل للكافر بمقتضى العموم. وأجيب: بأن تلك العمومات مخصصة في حق الكافر بقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] ، واحتجوا أيضا بأن شراء الكافر للعبد المسلم عقد صدر من أهله في محله لأن الكافر أهل للتصرف والعبد مال متقوم، ولهذا صح للمسلم بيعه وشراؤه، وإذا كان العقد كذلك كان صحيحا. أما دليل أن الكافر أهل للتصرف فهو ثبوت الملك له على العبد المسلم وميراثه له وبقاء ملكه عليه حينما يسلم، وأما دليل جبر المشتري على البيع بعد صحة الشراء، فهو احتمال أن يفعل الكافر بالمسلم فعلا لا يحل له نظرا للعداوة الدينية التي بينهما. ونوقش هذا الدليل: بأن استدلالكم على صحة البيع بصحة الإرث غير مسلم من وجهين: أحدهما: أن انتقال الملك في الإرث قهري لئلا يبقى الشيء بلا مالك، ولا كذلك البيع، فإنه اختياري، إن لم يصح بقي على ملك صاحبه الأصلي. الثاني: أن الإرث يفيد استدامة ملك والبيع ابتداءه، والاستدامة أخف من الابتداء، حتى صح إرث المسلم للخبر لكونه استدامة لا شراؤه ابتداء، فظهر الفرق بينهما فلا يقاس أحدهما على الآخر. حجة الجمهور: احتجوا أولا: بأن في تصحيح مثل هذا البيع طريقا لإثبات السبيل من الكافر على المسلم إذ به يتمكن من إذلاله بالاستخدام وهو محظور شرعا فيمتنع ما أدى إليه. ونوقش: بكون السبيل غير حاصل بالجبر على بيعه بعد تصحيحه، وأجيب: بنفي تصحيحه مع الجبر لعدم الفائدة فكان المنع ابتداء أولى. واحتجوا ثانيا: بأن المقصود من الشراء هو استدامة الملك من المشتري على العين المشتراة وعدم خروجها من ملكه إلا برضاه، ثم في تصحيح الشراء من الكافر للعبد المسلم، مع جبره بعد ذلك على البيع إخلال بمقاصد النكاح. وعدم ترتب آثاره عليه فكان خليقا بالفساد دون الصحة، ولهذا حظر عقد الزواج من المشركة للمسلم لعدم ترتب آثار النكاح عليه، والبيع مثله. ونوقش: بأن مثل هذا الشراء لم يخل عن الفائدة لو قلنا بتصحيحه مع الجبر إذ قد ظهرت بتمامه سلطة المالك على البيع وجاز له بيعه وانتقال ملكيته إليه، وتصحيح عتقه إن أراد، ومسألة الإذلال ممنوعة مع الجبر على البيع. وأجيب: بأن تلك السلطة الحاصلة من مثل هذا الشراء كعدمها لقيام أمر الجبر مسلطا عليه. ولا شك أن الإذلال متحقق بمجرد انتقال ملكية العبد إلى الكافر لأنه حينئذ متمكن من استخدامه إن كان عبدا، واستفراشها إن كانت أمة. هذه أدلة الفريقين بالنظر فيها نجد: أن مذهب الجمهور هو الراجح في المسألة إذ لا معنى للتصحيح مع الجبر على البيع، فكان المنع ابتداء أولى. ينظر: «أثر الاختلاف في الأحكام» لشيخنا/ بدران أبو العينين، «المغني» لابن قدامة (4/ 41) ، «بدائع الصنائع» (5/ 142) ، «المبسوط» (3/ 120) .

[سورة النساء (4) : الآيات 144 إلى 147]

جْرَيْج، والحَسَن، والسُّدِّيُّ، وغيرهم من المفسِّرين: إنَّ هذا الخَدْعَ هو أنَّ اللَّه تعالى يُعْطِي لهذه الأُمَّة يوم القيامةِ نُوراً لكلِّ إنسانٍ مؤمن، أو منافقٍ، فيفرح المنافِقُونَ، ويظُنُّون أنهم قد نَجَوْا، فإذا جاءوا إلى الصِّراطِ، طُفِىءَ نورُ كلِّ منافقٍ، ونهَضَ المؤمنُونَ «1» ، فَذَلكَ قولُ المنافِقِينَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] ، فذلك هو الخَدْع الذي يَجْرِي عَلَى المنافِقِينَ، ثم ذكر سبحانه كَسَلَهُمْ في الصلاةِ، وتلْكَ حالُ كُلِّ مَنْ يعمل كارهاً غيْرَ معتقِدٍ فيه الصَّواب، بل تقيَّةً أو مصانَعَةً. قال ابنُ العَرَبِيِّ «2» في «أحكامه» : قوله تعالى: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ، روى الأئمَّة مالكٌ وغيره، عن أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حتى إذَا اصفرت الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعاً لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً» «3» قال ابن «4» العربيِّ: وقد بيَّن تعالى/ صلاةَ المؤمنين بقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2] ومن خَشَعَ خَضَعَ، واستمر، ولم ينقُرْ صلاتَهُ، ولم يستعْجِلْ. انتهى. ومُذَبْذَبِينَ: معناه: مُضْطَرِبِينَ لا يَثْبُتُونَ على حالٍ، والتَّذَبْذُب: الاِضطرابُ، فهؤلاءِ المنافقُونَ متردِّدون بَيْنَ الكفَّار والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرةِ «5» بَيْنَ الغَنَمَيْنِ» «6» ، والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان. [سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 332) برقم (10726) ، (10727) ، (10728) ، وذكره ابن عطية (2/ 127) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 417) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن الحسن. (2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 511) . (3) أخرجه مسلم (1/ 434) ، كتاب «المساجد» ، باب استحباب التكبير بالعصر (195/ 622) ، ومالك (1/ 220) ، كتاب «القرآن» ، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر (46) . (4) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 512) . (5) أي: المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع. ينظر: «النهاية» (3/ 328) . (6) أخرجه مسلم (4/ 2146) كتاب «صفات المنافقين» ، باب (50) ، حديث (17/ 2784) ، والنسائي (8/ 124) كتاب «الإيمان» ، باب مثل المنافق، حديث (5037) ، وأحمد (2/ 32) ، والخطيب (14/ 268) من حديث ابن عمر.

وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... الآية: خطابه سبْحَانه للمؤُمنينَ يَدْخُلُ فيه بحُكْمِ الظاهرِ المنافقُونَ المظهرُونَ للإيمان، ففِي اللفْظِ رفْقٌ بهم، وهم المرادُ بقوله سبحانه: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً لأنَّ هذا التوقيفَ إنما هو لِمَنْ أَلَمَّ بشيء مِنَ الفعل المؤَدِّي إلى هذه الحالِ، والمؤمنون المُخْلِصُونَ ما أَلَمّوا قَطُّ بَشْيءٍ مِنْ ذلك، ويُقَوِّي هذا المَنْزَعَ قولُهُ تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أي: والمؤمنُونَ العارِفُونَ المُخْلِصُون غُيَّبٌ عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين، بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان، والتزموا لَوَازمه، والسُّلْطَانُ: الحُجَّة. ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم في الدَّرْك الأسفلِ مِنْ نارِ جهنَّم وذلك لأنهم أسرى غَوَائِلَ من الكُفَّار، وأشَدُّ تَمَكُّناً مِنْ أَذَى المُسْلمين قُلْتُ: وأيضاً لأنهم شاهَدُوا مِنْ معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما جَعَلَ اللَّه على يدَيْه مِنَ الخوارِقِ ما لَمْ يُشَاهِدْ غيرهم من الكفار، فكانَتِ الحجَّةُ علَيْهم أعْظَمَ، وكان كُفْرهم محْضَ عنادٍ، ورُوِيَ عن أبي هريرة، وابنِ مسعودٍ، وغيرهما أنَّهُمْ قالوا: المنافقُونَ في الدَّرْك الأسفل من النار، في تَوَابِيتَ من النَّارِ تُقْفَلُ «1» عليهم، ثم استثنى عَزَّ وجلَّ التائِبِينَ مِنَ المنافقين، ومِنْ شروط التائِبِ أنْ يُصْلِحَ في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، ويعتصمَ باللَّه، أيْ: يجعلَهُ مَنَعَتَهُ، وملْجَأَه، ويُخْلِصَ دينَهُ للَّه تعالى، وإلاَّ فليس بتائِب، وقوله: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، أي: في رحمة اللَّه سبحانه، وفي منازلِ الجَنَّة، ثم وَعَدَ سبحانه المُؤْمِنينَ الأجْرَ العظيمَ، وهو التخليدُ في الجَنَّة. وقال ص: فَأُولئِكَ: خبره مُضْمَر، والتقدير: فأولئك مؤمِنُونَ مع المؤمنين قاله أبو البَقَاء. انتهى. ثم قال سبحانه للمنافقين: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ ... الآية: أيْ: أَيُّ منفعةٍ له سبحانه في ذلك أوْ حاجَةٍ؟! قال أبو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ: زعم الطبريُّ «2» أنَّ قوله تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ: خطابٌ للمنافقين، ولا يكادُ يقُومُ له على ذلك دليل يقطع

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 336) برقم (10746، 10747، 10748) وذكره البغوي (1/ 493) . (2) ينظر: الطبري (4/ 338) .

[سورة النساء (4) : الآيات 148 إلى 149]

به، وليس في ذِكْرِ المنافقينَ قَبْلَهُ ما يقتَضِي أنْ يُحْمَلَ عليهم خاصَّةً، مع احتمال الآية للعُمُومِ، فقطْعُهُ بأنَّ الآية في المنافِقِينَ حُكْمٌ لا يقُومُ به دليلٌ. انتهى، وهو حَسَنٌ إذ حمل الآية على العُمُومِ أحْسَنُ. والعَجَب من ع: كيف تَبِعَ الطبريُّ في هذا التَّخْصيصِ، ويظهر- واللَّه أعلم- أنهما عَوَّلا في تخصيص الآية على قوله تعالى: وَآمَنْتُمْ، وهو محتملٌ أن يحمل في حَقِّ المنافقين على ظاهره، وفي حقِّ المؤمنين على معنى: «دُمْتُمْ على إيمانكم» ، واللَّه أعلم. والشُّكْرُ على الحقيقة لا يَكُونُ إلاَّ مقترناً بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيداً وتنبيهاً على/ جلالة موقعه، ثم وَعَدَ سبحانه بقوله: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً: أيْ يتقبَّل أقلَّ شيء مِنَ العَمَل، وينَمِّيه فذلك شُكْرٌ منه سبحانه لعباده، والشَّكُورُ من البهائمِ: الَّذي يأكل قليلاً، ويظهر به بَدَنُه، والعَرَبُ تقول في مثل: «أَشْكَرُ مِنْ بَرْوقَةٍ» لأنها يُقَالُ: تخضَرُّ وتتنضَّر بِظِلِّ السَّحاب دُونَ مَطَرٍ، وفي قوله: عَلِيماً: تحذيرٌ ونَدْبٌ إلى الإخلاص. [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) وقوله تعالى: لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ... الآية: قراءة الجمهور «1» بضَمِّ الظاء، وقرىء «2» شاذاً بفتحها، واختلف على قراءة الجمهورِ، فقالَتْ فرقةٌ: المعنى: لا يحبُّ اللَّه أنْ يَجْهَرَ أحدٌ بالسوء من القَوْل إلا مَنْ ظُلِم، فلا يُكْرَهُ له الجَهْرُ به، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في كيفيَّةِ الجَهْر بالسُّوء، وما هو المباحُ منه، فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: لا بأسَ لِمَنْ ظلم أن ينتصر من ظلمه بمثْلِ ظُلْمِهِ، ويَجْهَرَ له بالسُّوء من القَوْل، أي: بما يوازي الظَّلاَمَةَ «3» ، وقال مجاهد وغيره: نزلَتْ في الضَّيْفِ المُحَوَّلِ رَحْلُه، فإنَّه رُخِّصَ له أنْ يجهر بالسُّوءِ من القول للذي لم يُكْرِمْهُ، يريد: بقَدْر الظلمِ، والظُّلاَمةِ «4» ،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 129) ، و «البحر المحيط» (3/ 398) ، و «الدر المصون» (2/ 451) . (2) وهي قراءة ابن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، والضحاك بن مزاحم، وابن عباس، وابن جبير، وعطاء بن السائب، وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار، ومسلم بن يسار وغيرهم. ينظر: السابق، والمحتسب (1/ 203) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» بتحقيق الشيخ شاكر (9/ 344) برقم (10749) ، وذكره ابن عطية (2/ 129) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 420) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. [.....] (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 341) برقم (10763، 10765) ، وذكره ابن عطية (2/ 129) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 420) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد.

[سورة النساء (4) : الآيات 150 إلى 152]

وفي «صحيحِ البخاريِّ» ، عن أبي هريرةَ، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلا يُؤْذِي جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» «1» . انتهى. «وسميعٌ عليمٌ» : صفتان لائِقَتَان بالجَهْر بالسوء، وبالظلم أيضاً، فإنه يعلمه ويجازي علَيْه، ولما ذكر سبحانه عَذْر المَظْلُوم في أنْ يجهر بالسوء لظالمه، أَتْبَعَ ذَلك عَرْضَ إبداء الخير، وإخفائه، والعَفْوِ عن السُّوء، ثم وَعَدَ عَلَيْه سبحانه بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وعْداً خفيًّا تقتضيه البلاغَةُ، ورغَّب سبحانه في العَفْو إذ ذكر أنها صفتُهُ مع القدرةَ على الإنتقام. قال ع «2» : فَفِي هذه الألفاظِ اليسيرَةِ مَعَانٍ كثيرةً لمن تأمَّلها، قال الدَّاوُوديُّ: وعن ابنِ عُمَر أنه قال: لا يحب اللَّه سبحانه أنْ يدعو أحَدٌ على أحدٍ إلاَّ أنْ يُظْلَمَ، فقد رخَّص له في ذلك. انتهى. [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)

_ (1) أخرجه البخاري (10/ 548) ، كتاب «الأدب» ، باب إكرام الضيف وخدمته، حديث (6136) ، ومسلم (1/ 68) كتاب «الإيمان» ، باب الحث على إكرام الضيف، حديث (75/ 74) ، وابن ماجة (2/ 1313) كتاب «الفتن» ، باب كف اللسان في الفتنة، حديث (3971) من طريق أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه البخاري (11/ 314) ، كتاب «الرقاق» ، باب حفظ اللسان، حديث (6475) ، ومسلم (1/ 68) ، كتاب «الإيمان» ، باب الحث على إكرام الجار، حديث (47) ، وأبو داود (2/ 760- 761) كتاب «الأدب» ، باب في حق الجوار، حديث (54: 5) ، والترمذي (4/ 569) ، كتاب «صفة القيامة» ، باب إكرام الضيف، حديث (2500) ، وأحمد (2/ 267) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 336- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه البخاري (9/ 161) ، كتاب «النكاح» ، باب الوصاة بالنساء، حديث (5185) ، ومسلم (2/ 1091) ، كتاب «الرضاع» ، باب الوصية بالنساء، حديث (60/ 1468) ، والبيهقي (7/ 295) ، كتاب «القسم والنشوز» ، باب حق المرأة على الرجل، وأبو يعلى (11/ 85- 86) رقم (6218) من طريق أبي حازم عن أبي هريرة. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 130) .

[سورة النساء (4) : الآيات 153 إلى 154]

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... إلى آخر الآية: نزل في اليهود والنصارى، وقد تقدَّم بيانُ هذه المعاني. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... الآية: لما ذَكَر سبحانَهُ أنَّ المفرِّقين بَيْنَ الرسُلِ هم الكافرونَ حقًّا، عَقَّبَ ذلك بذكْرِ المؤمنين باللَّه ورسُلِهِ جميعاً، وهم المؤمنون بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم ليصرِّح بوَعْد هؤلاء كما صرَّح بوعيدٍ أولئِكَ، فبيّن الفرق بين المنزلتين. [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 154] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) وقوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ... الآية: قال قتادة سَأَلَتِ اليهودُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يأتيهم بكتابٍ مِنْ عند اللَّه خاصٍّ لليهود، يأمرهم فيه بالايمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم «1» ونحوه عن ابْنِ جُرَيْجٍ «2» ، وزاد: «إلى فلان، وإلى فلانٍ أَنَّكَ رسُولُ اللَّهِ» ، ثم قال سبحانه على جهة التسلية لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، وفي الكلامِ محذوفٌ يدلُّ عليه المذكورُ، تقديره: فلا تُبَالِ، يا محمد، مِنْ سؤالِهِمْ وتَشَطُّطهم فإنها عادتهم، وجمهورُ المتأوِّلين على أنَّ جَهْرَةً معمولٌ ل أَرِنَا، أيْ: حتى نراه جهاراً، أي: عياناً، وأهلُ السُّنَّة معتقدون أنَّ هؤلاءِ لم يسألوا مُحَالاً عَقْلاً، لكنَّه محالٌ من جهة الشَّرْع إذ قد أخبر تعالى على ألسنَةِ/ أنبيائه أنَّهُ لاَ يرى سبحانه في هذه الدنيا، والرؤْيَةُ في الآخِرَةِ ثَابِتَةٌ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بالخَبَرِ المُتَواتِرِ، وهي جائزةٌ عقْلاً من غير تحديدٍ، ولا تكييفَ ولا تحيُّز كما هو تعالى معلومٌ لا كالمعلومات كذلك هو مرئيٌّ، لا كالمرئيَّات سبحانه هذه حُجَّة أهل السنة، وقولُهم، وقد تقدَّم قصص القَوْم في «البقرة» ، وظلمهم: هو تعنُّتهم وسؤَالُهم ما لَيْسَ لهم أنْ يسألوه. وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ: «ثُمَّ» : للترتيب في الأخبار، لا في نَفْس الأمرِ، التقديرُ ثم قَدْ كان مِنْ أمْرِهِمْ أَن اتَّخذُوا العِجْلَ، وذلك أنَّ اتخاذَ العِجْلِ كان عند أمر

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 346) برقم (10775) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 422) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 346) برقم (10776) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 131) .

[سورة النساء (4) : الآيات 155 إلى 157]

المُضِيِّ إلى المناجاةِ، ولم يكن الَّذِينَ صُعِقُوا مِمَّنِ اتخذ العِجْلَ، لكنَّ الذين اتَّخذوه كانوا قَدْ جاءتهم البيِّنَاتُ. وقوله سبحانه: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ، يعني: بما امتحنهم به من القَتْل لأنْفُسِهِمْ، ثم وقع العَفْوُ عن الباقِينَ منهم. [سورة النساء (4) : الآيات 155 الى 157] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) وقوله سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ: «ما» زائدةٌ مؤكِّدة، التقدير: فبنقضهم، فالآيةُ مخْبِرةٌ عن أشياء واقَعُوها هي ضِدُّ ما أُمِرُوا به، وحذْفُ جوابِ هذا الكلامِ بليغٌ مُبْهَمٌ متروكٌ مع ذِهْن السامع، تقديره: لَعَنَّاهُمْ ونحوه، ثم قال سبحانه: وَبِكُفْرِهِمْ: أي: بعيسى، وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً، هو رمْيُهم إياها بالزِّنَا بعد رُؤْيتهم الآية في كلامِ عيسى في المهد وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ... الآية: هذه الآيةُ والَّتِي قبلها عدَّدَ اللَّه تعالى فيهما أقوالَ بَنِي إسرائيل، وأفعالَهُمْ على اختلافِ الأزمان، وتعاقُبِ القرون فاجتمع مِنْ ذلك توبيخُ خلفهم المعاصرين لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فهذه الطائفةُ التي قالَتْ: إنا قَتَلْنَا المسيحَ- غَيْرُ الذين نقضوا الميثاقَ في الطُّور، وغَيْرُ الذين اتَّخَذُوا العجْلَ، وقولُ بني إسرائيل إنَّمَا هُوَ إلى قوله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. وقوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ، إنما هو إخبارٌ من اللَّه تعالى بصفةٍ لعيسى، وهي الرسالةُ، على جهة إظهار ذَنْب هؤلاء المُقِرِّين بالقَتْل، ولزمهم الذنْبُ، وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صَلَبُوا ذلك الشخْصَ على أنه عيسى، وعلى أنَّ عيسى كَذَّابٌ ليس برَسُولِ اللَّه، فلزمهم الذنْبُ مِنْ حيث اعتقدوا أنَّ قتلهم وَقَعَ في عيسى. قال ص: وعِيسَى: بدل أو عطف بيان من الْمَسِيحَ، ورَسُولَ اللَّهِ كذلك، ويجوزُ أنْ يكون صفةً ل عِيسَى، وأنْ يكون نصباً على إضمار أعني. قُلْتُ: وهذا الأخير أحسنها مِنْ جهة المعنى. انتهى. ثم أخبر سبحانه أنَّ بني إسرائيل ما قَتَلُوا عيسى، وما صَلَبوه، ولكنْ شُبِّه لَهُمْ، واختلفتِ الرُّوَاةُ في هذه القصَّة، والذي لا يُشَكُّ فيه أنَّ عيسى- عليه السلام- كان يَسِيحُ في الأَرْضِ ويدعو إلى اللَّه، وكانَتْ بنو إسرائيل تَطْلُبُه، ومَلِكُهُمْ في ذلك الزَّمَانِ يجعَلُ عليه

الجَعَائِلَ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريُّون يَسِيرُونَ معه حيثُ سار، فلَمَّا كان في بعض الأوقات، شُعِرَ بأمْر عيسى، فَرُوِيَ أنَّ رجلاً من اليهود جُعِلَ له جُعْلٌ، فما زال يَنْقُرُ عنه حتى دلَّ على مكانه، فلما أحَسَّ عيسى وأصحابُهُ بتلاحُقِ الطَّالبين بهم، دخلوا بَيْتاً بمرأى مِنْ بني إسرائيل، فرُوِيَ أنهم عَدُّوهم ثلاثةَ عَشَرَ، ورُوِيَ: ثمانيةَ عَشَرَ، وحُصِرُوا لَيْلاً، فرُوِيَ أنَّ عيسى فرق الحواريِّين عن نَفْسه تلك الليلةَ، ووجَّههم إلى الآفاقِ، وبقي هُوَ ورجُلٌ معه، فَرُفِعَ عيسى، وأُلْقِيَ شَبْهُهُ على الرجُلِ، فَصُلِبَ ذلك الرجُلُ، ورُوِيَ أنَّ الشَّبَهَ أُلْقِيَ على اليهوديِّ الذي دَلَّ عليه، فَصُلِبَ/، وروي أنَّ عيسى- عليه السلام- لما أُحِيطَ بهم، قال لأصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يلقى عَلَيْه شَبَهِي، فَيُقْتَلُ، ويُخَلِّصُ هؤلاءِ، وهو رَفِيقي في الجَنَّةِ، فقَالَ سِرْجِسُ: أَنَا، فألقي عليه شبه عيسى، وروي أنَّ شَبَهَ عيسى أُلْقِيَ علَى الجَمَاعَةِ كلِّها، فلما أخرجهم بَنُو إسرائيل، نقصوا واحداً مِنَ العِدَّة، فأخذوا واحداً مِمَّنْ عليه الشَّبَهُ حَسَب هذه الرواياتِ التي ذكَرْناها، فَصَلَبُوه، ورُوِيَ أنَّ المَلِكَ والمتناوِلِينَ لَمْ يَخْفَ عليهم أَمْرُ رَفْعِ عيسى، لِمَا رأَوْه مِنْ نقصانِ العدَّة، واختلاط الأمْرِ. وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ... الآية: يعني اختلافَ المحاولين لأخْذه لأنهم حين فقدوا واحداً من العدد، وتُحُدِّثَ برَفْع عيسَى، اضطربوا، واختلفوا، لكنْ أجمعوا على صَلْبِ واحدٍ مِنْ غير ثقَةٍ، ولا يقينٍ، أنه هو. وقولُه تعالى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً، قال ابن عَبَّاس «1» وجماعةٌ: المعنى: وما صَحَّ ظنُّهم عندهم، ولا تحقَّقوه يقيناً، فالضميرُ في «قتلوه» عندهم عائدٌ على الظَّنِّ كما تقُولُ: ما قَتَلْتُ هذا الأمْرِ عَلْماً، قلْتُ: وعبارةُ السُّدِّيِّ: «وما قَتَلُوا أمره يقيناً أنَّ الرجُلَ هو عيسَى» «2» . انتهى من «مختصر الطَّبَرِيِّ» ، وقال قومٌ: الضميرُ عائدٌ على عيسى، أخبر سبحانه أنهم ما قَتَلُوهُ في الحقيقةِ جملةً واحدةً، لا يقيناً ولا شكًّا، لكنْ لما حصَلَتْ في ذلك الدعوى، صَارَ قتله عنْدَهم مشْكُوكاً فيه، وقال قوم مِنْ أهل اللسانِ: الكلامُ تامٌّ في قوله: وَما قَتَلُوهُ، ويَقِيناً: مصدرٌ مؤكِّد للنفْي في قوله: وَما قَتَلُوهُ، المعنى: نخبرُكُمْ يقيناً، أو نقصُّ عليكم يقيناً، أو أَيْقَنُوا بذلك يَقيناً. وقال ص: بعد كلام: والظاهرُ أنَّ الضمير في قَتَلُوهُ عائدٌ إلى عيسى لتتّحد الضمائر، ويَقِيناً: منصوبٌ في موضعِ الحالِ من فَاعِلِ قَتَلُوهُ: أي: مستيقنين أنه

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 134) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 134) .

[سورة النساء (4) : آية 158]

عيسى، أو نعت لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قتلاً يقينا. انتهى. [سورة النساء (4) : آية 158] بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ: يعني: إلى سمائِهِ وكرامتِهِ، وعيسى- عليه السلام- في السَّماءِ على ما تضمَّنه حديثُ الإِسراء في ذِكْرِ ابني الخالةِ عيسى ويحيى، ذكره البخاريُّ في حديث «1» المعراج، وذكره غيره، وهو هنالك مُقِيمٌ حتى يُنزله اللَّه تعالى لِقَتْلِ الدَّجَّال، وليملأَ الأرْضَ عَدْلاً وَيَحْيَا فيها أربعين سَنَةً، ثم يموت، كما يموت البشر. [سورة النساء (4) : آية 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ: اختُلِفَ في معنى الآيةِ: فقال ابن عباس «2» وغيره: الضميرُ في مَوْتِهِ راجعٌ إلى عيسى، والمعنى: أنه لا يبقى مِنْ أهْل الكتابِ أحَدٌ، إذا نَزَلَ عيسى إلى الأرْضِ، إلاَّ يؤمنُ بعيسى كما يؤمنُ سائرُ البَشَرِ، وترجِعُ الأدْيَانُ كلُّها واحداً، يعني: يرجعون على دين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم إذْ عيسى واحدٌ من أمته وعلى شريعته، وأئمَّتنا منَّا كما ورد في الحديثِ الصَّحِيح. وقال مجاهدٌ وابنُ عباسٍ أيضاً وغيرهما: الضميرُ في بِهِ لعيسى، وفي مَوْتِهِ للكتابيِّ، لَكن عند المعاينة للمَوْتِ فهو إيمانٌ لا ينفعه «3» ، وقال عكرمةُ: الضَّميرُ في بِهِ لنبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم وقَبْلَ مَوْتِهِ للكتابيِّ «4» قال: وليس يخرج يهوديٌّ ولا نصرانيّ من الدنيا حتّى يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولو غَرِقَ أو سَقَطَ علَيْه جِدَارٌ، فإنه يؤمنُ في ذلك الوقْتِ، وفي مُصْحَفِ أبيِّ بْنِ كَعْب: «قَبْلَ مَوْتِهِمْ» ، ففي هذه القراءة تَقْوِيَةٌ لعود الضمير على الكتابيِّ «5» . قال ص: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... الآية: «إنْ» : هنا نافية، والمخبر عنه

_ (1) سيأتي تخريجه مفصلا في سورة الإسراء. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 356) برقم (10799) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 134) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 159) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 134) . (4) ذكره ابن عطية (2/ 134) . (5) ذكره ابن عطية (2/ 134) .

[سورة النساء (4) : الآيات 160 إلى 162]

محذوفٌ قامَتْ صفته مَقَامَهُ، أي: وما أحدٌ من أهل الكتاب كما حذف في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] ، وقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] أي: وما أحدٌ منا، وما أحدٌ منكم، قال الشيخُ أبو حَيَّانِ «1» : لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ: جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، والقَسَم وجوابُهُ هو الخَبَرُ، وكذلك أيضا إِلَّا لَهُ مَقامٌ وإِلَّا وارِدُها، هما الخَبَرُ، قال الزَّجَّاج: وحَذْف «أَحَدٍ» مطلوبٌ في كلِّ نفْيٍ يدخله الإستثناءُ نحْوُ: مَا قَامَ إلاَّ زَيْدٌ، أيْ: ما قام أحد إلّا زيد. انتهى. [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) وقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ... الآية: فَبِظُلْمٍ: معطوفٌ على قوله سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ [النساء: 155] ، والطيِّباتُ هنا: هي الشُّحُوم، وبعْضُ الذبائحِ، والطَّيْرُ والحُوت، وغَيْرُ ذلك، وقرأ ابن عباسٍ «2» : «طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ» . وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً: يحتملُ أن يريدَ صدَّهم في ذاتِهِمْ، ويحتملُ أن يريد صدّهم غيرهم، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا، هو الدرهمُ بالدرهَمَيْنِ إلى أَجَلٍ، ونحو ذلك ممَّا هو مَفْسَدَة، وقد نُهُوا عنه، ثم استثنى سبحانه الراسِخِينَ في العِلْمِ منهم كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ، ومُخَيْرِيقٍ، ومَنْ جرى مَجْراهم. واختلف الناسُ في قوله سبحانه: وَالْمُقِيمِينَ، وكيف خالَفَ إعرابُهَا إعرابَ ما تقدَّم وما تأخَّر. فقال بعضُ نحاة البَصْرة والكُوفة: إنما هذا مِنْ قَطْع النُّعُوت، إذا كَثُرَتْ على النصْبِ ب «أعْنِي» والرفعُ بعد ذلك ب «هُمْ» وقال قومٌ: وَالْمُقِيمِينَ: عطْفٌ على «ما» في قوله: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، والمعنى: ويؤمنون بالمقيمينَ الصَّلاَة، وهُمُ الملائكةُ، أو مَنْ تقدَّم من الأنبياء، وقال قومٌ: وَالْمُقِيمِينَ: عطْفٌ على الضمير في مِنْهُمْ، وقال آخَرُونَ: بل على الكاف في قوله: مِنْ قَبْلِكَ.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (3/ 406) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 135) ، و «البحر المحيط» (3/ 411) ، و «الدر المصون» (2/ 461) . [.....]

[سورة النساء (4) : الآيات 163 إلى 164]

وزاد ص: وَالْمُقِيمِينَ منصوبٌ على المَدْحَ، قال: وقرأ جماعة: «والمقيمون» «1» انتهى. [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 164] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) وقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... الآية: سبَبُ نزولها قولُ بَعْض أحبار يَهُودَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ... [الأنعام: 91] فأنزل اللَّه سبحانه الآية تَكْذيباً لهم. قال ع «2» : إسماعيلُ هو الذبيح في قول المحقِّقين، والوَحْيُ: إلقاءُ المعنى في خفاءٍ، وعُرْفُهُ في الأنبياء بوَسَاطة جبريلَ- عليه السلام-، وكلَّم اللَّه سبحانه موسى بكلامٍ دون تكْييفٍ، ولا تحديدٍ، ولا حرفٍ، ولا صوتٍ، والذي عليه الراسخُونَ في العِلْمِ أنَّ الكلام هو المعنَى القَائِمُ في النَّفْسِ، ويخلق اللَّه لموسى إدراكاً من جهةِ السَّمْعِ يتحصَّل به الكلامُ، وكما أنَّ اللَّه تعالى موجودٌ لا كالموجودَاتِ، معلومٌ لا كالمعلُومَاتِ فكذلك كلامه لا كالكلام. [سورة النساء (4) : آية 165] رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) وقوله سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... الآية: رُسُلاً: بدلٌ من الأول، وأراد سبحانه أن يقطع بالرُّسُل احتجاجَ مَنْ يقول: لو بُعِثَ إلَيَّ رسول، لآمَنْتُ، واللَّه سبحانه «عزيزٌ» لا يغالبُهُ شيْء، ولا حُجَّة لأحدٍ عليه، حَكِيمٌ في أفعالِهِ، فقطع الحجّة بالرسل حكمة منه سبحانه.

_ (1) وممن قرأ بها: عبد الله، ومالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي. ينظر: «المحتسب» (1/ 204) ، و «الكشاف» (1/ 590) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 135) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش، وسعيد بن جبير، ورواية يونس وهارون عن أبي عمرو، وينظر: «البحر المحيط» (3/ 411) ، و «الدر المصون» (2/ 461) . (2) ينظر: «تفسير ابن عطية» (2/ 136) .

[سورة النساء (4) : الآيات 166 إلى 169]

[سورة النساء (4) : الآيات 166 الى 169] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) وقوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ... الآية: سببُهَا قولُ اليَهُود: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] . وقال ص: «لكن» : استدراكٌ، ولا يُبتدأُ بها، فيتعيَّن تقديرُ جملةٍ قبلها يبيِّنها سببُ النزول، وهو أنه لَمَّا نزل: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [النساء: 163] ، قالوا: ما نشهَدُ لك بهذا فَنَزَلَ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. انتهى. وقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، هذه الآيةُ مِنْ أقوى متعلَّقات أهْل السنَّة في إثبات عِلْمِ اللَّه عزَّ وجلَّ خلافاً للمعتزلةِ في أنهم يقولُونَ: عَالِمٌ بِلاَ عِلْمٍ، والمعنى عند أهْل السُّنَّة: أنزله، وهو يَعْلَمُ/ إنزالَهُ ونُزُولَهُ. وقوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ: تقويةٌ لأمر نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وردٌّ على اليهود. وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، تقديره: وكفَى اللَّهُ شهيداً، لكنه دخلَتِ الباءُ لتدُلَّ على أنَّ المراد اكتفوا باللَّهِ، وباقي الآية بيّن. [سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 173] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: خطابٌ لجميعَ النَّاسِ، وهي دعاءٌ إلى الشرْعِ، ولو كانَتْ في أمر من أوامر الأحكام، ونَحْوِ هذا، لكانتُ: «يا أيها الذين آمنوا» ، والرسول في الآية: نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال سبحانه: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وهذا خبرٌ بالاستغناء، وإنَّ ضَرَر الكُفْر إنما هو

[سورة النساء (4) : آية 174]

نازلٌ بهم، ثم خاطَبَ سبحانه أهْلَ الكتابِ مِنَ النصارى، وهو أنْ يَدَعُوا الغُلُوَّ، وهو تجاوُزُ الحَدِّ. وقوله: فِي دِينِكُمْ: معناه: في دِينِ اللَّهِ الَّذي أنْتُمْ مطلوبُونَ به بأنْ تُوحِّدوا اللَّه، ولا تَقُولوا على اللَّه إلا الحقَّ، ولَيْسَتِ الإشارةُ إلى دينهم المُضَلِّل، وعن عُبَادَةَ بْنِ الصامِتِ (رضي اللَّه عنه) ، عنِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عيسى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ على مَا كَانَ مِنَ عَمَلٍ» «1» رواه مسلم، والبخاريُّ والنسائيُّ، وفي مسلمٍ: «أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ» . انتهى. وقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: الذين مِنْ جملتهم: عيسى، ومحمَّد- عليهما السلام-. وقوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ: «إنَّمَا» في هذه الآية: حاصرة، وسُبْحانَهُ: معناه: تنزيهاً له، وتعظيماً، والاستنكاف إبَاءَةٌ بأَنَفَة. قال ع «2» : وقوله سبحانه: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ : زيادةٌ في الحُجَّة، وتقريبٌ مِنَ الأذهان، أي: وهؤلاءِ الذين هُمْ في أعلى درجاتِ المَخْلُوقين لاَ يَسْتَنْكِفُونَ عن ذلك، فكيفَ بسواهُمْ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على تفضيل الملائكة على الأنبياء. وقوله سبحانه: سَيَحْشُرُهُمْ : عبارةُ وعيدٍ. قال ع «3» : وهذا الاِستنكافُ إنما يكونُ من الكُفَّار عن اتباع الأنبياءِ، وما جرى مجراه. [سورة النساء (4) : آية 174] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 546) كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، حديث (3435) ، ومسلم (1/ 57) ، كتاب «الإيمان» ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، حديث (46/ 28) ، وأحمد (5/ 313) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 277- 278) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول عند الموت، حديث (10969) ، والبغوي في «شرح السنة» .. (1/ 115- بتحقيقنا) كلهم من طريق جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت به. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 140) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 140) .

[سورة النساء (4) : آية 175]

وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: إشارة إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والبرهانُ: الحجة النَّيِّرة الواضحةُ الَّتي تُعْطِي اليقينَ التَّامَّ، والنُّورُ المُبِينُ: يعني القُرآن لأنَّ فيه بيانَ كُلِّ شيء، وفي «صحيح مسلم» ، عن زيدٍ بْنِ أرقَمَ، قال: قَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْماً فِينَا خَطِيباً، فَحَمِدَ اللَّهَ تعالى، وأثنى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي، فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الهدى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّه، واستمسكوا» ، فَحَثَّ على كِتَاب اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُم اللَّهَ ثَلاَثاً فِي أَهْلِ بَيْتِي ... » «1» الحديث، وفي روايةٍ: «كِتَابُ اللَّهِ فيهِ الهدى والنُّورُ مَنِ استمسك بِهِ، وَأَخَذَ بِهِ، كَانَ عَلَى الهدى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ، ضَلَّ» ، وفي رواية: «أَلاَ وَإنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتبعه كَانَ عَلَى الهدى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ على ضَلاَلَةٍ» . انتهى. [سورة النساء (4) : آية 175] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) وقوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ/ وَاعْتَصَمُوا بِهِ: أي: اعتصموا باللَّهِ، ويحتمل: اعتصموا بالقُرآن كما قال- عليه السلام-: «القُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ المَتِينُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ عُصِمَ» «2» ، والرحمة والفضل: الجنّة ونعيمها، ويَهْدِيهِمْ: معناه: إلى الفضل، وهذه هدايةُ طريقِ الجِنَانِ كما قال تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ... [محمد: 5] الآية لأنَّ هداية الإرشادِ قَدْ تقدَّمت، وتحصَّلت حينَ آمنوا باللَّه واعتصموا بكتابِهِ، فيهدِيهِمْ هنا بمعنى: يُعَرِّفهم، وباقي الآية بيّن. [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 1873) ، كتاب «فضائل الصحابة» ، باب فضل علي بن أبي طالب، حديث (36/ 2408) ، وأحمد (4/ 366- 367) ، والدارمي (2/ 431- 432) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب فضل من قرأ القرآن، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 368) ، وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (1550، 1551) ، والطبراني في «الكبير» رقم (5026) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 205- بتحقيقنا) . (2) تقدم في أول التفسير.

وقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، قد تقدَّم القولُ في تفسير «الكَلاَلَةِ» في صَدْر السورةِ، وكان أمر الكَلاَلَةِ عنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب (رضي اللَّه عنه) مُشْكِلاً، واللَّه أعلم، ما الذي أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَهُ: «تَكْفِيكَ مِنْهَا آيَةُ الصَّيْفِ» «1» الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخرِ سُورة «النساء» بيانٌ فيه كفايةٌ، قال كثيرٌ من الصحابة: هذه الآية هي من آخر ما نَزَلَ. وقوله سبحانه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا: التقدير: لئلاَّ تضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، سبحانه، وصلَّى اللَّه على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ، وسلَّم تسليما.

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1236) ، كتاب «الفرائض» ، باب ميراث الكلالة (9/ 1617) ، بلفظ: ألا تكفيك آية الصيف التي في أواخر سورة النساء، وأخرجه أبو داود (3/ 120) ، كتاب «الفرائض» ، باب من كان ليس له ولد وله أخوات (2889) ، بلفظ: تجزيك آية الصيف.

تفسير سورة المائدة

تفسير سورة المائدة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه السّورة مدنيّة بإجماع [سورة المائدة (5) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... الآية عامَّة في الوفاءِ بالعقودِ، وهي الرّبوط في القول، كان ذلك في تعاهُدٍ على بِرٍّ أوْ في عُقْدَةِ نِكاحٍ، أوْ بَيْعٍ، أو غيره، فمعنى الآيةِ أمْرُ جميعِ المؤمنينَ بالوَفَاءِ على عَقْدٍ جارٍ على رَسْم الشريعةِ، وفَسَّر بعض الناسِ لفْظَ «العقود» بالعُهُودِ، وقال ابنُ شِهَابٍ: قرأْتُ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «1» حِينَ بَعَثهُ إلى نَجْرَانَ، وفِي صَدْرِهِ: «هَذَا بَيَانٌ مِنَ الله ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فكتب الآياتِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ «2»

_ (1) هو: عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار. أبو الضحاك. الأنصاري. الخزرجي ثم النجاري. أمه من بني ساعدة. قال ابن حجر في «الإصابة» : شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبيّ على نجران، روى عنه كتابا كتبه له فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك، أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، روى عنه ابنه محمد وجماعة، توفي بالمدينة سنة (51) وقيل (54) : أنه توفي بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب. تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 214) ، «الإصابة» (4/ 293) ، «الثقات» (3/ 267) ، «الاستيعاب» (3/ 1172) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 404) ، «بقي بن مخلد» (297) ، «الاستبصار» (73) ، «الجرح والتعديل» (6/ 224) ، «التاريخ الكبير» (6/ 305) ، «تقريب التهذيب» (2/ 68) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 68) ، «تهذيب الكمال» (2/ 1029) ، «التحفة اللطيفة» (3/ 295) ، «عنوان النجابة» (138) ، «الكاشف» (326) ، «الأعلام» (5/ 76) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 267) ، «التاريخ لابن معين» (2/ 153) ، «بقي بن مخلد» (297) ، «العبر» (58) ، «معجم الثقات» (314) . (2) أخرجه النسائي (8/ 57) ، كتاب «القسامة» ، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له، حديث (4853) ، والدارمي (1/ 381) - كتاب الزكاة» ، باب في زكاة الغنم، وأبو داود في «المراسيل» رقم (258، 259) ، والحاكم (1/ 395- 397) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 34) ، والبيهقي (4/ 89) كتاب «الزكاة» ، باب كيف فرض الصدقة، وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 339- 341) ، وابن حبان (793- موارد) ، وابن حزم في «المحلى» (10/ 411) كلهم من طريق-

[المائدة: 4] . قال ع «1» : وأصوبُ ما يقال في هذه الآية: أنْ تعمَّم ألفاظها بغايةِ مَا تَتَنَاوَلُ، فيعمَّم لفظ المؤمنينَ في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتابِ، وفي كُلِّ مظهر للإيمانِ، وإنْ لم يبطنه، وفي المؤمنين حقيقة، ويعمّم العُقُودِ في كلِّ ربطٍ بقَوْلٍ موافِقٍ للحق والشَّرْع. وقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اختلف في معنى بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ. فقال قتادة وغيره: هي الأنعامُ كلُّها. ع «2» : كأنه قال: أُحِلَّتْ لكم الأنعامُ. وقال الطبريُّ «3» : قال قومٌ: بهيمةُ الأنعامِ: وحْشُهَا، وهذا قولٌ حَسَنٌ وذلك أنَّ الأنعامَ هي الثمانيةُ الأزواجِ، وانضاف إلَيْهَا مِنْ سائر الحَيَوان ما يُقَالُ له: أنعامٌ بمجموعِهِ معها، والبهيمة في كلامِ العربِ: ما أبهم من جهة نقص النّطق والفهم.

_ - سليمان بن داود، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «المحلى» (1/ 82) : وهو إسناد صحيح، وأخرجه مالك (2/ 849) كتاب «العقول» ، باب ذكر العقول، حديث (1) ، والشافعي في «الأم» (8/ 571) ، والنسائي (8/ 60) كتاب القسامة، والبيهقي (8/ 73، 82) كلهم من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم في العقول: «أن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعى جدعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها، وفي العين خمسون، وفي الرجل الواحدة خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة خمس» . وأخرجه عبد الرزاق مختصرا (9/ 316) رقم (17358) من طريق معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الدارمي (1/ 381) ، وابن خزيمة (4/ 19) رقم (2269) ، والدارقطني (3/ 210) رقم (379) ، وتابع معمرا ابن إسحاق. أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 413- 415) . وأخرجه النسائي (8/ 59) كتاب «القسامة» ، من طريق ابن وهب، ثنا يونس بن يزيد، عن الزهري قال: قرأت كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم. وأخرجه الدارقطني (3/ 209) رقم (377) من طريق محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: كان في كتاب عمرو بن حزم ... فذكره. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 144) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 144) . (3) ينظر: الطبري (4/ 389) . [.....]

وقوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ: استثناءُ ما تُلِيَ في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... [المائدة: 3] الآية: «وما» في موضعِ نَصْبٍ على أصْل الاستثناءِ. وقوله سبحانه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ... نُصِبَ «غير» على الحال من الكافِ والميمِ في قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ، وهو استثناءٌ بعد استثناءٍ. قال ص: وهذا هو قولُ الجمهورِ، واعترض بأنَّه يلزم منه تقييدُ الحِلِّيَّةِ بِحَالَةِ كَوْنهم غِيْرَ محلِّين الصَّيْدَ، وهم حُرُمٌ، والْحِلِّيَّةُ ثابتةٌ مطلقاً. قال ص: والجوابُ عندي عَنْ هذا أنَّ المفهوم هنا مَتْرُوكٌ لدليلٍ خَارجيٍّ، وكثيرٌ في القرآن وغيره من المَفْهُومَاتِ المتروكَةِ لِمُعارِضٍ، ثم ذكر ما نقله أبو حَيَّان/ من الوُجُوه التي لم يَرْتَضِهَا. م: وما فيها من التكلُّف، ثم قال: ولا شَكَّ أنَّ ما ذكره الجمهورُ مِنْ أنَّ «غَيْر» : حالٌ، وإنْ لزم عنه الترك بالمفهومِ، فهو أولى من تَخْرِيجٍ تَنْبُو عنه الفُهُوم. انتهى. وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ: تقويةٌ لهذه الأحكامِ الشرعيَّة المخالِفَةِ لِمعهود أحكامِ الجاهليَّة، أي: فأنت أيها السَّامِعُ لِنَسْخِ تلك التي عَهِدتَّ، تَنَبَّهْ، فإنَّ اللَّه الذي هو مَالِكُ الكُلِّ يحكُمُ ما يريدُ لا مُعقِّب لحُكْمه سُبْحانه. قال ع «1» : وهذه الآيةُ مما تَلُوحُ فصاحتها، وكَثْرَةُ معانِيهَا على قلَّة ألفاظها لكلِّ ذِي بَصَر بالكلامِ، ولِمَنْ عنده أدنى إبْصَارٍ، وقد حَكَى النَّقَّاش أنَّ أَصْحَابَ الكِنْدِيِّ «2» قالوا للكنديِّ: أيُّهَا الحكيمُ، اعمل لنا مثْلَ هذا القرآن، فقال: نعم، أعْمَلُ لكم مِثْل بعضِهِ، فاحتجب أياماً كثيرةً، ثم خَرَج، فقال: واللَّهِ، ما أَقْدِرُ عليه، ولا يطيقُ هذا أحدٌ إني فتحْتُ المُصْحَفَ، فخرجَتْ سورةُ المَائِدَةِ، فنَظَرْتُ، فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 145) . (2) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، أبو يوسف: فيلسوف العرب والإسلام في عصره، وأحد أبناء الملوك من كندة. نشأ في البصرة. وانتقل إلى بغداد، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة. يزيد عددها على ثلاثمائة. ولقي في حياته ما يلقاه أمثاله من فلاسفة الأمم، فوشي به إلى المتوكل العباسي، فضرب وأخذت كتبه، ثم ردت إليه. وأصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما. قال ابن جلجل: «ولم يكن في الإسلام غيره احتذى في تواليفه حذو أرسطاطاليس» . تنظر ترجمته في: «الأعلام» (8/ 195) (1769) ، «طبقات الأطباء» (1/ 206- 214) ، «لسان الميزان» (6/ 305) .

[سورة المائدة (5) : آية 2]

النُّكْثِ، وحلَّل تحليلاً عامًّا، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قُدْرته وحِكْمته في سَطْرَيْنِ، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بهذا إلّا في أجلاد. [سورة المائدة (5) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ: خطابٌ للمؤمنين حقًّا ألاَّ يتعدَّوْا حدودَ اللَّهِ فِي أمْرٍ من الأمُور، قال عطاء بنُ أبي رَبَاحٍ: شعائرُ اللَّه جمِيعُ ما أَمَرَ به سبحانَهُ، أوْ نهى عنه «1» ، وهذا قولٌ راجحٌ، فالشعائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ، أيْ: قد أَشْعَرَ اللَّه أنَّها حَدُّهُ وطاعَتُهُ، فهي بمعنى مَعَالِمِ اللَّهِ. وقوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: أي: لا تحلُّوه بقتالٍ ولا غَارَةٍ، والأظْهَرُ أنَّ الشهر الحرام أُرِيدَ به رَجَبٌ ليشتدَّ أمره، وهو شَهْرٌ كان تحريمُهُ مختصًّا بقريشٍ، وكانَتْ تعظِّمه، ويُحتملُ أنه أريد به الجنْسُ في جميع الأشهر الحُرُمِ. وقوله سبحانه: وَلَا الْهَدْيَ: أي: لا يستحلُّ وَلاَ يُغَارُ عليه، ثم ذَكَر المُقَلَّدَ مِنْهُ تأكيداً ومبالغةً في التنبيه علَى الحُرْمَة في التَّقْليد، هذا معنى كلامِ ابْنِ «2» عبَّاس. وقال الجمهورُ: الهَدْيُ عامٌّ في أنواع ما يهدى قُرْبَةً، والقَلاَئِدُ: ما كانَ النَّاس يتقلَّدونه من لِحَاءِ السَّمُرِ وغيره أَمَنَةً لهم. وقال ص: وَلَا الْقَلائِدَ: أي: ولا ذَوَاتِ القلائدِ، وقيل: بل المرادُ القلائدُ نَفْسُها مبالغةً في النهْيِ عن التعرُّض للهدْيِ. انتهى. وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ: أيْ: قاصِدِينَهُ مِنَ الكفَّار المعنى: لا تحلُّوهم، فَتْغيِرُونَ عليهم، وهذا منسوخٌ ب «آية السَّيْف» بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فكلُّ ما في هذه الآية ممّا يتصوّر في مسلم حاجّ، فهو

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 392) برقم (10941) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 126) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 450) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 395) برقم (10951) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 449) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

مُحْكَمٌ، وكلُّ ما كان منها في الكُفَّار، فهو منُسُوخٌ. وقوله سبحانه: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً، قال فيه جمهور المفسِّرين: معناه: يبتغونَ الفَضْلَ من الأرباحِ في التِّجَارة، ويبتغُونَ مَعَ ذلك رِضْوَانَهُ في ظَنِّهم وطَمَعهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ، وفيها استئلافٌ مِنَ اللَّهِ سبحانه للعَرَبِ، ولُطْفٌ بهم لِتَنْبسطَ النفوسُ بتداخُلِ النَّاس، ويَرِدُونَ المَوْسِمَ، فيسمَعُونَ القرآن، ويدخل الإيمانُ في قلوبهم، وتَقُوم عليهم الحُجَّة كالذي كان، ثُمَّ نَسَخَ اللَّه ذلك كلَّه بعد عَامٍ في سَنَةِ تِسْعٍ إذْ حَجَّ أبو بَكْرٍ (رضي اللَّه عنه) ، ونودِيَ في الناسِ بسورة «بَرَاءَةَ» . وقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا: مجيءُ/ إباحة الصَّيْد عَقِبَ التشْدِيدِ فيهِ حَسَنٌ في فَصَاحة القَوْل. وقوله سبحانه: فَاصْطادُوا: أمرٌ، ومعناه الإباحةُ بإجماع. وقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ: معناه: لا يُكْسِبَنَّكم، وجَرِمَ الرجُلُ: معناه: كَسَبَ، وقال ابن عبَّاس: معناه: لا يَحْمِلَنَّكم «1» ، والمعنى: متقارِبٌ، والتفسيرُ الذي يخُصُّ اللفظةَ هو معنى الكَسْبِ. وقوله تعالى: شَنَآنُ قَوْمٍ: الشَّنَآنُ: هو البُغْض، فأما مَنْ قرأ شَنَآنُ- بفتح النون-، فالأظهرُ فيه أنه مصدَرٌ كأنَّه قَالَ: لا يُكْسِبَنَّكم بُغْضُ قومٍ مِنْ أجْل أَنْ صَدُّوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ سَنَة ثمانٍ، حين أراد المسْلمونَ أنْ يَسْتَطِيلوا على قريشٍ، وألفافِهَا المتظَاهِرِينَ على صدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصْحَابِهِ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، وذلك سنَةَ سِتٍّ من الهجرةِ، فحصَلَتْ بذلك بِغْضَةٌ في قلوب المؤمنين، وحيكة للكُفَّار، فنُهِيَ المؤمنُونَ عَنْ مكافأتهم، وإذْ للَّه فيهمْ إرادةُ خَيْرٍ، وفي علمِهِ أنَّ منهم مَنْ يُؤْمِنُ كالذي كان. وقرأ أبو عمرو «2» ، وابن كَثِيرٍ: «إنْ صَدُّوكُمْ» ، ومعناه: إنْ وقع مثل ذلك في

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 402) برقم (10993) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 8) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 148) . (2) وحجتهما: أن الآية نزلت قبل فعلهم وصدهم، قال اليزيدي: معناه: لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا إن صدوكم. ينظر: «السبعة» (242) ، و «الحجة» (3/ 212) ، و «حجة القراءات» (220) ، والعنوان، «إعراب القراءات» (1/ 142) ، و «شرح شعلة» (347) ، و «شرح الطيبة» (225) ، و «إتحاف» (1/ 529) ، و «معاني القراءات» (1/ 325) .

المُسْتقبل، وقراءةُ الجمهور أمْكَنُ. ثم أمر سبحانه الجَمِيعَ بالتعاوُنِ عَلَى البِرِّ والتقوى، قال قوم: هما لَفْظَانِ بمعنًى، وفي هذا تَسَامُحٌ، والعُرْفُ في دلالةِ هَذَيْنِ أنَّ البِرَّ يَتَنَاوَلُ الواجبَ والمَنْدُوبَ، والتقوى: رعايةُ الوَاجِبِ، فإنْ جعل أحدهما بَدَلَ الآخَرِ، فبتجوُّز. قُلْتُ: قال أحمدُ بْنُ نصر الداوديّ: قال ابنُ عباس: البِرُّ ما أُمِرْتَ به، والتقوى ما نُهِيتَ عنه «1» . انتهى، وقد ذكرنا في غَيْرِ هذا الموضعِ أنَّ لفظ التقوى يُطْلَقُ على معانٍ، وقد بيَّناها في آخر «سُورة النُّور» ، وفي الحديثِ الصحيحِ: «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» «2» ، قال ابنُ الفَاكهانِيِّ، عنْد شرحه لهذا الحديث: وقد رُوِّينَا في بعضِ الأَحاديثِ: «مَنْ سعى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ، قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ- غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» «3» ، انتهى مِن «شَرْح الأربعين» حديثاً. ثم نهى تعالى عن التعاوُنِ عَلَى الإثْمِ والعُدْوَانِ، ثم أمر بالتقوى، وتوعّد توعّدا

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 406) . (2) أخرجه مسلم (4/ 2074) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، حديث (38/ 2699) ، والترمذي (4/ 26) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في الستر على المسلم، حديث (1425) ، (4/ 287- 288) كتاب البر والصلة» ، باب ما جاء في السترة على المسلم، حديث (1930) ، وأبو داود (2/ 704) كتاب «الأدب» ، باب في المعونة للمسلم، حديث (4946) ، وابن ماجة (1/ 82) المقدمة: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث (225) ، وأحمد (2/ 202) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 119) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 221- بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. قال النووي في «شرح مسلم» (9/ 28) . ومعنى (نفس الكربة) : أزالها. وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين، وقد سبق تفصيله، وفضل إنظار المعسر، وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي، بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى، وإن كان هذا شرطا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس، ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم. (3) ذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (2/ 143) ، وعزاه للمنذري في «جزء غفران الذنوب» من حديث ابن عباس وقال: فيه أحمد بن بكار المصيصي، قال الحافظ في «اللسان» : عندي أنه أحمد بن بكر البالسي خبطوا في نسبه، والحديث موضوع.

مجملاً، قال النوويُّ: وعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ «1» : «أنّه أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ والإِثْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: استفت قَلْبَكَ البِرُّ: مَا اطمأنت إلَيْهِ النَّفْسُ، واطمأن إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ: مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَردَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» «2» حديثٌ حَسَنٌ رَوَيْنَاه في مسنَدِ أحمَدَ، يعني: ابْنَ حَنْبَلٍ، والدَّارِمِي وغيرهما، وفي «صحيح مسلم» ، عن النَّوَّاس بْنِ سَمْعَان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقَ، والإثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» «3» . انتهى.

_ (1) وابصة بن معبد بن مالك بن عبيد. وقيل: وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث. أبو سالم. الأسدي. قال ابن الأثير: له صحبة، سكن الكوفة ثم تحول إلى الرقة فأقام بها إلى أن مات بها. روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. روى عنه ابناه عمرو، وسالم، والشعبي، وزياد بن أبي الجعد وغيرهم ... وتوفي وابصة بالرقّة، وقبره عند منارة المسجد الجامع بالرافقة. تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 427) ، «الإصابة» (6/ 309) ، الثقات» (3/ 431) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 125) ، «الاستيعاب» (4/ 1563) ، «بقي بن مخلد» (179) ، «تقريب التهذيب» (2/ 328) ، «تهذيب التهذيب» (11/ 100) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1457) ، «الكاشف» (3/ 232) ، «الجرح والتعديل» (9/ 47) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 2928) ، «التاريخ الكبير» (8/ 187) ، «حلية الأولياء» (2/ 23) ، «البداية والنهاية» (5/ 88) . (2) أخرجه أحمد (4/ 228) ، والدارمي (2/ 245- 246) كتاب «البيوع» ، باب دع ما يربك إلى ما لا يريبك» ، والطبراني في «الكبير» (22/ 147- 148) رقم (402) من حديث وابصة. (3) أخرجه مسلم (4/ 1981) ، كتاب «البر والصلة» ، باب تفسير البر والإثم، حديث (14/ 2553) ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (295) ، والترمذي (4/ 597) ، كتاب «الزهد» ، باب ما جاء في البر والإثم، حديث (2389) ، وأحمد (4/ 182) ، وابن حبان (2397) ، والبيهقي (10/ 192) ، وفي «شعب الإيمان» ، (5/ 457) رقم (7272) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 474- بتحقيقنا) كلهم من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الرّحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد (4/ 182) ، والدارمي (2/ 322) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 457) رقم (7273) من طريق صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر القاضي، عن النواس بن سمعان به. وللحديث شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني: أخرجه أحمد (4/ 194) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 30) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 219) عنه مرفوعا بلفظ: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب» .

[سورة المائدة (5) : آية 3]

[سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) وقوله تعالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... الآية: تعديدٌ لما يتلى على الأمَّة ممَّا استثنَي من بهيمة الأَنْعَامِ، وَالدَّمُ: معناه: المَسْفُوح، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ: مقتض لشخمه بإجماع، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: قد تقدّم، وَالْمُنْخَنِقَةُ: معناه: التي تموت حنقا، وَالْمَوْقُوذَةُ: التي ترمى أو تُضْرَبُ بِعَصاً، وشبهها، وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هي التي تتردى مِنْ عُلْوٍ إلى سُفْلٍ، فتموتُ، وَالنَّطِيحَةُ: فَعِيلَةٌ بمعنى مَفْعُولَةٍ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ: يريد كُلَّ ما افترسَهُ ذو نَابٍ، وأظْفَارٍ من الحَيَوان، وكانَتِ العربُ تأكل هذه المذْكُورات، ولم تَعْتَقِدْ ميتةً إلا ما مَاتَ بالوَجَعِ ونحو ذلك. واختلف العلماءُ في قوله تعالى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ، فقال ابنُ عباس، وجمهورُ العلماء: الاستثناءُ من هذه المذْكُوراتِ، فما أُدْرِكَ مِنْهَا يَطْرِفُ بِعَيْنٍ أو يُحَرِّكُ ذَنَباً «1» ، وبالجُمْلة/: ما يتحقَّق أنه لم تَفِضْ نفسه، بل له حياةٌ، فإنه يذكى على سُنَّة الذَّكَاة، ويُؤْكَلُ، وما فَاضَتْ نفسه، فهو الميتَةُ، وقال مالكٌ مرَّةً بهذا القَوْلِ، وقال أيضاً، وهو المشهور عنه، وعن أصحابه مِنْ أهْل المدينة: إنَّ قوله تعالى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ: معناه: مِنْ هذه المذْكُورات في وَقْتٍ تَصِحُّ فيه ذَكاتُها، وهو ما لم تنفذ مقاتِلها، ويتحقَّق أنها لا تَعِيشُ، ومتى صارَتْ في هذا الحَدِّ، فهي في حُكْمِ المَيْتَة، فالاستثناءُ عند مالك مُتَّصِلٌ كقول الجمهور، لكنه يُخَالِفُ في الحَالِ التي يَصِحُّ فيها ذَكاةُ هذه المذكورات واحتج لمالِكٍ بأنَّ هذه المذكوراتِ لو كَانَتْ لا تحرم إلاَّ بموتها، لكان ذكْرُ المَيْتَة أولاً يُغْنِي عنها، ومِنْ حُجَّة المخالِفِ أنْ قَالَ: إنما ذُكِرَتْ بسبب أنَّ العرب كانَتْ تعتقدُ أنَّ هذه الحوادِثَ كالذَّكَاة، فلو لم يُذْكَرْ لها غَيْرُ الميتةِ، لظَنَّتْ أنها ميتةُ الوَجَعِ حَسْبما كانَتْ عليه، والذَّكَاةُ في كلام العرب: الذَّبْح. وقوله سبحانه: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: عطفٌ على المحرَّمات المذْكُورة، والنُّصُب: حجارةٌ تُنْصَبُ، يذبحون علَيْها، قال ابنُ جُرَيْجٍ: وليسَتِ النُّصُب بأصنامٍ فإن الصَّنَمُ يُصوَّر ويُنْقَشُ، وهذه حجارةٌ تُنْصَبُ، وكَانَتِ العربُ تَعْبُدُها «2» ، قال ابنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: شيْءٌ واحدٌ «3» «4» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 411) برقم (11036) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 151) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 414) برقم (11052) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 152) . [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 415) برقم (11061) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 152) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 153) .

قال ع: ما ذُبِحَ على النصبِ جُزْءٌ مِمَّا أهِلَّ به لغير اللَّه، لكنْ خُصَّ بالذِّكْر بعد جنْسِهِ لشهرة أمْرِه. وقوله سبحانه: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ: حرَّم سبحانه طَلَبَ القِسْمِ، وهو النَّصِيبِ، أوِ القَسْمِ- بفتح القاف-، وهو المصدَرُ بالأزلامِ، وهي سهَامٌ، قال صاحبُ «سلاح المؤمن» : والاستقسامُ: هُوَ الضَّرْب بها لإخراجِ مَا قُسِمَ لهم، وتَمْيِيزِهِ بزَعْمهم. انتهى، وأزْلاَمُ العَرَبِ على أنواعٍ منْها الثلاثةُ الَّتي كان يتَّخِذُها كلُّ إنسانٍ لنفسه على أحدها «افعل» ، وعلى الآخر «لاَ تَفْعَلْ» ، وثالثٌ مهملٌ لا شيْءَ عليه، فيجعلها في خريطَةٍ معه، فإذا أراد فِعْلَ شيءٍ أدخَلَ يده، وهي متشابهَةٌ فأخْرَجَ أحدها، وَأْتَمَرَ له، وانتهى بحسب ما يَخْرُجُ له، وإنْ خرج القِدْحُ الذي لا شَيْءَ فيه، أعاد الضَّرْبَ. وقوله سبحانه: ذلِكُمْ فِسْقٌ: إشارةٌ إلى الاِستقسامِ بالأزلام. وقوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ: معناه عند ابن عباس وغيره: مِنْ أنّ تَرْجِعُوا إلى دينهم «1» ، وظاهر أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمْرِ أصحابِهِ، وظهور الدِّين يقتضي أنَّ يَأْسَ الكُفَّارِ عنِ الرجوعِ إلى دينهم قد كَانَ وَقَعَ مُنْذُ زمانٍ، وإنما هذا اليأسُ عندي من اضمحلال أَمْرِ الإسلام، وفَسَادِ جمعه لأن هذا أمْرٌ كان يترجَّاه مَنْ بَقِيَ من الكفَّار ألا ترى إلى قول أخِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ «2» في يَوْمِ هَوَازِنَ حتى انكشف المُسْلمون، وظنَّها هزيمةً: «أَلاَ بَطَلَ السِّحْرُ اليَوْمَ» ، إلى غير هذا مِنَ الأَمثلَة، وهذِهِ الآيةُ في قول الجمهورِ عُمَرَ بْنِ الخطابِ «3» وغيره: نَزَلَتْ في عَشِيَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ يَوْمَ الجمعةِ، وفي ذلك اليَوْمِ امحى أمْرُ الشِّرْكِ مِنْ مَشَاعِرِ الحَجِّ، ولم يحضُرْ من المشركين المَوْسِمَ بَشَرٌ، فيحتملُ قوله تعالى: الْيَوْمَ: أنْ تكون إشارةً إلى اليومِ بعينه، ويحتملُ أنْ تكون إشارةً إلى الزَّمَنِ والوَقْت، أيْ: هذا الأوانُ يَئِسَ الكفَّار من دينكم. وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا/: يعمُّ سائر الكفَّار من العرب وغيرهم وهذا يقوِّي أنَّ اليأْس إنما هو مِنَ انحلال أمْرِ الإسلام، وأمر سبحانه بخَشْيَته الَّتي هِيَ رأس كلّ عبادة كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومفتاح كلّ خير» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 418) برقم (11079) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 454) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 442) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 442) .

وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ: تحتملُ الإشارةَ ب «اليَوْم» ما قد ذكرناه، حَكَى الطبريُّ «1» أنَّ النبيَّ- عليه السلام- لَمْ يَعِشْ بعد نزول هذه الآية إلاَّ إحدى وثمانِين ليلة، والظاهر أنه عاش صلّى الله عليه وسلّم أكثر بأيامٍ يسيرةٍ، قُلْتُ: وفي سماعِ ابنِ القاسِمِ، قال مالك: بلَغَنِي أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ في اليومِ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، وَقَفَ على بابه، فقال: «إنِّي لاَ أُحِلُّ إلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ أُحَرِّمُ إلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ في كِتَابِهِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، اعملا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ فَإنِّي لاَ أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» ، قال ابن رُشْدٍ: هذا حديثٌ يدلُّ على صحَّته قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، وقال تعالى: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، فالمعنى في ذلك: أنَّ الله عز وجل نَصَّ على بعض الأحكامِ، وأجْمَلَ القَوْلَ في بعضها، وأحَالَ علَى الأدلَّة في سائِرِها بقوله: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] فبيَّن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما أجمله اللَّه في كتابه كما أمره حيثُ يقول: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، فما أحلّ صلّى الله عليه وسلّم، أو حرَّم، ولم يوجَدْ في القُرآن نَصًّا، فهو مما بيَّن مِنْ مُجْمَلِ القُرآن، أو علمه بما نُصِبَ من الأدلَّة فيه، فهذا معنى الحديث، والله أعلم، فما ينطق صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الهوى إنْ هو إلاَّ وحْيٌ يوحَى. انتهى من «البيان والتحصيل» . وفي «الصحيح» «أنَّ عمرَ بْنَ الخطَّابِ، قال لَهُ يَهُودِيٌّ: آيَةٌ في كتابكم تقرءونها، لو علَيْنا نزلَتْ، لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عيداً، فقال له عُمَرُ: أيُّ آيَة هِيَ؟ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فقالَ له عُمَرُ: قَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ نَزَلَتْ على رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو واقف بعرفة يوم الجمعة» «2» .

_ (1) ينظر: الطبري (4/ 418) . (2) أخرجه البخاري (1/ 129) كتاب «الإيمان» ، باب زيادة الإيمان ونقصانه، حديث (45) ، وفي (7/ 712) كتاب «المغازي» ، باب حجة الوداع، حديث (4407) ، وفي (8/ 119) كتاب «التفسير» ، باب الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، حديث (4606) ، وفي (13/ 259) كتاب «الاعتصام» : حديث (7268) ، ومسلم (4/ 2312- 2313) كتاب «التفسير» ، حديث (3- 5/ 3017) ، والترمذي (5/ 250) كتاب «التفسير» ، باب سورة المائدة، حديث (3043) ، والنسائي (5/ 251) كتاب «الحج» ، باب ما ذكر في يوم عرفة، و (8/ 114) كتاب «الإيمان» ، باب زيادة الإيمان، وأحمد (1/ 28) ، والحميدي (31) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص- 40) رقم (30) ، والطبري في «تفسيره» (4/ 421) رقم (11098) ، وابن حبان (185) ، والآجري في «الشريعة» (ص 105) ، والبيهقي (5/ 118) كتاب «الحج» ، كلهم من طريق قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. والحديث: ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 456) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

[سورة المائدة (5) : آية 4]

قال ع «1» : فَفِي ذلك اليَوْم عِيدَانِ للإسلامِ، إلى يومِ القِيامةِ، وإتمامُ النعمة هو في ظُهُور الإسلام، ونُورِ العقائدِ، وكمالِ الدِّينِ، وسعةِ الأحوالِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا اشتملت عليه هذه المِلَّةُ الحنيفيَّة إلى دخولِ الجَنَّة، والخلودِ في رَحْمَةِ اللَّه سبحانه، جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ شَمِلَتْهُ هذه النعمة. وقوله سبحانه: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً: يحتملُ الرِضَا في هذا الموضعِ أنْ يكون بمعنى الإرادةِ، ويحتملُ أنْ يكونَ صفةَ فِعْلٍ عبارةً عَنْ إظهارِ اللَّهِ إياه لأنَّ الرضَا من الصفاتِ المتردِّدة بَيْنَ صفاتِ الذَّاتِ وصفاتِ الأفعال، واللَّه تعالى قد أراد لنا الإسلامَ، وَرَضِيَهُ لنا، وَثَمَّ أشياء يريدُ اللَّه وقوعها ولا يَرْضَاها. وقوله سبحانه: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ، يعني: مَنْ دَعَتْهُ ضرورةٌ إلى أكل الميتة، وسائر تلك المحرّمات، وسئل صلّى الله عليه وسلّم، متى تَحِلُّ الميتَةُ للنَّاسِ؟ فَقَالَ: «إذَا لَمْ يَصْطَبِحُوا، وَلَمْ يَغْتَبِقُوا «2» ، وَلَمْ يَحْتَفِئُوا «3» بَقْلاً «4» » . والمخمَصَةُ: المجاعَةُ التي تخمص فيها البُطُونُ، أي: تَضْمُرُ. وقوله سبحانه: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هو بمعنى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: 173] وقد تقدَّم تفسيره. قال ص: متجانف: أي: مائلٌ منحرفٌ. انتهى، وقد تقدّم في «البقرة» . [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) وقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ: سببُ نزولها أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم/ لمّا أمر بقتل

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 154) . (2) تفتعلوا من الغبوق، وهو شرب آخر النهار مقابل الصّبوح. ينظر: «النهاية» (3/ 341) . (3) قال أبو عبيد: هو من الحفأ، مهموز مقصور، وهو أصل البرديّ الأبيض الرطب منه، وقد يؤكل. يقول: ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه. ينظر: «النهاية» (1/ 411) . (4) أخرجه أحمد (5/ 218) ، والحاكم (4/ 125) ، والبيهقي (9/ 356) من طريق حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه. وقال الذهبي: فيه انقطاع.

الكلابِ. سأله عاصمُ بنُ عَدِيٍّ وغيره، مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الكِلابِ» «1» . قال ع «2» : وظاهر الآية أنَّ سائلاً سأل عمَّا يحلُّ للنَّاسِ من المَطَاعِمِ لأنَّ قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ليس بجوابٍ عمَّا يحِلُّ للناسِ اتخاذه من الكلاَبِ إلاَّ أنْ يكون مِنْ باب إجَابَةِ السائلِ بأكثر ممَّا سأَلَ عنه، وهو موجود كثيرا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والطَّيِّبُ: الحَلاَل. وقوله سبحانه: وَما عَلَّمْتُمْ: أي: وصَيْدُ ما علَّمتم، قال الضَّحَّاك وغيره: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ: هي الكلاَبُ خاصَّةٌ. قال العِرَاقِيُّ في مُكَلِّبِينَ: أصحاب أَكْلُبٍ لها مُعَلِّمين. انتهى، وأعلى مراتِبِ التَّعْلِيمِ، أنْ يُشْلى الحَيَوانُ فَيَنْشَلِي، ويدعى فَيُجِيب، ويُزْجَر بَعْد ظَفَرِهِ بالصَّيْد، فينزجر، وجوارِحُ: جمع جَارِحٍ، أي: كاسب، يقال: جَرَحَ فلانٌ، واجترح إذا اكتسب ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 60] ، أي: ما كَسَبْتُمْ مِنْ حسنةٍ وسيئةٍ. قال ع «3» : وقرأ «4» جمهورُ النَّاس: وَما عَلَّمْتُمْ- بفتح العين واللام-، وقرأ ابن عبّاس ومحمّد ابن «5» الحنفيَّة: «عُلِّمْتُمْ» - بضم العين وكسر اللام-: أي: من أمرِ الجوارحِ، والصَّيْدِ بِها، وقرأ جمهورُ النَّاس: «مُكَلِّبِينَ» - بفتح الكاف وشَدِّ اللام-، والمُكَلِّبُ: معلّم الكلاب، ومضرّيها، ويقال لِمَنْ يعلِّم غَيْرَ كَلْبٍ: مُكَلِّب لأنه يَرُدُّ ذلك الحيوان كالكَلْبِ. وقوله سبحانه: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ: أيْ: تعلمونَهُنَّ الحِيلَةَ في الاصطياد، والتأتّي لتحصيل الحيوان، وهذا جزء مما علّمه الله الإنسان، ف «مِنْ» : للتبعيض. وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ: يحتملُ: ممَّا أمسكْنَ، فلم يأكلْنَ منه شيئاً، ويحتملُ: ممَّا أمسكْن، وإن أكلْنَ منه، وبحَسَبِ هذا الاحتمالِ اختلف العلماءُ في جواز أكْلِ الصيد، إذا أكل منه الجارحُ. وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ: أمر بالتسمية عند الإرسال، وذهب مالك

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 248) برقم (11138) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 154) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 458) ، وعزاه لابن جرير عن عكرمة. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 156) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 157) . [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 157) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 157) ، و «البحر المحيط» (3/ 445) ، و «الدر المصون» (2/ 489) .

[سورة المائدة (5) : آية 5]

وجمهورُ العلماء أنَّ التسمية واجبةٌ، مع الذِّكر، ساقطةٌ مع النِّسْيَان، فمن تركَهَا عامداً، فقد أفْسَدَ الذبيحةَ والصَّيدَ، ومن تَرَكها ناسياً، سمى عند الأكْلِ، وكانَتِ الذبيحةُ جائزةً، وفِقْهُ الصيْدِ والذبْحِ في معنى التسميةِ- واحدٌ. ثم أمر سبحانه بالتقوى على الجُمْلة، والإشارة إلى ما تضمَّنته هذه الآياتُ مِنَ الأوامِرِ والنواهِي، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: وعيدٌ وتحذيرٌ. [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) وقوله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ: إشارةٌ إلى الزَّمَنِ والأوانِ، والخِطَابُ للمؤمِنِينَ. وقوله سبحانه: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ: الطعامُ في هذه الآيةِ: الذَّبَائِحُ كذا قال أهل التفسير. واختلفوا في لَفْظَةِ طَعامُ. فقال الجمهورُ: هي الذبيحةُ كلُّها، وقالتْ جماعة: إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحةِ، أي: الحلال لهم منها لا ما لا يَحِلُّ لهم كَالطَّرِيفِ، وَالشُّحُومِ المحْضَةِ. واختلف في لَفْظة أُوتُوا الْكِتابَ. فقالتْ طائفة: إنما أحل لنا ذبائح الصُّرَحَاءِ منهم، لا مَنْ كان دخيلاً في هذَيْن الدِّينَيْنِ، وقال جمهورُ الأمَّة ابنُ عَبَّاس، والحسنُ، ومالكٌ، وغيرهم: إنَّ ذبيحةَ كُلِّ نصرانيٍّ حلالٌ، كان مِنْ بني تَغْلِبَ أو غيرهم «1» ، وكذلك اليهودُ، وتأوَّلوا قوْلَ اللَّهِ تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] . وقولُهُ سُبْحَانه: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ: أي: ذبائحكم، فهذه رُخْصَة للمسلمين، لا لأهْلِ الكتابِ، لَمَّا كان الأمْرُ يقتضي أنَّ شيئاً قد تشرَّعنا فيه بالتَّذْكِيَةِ ينبغي لنا أنْ نَحْمِيَهُ منهم، رخَّص اللَّه تعالى لنا في ذلك دفعاً للمشقَّة بحَسَب التجاوُرِ. وقوله سبحانه: وَالْمُحْصَناتُ: عطْفٌ على الطَّعَام المُحَلَّل، ذهب جماعة منهم

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 441) برقم (11231) عن ابن عباس، (11232) عن الحسن، وذكره ابن عطية (2/ 159) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 18) .

[سورة المائدة (5) : آية 6]

مالكٌ إلى أنَّ المحصنات في هذه الآيةِ الحرائر «1» ، فمنعوا نِكَاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، / وذهب جماعةٌ إلى أنهنَّ العَفَائِفُ، فأجازوا نكاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، والأجورُ في الآية: المُهُورُ، وانتزع بعضُ العلماءِ من لفظ: آتَيْتُمُوهُنَّ أنَّه لا ينبغِي أنْ يدخل زَوْجٌ بزوجته إلاَّ بَعْدَ أنْ يَبْذُلَ من المَهْر ما يستحلّها به، ومُحْصِنِينَ: معناه: متزوِّجين على السُّنَّة. وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ: أي: بالأمور التي يَجِبُ الإيمان بها، وباقي الآية بيّن. [سورة المائدة (5) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الآية: قال ابن العَرَبِيِّ: في «أحكامه» «2» : لا خِلاَفَ بَيْن العلماءِ أنَّ هذه الآيةَ مَدَنِيَّةٌ كما أنه لا خِلاَفَ أنَّ الوضوء «3» كانَ مَعْقُولاً قَبْلَ نزولها غَيْرَ مَتْلُوٍّ ولذلك قال علماؤُنا: إنَّ الوُضُوءَ كان بمكَّة سُنَّةً، ومعناه: كان مفْعولاً بالسُّنَّة، وقوله: إِذا قُمْتُمْ: معناه: إذا أردتّم القيام

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 159) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 558) . (3) والوضوء بضم الواو: الفعل، وبفتحها: الماء المتوضّأ به، هذا هو المشهور، وحكي الفتح في الفعل، والضّمّ في الماء، وهو في اللغة: عبارة عن النّظافة والحسن والنّقاوة. ينظر: «لسان العرب» (6/ 4854، 4855) ، «تهذيب اللغة» (12/ 99) ، «ترتيب القاموس المحيط» (4/ 622) . واصطلاحا: عرفه الحنفية بأنه: الغسل والمسح في أعضاء مخصوصة. وعرّفه الشّافعيّة: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحا بنيّة. وعرفه المالكية بأنه: إزالة النّجس، أو هو رفع مانع الصلاة. وعرفه الحنابلة بأنه: استعمال الماء الطّهور في الأعضاء المخصوصة، على صفة مفتتحة بالنيّة. ينظر: «الاختيار» (1/ 7) ، «مغني المحتاج» (1/ 47) ، «الخرشي» (1/ 20) ، «المبدع» (1/ 113) . ولمّا كان العبد مكلّفا بالصّلاة التي هي ركن من أركان الدين، والصلاة مناجاة بين العبد وربه، ومن أجل ذلك يكون اللّائق بحال من يخاطب ربّه، ويناجيه أن يكون متطهرا من الأدران والأوزار. وقد ورد في كثير من الأحاديث أن الذّنوب تنزل عن صاحبها مع كل قطرة من قطرات الوضوء، لذلك شرع الوضوء قبل الصلاة. -

إلى الصلاة. انتهى. قال زيدُ بْنُ أَسْلَمَ والسُّدِّيُّ: معنى الآية: إذا قمتُمْ من المضاجِعِ، يعني النَّوْمَ «1» ، والقصْدُ بهذا التأويلِ أنْ يعمَّ الأحداث بالذِّكْر، وفي الآية على هذا التأويلِ تقديمٌ وتأْخيرٌ، تقديره: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النومِ، أو جاء أَحدٌ منكم من الغائِطِ، أو لامَسْتُمُ النِّساء، يعني: الملامسة الصغرى فاغسلوا، وهنا تمَّتْ أحكامُ الحَدَثِ الأَصْغَرِ، ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، فهذا حُكْم نوعٍ آخر، ثم قال للنوعين جميعاً: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، وقال بهذا التأويل محمَّد بْنُ مَسْلمة «2» مِنْ أصحاب مالكٍ وغيره «3» . وقال جمهورُ أهْلِ العِلْمِ: معنى الآيةِ: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثِينَ، وليس في الآيةِ على هذا تقديمٌ ولا تأْخيرٌ، بل ترتَّب في الآية حُكْمُ واجِدِ المَاءِ إلى قوله: فَاطَّهَّرُوا، ودخلَتِ الملامسةُ الصغرى في قولنا: «مُحْدِثِينَ» ، ثم ذكَرَ بعد ذلك بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ... إلى آخر الآية حُكْمَ عادمِ الماءِ مِنَ النوعَيْنِ جميعاً، وكانت الملامسةُ هي الجماعَ. وقال ص: إِذا قُمْتُمْ أي: إذا أردتُّم، وعبَّر بالقيامِ عن إرادَتِهِ لأنه مُسَبَّبٌ عنها. انتهى. ومِنْ أحسن الأحادِيثِ وأصحِّها في فَضْل الطهارةِ والصَّلاة: ما رواه مالكٌ في «الموطَّإ» ، عن العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن «4» ، عن أبِيهِ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ - وقد فرض الوضوء ليلة الإسراء مع الصلاة، قبل الهجرة، وكان الوضوء أوّل الأمر واجبا لكل صلاة، ثم نسخ ذلك يوم غزوة «الخندق» ، وصار واجبا من الحدث. الباجوري (1/ 20) . (1) أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 452) برقم (11322) عن زيد بن أسلم، (11324) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 160) . (2) هو محمد بن مسلمة بن هشام بن إسماعيل أبو هشام، وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام، كان ابن مسلمة من الطبقة الوسطى من أهل المدينة، وكان أفقه فقهاء المدينة من أصحاب مالك فكان ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع، روى عن مالك وتفقه عنده، توفي سنة ست ومائتين هجرية. ينظر: الديباج المذهب ص 227. (3) ينظر: ابن عطية (2/ 161) . (4) العلاء بن عبد الرّحمن بن يعقوب الجهني مولى الحرقة المدني، أحد الأعلام. عن أبيه وأنس وعكرمة. وعنه ابن جريج وابن إسحاق ومالك وخلق. وثقة أحمد. وقال يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح أنكر من حديثه أشياء. قال الواقدي: توفي في خلافة المنصور. ينظر: الخلاصة (2/ 312) .

قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرَكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إسْبَاغُ الوُضُوءِ عِنْدَ المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إلَى المَسَاجِدِ، وانتظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» «1» . قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديثُ مِنْ أَحْسَنِ ما رُوِيَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في فضائِلِ الأعمالِ. قال صاحبُ «كتاب العَيْنِ» : الرِّبَاطُ: ملازمةُ الثُّغُور، قال: والرِّبَاطُ مواظبةُ الصلاةِ أَيضاً انتهى. والغُسْلُ، في اللغة «2» : إيجادُ المَاء في المَغْسُول، مع إمرار شَيْء علَيْه كاليَدِ، والوجه

_ (1) أخرجه مسلم (1/ 219) في الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (41/ 251) ، والترمذي (1/ 72- 73) في أبواب الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء (51) ، والنسائي (1/ 89) في الطهارة: باب الفضل في إسباغ الوضوء، وابن ماجة (1/ 148) في الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء (428) ، وأحمد (2/ 277، 303) ، وأبو عوانة في «المسند» (1/ 231) ، وأبو يعلى (6503) ، وابن خزيمة (1/ 6) برقم (5) ، ومالك (1/ 161) في قصر الصلاة في السفر (55) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 251) برقم (146) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رواه ابن ماجة في المصدر السابق (427) ، وفي المساجد: باب المشي إلى الصلاة (776) ، وأحمد (3/ 16) ، والدارمي (1/ 177، 178) في الوضوء: باب ما جاء في إسباغ الوضوء، وابن خزيمة برقم (177، 357) ، وابن حبان (394) ، والحاكم في «المستدرك» (1/ 191- 192) ، وأبو يعلى (1355) ، وعبد بن حميد في مسنده (984) . وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 95- 96) : رواه أحمد بطوله، وأبو يعلى أيضا ... وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفي الاحتجاج به خلاف، وقد وثقه غير واحد. وفي الباب أيضا عن جابر رواه البزار (1/ 223) برقم (449، 450) ، وابن حبان (161- موارد) . وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 40) : رواه البزار ... وإسناد الأول فيه شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف عند الجمهور. وذكره ابن حبان في «الثقات» ، وأخرج له في «صحيحه» هذا الحديث، وإسناد الثاني فيه يوسف بن ميمون الصباغ، ضعفه جماعة، ووثقه ابن حبان، وأبو أحمد بن عدي، وقال البزار: صالح الحديث. (2) قال الجوهريّ: غسلت الشيء غسلا بالفتح، والاسم الغسل بالضم: ويقال: غسل: كعسر وعسر. قال الإمام أبو عبد الله بن مالك في «مثلثه» : والغسل، يعني بالضم: الاغتسال، والماء الذي يغتسل به. وقال القاضي عياض: الغسل بالفتح: الماء. والغسل: الإسالة، والغسالة: ما غسلت به الشيء، والغسول: الماء الذي يغتسل به، وكذلك المغتسل، والمغتسل أيضا: الذي يغتسل فيه. والغسل بالكسر: ما يغسل به الرّأس من خطميّ وغيره، ومنه الغسلين، وهو ما انغسل من لحوم أهل النّار ودمائهم. -

ما وَاجَهَ النَّاظر وقابله، والنَّاس كلُّهم على أنَّ داخل العينَيْنِ لا يلْزَمُ غسله إلا ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عُمَرَ أنه كان يَنْضَحُ «1» الماءَ في عَيْنَيْهِ «2» . واليَدُ لغةً تَقَعُ على العُضْوِ من المَنْكِبِ إلَى أطرافِ الأصابِعِ، وحَدَّ اللَّه سبحانه مَوضِعَ الغُسْلِ منه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ. واختلف العلماءُ، هل تدخُلُ المرافِقُ في الغُسْلِ أم لاَ، وتحريرُ العبارةِ في هذا المعنى: أنْ يقَالُ: إذا كان مَا بَعْد إلى لَيْسَ مما قَبْلَهَا، فالحَدُّ أولُ المذكورِ بعدها، وإذا كان ما بَعْدَها مِنْ جملة ما قَبْلَهَا/، فالاحتياطُ يُعْطِي أنَّ الحدَّ آخر المذكور بَعْدَها ولذلك يترجَّح دخولُ المرفَقَيْنِ في الغُسْل، والروايتان عن مالكٍ، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «3» ، وقد رَوَى الدارقطنيُّ وغيره عن جابرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ المَاءَ على مِرْفَقَيْهِ «4» . انتهى.

_ - وفي «المغرب» : غسل الشيء: إزالة الوسخ ونحوه عنه، بإجراء الماء عليه. والغسل بالضّم: اسم من الاغتسال، وهو غسل تمام الجسد، واسم للماء الذي يغتسل به أيضا. ينظر: «الصّحاح» (5/ 1781) ، «تهذيب اللغة» (8/ 35، 36) ، «لسان العرب» (5/ 3256، 3257) . واصطلاحا: عرفه الحنفيّة بأنه: غسل البدن. وعند الشافعية: سيلان الماء على جميع البدن. وعند المالكية: إيصال الماء لجميع الجسد بنيّة استباحة الصّلاة مع الدّلك. وعند الحنابلة: استعمال ماء طهور في جميع بدنه، على وجه مخصوص. ينظر: «الدرر» (1/ 17) ، «الحرشي» (1/ 161) ، «كشاف القناع» (1/ 139) . [.....] (1) أصل النضح: الرّشح، وهو هنا الرش، يعني كان يغسل باطن عينيه بالماء. ينظر: «النهاية» (5/ 70) ، و «لسان العرب» (4450) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 161) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 567) . (4) أخرجه الدارقطني (1/ 83) كتاب «الطهارة» ، باب وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حديث (15) ، والبيهقي (1/ 56) كتاب «الطهارة» ، كلاهما من طريق عباد بن يعقوب، عن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، عن جده عن جابر به. قال الدارقطني: ابن عقيل ليس بقوي. وقال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (1/ 383) . وهو حديث ضعيف، فعباد بن يعقوب: هو الرواجني، متكلم فيه، روى عنه البخاري مقرونا بآخر، وقال ابن حبان فيه: رافضي داعية، يروي المناكير عن المشاهير، فاستحق الترك. انتهى. وعبد الله بن محمد بن عقيل أيضا فيه مقال، وكذلك ابن ابنه القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه قال: كان متروك الحديث، وذكر عن أبي زرعة أنه قال: أحاديثه منكرة، وهو ضعيف الحديث أيضا، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يروي عن-

واختلفَ في رَدِّ اليدَيْنِ في مَسْح الرَّأْسِ، هل هو فرضٌ أوْ سُنَّة، بعد الإجماع على أنَّ المَسْحَةَ الأولى فَرْضٌ، فالجمهورُ على أنَّه سُنَّة. وقيل: هو فرضٌ، والإجماع على استحسَانِ مَسْحِ الرأس باليَدَيْنِ جمِيعاً، وعلى الإجزاء بواحدةٍ، واختُلِفَ فِيمَنْ مَسَحَ بأُصْبُعٍ واحدةٍ، والمشهورُ الإجزاءُ ويترجَّح عدم الإجزاءِ لأنه خروجٌ عن سُنَّة المَسْح، وكأنه لَعِبٌ إلاَّ أَنْ يكونَ ذلك عن ضَرَرِ مرضٍ ونحوه، فينبغي ألاَّ يُخْتَلَفَ في الإجزاء. والبَاءُ في قوله تعالى: بِرُؤُسِكُمْ مؤكّدة زائدة عند من يرى عموم الرأس، والمعنى، عنده: وامسحوا رءوسكم، وهي للإلصاق المحض عند مَنْ يرى إجزاء بعض الرأْسِ كأنَّ المعنى: أوجدوا مسحا برءوسكم، فمَنْ مَسَح، ولو شعرةً فقد فَعَلَ ذلك. ت: قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «1» : وقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في صِفَةِ مَسْحِ الرأسِ «أَنه أَقْبَلَ بِيَدِهِ، وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» «2» ، وفي البخاريِّ: «فَأَدْبَرَ بِهِمَا، وَأَقْبَلَ» ، وهما صحيحان متوافقان،

_ - جده عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. وروى عنه إسحاق بن محمد العزرمي. انتهى. ذكره في أتباع التابعين من كتابه. ورواه البيهقي أيضا من حديث سويد بن سعيد، عن القاسم بن محمد العقيلي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، أما القاسم وجدّه فتقدما، وأما سويد بن سعيد فهو، وإن أخرج له مسلم، فقد قال ابن معين: هو حلال الدم، وقال ابن المديني: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: صدوق إلا أنه كثير التدليس، وقيل: إنه عمي في آخر عمره، فربما لقن ما ليس في حديثه، فمن سمع منه وهو بصير فحديثه عنه حسن، وسكت عنه البيهقي هنا، وقال في باب: من قال لا يقرأ: تغير بآخره، فكثر الخطأ في روايته. انتهى. والعجب من البيهقي كيف سكت عن القاسم هنا، وقد قال في باب: لا يطهر بالمستعمل: لم يكن بالحافظ، وأهل العلم مختلفون في الاحتجاج برواياته. (1) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 575) . (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 18) ، كتاب «الطهارة» ، باب العمل في الوضوء، الحديث (1) ، وعبد الرزاق في المصنف (1/ 6) ، كتاب «الطهارة» ، باب المسح بالرأس، الحديث (5) ، وأحمد (4/ 38) ، والبخاري (1/ 289) ، كتاب «الوضوء» ، باب مسح الرأس، الحديث (185) ، ومسلم (1/ 210- 211) ، كتاب «الطهارة» ، باب في وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (18) وأبو داود (1/ 86- 87) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (18) ، والترمذي (1/ 47) ، كتاب «الطهارة» ، باب ما جاء في مسح الرأس، الحديث (32) ، والنسائي (1/ 72) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة مسح الرأس، وابن ماجة (1/ 149- 150) ، كتاب «الطهارة» ، باب ما جاء في مسح الرأس، الحديث (434) ، وابن الجارود في «المنتقى» (ص 35) ، باب صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والحميدي-

وهي مسألةٌ من «أصول الفقْهِ» في تسمية الفعْلِ بابتدائه أو بغايته. انتهى. وقرأ حمزة «1» وغيره: «وَأَرْجُلِكُمْ» - بالخفض-، وقرأ نافع وغيره بالنَّصْب، والعاملُ: «اغسلوا» ، ومن قرأ بالخفْضِ، جعل العامِلَ أقْرَبَ العامِلَيْنِ، وجمهورُ الأَمَّة من الصحابة والتابعِينَ على أنَّ الفَرْضَ في الرجْلَيْن الغَسْلُ، وأنَّ المَسْح «2» لا يجزىءُ، وفي الصحيح: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ «3» من النّار» إذ «4» رأى صلّى الله عليه وسلّم أعقابَهُمْ تلُوحُ، قال ابن العربِيِّ في «القَبَس» :

_ - (1/ 202) ، وابن خزيمة (1/ 80، 87، 88) ، وابن حبان (2/ 296، 297- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 30) ، والبيهقي (1/ 59) كتاب «الطهارة» ، باب الاختيار في استيعاب الرأس بالمسح والبغوي في «شرح السنة» (1/ 316- بتحقيقنا) عن عبد الله بن زيد. وله شاهد من حديث معاوية، أخرجه أبو داود (1/ 89) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (124) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 30) ، كتاب «الطهارة» ، باب فرض مسح الرأس في الوضوء. وشاهد آخر عن المقدام أخرجه أبو داود (1/ 88) كتاب «الطهارة» ، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (122) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 32) ، باب حكم الأذنين في وضوء الصلاة. (1) ينظر: «السبعة» (242- 243) ، و «الحجة» (3/ 214) ، و «حجة القراءات» (221) ، و «العنوان» (87) ، و «إعراب القراءات» (1/ 143) ، و «شرح شعلة» (348) ، و «شرح الطيبة» (4/ 226) ، و «إتحاف» (1/ 530) ، و «معاني القراءات» (1/ 326) . (2) أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يخالف في ذلك من يعتد به في الإجماع- كما صرح بذلك الشيخ أبو حامد وغيره- وعليه الأئمة الأربعة، وجمهور الفقهاء. وتنحصر أقوال المخالفين في ثلاثة أقوال: الأول: أن الواجب مسحهما وبه قالت الإمامية من الشيعة. الثاني: أن المتوضئ يميز بين غسلهما ومسحهما، وعليه الحسن البصري وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي. الثالث: أن الواجب غسلهما ومسحهما جميعا، وعليه بعض أهل الظاهر كداود. والصواب هو مذهب الأئمة الأربعة، والجمهور. ينظر: «المسح على الخفين» لشيخنا/ محمد سيد أحمد. (3) الأعقاب: جمع عقب. وهو مؤخر القدم. ينظر: «لسان العرب» (3022) . (4) ورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وجابر، وعبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي، ومعيقيب، وأبو ذر، وخالد بن الوليد، وشر حبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو أمامة، وأخوه. 1- حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (1/ 143) كتاب «الوضوء» ، باب غسل الأعقاب، حديث (165) ، ومسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (28/ 242) وعبد الرزاق (1/ 21) رقم (62) والنسائي (1/ 77) كتاب «الطهارة» ، باب إيجاب غسل الرجلين. والدارمي (1/ 179) كتاب «الطهارة» ، باب ويل للأعقاب من النار. وأحمد (2/ 228، 284، 406، 409، 467، 482) وابن الجارود في «المنتقى» رقم (78، 79) ، وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 75) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 406) ، وأبو عوانة (1/ 251- 252) -

..

_ - والبيهقي (1/ 69) كتاب «الطهارة» ، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل كلهم من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم قال: «ويل للأعقاب من النار» . وأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (30/ 242) ، والترمذي (1/ 58) كتاب «الطهارة» ، باب ما جاء في ويل للأعقاب من النار، حديث (41) وابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب حديث (453) وابن خزيمة (1/ 84) رقم (162) كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به. وللحديث عن أبي هريرة ألفاظ منها: ويل للعقب من النار وويل للعراقيب من النار. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. 2- حديث عبد الله بن عمرو: أخرجه البخاري (1/ 173) كتاب «العلم» ، باب من رفع صوته بالعلم، حديث (60) ، (1/ 228) كتاب «العلم» ، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم حديث (96) ومسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين حديث (27/ 241) ، وأبو داود (1/ 72) كتاب «الطهارة» ، باب في إسباغ الوضوء، حديث (97) والنسائي (1/ 78) كتاب «الطهارة» باب إيجاب غسل الرجلين، وابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» باب غسل العراقيب، حديث (450) وأحمد (2/ 193، 205، 211) وابن خزيمة (1/ 83- 84) رقم (161) والبغوي في «شرح السنة» (1/ 313- بتحقيقنا) عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا. لفظ البخاري. 3- حديث عائشة. وله طرق: فأخرجه ابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب حديث (452) ، وأحمد (6/ 191- 192) ، وابن أبي شيبة (1/ 26) وعبد الرزاق (1/ 23) رقم (69) ، والحميدي (1/ 87) رقم (161) وأبو عوانة (1/ 251) والترمذي في «العلل الكبير» (ص 35) رقم (22) وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 406) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 376) وأبو يعلى (7/ 400) رقم (4426) وابن حبان (1054- الإحسان) والشافعي (1/ 33) كتاب «الطهارة» ، باب في صفة الوضوء، حديث (82) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 167) رقم (70) كلهم من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة قال: توضأ عبد الرّحمن عند عائشة فقالت: يا عبد الرّحمن أسبغ الوضوء، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب من النار» . ومن هذا الوجه صححه ابن حبان. وقال البيهقي: قال أحمد: رواه عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن سالم مولى المهري، عن عائشة، وهو من ذلك الوجه مخرج في كتاب مسلم. وقال الترمذي في «العلل» : سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: حديث أبي سلمة عن عائشة حديث حسن. اهـ. فحديث عائشة من هذا الطريق حسنه البخاري، وصححه ابن حبان. والطريق الذي أشار إليه أحمد. أخرجه مسلم (1/ 213) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين حديث (25/ 240) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 382) ، والبيهقي-

..

_ - (1/ 230) من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن سالم مولى المهري، عن عائشة بمثل الطريق الأول، وقد خولف عكرمة بن عمار في هذا الحديث. خالفه الأوزاعي، وحرب بن شداد، وأبو معاوية النحوي، وعلي بن المبارك، وحسين المعلم، فرووه عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى المهري عن عائشة دون ذكر أبي سلمة، فانفرد عكرمة بن عمار بزيادة أبي سلمة في الإسناد. وكما هو معروف، فإن رواية عكرمة بن عمار عن يحيى مضطربة قال أحمد: عكرمة مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير. وقال ابن المديني: أحاديث عكرمة عن يحيى بن أبي كثير مناكير ليست بذاك كان يحيى بن سعيد يضعفها. وقال البخاري: مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير. وقال أبو داود: ثقة وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير فيه اضطراب. وقال النسائي: ليس به بأس إلا في حديث يحيى بن أبي كثير. ينظر: «التهذيب» (7/ 22) . وقال الحافظ في «التقريب» (2/ 30) : صدوق يغلط، وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير اضطراب. اهـ. ومخالفة الأوزاعي عند أبي عبيد في «كتاب الطهور» (ص 377) ، وأبو عوانة (1/ 230) . وابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 57) رقم (148) . ومخالفة حرب بن شداد عن الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) ومخالفة أبي معاوية النحوي عند أبي عبيد في «كتاب الطهور» (ص 382) ، وابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 57- 58) رقم (148) . ومخالفة علي بن المبارك عند أبي عوانة (1/ 230) . ومخالفة حسين المعلم عند ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 57) رقم (148) . فهؤلاء الخمسة الثقات خالفوا عكرمة بن عمار، فلم يذكروا أبا سلمة في الإسناد. وقد رجح أبو زرعة رواية الأوزاعي، وحسين المعلم، كما في «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 57- 58) رقم (148) . ومما يدل على أن عكرمة بن عمار وهم في هذه الرواية أن جماعة تابعوا يحيى بن أبي كثير، فرووا الحديث عن سالم، عن عائشة، ولم يذكروا أبا سلمة. فأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (25/ 240) ، وأبو عوانة (1/ 230) والبيهقي (1/ 69) كتاب «الطهارة» ، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل، من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن سالم مولى شداد قال: دخلت على عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرّحمن بن أبي بكر، فتوضأ عندها فقالت: يا عبد الرّحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب من النار» . وأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (25/ 240) من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، عن سالم، عن عائشة وأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب-[.....]

..

_ - وجوب غسل الرجلين، حديث (25/ 240) من طريق محمد بن عبد الرّحمن، عن سالم، عن عائشة وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) من طريق أبي الأسود يتيم عروة عن سالم عن عائشة. وللحديث طريق آخر عن عائشة. أخرجه ابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب حديث (451) ، وأبو عوانة (1/ 252) ، والدارقطني (1/ 95) كتاب «الطهارة» ، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. 4- حديث جابر بن عبد الله: أخرجه ابن ماجه (1/ 155) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب، حديث (454) وابن أبي شيبة (1/ 26) ، وأحمد (3/ 369، 393) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 53- منحة) رقم (178) ، وأبو يعلى (4/ 52) رقم (2065) وفي «معجم شيوخه» (ص 70) رقم (15) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 382، 383) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 510) وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 406) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) من طريق الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كريب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للعراقيب من النار» . قال البوصيري في «الزوائد» (1/ 182) ، هذا إسناد رجاله ثقات. اهـ. وللحديث طريق آخر عن جابر. أخرجه الطبراني في «الصغير» (2/ 7) من طريق الوليد بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للعراقيب من النار» . وقال الطبراني: لم يروه عن الأعمش إلا الوليد تفرد به حماد. 5- حديث عبد الله بن الحارث بن جزء. أخرجه أحمد (4/ 191) ، والحاكم (1/ 162) كتاب «الطهارة» وابن خزيمة (1/ 84) رقم (163) ، والدارقطني (1/ 95) كتاب «الطهارة» باب وجوب غسل القدمين والعقبين رقم (1) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 375- 376) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، والبيهقي (1/ 70) كتاب «الطهارة» ، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل وفي «معرفة السنن والآثار» (1/ 169) رقم (72) كلهم من طريق حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم التجيبي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» وقال الحاكم: صحيح، ولم يخرجا ذكر بطون الأقدام، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة. وقال الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 245) ، رواه أحمد، والطبراني في «الكبير» ... ورجال أحمد والطبراني ثقات. 6- حديث معيقيب: أخرجه أحمد (5/ 425) والطبراني في «الكبير» (20/ 350) رقم (822) من طريق أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للأعقاب من النار» . وعلقه الترمذي في «العلل الكبير» (ص 35) عن أيوب بن عتبة به وقال الترمذي: سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي سلمة عن معيقيب: ليس بشيء كان أيوب لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه، فلا أحدث عنه، وضعف أيوب بن عتبة جدا. اهـ. -

..

_ - والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 245) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه أيوب بن عتبة، والأكثر على تضعيفه اهـ. وأيوب بن عتبة ضعفه أحمد وابن معين، وابن المديني، والجوزجاني، ومسلم، والبخاري، والعجلي، وأبو حاتم وغيرهم، كما في «التهذيب» (1/ 408- 409) . وقال الذهبي في «المغني» (1/ 97) ، ضعفوه، لكثرة مناكيره. وقال الحافظ في «التقريب» (1/ 90) ، ضعيف. 7- حديث أبي ذر الغفاري: أخرجه عبد الرزاق (1/ 22) رقم (64) من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن رجل، عن أبي ذر قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نتوضأ، فقال: «ويل للأعقاب من النار» فطفقنا نغسلها غسلا، وندلكها دلكا. وزاد نسبته السيوطي في «الأزهار المتناثرة» (ص 26) إلى سعيد بن منصور. 8- حديث خالد بن الوليد وشرحبيل، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان: أخرجه ابن ماجة (1/ 155) «كتاب الطهارة» ، باب غسل العراقيب، حديث (455) من طريق أبي صالح الأشعري، حدثني أبو عبد الله الأشعري، عن خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص كل هؤلاء سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتموا الوضوء ويل للأعقاب من النار» . والحديث قال البخاري كما في «علل الترمذي الكبير» (ص 35) : وحديث أبي عبد الله الأشعري «ويل للأعقاب من النار» حديث حسن اهـ. وصححه ابن خزيمة (665) . وقال البوصيري في الزوائد (1/ 182) ، هذا إسناد حسن، ما علمت في رجاله ضعفاء اهـ. 9- حديث أبي أمامة وأخيه: أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 347) رقم (8109) من طريق علي بن مسهر، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة وأخيه قالا: أبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوما يتوضئون، فقال: «ويل للأعقاب من النار» . وأخرجه الطبراني (8/ 347- 348) رقم (8110، 8111، 8112، 8114، 8115) من طرق عن ليث عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة- وحده- به. وأخرجه الدارقطني (1/ 108) كتاب «الطهارة» ، باب ما روي في فضل الوضوء حديث (4) والطبراني (8/ 348- 349) رقم (8116) من طريق عبد الواحد بن زياد عن ليث، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة، أو عن أخي أبي أمامة ... فذكره. وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 245) ، رواه الطبراني في «الكبير» من طرق ففي بعضها عن أبي أمامة وأخيه، وفي بعضها عن أبي أمامة فقط، وفي بعضها عن أخيه فقط ... ومدار طرقه كلها عن ليث بن أبي سليم وقد اختلط. اهـ. وحديث «ويل للأعقاب من النار» صرح السيوطي بتواتره في «الأزهار المتناثرة» (ص 26) رقم (16) وتبعه الشيخ أبو الفيض الكناني (ص 68، 69) وقال: وممن صرح بأنه متواتر الشيخ عبد الرءوف المناوي في «شرح الجامع الصغير» ، وشارح كتاب «مسلم الثبوت» في الأصول اهـ.

ومَنْ قرأ «وَأَرْجُلِكُمْ» - بالخَفْض-، فإنه أراد المَسْح على الخُفَّيْن «1» وهو أحد التأويلاتِ في الآية. انتهى، وهذا هو الذي صحَّحه في «أحْكَامِهِ» . والكلامُ في قوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما تقدَّم في قوله: إِلَى الْمَرافِقِ، وفي «صحيح مسلم» وغيره عن عُقْبَة بْنِ عامر، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يتوضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثِمَّ يَقُومُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة» ، فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدُ هذِهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمّدا عبده

_ (1) المسح في اللغة إمرار اليد على الشيء تقول: مسحت الشيء بالماء مسحا إذا أمررت اليد عليه، والمسح على الخفين شرعا إصابة البلة للخف الشرعي على وجه مخصوص، فقولنا: «إصابة» يشمل ما لو كانت بيده بأن أمرّ يده وهي مبتلّة على الخف، أو قطر الماء عليه منها، أو وضعها عليه من غير إمرار، وهي مبتلة، أو غيرها كأن أصاب المطر الخفّ فابتلّ مع نية لابسه المسح بذلك. وقولنا: «للخف الشرعي» يخرج إصابتها لغيره، سواء كان ذلك الغير خفّا غير شرعي، أو لم يكن خفّا. وقولنا: «على وجه مخصوص» إشارة إلى الكيفية والشروط والمدة، وإلى النية، ولو حكما بأن يقصد بمسحه رفع حدث الرجلين بدلا عن غسلهما، فخرج ما لم يكن كذلك. والخف لغة مجمع فرس البعير «والفرس للبعير كالحافر للفرس» وقد يكون للنعام، سوّوا بينهما للتّشابه، وجمعه: أخفاف كقفل وأقفال، والخف أيضا واحد الخفاف التي تلبس، وجمعه: خفاف ككتاب للفرق بينه وبين ما للبعير، وفي «اللسان» أنه يجمع على خفاف وأخفاف أيضا، ويقال: تخفّف الرجل إذا لبس الخفّ في رجليه. وخفّ الإنسان ما أصاب الأرض من باطن قدميه، والخف أيضا القطعة الغليظة من الأرض. وشرعا: السّاتر للقدمين إلى الكعبين من كل رجل من جلد ونحوه، والمستوفي للشروط. هذا وعبر النووي بالخف وعبر شيخ الإسلام بالخفين وقال: هو أولى من تعبيره بالخف، لأنه يوهم جواز المسح على خف رجل، وغسل الأخرى، وليس كذلك، فكان الأولى أن يعبر بالخفين، ويمكن أن يوجه تعبيره بالخف بأن «أل» فيه للجنس، فيشمل ما لو كان له رجل واحدة لفقد الأخرى، وما لو كان له رجلان فأكثر، وكانت كلها أصلية، أو كان بعضها زائدا، أو اشتبه بالأصلي، أو سامت به، فيلبس كلّا منها خفّا، ويمسح على الجميع. وأما إذا لم يشتبه، ولم يسامت، فالعبرة بالأصلي دون الزائد، فيلبس الأول خفّا دون الثاني، إلا أن توقّف لبس الأصلي على الزائد، فيلبسه أيضا. أو أنها للعهد الشرعي، أي الخف المعهود شرعا وهو الاثنان. قال علي الشبراملي: وهذا الجواب أولى من الأول لأنه لا يدفع الإيهام لأن الجنس كما يتحقق في ضمن الكل، كذلك يتحقق في ضمن واحدة منهما. أما تعبير شيخ الإسلام بالخفين فإنه يرد عليه أيضا أنه لا يشمل الخف الواحد فيما لو فقدت إحدى رجليه، إلا أن يقال: إنه نظر للغالب وقال القليوبي: ويطلق الخفّ على الفردتين، وعلى إحداهما. فعلى هذا استوت العبارتان. ينظر: «المغرب» (2/ 266) ، و «لسان العرب» (6/ 4196) ، وينظر: «بدائع الصنائع» (1/ 99) ، و «المدونة» (1/ 41) ، و «الأم» (1/ 29) ، و «المغني» (1/ 268) ، و «المحلى» (1/ 92) .

وَرَسُولُهُ إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» ، وأخرجه الترمذيُّ من حديثِ أَبِي إدْرِيسَ الخَوْلاَنِيِّ، عن عمر، زاد في آخره: «اللَّهُمَّ، اجعلني مِنَ التَّوَّابِينَ، واجعلني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ» «1» . انتهى مختصراً. واختلَفَ اللغويُّونَ في الْكَعْبَيْنِ. والجمهورُ على أنهما العَظْمَانِ الناتِئَانِ في جنبتي «2» الرجل.

_ (1) أخرجه مسلم كتاب «الطهارة» ، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، حديث (234) ، وأحمد (1/ 19، 4/ 145- 146، 153) وأبو داود (1/ 29) كتاب «الطهارة» ، باب ما يقول الرجل إذا توضأ حديث (169، 170) ، والنسائي (1/ 92- 93) كتاب «الطهارة» ، باب القول بعد الفراغ من الوضوء، والدارمي (1/ 182) كتاب «الطهارة» ، باب القول بعد الوضوء، وأبو يعلى (1/ 162) رقم (180) . (2) والكعبان هما: العظمان الناتئان، من جانبي القدمين، عند مفصل الساق والقدم. هذا مذهب الشافعية، وبه قال الجمهور من المفسرين، وأهل الحديث، وأهل اللغة، والفقهاء. وقال محمد: الكعب: هو موضع الشّراك على ظهر القدم وحكى هذا عن أبي يوسف، وبه قالت الإمامية من الشيعة، وقيل عنهم: قالوا: في كل رجل كعب واحدة «وهي عظم مستقر في وسط القدم» . وقال الفخر الرازي: إن الكعب عند الشيعة: عبارة عن عظم مستدير، موضوع تحت عظم الساق، حيث يكون مفصل الساق والقدم. ودليلنا عليهم: الكتاب، والسنة، والإجماع، واللغة، والاشتقاق: أما الكتاب: فقوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] وهذا يقتضي أن يكون في كل رجل كعبان، وهو لا يكون إلا على مذهبنا، فلو كان في كل رجل كعب واحدة- كما قالوا- لقال: «إلى الكعاب» كما قال: إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] . وأمّا السّنة: أولا: ما رواه مسلم، عن عثمان- رضي الله تعالى عنه- في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثمّ اليسرى كذلك» . ثانيا: ما رواه أبو داود، والبيهقي، وغيرهما بأسانيد جيدة، عن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل علينا بوجهه، وقال: «أقيموا صفوفكم» فلقد رأيت الرّجل منّا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه» ، وموضع الدلالة منه: قوله: «يلصق كعبه بكعب صاحبه» وهذا لا يكون إلا في الكعب الذي قلنا. ثالثا: ما روي: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لجابر بن سليم رضي الله عنه: «ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين» ، فدل على أن الكعبين أسفل الساق، لا ما قالوا من ظاهر القدم. وأما الإجماع: فما قال الشافعي في «الأم» : «ولم أسمع مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل: في الوضوء الكعبان الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم. وأما اللغة: فقال الماورديّ: حكي عن قريش كلهم، ولا يختلف لسانهم- أن الكعب: اسم للناتىء بين الساق والقدم، قال: وهم أولى بأن يعتبر لسانهم في الأحكام من أهل «اليمن» لأن القرآن نزل بلغتهم. وأما الاشتقاق: فهو أن الكعب: اسم لما استدار وعلا، وهو مشتق من التكعب، وهو النتوء مع الاستدارة ولذلك قالوا: كعب ثدي الجارية، إذا استدار وعلا، ويقال: جارية كاعب، إذا أنهد ثديها-

وألفاظُ الآيةِ تقتضِي المُوَالاَةَ بَيْن الأعضاء، قال مالك: هو فرضٌ مع الذِّكْر، ساقِطٌ مع النِّسْيان، وروى الدَّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ على وُضُوئِهِ، كَانَ طُهُوراً لِجَسَدِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَذْكُرِ اسم اللَّهِ على وُضُوئِهِ كَانَ طُهُوراً لأعْضَائِهِ» «1» . انتهى من «الكوكب الدري» . وكذلك تتضمَّن ألفاظ الآيةِ الترتيبَ، وفَاطَّهَّرُوا أمر لواجد الماء عند الجمهور،

_ - (أي: استدار وعلا) ، ومنه سميت الكعبة كعبة لاستدارتها، وهذه صفة الكعب الذي قلناه لا الذي قالوه. فإن قيل: البهائم لها في كل رجل كعب واحد، فكذلك الآدمي، قلنا: خلقة الآدمي خلاف خلقة البهيمة لأن كعب البهيمة فوق ساقها، وكعب الآدمي في أسفله، فلا يلزم اتفاقهما، فليس لهؤلاء المخالفين حجة تذكر. وإذا علم أن الكعبين ما ذكر، نقول: لا خلاف عندنا في أنه يجب إدخال الكعبين مع القدمين في الغسل، فهما من محل الفرض وبه قال الجمهور، وخالف فيه زفر، وأبو بكر ابن داود، وقالا: لا يجب غسل الكعبين. ودليلنا: أولا: قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] ، تقريره: أن «إلى» إن كانت بمعنى «مع» كما في قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [البقرة: 14] ، أي: مع شياطينهم، وكقوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52] أي: مع الله، فدخول الكعبين في محل الفرض ظاهر، وإن كانت حدّا وغاية، فقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود، دخل في جملته، وإن كان من غير جنسه لم يدخل، ألا تراهم يقولون: بعتك الثوب من الطرف إلى الطرف، فيدخل الطرفان في المبيع لأنهما من جنسه، وما معنا الحد فيه من جنس المحدود، فيكون الكعبان داخلين في محل الفرصة وأيضا الإجماع، والاحتياط، وعدم إمكان بيان فاصل بين الكعبين والقدم- قرائن على دخولهما. وثانيا: ما رواه مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه توضأ، فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ، فثبت غسله صلّى الله عليه وسلّم للكعبين، وفعله بيان للوضوء المأمور، ولم ينقل تركه ذلك. واحتجوا أولا: بأن «إلى» لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية يكون خارجا، ولذلك لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام في قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] فلم يدخل غسل الكعبين في جملة الغسل. قلنا أولا: إنما لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام لأنه ليس من جنس النهار، بخلاف ما معنا، وثانيا: قيام القرينة على خروج الليل، وهي عدم وجوب الوصال في الصوم. واحتجوا ثانيا: بأن خروج الكعبين متيقن، ودخولهما مشكوك فيه، فيقدم اليقين على الشك. قلنا أولا: لا نسلم أن الشك موجود، فإنه قد رفع بالإجماع على وجوب غسل الكعبين، ولو سلم فالاحتياط أولى. ينظر: «المسح على الخفين» لشيخنا/ محمد سيد أحمد. (1) أخرجه الدارقطني (1/ 74) ، كتاب «الطهارة» ، باب التسمية على الوضوء.

وقال عمرُ بْنُ الخطَّاب وغيره: لا يتيمَّمِ الجُنُبُ ألبتَّة، بل يدع/ الصلاةَ حتى يجد الماء «1» . وقوله سبحانه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ... الآية: الإرادة صفَةُ ذاتٍ، وجاء الفعْلُ مستقبلاً مراعاةً للحوادِثِ التي تَظْهَرُ عن الإرادة، والحَرَجُ: الضِّيق، والحرجة: الشَّجرُ الملْتَفُّ المتضايقُ، ويَجْرِي مع معنى هذه الآية قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ» ، وقوله- عليه السلام-: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» «2» ، وجاء لَفْظُ الآية على العُمُومِ، والشَّيْءُ المذكُورُ بقُرْبٍ هو أمر التيمُّمِ، والرُّخْصَة فيه، وزوالُ الحَرَجِ في تحمُّل الماءِ أبداً ولذلك قال أُسَيْدٌ: «مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» «3» . وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ... الآية: إعلامٌ بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضّله تبارك وتعالى، ولَعَلَّكُمْ: ترَجٍّ في حقِّ البَشَرِ، وفي الحديثِ الصحيحِ عن أبِي مالك الأشعريِّ «4» ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن، أو تملأ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» ، رواه مُسْلِم، والترمذيُّ، وفي روايةٍ له: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» ، وزاد في رواية أخرى: «وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حجاب حتّى تخلص إليه» «5» . انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 165) . (2) تقدم تخريجه. (3) ذكره ابن عطية (2/ 165) . (4) كعب بن مالك، وقيل: كعب بن عاصم قال ابن حجر في الإصابة: قال سعيد البردعي: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يقول: أبو مالك الأشعري اسمه: عمرو. تنظر ترجمته في: «الاستيعاب» (4/ 1445) ، «تلقيح فهوم أهل الأثر» (367) ، «الكاشف» (3/ 373) ، «الإصابة» (7/ 168) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 218) ، «الكنى والأسماء» (1/ 52، 188) ، «تقريب التهذيب» (2/ 468) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1643) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 199) ، «أسد الغابة» (6/ 272) . (5) أخرجه مسلم (1/ 203) كتاب «الطهارة» ، باب فضل الوضوء، حديث (1/ 223) ، والنسائي (5/ 5) كتاب «الزكاة» ، باب وجوب الزكاة، وابن ماجة (1/ 102- 103) كتاب «الطهارة» ، باب الوضوء شطر الإيمان، حديث (280) والدارمي (1/ 167) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في الطهور، وأبو عوانة (1/ 223) ، وابن أبي شيبة (1/ 6) والطبراني في «الكبير» (3/ 322) رقم (3423، 3424) والبيهقي (1/ 42) كتاب «الطهارة» ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 250، 251- بتحقيقنا) عن أبِي مالك الأشعريِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، ولا إله إلا الله والله أكبر-

[سورة المائدة (5) : الآيات 7 إلى 10]

[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 10] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ ... الاية: خطابٌ للمؤمنين، ونِعْمَةُ اللَّهِ: اسْمُ جنْسٍ، يجمع الإسلامَ، وحُسْنَ الحالِ، وحُسْنَ المَآلِ، والميثاقُ: هو ما وقع للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بَيْعَةِ العَقَبَةِ، وَبَيْعَةِ الرِّضْوان، وكلُّ موطِنٍ قال الناسُ فيه: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ، هذا قولُ ابنِ عبَّاس «1» وجماعةٍ من المفسِّرين. وقال مجاهدٌ: المرادُ: الميثاقُ المأخوذُ على النَّسَمِ حين استخرجوا مِنْ ظَهْر آدم- عليه السلام-. والأوَّل أرجَحُ وألْيَقُ بنَمَطِ الكلامِ، وباقي «2» الآية بيِّن متكرِّر، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه «بهجة المجالس» : روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» «3» ، وعن ابن عباس مثله. انتهى [سورة المائدة (5) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ... الآية:

_ - يملآن ما بين السماء وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقرآن حجة لك أو عليك، وكل الناس يغدو فبعتقها أو موبقها» . (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 165) . [.....] (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 165) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 469) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد. (3) أخرجه أبو يعلى (6/ 66) رقم (3316) من حديث أنس، وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 214) وقال: رواه أبو يعلى، والطبراني في «الأوسط» ، وفيه سهيل بن أبي حزم، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. والحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (10416) ، وعزاه إلى أبي يعلى، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» ، والبيهقي في «البعث» ، وابن عساكر، عن أنس.

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 إلى 13]

خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، والجمهورُ أنَّ سبب هذه الآية أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لمَّا استعان بيَهُودَ في ديةِ الرَّجُلَيْنِ اللذَيْن قَتَلَهُما عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وصاحِبُه، قالوا: نَعَمْ، يَا أَبَا القَاسِمِ، انزل حتى نَصْنَعَ لَكَ طَعَامَاً، وَنَنْظُرَ فِي مَعُونَتِكَ، فَنَزَلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم فِي ظِلِّ جِدَارٍ وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَتَآمَرَتْ يَهُودُ فِي قَتْلِهِ، وَقَالُوا: مَنْ رَجْلٌ يَظْهَرُ عَلَى الحَائِطِ، فَيَصُبُّ عَلَيْهِ حجرا يشدخه، فجاء جبريل، فأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقام صلّى الله عليه وسلّم مِنَ المَكَانِ، وَتَوَجَّهَ إلَى المَدِينَةِ، ونزلَتِ الآيةُ في ذلِكَ ويترجَّح هذا القولُ بما يأتِي بَعْدُ من الآياتِ في وَصْفِ غَدْر يهودَ، ونقضهم المواثيق. [سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 13] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً: هذه الآيةُ المتضمِّنة للخَبَرِ عن نَقْضِهِمْ مواثيقَ اللَّه تعالى- تُقَوِّي أنَّ الآية المتقدِّمة في كَفِّ الأَيْدِي، إنَّما كانَتْ في/ أمر بني النَّضِيرِ، والإجماعُ على أنَّ النقيب كَبِيرُ القَوْمِ، القائمُ بأمورهم، قال قتادة وغيره: هؤلاءِ النُّقَبَاءُ قوْمٌ كبارٌ مِنْ كُلِّ سبْطٍ، تكَفَّل بكلِّ واحدٍ سِبْطُهُ، بأنْ يؤمنوا ويلتزموا التقوى «1» . قال ع «2» : ونحو هذا كانَتِ النقباءُ ليلَةَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ، مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والضميرُ في مَعَكُمْ، لبني إسرائيل، أيْ: معكم بنَصْري، وحِيَاطَتِي، وتأييدي، واللام في قوله: لَئِنْ: هي المُؤْذِنَةُ بمجيء القَسَمِ، ولامُ القَسمِ هي قوله: لَأُكَفِّرَنَّ والدليل على أنَّ هذه اللام إنما هي مؤذنةٌ: أنَّهَا قد يستغنى عنها أحياناً، ويتمُّ الكلامُ دونها، ولو كانَتْ لاَمَ قَسَمٍ، لم يترتَّب ذلك، وإقامةُ الصلاةِ: توفيةُ شروطها، والزكاةُ هنا: شَيْءٌ من المالِ كان مفروضاً عليهم فيما قال بعضُ المفسِّرين، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: معناه: وقّرتموهم، وعظّمتموهم،

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 472) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة بنحوه. (2) ينظر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 168) .

[سورة المائدة (5) : آية 14]

ونَصَرْتُموهم، وقرأ عاصمٌ «1» الجَحْدَرِيُّ: «وَعَزَرْتُمُوهُمْ» - خفيفة الزاي- حيثُ وقع، وقرأ في «سورة الفتحِ» : «وتَعْزُرُوهُ» - بفتح التاء، وسكونِ العينِ، وضمِّ الزاي-، وسَواءُ السَّبِيلِ: وَسَطُه، وسائرُ ما في الآية بَيِّن، واللَّه المستعان. وقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ... الاية: أيْ: فبنقضِهِمْ، والقَسْوَةُ: غَلِظ القَلْب، ونُبُوُّهُ عن الرِّقَّة والمَوْعِظَة، وصَلاَبَتُهُ حتى لا ينفعلَ لخَيْرٍ. وقوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: نصٌّ على سوءِ فِعْلِهِمْ بأنفسهم، أي: قد كان لهم حظٌّ عظيمٌ فيما ذُكِّروا به، فَنَسُوه، وتركُوه، ثم أخبر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنه لا يَزَالُ في مستأْنَفِ الزَّمان يطَّلع على خائِنَةٍ منهم، وغائلةٍ، وأمورٍ فاسدةٍ. قالت فرقة: خَائِنَة: مصدرٌ، والمعنى: على خِيَانَةٍ، وقال آخرون: معناه: على فرْقَةٍ خائِنَةٍ، فهي اسمُ فاعلٍ صفةٌ لمؤنَّث. وقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ: منسوخٌ بما في «براءة» ، وباقي الآية بيِّن. [سورة المائدة (5) : آية 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: «مِنْ» : متعلِّقة ب أَخَذْنا، التقديرُ: وأخذْنَا مِنَ الذين قالُوا: إنَّا نصارى ميثاقَهُمْ، ويحتملُ أنْ تكون معطوفةً على خائِنَةٍ مِنْهُمْ، والأولُ أرجَحُ، وعلَّق قولهم: «نصارى» بقولهم ودعواهم مِنْ حيث هو اسمٌ شرعيٌّ يقتضي نَصْرَ دينِ اللَّه، وسَمَّوْا به أنفُسَهُمْ دُون استحقاق. وقوله سبحانه: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ: أي: أثبتْنَاها بيْنَهم وألْصَقْنَاها، والإغْرَاءُ: مأخوذ من الغِرَاءِ الذي يُلْصَقُ به، وقال البُخَارِيُّ: الإغراءُ: التسليط. انتهى. والضمير في بَيْنَهُمُ يحتملُ أنْ يعود على اليَهُودِ، والنصارى لأنَّ العداوةَ بَيْنهم موجودةٌ مستمرَّةٌ، ويحتملُ أن يعود على النصارى فقطْ لأنها أُمَّة متقاتِلَةٌ بينها الفِتَنُ إلى يَوْم القيامة، ثم توعَّدهم بعذابِ الآخرة إذْ صُنْعهم كُفْرٌ يوجب الخُلُود في النار.

_ (1) ورويت عن عمر بن الخطاب كما في الشواذ (ص 38) ، وينظر: «المحتسب» (1/ 208) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 168) ، و «البحر المحيط» (3/ 460) ، و «الدر المصون» (2/ 500) .

واعلَمْ (رحمك اللَّه) أنه قَدْ جاءَتْ آثارٌ صحيحةٌ في ذَمِّ الشحناءِ والتباغُضِ والهِجْرَانِ لغَيْر موجِبٍ شرعيٍّ، ففي «صحيح مُسْلِمٍ» ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنَ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيه شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا» ، وفي روايةٍ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ خَمِيسٍ واثنين، فَيَغْفِرُ اللَّهُ فِي ذلك اليوم/ لكلّ امرئ لاَ يُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئاً ... » الحديث «1» . انتهى. وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «لاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ مُسْلِماً فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَإنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا على صِرَامِهِمَا، فَأَوَّلُهُمَا فَيْئاً يَكُونُ سَبْقُهُ بِالفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ، وَإنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلاَمَهُ، رَدَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ، وَرَدَّتْ عَلَى الآخَرِ الشَّيَاطِينُ، وإذَا مَاتَا على صِرَامِهِمَا، لَمْ يَدْخُلاَ الجَنَّةَ» ، أُرَاهُ قَالَ: أَبَداً «2» . انتهى، وسنده جيِّد، ونصَّه قال ابن المبارك: أخبرنا شعبةُ عَنْ يزيدَ الرِّشْكِ «3» ، عن مُعَاذَةَ العَدَوِيَّةِ «4» ، قَالَتْ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عامر «5» يقول: سمعت

_ (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 908- 909) ، كتاب «حسن الخلق» ، باب ما جاء في المهاجرة، حديث (17) ومسلم (4/ 1986) كتاب «البر والصلة» ، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، حديث (35/ 2565) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 271) رقم (784) والبخاري في «الأدب المفرد» (402) ، وأحمد (4/ 20) ، وابن حبان (5664) من طريق يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، عن هشام بن عامر به. وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 69) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجال أحمد رجال الصحيح. (3) يزيد بن أبي يزيد الضّبعي بضم المعجمة مولاهم أبو الأزهر البصري الذارع القسّام الرّشك بكسر المهملة وإسكان المعجمة. عن: مطرّف بن الشّخّير. وعنه: شعبة، ومعمر. وثقه أبو حاتم. قال ابن منجويه: مات سنة ثلاثين ومائة. له في (البخاري) فرد حديث. ينظر: «الخلاصة» (3/ 179) . (4) معاذة بنت عبد الله العدويّة أم الصّهباء البصرية العابدة، عن علي وعائشة، وعنها أبو قلابة ويزيد الرّشك وأيوب وعاصم الأحول وطائفة، قال ابن معين: ثقة حجة، قال الذهبي: بلغني أنها كانت تحيي الليل، وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في القبور، قال ابن الجوزي: توفيت سنة ثلاث وثمانين. ينظر: «الخلاصة» (3/ 393) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1698) ، «الكاشف» (3/ 481) ، «أعلام النساء» (5/ 60) ، «سير الأعلام» (4/ 508) . (5) هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بمهملات ابن مالك. عن عامر بن غنم بن عدي بن النّجّار الأنصاري النّجّاري، صحابي نزل البصرة، له أحاديث، انفرد له مسلم بحديث. وعنه ابنه سعد ومعاذة العدوية. -

[سورة المائدة (5) : الآيات 15 إلى 17]

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فذكر الحديثَ. وقوله: «لَمْ يدخُلاَ الجَنَّةَ» : ليس على ظاهره، أيْ: لم يدخُلاَ الجَنَّة أبداً حتى يقتصَّ لبعضهم من بعض، أو يقع العفو، أو تحلَّ الشفاعة حَسْبما هو معلومٌ في صحيح الآثار. [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 17] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وقوله سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ ... الآية: أهْلُ الكتابِ: لفظٌ يعمُّ اليهودَ والنصارى، ولكنْ نوازل الإخفاء كالرَّجْم وغيره، إنما حُفِظَتْ لليهود لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مهاجره، وفي إعلامه صلّى الله عليه وسلّم بِخَفِيِّ ما في كُتُبِهِمْ، وهو أُمِّيٌّ لاَ يَكْتُبُ، ولا يَصْحَبُ القُرَّاءَ- دليلٌ على صحَّة نبوَّته لو ألهمهم اللَّه للخَيْر، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ: أي: لم يفْضَحْهم فيه إبقاءً عليهم، والضمير في يَعْفُوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ: هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وكِتابٌ مُبِينٌ: هو القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ موسى- عليه السلام-، والتوراةُ: أي: لو اتبعتموها حقَّ الاِتِّباع، والأوَّل هو ظاهر الآية، وهو أظهر، وسُبُلَ السَّلامِ: أي: طُرُقَ السلامةِ والنَّجَاةِ، ويحتملُ أنْ يكون «السَّلاَم» هنا اسما من أسماءِ اللَّه عزّ وجلّ، فالمعنى: طرق الله، والظُّلُماتِ: الكفر، والنُّورِ: الإيمان، وباقي الآية بيِّن متكرِّر. وقوله سبحانه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ: أيْ: لا مَالِكَ، ولا رادَّ لإرادةِ اللَّه تعالى في المسيحِ، ولا في غَيْرِهِ. وقوله سبحانه: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ: إشارةٌ إلى خلقه المسيحَ في رَحِمِ مَرْيَمَ من غير

_ - ينظر: «الخلاصة» (3/ 114) ، «الكاشف» (3/ 222) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1440) ، «تهذيب التهذيب» (11/ 42) .

[سورة المائدة (5) : آية 18]

والد، بل اختراعاً كآدم- عليه السلام-. وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: عُمُومٌ معناه الخُصُوصُ فيما عدا الذَّات، والصفاتِ، والمحالاتِ. [سورة المائدة (5) : آية 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... الآية: البُنُوَّة في قولهم هذا: بنوةُ الحَنَانِ والرأفة، لأنهم ذكروا أن اللَّه سبحانه أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلّوا بذلك، وقالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، ولو صح ما رَوَوْا، لكان معناه: بِكْراً في التشريف أو النبوَّة، ونحوه، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبيُّ- عليه السلام- إلى الإيمان به، وخوفِهِم العذابَ، فقالوا: نحن لا نخافُ ما تقول لأنا أبناء اللَّه وأحبَّاؤه ذكر ذلك ابن عباس «1» ، وقد كانوا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غير ما موطنٍ: نحن نَدْخل النار، فنقيم فيها أربعين يوماً، فردَّ اللَّه عليهم قولهم، فقال لنبيه- عليه السلام-: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ/ بِذُنُوبِكُمْ: أي: لو كانتْ منزلتكم منه فوق منازِلِ البَشَر، لَمَا عذَّبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذِّبكم، ثم ترك الكلامَ الأوَّل، وأضرب عنه غَيْرَ مفسدٍ له، ودخل في غيره، فقال: بَلْ أنتم بشَرٌ كسائر الناسِ، والخلقُ أكرمُهم عند اللَّه أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان، فيغفرُ له ويُورِّطُ من يشاء في الكُفْر، فيعذِّبه، وله ملك السموات والأرض وما بينهما، فله بحق المُلْك أنْ يفعل ما يشاء، ولا معقِّب لحُكْمه، وإليه مصير العباد بالحشر والمعاد. [سورة المائدة (5) : آية 19] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ: يعني: اليهودَ والنصارى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا: محمد- عليه السلام-. وقوله: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ: أي: على انقطاعٍ من مجيئهم مدَّةً ما، والفترة:

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 505) (11616) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 172) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 476) ، وعزاه لابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.

[سورة المائدة (5) : الآيات 20 إلى 22]

سُكونٌ بعد حَرَكَةٍ في الأجرام، ويستعار ذلك للمعانِي، وقد قال- عليه السلام-: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَةٌ، ولِكُلِّ شِرَةٍ فَتْرَةٌ» ، وفي الصحيح أنَّ الفترة التي كانت بين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وبين عيسى سِتُّمائةِ سَنَةٍ، وهذه الآية نزلَتْ بسبب قولِ اليهود: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ بَعد موسى مِنْ شَيْءٍ قاله ابن عَبَّاس «1» . وقوله: أَنْ تَقُولُوا: معناه: حِذَاراً أنْ تقولوا يوم القيامة: مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وقامتِ الحُجَّة عليكم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الهادي والمضلّ لا ربّ غيره. [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 22] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ... الآية: المعنى: واذكُرْ لهم، يا محمَّد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحقَّقوا نبوَّتك، ثمَ عَدَّدَ عيُونَ تلك النِّعم، فقال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ: أي: حاطةٌ، ومنقذون من النار، وشَرَفٌ في الدنيا والآخرة، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً، أي: فيكم ملوكاً لأن المُلْك شَرَفٌ في الدنيا، وحَاطَةٌ في نوائبها، وَآتاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ، قال مجاهد: هو المَنُّ والسلوى، والحَجَر، والغَمَام «2» ، وقال غيره: كثرة الأنبياء وعلى هذا القول: فالعالَمُونَ على العموم، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى، فالعَالَمُونَ عالَمُ زمانهم لأنَّ ما أوتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من آيات الله أكثر من ذلك، والْمُقَدَّسَةَ معناه: المطهَّرة، قال ابن عباس: هي الطُّور وما حوله «3» ، وقال قتادة: هي الشام «4» ، ...

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 507) (11619) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 173) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 476) وعزاه لابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 511) (11642) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 24) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 478) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد. [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 511) (11649) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 174) . (4) . أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 513) (11650) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 478) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة.

[سورة المائدة (5) : الآيات 23 إلى 26]

قال «1» الطبريُّ: ولا يختلف أنَّها بيْنَ الفُرَاتِ وعريشِ مِصْرَ. قال ع «2» : وتظاهرت الرواياتُ أنَّ «دِمَشْقَ» هي قاعدةُ الجَبَّارِينَ، ثم حذَّرهم موسى الارتداد على الأدبار، وذلك هو الرجوعُ القهقرى، والخاسرُ: الذي قد نقص حظُّه، ثم ذكر عز وجل أنهم تعنّتوا ونكصوا، فقالوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، والجَبَّار: من الجَبْر كأنه لِقُدْرته وغَشْمه وبَطْشه يَجْبُرُ الناس على إرادته، والنَّخْلَةُ الجُبَارَةُ: العاليةُ التي لا تُنَالُ بيدٍ، وكان من خبر الجَبَّارين أنهم كانوا أهلَ قوَّة، فلما بعث موسى الإثْنَيْ عَشَرَ نقيباً مُطَّلِعِينَ من أمر الجبَّارين، وأحوالهم، رأَوْا لهم قوةٌ وبطْشاً وتخيَّلوا أن لا طاقة لهم بهم، فتعاقدوا بينهم على أنْ يُخْفُوا ذلك مِنْ بني إسرائيل، وأنْ يعلموا به موسى ليرى فيه أمر ربه، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل، خان منهم عَشَرة، فعرَّفوا قراباتِهِمْ، ومَنْ وثِقُوا به، ففشا الخَبَر حتى اعوجّ أمر بني إسرائيل، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] ، ولم يفِ مِنَ النُّقَبَاء إلا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يوفتّا/، ويقال فيه: «كالوث» (بثاء مثلّثة) . [سورة المائدة (5) : الآيات 23 الى 26] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) وقوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي: يخافُونَ اللَّه سبحانَهُ قال أكْثر المفسِّرين: الرجُلاَن يُوشَعُ بنُ نُونٍ، وهو ابنُ أخْتِ موسى، وكَالِبُ بْنُ يُوفَتَّا، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان الصحيحِ، ورَبْطِ الجَأْشِ، والثبوتِ، وقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ... الآية: عبارةٌ تقتضي كفراً، وقيل: المعنى: فاذهب أنْتَ وربك يعينُكَ، وأنَّ الكلام معصية لا كُفْر، وذكر ابن إسحاق وغيره أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلَّم النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَسْنَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ «3» ، ثُمَّ تَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بنَحْوِ هذا المعنى» ، ولما

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 513) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 174) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 521) (11685) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 25) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 176) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 480) ، وعزاه لأحمد عن طارق بن شهاب.

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 إلى 30]

سَمِعَ موسى- عليه السلام- قولهم، ورأى عصيانهم، تبرَّأ إلى اللَّه منهم، وقال داعياً عليهم: رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، يعني: هارونَ. وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا: دعاء حرجٍ، والمعنى: فافرق بيننا وبينهم حتى لا نشقى بفسقهم، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي: قال اللَّه، وحرَّم اللَّه تعالى على بني إسرائيل دخولَ تلك المدينة أربعين سنةً يتيهونَ في الأرض، أي: في أرض تلك النازلة، وهو فَحْص التيه وهو على ما يحكى: طولُ ثلاثين ميلاً «1» ، في عَرْضِ ستَّةِ فراسِخَ، ويروى أنه لم يدخلِ المدينةَ أحد من ذلك الجِيلِ إلاَّ يُوشَعَ، وكَالُوث، وروي أنَّ يُوشَعَ نُبِّىءَ بعد كمالِ الأربعين سنَةً، وخرَجَ ببني إسرائيل من التيه، وقاتل الجَبَّارين، وفتح المدينةَ، وفي تلك الحَرْب، وقفَتْ له الشمسُ ساعةً، حتى استمرَّ هزم الجبَّارين، والتيه: الذَّهَاب في الأرض إلى غير مقصِدٍ معلوم. وقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ معناه: فلا تحزَنْ، والخطابُ بهذه الآية لموسى- عليه السلام-، قال ابنُ عباس: ندم موسى على دعائه على قومه، وحزن عليهم، فقال الله له: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «2» . [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 30] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) وقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ... الآية: اتل: معناه: اسرد وأَسْمِعْهم إياه، وهذه مِنْ علوم الكتب الأُوَلِ، فهي مِنْ دلائل نبوَّة نبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم إذْ هي من غامِضِ كتب بني إسرائيل. قال الفَخْر «3» : وفي الآية قولان: أحدهما: اتل على الناس. والثاني: اتل على أهْلِ الكتابِ. انتهى.

_ (1) الميل من الأرض: قدر منتهى مد البصر، وهو ثلث الفرسخ. وهو مقياس للطول قدّر قديما بأربعة آلاف ذراع، وحديثا بستين وسبعمائة وألف ياردة. ينظر: «لسان العرب» (4311) ، و «المعجم الوسيط» (901) . (2) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (4/ 526) (11705) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 177) . (3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (11/ 160) .

وابْنَيْ آدَمَ: هما لصلبه، وهما هَابِيلُ وقَابِيلُ، روت جماعة من المفسِّرين منهم ابن مسعود أنَّ سبب هذا التقريبِ أنَّ حوَّاء كانت تَلِدُ في كلِّ بطْن ذكراً وأنثى، وكان الذَّكَر يتزوَّج أنثَى البطْن الآخر، ولا تحلُّ له أخته توءمته، فولدَتْ مع قابيلَ أختاً جميلةً، ومع هابيلَ أختاً ليست كذلك، فلمَّا أراد آدم أن يزوِّجها من هَابِيلَ، قال قابيل: أنا أحَقُّ بأختي، فأمره آدم، فلم يأتمر، فاتفقوا على التَّقْريب، فتُقُبِّل قربانُ هابيلَ، ووجب أنْ يأخذ أخت قابيلَ فحينئذٍ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ «1» ، وقولُ هابيلَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ: كلامٌ، قبله محذوفٌ، تقديره: ولِمَ تقتلُنِي، وليس لي ذنُبٌ في قبول اللَّه قربانِي، وإنما يتقبَّل اللَّه من المتَّقين؟! وإجماع أهل السُّنَّة في معنى هذه الألفاظ: أنها اتقاء الشِّرْكِ، فمن اتقاه، وهو موحِّد، فأعماله التي تَصْدُقُ فيها نيتُه مقبولةٌ، وأما المتَّقِي للشرْكِ وللمعاصِي، فله الدرجةُ العليا من القَبُول/ والخَتْم بالرحمة، عُلمَ ذلك بإخبار اللَّه تعالى لا أنَّ ذلك يَجِبُ على اللَّه تعالى عقْلاً. قلتُ: قال ع: في معنى هذه الألفاظ (يعني حيث وقعت في الشرع) ، وأما في هذه الآية، فليس باتقاء شرك على ما سيأتي، وقولُ هابيلَ: مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ ... الآية: قال عبد اللَّه بن عمر، وجمهورُ النَّاس: كان هابيلُ أشَدَّ قوةً من قابيلَ، ولكنَّه تحرَّج «2» ، وهذا هو الأظهر. قال ع «3» : ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاصٍ، لا كافر لأنه لو كان كافراً، لم يكن للتحرّج هنا وجه، وتَبُوءَ: معناه: تمضِي متحمِّلاً، وقوله: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ: قيل: معناه: بإثم قَتْلي وسائرِ آثامك، وقيل: المعنى: بإثمي الذي يختصُّ بي فيما فَرَط لي، وهذا تأويل يعضده قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بِالظَّالِمِ وَالمَظْلُومِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، فَتُزَادُ فِي حَسَنَاتِ المَظْلُومِ حتى يَنْتَصِفَ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ من سيّئات المظلوم، فتطرح عليه» «4» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 529) (11718) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 28) ، وابن عطية (2/ 179) والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 481) وعزاه لابن جرير، عن ابن مسعود، عن ناس من الصحابة. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 532) (11730) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 29) ، وابن عطية (2/ 179) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 484) وعزاه لابن جرير. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 179) . (4) تقدم تخريجه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 31 إلى 32]

وقوله: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتملُ: أن يكون مِنْ قول هابيلَ لأخيه، ويحتمل: أن يكون إخباراً من اللَّه تعالى لمحمَّد- عليه السلام-، قال الفَخْر: وقوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قال المفسرون: معناه: سَهَّلَتْ له نفسه قَتْل أخيه. انتهى. وقوله سبحانه: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ: أصْبَحَ: عبارةٌ عن جميعِ أوقاتِهِ، وهذا مَهْيَعُ كلامِ العرب ومنه: [المنسرح] أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَح ... البَيْتَ «1» وقول سعد: فَأَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي «2» ، إلى غير ذلك مِن استعمال العرب، ومِنْ خسرانِ قابيلَ ما صحَّ، وثبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابن آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا» «3» وذلك لأنه أول من سنّ القتل. [سورة المائدة (5) : الآيات 31 الى 32] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً ... الآية: قيل: أصبح في ثاني يومٍ قتله يطلب إخفاء أَمْرِ قتله، فلم يَدْرِ ما يصنعُ به، فبعث اللَّه غراباً حيًّا إلى غرابٍ ميتٍ، فجعل يبحث

_ (1) صدر بيت للربيع بن ضبع الفزاري وعجزه: [المنسرح] ............... ... ... أملك رأس البعير إن نفرا ينظر: «المعجم» (1/ 321) ، «النوادر» (159) ، «أمالي المرتضى» (1/ 255) ، و «حماسة البحتري» ص (201) ، و «خزانة الأدب» (7/ 384) و «شرح التصريح» (2/ 36) و «الكتاب» (1/ 89) و «لسان العرب» (13/ 259) (ضمن) و «المقاصد النحوية» (3/ 398) وبلا نسبة في «الدر على النحاة» ص (114) و «شرح المفصل» (7/ 105) و «المحتسب» (2/ 99) ، «الدر المصون» (2/ 178) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 180) . [.....] (3) أخرجه البخاري (6/ 419) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» (3335) وفي (12/ 198) كتاب «الديات» ، باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها ... حديث (6867) ، وفي (13/ 314) كتاب «الاعتصام» ، باب إثم من دعا إلى ضلالة، حديث (7321) ومسلم (3/ 1303- 1304) ، كتاب «القسامة» ، باب بيان إثم من سن القتل، حديث (27/ 1677) من حديث ابن مسعود.

في الأرض، ويُلْقِي الترابَ على الغُرَاب الميِّت، وظاهرُ الآية أنَّ هابيلَ هو أول مَيِّتٍ من بني آدم، ولذلك جَهِلَ سُنَّة المواراةِ وكذلك حكى الطبريُّ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أَهْلِ العِلْمِ بما في الكُتُب الأَوَلِ، والسَّوْءَةُ: العورةُ، ويحتمل أن يراد الحالة التي تَسُوء النَّاظر، ثم إن قابيلَ وارى أخَاه، ونَدِمَ على ما كان منه مِنْ معصية في قَتْله، حيث لا ينفعه الندم. واختلف العلماء في قابيلَ، هل هو مِنَ الكُفَّار أو من العُصَاة، والظاهر أنه من العُصَاة، قال الفَخْر: ولم «1» ينتفعْ قابيلُ بندمه لأن نَدَمَهُ كان لأسبابٍ منها: سَخَط أبويه وإخوته، وعدمُ انتفاعه بقتله، وَنَحْوُ ذلك، ولما كان ندمه لهذه الأسبابِ لا لأجْلِ الخَوْف من اللَّه تعالى، فلا جَرَمَ لم ينفعْهُ هذا الندَمُ. وقوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هو إِشارة إلى ما تضمَّنته هذه القصَّة من أنواع المفاسِدِ الحاصلة بسبب القَتْل الحرامِ، لا أنه إشارة إلى قصة قابيلَ وهابيلَ. انتهى. وقوله سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: جمهورُ النَّاس على أن قوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ: متعلِّق بقوله: كَتَبْنا أي: من أجل هذه النازلة، ومِنْ جَرَّاها كتبنا، وقالَ قومٌ: بل هو متعلِّق بقوله: مِنَ النَّادِمِينَ أي: ندم من أجل ما وقع، والوقْفُ على هذا، على ذلِكَ، والناس على أن الوَقْف مِنَ النَّادِمِينَ، ويقال: فعلْتُ ذلك مِنْ أَجْلِكَ- بفتح الهمزة- ومِنْ إجْلِكَ- بكسرها-. وقوله سبحانه: بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير أن تَقْتُلَ نفْسٌ نفْساً، والفسادُ/ في الأرض: يجمع الزنا، والارتداد، والحِرَابة. وقوله سبحانه: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً روي عن ابن عباس أنه قال: المعنى: مَنْ قتل نفساً واحدةً، وانتهك حرمتها، فهو مِثْلُ مَنْ قتل الناس جميعاٌ، ومَنْ ترك قتْلَ نفسٍ واحدةٍ، وصان حرمتها مخافَتِي، واستحياها، فهو كَمَنْ أحيا الناسَ جميعاً «2» ، قال الحسنُ وابْنُ زيدٍ: وَمَنْ أَحْياها أي: عفا عمَّن وَجَبَ له قتلُهُ بعد القدرة «3» ، وقيل غير هذا. ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسُلُ بالبيِّنات في هذا وفي سواه،

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (11/ 32) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 541) (11775) ، وذكره ابن عطية (2/ 182) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 490) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 544) برقم (11792) عن ابن زيد، (11793) عن الحسن، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 182) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 33 إلى 34]

ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ في كلّ عصر يسرفون، ويتجاوزون الحدود. [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) وقوله سبحانه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية: روى أنس بن مالك وغيره: «أن الآية نزلَتْ في قومٍ مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَسْلَمُوا، ثم إنهم مَرِضُوا، واستوخموا المدينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يَكُونُوا فِي لقَاح الصَّدَقَةِ، وَقَالَ: «اشربوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ، فخرَجُوا فِيهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، قتلوا الرّاعي، واستاقوا الإبل، فبلغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خَبَرُهُمْ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، قَالَ جميع الرّواة: فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ «1» ، - ويروى: وَسَمَلَ «2» - وَتَرَكَهُمْ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ، فَلاَ يُسْقَوْنَ» ، فقيل: إن هذه الآية ناسخةٌ لفعْله صلّى الله عليه وسلّم بالعُرَنِيِّينَ، ووقَف الأمْر على هذه الحدودِ. وقال جماعةٌ: إنها غير ناسخةٍ لذلك الفعْل لأن العرنيين مرتدّون، لا سيّما، وفي

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 400) في الوضوء: باب أبوال الإبل (233) و (3/ 428) في الزكاة، باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل (1501) ، و (6/ 177) في الجهاد والسير، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق؟ (3018) ، (7/ 524) في المغازي، باب قصة عكل وعرينة (4192، 4193) ، (8/ 123) في التفسير، باب إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا ... (4610) ، و (10/ 149) في الطب، باب الدواء بأبوال الإبل (5686) ، وباب من خرج من أرض لا تلايمه (5727) ، و (12/ 111) في الحدود، باب المحاربين من أهل الكفر والردة (6802) ، وباب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا (6804) وباب سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعين المحاربين (6805) ، وفي الديات، باب القسامة (6899) ، ومسلم (3/ 1296- 1298) في القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين (1409/ 1671) ، وأبو داود (2/ 534) في الحدود، باب ما جاء في المحاربة (4364- 4368) ، والنسائي (1/ 158) في الطهارة، باب بول ما يؤكل لحمه، و (7/ 93- 100) في تحريم الدم. باب قول الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ ... ، باب اختلاف الناقلين لخبر حميد عن أنس بن مالك فيه. باب ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث، وأحمد (3/ 163، 170، 198، 233) . (2) أي: فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: هو فقؤها بالشوك. ينظر: «النهاية» (2/ 403) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 35 إلى 37]

بعض الطُّرُق أنهم سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ، وقالوا: هذه الآيةُ هي في المحارِبِ المُؤْمِنِ. قال مالك: المُحَارِبُ عندنا: مَنْ حَمَلَ على الناس السلاحَ فِي مِصْرٍ أو بَرِّيَّةٍ، فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون نَائِرَةٍ «1» ، ولا دَخلٍ، ولا عداوةٍ وبهذا القولِ قال جماعةٌ من أهل العِلْمِ، قالوا: والإمامُ مخيَّرٌ فيه بأن يعاقبه بما رأى مِنْ هذه العقوبات، فأما قَتْلُ المحارِبِ، فبالسَّيْف ضربةً للعنُق، وأما صَلْبه، فبعد القتْلِ عند جماعة، وقال جماعة: بل يُصْلَبُ حيًّا، ويُقْتلُ بالطعن على الخَشَبة، وروي هذا عن مالك، وهو الأظهر من الآيةِ، وهو الأنكى في النكال، وأما القَطْع، فاليد اليمنى من الرُّسْغ والرِّجْل الشِّمال من المَفْصِلِ. وقوله سبحانه: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: الظاهر: أن الأرض في هذه الآية هي أرضُ النازلة، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابُوا فيها الذُّنُوب ومنه حديثُ الذي نَاءَ بصَدْره نحو الأرْضِ المقدَّسة، وينبغي للإمام، إنْ كان هذا المحارِبُ المنفيُّ مخُوفَ الجانِبِ، يظنُّ به أن يعود إلى حِرابةٍ وإفسادٍ- أنْ يسجنه في البلد الذي يغرب إلَيْهِ، وإنْ كان غير مخُوفِ الجانبِ، ترك مسرَّحاً، وهذا هو صريحُ مذهب مالك. وقوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ... الآية: إشارة إلى هذه الحدود التي تُوقَعُ بهم، فيحتمل الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سَلِمَ في الدنيا، وبالجملة فهم في المشيئة. وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ... الآية: استثنى عز وجل التائِبَ قبل أنْ يُقْدَرَ عليه، وأخبر سبحانه بِسُقُوطِ حقوقِهِ عنْه بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، والعلماءُ على أن الآية في المؤمنين، ويؤخذ المحارِب بحقوقِ/ الناسِ، وإن تاب هذا هو الصحيح. [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ... الآية: هذه الآية

_ (1) النائرة: الحقد والعداوة. والدّخل: ما داخل الإنسان من فساد في عقل أو جسم. ينظر: «لسان العرب» (1342) ، (4593) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 38 إلى 40]

وعْظٌ من اللَّه تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعْظ لأنه يرد على النفوس، وهي خائفةٌ وجِلَةٌ وَابْتَغُوا: معناه: اطلبوا، والْوَسِيلَةَ: القربة، وأما الوسيلة المطلوبة لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فهي أيضاً من هذا لأن الدعاء له بالوسيلةِ والفضيلةِ إنما هو أنْ يُؤْتَاهُما في الدنيا، ويتَّصف بهما، ويكونُ ثمرةُ ذلك في الآخرةِ التشفيعَ في المَقَامِ المحمودِ، قلْتُ: وفي كلامه هذا ما لا يخفى، وقد فسر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوسيلةَ التي كان يَرْجُوها من ربه، «وأَنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الجَنَّةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ... » «1» الحديث، وخص سبحانه الجهادَ بالذكْر، وإن كان داخلاً في معنى الوسيلة تشريفاً له إذ هو قاعدةُ الإسلام. وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ: إخبار بأنهم يتمنَّوْنَ هذا، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن: إذا فَارَتْ بهم النارُ، قَرُبُوا من حاشيتها، فحينئِذٍ يريدونَ الخُرُوجَ، ويطمعون به «2» ، وتأوَّل هو وغيره الآية على هذا قلْتُ: ويؤيِّده ما خرّجه البخاريّ في رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «حَيْثُ أَتَاهُ آتيَانِ، فَأَخَذَا بِيَدِهِ» ، وفيه: «فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ، فَإذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رمى الرجل بِحَجَرٍ فِي فِيهِ» ، وفيه أيضاً: «فَانْطَلَقْنَا إلى ثُقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ تَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارٌ، فَإذَا اقترب، ارتفعوا، فَإذَا خَمَدَتْ، رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالاَ: انطلق ... » «3» الحديث، وأخبر سبحانه عن هؤلاءِ الكفَّار أنهم ليسوا بخارجين من النار، بل عذابهم فيها مقيم مؤبّد. [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) وقوله سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... الآيةَ: قلت «4» : المسروق: مال أو غيره.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ذكره ابن عطية (2/ 187) . (3) هو حديث المعراج الطويل، وسيأتي تخريجه في موضعه. (4) السرقة: بفتح السين، وكسر الراء، ويجوز إسكان الرّاء، مع فتح السين، وكسرها يقال: سرق بفتح الراء، يسرق بكسرها سرقا، وسرقة، فهو سارق، والشيء مسروق، وصاحبه مسروق منه، فهي لغة: أخذ الشيء من الغير خفية، أي شيء كان. واصطلاحا:

فشرط المال: أنْ يكون نصاباً، بعد خروجه، مملوكاً لغير السارقِ، ملكاً محترماً، تامًّا، لا شُبهة «1» له فيه، مُحْرَزاً، مُخْرَجاً منه إلى ما ليس ...

_ - عرفها الشافعية: بأنها أخذ المال خفية ظلما، من غير حرز مثله بشروط. وعرفها المالكية: بأنها أخذ مكلّف حرّا لا يعقل لصغره، أو مالا محترما لغيره نصابا، أخرجه من حرزه، بقصد واحد خفية لا شبهة له فيه. وعرفها الحنفية: بأنها أخذ مكلف عاقل بالغ خفية قدر عشرة دراهم. وعرفها الحنابلة: بأنها أخذ مال محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله. ينظر: «الصحاح» (4/ 1496) ، «المغرب» (1/ 393) ، «المصباح» (1/ 419) ، «تهذيب الأسماء» للنووي (2/ 148) ، «درر الحكام» (2/ 77) ، «ابن عابدين» (4/ 82) ، «مغني المحتاج» (4/ 158) ، «المغني» لابن قدامة (9/ 104) ، «كشاف القناع» (6/ 129) ، «الخرشي على المختصر» (8/ 91) . (1) وإلى ذلك ذهب جماهير الفقهاء فلا يقطع الوالد مثلا من سرقته مال ولده. وخالفهم الظاهرية، وأبو ثور، وابن المنذر فقالوا: يقطع السارق مطلقا: كانت له شبهة في مال المسروق منه أو لا. استدل جمهور الفقهاء: أوّلا: بما رواه الترمذي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام إن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة» . وثانيا: بما روي من مسند أبي حنيفة للمارتي من طريق مقسم عن ابن عباس: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادرءوا الحدود بالشّبهات» . وثالثا: بما رواه ابن ماجة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا» فهذه الأحاديث صريحة في وجوب درء الحدود بالشبهات. والقطع حد فلا يجب مع وجودها. واستدل الظاهرية ومن وافقهم: بعموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] . فإنه تعالى أوجب القطع من غير تفريق بين من له شبهة في مال المسروق منه، ومن لا شبهة له فيه. وأجيب عنه بأن عموم الآية مخصوص بالأحاديث التي ذكرناها أدلة لجماهير الفقهاء. هذا، والحق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء فإن القطع عقوبة شديدة فيجب ألا تقام حتى يكون السبب تاما، والاعتداء ظاهرا. ومع وجود شبهة للسارق في مال المسروق منه لا يتحقق ما ذكر، فالقطع حينئذ لا يناسب الجريمة. فوجوبه ظلم حاشا أن يوجد في أحكام الشريعة الإسلامية وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] . لذلك أوجبت الشريعة درء الحدود بالشبهات، ومنعت من إقامتها حتى تتحقق المناسبة بين الجرم، والعقوبة. غير أن جماهير الفقهاء اختلفوا فيما يعتبر شبهة دارئة للحد، وما لا يعتبر كذلك تبعا لاختلافهم في اعتبار قوة الشبه. وعدم اعتبارها، وانبنى على ذلك اختلافهم في فروع كثيرة من هذا الباب فمثلا: المالكية لا يوجبون القطع في سرقة الأصول من الفروع، ويوجبونه في سرقة الفروع من الأصول نظرا لقوة الشبهة في الأولى دون الثانية. -

بحرز «1» له، استسرارا.

_ - والأئمة الثلاثة لا يفرقون بينهما في عدم القطع نظرا لتحقق الشبهة في كل منهما. وإن لم تكن قوية في البعض وأوسع المذاهب في هذا مذهب الحنفية. حتى إنهم لا يقطعون في سرقة ذوي الأرحام بعضهم من بعض مع أن الشبهة هنا ضعيفة. ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي. [.....] (1) الحرز في اللغة: الموضع الحصين. ومنه: حديث الدعاء: «اللهمّ اجعلنا في حرز حارز» : وفي اصطلاح الفقهاء: هو الموضع الذي يحفظ فيه المال عادة، بحيث لا يعد صاحبه مضيعا له بوضعه فيه كالدور والحوانيت والخيم. وهو يختلف باختلاف الأزمان والبلدان، ويتفاوت بتفاوت الأموال، وقوة السلطان وضعفه، وعدله وجوره ولهذا ترك الشارع بيانه، ولم ينص على تحديده كما لم ينص على بيان القبض، والفرقة في البيع، وأشباه ذلك مما يختلف باختلاف العرف، ولو كان له حد معين لما ترك الشارع بيانه. هذا وقد ذهب جماهير الفقهاء إلى أن أخذ المسروق من حرزه شرط في وجوب القطع، فلا يقطع السارق إلا إذا أخذ المسروق من حرزه. وذهب أهل الظاهر، والخوارج، وجماعة من أهل الحديث إلى عدم اشتراطه، فيجب عندهم قطع السارق مطلقا أخذ المسروق من حرزه أو لا. استدل الجمهور بالمنقول، والمعقول: أما المنقول: فما رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن حسين المكي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا قطع من ثمر معلّق ولا في حريسة الجبل، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجنّ» . ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أثبت القطع في الثمر إذا سرق من جرينه، وفي الحريسة إذا أخذت من مراحها، ونفاه في سرقتهما قبل ذلك، فعلم أن المراح حرز للحريسة، والجرين حرز للثمر، وأن أخذهما من غير حرزهما لا قطع فيه وذلك يقضي باعتبار الأخذ من الحرز شرطا لوجوب القطع فيهما. وحيث لا فرق بين مال ومال، كان الأخذ من الحرز شرطا لوجوب القطع في سرقة كل مال. وأما المعقول: فإن الله- تعالى- قد جعل الأموال مهيأة للانتفاع بها، فكانت موضع أطماع الناس، وموطن رغباتهم، واقتضت حكمته جل شأنه اختصاص الناس بالملك لأن ترك الأشياء مباحة للكل يجعل النفوس في جشع دائم، وحرص شديد لما جبلت عليه من الأثرة، وحب الذات، فيكون ذلك مثار الفتن، وسبب النزاع المستمر. وإذا كانت رغبة النفوس في المال قوية وشغفها به أمر مطبوعة عليه، ووجد الاختصاص في الملكية، كان لا بد من شيء يحفظ المال على من اختص به. لذلك وجد النهي والزجر عن أخذ مال الغير بدون رضاه ليرتدع بذلك أصحاب المروءة، والديانة كما وجه الأمر للمالك بحفظ ماله حتى لا يكون طعمة لذوي الأطماع الخبيثة، والنفوس الدنيئة، الذين لا تؤثر فيهم الموعظة، ولا تفيدهم النصيحة حتى يروا العذاب رأي العين. فإذا قام المالك بما طلب منه، ولم يفرط في صون المال من ناحيته. ثم اقتحم الغير عليه مأمنه، وهتك ما به الصون، كان من الحكمة أن يعاقب بالقطع لارتكابه تلك الجريمة بعد توجيه النهي إليه، وزجره بالعقاب الأخروي. -

فالنصاب: ربعُ دينارٍ أو ثلاثةُ دراهم، أو ما يساوي ثلاثة «1» دراهم، وقوله:

_ - وإذا لم يقم المالك بما طلب منه، وقصر في الصون انتفى القطع لعدم تمام الجريمة بتفريطه. واستدل الظاهرية ومن وافقهم بعموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] . فإن الله- تعالى- قد رتب وجوب القطع على السرقة، فكانت هي العلة، فمتى تحققت السرقة وجب القطع مطلقا أخذ المسروق من حرزه أو لا. وأجيب عنه: أن عموم الآية مخصوص بالسنة التي دلت على اعتبار الأخذ من الحرز شرطا في وجوب القطع. هذا والحق ما ذهب إليه الجمهور من القول بأن الأخذ من الحرز شرط في وجوب القطع لقوة دليله، وضعف دليل مخالفه، حتى قال ابن المنذر: إن اعتبار أخذ المسروق من حرزه شرطا لوجوب القطع يكاد يكون أمرا مجمعا عليه. وأحقيته من جهة النظر ظاهرة، فإن الأموال غير المحرزة شبيهة بالأموال الضائعة، فالاعتداء عليها ناقص، فلا يتناسب مع القطع. أما الأموال المحرزة، فالاعتداء عليها كامل بمسارقة عين المالك وهتك الحرز، وإخراجها منه. فالتناسب ظاهر بينهما. ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشبهاوي. (1) يرى جمهور الفقهاء أن السارق لا يقطع إلا إذا سرق نصابا. ويرى أهل الظاهر، والخوارج، وطائفة من المتكلمين أنه يقطع في القليل والكثير، وليس هناك نصاب محدود لوجوب القطع في السرقة. وعلم أن جمهور الفقهاء قد اتفقوا على اعتبار النصاب شرطا لوجوب القطع. ومع اتفاقهم على هذا قد اختلفوا اختلافا كثيرا في مقداره الذي لا يقطع السارق من أقل منه، ويقطع فيه وفيما زاد عليه. فيرى الشافعي وأصحابه أنه ربع دينار، أو ما قيمة ربع دينار سواء أكان قيمة ثلاثة دراهم، أم أكثر، أم أقل منها. فلا قطع عندهم في أقل من ربع دينار- ولو كان قيمة ثلاثة دراهم. كما لا قطع في ثلاثة دراهم، إلا إذا كانت قيمتها ربع دينار. ويرى مالك، وأصحابه في المشهور عنهم أنه ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمته ثلاثة دراهم. فيقطع السارق عندهم في ربع دينار، وإن لم تكن قيمته ثلاثة دراهم، ويقطع في ثلاثة دراهم وإن لم تكن قيمة ربع دينار. ويقطع في غير النقدين من العروض بما قيمته ثلاثة دراهم، وإن لم تكن قيمة ربع دينار. ويرى أحمد، وأصحابه في المشهور عنهم أنه ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمة تساوي أحدهما. فيقطع السارق في ربع دينار، وإن لم يساو ثلاثة دراهم، ويقطع في ثلاثة دراهم، وإن لم تساو ربع دينار، ويقطع في سرقة غير النقدين بما قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم. ويرى أبو حنيفة، وأصحابه في المشهور عنهم أنه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم. فلا قطع عندهم في أقل من عشرة دراهم، ولو كانت قيمة ربع دينار كما لا قطع في غير الفضية من الذهب، أو العروض بما قيمته أقل من عشرة دراهم، ولو كانت قيمته تساوي ربع دينار. استدل الشافعي، وأصحابه أولا: بما رواه أحمد، ومسلم، والنّسائي، وابن ماجة عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق إلّا في ربع دينار فصاعدا» . -

..

_ - ووجه الدلالة من الحديث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أثبت القطع في ربع دينار، ونفاه عما دون ذلك لأن الحديث قضية محصورة بالنفي، وإلا فتنحل إلى قضيتين: إحداهما موجبة، وهي: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا، سواء أكان قيمة ثلاثة دراهم، أم أقل أم أكثر. وثانيتهما: سالبة، وهي لا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، سواء أكان ذلك الأقل قيمته ثلاثة دراهم، أم أقل أم أكثر. فالقضية الأولى تثبت القطع في ربع دينار، وإن لم يكن قيمة عشرة دراهم، وفي ذلك رد على أبي حنيفة وأصحابه. والثانية تقتضي نفي القطع في أقل من ربع دينار، ولو كان قيمة ثلاثة دراهم، وفي ذلك رد على مالك، وأحمد، وأصحابهما. والحديث بجملته يدل على أن الذهب هو الأصل الذي يصار إليه في معرفة قيمة المسروق، فإنه تحديد من الشارع بالقول لا يجوز العدول عنه، وقوم ما عداه به، ولو كان المسروق فضة. وثانيا: بما رواه النسائي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق فيما دون ثمن المجنّ» قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار. فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد نفى القطع فيما ثمنه دون ربع دينار وأثبته فيما ثمنه ربع دينار بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن إذ كان ثمن المجن ربع دينار ببيان السيدة عائشة رضي الله عنها. والحديث صريح في أن العروض إنما تقوم بالذهب من غير نظر إلى الفضة أصلا لأن البيان من السيدة عائشة في حكم المرفوع، فهو تحديد من الشارع بالنص لا يجوز العدول عنه. وأجيب عنه من قبل أبي حنيفة، وأصحابه: بأن التقويم أمر ظني تخميني، فيجوز أن تكون قيمة المجن عند عائشة- رضي الله عنها- ربع دينار، وتكون عند غيرها أكثر، فالاعتماد على قول عائشة يقتضي ثبوت القطع مع وجود شبهة. ورد هذا الجواب: بأن السيدة عائشة- رضي الله عنها- لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه، إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع.. واستدل مالك، وأحمد وأصحابهما، بما رواه مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قطع فيما قيمته ثلاثة دراهم، ولم يستفسر عن كون هذه الثلاثة تساوي ربع دينار، أو تقل عنه. وذلك يقضي باعتبار القطع في ثلاثة دراهم، وإن لم تساو ربع دينار، وبذلك يخص مفهوم حديث عائشة- رضي الله عنها- ويكون مفهومه: حينئذ لا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، إلا إذا ساوى ثلاثة دراهم فتقطع. والحديث صريح في أن العروض تقوم بالدراهم من غير نظر إلى الذهب أصلا. وأجب عنه من قبل الشافعي، وأصحابه: بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما ترك الاستفسار، لأن طرف الدينار في عهده صلّى الله عليه وسلّم: كان اثني عشر درهما، فمعلوم أن ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار، وذلك لا يقتضي أن الدراهم الثلاثة معتبرة في القطع، وفي التقويم حتى ولو تغير صرف الدينار، فإنها قضية عين لا عموم لها. واستدل أبو حنيفة وأصحابه، أولا: بما رواه أحمد، والدارقطني عن الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع إلّا في عشرة دراهم» . ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفى القطع في أقل من عشرة دراهم، سواء أكان ذلك الأقل يساوي ربع دينار، أم يزيد أم يقل عنه، وفي ذلك رد على الأئمة الثلاثة، وأصحابهم وأثبته في عشرة دراهم، وذلك-

أَيْدِيَهُما يعني: أَيْمانَ النوعَيْن «1» ، والنَّكَال: العذابُ، والنِّكْل: القيد.

_ - يقتضي أن العشرة الدراهم هي المعتبرة في القطع. وأجيب عنه: بأن الحديث لا يصلح للاستدلال، فإن الحجاج بن أرطاة مدلس، ولم يسمع هذا الحديث من عمرو بن شعيب. وثانيا: بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق فيما دون ثمن المجنّ» : قال عبد الله: وكان ثمن المجنّ عشرة دراهم. ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفى القطع فيما ثمنه دون عشرة دراهم بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن وأثبته في عشرة دراهم إذ كان ثمن المجن عشرة دراهم كما قال عبد الله. والحديث صريح في أن العروض تقوم بالدراهم من غير ملاحظة كون الذهب أصلا إذ قوم المجن بها وهو عرض، وأجيب عنه: بأنه لا يصلح للاستدلال لأن في إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن، ولا يحتج بمثله إذا جاء بالحديث معنعنا، وبذلك لا يصلح لمعارضة حديث عائشة في تقدير ثمن المجن بربع دينار، وحديث ابن عمر في تقديره بثلاثة دراهم، ولو سلمت صلاحيته للمعارضة تعين طرحه هو، ومعارضة من الروايات الواردة في تقدير ثمن المجن لعدم ما يدفع به التعارض، ووجب العمل بما تفيده رواية عائشة من إثبات القطع في ربع دينار، وهو دون عشرة دراهم. ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي، «نيل الأوطار» (7/ 105) ، «المغني» لابن قدامه (10/ 243) . (1) اختلف الفقهاء في محل القطع من السارق: فذهب الحنفية، والحنابلة إلى أنه اليد اليمنى، والرجل اليسرى وذهب المالكية، والشافعية: إلى أنه اليدان والرجلان، وذهب داود، وربيعة: إلى أنه اليدان فقط. وذهب عطاء إلى أنه اليد اليمنى خاصة. استدل الحنفية، والحنابلة بأدلة: منها ما يخص اليد اليمنى، ومنها ما يعم اليد اليمنى، والرجل اليسرى. أما ما يخص اليد اليمنى: فقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] . ووجه الدلالة: أن المراد بأيديهما: أيمانهما لقراءة عبد الله بن مسعود: فاقطعوا أيمانهما، وهي خبر مشهور مقيد لإطلاق الآية، فالذي يقطع من السارق والسارقة بنص الآية اليد اليمنى، فاليد اليسرى خارجة من إطلاق الآية بهذه القراءة، ولم يثبت في السنة من طريق صحيح تعلق القطع بها في السرقة، فعلم من ذلك أنها ليست محلا للقطع. وأما ما يعم اليد اليمنى، والرجل اليسرى: فأولا: ما رواه الدارقطني عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا، إني لأستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها. وثانيا: ما رواه ابن أبي شيبة أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن السارق، فكتب إليه بمثل قول علي. وثالثا: ما رواه ابن أبي شيبة أن عمر- رضي الله عنه- قال: «إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى، وذروه يأكل بها ويستنجي بها» . ورابعا: ما رواه ابن أبي شيبة أن عمر- رضي الله عنه- استشار الصحابة في سارق، فأجمعوا على مثل-

وقوله سبحانه: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ... الآية:

_ - قول علي. فهذه الآثار جميعها صريحة في أن ما يقطع من السارق إنما هو اليد اليمنى، والرجل اليسرى، ثم إن عاد إلى السرقة بعد قطعهما، أودع السجن حتى يظهر صلاح حاله. واستدل المالكية، والشافعية بأدلة: منها ما يخص اليدين، ومنها ما يعم اليدين والرجلين. أما ما يخص اليدين: فأولا: قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] فإن اسم السيد يطلق على اليد اليسرى، كما يطلق على اليد اليمنى ... وقد أمر الله- تعالى- بقطع يدي كل من السارق والسارقة، فظاهر النص قطعهما معا لولا قيام الإجماع على عدم قطعهما معا في سرقة واحدة، وعلى عدم الابتداء باليسرى. وأجيب عنه بأن نص الآية لا يتناول اليد اليسرى لتقييده باليمنى من قراءة عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-. وثانيا: ما رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه أن رجلا من اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر الصديق، فشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر- رضي الله عنه- وأبيك ما ليلك بليل سارق ثم إنهم غدوا عند أسماء بنت عيمس امرأة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- فجعل الرجل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاء به، فاعترف الأقطع، أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى. وقال أبو بكر: لدعاؤه على نفسه أشد عليه من سرقته فهذا أشد صريح في أن اليد اليسرى محل للقطع، وإلا لما صح لأبي بكر قطعها. وأجيب عنه: بأن سارق حلي أسماء لم يكن أقطع اليد، والرجل، بل كان أقطع اليد اليمنى فقط، فقد قال محمد بن الحسن في «موطئه» : قال الزهري: ويروى عن عائشة قالت: إنما كان الذي سرق حلي أسماء أقطع اليد اليمنى، فقطع أبو بكر رجله اليسرى، قال: وكان ابن شهاب أعلم بهذا الحديث من غيره. وأما ما يعم اليدين، والرجلين: فما رواه الدارقطني من طريق الواقدي، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سرق السّارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» فهذا الحديث صريح في أن القطع يتعلق بجميع أطراف السارق. وأجيب عنه: بأنه لا يصلح للاحتجاج، فإن في طريقه الواقدي، وفيه مقال، وقد روي هذا المعنى من طرق كثيرة لم تسلم من الطعن. فقد قال الطحاوي: تتبعنا هذه الآثار، فلم نجد بشيء منها أصلا ومما يدل على عدم صلاحيته للحجبة عدم استدلال الصحابة به حينما استشارهم علي- رضي الله عنه- في سارق أقطع اليد والرجل، فلم يقطعه، وجلده جلدا شديدا، ودعوى الجهل به بعيدة، فإن مثل هذا لا يخفى على الصحابة- رضوان الله عليهم- فعدم احتجاجهم به ليس إلا لضعفه، أو نسخه، فإن الحدود كان فيها تغليظ في الابتداء، ألا ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قطع أيدي العرنيين، وسمل أعينهم، ثمّ نسخ ذلك. واستدل داود، ومن وافقه بقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] . ووجه الدلالة: أن الله- تعالى- قد نص على قطع اليدين، ولم ينص على قطع الرجلين، فلو كان قطع الرجلين مطلوبا لأمر به- تعالى- والسنة لم يرد فيها من طريق صحيح ما يفيد قطعهما في السرقة، والذي ورد في السنة صحيحا جميعه يتعلق بقطع اليد، فقد قال- عليه الصلاة والسلام-: «لو سرقت فاطمة بنت-

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 43]

جمهورُ العلماءِ على أَنَّ توبة السارق لا تُسْقِطُ عنه القَطْعَ، وقال الشافعيُّ: إذا تاب السارق قبل أنْ يتلبَّس الحُكَّام بأخْذه، فتوبته تَدْفَعُ عنه حُكْمَ القطع قياساً على توبة المُحَارِبِ. وقوله سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أي: فلا معقِّب لحكمه سبحانه، ولا معتَرِضَ عليه، يفعلُ ما يَشَاء لا إله إلا هو. [سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

_ - محمّد لقطع محمّد يدها» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع اليد إلّا في ربع دينار فصاعدا» وأمثال ذلك كثير كله متعلق بقطع اليد، ولم يرد الرجل فيها ذكر، وفي ذلك دليل صحيح على أن القطع إنما يتعلق باليدين دون الرجلين وأجيب عنه من قبل الحنفية، والحنابلة بأنه لا دلالة في الآية على أن اليد اليسرى محل للقطع، فإن المراد من قوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أيمانهما. لقراءة عبد الله بن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وقطع الرجل اليسرى قد ثبت بالسنة الصحيحة، وإجماع الصحابة على ذلك مما يقطع بصحة السنة الواردة بقطع الرجل اليسرى بعد قطع اليد اليمنى. واستدل عطاء بقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] . فإن المراد من قوله: «أيديهما» أيمانهما لقراءة عبد الله: «فاقطعوا أيمانهما» ، فإنها مقيدة لإطلاق الآية، فاليد اليسرى ليست مرادة، ولم يثبت في السنة من طريق صحيح قطع غيرها من الأطراف، فوجب الاقتصار عليها. وأجيب عنه: بأن السنة الصحيحة قد أثبتت قطع الرجل اليسرى في السرقة، وقام الإجماع على ذلك. هذا والراجح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، من أن محل القطع إنما هو اليد اليمنى، والرجل اليسرى، لقوة أدلته، أو لأن القطع إنما شرع للزجر لا للإتلاف، وفي استيفاء الأطراف الأربعة بالقطع إتلاف، أو شبهة إتلاف، وشبهة الإتلاف منزل منزلة الإتلاف فيما يدرأ بالشبهات، والزجر يتحقق بالقطع مرتين، فإن إزالة عضوين من الجسم لهما قيمتهما في البطش، والمشي لأبلغ عظة وأقوى زاجرا لمن خبثت نفسه، ومال به هواه. ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي.

وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ... الآية: تسليةٌ لنبيِّه- عليه السلام- وتقويةٌ لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود، والمعنى: قد وعَدْناك النصْرَ والظهورَ عليهم، فلا يحزنْكَ ما يقعُ منهم، ومعنى المسارعة في الكُفْرِ: البِدَارُ إلى نَصْره، والسعْيُ في كيد الإسلام، وإطفاءِ نوره، قال مجاهدٌ وغيره: قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يراد به المنافقون «1» /. وقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يراد به اليهودُ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ، بعضَهُم مِنْ بعض، ويقبلونه ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك. وقوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يحتمل أنْ يريد: يَسْمَعُون منهم، وذكر الطبريُّ «2» عن جابر أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ «3» ، وقيل: يهود خَيْبَر، ويحتمل أنْ يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ بمعنى: جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ لينقلوه لقوم آخرينَ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ويهودُ المدينة، قلْتُ: وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في السِّيَرِ «4» . قال ع «5» : وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. وقوله سبحانه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ: هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، أي: من بعد أن وضع مواضعه، وقصدت به وجهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ: استفتوا محمَّداً، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ، فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْم، فاحذروا الرجْمَ قاله الشعبيُّ وغيره «6» وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة ب هذا إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا، على قولٍ، ثم قال

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 574) برقم (11931) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 191) . (2) ينظر: «الطبري» (4/ 575) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 574) برقم (11933) ، وذكره ابن عطية (2/ 192) . (4) ذكره ابن عطية، (2/ 192) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 192) . (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 577) برقم (11940) . [.....]

تعالى لنبيِّه- عليه السلام- على جهة قَطْع الرجاء منهم: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي: محنَتَهُ بالكفر، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه ألاَّ يطهِّر قلوبَهُم، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ، وفي كلِّ أُمَّة. قال ص: سَمَّاعُونَ، أي: هم سمَّاعون، ومثله أكَّالون. انتهى. وقوله سبحانه: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: فعَّالون بناءُ مبالغة، أي: يتكرَّر أَكْلُهم، ويَكْثُر، والسُّحْت: كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال. وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ: تخييرٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده، وقال ابنُ عباس وغيره: هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» [المائدة: 49] ، وقال كثيرٌ من العلماء: هي مُحْكَمَة، وهذا هو الأظهر إن شاء اللَّه، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها، فالحاكمُ مخيَّر، وإذا رضي به الخَصْمان، فلا بد من رضا أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم قاله ابن القاسِمِ في «العتبية» ، قلت: وعبارة الداوديُّ قال مالك: ولا يَحْكُمُ بينهم، إذا اختار الحكم إلا في المظالم، فيحكم بينهم بما أنزل اللَّه، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه، ثم يردُّون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة. انتهى. وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : إنما أَنْفَذَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحُكْمَ بينهم ليحقِّق تحريفَهُم، وتبديلَهم، وكَذِبَهم، وكَتْمَهم ما في التوراة، / ومنه صفته صلّى الله عليه وسلّم فيها، والرجْمُ على زناتهم، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: 15] فيكون ذلك من آياته الباهرةِ، وحُجَجِهِ البيِّنة، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة للأَمَّة المُخْزية اليهودية. انتهى. وقوله تعالى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً: أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم، إذا أعْرَضَ عنهم، وحقَّر في ذلك شأنهم، وَإِنْ حَكَمْتَ، أي: اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، أيْ: بالعدل، ثم قال سبحانه:

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 503) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» ، والطبراني، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.

[سورة المائدة (5) : آية 44]

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ المعنى: وكيفَ يحكِّمونك بنيَّةٍ صادقةٍ، وهم قد خالفوا حُكْمَ التوراة التي يصدِّقون بها، وتولَّوْا عن حُكْمِ اللَّه فيها فأنْتَ الذي لا يؤمِنُونَ بك- أحرى بأن يخالفوا حُكْمَك، وهذا بيِّن أنهم لا يحكِّمونه- عليه السلام- إلا رغبةً في ميله إلى أهوائهم. وقوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أي: مِنْ بعد كونِ حكمِ اللَّه في التوراة في الرجْمِ وما أشبهه. وقوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني: بالتوراة وبموسى. [سورة المائدة (5) : آية 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً، أي: إرشاد في المعتقَدِ والشرائعِ، والنورُ: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا: هم مَن بُعِثَ من لدنْ موسَى بنِ عمرانَ إلى مدة نبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، وأسلموا: معناه أخْلَصُوا وجوهَهُم ومقاصِدَهم للَّه سبحانه، وقوله: لِلَّذِينَ هادُوا: متعلِّق ب يَحْكُمُ أي: يَحْكُمُونَ بمقتضَى التوراةِ لبني إسرائيل وعليهم، وَالرَّبَّانِيُّونَ: عطف على النبيِّين، أي: ويحكم بها الرَّبَّانِيُّون، وهم العلماءُ، وقد تقدَّم تفسير الرَّبَّانِيِّ، والأحْبَارُ أيضاً: العلماءُ، واحدُهم: حِبْرٌ- بكسر الحاء، وفتحها-، وكثُر استعمال الفَتْح فرقًا بينه وبين «الحِبْرِ» الذي يُكْتَبُ به، وإنما اللفظ عامٌّ في كلِّ حَبْرٍ مستقيمٍ فيما مضى من الزمان قبل مبعَثِ نبيِّنا محمد- عليه السلام-. وقوله سبحانه: بِمَا اسْتُحْفِظُوا، أي: بسبب استحفاظ اللَّه تعالى إياهم أمر التَّوْراة، وأخْذِهِ العهدَ علَيْهم في العملِ والقَوْلِ بها، وعرَّفهم ما فيها، فصَارُوا شُهَداء عليه، وهؤلاء ضيَّعوا لَمَّا استحفظوا حتى تبدَّلتِ التوراةُ، والقُرآنُ بخلافِ هذا لقوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ: حكايةٌ لما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا: نَهْيٌ عن جميع المكاسِبِ الخبيثةِ بالعلْمِ والتحيُّلِ للدنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناوَلُ علماء هذه الأمة وحُكَّامَها، ويحتملُ أنْ يكون قوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ ... إلى آخر الآية- خطاباً لأمَّة نبينا محمد- عليه السلام-.

واختلف العلماء في المراد بقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. فقالتْ جماعة: المرادُ: اليهودُ بالكافرين والظَّالمين والفاسِقِينَ وروي في هذا حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ طريق البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال الفَخْر «1» : وتمسَّكت الخوارجُ بهذه الآية في التكْفِير بالذَّنْب، وأجيبَ بأنَّ الآية نزلَتْ في اليهود، فتكون مختصَّة بهم، قال الفَخْر: وهَذا «2» ضعيفٌ لأن الاعتبار بعمومِ اللفظِ، لا بخصوصِ السبَبِ/. قلْتُ: وهذه مسألةُ خلافٍ في العامِّ الوارِدِ على سببٍ، هَلْ يبقى على عمومه، أو يُقْصرُ على سببه «3» ؟ انتهى. وقالتْ جماعة عظيمةٌ من أهل العلمِ: الآيةُ متناولة كلَّ مَنْ لم يحكُمْ بما أنزل اللَّه، ولكنَّها في أمراء هذه الأمَّة- كُفْرُ معصية لا يخرجهم عن الإيمان «4» ، وهذا تأويل حسن،

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 6) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 6) . (3) ينظر: «تفعيل مذاهب علماء الأصول في البحر المحيط» (3/ 212) . (4) قد ورد في القرآن آيات يؤخذ منها حكم ترك العلم بما أنزله الله تعالى من الأحكام. ومن تلك الآيات قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] . وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] . وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: 47] . وقوله: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] . ففي الآيات الأول وصف الله- تعالى- من لم يحكم بما أنزله بالكفر، والظلم والفسق، وفي الآية الأخيرة أقسم أنه لا يوجد الإيمان إلا إذا حكم الرسول في الشجار، ولم يوجد في النفوس حرج من حكمه، وسلم له كل التسليم. وذلك لأن الرسول لا يحكم إلا بما يشرعه الله له. فمن لم يرض بحكمه، فهو غير راض بشرعه، تعالى، وذلك يقتضي عدم الإيمان. ثم إن الكفر، والظلم والفسق التي وصف الله تعالى بما من لم يحكم بما أنزله واردة في تلك الآيات بمعناها اللغوي. وهي في اللغة تصدق على كل معصية، سواء كانت كفرا أو غيره، فمن فعل معصية دون الكفر صدق عليه لغة أنه كافر، وظالم، وفاسق. وكذلك من كفر بالله تعالى يصدق عليه في اللغة أنه كافر وظالم وفاسق. وعلى هذا فهذه الآيات محتملة لأن يراد منها الكفر الاصطلاحي وهو الخروج من الملة، ولأن يراد منها ما دون ذلك من المعاصي. ولهذا اختلفت أقوال المفسرين فيها فمنهم: من حمل الكفر وغيره فيها على الاصطلاحي وقال: إنها خاصة بأهل الكتاب. ومنهم من قال: المراد من هذه الأوصاف ما دون الكفر الاصطلاحي من المعاصي الكبيرة، ومن هؤلاء ابن عباس، وعلي بن الحسين فقد نقل عنهما أنهما قالا فيها: كفر ليس ككفر الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. والمراد: أن عدم الحكم بما أنزل الله، وتركه إلى غيره ليس كفرا بمعنى الخروج من الدين، ولكنه من أكبر الذنوب. -

وقيل لحذيفة بْنِ اليَمَان: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل، فقال: نِعْمَ الإخْوَةُ لَكُمْ بنو

_ - والمختار في ذلك التفصيل وهو أن من ترك ذلك استقباحا لحكمه تعالى، أو استهزاء به، أو ترجيحا لغيره عليه فهو كافر بمعنى أنه خارج من الدين. ومن تركه لغلبة الهوى عليه، أو لعلة أخرى غير الاستقباح والاستهزاء، والترجيح للغير فقد فعل ذنبا كبيرا لكنه دون الكفر. وكذلك يفصل في مفهوم الآية الأخيرة بأن يحمل النفي الوارد فيها على نفي أصل الإيمان إذا كان ترك تحكيم الرسول استقباحا أو استهزاء بشرعه، وعلى نفي كمال الإيمان إذا كان تركه لعلة أخرى غير ذلك لا توجب الكفر، وهذا التفصيل في مفهوم الآيات إنما أخذه العلماء من قواعد الدين التي تفيد ذلك. ومن هنا يعلم حكم العمل بالقوانين الوضعية، وهو أن من عمل بها مستقبحا لحكمه تعالى أو مستهزئا به فهو كافر بمعنى أنه خارج من الدين، ومن عمل بها لعلة أخرى كغلبة الهوى، أو جهل أن الشريعة الإسلامية يوجد بها من القوانين ما يصلح لأن يتحاكم إليه، فقد ارتكب إثما عظيما، لكنه دون الكفر. وإذا علم هذا فعلى من تقع المسئولية والإثم في ترك حكمه تعالى؟ والجواب: أن الإثم في ذلك يقع على جميع الأمة لأن القيام بتنفيذ أحكامه- تعالى- من فروض الكفايات التي إن لم يقم بها البعض يأثم الجميع، غير أن الإثم في ذلك يتفاوت بالنسبة لأقدار أفراد الأمة. فأصحاب الرأي والنفوذ الذين يمكنهم أن يطالبوا ويسعوا للعمل بحكمه تعالى إثمهم في ترك ذلك أعظم من أثم عامة الأمة الذين ليس لهم من الرأي والنفوذ مثلهم. وليس الإثم خاصا بالقاضي الذي يحكم بهذه القوانين بل الإثم متعلق بكل الأمة كما قلنا. نعم إن القاضي يختص بإثم خاص غير الإثم الذي يشارك فيه الأمة، وهو إثم المساعدة على تنفيذ غير حكمه تعالى، فكان الواجب عليه، حيث لم يستطع الحكم بما أنزل الله تعالى ألّا يحكم بغيره. وقد يكون العمل بهذه القوانين لا إثم فيه لا على الأمة، ولا على القاضي، وذلك إذا غلبت أمة مسلمة على أمرها، ولم يكن لها من الأمر شيء، وأجبرتها الدولة الغالبة على العمل بهذه القوانين الوضعية، بحيث لم تستطع العمل بقانون دينها، ففي هذه الحالة لا إثم على الأمة، ولا على القاضي إذا كان لا يمكن التنحي عن الحكم بهذه القوانين بل قد يثاب على حكمه بها إذا كانت مصلحة أمته في قيامه هو بالحكم دون غيره لأنه في مثل هذه الحالة لا تكون دار هذه الأمة المغلوبة دار إسلام بل دار حرب، ودار الحرب يجوز فيها التعامل بالعقود الفاسدة في المعاملات والحدود، ونحوها لأن أغلبها موكول لاجتهاد الحاكم أما العبادات وما في معناها كالطلاق والنكاح فلا يجوز العمل فيها بغير حكمه تعالى بأي حال من الأحوال. ثم إذا نظرنا للواقع عندنا في ديارنا المصرية نجد أن الدافع للعمل بهذه القوانين لم يكن استقباح حكمه تعالى، أو تفضيل غيره عليه حتى يكون كفرا بمعنى الخروج من الدين وإنما الدافع إليه هو عدم العلم بما في التشريع الإسلامي من المزايا التي تجعله صالحا لمسايرة أحوال المجتمع، وأن يستنبط منه ما يفوق هذه التنظيمات في إقامة العدل، وإصلاح النظام. يدلك على هذا أن الدولة العلية عند ما أدخلت هذه القوانين في محاكمها كانت تقصد من ذلك تحقيق مصلحة الأمة، بدليل ما جاء في مرسوم العمل بهذه التنظيمات الذي أصدره السلطان عبد المجيد من أن الأخذ بها لا ينافي الدين لأنه يحث على الإصلاح والنظام، واستصدر فتوى من شيخ الإسلام حينئذ هناك بأن ذلك لا ينافي الإسلام، ثم تبعتها مصر في العمل بتلك التنظيمات على ذلك القصد، ثم أدخلت فيها قوانين أوربا الحديثة على اعتبار أنها نوع من ذلك الإصلاح. فالدافع الحقيقي هو حب الإصلاح، والميل إلى تقليد أوربا في أنظمة حكمها، لا كراهية أحكام الدين، -

[سورة المائدة (5) : آية 45]

إسْرَائِيلَ، إنْ كَانَتْ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ، وَلَهُمْ كلّ مرّة، لتسلكنّ طريقهم قذّ الشّراك «1» . [سورة المائدة (5) : آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... الآية، أي: وكتبنا على بني إسرائيل في التوراة، ومعنى هذه الآية: الخَبَرُ بأن اللَّه تعالى كتَبَ فرضاً على بني إسرائيل أنه مَنْ قَتَل نفساً، فيجب في ذلك أخْذُ نفسه، ثم هذه الأعضاءُ المذكورةُ كذلك، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأُمَّة بما علم من شرع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: «ورخَّص اللَّه لهذه الأُمَّة، ووسَّع لها بالدِّيَة، ولم يجعلْ لبني إسرائيل ديةً فيما نَزَّل على موسى «2» ، والجمهور أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ: عمومٌ يراد به الخصوصُ في المتماثلين كما ورد في الحديث، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» «3» ، وكذلك قوله سبحانه: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ: عموم

_ - ولولا تقاعس العلماء عن الجد في استنباط أنظمة من التشريع الإسلامي تساير هذه الأنظمة في سهولتها وترتيبها ما لجأت الحكومات الإسلامية إلى العمل بهذه القوانين. ويدلك على هذا أن الخديوي إسماعيل باشا كان قد طلب من العلماء أن يستنبطوا له من الشرع الإسلامي قوانين مرتبة كترتيب قوانين أوربا لتكون قانونا للمحاكم المصرية: فاختلفوا وتكاسلوا فما وسعه إلا العمل بهذه القوانين. هكذا رأيت في بعض الكتب. وعلى هذا، فالعمل بهذه القوانين في بلادنا ليس كفرا لما تبين لك من الدافع إليه- اللهم إلا إذا كان بعض الحكام والقضاة يستقبح حكمه تعالى أو يستهزىء به- فإن من يفعل ذلك منهم يكون كافرا- وإنما العمل بها من الذنوب الكبيرة التي هي دون الكفر، وليس العمل بهذه القوانين إجباريا من الدولة الإنجليزية المحتلة لبلادنا لأن الأخذ بهذه التنظيمات كان من أيام تبعيتها للدولة العلية. والإنجليز بما عرف عنهم من عدم التعرض للشؤون الداخلية في البلاد التي يحكمونها لا يعارضون إذا أرادت الأمة العمل بقانون دينها فلا يقال: إنا مرغمون على العمل بها فلا إثم علينا، فإذا أرادوا الخروج من الإثم فما عليهم إلا المبادرة بتأليف لجنة تقتبس من التشريع الإسلامي قانونا منظما كهذه القوانين، وما أيسر ذلك وأقربه، ثم إحلاله عند إتمامه محل هذه القوانين بالمحاكم. إنهم إن بادروا بذلك خرجوا من الإثم وأرضوا عنهم خالقهم وأمتهم، وكفلوا لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة، ونسأله تعالى التوفيق. ينظر: «قضاء الإسلام» لشيخنا علي سيد أحمد. (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 196) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 599) (12072) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 197) . (3) أخرجه أبو داود (4/ 670) ، كتاب «الديات» ، باب إيقاد المسلم بالكافر، حديث (4531) ، والترمذي (4/ 25) كتاب «الديات» ، باب دية الكافر، حديث (1413) وابن ماجة (2/ 887) كتاب «الديات» ، باب لا يقتل مسلم بكافر، حديث (2659) وأحمد (2/ 194) والبيهقي (8/ 29- 30) كتاب «الجنايات» ، باب لا قصاص باختلاف الدينين كلهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به. وقال الترمذي: حديث حسن.

[سورة المائدة (5) : الآيات 46 إلى 50]

يراد به الخصوصُ فيما لا يخافُ منها على النفْسِ، وكُتُبُ الفقْهِ محَلُّ استيعابِ الكلامِ على هذه المعانيِ. قال ص: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ، أيْ: ذاتُ قصاصٍ. انتهى. وقوله سبحانه: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، المعنى: أنَّ من تصدَّق بجُرْحه أو دمِ وليه، وعفا، فإنَّ ذلك العَفْوَ كفَّارة لذنوبه يعظم اللَّه أجره بذلك، قال ابن عمر وغيره «1» ، وفي معناه حديثٌ مرويٌّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قلت: وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ إلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً» ، رواه الترمذيُّ «2» . انتهى. وقيل: المعنى: فذلك العفو كفَّارة للجارحِ عن ذلك الذنْبِ كما أن القِصَاص كفَّارة، فكذلك العفو كفَّارة وأما أجر العافي، فعلى اللَّه تعالى قاله ابن عبَّاس وغيره «3» . وقيل: المعنى: إذَا جنى جانٍ، فجُهِلَ، وخَفِيَ أمره، فتصدَّق هذا الجاني بأن اعترفَ بذلك، ومكَّنَ من نفسه فذلك الفعل كفّارة لذنبه. [سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 50] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 600) وعزاه لعبد الله بن عمر، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 198) ، والسيوطي في «الدر المنثور» بنحوه (2/ 511) ، وعزاه للديلمي عن ابن عمر. (2) أخرجه الترمذي (4/ 14- 15) ، كتاب «الديات» ، باب ما جاء في العفو، حديث (1393) ، وابن ماجة (2/ 898) كتاب «الديات» ، باب العفو في القصاص، حديث (2693) كلاهما من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن أبي الدرداء به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء، وأبو السفر اسمه: سعيد بن أحمد ويقال: ابن محمد الثوري. (3) أخرجه الطبري (4/ 601، 602) برقم (12091، 12103) ، وذكره ابن عطية (2/ 198) ، والسيوطي (2/ 511) وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.

وقوله سبحانه: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... الآية: الضمير في آثارِهِمْ للنبيِّين. وقوله: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ: خُصَّ المتقون بالذِّكْر لأنهم المقصودُ به في عِلْمِ اللَّه وإنْ كان الجميعُ يدعى إلى توحيدِ اللَّه، ويوعَظُ، ولكنَّ ذلك على غَيْرِ المتَّقين عَمًى وحَيْرةٌ. وقرأ حمزة «1» وحده: «وَلِيَحْكُمَ» - بكسرِ اللامِ، وفتحِ الميمِ- على «لام كَيْ» ، ونصبِ الفعلِ بها، والمعنى: وآتيناه الإِنجيل ليتضمَّن الهدى والنور والتصديق، ولِيَحْكُمَ أهله بما أنزل اللَّه فيه، وقرأ باقي السبْعَةِ: «وَلْيَحْكُمْ» - بسكون لامِ الأمرِ، وجزمِ الفعلِ-، ومعنى أمره لهم بالحكم: أي: هكذا يجبُ عليهم. قُلْتُ: وإذْ من لازم حكمهم بما أنزلَ اللَّه فيه اتباعهم لنبيِّنا محمد- عليه السلام- والإيمانُ به كما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيلِ، قال الفَخْر «2» : قيل: المرادُ: ولْيحكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه فيه من الدلائلِ الدالَّة على نبوَّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم قيل: والمرادُ بالفاسقين: مَنْ لم يَمْتَثِلْ من النصارَى. انتهى، وحَسُن عَقِبَ ذلك التوقيفُ على وعيدِ/ مَنْ خالف ما أنزل اللَّه. وقوله سبحانه: وَمُهَيْمِناً، أي: جعل اللَّه القُرآن مهيمناً على الكُتُب، يشهد بما فيها من الحقائقِ، وعلى ما نسبه المحرِّفون إليها، فيصحِّح الحقائق، ويُبْطِلُ التحريفَ، وهذا هو معنى مُهَيْمِناً، أي: شاهدٌ، ومصدِّقٌ، ومؤتَمَنٌ، وأمينٌ حسَبَ اختلافِ عبارة المفسِّرين في اللفظة، وقال المبرِّد: «مهَيْمِن» : أصله «مؤيمن» بني من «أمين» أبدلت

_ (1) وحجة الباقين في تسكين الميم: أن الله- سبحانه- أمرهم بالعمل بما في الإنجيل، كما أمر نبينا صلّى الله عليه وسلّم في الآية التي بعدها بالعمل بما أنزل الله إليه في الكتاب بقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. ينظر: «السبعة» (244) ، و «الحجة» (3/ 227) ، و «حجة القراءات» (227) ، و «العنوان» (87) ، و «شرح شعلة» (351) ، و «شرح الطيبة» (4/ 230) ، و «إتحاف» (1/ 536) ، و «معاني القراءات» (1/ 322) . [.....] (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 10) .

همزتُهُ هاءً كما قالوا: أَرَقْتُ المَاءَ، وَهَرَقْتُهُ واستحسنه الزَّجَّاج. وقوله سبحانه: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ: المعنى عند الجمهور: إن اخترت أنْ تحكم، فاحكم بينهم بما أنْزَلَ اللَّه، وليسَتْ هذه الآيةُ بناسخةٍ لقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42] . ثم حذَّر اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- من اتباع أهوائهم. وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، أي: لكلِّ أمة قاله الجمهور، وهذا عندهم في الأحكامِ، وأما في المعتَقَدَاتِ، فالدِّين واحدٌ لجميع العالَمِ، ويحتملُ أنْ يكون المرادُ الأنبياءَ، لا سيَّما وقد تقدَّم ذكرهم، وذكر ما أُنْزِلَ عليهم، وتجيء الآيةُ، معَ هذا الاحتمال تنبيهاً لنبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، أيْ: فاحفظ شرعتك ومنهاجَكَ لئلاَ تستزلَّك اليهودُ، أو غيرُهم في شيء منْه، وأكثرُ المتأوِّلين على أن الشِّرْعَة والمِنْهَاجَ بمعنًى واحدٍ، وهي الطريقُ، وقال ابن عباس وغيره: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً: سبيلاً وسُنَّة «1» ، ثم أخبر سبحانه أنه لَوْ شاء، لَجَعَل النَّاس أُمَّةً واحدةً، ولكنه لم يشأْ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم مِنَ الكُتُب والشرائع كذا قال ابنُ جُرَيْج «2» وغيره. ثم أمر سبحانه باستباق الخيراتِ في امتثال الأوامر، وخَتَمَ سبحانه بالموعظةِ والتَّذْكير بالمعادِ، فقال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً، والمعنى: فالبِدَار البِدَارَ. وقوله سبحانه: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، معناه: في الثَّوَاب والعقَاب، فتُخْبَرُونَ به إخبار إيقاعٍ، وهذه الآية بارعةُ الفَصَاحة، جَمَعتِ المعانِيَ الكثيرةَ في الألفاظِ اليسيرة، وكُلُّ كتابِ اللَّه كذلك، إلاَّ أنَّا بقصورِ أفهامنا يَبِينُ لنا في بَعْضٍ أكثرُ ممَّا يبينُ لنا في بعض. وقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ... الآية: الهوى مقصورٌ يجمعُ على أهْوَاء، والهَوَاء ممدودٌ يُجْمع على أَهْوِيَةٍ، ثم حذَّر تعالى نبيَّه- عليه السلام- من اليهودِ أنْ يفتنوه بأنْ يَصْرِفُوه عن شيء ممَّا أنزل الله عليه من الأحكام

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 611) (12143) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 43) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 201) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 513) ، وعزاه لعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، من طرق عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 612) برقم (12154) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 53]

لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له مراراً: احكم لنا في نازلةِ كَذَا بكَذَا، ونَتَّبِعَكَ على دينك. وقوله سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا، قبله محذوفٌ، تقديره: فإِنْ حكَّموك واستقاموا، فَنِعِمَّا ذلك، وَإِن تَوَلَّوْا، فَاعْلَمْ ... الآية، وخصَّص سبحانه إصابتهم ببَعْض الذنوبِ دون كلِّها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا، وذنُوبُهم نوعانِ: نوعٌ يخصُّهم، ونوعٌ يتعدى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنين، وبه توعَّدهم اللَّه في الدنيا، وإنما يعذَّبون بالكُلِّ في الآخرة. وقال الفَخْر «1» : وجوزُوا ببَعْض الذنوبِ في الدنيا، لأنَّ مجازَاتهُمْ بالبَعْض- كافٍ في إهلاكهم وتدميرِهِمْ. انتهى. وقوله سبحانه: فَاعْلَمْ ... الآية: وعد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد أنجزه بقصَّة بني قَيْنُقَاعٍ، وقصَّةِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وإجلاءِ عُمَرَ أهْلَ خيبَرٍ وفَدَك وغيرهم. وقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ/ لَفاسِقُونَ: إشارة إليهم، ويندرجُ في عمومِ الآية غَيْرُهُمْ. وقوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ: إشارة إلى الكُهَّان الذين كانُوا يأخْذُون الحُلْوَان «2» ، ويحكُمُون بحَسَب الشهوات، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً، أي: لا أحد أحسنُ منه حكماً تبارك وتعالى. [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ: نهى اللَّه سبحانه المؤمنين بهذه الآية عَن اتخاذِ اليهودِ والنصارى أولياءَ في النُّصْرة والخُلْطة المؤدِّية إلى الامتزاج والمعاضَدَة، وحُكْمُ هذه الآيةِ باقٍ، وكلُّ من أكثر مخالطة هذين الصّنفين، فله

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 14) . (2) حلوان الكاهن: هو ما يعطاه من الأجر والرشوة على كهانته. ينظر: «النهاية» (1/ 435) (حلن) .

حَظُّه من هذا المَقْت الذي تضمَّنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وسببُ نزولِ هذه الآيةِ أنَّه لَمَّا انقضت بدْرٌ وشَجَر أمر بني قينقاع، أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَتْلهم، فقام دُونَهم عبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ مخاصِماً، وقال: يا محمَّد، أَحْسِنْ في مَوَالِيَّ، فَإنِّي امرؤ أَخَافَ الدوائِرَ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قَدْ وهبتُهُمْ لك «1» ، ونزلَتِ الآية في ذلك. وقوله عزَّ وجلَّ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ: جملةٌ مقطوعة من النَّهْيِ. وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: إنحاء على عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ، وعلى كلِّ من اتصف بهذه الصفة. وقوله سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ: المعنى: فترى يا محمد، الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إشارةً إلى عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومَنْ تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قَيْنُقَاعٍ. وقوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ: لفظٌ محفوظٌ عن عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومن تبعه من المنافقين، ودَائِرَةٌ: معناه نَازِلَةٌ من الزمان، وإنما كان ابن أبيٍّ يظهر أنه يستَبْقِيهم لِنُصْرة النبيِّ- عليه السلام-، وأنه الرأْيُ، وكان يبطنُ خلافَ ذلك. وقوله سبحانه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وهو ظهور نبيه- عليه السلام-، وعلوّ كلمته، وتمكينُهُ مِنْ بني قَيْنُقَاعٍ وقريظَةَ والنَّضِيرِ، وفَتْحُ مكَّة، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُهْلِكُ بِهِ أعداءَ الشرع، وهو أيضاً فتْحٌ لا يقع فيه للبَشَر سبَبٌ. وقرأ ابن الزُّبَيْر «2» : «فَيُصْبِحَ الفُسَّاقُ على مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادمين» . وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، قرأ «3» نافعٌ وغيره: «يَقُولُ» - بغير واو-، وقرأ حمزة وغيره: «وَيَقُولُ» ، وقرأ أبو عمرو وحْده: «وَيَقُولَ» - بالواو، ونصبِ اللامِ- فذَهَبَ كثيرٌ من المفسِّرين إلى أنَّ هذا القولَ مِنَ المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتْحُ، وحصَلَتْ ندامةُ المنافقين، وفَضَحهم الله تعالى، فحينئذ:

_ (1) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (4/ 615) (12162) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 203) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 515) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير عن عطية بن سعد. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 205) ، و «البحر المحيط» (3/ 520) . (3) ينظر: «السبعة» (245) . و «الحجة» (3/ 229) ، و «حجة القراءات» (229) ، و «العنوان» (88) ، و «شرح الطيبة» (4/ 230) ، و «شرح شعلة» (351) ، وإتحاف» (1/ 37) ، و «معاني القراءات» (1/ 333) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 54 إلى 59]

يقول المؤمنون: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا ... الآية. وتحتمل الآيةُ أنْ تكون حكايةً لقولِ المؤمنين في وقْتِ قولِ الذين في قلوبهم مرضٌ: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ: إذ فُهِمَ منهم أنَّ تمسُّكهم باليهودِ إنما هو إرصاد لِلَّهِ ولرسولِهِ، فمَقَتَهم النبيُّ- عليه السلام- والمؤمنون، وترك لهم النبيُّ- عليه السلام- بني قَيْنُقَاعٍ رغْبةً في المصلحة والأُلْفة، وأما قراءة أَبي عَمْرٍو: «وَيَقُولَ» - بالنصب-، فلا يتجه معها أَنْ يكون قولَ المؤمنين إلاَّ عند الفَتْح، وظُهورِ ندامة المنافقينَ، وفَضيحَتِهِمْ. وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: نصْبُ «جَهْدَ» على المصدر المؤكِّد، والمعنى: أهؤلاء هم المُقْسِمُون باجتهاد منهم في الأيمانِ إنهم لَمَعَكُمْ، قد ظهر الآنَ منهم مِنْ موالاة اليهودِ، وخَذْلِ الشريعةِ- ما يُكَذِّبُ أيمانهم. وقوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ: يحتملُ أنْ يكون/ إخباراً من اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون مِنْ قول المؤمنين، ويحتمل أنْ يكون قوله: حَبِطَتْ دعاءً، أي: بطلت أعمالهم. [سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... الآية: خطابٌ للمؤمنين إلى يوم القيامة، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعَدَ هذه الأمة أنَّ من ارتدَّ منها، فإنه يجيءُ سبحانه بقومٍ ينصُرُونَ الدِّين، ويُغْنُونَ عن المرتدِّين. قال الفَخْر «1» : وقدَّم اللَّه تعالى محبَّته لهم على محبَّتهم له إذ لولا حُبُّه لهم، لما وفَّقهم أنْ صاروا محبِّين له. انتهى، وفي كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه» للمُحَاسِبِيِّ، قُلْتُ للشيخ: فَهَلْ يَلْحَقُ المحبِّينَ للَّه عزَّ وجلَّ خَوْفٌ؟ قال: نَعَمِ، الخَوْفُ لازمٌ لهم كما لزمهم الإيمَانُ لا يزولُ إلاَّ بزَوَاله، وهذا هو خَوْفُ عذابِ التَّقْصيرِ في بدايتهم حتى إذا صاروا

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 21) .

إلى خَوْفِ الفَوْت، صاروا إلى الخوف الذي يكُونُ في أعلى حالٍ، فكان الخوف الأوَّلُ يطرقهم خطراتٍ، وصارِ خوْفُ الفَوْتِ وطنات، قلْتُ: فما الحالَةُ التي تَكْشِفُ عن قلوبهم شَدِيدَ الخَوْف والحُزْن؟ قال: الرجاءُ بحُسْن الظَّنِّ لمعرفتهم بسعة فَضْل اللَّه عزَّ وجلَّ، وأَمَلُهُمْ منه أنْ يظفروا بمرادهم، إذا وَرَدُوا عليه، ولولا حُسْن ظنِّهم بربِّهم، لَتَقطَّعت أنفسهم حسراتٍ، وماتوا كَمَداً، قلْتُ: أيُّ شيءٍ أكثَرُ شُغْلِهِمْ، وما الغالبُ على قلوبِهِمْ في جميعِ أحوالهم؟ قال: كثرةُ الذِّكْر لمحبوبهم على طريق الدوامِ والاستقامةِ، لا يَمَلُّونَ، ولا يَفْتُرُون، وقد أجمع الحكماءُ أنَّ من أحَبَّ شيئاً، أكْثَرَ مِنْ ذكره، ثم قال: قال ذُو النُّونِ: مَا أُولِعَ أحَدٌ بذكْرِ اللَّه إلا أفاد منْهُ حُبَّ اللَّهِ تعالَى. انتهى. وفي الآية إنحاءٌ على المنافِقِينَ، وعلى من ارتد في مدة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. قال الفَخْر «1» : وهذه الآيةُ إخبارٌ بغَيْبٍ، وقد وقع الخَبَر على وَفْقِهِ فيكون معجزاً، وقد ارتدَّتِ العربُ وغيرهم أيام أبِي بَكْر، فنَصَر اللَّه الدِّين، وأتى بخَيْرٍ منهم. انتهى. وقوله سبحانه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، معناه: متذلِّلين مِنْ قِبَلِ أنفسهم، غَيْرَ متكبِّرين، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] وكقوله- عليه السلام-: «المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ» ، وفي قراءة «2» ابن مسعودٍ: «أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ غُلَظَاءَ عَلَى الكَافِرِينَ» . وقوله تعالى: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: إشارةٌ إلى الرَّدِّ على المنافقين في أَنَّهم يعتَذِرُونَ بممالأَة الأحْلاَفِ والمعارِفِ مِنَ الكفَّار، ويراعُونَ أمرهم، قُلْتُ: وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخطيبِ بسنده على أبي ذِر، قال: «أَوْصَانِي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِسَبْعٍ: أوْصَانِي أَنْ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ فَوْقِي- يعني: فِي شَأْنِ الدُّنْيَا-، وأوْصَانِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الحَقَّ وَإنْ كَانَ مُرًّا، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإنْ أَدْبَرَتْ، وَأَوْصَانِي أَلاَّ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَوْصَانِي ألاَّ أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً، وَأَوْصَانِي أَنْ أسْتَكْثِرَ مِنْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» «3» . انتهى. وقوله سبحانه: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ: الإشارةُ ب «ذلك» إلى كون القومِ يحبّون الله

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 20) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 208) ، و «البحر المحيط» (3/ 524) ، و «الدر المصون» (2/ 549) . (3) أخرجه أحمد (5/ 173) وذكره الهيثمي في «المجمع» (3/ 96) وقال: ورجاله ثقات إلا أن الشعبي لم أجد له سماعا من أبي ذر.

عزّ وجلّ ويحبّهم، وواسع: ذو سَعَةٍ فيما يملكُ ويُعْطِي وينعم به سبحانه. وقوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... الآية: «إنما» في هذه الآية حاصرةٌ، وقرأ ابن مسعود «1» : «إنَّمَا/ مَوْلاَكُمُ اللَّهُ» ، والزكاةُ هنا: لفظٌ عامٌّ للزكاةِ المفروضةِ، والتطوُّعِ بالصدَقَةِ، ولكلِّ أفعالِ البِرِّ، إذ هي مُنَمِّيَةٌ للحسنات، مطَهِّرة للمَرْءِ مِنْ دَنَسِ السيِّئات، ثم وصفهم سبحانه بتَكْثير الركُوعِ، وخُصَّ بالذكْر لكونه مِنْ أعظم أركان الصلاة، وهي هيئَةُ تواضعٍ، فعبَّر عن جميعِ الصلاَةِ كما قال سبحانه: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26] هذا هو الصحيحُ.، وهو تأويل الجمهورِ، ولكن اتفق مع ذلك أنَّ عليَّ بْنَ أبي طالِبٍ (رضي اللَّه عنه) أعطى خاتَمَهُ، وهو راكعٌ «2» . قال السُّدِّيُّ: وإن اتفَقَ ذلك لعليٍّ، فالآية عامَّة في جميعِ المؤمنين «3» . ثم أخبر تعالى: أنَّ مَنْ يتولَّى اللَّه ورسولَهُ والمؤمنين، فإنه غالبٌ كُلَّ مَنْ ناوأه، وجاءَتِ العبارةُ عامَّة في أنَّ حِزْبَ اللَّه هم الغالِبُون، ثم نهى سبحانه المؤمنينَ عنِ اتخاذ الَّذينَ اتخذوا دينَنَا هُزُواً ولعباً، وقد ثبت استهزاء الكُفَّار في قوله سبحانه: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] وثبت استهزاء أهْل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاءُ المُنَافِقِينَ في قولهم لشياطينهم: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] . ثم أمر سبحانه بتَقْواه، ونبَّه النفوسَ بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وقوله سبحانه: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ... الآية: إنحاءٌ على اليَهُودِ، وتبيينٌ لسوء فعلهم. وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ: معنى المحاورةِ: هَلْ تَنْقِمُونَ منا إلا مجموعَ هذه الحالِ مِنْ أنا مؤمنون، وأنتم فاسقون كما تقول لمن تخاصمه: هل تَنْقِمُ مني إلاَّ أَنْ صَدَقْتُ أَنَا، وَكَذَبْتَ أَنْتَ، وقال بعضُ المتأوِّلين: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ: معطوفٌ علَى ما كأَنَّه قال: إِلاَّ أَنْ آمنَّا باللَّهِ وبكُتُبِهِ، وبأنَّ أكثركم فاسقُونَ، وهذا مستقيم المعنى، وقال:

_ (1) ينظر: «الشواذ» ص (39) ، و «الكشاف» (1/ 648) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 208) ، و «البحر المحيط» (3/ 525) ، و «الدر المصون» (2/ 551) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 628) (12215) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 208) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 520) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن عساكر عن سلمة بن كهيل. [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 628) (12215) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 208) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 60 إلى 63]

أَكْثَرَكُمْ، من حيث إنَّ فيهم مَنْ آمن كابن سلام وغيره. [سورة المائدة (5) : الآيات 60 الى 63] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً، يعني: مرجعاً عند اللَّه يوم القيامة ومنه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ [البقرة: 125] ، ومشى المفسِّرون في هذه الآية على أنَّ الذين أُمِرَ- عليه السلام- أنْ يقول لهم: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ هم اليهودُ والكُفَّار المتَّخِذُون دينَنَا هُزُواً ولعباً قال ذلك «1» الطبريُّ «2» ، وتُوبِعَ عليه، ولم يُسْنِدْ في ذلك إلى متقدِّم شيئاً، والآيةُ تحتملُ أنْ يكون القول للمؤمنين، أي: قُلْ يا محمَّد، للمؤمنين: هَلْ أنبئكم بِشَرٍّ مِنْ حال هؤُلاء الفاسِقِينَ في وَقْتِ المَرْجِعَ إلى اللَّهِ أولئك أسلافهم الَّذين لعنهم اللَّه، وغَضِبَ عليهم. وقوله سبحانه: وَجَعَلَ، هِيَ بمعنى «صَيَّرَ» ، وقد تقدَّم قصص مَسْخِهِمْ قِرَدَةً في «البقرة» ، وعَبَدَ الطَّاغُوتَ: تقديره: ومَنْ عبَدَ الطاغوتَ، وقرأ حمزةُ وحده «3» «وعَبُدَ الطَّاغُوتِ» - بفتحِ العين، وضمِّ الباءِ، وكسرِ التاء مِنَ الطاغوت- وذلك أنَّ «عَبُدَ» لفظُ مبالغةٍ كقَدُسَ. قال الفَخْر: قيل: الطاغوتُ هنا: العِجْلُ، وقيل: الطاغوتُ أحبارهم، وكلُّ من أطاع أحداً في معصية اللَّهِ فقد عبده. انتهى. ومَكاناً: يحتمل أن يريد في الآخرةِ، فالمكان على وجْهه، أي: المحلّ إذْ محلُّهم جهنَّم، ويحتملُ أنْ يريد في الدنيا، فهي استعارةٌ للمكانةِ، والحالة. وقوله سبحانه: وَإِذا جاؤُكُمْ يعني: اليهودَ، وخاصَّة المنافقين منهم قاله ابن

_ (1) ينظر: «الطبري» (4/ 632) . (2) ذكره الطبري في «تفسيره» ، (4/ 632) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 211) . (3) ينظر: «السبعة» (246) ، و «الحجة» (3/ 236) ، و «إعراب القراءات» (1/ 147) ، و «العنوان» (88) ، و «حجة القراءات» (231) ، و «شرح شعلة» (353) ، و «شرح الطيبة» (4/ 233) ، و «إتحاف» (1/ 539) ، و «معاني القراءات» (1/ 335) .

[سورة المائدة (5) : آية 64]

عباس «1» وغيره. وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ: أي: من الكُفْر، والرؤيةُ هنا تَحْتملُ أن تكون قلبية، وأن تكون بصريّة، وفِي الْإِثْمِ، أي: موجباتِ الإثمِ، واللامُ في: لَبِئْسَ: لام قَسَم. وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ: تحضيضٌ في ضمنه توبيخٌ لهم، قال الفَخْر «2» : والمعنى: هَلاَّ ينهاهم. انتهى. قال الطبريُّ «3» : كان العلماءُ يقُولُون: ما في القرآن آيةٌ هي أشَدُّ توبيخاً للعلماءِ من هذه الآية، ولا أخْوَفُ عليهم منْها. وقال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: ما في القُرآنِ آيةٌ أخْوَفُ عندي منها «4» إنَّا لا ننهى وقال نحو هذا ابنُ عَبَّاس «5» . وقوله سبحانه: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ: ظاهره أنَّ الإثم هنا يرادُ به الكُفْر، ويحتمل أن يراد سَائِرُ أقوالهم المُنْكَرَة في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وقرأ «6» ابن عباس: «بِئْسَ مَا كَانُوا يصنعون» بغير لام قسم. [سورة المائدة (5) : آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وقوله سبحانه وتعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ ... إلى قوله: لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ: هذه الآيةُ تعديدُ كبيرةٍ في أقوالهم وكُفْرهم، أي: فَمَنْ يقول هذه العظيمة، فلا

_ (1) أخرجه الطبري (4/ 637) ، وابن عطية (2/ 214) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 34) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 637) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 638) (12243) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 214) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 524) ، وعزاه لابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك بن مزاحم. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 638) (12243) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 214) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 524) وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ عن ابن عباس. (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 214) ، و «البحر المحيط» (3/ 532) ، و «الدر المصون» (2/ 565) .

يُسْتنكَرُ نفاقُهُ وسعْيُهُ في رَدِّ أمر اللَّه تعالى. قال ابن عباس وجماعة: معنى قولهم: التبخيلُ وذلك أنهم لحقَتْهم سَنَةٌ وجَهْدٌ، فقالوا هذه المقالة، يعْنُونَ بها أنَّ اللَّه بَخِلَ عليهم بالرِّزْقِ والتوسعَةِ، تعالَى اللَّه عن قَوْلِهِمْ «1» ، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] فإن المراد: لا تَبْخَلْ ومنه قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ ... » الحديثَ، وذكر الطبري والنَّقَّاش أن هذه الآية نزلَتْ في فِنْحَاص اليَهُودِيِّ، وأنه قالها «2» . وقوله سبحانه: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ: خبرٌ يحتملُ في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن كان خبراً عن الدنيا، فالمعنى: غُلَّت أيديهم عن الخَيْرِ والإنفاقِ في وجوه البِرِّ ونحوه، وإذا كان خبراً عن الآخرة، فالمعنى: غُلَّتْ في النار، قلْتُ: ويَحْتَمِلُ الأمْرَيْنِ معاً. وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ: العقيدةُ في هذا المعنى: نَفْيُ التشبيه عن اللَّه سبحانه، وأنه ليس بِجِسْمٍ، ولا له جارِحَةٌ، ولا يُشَبَّهُ، ولا يُكَيَّفُ، ولا يَتحيَّز، ولا تَحُلُّهُ الحوادثُ، تعالى عما يقول المبطلون عُلُوًّا كبيراً، قال ابن عبَّاس في هذه الآية: يَداهُ: نعمتاه «3» ، ثم اختلفت عبارة النَّاس في تَعْيِين «4» النعمتَيْن:

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» بنحوه (4/ 640) برقم (12246) ، وابن عطية (2/ 214) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 640) برقم (12251) عن عكرمة. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 640) ، ولم يعزه لأحد وذكره ابن عطية (2/ 215) . (4) أقول وبالله التوفيق: وإنما يجب أن يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فيمن أثبت لله- تعالى- ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى- ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى فالاستواء على العرش صفة لله تعالى يجب الإيمان بها بلا كيف، ويكل العلم فيه إلى الله- عز وجل- وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، وما أظنك إلا ضالا.، ثم أمر به فأخرج. ينظر: «البغوي» (2/ 165) . [.....]

فقيل: نعمةُ الدنيا، ونعمةُ الآخرةِ، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنةُ، والظاهر أن قوله سبحانه: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارةٌ عن إنعامه على الجملة، وعبَّر عنها باليدَيْن جرياً على طريقة العرب في قولهم: فُلاَنٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ ومنه قول الأعشى: [الطويل] يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَة ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالمَالِ تُنْفِقُ «1» ويؤيِّد أن اليدَيْن هنا بمعنى الإنعامِ- قرينةُ الإنفاق، ثم قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ، يعني: اليهودَ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، ثم قال سبحانه: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، العداوة: أخصُّ من البغضاء لأن كلَّ عدوٍّ، فهو يُبْغضُ، وقد يُبْغضُ مَنْ ليس بعدُوٍّ، والبغضاء: قد لا تتجاوَزُ النفوسَ، وقد ألقى اللَّه سبحانه الأمرَيْن على بني إسرائيل. قال الفَخْر «2» : وقد أوقع اللَّه بَيْنَ فِرَقِهِمْ الخصومةَ الشَّديدة، وانتهى أمرهم إلى أنْ يُكَفِّرَ بعضهم بعضاً، وفي قوله: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ ... الآية: قولان: أحدهما: أن المراد ما بَيْن اليهودِ والنصارى من العداوةِ لأنه جرى ذكْرُهُمْ في قوله: لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] ، وهذا/ قول الحسنِ ومُجَاهد «3» . والثاني: ما وقع من العداوة بين فِرَقِ اليهود، فإنَّ بعضهم جبريَّةٌ وبعضهم قَدَرية، وبعضهم مُوَحِّدة، وبعضهم مُشَبِّهة، وكذلك بَيْن فرقِ النصارى كالمَلْكَانِيَّة، والنُّسْطُورِيَّة، واليَعْقُوبيَّة «4» . انتهى.

_ (1) البيت في ديوانه (225) ، و «الدر المصون» (2/ 566) ، و «البحر المحيط» (3/ 535) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 38) . (3) أخرجه الطبري (4/ 642) برقم (12254) عن مجاهد. (4) ونقل عن طوائف النصارى القول بالاتحاد، وعن بعضهم القول بالحلول، وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله، وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله. واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد. فقيل: معناه أن الكلمة وهي صفة العلم ظهرت في عيسى وصارت معه هيكلا. وقيل: معناه المخارجة بمعنى أن تكون من الكلمة وعيسى شيء ثالث- وأما القول بالحلول فمعناه على رأي بعض فرقهم: أن الكلمة وهي صفة العلم حلت في المسيح، وعلى رأي البعض الآخر: أن ذات الله حلت في المسيح. ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا وغير منضبط على وجه صحيح، فنذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول فنقول: إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح، أو حلول ذاته فيه، أو حلول صفته فيه، وكل ذلك إما ببدن عيسى أو بنفسه وإما ألّا يقولوا بشيء من ذلك. وحينئذ فإما أن يقولوا: أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أولا. ولكن خصه الله بالمميزات، وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا، فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده، والسابع-

وقوله سبحانه: كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ: استعارة بليغة، قال

_ - باطل لما ثبت أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح، وهو باطل أيضا لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم والاتحاد بجميع معانيه وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب، وذكر عيسى بلفظ الابن، وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا، فمن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) في الصحاح الرابع عشر (يا فيلسوف من يراني ويعاينني، فقد رأى الأب، فكيف بقول: أنت أرنا الأب، ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسي، بل من قبل أبي الحال في، وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل آمن وصدق أني بأبي وأبي بي) هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم، فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله: (من يراني ويعاينني فقد رأى الأب) وأخذ بعضهم الحلول من قوله: (أبي الحال في) ، وأخذ النبوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى، وهذا لا يصلح دليلا لوجهين: الوجه الأول: توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل، فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل يوحنا مما حصل فيه التغيير والتبديل، فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا، فلا يصح به الاستدلال. الثاني: أن نتنزل ونقول: لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى الاتحاد في بيان طريق الحق، وإظهار كلمة الصدق كما يقال: أنا وفلان واحد في هذا القول، ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل حلول آثار صنع الله من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ولجواز أن يكون المراد من الأب المبدئ، فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدئ فمضى قوله: أبي مبدئي وموجدي وسمى عيسى ابنا تشريفا له كما سمى إبراهيم خليلا. وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه يقال له: ابنه كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء السبيل، فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن لتوجهه، في أكثر الأحوال إلى الحق، واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس، ومما يؤكد ذلك أنه جاء في الصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه: «وكما أنت يا أبي بي وأنا بك، فليكونوا هم أيضا نفسا واحدا يؤمن أهل العلم، بأنك أنت أرسلتني، وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به، ودفعته إليهم ليكونوا على الإيمان، كما أنا وأنت أيضا واحد، وكما أنت حال فيّ كذلك أنا فيهم ليكون كمالهم واحدا» هذا لفظ الإنجيل، وقد تبين منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه، وجاء في الصحاح التاسع عشر ما لفظه: «إني صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم» وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب الإله، وعلى أنه مساو لهم في معنى النبوة والعبودية، فهذه النصوص تدحض حجتهم، وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والنبوة. أما بعض اليهود الذين قالوا: أن عذيرا ابن الله، فقد أشار الله- تعالى- إليه بقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] نسب الله ذلك القول إلى اليهود، مع أنه قول لطائفة منهم، جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة، وعملوا بغير الحق فعاقبهم الله تعالى بأن أنساهم التوراة، ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله، وابتهل إليه، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به، فلما جربوه-

[سورة المائدة (5) : الآيات 65 إلى 66]

مجاهد: معنى الآيةِ: كلَّما أوقدوا ناراً لحَرْبِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أطفأها اللَّه «1» ، فالآيةُ بشارةٌ لنبيِّنا محمد- عليه السلام- وللمؤمنين، وباقي الآية بيّن. [سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا ... الآية: هذه الآية تحتملُ أنْ يراد بها معاصرو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتحتملُ أنْ يراد بها الأسلافُ، والمعاصِرُونَ. وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ، أي: أظهروا أحْكَامها، فهي كإقامةِ السُّوق، وإقامةِ الصَّلاةِ. وقوله سبحانه: وَالْإِنْجِيلَ: يقتضي دخُولَ النصارى في لفظُ أهْلِ الكتابِ في هذه الآية، قلْتُ: وقال مكِّيٌّ: معنى: أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ: أيْ: عملوا بما فيهما، وأقروا بصفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبنبوَّته. انتهى من «الهداية» . وقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: معناه: مِنْ وحْيٍ وسُنَنٍ على ألْسِنَةِ الأنبياء- عليهم السلام-، واختُلِفَ في معنى: مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، فقال ابن عباس وغيره: المعنى: لأعطتهم السماءُ مطَرها، والأرض نباتَهَا بفَضْلِ اللَّه تعالى «2» ، وقال الطبريُّ «3» وغيره: إن الكلام استعارة ومبالغةٌ في التوسِعَةِ كما يقالِ: فُلاَنٌ قد عمَّهُ الخَيْرُ مِنْ قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ. وقوله سبحانه: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ: معناه: معتدِلَةٌ، والقَصْد والاقتصاد: الاعتدال والرفْقُ والتوسُّط الحَسَن في الأقوال والأفعال، قال ابنُ زَيْد: وهؤلاءِ هُمْ أهْل طاعَةِ اللَّه من

_ - وجدوه صادقا فيه، فقالوا: ما تيسر لهذا العزير دون سواه إلا لأنه ابن الله، وهذه شبهة واهية لا يصح الاستناد إليها لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله، والخضوع لأوامره، واجتناب نواهيه لا بالنبوة كما يزعمون. ينظر: «الدرر السنية في تنزيه الحضرة الإلهية» لشيخنا أحمد المستكاوي. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 644) برقم (12259) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 216) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 645) برقم (12261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 527) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. (3) ينظر: الطبري (4/ 645) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 67 إلى 68]

أهْل الكتاب «1» . قال ع «2» : وهذا هو الراجِحُ. [سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 68] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... الآية: هذه الآية أمْرٌ مِنَ اللَّه تعالى لنبيِّه- عليه السلام- بالتبليغِ على الاستيفاء والكمالِ لأنه قد كان بلّغ صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أُمِرَ في هذه الآيةِ بِأَلاَّ يتوقَّفَ عن شَيْء مخافةَ أحَدٍ وذلك أنَّ رسالته- عليه السلام- تضمَّنت الطَّعْنَ على أنواع الكَفَرة، وبيان فساد حالهم، فكان يلقى منهم صلّى الله عليه وسلّم عَنَتاً، وربَّما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية، فقال الله تعالى له: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، أيْ: كاملاً، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، قالتْ عائشةُ أمُّ المؤمنين (رضي اللَّه عنها) : «مَنْ زَعَمَ أنَّ محمداً كَتَمَ شيئاً مِنَ الوَحْيِ، فقد أَعْظَم الفريةَ، والله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... الآية» ، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ شَقِيقٍ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعقبه أصحابُهُ يحْرُسُونه، فلما نزلَتْ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، خرَجَ، فقَالَ: «يَا أَيُّها النَّاسُ، الحقوا بِمَلاَحِقِكُمْ فَإنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي» «3» ، قلْتُ: وخرَّج الترمذيُّ هذا الحديثَ أيضاً من طريق عائشة «4» ، وكما وجَبَ عليه التبليغُ- عليه السلام-، وجب على علماءِ أمته، وقد قال- عليه السلام-: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة» «5» ، وعن زيدِ بنِ ثابتٍ (رضي اللَّه عنه) قَالَ: سَمِعْتُ

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 646) برقم (12271) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 217) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 475) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 647) رقم (12277) عن عبد الله بن شقيق. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 530) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه. (4) أخرجه الترمذي (5/ 251) كتاب «التفسير» ، باب سورة المائدة رقم (3046) ، والحاكم (2/ 313) ، والطبري (4/ 647) رقم (12279) من طريق سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحرس، ولم يذكروا فيه عائشة. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 529) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وأبي نعيم، والبيهقي كلاهما في «الدلائل» . (5) أخرجه البخاري (6/ 572) كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث (3461) ، -[.....]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً، فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلٍ فِقْهٍ إلى مَنْ لَيْسَ بِفَقِيةٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ، رواه أبو داودَ، واللفظ له، والترمذيُّ والنسائِيُّ وابنُ ماجه، وابن حِبَّانَ في «صحيحِهِ» ، وقال التِّرمذيُّ/: هذا حديثٌ حسنٌ، ورواه مِنْ حديث ابن مسعود، وقال: حسن صحيح «1» . انتهى من «السلاح» .

_ - والترمذي (5/ 39) كتاب «العلم» ، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، حديث (2669) وقال: حسن صحيح. (1) ورد من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وجبير بن مطعم. فأما حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (5/ 33) في العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2657، 2658) ، وابن ماجة (1/ 85) في المقدمة، باب من بلغ علما (232) والحميدي في «مسنده» (88) ، وأحمد (1/ 437) ، والشافعي في «مسنده» (1/ 16) ، وأبو يعلى (5226، 5296) ، وابن حبان (74، 75، 76) موارد، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» برقم (6، 7، 8) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (188، 189، 190، 191) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 331) . والخطيب في «الكفاية» ص (173) ، وفي «شرف أصحاب الحديث» ص (18، 19) ، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 15- 16، 43) ، وفي «الدلائل» (6/ 540) والقضاعي في «مسند الشهاب» (1419، 1420) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 9، 10) وأبو الشيخ في «الأمثال» (204) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/ 90) ، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» ص (322) من طرق عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأما حديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود (2/ 346) في العلم، باب فضل نشر العلم (3660) ، والترمذي (2656) وابن ماجة (230) ، وأحمد (5/ 183) وابن حبان (72- 73) موارد، والدارمي (1/ 75) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 232) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (184، 185، 186، 187) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (94) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 11) ، والرامهرمزي (423) والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص 17، 18) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 71) . وقال الترمذي: حديث حسن. وأما حديث جبير بن مطعم فأخرجه ابن ماجة (231) ، وأحمد (4/ 80، 82) والدارمي (1/ 74- 75) والطبراني في «الكبير» (1541) ، وأبو يعلى في مسنده (7413) والقضاعي في «مسند الشهاب» (1421) والطحاوي في «المشكل» (2/ 232) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 10) ، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 4- 5) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (195) ، والحاكم في «المستدرك» (1/ 87) من طرق عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه. وأخرجه ابن ماجة (231) ، والطبراني في «الكبير» (1542) ، والطحاوي في «المشكل» (2/ 232) من طريق ابن إسحاق، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الزهري، عن محمد بن جبير به. وقال البوصيري في «الزوائد» (1/ 99) : هذا إسناد ضعيف لضعف عبد السلام.. وأخرجه الطبراني (1543) وابن أبي حاتم (1/ 10) من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن محمد بن جبير، عن أبيه به. -

[سورة المائدة (5) : الآيات 69 إلى 70]

وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظِيُّ: نزِلَتْ هذه الآيةُ بسبب الأعرابيِّ الذي اخترط سيْفَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ليقتُلَهُ به «1» . قال ابنُ العربيِّ: قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ: معناه: يَجْعَلْ بينَكَ وبينهم حجاباً يمنع من وصُولِ مكروههم إلَيْك كَعِصَامِ الْقِرْبَةِ الذي يَمْنَعُ سَيَلاَنَ الماءِ منها، ولعلمائنا في الآية تأويلاتٌ. أصحها: أنَّ العصمة عامَّة في كلِّ مكروهٍ، وأنَّ الآية نزلَتْ بعد أن شجّ وجهه، وكسرت رباعيته صلّى الله عليه وسلّم «2» . وقيل: إنه أراد مِنَ القتل خاصَّة، والأول أصحّ، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أُوتِيَ بَعْضَ هذه العَصْمَةِ بمكَّة في قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] ثم كمُلَتْ له العصْمَةُ بالمدينةِ، فعُصِمَ من النَّاس كلِّهم. انتهى من كتابه في تفسير أفعال اللَّه الواقعة في القرآن. ثم أمر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنْ يقولَ لأهْل الكتابِ الحاضِرِينَ معه: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ، أيْ: على شيءٍ مستقيمٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وفي إقامتهما الإيمانُ بنبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، قلْتُ: وهذه الآية عنْدِي مِنْ أَخْوَفِ آية في القرآنِ كما أشار إلى ذلك سفيانُ، فتأمَّلها حقَّ التأمُّل. وقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: يعني به القرآن. [سورة المائدة (5) : الآيات 69 الى 70] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)

_ - وأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (7414) ، والحاكم (1/ 87- 88) من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الرّحمن بن الحويرث عن محمد بن جبير به. وتابعه عليه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو به، وأخرجه الدارمي في «سننه» (1/ 74) . وأخرجه الطبراني (1544) ، والحاكم (1/ 87) من طريق نعيم بن حماد قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن محمد بن جبير. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 648) (12281) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 218) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 530) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي. (2) أخرجه مسلم (3/ 1417) ، كتاب «الجهاد والسير» ، باب غزوة أحد (104- 1791) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 71 إلى 75]

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: الذين آمنوا: لفظٌ عامٌّ لكلِّ مؤمنٍ من مِلَّةِ نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ومِنْ غَيْرها من المِلَلِ، فكأنَّ ألفاظ الآية حُصِرَ بها الناسُ كلُّهم، وبُيِّنَتِ الطوائفُ على اختلافها، وهذا هو تأويلُ الجمهور، وقد مَضَى الكلامُ في «سورة البقرة» ، فراجعْهُ هناك، وقرأ الجمهورُ: «وَالصَّابِئُونَ» ، وقرىء خارجَ السبعة «1» : «والصَّابِئِينَ» ، وهي بيِّنة الإعراب، وأما على قراءة الجمهورِ، فاختلف في إعرابها، ومَذْهَبُ سبيَوَيْهِ، والخَلِيلِ، ونُحَاةِ البَصْرة: أنه من المقدَّم الذي معناه التأْخِيرُ، كأنَّه قال: إنَّ الذين آمنوا والذين هَادُوا، مَنْ آمَنَ باللَّه واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالحاً، فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنُونَ، والصَّابِئُونَ والنصارى كذلك. قال ص: ووجه ثانٍ أنَّ خبر «إنَّ» محذوفٌ، أي: إنَّ الذين آمنوا لهم أجرهم، وخبر «الصّابئين» : مَنْ آمَنَ وما بعده، قال ابنُ عُصْفُورٍ وهو حَسَنٌ جدًّا إذ ليس فيه أكثر من حَذْفِ خبرِ «إنَّ» للفهم، وهو جائزٌ في فصيحِ الكلامِ. انتهى. قلتُ: قال ابْنُ مالكٍ: وهو أسهلُ من التقديمِ والتأخيرِ، وقيل: إن الصابِئين في موضِعِ نَصْبٍ، ولكنه جاء على لغة بَلْحَارِثِ الذين يَجْعَلُونَ التثنيةَ بالأَلِفِ على كل حال، والجَمْعَ بالواو على كُلِّ حال قاله أبو البقاء، وقيل غير هذا. [سورة المائدة (5) : الآيات 71 الى 75] وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

_ (1) وهي قراءة عثمان، وأبي بن كعب، وعائشة، وسعيد بن جبير، والجحدري، كما في «المحتسب» (1/ 217) . وينظر: «الكشاف» (1/ 662) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 219) ، و «البحر المحيط» (3/ 541) ، و «الدر المصون» (2/ 576) .

وقوله سبحانه: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ: المعنى في هذه الآيةِ: وظَنَّ هؤلاءِ الكفرةُ باللَّه، والعصاةُ مِنْ بني إسرائيل ألاَّ يكونَ مِنَ اللَّه ابتلاءٌ لهُمْ وأخذ في الدنيا، فلَجُّوا في شهواتهم، وعَمُوا فيها، إذْ لم يُبْصِرُوا الحقّ، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» «1» . وقوله سبحانه: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قالتْ جماعة من المفسِّرين: هذه التوبةُ هِيَ رَدُّهم إلى بَيْتِ المَقْدِس بعد الإخراج الأول، ورَدُّ مُلْكِهِمْ وحَالِهِم، ثم عَمُوا وصَمُّوا بعد ذلك حتى أُخْرِجُوا الخرجةَ الثانيةَ، ولم ينجبرُوا أبداً، ومعنى: تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: رجَعَ بهم إلى الطاعةِ والحقِّ، ومِنْ فصاحة القُرآن: / استناد هذا الفعْلِ الشريفِ إلى اللَّه تعالى، واستناد العمى وَالصَّمَمَ اللَّذَيْن هما عبارةٌ عن الضَّلال إليهم، ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكَّداً بلام القَسَمِ عن كُفْر القائلين: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قولُ اليَعْقُوبِيَّةِ من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيحِ لهم، فقال: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... الآية، فضَلُّوا هم، وكفروا بسَبَب ما رأَوْا على يديه من الآيات.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 755) كتاب «الأدب» ، باب في الهوى حديث (5130) ، وأحمد (5/ 194، 6/ 450) والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 1/ 172) ، والدولابي في «الكنى» (1/ 101) وابن عدي في «الكامل» (2/ 472) والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/ 328) وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 20) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (219) كلهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه مرفوعا وهذا إسناد ضعيف لاختلاط ابن أبي مريم. وأخرجه أحمد (5/ 194) عن أبي اليمان، عن أبي مريم به، إلا أنه رواه موقوفا. قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 181- 182) . وقد بالغ الصغاني فحكم عليه بالوضع، وكذا تعقبه العراقي، وقال: إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، إنما سرق له حلي فأنكر عقله، وقد ضعفه غير واحد، ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن انتهى، وفي الباب مما لم يثبت عن معاوية، قال العسكري: أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن من الحب ما يعميك عن طريق الرشد ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل، وأعماه عن الرشد، وكذا قال بعض الشعراء. وعين أخي الرضى عن ذاك تعمى وقال آخر: فعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وعن ثعلب قال: تعمى العين عن النظر إلى مساويه، وتصم الأذن عن استماع العذل فيه وأنشأ يقول: وكذبت طرفي فيك والطرف صادق ... وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع وقيل تعمى وتصم عن الآخرة، وفائدته النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 76 إلى 77]

وقوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ، يحتملُ أن يكون من قول عيسى- عليه السلام- لبني إسرائيل، ويحتمل أنْ يكون إخباراً من اللَّه سبحانه لنبيِّه محمد- عليه السلام-. وقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ... الآية: إخبارٌ مؤكِّد كالذي قبله، عن هذه الطائفة النَّاطقة بالتثليث، وهم فِرَقٌ، منهم النُّسْطُورِيَّة وغيرهم، ولا معنى لذكْر أقوالهم في كُتُب التَّفْسِير. وقوله سبحانه: ثالِثُ ثَلاثَةٍ: لا يَجوزُ فيه إلاَّ الإضافةُ، وخفض «ثلاثة» لأن المعنى أحدُ ثلاثةٍ، فإنْ قلت: زَيْدٌ ثَالِثُ اثنين، أَوْ رَابِعُ ثَلاَثَةٍ، جاز لك أنْ تضيفَ كما تقدَّم، وجاز ألاَّ تضيفَ، وتَنْصِب «ثَلاَثة» على معنى: زَيْدٌ يربِّع ثلاثةً. وقوله سبحانه: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ... الآية: خَبَرٌ صادِعٌ بالحَقِّ، وهو سبحانه الخالِقُ المُبْدِعُ المتَّصِفُ بالصفات العُلاَ، سبحانه وتعالى عَمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيراً، ثم توعَّدهم، إنْ لم ينتهوا عما يقولُونَ، ثم رَفَق جلَّ وعلا بهم بتحضيضه إيَّاهم على التوبة، وطَلَبِ المَغْفرة، ثم وصَفَ نفسه سبحانه بالغُفْرَانِ والرَّحْمة استجلابا للتائِبِينَ وتَأْنيساً لهم ليكونوا على ثِقَةٍ من الانتفاعِ بتوبتهم. قال ص: لَيَمَسَّنَّ: اللامُ فيه جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ قبل أداة الشرطِ. انتهى. وقوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ: بناءُ مبالغةٍ مِنَ الصِّدْقِ، ويحتملُ من التَّصْديق وبه سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ (رضي اللَّه عنه) وهذه الصفةُ لمريم تدفع قولَ مَنْ قال: إنها نَبِيَّةٌ. وقوله سبحانه: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ: تنبيهٌ على نقص البشريَّة، وعلى حالٍ مِنَ الاحتياجِ إلى الغذاء تنتفي معها الألوهيّة، ويُؤْفَكُونَ: معناه: يصرفون ومنه قوله عز وجل: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 9] ، والأرْضُ المأْفُوكَةُ الَّتِي صُرِفَتْ عن أن ينالها المَطَرُ، والمَطَرُ في الحقيقةِ هو المَصْرُوفُ، ولكنْ قيل: أرضٌ مأفوكة لما كانت مأفوكا عنها. [سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 77] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) وقوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ

[سورة المائدة (5) : الآيات 78 إلى 81]

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ... الآية: الضَّرُّ- بفتح الضاد-: المصدَرُ، وبضمها الاسم، وهو عدم الخير، والسَّمِيعُ لأقوالهم والْعَلِيمُ بنيَّاتهم، والغُلُوُّ: تجاوُزُ الحدِّ من غَلاَ السَّهْمُ إذا تجاوَزَ الغَرَضَ المقصُودَ، وتلك المسافَةُ هي غَلْوَتُهُ، وهذه المخاطَبَةُ هي للنصارَى الذي غَلَوْا في عيسى، والقوم الذين نُهِيَ النصارى عن اتباع أهوائهم هو بَنُو إسرائيل، ووَصَف تعالى اليهودَ بأنهم ضَلُّوا قديماً، وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكَّد الأمر بتَكْرار قوله تعالى: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. [سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) وقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: قال ابنُ عباس (رضي اللَّه عنه) : لُعِنُوا بكلِّ لسانٍ لُعِنُوا في التوراةِ، وفي الزَّبُورِ، والإنجيلِ، والفُرْقَانِ «1» . وقوله سبحانه: كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ... الآية: ذَمَّ اللَّه سبحانه هذه الفِرْقَةَ الملْعُونَةَ بأنهم كانوا لا يَتَنَاهَوْن عن منكرٍ فعلوه، أي: أنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي، / وإن نهى منهم ناه، لم يمتنعْ عن مواصلةِ العاصِي، ومؤاكلتِهِ، وخُلْطَتِهِ ورَوَى ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ، إذَا رأى أَخَاهُ على ذَنْبٍ، نَهَاهُ عَنْهُ تَعْذِيراً، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ، لَم يَمْنَعْهُ مَا رأى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ أَوْ خَلِيطَهُ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تعالى ذَلِكَ مِنْهُمْ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ على لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وعيسى» ، قال ابنُ مسعود: وكانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، وَقَالَ: «لاَ، وَاللَّهِ حتى تَأْخُذُوا على يَدِ الظَّالِمِ، فَتَأطُرُوهُ عَلَى الحَقِّ أَطْراً» «2» ،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 656) (12303) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 223) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 252) كتاب «التفسير» ، باب سورة المائدة، حديث (3047) وأبو داود (2/ 524- 525) كتاب «الملاحم» ، باب الأمر والنهي، حديث (4336) وابن ماجة (2/ 1328) كتاب «الفتن» ، باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حديث (4006) من طريق علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث، عن محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعضهم يقول عن أبي عبيدة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا.

والإجماعُ على أن النهْيَ عن المنْكَرِ- واجبٌ لمن أطاقه، ونهى بمعروفِ، أي: برفْقٍ، وقَوْلٍ معروفٍ، وأمْنِ الضرر عليه، وعلى المؤمنين، فإن تعذَّر على أحَدٍ النَّهْيُ لشيءٍ من هذه الوجوه، ففَرْضٌ عليه الإنكارُ بقلبه، وألاَّ يخالِطَ ذا المُنْكَرِ، وقال حُذَّاق أهْل العِلْم: لَيْسَ مِنْ شروط الناهِي أنْ يكون سليماً من المَعْصية، بل ينهَى العُصَاةُ بعضُهم بعضاً. وقوله سبحانه: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ: اللامُ لامُ قسَمٍ، وروى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ» ، أو قَالَ: «كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» «1» . انتهى. وقوله تعالى لنبيِّه محمَّد- عليه السلام-: تَرى كَثِيراً يحتمل أن تكون رؤيةَ عَيْن فلا يريد إلاَّ معاصريه، ويحتمل أنْ تكونَ رُؤْيَة قَلْب وعلى هذا، فيحتمل أن يريد المعاصرين له، ويحتمل أن يريد أسلافهم، والَّذِينَ كَفَرُوا: عبدة الأوْثَان. وقوله سبحانه: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ... الآية، أي: قدَّمته للآخرة، واجترحته، ثم فسَّر ذلك قولُه تعالى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ف أَنْ سَخِطَ: في موضع رَفْعٍ بدَلٍ من ما، ويحتمل أن يكون التقدير: هو أنْ سَخِطَ اللَّه عليهم. وقوله تعالى: وَالنَّبِيِّ إنْ كان المرادُ الأَسْلاَفَ، فالنبيُّ: داودُ وعيسى، وإنْ كان المرادُ معاصري نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فالمراد ب «النبيّ» هو صلّى الله عليه وسلّم. وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قوله سبحانه: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ كلامٌ منقطعٌ من ذكر بني إسرائيل، وأنه يعني به المنافقين ونحوه لمجاهد «2» .

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 527- 528) ، كتاب «الملاحم» ، باب الأمر والنهي، حديث (4344) ، وابن ماجة (2/ 1329) كتاب «الفتن» ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (4011) من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري به. وأخرجه الحميدي (752) ، والحاكم (4/ 505- 506) من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري به. وقال الحاكم: تفرد به ابن جدعان، ولم يحتج به الشيخان وقال الذهبي في «التلخيص» : هو صالح الحديث. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 225) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 إلى 86]

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) وقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ... الآية: اللامُ في قوله: لَتَجِدَنَّ: لام ابتداءٍ، وقال الزَّجَّاج «1» : هي لامُ قَسَمٍ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ، ومَرَدُوا على استشعار اللعْنَةِ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم، وكَثُر حَسَدهم، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ، فهم إنْ حاربوا، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فَسِلْمُهم صافٍ، واليهودُ (لعنهم اللَّه) ليسوا على شيء من هذه الخِلالِ، بل شأنهم الخُبْث، واللَّيُّ بالألسنة، والمَكْر، والغَدْر، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النصارى بأنهم أهْلُ وُدٍّ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم/ من النصارى بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة، وإنما هو قولٌ منهم، وزَعْم. وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً ... الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وانقطاع إلى اللَّه تعالى، وعبادةٍ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى، فهم يَميلُونَ إلى أهل العبادةِ والخَشْيَةِ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ- أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا، بل هم معظِّمون لها، متطاولُون في البنيان، وأمورِ الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفَخْر «2» : القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارى، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ بلغة الرُّوم، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ. انتهى. ووصف اللَّه سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا، طغى وتكبَّر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 199) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 56) .

إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... الآية: قال النوويُّ: ينبغي للقارىء أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 109] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك. انتهى من «الحلية» للنوويِّ. وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم القُرآن، فَبَكَوْا وآمَنُوا، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ، فآمن، ولم يَزَلْ مؤمناً حتى ماتَ، فصلى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «1» ، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ- عليه السلام- فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليوم الذي صلّى فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعةً وستين رجلاً «2» ، وقال ابن جُبَيْرٍ: كانوا سبعين، عليهم ثيابُ الصُّوف، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة اختارهم النجاشيُّ «3» . وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا، وجاء الضمير عامّا إذا قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولُطْفٌ من اللَّه بهم ليؤمنوا. قال ص: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ: «مِن» الأولى لابتداءِ الغاية. قال أبو البقاء: ومعناها: مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا، و «من» الثانية لبيان «ما» الموصولة. انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 3) برقم (12319) عن مجاهد، (12318) عن سعيد بن جبير، (12320) عن ابن عباس، وذكره ابن عطية (2/ 226) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 537) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، وعزاه أيضا لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن مجاهد. [.....] (2) أخرجه الطبري (5/ 5) برقم (12326) ، وذكره ابن عطية (2/ 226) . (3) أخرجه الطبري (5/ 6) برقم (12328) ، وذكره ابن عطية (2/ 226) ، والسيوطي (2/ 537) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 87 إلى 89]

قال العراقيُّ: تَفِيضُ، أي: تسيل منها العَبْرَةُ، وفي الحديثِ: «اقرءوا القُرْآنَ، وابكوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا» ، خرَّجه البزِّار «1» . انتهى من «الكوكب الدري» ، وفيه عن البزَّار أيضاً أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حتى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ» . انتهى. وقولهم: مَعَ الشَّاهِدِينَ، يعني: نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وأمته قاله ابن عباس «2» وغيره، وقال «3» الطبريُّ: لو قال قائلٌ: معنى ذلك: «مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ» ، لكان صواباً، وهو كلامٌ صحيحٌ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد لقول اللَّه سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... [البقرة: 143] الآية، وقولهم: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ: توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار، والقومُ الصالِحُون: محمَّد صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه قاله ابن زيد وغيره «4» من المفسِّرين، ثم ذكر تعالى ما أثابهم به مِنَ النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حال الكافرين المكذّبين، وأنهم قرناء الجحيم. [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 89] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... الآية: قال ابن عباس وغيره «5» نزلَتْ بسبب جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلغَتْ منهم المواعظ، وخوفُ اللَّه تعالى إلى أنْ حرَّم بعضهم النساء، وبعضُهم النوْمَ بالليلِ، والطِّيبَ، وهَمَّ بعضهم بالاختصاءِ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أَمَّا أنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وآتي

_ (1) تقدم «تفسيره» في أول التفسير. (2) أخرجه الطبري (5/ 7) برقم (12336) ، وذكره ابن عطية (2/ 227) . (3) ينظر: الطبري (5/ 8) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 8) (12339) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 226) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 11) (12351) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 228) ، و «صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس» (ص 186/ 334) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 544) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس.

النِّسَاءَ، وَأَنَالُ الطِّيبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي» ، قال الطبريُّ: كان فيما يتلى: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ» ، والطيباتُ في هذه الآية: المستلَذَّات بدليل إضافتها إلى ما أحلَّ اللَّه وبقرينة ما ذُكِرَ من سبب الآية. وقوله سبحانه: وَلا تَعْتَدُوا، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحلَّ اللَّه «1» ، وقال الحسنُ بنُ أبي الحَسَنِ: المعنى: ولا تعتدُوا، فَتُحِلُّوا ما حرَّم اللَّه «2» ، فالنهْيَان على هذا تضمَّنا الطرفَيْن كأنه قال: لا تشدِّدوا فتحرِّموا حلالاً، ولا تترخَّصوا فتحلُّوا حراماً، قلتُ: وروى مالكٌ في «الموطإ» ، عن أبي النَّضْر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا ماتَ عثمانُ بْنُ مظعونٍ، ومُرَّ بجَنَازَتِهِ: «ذَهَبْتَ، وَلَمْ تَلْتَبِسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ» «3» . قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديثُ في «الموطإ» مقطوعٌ، وقد رُوِّينَاه متصلاً مُسْنَداً من وجه صالحٍ حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشةَ، قالَتْ: «لمَّا ماتَ عُثْمَانُ بنُ مظعونٍ، كشف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الثَّوْبَ عن وجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وبكى بُكَاءً طويلاً، فلما رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ، قَالَ: طوبى لَكَ يَا عُثْمَان! لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا» «4» . قال أبو عمر: كان عثمانُ بنُ مظعونٍ أحد الفُضَلاء العُبَّاد الزاهدين في الدنيا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتبتِّلين منهم، وقد كان هو وعليُّ بن أبي طالب هَمَّا أنْ يترهَّبا ويَتْرُكَا النساء، ويُقْبِلا على العبادة، ويحرِّما طيِّباتِ الطعامِ على أنفسهما، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... الآية. ونقل هذا مَعْمَرٌ وغيره عن قتادة «5» . انتهى. وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ: معناه: شدَّدتم، وعَقْدُ اليمينِ كَعَقْدِ الحبل والعهد قال الحطيئة: [البسيط]

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 13) (12356) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 228) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 13) (12358) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 228) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 547) وعزاه لعبد بن حميد، عن الحسن. (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 242) كتاب «الجنائز» ، باب جامع الجنائز، حديث (54) . (4) أخرجه أبو داود (3/ 301) كتاب «الجنائز» ، باب في تقبيل الميت، حديث (3163) والترمذي (3/ 314- 315) كتاب «الجنائز» ، باب ما جاء في تقبيل الميت، حديث (989) من حديث عائشة. وقال الترمذي: حسن صحيح. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 10) (12346) .

قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا «1» قال «2» الفَخْر: وأما وجه المناسبة بَيْنَ هذه الآية والَّتي قبلها، فهو ما تقدَّم مِنْ أنَّ قوماً من الصحابة (رضي اللَّه عنهم) حَرَّموا على أنفسهم المطاعِمَ والمَلاَذَّ، وحلفوا على ذلك، فلمَّا نهاهم/ اللَّه تعالى عن ذلك، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فكيف نصنع بأَيْمَانِنَا؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. انتهى. وقوله سبحانه: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ، أي: إشباعهم مرةً واحدةً، وحكم هؤلاءِ ألاَّ يتكرَّر واحدٌ منهم في كفَّارة «3» يمينٍ واحدةً. واختلفَ في معنى قوله سبحانه: مِنْ أَوْسَطِ، فرأى مالك وجماعةٌ معه هذا التوسُّط في القَدْر، ورأى ذلك جماعةٌ في الصِّنْف، والوَجْهُ أن يُعَمَّ بلفظ «الوسَطِ» القَدْرُ والصِّنْفُ، فرأى مالكٌ أنْ يُطْعَمَ المسكينُ ب «المدينة» مدّا بمدّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك رطل

_ (1) البيت للحطيئة ص (15) ، واللسان (عنج) . وعقد الحبل والعهد يعقده عقدا، وأعقدت العسل والدواء أعقدهما إعقادا والعناج: حبل يشدّ أسفل الدلو إذا كانت ثقيلة، ثم يشد إلى العراقيّ، فإذا انقطعت الأوذام، فانقلبت، أمسكها العناج، يقال: قد عنجت الدلو أعنجها، واسم الحبل: العناج. والكرب: عقد الرشاء الذي يشدّ على العراقي، يقال: أكربت الدلو أكربها إكرابا، والعراقي: العودان المصلبان اللذان تشدّ إليهما الأوذام، فأراد أنهم إذا عقدوا لجارهم عقدا أحكموه. (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 61) . [.....] (3) لا نعلم خلافا بين العلماء في أن المكفر بالإطعام يخرج عن عهد الكفارة بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين ما وجب له. كما لا نعلم خلاف بينهم أيضا في أنه لا يخرج عن عهدة الكفارة بدفعه ما وجب عليه من الطعام لمسكين واحد في يوم واحد دفعة واحدة لأن ذلك لا يسمى إطعام عشرة مساكين لا حقيقة ولا حكما. فهو مخالف لظاهر الآية. وليس في السنة ما يؤيده. وإنما الخلاف بينهم في دفع ما وجب عليه من الطعام لمسكين واحد في عشرة أيام، أو في يوم واحد على دفعات متفرقة على سبيل التمليك. فجمهور العلماء، ومنهم الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبه ذهبوا إلى أن ذلك لا يجوز، ولا يخرج به المكفر عن العهدة، ولا بد من إعطاء تسعة مساكين آخرين لكل واحد منهم ما وجب له، فعدد العشرة عندهم معتبر. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك جائز، ومسقط للعهدة، وهو الإمام أبو حنيفة وأصحابه، والإمام أحمد في رواية، غير أن الحنفية يجيزون دفعها لمسكين واحد في أيام متعددة من غير خلاف بينهم، وأمّا دفعها له في يوم واحد على دفعات على سبيل التمليك، فذلك محل خلاف بينهم. ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.

وثُلُثٌ، وهذا لضيقِ المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أنْ يتوسَّع، ورأى من يقول: إنَّ التوسُّط إنما هو في الصِّنْف أنْ يكون الرجُلُ المكفِّر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد، وينحطُّ عن الأعلى، ويكفِّرُ بالوَسَط من ذلك، ومذهب «المدونة» أنْ يراعي المكفِّر عيش البلد، وتأويلُ العلماء في الحانث في اليمين باللَّه: أنه مخيَّر في الإطعام، أو الكُسْوة، أو العِتْق، والعلماءُ على أنَّ العتق أفضلُ ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ اللَّه تعالى عباده بالأيسر، فالأيسر، قال الفَخْر «1» : وبدأ سبحانه بالإطعام لأنه أعمُّ وجوداً، والمقصودُ منه التنبيهُ على أنه سبحانه يُرَاعِي التخفيفَ، والتسهيلَ في التكاليفِ، وثانيها: أنَّ الإطعام أفضلُ، قلتُ: وهذا هو مشهورُ مذهب مالكٍ. انتهى، ويجزىء عند مالكٍ من الكُسْوَة في الكفارة ما يجزىء في الصّلاة «2» .

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 64- 65) . (2) النوع الثاني من الأنواع المخيّر فيها في كفارة اليمين، هي كسوة عشرة مساكين، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة: 89] . اتفقت كلمة الفقهاء على أن المكفر إذا أعطى لكل مسكين من العشرة ثوبين فأكثر، كفاه ذلك، وسقطت عنه الكفارة. ولكنهم اختلفوا في أقل ما يعطاه المسكين الواحد: فذهب الشافعي- رضي الله عنه-، وجمهور أهل الظاهر: إلى أن أقل ما يعطاه المسكين الواحد هو ما يطلق عليه اسم الكسوة، كالمنديل، أو العمامة، أو الإزار، ولا يشترط أن يكون صالحا للمعطى، بل جائز أن يعطى ما يصلح للكبير للصغير، وما للرجل للمرأة وبالعكس، كما لا يشترط أن يكون جديدا. وذهب الإمام مالك، وأصحابه إلى أن المجزئ من ذلك ثوب تصح فيه الصّلاة، فإن كان المسكين رجلا وجب أن يعطى ثوبا يستر جميع البدن، وإن كان امرأة وجب أن تعطى ثوبا تستر به جميع بدنها، وخمارا تغطي به رأسها، وفي ذلك يقول مالك في الموطأ: «أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا ثوبا، وإن كسا النساء كساهم ثوبين ثوبين درعا وخمارا وذلك أدنى ما يجزىء كلّا في صلاته» وليس بلازم أن يكون الثوب، أو ما معه جديدا، بل يكفي أن يكون صالحا للبس كما أنه ليس بلازم أن يكون المسكين كبيرا، بل الصغير والكبير في الكسوة سواء. وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى أن المجزئ من ذلك هو ما يستر البدن، ويسمى به الشخص مكتسيا، وذلك كالقميص، أو الإزار السابخ، أو القباء، أو الكساء أو الملحفة، وخالفهما الإمام محمّد حيث قال: يجزىء من ذلك ثوب تصح فيه الصلاة للرجل والمرأة، فيجوز عنده السراويل للرجل لأنه يسمى لابسا شرعا، ولا يجزىء عندهما لأن لابسه لا يسمى مكتسيا عرفا. وذهب الإمام أحمد إلى أن المجزئ من ذلك ثوب يصح للرجل أن يصلّي فيه، وللمرأة درع وخمار، وقال: لا يجزىء إزار وحده أو سروال. ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.

وقوله سبحانه: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، أيْ: مؤمنة قاله مالك «1» وجماعةٌ لأن هذا المطْلَق راجعٌ إلى المقيدِ في عِتْقِ الرقبة في قَتْل الخطإ. وقوله سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ: معناه: لم يجدْ في ملكه أحد هذه الثلاث

_ (1) ذهب الجمهور، ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد في مشهور مذهبه، والأوزاعي: إلى أن عتق الرقبة الكافرة في كفارة اليمين لا يجزىء، ولا تسقط الكفارة به. وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وعطاء، وأبو ثور إلى أن ذلك مجزىء، ومسقط للكفارة، وهو رواية عن الإمام أحمد. احتج الجمهور بما رواه مسلم، والنّسائيّ عن معاوية بن الحكم قال: «كانت لي جارية فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: عليّ رقبة. أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين الله؟ فقالت في السّماء فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أعتقها، فإنّها مؤمنة» . ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخّر الجواب عن السائل، حتى علم ما عليه تلك الرقبة من الإيمان أو الكفر، فلما تأكد له إيمانها، أجابه صلّى الله عليه وسلّم بأن يعتقها، وقال له: «فإنّها مؤمنة» . فلو لم يكن وصف الإيمان له دخل في إجزاء العتق، لما كان لهذا التأخير فائدة، ومثل ذلك يجلّ عنه مقام الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام علّق عتقها على الإيمان، وتعليق ذلك يدل على أن الإيمان علّة الإجزاء لأن تعلّق الحكم بالمشتق مؤذن بأن مبدأ الاشتقاق علة فيه. وقالوا: إن الرقبة في الآية، وإن كانت مطلقة غير مقيدة بوصف الإيمان، إلا أن هذا الحديث يصلح أن يكون مقيدا لها، فيكون المقصود من الرقبة فيها: هي الرقبة المؤمنة أو يقال: إن كفارة اليمين قد اتحد الحكم فيها مع كفارة القتل، ففي كل وجب عتق رقبة، واختلف سببهما إذ كفارة اليمين سببها اليمين، وكفارة القتل سببها القتل، والمطلق والمقيد متى اتحد حكمهما حمل المطلق على المقيد، وإن اختلف سببهما متى وجدت علّة جامعة بينهما، فتكون الرقبة في كفارة اليمين محمولة على الرقبة في كفارة القتل، فتقيد بالإيمان، كما قيدت به في كفارة القتل لأن العلة التي تجمعهما: هي حرمة السبب. واحتج الإمام أبو حنيفة، ومن معه بأن الآية غير مقيدة، فهي شاملة للرقبة المؤمنة، وللرقبة الكافرة، والمطلق يجب بقاؤه على إطلاقه، حتى يرد من الشرع ما يقيده، ولم يرد ما يقيد الرقبة بالإيمان هاهنا، فكانت باقية على إطلاقها، فعتق الكافرة مجزىء كعتق المسلمة، وليس حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم مع اختلاف السبب أمرا متفقا عليه، بل نحن لا نقول به، وبالنظر في وجهة كل نجد أن مذهب الجمهور هو الراجح، لأن الحديث المتقدم مقيد للآية، فلم تبق على إطلاقها ولأن الكفارة عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، فوجب أن تكون خاصة بأهل عبادته من المؤمنين كمال الزكاة، وذبائح النّسك. نعم، إن الإسلام دين الرحمة العامة، والصدقة فيه حتى على الكفار غير المحاربين مستحبة، ولكن فرقا بين الصدقة المطلقة، وبين العبادات المحددة المقيدة، فتكفير الذنب إنما يرجى بما في العتق من إعانة العتيق على طاعته تعالى، حتى من قال بإجزاء الكافرة لا يمكنه أن ينكر أن الاحتياط في إبراء الذمة إنما هو بإعتاق الرقبة المؤمنة، فتقديم المجمع عليه المتيقن إجزاؤه أولى بالاعتبار من المظنون المختلف فيه. ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.

المذكورة. واختلفَ العلماءُ في حدِّ هذا العادِمِ، ومتى يصحُّ له «1» الصيام فقال الشافعيُّ ومالكٌ وجماعة من العلماء: إذا كان المكفِّر لا يملك إلاَّ قوته، وقُوتَ عياله، يَوْمَهُ وليلته، فله أنْ يصوم، فإن كان عنده زائدٌ على ذلك مَا يُطْعِم عشرةَ مساكينَ، لزمه الإطعام، قال «2» الطبريُّ: وقال آخرون: جائز لِمَنْ لم يكُنْ له فضْلٌ على رأس ماله الذي يتصرَّف به في معايشه أنْ يصوم، وقرأ أبيُّ بن كعبٍ، وابن مسعود: «ثلاثة أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ» ، وقال بذلك جماعة. وقال مالك وغيره: إن تابع، فحَسَنٌ، وإن فرق، أجزأ، وقوله: إِذا حَلَفْتُمْ، معناه: وأردتم الحِنْثَ، أو وقعتم فيه.

_ (1) من خصال كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيّام، والعلماء متفقون على أن تلك الخصلة لا ينتقل إليها المكفر إلا بعد العجز عن الخصال السابقة لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة: 89] . ولكنهم مختلفون في شيء آخر وراء هذا، وهو: هل يجب التتابع في صوم تلك الأيام الثلاثة بحيث لا يتخللها فطر أو لا يجب ذلك فيه خلاف. ذهبت الشافعية في الراجح من مذهبهم، والمالكية، والظاهرية، وأحمد في رواية عنه: إلى عدم اشتراط التتابع محتجين بأنه صوم نزل به القرآن غير مقيد بالتتابع، فجاز متفرقا ومتتابعا لأنّه لم يوجد من السنة دليل ثابت يصح أن يقيد به هذا الإطلاق، فالتقييد بالتتابع تقييد بلا دليل. وذهبت الحنفية، وأحمد في مشهور مذهبه، والثّوريّ وأبو عبيد: إلى اشتراط التتابع محتجين بقراءة أبيّ، وابن مسعود «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام متتابعات» قائلين: إن ثبت القرآن بهذا كان حجة ووجب حمل المطلق على المقيد لأن القرآن يفسّر بعضه بعضا، وإن لم تثبت القرآنية بهذا، فلا يخرج ذلك عن أن يكون رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعها ابن مسعود، وأبي معه، فلها حكم الحديث المرفوع، وهو حجة، فيقيد به مطلق الكتاب، وأيّا ما كان، فالتتابع ثابت بهذا، فلا يصح التفريق في الصّيام ونحن إذا نظرنا إلى وجهة كل نجد أن القول بالتتابع هو الراجح، لأن القائلين بعدم التتابع قد حملوا المطلق في تحرير الرقبة على المقيد فيها في كفارة القتل، حتى أوجبوا اعتبار وصف الإيمان في الرقبة مع أن السبب فيهما مختلف، وليس لهم مستند في ذلك إلا أن كلّا من الكفارتين تجمعهما علة واحدة هي: حرمة السبب، وهذه العلة بذاتها موجودة في الصوم في كفارة اليمين، وقراءة أبيّ، وابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات» . فهذه القراءة، وإن لم تثبت قرآنية هذا اللفظ لأن القرآن لا يثبت بالآحاد إلّا أنها رواية عن صحابي سمعها من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلا ينبغي أن يتقوّل عليه ما لم يقله لأنه يعرف حقّ المعرفة معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «من كذب عليّ متعمّدا، فليتبوّأ مقعده من النّار» فتكون مقيدة للآية. فقول من قال: إن الآية مطلقة، ولم يرد ما يقيدها لا يقبل بعد البيان السابق، وخصوصا إذا أمكن حمل المطلق هاهنا على المقيد في كفارة القتل، أو الظهار، ولا مانع منه. ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسانين الكاشف، «الخطيب على المنهاج» (4/ 328) ، «الشرح الكبير» (2/ 118) ، «المغني» (11/ 273) ، «فتح القدير» (4/ 18) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 30) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 إلى 92]

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ... الآية: قال ع «1» : وفي معنى الأزلام: الزَّجْرُ بالطيرِ، وأخْذُ الفألِ في الكتب ونحوه ممَّا يصنعه الناسُ، وأخبر سبحانه أنَّ هذه الأشياء رجْسٌ، قال ابن عباس في هذه الآية: رِجْسٌ: سَخَطَ «2» ، وقال ابن زَيْدٍ: الرجْسُ «3» الشرُّ. قال ع «4» : الرِّجْس: كلُّ مكروهٍ ذميمٍ، وقد يقال للعذابِ والرجْزِ: العذابُ لا غَيْر، والرِّكْس: العَذِرَةُ لا غَيْر، والرِّجْسُ يقال للأمرين. وقوله سبحانه: فَاجْتَنِبُوهُ: أمر باجتنابه، فحرمت الخمر بظاهر القرآن، ونصِّ الأحاديث، وإجماع الأمة، وأمْرُ الخمر إنما كان بتدريجٍ ونوازلَ كثيرةٍ كقصَّة حمزة، حين جَبَّ الأسْنِمَة، وقولِهِ: وهل أنتم إلا عبيدُ أبِي، ثم أعلم سبحانه عباده أنَّ الشيطان إنَّمَا يريد أنْ تقع العداوةُ بسَبَبِ الخَمْر، وما يعتري عليها بَيْنَ المؤمنينِ، وبسبب المَيْسر إذ كانوا يتقَامَرُونَ عَلَى الأموال حتى رُبَّما بَقِيَ المقمور فقيراً، فَتَحْدُثُ من ذلك ضغائِنُ وعداواتٌ، فإن لم يصلِ الأمر إلى حَدِّ العداوة، كانَتْ بغضاء، ولا تحسُنُ عاقبة قومٍ متباغضين، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَاناً» «5» ، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين، ويجاهَدُ العدوُّ، والبغضاءُ تنقضُ عُرَى الدِّين، وتهدم عمادَ الحمايةِ، وكذلك أيضاً يريدُ الشيطانُ أنْ يصدَّ المؤمنين عَنْ ذكْر اللَّه، وعنِ الصلاة، ويشغلهم عنها باتباع الشهواتِ، والخمرُ والميسرُ والقمَارُ كلُّه مِنْ أعظم الآفات في ذلك، وفي قوله سبحانه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: وعيدٌ زائد على معنى: «انتهوا» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 233) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 33) (1254) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 232) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 566) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق علي، عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 33) (12515) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 233) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 233) . (5) تقدم تخريجه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 93 إلى 94]

[سورة المائدة (5) : الآيات 93 الى 94] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) وقوله سبحانه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ... الآية: قال ابن عباس وغيره: لما نزل تحريمُ الخَمْر، قال قومٌ من الصحابة: يا رسول اللَّه، كَيْفَ بِمَنْ مات مِنَّا، وهو يشربها، ويأكل المَيْسِرَ، ونحو هذا من القَوْل، فنزلَتْ هذه الآية «1» ، وهذا نظيرُ سؤالِهِمْ عَمَّن مات على القبلة الأولى، والجُنَاحُ: الإثم والحَرَج، والتَّكرار في قوله سبحانه: «اتَّقوا» يقتضي في كلِّ واحدة زيادةً على التي قبلها، وفي ذلك مبالغةٌ في هذه الصِّفَات لهم، وليسَتِ الآيةُ وقفاً على مَنْ عمل الصالحاتِ كلَّها، واتقى كلَّ التقوى، بل هي لكلِّ مؤمن، وإن كان عاصياً أحياناً إذا كان قد عَمِلَ من هذه الخصالِ المَمْدُوحة ما استحق به أنْ يوصف بأنه مؤمنٌ عامل للصالحات متَّقٍ في غالبِ أمره، محسنٌ، فليس على هذا الصِّنْف جُنَاحٌ فيما طعم ممَّا لم يُحَرَّم عليه، وطَعِمُوا: معناه: ذَاقُوا فصَاعداً في رُتَب الأكل والشُّرب، وقد يستعار للنوم وغيره، وحقيقتُهُ في حاسَّة الذّوق. وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ، أي: ليختبرنَّكم ليرى طاعتكم مِنْ معصيتكم، وقوله: «بشيءٍ» يقتضي تبعيضاً، و «مِنْ» : يحتمل أنْ تكون للتبعيض، ويحتمل أنْ تكون لبيانِ الجِنْس كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] . وقوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ: معناه: ليستمرَّ علمه تعالى عليه، وهو موجودٌ إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل، وبِالْغَيْبِ: قال الطبريُّ «2» : معناه: في الدنيا حيثُ لا يَرَى العبْدُ ربَّه، فهو غائبٌ عنه، والظاهر أنَّ المعنى: بالغَيْب من الناس، أي: في الخَلْوة ممَّن خاف اللَّه. انتهى، قلتُ: وقول الطبريِّ أظهر، ثم توعَّد تعالى من اعتدى بعد النهْيِ بالعذابِ الأليم، وهو عذابُ الآخرة.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 38) (12529) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 234) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 567) ، وعزاه لابن مردويه، من طريق العوفي، عن ابن عباس. (2) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 41) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 95 إلى 98]

[سورة المائدة (5) : الآيات 95 الى 98] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... الآية: الصَّيْد: مصدرٌ عومِلَ معاملةَ الأسماء، فأوقع على الحَيَوانِ المَصِيدِ، ولفظُ الصيد هنا عامٌّ، ومعناه الخصوصُ فيما عدا ما استثني، وفي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ» «1» ، وأجمع النَّاس على إباحة قتل الحَيَّة، وبَسْطُ هذا في كتب الفقه، وحُرُمٌ: جمع حرامٍ، وهو الذي يدخُلُ في الحَرَم، أو في الإحرام، واختلف في قوله: مُتَعَمِّداً، فقال مجاهد وغيره: معناه: متعمِّداً لقتله، ناسياً لإحرامه «2» ، فهذا يُكَفِّرُ، وأما إنْ كان ذاكراً لإحرامه، فهو أعظم

_ (1) ورد هذا الحديث عن ابن عمر، وعائشة، وحفصة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وأبي رافع، وأبي هريرة. أما حديث ابن عمر فله طرق. فأخرجه مسلم (2/ 858) كتاب «الحج» ، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، حديث (73/ 1200) وأبو داود (2/ 424) كتاب «المناسك» ، باب ما يقتل المحرم من الدواب، حديث (1846) ، والنسائي (5/ 1900) كتاب «الحج» ، باب قتل الغراب، وأحمد (2/ 8) وابن الجارود رقم (440) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 165) والبيهقي (5/ 209) كتاب «الحج» ، باب ما للمحرم قتله من دواب البر في الحلّ والحرم، والحميدي (2/ 279) رقم (619) والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 292- 293) وأبو يعلى (9/ 311) رقم (5428) من طريق الزهري عن سالم، عن أبيه مرفوعا. وأخرجه مالك (1/ 356) كتاب «الحج» ، باب ما يقتل المحرم من الدواب حديث (88) والشافعي في «المسند» (1/ 319) كتاب «الحج» ، باب فيما يباح للمحرم ... (735) والبخاري (6/ 355) كتاب «بدء الخلق» ، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ... (3315) ومسلم (2/ 858) كتاب «الحج» ، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، حديث (76/ 1199) والنسائي (5/ 187- 188) كتاب «الحج» ، باب ما يقتل المحرم من الدواب. [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 41) برقم (12551) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 237) .

مِنْ أن يكفِّر، وقد حَلَّ ولا رخْصَة له. وقال جماعة من أهْل العلْمِ، منهم ابن عباس ومالكٌ والزُّهْرِيُّ وغيرهم: المتعمِّد: القاصد للقتلِ، الذَّاكرُ لإِحرامه «1» ، فهو يكفِّر، وكذلك الناسِي والقاتلُ خطأً يكفِّران، وقرأ نافع «2» وغيره: «فَجَزَاءُ مِثْلِ» ، - بإضافة الجزاء إلى «مثل» -، وقرأ حمزة وغيره: «فَجَزَاءُ» - بالرفع-، «مِثْلُ» - بالرفع أيضاً-، واختلفَ في هذه المماثلة، كيف تكُون، فذهب الجمهور إلى أنَّ الحَكَمين ينظران إلى مِثْلِ الحيوان المَقْتُول في الخِلْقَة، وعظم المرأى، فيجعلانِ ذلك من النَّعَم جزاءه/، وذهب الشَّعْبيُّ وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يُقَوَّم الصيدُ المقتول، ثم يشتري بقيمته نِدٌّ من النَّعَم، ورد الطبريُّ «3» وغيره هذا القولَ، والنَّعَم: لفظ يقع علَى الإبل والبَقَر والغَنَم، إذا اجتمعت هذه الأصنافُ، فإن انفرد كلُّ صِنْفٍ لم يُقَلْ «نَعَم» إلا للإبل وحْدها، وقَصَرَ القرآنُ هذه النازَلَة على حَكَمين عدْلَيْن عالِمَيْن بحُكْم النازلة، وبالتقدير فيها، وعلى هذا جمهورُ الناس. قال ابنُ وهْب في «العتبية» : من السنة أن يُخَيِّرَ الحَكَمان مَنْ أصاب الصيد كما خَيَّره اللَّه تعالى في أنْ يخرج هَدْياً بالغَ الكَعْبة، أو كفارةً طعامَ مساكينَ، أو عَدْلَ ذلك صياماً، فإن اختار الهَدْيَ، حَكَما عليه بما يريانِهِ نَظيراً لما أصاب ما بينهما وبَيْن أن يكون عَدْلَ ذلك شاةً لأنها أدنَى الهَدْيِ، فما لم يبلُغْ شاةً، حَكَمَا فيه بالطعامِ، ثم خُيِّر في أنْ يطعمه أو يصوم مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً، وكذلك قال مالكٌ في «المدوَّنة» : إذا أراد المصيبُ أنْ يطعم أو يصوم، فَإنْ كان لِمَا أصاب نظيرٌ من النَّعَم، فإنه يقوَّمُ صيدُهُ طعاماً، لاَ دَرَاهِمَ، قال: وإن قوَّماه دراهمَ، واشتري بها طعامٌ، لَرَجَوْتُ أنْ يكون واسعاً، والأول أصْوَبُ، فإنْ شاء، أطعمه، وإلا صام مَكَانَ كلِّ مُدٍّ يوماً، وإن زاد ذلك على شهرين، أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقالُ: كَمْ مِنْ رجلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيدِ، فيعرف العددَ، ثم يقال: كَمْ من الطعامِ يُشْبِعُ هذا العَدَدَ؟ فإن شاء، أخرج ذلك الطعام، وإن شاء، صام عدد أمداده، وهذا قولٌ حسنٌ احتاط فيه لأنه قد تكونُ قيمةُ الصيدِ مِنَ الطعامِ قليلةً، فبهذا النَّظَر يكثر الإطعام.

_ (1) ابن عطية في «تفسيره» (2/ 227) . (2) ينظر: «الحجة» (3/ 254) ، و «حجة القراءات» (235) ، و «إعراب القراءات» (1/ 149) ، و «العنوان» (88) ، و «شرح الطيبة» (4/ 235) ، و «شرح شعلة» (354) ، و «إتحاف» (1/ 542) ، و «معاني القراءات» (2/ 338) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 48) .

وقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ذكرت «الكعبة» لأنها أم الحَرَم، والحَرَمُ كلُّه مَنْحَرٌ لهذا الهَدْيِ ولا بد أن يجمع في هذا الهَدْي بَيْن الحِلِّ والحَرَمِ حتى يكون بالِغَ الكعبة، فالهَدْيُ لا ينحر إلا في الحَرَمِ. واختلفَ في الطَّعَام، فقال جماعةٌ: الإطعام والصَّوْمِ حيث شاء المكفِّر من البلاد، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الهَدْيُ والإطعام بمكَّة «1» ، والصوم حيث شِئْتَ. وقوله سبحانه: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ: الذوق هنا مستعارٌ، والوبالُ: سوءُ العاقبةِ، والمرعَى الوَبِيلُ هو الذي يتأذى به بَعْد أكله، وعبَّر ب أَمْرِهِ عن جميع حاله مِنْ قتلٍ وتكْفيرٍ، وحكمٍ علَيْه، ومُضِيِّ مالِهِ، أو تعبِهِ بالصَّوْمِ، واختلف في معنى قوله سبحانه: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ... الآية: فقال عطاءُ بن أبي رباح، وجماعة: معناه: عفا اللَّه عما سَلَفَ في جاهليَّتكم مِنْ قتلكم الصيد في الحرمة «2» ، ومَنْ عاد الآنَ فِي الإسلام، فإن كان مستحلاًّ، فينتقم اللَّه منه في الآخرة، ويكفَّرُ في ظاهر الحُكْم، وإن كان عاصياً، فالنقْمَةُ هي في إلزامُ الكَفَّارة فقَطْ، قالوا: وكلَّما عاد المُحْرِمُ، فهو يكفِّر. قال ع «3» : ويخاف المتورِّعون أنْ تبقى النِّقْمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالكٍ ونظرائه، وأصحابِهِ (رحمهم اللَّه) ، وقال ابن عباس وغيره: أما المتعمِّد، فإنه يكفِّر أول مرَّةٍ، وعفا اللَّه عن ذَنْبه، فإن اجترأ، وعاد ثانياً، فلا يُحْكَم عليه، ويقال له: ينتقم اللَّه منْكَ «4» كما قال اللَّه تعالى. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ: تنبيهٌ على صفتين تقتضيان خَوْفَ من له بصيرةٌ، ومن خاف، ازدجر، ومن هذا المعنى قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «من خاف أدلج «5» ، ومن

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 240) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 59) (12640) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 584) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن عطاء. (3) ذكره ابن عطية (2/ 240) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 61) (12655) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 65) ، وابن عطية (2/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 584) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، من طريق عكرمة عن ابن عباس. (5) يقال: أدلج- بالتخفيف-: إذا سار من أول الليل. ينظر: «النهاية» (2/ 129) .

أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ» «1» ، قلت: والصيد لِلَّهْوِ مكروه، وروى أبو داود في سُنَنه، عن ابنِ عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتبع الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أتَى السُّلْطَانَ، افتتن» «2» . انتهى. وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ... الآية: البَحْر: الماء الكثيرُ، مِلْحاً كان أو عَذْباً، وكلُّ نهر كبير: بحرٌ، وطعامه: هو كل ما قَذَفَ به، وما طَفَا عليه قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب مالك. ومَتاعاً: نصبٌ على المَصْدر، والمعنى: مَتَّعَكُمْ به متاعاً تنتفعون به، وتأتدمون، ولَكُمْ: يريد حاضري البحر ومدنه، ولِلسَّيَّارَةِ: المسافرينَ، واختلف في مقتضى قوله سبحانه: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً، فتلقاه بعضهم على العُمُوم من جميع جهاته فقالوا: إنَّ المُحْرِمَ لا يحلُّ له أنْ يصيد، ولا أنْ يأمر من يَصِيد، ولا أن يأكل صيداً صِيدَ من أجله، ولا مِنْ غير أجله، وأنَّ لَحْم الصيد بأيِّ وجه كان حرامٌ على المُحْرِمِ، وكان عمر بنُ الخطَّاب (رضي اللَّه عنه) لاَ يرى بأساً للمُحْرِمِ أنْ يأكل ما صَادَهُ حلالٌ لنفسه، أو لحلالِ مثله «3» ، وقال بمثل قولِ عمر- عثمانُ بنُ عفَّان والزُّبَيْر بنُ العَوَّام وهو الصحيح «4» لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَكَلَ مِنَ الحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ أبو قَتَادَةَ، وهو حلال، والنبيّ- عليه السلام- محرم «5» .

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 546) كتاب «صفة القيامة» ، باب من خاف أدلج، حديث (2450) والحاكم (4/ 307- 308) من طريق هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل الثقفي، عن يزيد بن سنان، عن بكير بن فيروز، عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) أخرجه أبو داود (2/ 124) كتاب «الصيد» ، باب في اتباع الصيد، حديث (2859) ، والترمذي (4/ 523) ، كتاب «الفتن» ، حديث (2256) والنسائي (7/ 195- 196) كتاب «الفرع والعتيرة» ، باب اتباع الصيد، وأحمد (1/ 357) وابن أبي شيبة (12/ 336) وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 72) والبيهقي (10/ 101) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 56- 57) رقم (11030) كلهم من طريق سفيان الثوري عن أبي موسى اليماني، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري. (3) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (5/ 64) (12671) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 242) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 242) . (5) أخرجه البخاري (6/ 98) ، كتاب «الجهاد» ، باب ما قيل في الرماح، حديث (2914) ، ومسلم (2/ 852) ، كتاب «الحج» ، باب تحريم الصيد للمحرم، حديث (57/ 1196) ، وأبو داود (2/ 428، -[.....]

ثم ذكَّر سبحانه بأمر الحَشْر والقيامةِ، مبالغةً في التحذير ولما بان في هذه الآيات تعظيمُ الحَرَمِ والحُرْمة بالإحرام من أجْل الكعبة، وأنَّها بيْتُ اللَّه تعالى، وعنصر هذه الفَضَائلَ ذَكَرَ سبحانه في قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ تنبيهاً سَنَّهُ في الناس، وهداهم إلَيْهِ، وحَمَلَ عليه الجاهليَّة الجهلاَءَ من التزامهم أنَّ الكعبة قِوَامٌ، والهَدْي قِوَامٌ، والقلائد قِوَام، أي: أمر يقوم للناس بالتَّأمين، ووَضْعِ الحربِ أوزارها، وأعلَمَ تعالى أنَّ التزامَ النَّاس لذلك هو ممّا شرعه وارتضاه، وجَعَلَ، في هذه الآيةِ: بمعنى «صَيَّر» ، والكَعْبَة بيْتُ مكة، وسمي كعبةً لتربيعه، قال أهْل اللُّغَة: كلُّ بَيْتٍ مربَّع، فهو مكعَّب، وكَعْبة، وذهب بعض المتأوِّلين إلى أنَّ معنى قوله تعالى: قِياماً لِلنَّاسِ، أي: موضع وُجُوب قيامٍ بالمناسك والتعبُّدات، وضَبْطِ النفوسِ في الشهر الحرام، ومع الهَدْيِ والقلائدِ، قال مَكِّيٌّ: معنى قِياماً لِلنَّاسِ، أي: جعلها بمنزلة الرئيس الَّذي يقُومُ به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عَنْ ظُلْم بعضهم بعضاً، وكذلك الهَدْيُ والقلائد جُعِلَ ذلك أيضاً قياماً للناس فكان الرجُلُ إذا دَخَل الحَرَمِ أَمِنَ مِنْ عدوه، وإذا ساق الهَدْي كذلك، لم يعرض لَهُ، وكان الرجُلُ إذا أراد الحجَّ، تقلَّد بقلادة مِنْ شعر، وإذا رجع تقلَّد بقلادة من لِحَاءِ شَجَر الحَرَمِ، فلا يعرض له، ولا يؤذى حتى يَصِلَ إلى أَهله، قال ابنُ زيد: كان الناسُ كلُّهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضُهُم عن بعض، ولم يكُنْ في العرب ملوكٌ تدفع عن بعضهم ظُلْمَ بعضٍ، فجعل اللَّه لهم البَيْتَ الحرامَ قياماً يدفَعُ بعضَهُمْ عن بعض. انتهى من «الهداية» . والشهرُ هنا: اسمُ جنسٍ، والمراد الأشهر الثلاثةُ بإجماع من العرب، وشَهْرُ مُضَرَ، وهو رَجَبٌ، وأما الهَدْيُ، فكان أماناً لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادةٍ لم يأت لحَرْبٍ، وأما القلائد، فكذلك كان الرجُلُ إذا خَرَج يريدُ الحَجِّ/، تقلَّد مِنْ لحاء السَّمُرِ أو غيره

_ - 429) ، كتاب «المناسك» (الحج) ، باب لحم الصيد للمحرم، حديث (1852) ، والترمذي (3/ 204، 205) ، كتاب «الحج» ، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، حديث (847) ، والنسائي (5/ 182) ، كتاب «الحج» ، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، وابن ماجة (2/ 1033) ، كتاب «المناسك» ، باب الرخصة في ذلك إذا لم يصد له، حديث (3093) ، ومالك (1/ 350) ، كتاب «الحج» ، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، حديث (76) ، وأحمد (5/ 302) . والدارمي (2/ 38) كتاب «المناسك» ، باب في أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يصد هو، والشافعي (1/ 321) كتاب «الحج» ، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم (837) ، والحميدي (1/ 204) رقم (424) وعبد الرزاق (8337، 8338) ، وابن خزيمة (4/ 176) رقم (2635) وابن الجارود (435) والدارقطني (2/ 291) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 173- 174) والبيهقي (5/ 189) والبغوي في «شرح السنة» (4/ 157- بتحقيقنا) من طرق عن أبي قتادة به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

[سورة المائدة (5) : الآيات 99 إلى 100]

شيئاً، فكان ذلك أماناً له، وكذلك إذا انصرفوا، تقلَّدوا من شجر الحَرَمِ، وقوله ذلِكَ: إشارةٌ إلى أنَّ جعل اللَّه هذه الأمور قياماً. وقوله سبحانه: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: عامٌّ عموماً تامًّا في الجزئيَّات ودَقائِقِ الموجودات، والقولُ بغير هذا إلحاد في الدّين وكفر. [سورة المائدة (5) : الآيات 99 الى 100] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) وقوله سبحانه: مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ... الآية: إخبارٌ للمؤمنين مضمَّنه الوعيدِ، إنِ انحرفوا، ولم يمتثلُوا ما بلغ الرسُولُ إليهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ، قلت: قال الشيخُ أبو مَدْيَن (رضي اللَّه عنه) : الحَقُّ تعالى مطَّلع على السرائر والظواهرِ في كلِّ نَفَسٍ وحالٍ، فأيُّما قلْبٍ رآه مؤثراً له، حَفِظَهُ من الطوارق والمِحَنِ ومضلاَّت الفِتَن، وقال (رحمه الله) : ما عرف الحَقَّ مَنْ لم يُؤْثره، وما أطاعه مَنْ لم يَشْكُرْه. انتهى. وقوله تعالى: قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ... ألاية: لفظ عامٌّ في جميع الأمور، فيتصوَّر في المكاسِب، وعدد النَّاس، والمعارفِ مِنَ العلوم ونحوِهَا، فالخبيثُ مِنْ هذا كلِّه لا يُفْلِحُ ولا يُنْجِبُ، ولا تحسُنُ له عاقبةٌ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ: نافعٌ جميل العاقبة، ويَنْظُرُ إلى هذه الآيةِ قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] ، والخبث: هو الفساد الباطنُ في الأشياء حتى يظن بها الصَّلاح، وهي بخلافِ ذلك. وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ: تنبيهٌ على لزوم الطَّيِّب في المعتقَدِ والعملِ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر لأنهم المتقدِّمون في مَيْز هذه الأمور، والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم. [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... الآية: اختلف الرواةُ في سببها، والظاهرُ مِنَ الروايات أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَلَحّت علَيْه الأعراب والجُهَّال بأنواع من السؤالاتِ، حَسْبَما هو معلومٌ في الروايات، فزَجَرهم اللَّه تعالى عَنْ ذلك بهذه الآيةِ، وأشْيَاء: اسمٌ لجَمْعِ شيْءٍ، قال ابنُ عباس: معنى الآية: لا تسأَلُوا عن

أشياء في ضِمْن الأنباء عنْها مساءَةٌ لكم «1» إما بتكليفٍ شرعيٍّ يلزمكم، وإما بخَبَر يسوءُكم، ولكن إذا نزل القرآن بشيء، وابتدأكم ربُّكم بأمر، فحينئذٍ إنْ سألتم عن تَفْصيله وبَيَانِهِ بيّن لكم، وأبدي، ويحتمل قوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أنْ يكون في معنى الوعيدِ كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم، لَقِيتُمْ غِبَّ ذلك وصعوبته، قال النوويُّ: وعن أبي ثعلبة الخشنيّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ، لاَ عَنْ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» ، ورُوِّينَاه في «سنن الدارقطنيِّ» «2» . انتهى، وفي «صحيح البخاريِّ» ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ واختلافهم على أَنْبِيَائِهِمْ، فَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فاجتنبوه، وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فأتوا منه ما استطعتم» «3» . انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 246) . (2) أخرجه الدارقطني (4/ 184) كتاب «الرضاع» ، حديث (42) والحاكم (4/ 115) والبيهقي (10/ 13) كتاب «الضحايا» ، باب ما لم يذكر تحريمه، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 17) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 9) كلهم من طريق داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 174) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (3/ 72) رقم (2909) ، وعزاه لمسدد، وقال: رجاله ثقات، إلا أنه منقطع. وللحديث شاهد من حديث أبي الدرداء. أخرجه الدارقطني (4/ 298) باب الصيد والذبائح والأطعمة، حديث (104) من طريق نهشل الخراساني عن الضحاك بن مزاحم، عن طاوس، عن أبي الدرداء، وقال أبو الطيب آبادي في «التعليق المغني» (4/ 297) : نهشل الخراساني. قال إسحاق بن راهويه: كان كذابا، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. وقال يحيى، والدارقطني: ضعيف. ويبدو أن للحديث طريقا آخر، فقد ذكره الهيثمي في «المجمع» (1/ 174) وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» ، وفيه أصرم بن حوشب، وهو متروك، ونسب إلى الوضع. (3) أخرجه البخاري (130/ 264) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» ، باب الاقتداء بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث (7288) ومسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، حديث (131/ 1337) ، وأحمد (2/ 258) والحميدي (2/ 477) رقم (1125) وأبو يعلى (11/ 195) رقم (6305) كلهم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» . ومن طريق أبي الزناد أخرجه البغوي في «شرح السنة» (1/ 177- بتحقيقنا) وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة. فأخرجه مسلم (2/ 975) كتاب «الحج» ، باب فرض الحج مرة في العمر حديث (412/ 1337) -

[سورة المائدة (5) : الآيات 103 إلى 104]

وعَفَا اللَّهُ عَنْها: معناه: تركَها، ولم يُعَرِّفْ بها، قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ... الآية: قال الطبريُّ «1» : كقومِ صالحٍ في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدةَ، أي: وكطلب الأممِ قديماً التعمُّقَ في الدِّين من أنبيائها، ثم لم تف بما كلّفت. [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104] مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) وقوله سبحانه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ... الآية: أي: لم يجعلْ سبحانه شيئاً مِنْ ذلك، ولا سَنَّهُ لعباده، المعنى: ولكن الكُفَّار فعلوا ذلك/ كعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وغيره مِنْ رؤسائهم يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بقولهم: هذه قربةٌ إلى اللَّهِ، وَأَكْثَرُهُمْ، يعني: الأتْبَاعَ لاَ يَعْقِلُونَ، بل يتّبعون هذه الأمور تقليدا، وجَعَلَ في هذه الآية: لا يتَّجه أنْ تكون بمعنى «خَلَقَ» ، ولا بمعنى «صَيَّرَ» ، وإنما هي بمعنى: «مَا سَنَّ ولا شَرَعَ» . قال ص: مَّا جَعَلَ: ذَهَبَ ابن عطيةَ والزمخشريُّ «2» إلى أنها بمعنى: «شرع» ،

_ - والنسائي (5/ 110) كتاب «الحج» ، باب وجوب الحج، وأحمد (2/ 447- 448، 457، 467، 508) وابن خزيمة رقم (2508) من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الرزاق (11/ 220) رقم (20374) ومسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم (131/ 1337) وأحمد (2/ 313) والبغوي في «شرح السنة» (1/ 176- بتحقيقنا) من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (2/ 247، 428، 517) ، والحميدي (2/ 477) رقم (1125) وابن حبان (2097- الإحسان) من طريق محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم حديث (131/ 1337) ، والترمذي (5/ 45- 46) كتاب «العلم» ، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث (2679) من طريق همام بن المنبه، عن أبي هريرة به. (1) ينظر: الطبري (5/ 86، 87) . (2) محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي، الزمخشري، جار الله أبو القاسم ولد سنة (467 هـ) في زمخشر (من قرى خوارزم) ، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب، سافر إلى مكة، فجاور بها زمنا، فلقب بجار الله. أشهر كتبه: «الكشاف» و «أساس البلاغة» و «المفصل» ومن كتبه: «المقامات» و «مقدمة الأدب» و «نوابغ الكلم» و «ربيع الأبرار» . توفي بالجرجانية بخوارزم سنة (538 هـ) . ينظر: «وفيات الأعيان» (2/ 81) ، «لسان الميزان» (6/ 4) ، «الجواهر المضيئة» (2/ 160) ، «آداب اللغة» (3/ 46) ، «الأعلام» (7/ 178) .

قال ابن «1» عطيَّة: ولا تكونُ بمعنى «خلق» ، لأن اللَّه تعالى خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها، ولا بمعنى «صيَّر» لعدم المفعولِ الثاني، قال أبو حيَّان «2» : ولم يذكر النحويُّون لها هذا، وقد جاء حَذْفُ أحد مفعولَيْ «ظَنَّ» وأخواتِها قليلاً، فتحمل هذه على حَذْفِ المفعولِ الثانيِ، أي: ما صَيَّر اللَّه بحيرةً ولا سائبةً ولا وصيلةً ولا حامياً- مشروعاً، وهو أولى من إثبات معنًى لم يُسْمَعْ فيها، وذكر أبو البقاء أنها هنا بمعنى «سَمَّى» انتهى. قُلْتُ: وحاصل كلامِ أبي حيَّان أنه شهادةٌ على نفْيٍ، وعلى تقدير صحَّته، فيحمل كلام ابن عطيَّة على أنه تفسيرُ معنًى، لا تفسير إعرابٍ. وبحيرة: فعليةٌ بمعنى مَفْعُولة، وبَحَرَ: شَقَّ، كانوا إذا نُتِجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ بُطُونٍ، شَقُّوا أذنها بِنِصْفَيْن طُولاً، فهي مَبْحُورة، وتُرِكَتْ ترعى، وتَرِدُ الماء، ولا ينتفعُ بشيء منْها، ويحرَّمُ لحْمُها إذا ماتَتْ على النساء، ويُحلَّلُ للرِّجَال وذلك كلُّه ضلالٌ، والسائبة: هي الناقة تسيَّب للآلهة، والناقةُ أيضاً إذا تابَعَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ إناثاً ليس فيهِنَّ ذكَرٌ، سُيِّبَتْ، وكانت السوائبُ أيضاً في العرب كالقُرْبة عند المرَضِ يُبْرَأُ منه، والقُدُوم من السفرِ، وإذا نزل بأحدهم أمْرٌ يُشْكَرُ اللَّه تعالى عليه، تقرَّب بأنْ يسيِّب ناقةً، فلا ينتفعُ منها بِلَبَنٍ، ولا ظَهْر، ولا غَيْره، يَروْنَ ذلك كعِتْقَ بني آدمَ ذكَره «3» السُّدِّيُّ وغيره، وكانَتِ العربُ تعتقدُ أنَّ مَنْ عَرَضَ لهذه النوقِ، فأخذها أو انتفع منْهَا بشيْءٍ، فإنه تلحقه عُقُوبةٌ مِنَ اللَّه، والوصيلةُ: قال أكثر النَّاس: إن الوصيلَةَ في الغَنَمِ، قالوا إذا وَلَدتِ الشاة ثلاثةَ بُطونٍ، أو خمسةً، فإن كان آخرها جَدْياً، ذبحوه لِبَيْت الآلهة، وإن كان عَنَاقاً، استحيوها، وإن كان جَدْيٌ وعَنَاقٌ، استحيوهما، وقالوا: هذه العَنَاقُ وَصَلَتْ أخاهَا، فمنعتْهُ مِنْ أنْ يُذْبَحَ، وعلى أن الوَصِيلة في الغَنَم، جاءت الرِّوايات عن أكثر الناس، وروي عَنِ ابن المسيَّب أن الوصيلة مِنَ الإبل، وأما الحامِي فإنه الفَحْل من الإبل، إذا ضَرَبَ في الإبل عشر سنين «4» ، وقيل: إذا وُلِدَ من صُلْبه عَشْرٌ، وقيل: إذا وُلِدَ مِن وَلَدِ ولده، قالوا: حمى ظهره، فسيَّبوه، لا يركب، ولا يسخَّر في شيء، وعبارةُ الفَخْر «5» : وقيل: الحامِي: الفَحْلُ إذا رَكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. انتهى، قلتُ: والذي في «البخاريِّ» : والحامِ: فحلُ الإبلِ يضرب الضّراب المعدود، وإذا قضى

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 247) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 38) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 91) (12843) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 91) (12844) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 248) . (5) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 91) .

[سورة المائدة (5) : آية 105]

ضِرَابه، وَدَعُوهُ للطَّواغيتِ، وأعْفَوْه من الحمل، فلم يُحْمَلْ شيءٌ عليه، وسمَّوْه الحامِيَ. انتهى. وقوله سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، يعني: لهؤلاءِ الكفار المستنِّينَ بهذه الأشياء: تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، يعني: القرآن الذي فيه التحريمُ الصحيحُ، قالُوا حَسْبُنا، معناه: كفانا. [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ... الآية: قال أبو ثعلبة الخُشَنِيُّ: سَأَلتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هذه الآيةِ، فَقَالَ: «ائتمروا بِالمَعْرُوفِ وانهوا عَنِ المُنْكَرِ، فَإذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَشُحًّا مُطَاعاً، وإعْجَابَ كُلِّ ذِيَ رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِكَ، / وذَرْ عَوَامَّهُمْ فَإنَّ وَرَاءَكِمُ أَيَّاماً أَجْرُ العَامِلِ فِيهَا كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» «1» ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي لاَ نَظَرَ لأحَدٍ مَعهُ لأنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلصَّلاَحِ صادرٌ عن النبيِّ- عليه السلام-، وجملةُ ما عليه أهْلُ العِلْمِ في هذا أنَّ الأمر بالمعروفِ متعيِّن، متى رُجِيَ القبولُ، أو رُجِيَ ردُّ الظالم، ولو بعنف ما لم يَخَفِ الآمرُ ضرراً يلحقه في خاصَّته، أو فتنةً يُدْخِلُها على المُسْلمين إما بشَقِّ عَصَا، وإما بضَرَرٍ يلحق طائفةً من الناس، فإذا خيف هذا، ف عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: محكَمٌ واجبٌ أنْ يوقَفَ عنده. وقوله سبحانه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هذا تذكيرٌ بالحَشْر وما بعده، وذلك مُسَلٍّ عن أمور الدنيا، مكروهِهَا ومحبوبِها، رُوِيَ عن بعض الصالحين أنه قال: ما مِنْ يَوْمٍ إلاَّ ويجيءُ الشيطانُ، فيقول: ما تأكلُ، وما تلبسُ، وأين تَسْكُنُ، فأقول له: آكُلُ المَوْتَ، وألبس الكفن، وأسكن القبر.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 526) في الملاحم، باب الأمر والنهي (4341) والترمذي (5/ 240) في التفسير: باب «من سورة المائدة» (3058) وابن ماجة (2/ 1330- 1331) في الفتن، باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (4014) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 30) والطبري (5/ 97) برقم (12866- 12867) ، والحاكم (4/ 322) وابن حبان (1850- موارد) . والبيهقي في السنن (10/ 91- 92) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 358) (4051) عن عتبة بن أبي حكيم، حدثني عمرو بن جارية اللخمي، حدثنا أبو أمية الشعباني به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

[سورة المائدة (5) : الآيات 106 إلى 108]

قال ع «1» : فَمَنْ فكَّر في مرجعه إلى اللَّه سبحانه، فهذا حاله، قلْتُ: وخرَّج البغويُّ في «المسند المنتخب» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالاً تَعْزُبُ عَنْكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَتُوشِكُ العوازب أن تئوب إلى أَهْلِهَا، فَمَسْرُورٌ بِهَا، وَمَكْظُومٌ» «2» . انتهى من «الكوكب الدري» ، والله المستعان. [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ... الآيةَ، إلى قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: 109] : قال مكِّيٌّ: هذه الآياتُ عند أهْل المعانِي مِنْ أشكل ما في القرآن إعراباً، ومعنًى، وحُكْماً. قال ع «3» : وهذا كلام من لم يقع له الثَّلَجُ في تفسيرها وذلك بيِّن من كتابه، وباللَّه نستعين. لا نَعْلَمُ خلافاً أن سبب هذه الآيةِ أنّ تميما الدّاريّ «4» ...

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 250) . [.....] (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (2/ 94) رقم (1416) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عبد الله الشامي، عن عائذ الله أبي إدريس، عن ثوبان مرفوعا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 234) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ، وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 250) . (4) هو: تميم بن أوس بن حارثة (خارجة) ابن سود (سواد) ابن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار ... أبو رقية. الداري. قال ابن حجر في الإصابة: مشهور في الصحابة، وكان نصرانيا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم قصة الجساسة والدجال، فحدث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنه بذلك على المنبر، وعد ذلك من مناقبه. قال ابن السكن: أسلم سنة تسع هو وأخوه نعيم ولهما صحبة. وقال ابن إسحاق: قدم المدينة، وغزا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج في المسجد. -

وعَدِيَّ بْن بَدَّاء «1» ، وكانا نصرانيَّيْنِ، سافرا إلى المدينةِ، يريدانِ الشامَ لتجارتهما، وقَدِمَ المدينة أيضاً ابْنُ أَبِي مَارِية مولى عَمْرِو بنِ العاصِي، يريد الشامَ تاجِراً، قال الفخْر «2» : وكان مُسْلماً، فخرَجُوا رفاقة، فمرض ابنُ أبي مارية في الطريقِ، وأوصى إلى تميمٍ وعديٍّ أنْ يؤدِّيَا رَحْلَهُ إلى أوليائه من بني سَهْم «3» ، وروى ابْنُ عباس عن تميمٍ الداريِّ أنه قال: بَرِىءَ النَّاسُ من هذه الآيةِ غيري وغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء، وذكر القصَّة «4» ، إلا أنه قال: وكان معه جَامُ فِضَّةٍ، يريد به المُلْكَ، فأخذتُهُ أَنَا وعديٌّ، فبْعنَاه بألفٍ، وقَسَّمنا ثمنه، فلما أسلَمْتُ بعد قُدُومِ رسُولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم المدينةَ، تَأَثَّمْتُ من ذلك، فأتيْتُ أهْلَهُ، فأخبرتهم الخبر، وأدَّيْتُ خمسمائة، فوثَبُوا إلى عَدِيٍّ فأتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحلَفَ عمْرُو بن العاصِي، ورجُلٌ آخر معه، ونُزِعَتْ من عَدِيٍّ خَمْسُمِائَةٍ «5» . قال ع «6» : واختلفتِ ألفاظ هذه القصَّة، وما ذكرتُهُ هو عمود الأمْر، ولم تصحَّ لعديٍّ صُحْبة فيما عَلِمْتُ، ولا ثبت إسلامه، وقد صنَّفه في الصحابة بعض المتأخّرين، ولا وجه

_ - رواه الطبراني من حديث أبي هريرة، وأول من قص وذلك في عهد عمر. رواه ابن إسحاق بن راهويه، وانتقل إلى الشام بعد مقتل عثمان. تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 256) ، «الإصابة» (1/ 191) ، «الثقات» (3/ 39) ، «الجرح والتعديل» (2/ 440) ، «تقريب التهذيب» (1/ 113) ، «سير أعلام النبلاء» (2/ 442) ، «جمهرة أنساب العرب» (454) ، (422) ، «المتفردات والوحدان» (62) ، «مشاهير علماء الأمصار» (52) . (1) عدي بن بدّاء: بتشديد الدال قبلها موحدة مفتوحة. قال ابن حبان: له صحبة، وأخرجه ابن منده، فأنكر عليه ذلك أبو نعيم، وقال: لا يعرف له إسلام. قال ابن عطيّة: لا يصح لعدي عندي صحبة، وقد وضعه بعضهم في الصحابة، ولا وجه لذكره عندي فيهم، وقوّى ذلك ابن الأثير بأن السياق عند ابن إسحاق: فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوا عديّا بما يعظم على أهل دينه. والذي عندي أن بداء، بفتح الموحدة وتشديد الدال مقصور، وقيل: ممدود. ورأيته بخط الخطيب في سياق القصة عن تفسير مقاتل عديّ بن بندا، بنون بين الموحدة والدال. ينظر ترجمته في: «الإصابة» (4/ 387) ، «الثقات» (3/ 318) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 376) ، «أسد الغابة» ت (3605) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 95) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 115) (12970) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 74) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 250) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 250) . (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 251) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 251) .

عندي لذكْره في الصَّحابة. وأما معنى الآية مِنْ أولها إلى آخرها، فهو أن اللَّه سبحانه أخبر المؤمنين أنَّ حكمه في الشهادةِ عَلَى المُوصِي، إذا حضره الموتُ: أنْ تكونَ شهادة عَدْلَيْنِ، فإن كان في سَفَرٍ، وهو الضَّرْب في الأرض، ولم يكن معه من المؤمنين أحدٌ، فليُشْهِدْ شاهدَيْنِ ممن حَضَرَهُ مِنْ أهْل الكُفْر، فإذا قدما، وأَدَّيا الشهادةَ على وصيَّته، حَلَفَا بعد الصَّلاة أنهما ما كَذَبَا، ولا بَدَّلاَ، وأنَّ ما شهدْنَا به حقٌّ ما كتمنا فيه/ شهادةَ اللَّه، وحُكِمَ بشهادتهما، فإن عُثِرَ بعد ذلك على أنهما كَذَبَا، أو خَانَا، أو نَحْوِ هذا ممَّا هو إثْم، حَلَفَ رُجلانِ مِنْ أولياء المُوصِي في السفر، وغُرِّمَ الشاهدانِ ما ظَهَرَ علَيْهما، هذا معنى الآيةِ على مذهب أبي موسَى الأشعريِّ، وابن عبَّاس، وسعيدِ بْنِ المسيَّب، ويحيى بن يَعْمَرَ، وابنِ جُبَيْر، وأبي مِجْلَزٍ، وإبراهيم، وشُرَيْحٍ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وابن سِيرِينَ، ومجاهدٍ وغَيْرِهم «1» ، قالوا: ومعنى قوله: مِنْكُمْ، أي: مِنَ المؤمنين، ومعنى: مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من الكافرين. قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلَتْ، ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون في التِّجارة مع أنواع الكَفَرة، واختلفتْ هذه الجماعةُ المذْكُورة، فمذهبُ أبي مُوسَى الأشعريِّ وغيره أن الآية مُحْكَمَةٌ، ومذهب جماعة منهم أنها منسوخةٌ بقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وبما عليه إجماعُ جمهور النَّاس أن شهادة الكُفَّار لا تجوزُ. قال ع «2» : ولنرجع الآنَ إلى الإعراب، ولنقصِدِ القَوْل المفيد لأن الناس خلطوا في تفسيره هذه الآية تخليطاً شديداً، وذِكْرُ ذلك والرَّدُّ عليه يطولُ، وفي تَبْيِينِ الحَقِّ الذي تتلَقَّاه الأذهانُ بالقَبُول مَقْنَعٌ، واللَّه المستعان. فقوله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، هي الشهادةُ «3» التي تُحْفَظُ لتؤدى، ورفعها بالابتداء،

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 251) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 252) . (3) الشهادات: جمع شهادة: وتجمع باعتبار أنواعها. وإن كانت في الأصل مصدرا. تعريف الشهادة: للشهادة في اللغة معان: منها: الإخبار بالشيء خبرا قاطعا. تقول: شهد فلان على كذا، أي أخبر به خبرا قاطعا. ومنها: الحضور. تقول: شهد المجلس أي حضره قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] وقال عليه الصلاة والسلام: «الغنيمة لمن شهد الرفعة» أي حضرها. ومنها: الاطلاع على الشيء، ومعاينته، تقول: شهدت كذا. أي اطلعت عليه وعاينته. ومنها: إدراك الشيء. تقول: شهدت الجمعة. أي أدركتها، ومنها: الحلف: تقول أشهد بالله لقد كان كذا. أي: أحلف. -

والخَبَرُ في قوله: اثْنانِ، وقوله تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: إذا قارب الحضُورَ، والعاملُ في «إذا» المصدرُ الذي هو «شهادة» ، وهذا على أنْ تجعل «إذا» بمنزلة «حِينَ» ، لا تحتاج إلى جوابٍ، ولك أن تجعل «إذا» في هذه الآية المحتاجةَ إلى الجوابِ، لكن استغني عن جوابها بما تقدَّم في قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذ المعنى: إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ، فينبغي أن يُشْهِدَ، وقوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ: ظرْفُ زمانٍ، والعاملُ فيه حَضَرَ، وإنْ شِئْتَ، جعلته بَدَلاً مِنْ «إذا» ، وقوله: ذَوا عَدْلٍ: صفة لقوله: اثْنانِ، ومِنْكُمْ: صفةٌ أيضاً بعد صفةٍ، وقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ: صفة ل آخَرانِ وقوله: تَحْبِسُونَهُما: صفة ل آخَرانِ أيضاً، واعترض بَيْن الموصوفِ والصفةِ بقوله: إِنْ أَنْتُمْ، إلى الْمَوْتُ، وأفاد الاِعتراضُ أنَّ العدول إلى آخرَيْنِ من غَيْر الملَّة، إنما يكونُ مع ضَرُورة السَّفَر، وحلولِ الموتِ فيه، واستغني عن جواب «إنْ» لِمَا تقدَّم من قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقال جمهورٌ مِن العلماء: الصلاةُ هنا صلاةُ العَصْر، وقال ابنُ عباس: إنما هي صلاة الذِّمِّيِّين «1» ، وأما العصر، فلا حُرْمَة لها عنْدَهما، والفاءُ في قوله: فَيُقْسِمانِ: عاطفةٌ جملةً على جملةٍ لأن المعنى تَمَّ في قوله: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ، وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ شرطٌ لا يتَّجه تحليفُ الشاهدَيْن إلا به، والضميرُ في قول الحالِفَيْن: لاَ نَشْتَرِي بِهِ: عائدٌ على القَسَمِ، أو على اسم اللَّهِ، وقوله: لاَ نَشْتَرِي جوابٌ يقتضيه قوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لأن «أقسم» ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيْمَانُ، وقوله: ثَمَناً، أي: ذا ثَمَنٍ، وخُصَّ ذو القربى بالذِّكْر لأن العرب أمْيَلُ النَّاس إلى قراباتهم، واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يُسْتَسْهَل، وقوله: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ، أضاف الشهادةَ إلَيْه تعالى مِنْ حيث هو الآمِرُ بإقامتها، الناهِي عن كتمانها، وروي عن الشِّعْبِيِّ وغيره: «شَهَادَةً» - بالتنوين-، «اللَّه» - بقطع الألف دون مَدٍّ وخفضِ الهاءِ-، وقال أيضاً:

_ - ومنها: العلم، قال تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة: 6] أي عليم. والفعل من باب علم. وقد تسكن هاؤه فتقول: شهد فلان شهادة، وجمع الشاهد، شهد وشهود وأشهاد، والمشاهدة المعاينة. عرفها الشافعية بأنها: إخبار صادق بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره، في مجلس القضاء، ولو بلا دعوى. عرفها المالكية بأنها: إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه. عرفها الحنفية بأنها: إخبار بحق للغير على آخر. ينظر: «مغني المحتاج» (4/ 426) ، «أدب القضاء» لابن أبي الدم (1/ 175) ، «نهاية المحتاج» (8/ 277) ، «حاشية الدسوقي» (4/ 164) ، «الدرر» (2/ 270) ، «الفتاوى الهندية» (3/ 450) . [.....] (1) أخرجه الطبري بنحوه (5/ 111) برقم (12958) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 253) .

يقف على الهاء مِن: «شهادة» بالسكون، ثم يقطع الألفَ المكتوبَةِ منْ غير مَدٍّ كما تقدَّم، ورُوِيَ عنه كان يقرأ: / «آللَّهِ» - بمد ألفِ الإستفهامِ في الوجْهَيْن-، أعني: بسكون الهاء من «شهادة» ، وتحريكها منوَّنةً منصوبةً، ورُوِيَتْ هذه التي هي تَنْوينُ «شهادة» ، ومدُّ ألف الاستفهام بَعْدُ عن عَلِيِّ بن أبي طالب، قال أبو الفَتْح: إنما تُسَكَّن هاء «شهادة» في الوقْف عليها. وقوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ: استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه، واسْتَحَقَّا إِثْماً: معناه: استوجباه مِنَ اللَّه، وكانا أهْلاً له لأنهما ظَلَمَا وخَانَا. وقوله تعالى: فَآخَرانِ، أي: إذا عُثِرَ على خيانتهما، فَالأَوْلَيَانِ باليمينِ وإقامةِ القضية: آخرَانِ من القَوْم الذين هُمْ ولاة المَيِّت، واستَحَقَّ عليهم حظُّهم، أو نصيبهم، أو مالهم، أو مَا شِئْتَ من هذه التقديراتِ، وقرأ نافعٌ «1» وغيره: «استحق» - مضمومةَ التاءِ-، «والأَوْلَيَانِ» على تثنية الأولى، ورُوِيَ عنِ ابنِ كَثِيرٍ: «استحق» - بفتح التاء- وكذلك روى حَفْصٌ عن عاصم. وفي قوله: اسْتَحَقَّ: استعارة لأنه وَجْه لهذا الاستحقاق إلاَّ الغلبة على الحالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعَدَمه لقرابَتِه أو لأهل دِينه، فاستحق هنا كما تقول لظالمٍ يظلمُكَ: «هذا قَدِ استحق علَيَّ مالِي أوْ مَنْزِلِي بظلمه» ، فتشبهه بالمستَحِقِّ حقيقةً إذْ تصوَّر تصوُّره، وتملَّك تملُّكه وهكذا هي «استحقَّ» في الآية على كلِّ حال، وإنْ أسندتَّ إلى النصيب ونحوه. وقرأ حمزة «2» وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر: «استحق» - بضم التاء-، «الأَوَّلِينَ» : على جَمْعِ أوَّل ومعناها: من القومِ الذين استحق عليهم أمْرُهُمْ إذْ غُلِبُوا علَيْه، ثم وصَفَهم بأنَّهم أوَّلُون، أي: في الذِّكْر في هذه الآية، وذلك في قوله: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ، ثم بعد ذلك قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقوله: فَيُقْسِمانِ، يعني: الآخَرَيْنِ اللذَيْنِ يقُومانِ مَقَامَ شاهِدَيِ الزُّورِ، وقولُهما: لَشَهادَتُنا أي: لَمَا أَخْبَرْنَا نَحْنُ به، وذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ القصَّة- أحقُّ مما ذَكَراه أوَّلاً وحرَّفاه، وَمَا اعْتَدَيْنا في قولنا هذا، وقولهما:

_ (1) ينظر: «السبعة» (248، 249) ، و «الحجة» (3/ 260- 261) ، و «حجة القراآت» (238) ، و «العنوان» (88) ، و «إعراب القراآت» (1/ 149- 150) ، و «شرح شعلة» (355) ، و «شرح الطيبة» (4/ 237) ، و «إتحاف» (1/ 543) ، و «معاني القراآت» (1/ 341) . (2) ينظر السابق.

[سورة المائدة (5) : الآيات 109 إلى 111]

إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ: تَبَرٍّ في صيغة الاِستعظامِ والاِستقباحِ للظُّلْمِ. وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ... الآية: الإشارة ب «ذلك» هي إلى جميع مَا حَدَّ قَبْلُ مِنْ حَبْسِ الشاهدَيْن من بعد الصلاة لليمينِ، ثم إنْ عثر على جَوْرهما، رُدَّتِ اليمينُ، وغَرِمَا، فذلك كلُّه أقربُ إلى اعتدال هذا الصِّنْف فيما عسى أنْ ينزل من النوازلِ لأنهم يخافُونَ الفضيحة، وردَّ اليمين هذا قولُ ابنِ عبَّاس «1» ، وجُمِعَ الضميرُ في يَأْتُوا ويَخافُوا إذ المرادُ صِنْفٌ ونوعٌ من الناسِ، والمعنى: ذلك الحُكْم كلُّه أقربُ إلى أنْ يأتوا، وأقربُ إلى أنْ يخافوا، وباقي الآية بيِّن. [سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 111] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) وقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ذهب قومٌ إلى أن العاملَ في يَوْمَ: ما تقدَّم مِنْ قوله تعالى: لاَّ يَهْدِي، وذلك ضعيفٌ، ورصْفُ الآيةِ وبراعَتُها إنما هو أنْ يكونَ هذا الكلامُ مستأنَفاً، والعاملُ مقدَّر، إما «اذكر» ، أو: «تَذَكَّرُوا» ، أو «احذروا» ، ونحو هذا ممَّا حَسُنَ اختصاره لعِلْم السامعِ به، والإشارة بهذا اليوم إلى يومِ القيامةِ، وخُصَّ الرسلُ بالذكْر لأنهم قادةُ الخَلْق، وهم المكلَّمون أوَّلاً، وماذا أُجِبْتُمْ: معناه: ماذا أجابَتْكُمْ الأُمَمُ، وهذا السؤالُ للرُّسُل إنما هو لتقُومَ الحجة على الأممِ، واختلف الناسُ في معنى قولهم- عليهم السلام-: لاَ عِلْمَ لَنا: قال الطبريُّ «2» : ذُهِلُوا عن الجوابِ، لهولِ المَطْلَع وقاله الحسنُ «3» ، وعن مجاهدٍ أنه قال: يَفْزَعُون، فيقولُون: لا علْمَ لنا، وضعَّف «4» بعضُ النَّاس هذا المنْزَع بقوله تعالى: / لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ

_ (1) أخرجه الطبري بنحوه (5/ 123) (12983) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 256) . (2) ينظر الطبري (5/ 125) . (3) أخرجه الطبري بنحوه (5/ 126) برقم (12991) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 126) برقم (12992) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 256) ، -

[الأنبياء: 103] ، وقال ابنُ عبَّاس: معنى الآية: لاَ عِلْمَ لنا إلا ما علَّمتنا أنْتَ أعلم به منَّا، وقولُ «1» ابنِ عباس حَسَن، وهو أصوبُ هذه المناحِي لأنه يتخرَّج على التسليم للَّه تعالى، وردِّ الأمر إلَيْه إذ هو العالِمُ بجميعِ ذلك على التَّفْصيل والكمالِ، فرأَوُا التسليمَ والخضوعَ لعلْمه المحيطِ سبحانه، قال مكِّيٌّ: قال ابنُ عباس: المعنى: لا علم لنا إلاَّ عِلمٌ أنت أعلَمُ به «2» منَّا، وهو اختيار «3» الطبريِّ، وقيل: لما كان السؤالُ عامًّا يقتضي بعمومه سؤالَهُم عَنْ سِرِّ الأمم وعلانِيَتِها، رَدُّوا الأمر إلَيْهِ إذ ليس عندهم إلاَّ علْمُ الظاهر قال مكِّيٌّ: وهذا القولُ أحبُّ الأقوالِ إلَيَّ، قال: ومعنى مسألة اللَّه الرُسلَ عمَّا أَجِيبُوا، إنما هو لمعنَى التوبيخِ لمَنْ أرسلوا إليه كما قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [التكوير: 8] ، انتهى من «الهداية» . وقوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ... الآية: قالَ هنا بمعنى يَقُولُ لأن ظاهر هذا القولِ أنه في القيامة تقدمة لقوله سبحانه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] . وقوله سبحانه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى، أي: من قبورهم، وكفُّ بني إسرائيل عنه- عليه السلام- هو رَفْعُهُ حِينَ أحاطوا به في الَبيْتِ مع الحواريِّين، وكذلك مَنْعُه منْهم قَبْل ذلك إلى تلك النازلةِ الأخيرةِ، فهناك ظَهَر عِظَمُ الكَفِّ. وقوله سبحانه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ، هو مِنْ جملة تعديدِ النّعم على عيسى- عليه السلام-: وأَوْحَيْتُ في هذا الموضع: إما أن يكون وحْيَ إلهامٍ أَو وحْيَ أمْرٍ، وبالجملةِ فهو إلقاءُ معنًى في خفاءٍ، أوْصَلَهُ سبحانه إلى نفوسهم، كيف شاء، والرسولُ في هذه الآية: عيسى، وقولُ الحواريِّين: وَاشْهَدْ: يحتملُ أن يكون مخاطبةً منهم للَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون لعيسى.

_ - والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 606) وعزاه للفريابي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 126) برقم (12994) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 257) والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 607) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن عباس. (2) ينظر السابق. (3) ينظر: الطبري (5/ 126) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 112 إلى 113]

[سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 113] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) وقوله سبحانه: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ... الآية: اعتراضٌ أثناء وَصْفِ حالِ قول اللَّه لعيسى يوم القيامة، مضمّن الاعتراض إخبار نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته بنازلةِ الحواريِّين في المائدة، إذ هي مثالٌ نافعٌ لكلِّ أُمَّة مع نبيِّها تقتدِي بمحاسِنِهِ، وتزدجرُ عمَّا ينفُر منه مِنْ طلب الآياتِ ونحوه، وقرأ الجمهورُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ ربُّك» - بالياءِ ورَفْعِ الباءِ- من «رَبُّكَ» ، والمعنى: هلْ يفعلُ ربُّك هذا، وهلْ تَقَعُ منه إجابةٌ إليه، ولم يكُنْ منهم هذا شَكًّا في قدرة اللَّه سبحَانَهُ إذ هم أعرفُ باللَّه مِنْ أنْ يشكُّوا في قُدْرته، وقرأ الكسائيُّ «1» : «هلْ تسْتَطِيعُ رَبَّكَ» - بالتاء ونصبِ الباءِ مِنْ «رَبَّكَ» -، والمعنى: هل تَسْتطيعُ سؤَالَ ربِّك، وأدغم اللام في التاء، أعني الكسائيَّ، وقال قومٌ: قال الحواريُّون هذه المقالةَ فِي صَدْر الأمر قبل عِلْمهم بأنه يُبْرِىءُ الأكمه والأبْرَصَ، ويُحْيِي الموتى، ويظهر من قوله- عليه السلام-: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: إنكارٌ لقولهم، واقتراحهم الآياتِ، والتعرُّضِ لسَخطِ اللَّه بها، وقلَّةِ طُمَأْنينتهم إلى ما قد ظهر، ولمَّا خاطبهم- عليه السلام- بهذه المخاطَبَة، صرَّحوا بمقاصدهم الَّتي حملَتْهم على طَلَب المائدةِ، فقالوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها فنَشْرُفَ في العالَم، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا، أي: تسكُنَ فِكرُنَا في أمرك بالمعايَنَةِ لأَمْرٍ نازلٍ من السماء بأعيننا، وَنَعْلَمَ علْمَ الضرورةِ والمشاهدةِ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا فلا تَعْرِضُنا الشُّبَهُ التي تَعْرِضُ في عِلْم الاستدلالِ وهذا يؤيِّد أنَّ مقالتهم كانَتْ في مبدأ أَمْرهم، ثم استمروا على إيمانهم، وصَبَرُوا، وهَلَكَ مَنْ كَفَر، وقولهم: وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ، أي: من الشاهدينَ بهذه النازلةِ، النَّاقلين لها إلى غيرنا الدَّاعين إلى هذا الشَّرْع/ بسببها، ورُوِيَ أن الذي نَحَا بهم هذا المنحى مِنَ الاقتراح هو أنَّ عيسى قال لهم مرَّةً: «هَلْ لَكُمْ فِي صِيَامِ ثَلاَثِينَ يَوْماً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ إنْ سَأَلْتُمُوهُ حَاجَةً، قَضَاهَا» ، فَلَمَّا صَامُوهَا، قَالُوا: يا معلِّم الخَيْر، إنَّ حقَّ مَنْ عمل عملاً أنْ يُطْعَمَ، فَهَلْ يستطيعُ ربُّكَ، فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصّوم.

_ (1) والمعنى على هذه القراءة: هل تقدر يا عيسى أن تسل ربك، فإنهم كانوا مؤمنين، وكانت عائشة تقول: كان القوم أعلم بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك، إنما قالوا: هل تستطيع ربك. ينظر: «السبعة» (249) ، و «الحجة» (3/ 273) ، و «حجة القراءات» (240- 241) ، و «العنوان» (88) ، و «إعراب القراءات» (1/ 150) ، و «شرح الطيبة» (4/ 239) ، و «شرح الشعلة» (356) ، و «إتحاف» (1/ 545) ، و «معاني القراءات» (1/ 343) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 114 إلى 115]

[سورة المائدة (5) : الآيات 114 الى 115] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وقوله سبحانه: قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ... الآية، أي: أجابهم عيسى- عليه السلام- إلى ما سألوا، فيروى أنه لَبِسَ جُبَّة شَعْرٍ، ورداءَ شَعْرٍ، وقام يصلِّي، ويبْكِي، والعيدُ: المجتمعُ، وقوله: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا، رُوِيَ عن ابن «1» عَبَّاس أن المعنى: يكون مجتمعاً لجميعنا أوّلِنا وآخرنا، قال: فأكل من المائدة حِينَ وُضِعَتْ أولُ النَّاس كما أكل آخرهم، وَآيَةً مِنْكَ، أيْ: وعلامةً على صِدْقي، فأجاب اللَّه تعالى دعوةَ عيسى- عليه السلام-، وقال: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، ثم شَرَطَ عليهم سبحانه شرْطَهُ المتعارَفَ في الأمم أنه مَنْ كَفَر بعد آية الاقتراح، عُذِّب أشدَّ عذابٍ، والجمهور أنَّ المائدة نزلَتْ كما أخبر اللَّه سبحانه، واختلفوا في كيفيَّة ذلك، فقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: نزلَتِ المائدةُ خُبْزاً وسَمَكاً، وقال عطية: المائدةُ سمكَةٌ فيها طَعْمُ كُلِّ طعامٍ، وقال ابنُ عبَّاس: نزل خُوَانٌ عليه خْبُزٍ وسَمَكٌ يأكلون منه أينما نَزَلُوا، إذا شاءوا «2» ، وقال عمَّار بن ياسر: سألوا عيسى مائدةً يكون عليها طعامٌ لا ينفَذُ، فقيل لهم: إنها مقيمةٌ لكم ما لم تُخَبِّئُوا، أو تخونُوا، فإن فعلتم، عُذِّبتم، قال: فما مضى يومٌ حتى خَبَّئُوا، وخانوا، يعني: بني إسرائيل، فمُسِخُوا قردةً وخنازيرَ «3» ، وقال ميسرة: كانَتِ المائدة، إذا وُضِعت لبني إسرائيل، اختلفت عليهم الأيدِي بكلِّ طعامٍ إلا اللحم «4» ، وأكثَرَ الناسُ في قصص المائدةِ ممّا رأيت اختصاره لعدم سنده.

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 261) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 133) برقم (13010) وابن عطية في «تفسيره» (2/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 613) ، وعزاه لابن جرير، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» من طريق عكرمة، عن ابن عباس. [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 134) برقم (13016) ، وذكره ابن عطية (2/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 612) ، وعزاه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» ، وأبي الشيخ، وابن مردويه عن عمار. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 135) برقم (13022) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 261) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 116 إلى 118]

[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 118] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية: اختلف المفسِّرون في وَقْت وقوعِ هذا القَوْل، فقال السدي وغيره: لما رفَع اللَّه عيسى إلى السماء، قالَتِ النصارى ما قالَتْ، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى عَنْ قولهم، فقال: سُبْحانَكَ ... «1» الآية، ويجيء على هذا قولُهُ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، أي: في التوبة مِنَ الكُفْر لأن هذا قاله، وهم أحياء في الدنيا، وقال ابن عباس، وجمهورُ النَّاس: هذا القولُ مِنَ اللَّه إنما هو يَوْمَ القيامة يقوله اللَّه له على رءوس الخلائقِ، فَيَرَى الكفَّار تبرِّيَهُ منهم، ويعلَمُون أنّ ما كانوا فيه باطل، فقال «2» على هذا التأويلِ بمعنى: «يَقُولُ» ونُزِّل الماضِي موضِعَ المستقبلِ لدلالته على كون الأمر وثبوته، وقولُه آخِراً: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ: معناه: إن عذَّبَتْ العالَمَ كلَّه، فبحقِّك، فهم عبادُكَ تصنعُ بحَقِّ المُلْكِ ما شِئْت لا اعتراض علَيْك، وإن غفَرْتَ وسبَقَ ذلك في عِلْمك فلأنك أهْلٌ لذلك لا معقِّب لحكمك، ولا مُنَازَعَ لك، فيقولُ عيسى هذا على جهة التسليمِ والتعزِّي عنهم، مع علمه بأنهم كَفَرةٌ قد حُتِمَ عليهم العذابُ، وهذا القولُ عنْدِي أَرجَحُ ويتقوَّى بما يأتي بعدُ، وهو قوله سبحانه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] . وقوله: سُبْحانَكَ، أي: تنزيهاً لك عَنْ أن يقال هذا، ويُنْطَقَ به مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، أي: ما يكون/ لبَشَرٍ مُحْدَثٍ أنْ يَدَّعِيَ الألوهية، ثم قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ لأنك أحطت بكلِّ شيء علماً، وأحصيتَ كلَّ شيء عدداً، فوفَّق اللَّه عيسى لهذه الحُجَّة البالغةِ، وقوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، خصَّ النفْسَ بالذكْرِ لأنها مَظِنَّةُ الكَتْم والانطواء على المعلومات. والمعنى: أن اللَّه- سبحانه- يعلم ما في نَفْسِ عيسى، ويعلم كل أَمْرِهِ مما عسى ألا يكون في نفسه.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 137) برقم (13031) ، وذكره ابن عطية (2/ 262) ، والسيوطي (2/ 615) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 262) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 119 إلى 120]

وقوله: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ: معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات، وما أحَطْتَ به، وذكْر «النفْس» هنا مقابلةٌ لَفْظِيَّةٌ، وفي اللسان العربي يقتضيها الإيجَازُ وهذا ينظر من طَرْفٍ خَفِيٍّ إلى قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] واللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] فتسمية العُقُوبَةِ باسم الذَّنْبِ إنما قاد إليها طَلَبُ المُقَابَلَةِ اللفظية، إذ هي من فَصِيحِ الكلام، وبَارِعِ العبارة. ثم أقر عيسى- عليه السلام- للَّه تعالى بأنه- سبحانه- عَلاَّمُ الغيوب، أي: ولا عِلْمَ لي أنا بغيب. وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي: أي: قبضتني بالرَّفْعِ، والتصيير في السّماء، والرَّقِيبَ: الحافظ المراعي. وقوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ: أي: في قدرتك، الْحَكِيمُ في أفعالك. والمعنى: إن يكن لك في النَّاسِ مُعَذَّبُونَ، فهم عبادك، وإن يكن مغفور لهم، فَعزَّتُكَ وحكمتك تَقْتَضِي هذا كله. [سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فدخل تحت هذه العِبَارَةِ كل مؤمن باللَّه- سبحانه-، وكُلُّ ما كان أتقى، فهو أَدْخَلُ في العبارة، وجاءت هذه العبارة مُشِيرَةً إلى عيسى- عليه السلام- في حاله، وصدْقه فيحصل له بذلك في المَوْقِفِ شَرَفٌ عظيم، وإن كان اللفظ يعمه وسواه. ثم ذكر- تعالى- ما أعدَّهُ لهم برحمته، وطوله، جعلنا اللَّه منهم بمَنِّهِ، وسَعَةِ جُودِهِ، لا رَبّ غيره، ولا مرجو في الدَّارَيْنِ سواه، وباقي الآية بَيِّنٌ. جعل اللَّه ما كتبناه من هذه الأحرف نوراً يسعى بين أيدينا بمَنِّهِ. والحمد للَّه كما هو أهْلُهُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.

تفسير سورة الأنعام

بسم الله الرّحمن الرّحيم تفسير سورة الأنعام قال ابن عبّاس: نزلت سورة الأنعام، وحولها سبعون ألف ملك، لهم زجل يجأرون بالتسبيح «1» . قلت: وعن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت سورة الأنعام، سبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «لقد شيّع هذه السّورة من الملائكة ما سدّ الأفق» . رواه الحاكم في «المستدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» . وقال: صحيحٌ على شرط مسلم «2» . انتهى من «السلاح» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. قال علي بن عبد الرحمن اليفرني في شرحه ل «البرهانية» : قال الإمام الفَخْرُ «3» : لفظ الحمد مُعَرَّفاً لا يقال إلا في حقّ الله عز وجل لأنه يدلُّ على التعظيم، ولا يجوز أن يقال: الحمد لِزَيْدٍ. قاله سيبويه. وذكر ابن العَرَبِيِّ في «القانون» عن أنس أن النبيِ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إلى اللَّهِ مِنَ الحَمْدَ، وأَبْلَغُ الحَمْدِ الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كلّ حال» «4» .

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 265) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 3) ، وعزاه لأبي عبيد، وابن الضريس، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس. (2) أخرجه الحاكم (2/ 314- 315) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 470) رقم (2431) من طريق جعفر بن عون، ثنا إسماعيل بن عبد الرّحمن، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، فإن إسماعيل هذا هو السدي وتعقبه الذهبي فقال: ولم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 3) ، وزاد نسبته إلى الإسماعيلي في «معجمه» . (3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 118، 119) . (4) أخرجه أبو يعلى (7/ 247- 248) برقم (4256) عن أنس بن مالك به. -

قال ابن العربي: وفي بعض الآثار: «ما من نِعْمَةٍ عَظْمَتْ إلا والحمد للَّه أعْظَمُ منها» «1» . انتهى. قال ع «2» : وجَعَلَ هاهنا بمعنى: «خلق» ، ولا يجوز غَيْرُ ذلك. قال قتادة، والسُّدِّيُّ وجمهور من المفسرين: الظلمات الليل، والنور النهار. وقالت فرقة: الظُّلمات الكُفْرُ، والنور الإيمان. قال/ ع «3» : وهذا على جهة التَّشْبِيهِ صحيح، وعلى ما يفهمه عُبَّادُ الأوثان غير جيد لأنه إخراج لَفْظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى بَاطِنٍ لغير ضَرُورَةٍ، وهذا هو طريق اللُّغْزِ الذي بَرِىءَ القُرْآنُ منه، والنور أيضاً هنا لِلْجِنْسِ. وقوله تعالى: ثُمَّ دالة على قُبْحِ فعل الذين كَفَرُوا لأن المعنى: أن خلقه السَّمَوَاتِ والأَرْض، وغيرها الموجبة لحمده، وتوحيده قد تقرر، وآياته قد سَطَعَتْ، وإنعامه بِذَلِكَ على العباد قد تَبَيَّنَ، فكان الواجب عليهم إخْلاَصَ التوحيد له، ثم هم بعد هذا كله بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي: يُسَوّون، ويمثلون، وعدل الشيء قرينه ومثيله. والَّذِينَ كَفَرُوا في هذا المَوْضِعِ كل من عَبَدَ شَيْئاً سوى اللَّه إلا أن السَّابِقَ من حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن الإشَارَةَ إلى عَبَدَةِ الأوثان من العرب لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضاً يشير إلى المَانَوِيَّةِ العابدين للنور، القائلين: إن الخَيْرَ من فِعْلِ النور، والشر من فِعْلِ الظلام. وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ فالمعنى: خَلَقَ آدم من طِينٍ. وقوله سبحانه: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ اختلف في هذين الأَجَلَيْنِ، فقال الحسن بن أبي الحَسَنِ وغيره: أَجَلًا أَجَلُ الإنسان من لَدُنْ وِلاَدَتِهِ إلى موته،

_ - وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 22) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (3/ 35) رقم (2812) وعزاه إلى أبي بكر، وأحمد بن منيع، والحارث، وأبي يعلى. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 143) برقم (13043) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 266) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 6) ، وعزاه لابن جرير. (2) ينظر: «المحرر» (2/ 265) . (3) ينظر: «المحرر» (2/ 266) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 3 إلى 6]

والأجل المسمى عنده من وَقْت موته إلى حَشْره، ووصفه ب مُسَمًّى عِنْدَهُ لأنه استأثر- سبحانه- بعِلْمِ وَقْتِ القيامة. وقال ابن عباس: أَجَلًا الدنيا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى الآخرة «1» . وقيل غير هذا. وتَمْتَرُونَ معناه: تشكون. [سورة الأنعام (6) : الآيات 3 الى 6] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وقوله سبحانه: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ قاعدة الكلام في هذه الآية: أن حُلُولَ اللَّه في الأمَاكِنِ مُسْتَحِيلٌ- تعالى- أن يَحْوِيَهُ مكان، كما تَقَدَّسَ أن يَحُدَّهُ زمان، بل كان قبل أن خَلَقَ المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان. وإذا تَقَرَّرَ هذا، فقالت فرقة من العلماء: تَأْوِيلُ ذلك على تقدير صِفَةٍ محذوفة من اللفظ ثَابِتَةٍ في المعنى، كأنه قال: وهو اللَّه المَعْبُودُ في السموات، وفي الأرض. وعبر بعضهم بأن قدر: وهو اللَّه المدبر للأمر في السموات والأرض. وقال الزَّجَّاجُ: فِي متعلقة بما تَضَمَّنَهُ اسْمُ اللَّه من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المَشْرِقِ والمغرب. قال ع «2» : وهذا عِنْدِي أَفْضَلُ الأقوال، وأكثرها إحرازاً لِفَصَاحَةِ اللفظ، وجزالة المعنى. وإيضاحه: أنه أراد أن يَدُلَّ على خلقه، وآثار قدرته، وإحاطته، واستيلائه، ونحو هذه الصفات، فجمع هذه كلها في قَوْلِهِ: وَهُوَ اللَّهُ أي: الذي له هذه كلها في السموات، وفي الأرض، كأنه قال: وهو اللَّه الخَالِقُ، الرازق، المحيي، المحيط في السموات وفي

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 267) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 7) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم، وصححه عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر» (2/ 271) . [.....]

الأرض، كما تقول: زيد السلطان في المَشْرِقِ والمغرب و «الشام» و «العراق» ، فلو قصدت ذَاتَ زَيْد لَقُلْتَ مُحَالاً، وإذا كان مَقْصِدُ قولك الآمِرَ، النَّاهِيَ، الناقض، المُبْرِمَ، الذي يعزل ويُوَلِّي في المشرق والمغرب، فأقمت السلطان مقام هذه، كان فصيحاً صحيحاً، فكذلك في الآية أقام لَفْظَةَ اللَّهُ مقام تلك الصِّفَاتِ المذكورة. وقالت فرقة: وَهُوَ اللَّهُ ابتداء وخَبَرٌ، تم الكَلاَمُ عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله: فِي السَّماواتِ بمفعول يَعْلَمُ، كأنه قال: وهو اللَّه يَعْلَم سِرَّكُمْ وجهركم في السموات، وفي الأرض. وقوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ خبر في ضمنه تحذير وزجر، وتَكْسِبُونَ لفظ/ عام لجميع الاعْتِقَادَاتِ، والأقوال، والأفعال. وقوله سبحانه: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تضمنت هذه الآية مَذَمَّةَ هؤلاء الذين يَعْدِلُونَ باللَّه سواه، بأنهم يُعْرِضُونَ عن كل آية، وكذبوا بالحق، وهو محمد- عليه السلام- وما جاء به. قال ص: مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «من» الأولى زَائِدَةٌ للاستغراق، وما بعدها فاعل بقوله: تَأْتِيهِمْ. و «من» الثانية للتبعيض انتهى. وقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا وَعِيدٌ لهم شديد، وهذه العُقُوبَاتُ التي تُوُعِّدُوا بها تعمُّ عُقُوبَاتِ الدنيا كَبَدْرٍ وغيرها، وعقوبات الآخرة. وقوله سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ هذا حَضٌّ على العِبْرَةِ، والرؤية هنا رُؤْيَةُ القلب، والقَرْنُ: الأمة المقترنة في مُدَّةٍ من الزمن. واختلف في مدة القَرْنِ «1» كم هي؟ فالأكثر على أنها مائة سنة. وقيل غير هذا.

_ (1) ينظر هذا الاختلاف في «لسان العرب» (3609) (قرن) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 إلى 9]

وقيل: القَرْنُ الزمن نَفْسُهُ، وهو على حَذْفِ مضاف، تقديره: من أَهْلِ قرن. قال عياض في «الإكمال» : واختلف في لَفْظِ القَرْنِ، وذكر الحربي «1» فيه الاخْتِلاَفَ من عَشْرِ سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال يعني الحربي: وليس منه شيء وَاضِحٌ، وأرى القرن كُلّ أمة هَلَكَتْ، فلم يَبْقَ منها أحد. انتهى. والضمير في مَكَّنَّاهُمْ عائد على القَرْنِ، والمخاطبة في لَكُمْ هي للمؤمنين، ولجميع المُعَاصِرِينَ لهم من سائر الناس، والسَّماءَ هنا المطر، ومِدْراراً بناء تكثير، ومعناه: يدرُّ عليهم بِحَسَبِ المنفعة. وقوله سبحانه: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. أَنْشَأْنا: اخترعنا، وخلقنا، ويظهر من الآية أن القَرْنَ إنما هو وَفَاةُ الأَشْيَاخِ، ثم وِلاَدَةُ الأطفال. [سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وقوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الآية. لمْا أَخْبَرَ عنهم- سبحانه- بأنهم كذبوا بكل ما جَاءَهُمْ من آية أَتْبَعَ ذلك بإخْبَارٍ فيه مُبَالغة، والمعنى: ولو نزلنا بِمَرْأًى منهم عليك كتاباً أي: كلاماً مَكْتُوباً في قِرْطَاسٍ، أي: في صحيفة. فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يريد: أنهم بالغوا في مَيْزِهِ وتقليبه ليرتفع كل ارْتِيَابٍ لعاندوا فيه، وتابعوا كُفْرَهُمْ وقالوا: هذا سحر مبين. وقوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي: يصدّق محمداً في نبوءته، ثم ردّ

_ (1) إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله البغدادي الحربي، أبو إسحاق، من أعلام المحدثين. أصله من مرو، واشتهر وتوفي ببغداد، ونسبته إلى محلة فيها. كان حافظا للحديث عارفا بالفقه بصيرا بالأحكام، قيما بالأدب، زاهدا، أرسل إليه المعتضد ألف دينار فردها. تفقه على الإمام أحمد، وصنف كتبا كثيرة منها «غريب الحديث» و «سجود القرآن» و «الهدايا والسنة فيها» و «الحمام وآدابه» و «دلائل النبوة» وكان عنده اثنا عشر ألف جزء، في اللغة وغريب الحديث، كتبها بخطه. ينظر: «الأعلام» (1/ 32) ، «تذكرة الحفاظ» (2/ 147) ، و «إرشاد الأريب» (1/ 37) ، و «صفوة الصفوة» (2/ 228) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 إلى 12]

اللَّه عليهم بقوله: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عَبَّاسٍ وغيره: في الكلام حَذْفٌ «1» ، تقديره: ولو أنزلنا مَلَكاً، فكذبوه لَقُضِيَ الأمر بعَذَابِهِمْ، ولم يُنْظَرُوا حسبما سَلَفَ في كل أمة اقْتَرَحَتْ بآية، وكذبت بعد أن أُظْهِرَتْ إليها. وقالت فرقة: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: لَمَاتُوا من هَوْلِ رؤية المَلَكِ في صورته، ويؤيد هذا التَّأْوِيلَ ما بعده من قوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا فإن أَهْلَ التأويل مُجْمِعُونَ أن ذلك لأنهم لم يكونوا يُطِيقُونَ رؤية المَلَكِ في صورته، فإذ قد تَقَعَّدَ أنهم لا يطيقون رُؤْيَةَ المَلَكِ في صورته، فالأولى في قوله: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: لماتوا لِهَوْلِ رؤيته، ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ، أي: لا يُؤَخَّرُونَ. ومما يؤيد هذا المعنى الحَدِيثُ الوَارِدُ عن الرجلين اللذين صَعَدَا على الجَبَلِ يوم بَدْرٍ ليريا ما يَكُونُ في حَرْبِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للمشركين، فَسَمِعَا حِسَّ الملائكة، وقَائِلاً يقول في السحاب: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِ أحدهما، فمات لِهَوْلِ ذلك، فكيف برؤية مَلَكٍ في خِلْقَتِهِ. وَلَلَبَسْنا أي: لفعلنا لهم/ في ذَلِكَ فِعلاً مُلْبَساً يطرق لهم إلى أن يَلْبَسوا به، وذلك لا يحسن. قلت: وفي البخاري «2» : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ: لشبهنا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 12] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وقوله سبحانه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالأُسْوَةِ في الرسل، وتقوية لنفسه على مُحَاجَّةِ المشركين، وإخبار يَتَضَمَّنُ وعيد مُكَذِّبِيهِ، والمستهزئين به. وفَحاقَ معناه: نزل، وأحاط، وهي مَخْصُوصَةٌ في الشر يقال: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقاً. وقوله سبحانه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ حَضٌّ على الاعتبار بآثارَ من مضى ممن

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 270) . (2) ينظر: صحيح البخاري (8/ 136) كتاب «التفسير» ، باب سورة الأنعام.

فَعَلَ مِثْلَ فعلهم. وقوله سبحانه: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ. قال بعض أَهْلِ التَّأوِيلِ: تَقْدِيرُ الكلام: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السموات والأرض، فإذا تحيروا فلم يُجِيبُوا قل للَّه. والصحيح من التَّأويل أن اللَّه- عزَّ وَجَلَّ- أمر نبيه- عليه السلام- أن يَقْطَعَهُمْ بهذه الحُجَّةِ، والبرهان القطعي الذي لا مُدَافَعَةَ فيه عندهم، ولا عند أَحَدٍ ليعتقدَ هذا المعتقد الذي بينه وبينهم، ثم يَتَرَكَّب احْتِجَاجُهُ عليه، فكأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: يا أيها الكافرون العَادِلُونَ بربهم لمن ما في السموات والأَرْضِ، ثم سَبَقَهُمْ فقال: للَّه أي لا مُدَافَعَةَ في هذا عندكم، ولا عند أحد. ثم ابتدأ يخبر عن اللَّه تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ معناه: قضاها وأَنْفَذَهَا. وفي هذا المعنى أحاديث صَحِيحَةٌ ففي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مَائَةً جُزْءٍ، فأمسك عنده تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فمن ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلاَئِقُ حتى تَرْفَعُ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أن تُصِيبَهُ» «1» . ولمسلم في طَرِيقٍ آخرُ: «كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طبَاقُ مَا بَيْنِ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فإذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بهذه الرَّحْمة» «2» . وخرج مسلم، والبخاري، وغيرهما عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» «3» . وفي طريق: «سَبَقَتْ غَضَبِي» إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى. قال ع «4» : فما أشقى مَنْ لم تَسَعْهُ هذه الرَّحَمَاتُ. تغمّدنا الله بفضل منه.

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2108) كتاب «التوبة» ، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، حديث (17/ 2752) والبخاري (10/ 446) كتاب «الأدب» ، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، حديث (6000) وفي «الأدب المفرد» (100) ، والدارمي (2/ 321) ، والمروزي في «زوائد الزهد» لابن المبارك (1039) ، وابن حبان (6148) كلهم من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به. (2) أخرجه مسلم (4/ 2109) كتاب «التوبة» باب في سعة رحمة الله- تعالى- وأنها سبقت غضبه، حديث (21/ 2753) من حديث سلمان. (3) تقدم تخريجه. (4) ينظر: «المحرر» (2/ 271) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 13 إلى 16]

ويتضمن هذا الإخبار عن اللَّه- سبحانه- بأنه كتب الرَّحْمَةَ لتأنيس الكفار، ونفي يَأْسهم من رَحْمَةِ اللَّه إذا أَنَابُوا. واللام في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام قَسَم، والكلام مستأنف، وهذا أظهر الأَقْوَالِ «1» وأصحها. وقوله سبحانه: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ رفع بالابتداء، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 13 الى 16] وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وقوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية. وَلَهُ عطف على قوله: لِلَّهِ، وسَكَنَ هي من السُّكْنَى، ونحوه أي: ما ثَبَتَ وتَقَرَّرَ. قاله السدي «2» ، وغيره. وقالت فرقَةٌ: هو من السُّكُونِ، وهو ضعيف. وقوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. قال الطبري «3» وغيره: أُمِرَ- عليه السلام- أن يَقُولَ هذه المَقَالَةَ لِلْكَفَرَةِ الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم، فَتَجِيءُ الآية على هذا جَوَاباً لكلامهم. قال ع «4» : وهذا يَحْتَاجُ إلى سَنَدٍ، والفصيح أنه لما قَرَّرَ معهم أن اللَّه- تعالى- له ما في السَّمَوَاتِ والأرض، وله ما سَكَنَ في اللَّيْلِ والنهار، أُمِرَ أن يقول لهم على جِهَةِ التَّوْبِيخِ والتوقيف: أغَيْرَ اللَّه الذي هذه أَفْعالُهُ أتخذ وليًّا، بمعنى: أن هذا خَطَأٌ بَيِّنٌ/ ممن يفعله. والولي لفظ عام لمَعْبُودٍ وغير ذلك.

_ (1) ينظر: «الدر المصون» (3/ 17) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 272) . (3) ينظر الطبري (5/ 158) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 273) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 إلى 19]

ثم أخذ في صفات اللَّه- تعالى- فقال: فاطِرِ بخفض الراء نعت لله عز وجل. قال ص: فاطِرِ الجمهور «1» بالجَرِّ، وَوَجَّهَهُ ابن عَطِيَّةَ «2» ، وغيره على أنه نَعْتٌ لِلَّهِ. وأبو البقاء على أنه بَدَلٌ، وكأنه رأى الفَصْلَ بين البَدَلِ والمبدل أَسْهَلَ لأن البَدَلَ في المشهور على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامل. انتهى. و «فطر» معناه: ابتدع، وخلق، وأنشأ، وفطر أيضاً في اللُّغَةِ: شَقَّ، ومنه هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] أي: من شقوق. ويُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ المقصود به: يَرْزُقُ ولا يُرْزَقُ. وقوله: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ ... إلى عَظِيمٍ. قال المفسرون: المعنى أول من أَسْلَمَ من هذه الأمة، وبهذه الشَّرِيعَةِ، ولفظة عَصَيْتُ عامة في أنواع المَعَاصِي، ولكنها هاهنا إنما تُشِيرُ إلى الشِّرْكِ المَنْهِيِّ عنه. واليوم العَظِيمُ هو يَوْمُ القيامة. وقرأ نَافِعٌ «3» وغيره «من يُصْرَف عنه» مسنداً إلى المفعول، وهو الضمير العائد على العَذَابِ. وقرأ حمزة وغيره «مَنْ يَصْرِف» بإسناد الفَعْلِ إلى الضمير العائد إلى «ربي» ، ويعمل في ضَمِيرِ العَذَابِ المذكور، ولكنه محذوف. وقوله: وَذلِكَ إشارة إلى صَرْفِ العذاب، وحُصُولِ الرحمة، والْفَوْزُ النّجاة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 90) و «الدر المصون» (3/ 20) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 273) . [.....] (3) ينظر: «الدر المصون» (3/ 22) ، و «حجة القراءات» (243) ، و «الكشاف» (2/ 10) ، و «النشر» (2/ 257) ، و «البحر المحيط» (4/ 91) ، و «السبعة» (254) ، و «التبيان» (1/ 484) (485) ، و «الزجاج» (2/ 256) ، و «المشكل» (2/ 247) ، و «معاني القراءات» (1/ 346) ، و «الحجة» (3/ 285) ، و «العنوان» (90) ، و «شرح الطيبة» (4/ 242) ، و «إعراب القراءات» (1/ 152) .

وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. يَمْسَسْكَ: معناه يُصِبْكَ، ويَنَلْكَ، والضُّرُّ بضم الضاد: سوء الحَالِ في الجِسْمِ وغيره، وبفتحها ضِدُّ النَّفْعِ، ومعنى الآية: الإخْبَارُ أن الأَشْيَاءَ كلها بِيَدِ اللَّه إن ضَرَّ فلا كَاشِفَ لضره غَيْرُه، وإن أصَابَ بِخَيْرٍ، فكذلك أيضاً. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: كنت خلف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوماً فقال: «يا غُلاَمُ إنِّي أُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهِ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّه، وإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، واعْلَم أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لم يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه لَكَ، وإن اجْتَمَعُوا عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رفعت الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» . رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح «1» . وفي رواية غير الترمذي زيادة: «احْفَظِ اللَّه تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، واعْلَمْ أن ما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ ... » وفي آخره: «واعلم أن النَّصْرَ مع الصَّبْرِ، وأنّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وأن مع العُسْرِ يُسْراً» «2» . قال النووي: هذا حديث عَظِيمُ الموقع. انتهى من «الحِلْيَة» . وقرأت فرقة: «وَأَوْحَى إلَيَّ هذا القُرآن» على بناء الفعل للفاعل، ونصب «القرآن» ، وفي «أوحى» ضمير يَعُودُ على اللَّه تعالى. وقوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ معناه على قول الجمهور: بلاغ القرآن، أي: لأنْذِرَكُمْ وأُنْذِرَ مَنْ بَلَغَهُ، ففي «بلغ» ضمير محذوف لأنه في صلة «من» فحُذِفَ لطول الكلام.

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 667) كتاب «صفة القيامة» ، باب (59) ، حديث (2516) وأحمد (1/ 307) . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) أخرجه عبد بن حميد في «المنتخب» (ص 214) رقم (636) من طريق المثنى بن الصباح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس به. والمثنى بن الصباح ضعيف.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 إلى 22]

وقالت فرقة: ومن بلغ الحُلُمَ. وروي في معنى التأويل الأَوَّلِ أَحَادِيثُ. وظاهر الآية أنها في عَبَدَةِ الأصنام. وذكر الطبري «1» أنه قد وَرَدَ من وَجْهٍ لم تثبت صحته أنها في قَوْمٍ من اليهود، قالوا: يا محمد ما تَعْلَمُ مع اللَّه إلهاً غيره، فقال لهم: «لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ» فنزلت الآية. واللَّه أعلم. وأمر اللَّه- سبحانه- نَبِيَّهُ- عليه السلام- أن يعلن بالتَّبَرِّي من شهادة الكفرة، والإعلان بالتوحيد لله- عز وجل- والتبرِّي من إشراكهم. قال الغزالي في «الإحياء» . وينبغي للتَّالِي أن يقدر أنه المقصود بكل خِطَابٍ في القرآن، فإن سمع أمراً أو نَهْياً قَدَّرَ المَنْهِيُّ، والمأمور، وكذا إن سَمِعَ وَعْداً أو وعيداً، وكذا ما يَقِفُ عليه من القَصَصِ/، فالمقصود به الاعْتِبَارُ. قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود: 120] . وقال تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] . وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. قال محمد بن كَعْبٍ القُرظي: من بلغه القرآن فكأنما كَلَّمَهُ الله عز وجل «2» انتهى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 22] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) وقوله سبحانه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ. قال قتادة، وغيره: يعرفون محمداً- عليه السلام- «3» . وقوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الآية روي أن كل عَبْدٍ له مَنْزِلٌ في الجَنَّةِ، ومنزل في النار، فالمؤمنون يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أهل الكُفْرِ في الجَنَّةِ، والكافرون يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أهل الجنّة

_ (1) ينظر الطبري (5/ 163) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 162) (13127) بلفظ: «من بلغه القرآن، فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم» ، وذكره البغوي (2/ 88) بلفظ: «من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وسمع منه» . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 162) برقم (13133) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 276) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 23 إلى 26]

في النار، فهنا هي الخِسَارَةُ البَيِّنَةُ، والربح للآخرين. وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله سبحانه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ المعنى: واذكر يوم نحشرهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 23 الى 26] ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. الفِتْنَةُ في كلام العرب لفظة مشتركة، تقال بمعنى حُبِّ الشيء، والإعجاب به، وتقال بمعنى الاخْتِبَارِ. ومن قال: إن أَصْلَ الفتنة الاخْتِبَارُ من: فَتَنْتُ الذَّهَبَ في النَّارِ، ثم يُسْتَعَارُ بعد ذلك في غَيْرِ ذلك، فقد أَخْطَأَ لأن الاسْمَ لا يُحْكَمُ عليه بمعنى الاسْتِعَارَةِ حتى يقطع عليه باسْتِحَالَةِ حَقِيقَتِهِ في المَوْضِع الذي استعير له، كقول ذي الرّمّةِ: [الطويل] وَلَفَّ الثُّرَيَّا فِي مُلاَءَتِهِ الفَجْرُ «1» ونحوه، والفتنة لا يَسْتَحِيلُ أن تكون حَقِيقَةً في كل مَوْضِعٍ قيلت عليه، وباقي الآية مضى تَفْسِيرُهُ عند قوله سُبْحَانَهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] فانظره هناك. قال ع «2» : وعبر قَتَادَةُ عن الفِتْنَةِ هنا بأن قال: معذرتهم «3» . وقال الضَّحَّاك» : كلامهم. وقيل غير هذا مما هو في ضِمْنِ ما ذكرناه. وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ هذا خِطَابٌ للنبي صلّى الله عليه وسلّم والنظر نَظَرُ القَلْبِ، وقال: كَذَبُوا في أَمْرِ لم يَقَعْ إذ هي حِكَايَةٌ عن يوم القيامة، فلا إشكال في

_ (1) ينظر: «المحرر» (2/ 278) . (2) ينظر: «المحرر» (2/ 279) . (3) أخرجه الطبري (5/ 166) برقم (13141) ، وذكره ابن عطية (2/ 279) والسيوطي (3/ 14) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. (4) أخرجه الطبري (5/ 166) برقم (13140) ، وذكره ابن عطية (2/ 279) .

اسْتِعْمَالِ المَاضِي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تَحْقِيقاً في الفعل، وإثْبَاتاً له، وهذا مَهْيَعٌ في اللُّغَةَ. وَضَلَّ عَنْهُمْ معناه: ذَهَبَ افْتِرَاؤُهُمْ في الدنيا، وكَذِبُهُمْ على اللَّه. وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً الآية. «أكِنَّة» جمع: كنان، وهو الغِطَاءُ أَنْ يَفْقَهُوهُ أي: يفهموه، والوَقْرُ الثقل. وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها. الرؤية هنا رُؤْيَةُ العَيْنِ، يريد كانشقاق القَمَرِ وشبهه. وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ إشارة إلى القرآن، والأَسَاطِيرُ جمع أَسْطَار، كأقوال وأقاويل، وأسطار جمع سَطْر أوْ سَطَر. وقيل: أَسَاطِير جمع إسْطَارَة، وهي التُّرَّهَاتُ. وقيل: جمع أسطورة كأعجوبة، وأضحوكة. وقيل: هو اسم جمع، لا واحد له من لفظه كعَبَادِيدَ وشَمَاطِيطَ «1» ، والمعنى: إخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تُسَطَّرُ، وتحكى، ولا تُحَقَّقُ كالتواريخ، وإنما شَبَّهَهَا الكفار بأحاديث النَّضْرِ بن الحَارِثِ، وعبد اللَّه بن أبي أُمَيَّة، عن رستم ونحوه، ومُجَادَلَة الكفار كانت مُرَادّتهم نُورَ اللَّهِ بأقوالهم المُبْطَلَةِ. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال/ قتادة وغيره: المعنى: يَنْهَوْنَ عن القرآن «2» . وقال ابن عباس وغيره: ينهون عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: ينهون غَيْرَهُمْ، ويبعدون هم بأنفسهم «3» ، والنَّأْيُ البعد.

_ (1) العباديد: الخيل المتفرقة في ذهابها ومجيئها، ولا واحد له، ولا يقع إلا في جماعة. ولا يقال للواحد: عبديد. وكذلك الشماطيط. قال الفراء: العباديد والشماطيط لا يفرد له واحد. ينظر: «لسان العرب» (2327، 2780) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 171) برقم (13168) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 91) ، وابن عطية (2/ 280) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 16) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة. (3) أخرجه الطبري (5/ 171) برقم (13163) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 280) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 15) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 إلى 28]

قال ص: وَإِنْ يُهْلِكُونَ: إن نافية بمعنى «ما» ، وأَنْفُسَهُمْ مفعول ب يُهْلِكُونَ انتهى. وَما يَشْعُرُونَ معناه: ما يَعْلَمُونَ عِلْمَ حسٍّ، ونَفْيُ الشعور مذمَّةٌ بالغة إذ البهائم تشعر وتحسّ، فإذا قلت: فلان لا يَشْعُرُ، فقد نَفَيْتَ عنه العِلْمَ النفي العام الذي يقتضي أنه لا يَعْلَمُ ولا المحسوسات. [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وقوله جَلَّتْ عظمته: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ الآية: المخاطبة فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجواب «لو» محذوف، تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا عظيما ونحوه. ووُقِفُوا معناه: حسُّوا، ويحتمل قوله: وُقِفُوا عَلَى النَّارِ بمعنى «دخلوها» . قاله الطَّبَرِيُّ «1» . ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها، وعاينوها. وقولهم: يا لَيْتَنا نُرَدُّ معناه إلى الدنيا. وقوله سبحانه: بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الآية: يَتَضَمَّنُ أنهم كانوا يُخْفُونَ أموراً في الدنيا، فظهرت لهم يوم القِيَامَةِ، أو ظهر وَبَالُ ذلك وعاقبته، فحذف المُضَاف، وأقيم المضَافُ إليه مقامه. وقيل: إن الكُفَّارَ كانوا إذَا وعظهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خافوا، وأَخْفَوْا ذلك الخوف لَئلا يشعر بهم أتباعهم، فظهر لهم ذَلِكَ يوم القيامة. ويصح أن يكون مَقْصِدُ الآية الإخْبَارَ عن هَوْلِ ما لقوه، فعبِّر عن ذلك بأنهم ظَهَرَتْ لهم مَسْتُورَاتهم في الدنيا من مَعَاصٍ وغيرها، فكيف الظَّنُّ بما كانوا يعلنونه من كُفْرٍ ونحوه. وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تَعْظِيمِ شَأْنِ يوم القيامة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] . وقوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا إخبار عن أَمْرٍ لا يكون كَيْفَ كان يُوجَدُ، وهذا النوع مما اسْتَأْثَرَ اللَّه- تعالى- بعِلْمِهِ، فإن أعلم بشيء منه علم، وإلا لم يُتَكَلَّمْ فيه. قال الفخر «2» : قال الوَاحِدِيُّ: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فَسَادِ قول المعتزلة

_ (1) ينظر: الطبري (5/ 173) بلفظ: حبسوا. [.....] (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 160) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 29 إلى 31]

لأن اللَّه- تعالى- حكى عن هؤلاء أنهم لو رُدُّوا لَعَادُوا لما نُهُوا عنه، وما ذاك إلا للقضاء السابق فيهم. انتهى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 29 الى 31] وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وقوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ هذا على تأويل الجمهور ابتداء كَلاَمٍ، وإخبار عنهم بهذه المَقَالَةِ، و «إن» نافية، ومعنى الآية عنهم التكذيب بالحَشْرِ والعَوْدَة إلى اللَّه. وقوله سبحانه: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ الإشَارَةُ بهذا إلى البَعْثِ الذي كذبوا به/ في الدنيا، وقولهم: بَلى وَرَبِّنا أَيْمَانٌ، ولكنه حِينَ لا يَنْفَعُ. وقوله: فَذُوقُوا استعارة بليغة، والمعنى باشروه مباشرة الذائق، وبَغْتَةً معناه: فجأة، تقول: بَغَتَنِي الأمر أي: فجأني، ومنه قول الشاعر: [الطويل] وَلَكِنَّهُمْ بَانُوا وَلَمْ أَخْشَ بَغْتَةً ... وَأَفْظَعُ شَيْءٍ حِينَ يَفْجَأُكَ البَغْتُ «1» ونصبها على المَصْدَرِ في موضع الحال. وقولهم: يا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها نداء الحَسَرَةِ على تعظيم الأمر، وتشنيعه. وفَرَّطْنا معناه: قَصَّرْنَا، والضمير في قوله: فِيها عائد على السَّاعَةِ أي: في التَّقْدِمَةِ لها. قاله الحسن «2» . ويحتمل أن يَعُودَ الضمير على الدنيا، إذ المعنى يَقْتَضِيهَا، ومجيء الظرفية أمكن. قلت: قال عَبد الحق في «العَاقِبَةِ» : لا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الحياة إلا الموتى لأنهم قد ظَهَرَتْ لهم الأمور، وانكشفت لهم الحَقَائِقُ، وتَبَدَّتْ لهم المَنَازِلُ، وعلموا مِقْدَارَ الأعمال الصَّالِحَةِ، ولما اسْتَبَانَ لهم ذلك، وعلموا مِقْدَارَ ما ضيعوا، وقيمة ما فيه فَرَّطُوا، نَدِمُوا وَأَسِفُوا، وودُّوا أنهم إلى الدنيا رَجَعُوا، فالذي عمل صالحًا ودَّ أن لو رجع إلى الدنيا ليزداد

_ (1) البيت ليزيد بن ضبة. اللسان (بغت) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 284) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 32 إلى 33]

من عَمَلِهِ الصالح، ويكثر من تَجْرِهِ الرابح، والمُقَصِّرُ يَوَدُّ أنه لو رُدَّ ليستدرك ما فيه فَرَّطَ، وقد قال عليه السَّلاَمُ: «ما مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إلاَّ نَدِمَ» قَالُوا: وَمَا ندامته يا رسول الله؟ قال: «إن كان محسنا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مُسِيئاً نَدِمَ ألا يَكُونَ نَزَعَ» خرجه الترمذي «1» . انتهى. وقوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ الواو واو الحَالِ، والأَوْزَارُ جمع وِزْر بكسر الواو، وهو الثّقْلُ من الذنوب، والوِزْرُ هنا تَجَوُّز وتَشْبِيهٌ بثقل الأَحْمَالِ. ومن قال: إنه من الوَزَرِ، وهو الجَبَلُ الذي يُلْجَأُ إلَيْهِ، فهو قول غير بَيِّنِ. وقال الطبري «2» وغيره: هذا على جهة الحَقِيقَةِ، وَرَوَوْا في ذلك خَبَراً: أنَّ المُؤْمِنَ يَلْقَاهُ عمله في أَحْسَنِ صُورَةً وأَفْوَحِهَا فَيُسَلِّمُ عليه وَيَقُولُ طَالَ مَا رَكِبْتُكَ في الدُّنْيَا وَأَجْهَدْتُكَ، فَارْكَبْنِي اليَوْمَ. قال: فَيَحْمِلُهُ تِمْثَالُ العَمَلِ. وإن الكَافِرَ يَلْقَاهُ عَمَلَهُ في أَقْبَحِ صُورَةً وأَنْتَنِهَا فَيَشْتِمُهُ، ويقول: أنا عَمَلُكَ الخَبِيثُ طَالَ مَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا بِشَهَوَاتِكَ فَأَنا أرْكَبُك اليَوْمَ، قال: فيحمل تِمْثَالَ عَمَلِهِ الخَبِيثَ وَأَوْزَارَهُ على ظَهْرِهِ. قلت: والأحاديث الصحيحة في معنى ما ذَكَرَهُ الطبري كثيرةٌ كأحاديث مَانِعِي الزكاة، وغيرها. قال مكي: وروى المَقْبُرِيُّ عن أبي هريرة في حديث يرفعه، قال: «إذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ بَعَثَ اللَّه مع كل امرئ مُؤْمِنٍ عَمَلَهُ، وبَعَثَ مع الكافر عَمَلَهُ فلا يرى المُؤْمِنُ شَيْئاً يروعه، ولا شَيْئاً يُفْزِعُهُ ويخافه إلاَّ قَالَ له عَمَلُهُ: أَبْشِرْ بالَّذِي يَسُرُّكَ فَإنَّكَ لَسْتَ بِالَّذِي يُرَادُ بهذا. ولا يرى الكَافِر شَيْئاً يُفْزِعُهُ ويروعه ويَخَافُهُ إلا قال له عَمَلُهُ: أبْشِرْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ بالذي يسوءك، فو الله إنك لأنت الذي تراد بهذا» . انتهى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 32 الى 33] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 603- 604) كتاب «الزهد» باب (58) ، حديث (2403) وابن المبارك في «الزهد» (ص 11) رقم (33) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 178) والبيهقي في «الزهد» (ص 279) رقم (716) كلهم من طريق يحيى بن عبيد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: فذكر الحديث. وقال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله تكلم فيه شعبة، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب مدني اهـ. وقال أبو نعيم: غريب من حديث يحيى. (2) ينظر: الطبري (5/ 178) .

وقوله سبحانه: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ الآية. هذا ابتداء خَبَرٍ عن حَالِ الدنيا، والمعنى: أنها إذ كانت فَانِيَةٌ لا طائل لها أشبهت اللَّعِبَ، واللهو الذي لا طَائِلَ له إذا تقضى. وهذه الآية تتضمن الرَّدَّ على قولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: 29] وهو المقصود بها. قال عبد الحق في «العاقبة» : اعلم- رحمك الله- أن حُبَّ الدُّنْيَا هو سَبَبُ طُولِ الأَمَلِ، والإكْبَابُ عليها يَمْنَعُ من الفِكْرَةِ في الخروج عنها، والجهل بغَوَائِلِهَا يحمل على الإرادة لها، والازدياد منها لأن من أَحَبَّ شَيْئاً أحَبَّ/ الكَوْنَ معه، والازدياد منه، ومن كان مَشْغُوفاً بالدنيا مُحِبًّا لها قد خَدَعَتْهُ بزُخْرُفِهَا وَأَمَالَتْهُ برَوْنَقِهَا كيف يحبُّ مفارقتها، أو يحب مُزَايَلَتَهَا، هذا أمر لم تَجْرِ العادة به، ولا حُدِّثْنَا عنه، بَلْ نجد مَنْ كَانَ على هذه الصفة أَعْمَى عَنْ طريق الخَيْرِ، أصم عن دَاعِي الرشد، أَفِنَ الرأي، سَيِّىءَ النظر، ضَعِيفَ الإيمان، لم تترك له الدُّنْيَا ما يَسْمَعُ به، ولا ما يرى، إنما دِينُهُ وشغله وحديثه دُنْيَاهُ، لها ينظر، ولها يَسْمَعُ، قد ملأت عينه وقلبه، ثم قال: واعلم أن أَهْلَ القُبُورِ إنما يَنْدَمُونَ على ما يتركون، ويفرحون بما يُقَدِّمُونَ، فما عليه أهل القُبُورِ يندمون، أَهْلُ الدنيا عليه يَقْتَتِلُون. انتهى. وقوله سبحانه: قَدْ نَعْلَمُ ... الآية: نَعْلَمُ إذا كانت من اللَّه- تعالى- تَتَضَمَّنُ استمرار العَلْمِ وقِدَمَهُ، فهي تعمُّ الماضي، والحال، والاستقبال. قلت: ونحو هذا لأبي «1» حَيَّانَ قال: وعبر هنا بالمُضَارِعِ لأنَّ المُرَادَ الاتصاف بالعلم، واستمراره، ولم يلحظ فيه الزمان، كقولهم: فلان يعطي ويمنع. انتهى. وقرأ نافع «2» وحده «لَيُحْزِنُكَ» من أَحْزَنَ. وقرأ الباقون: «لَيَحْزُنْكَ» من حَزَنْتُ الرجلَ. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «لا يكذّبونك» «3» - بتشديد

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 115) . (2) ينظر: «حجة القراءات» ص (241) ، «السبعة» ص (257) ، «النشر» (2/ 257) ، «التبيان» (1/ 490) ، «المشكل» (1/ 251) ، «المصاحف» لابن أبي داود ص (45) ، «البحر المحيط» (4/ 114) ، «الدر المصون» (3/ 46) ، و «الحجة» (3/ 304) ، و «العنوان» (90) . (3) ينظر: «الدر المصون» (3/ 48) ، «البحر المحيط» (4/ 116) ، «حجة القراءات» ص (247) ، «الكشاف» (2/ 18) ، «النشر» (2/ 257- 258) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 10) ، و «السبعة» -

[سورة الأنعام (6) : الآيات 34 إلى 36]

الذال، وفتح الكاف- وقرأها ابن عباس، ورَدَّهَا على قارئ قرأ عليه «يُكذبونك» بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأَمِينَ. وقرأ نافع والكسائي- بسكون الكاف، وتخفيف الذال-، وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، وهما بمعنى واحد، فمعنى: لا يكذبونك، أي: لا يعتقدون كذبك، وإنهم يعلمون صِدْقَكَ، ولكنهم يَجْحَدُونَ عنَاداً وظُلْماً، وهذا تأويل قتادة والسُّدي وغيرهما «1» . وحكي عن طائفة من الكُفَّارِ أنها كانت تَقُولُ: إنا لنعلم أن محمداً صادق، ولكن إذا آمنَّا به فضلنا بنو هاشم بالنبوءة، فنحن لا نُؤْمِنُ به أَبَداً. رويت هذه المَقَالَةِ عن أَبِي جَهْلٍ «2» ، ومن جرى مجراه. وأسْنَدَ الطَّبَريُّ «3» : «أن جِبْريلَ وجد النبي صلّى الله عليه وسلّم حَزِيناً فسأله، فقال: كذبني هؤلاء، فقَال: إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أَنَّكَ صَادِقٌ ولكن الظالمين بآيات اللَّه يَجْحَدُونَ» وجَحْدُ العِنَادِ جائز الوقوع بمقتضى النظر، وظواهر القرآن تعطيه، ويَجْحَدُونَ: حِقِيقِتُهُ في كلام العرب الإنْكارُ بعد معرفة، وهو ضد الإقرار. [سورة الأنعام (6) : الآيات 34 الى 36] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

_ - (257) ، و «الحجة» (3/ 302) ، و «إعراب القراءات» (1/ 155) ، و «العنوان» (90) ، و «شرح الطيبة» (4/ 248) ، و «شرح شعلة» (360) . (1) أخرجه الطبري (5/ 181) رقم (13195، 13196) ، بنحوه، وذكره البغوي (2/ 93، 94) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 286) ، وذكره ابن كثير (2/ 129، 130) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 18) وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن أبي حاتم، عن الحسن بنحوه. (2) عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي: أشد الناس عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأحد سادات قريش، وأبطالها ودهاتها في الجاهلية، كان يقال له: أبو الحكم، كان عنيدا عنيفا، حتى كانت وقعة بدر الكبرى، فشهدها مع المشركين فكان من قتلاها سنة 2 هـ. ينظر: «الكامل» (2/ 127) ، و «فتح الباري» (7/ 293- 296) ، «عيون الأخبار» (1/ 230) ، «السيرة الحلبية» (2/ 33) ، «دائرة المعارف الإسلامية» (1/ 322) ، «إمتاع الأسماع» (1/ 18) ، «الأعلام» (5/ 87) . (3) أخرجه الطبري (5/ 182) رقم (13202، 13203) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 287) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 19) ، وعزاه لابن جرير عن الضحاك، ولابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج بنحوه.

وقوله سبحانه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا الآية. قال ابن جُرَيْجٍ، والضحاك: عزى اللَّه بهذه الآية نَبِيَّهُ- عليه السلام- «1» ثم قَوَّى سبحانه رَجَاء نَبِيِّهِ فيما وَعَدَهُ من النصر، بقوله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، أي: لاَ رَادَّ لأَمْرِهِ، وكلماته السابقة بما يكون، فكأن المعنى: فاصبر كما صَبَرُوا، وانتظر ما يأتي، وَثِقْ بهذا الإخبار، فإنه لا مُبَدِّلَ له. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ... الآية فيها إلزام الحجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أنْ لاَ وَجْهَ إلا الصَّبر، والمعنى: إن كنت تعظم تكذيبهم، وكفرهم على نَفْسِكَ، وتلتزم الحُزْنَ، فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعمال الأرض، أو على ارْتِقَاءِ سُلَّمٍ في السماء، فافعل، أي: ولست بِقَادِرٍ على شيء من هذا، ولا بُدَّ لك من التزام الصَّبْرِ، واحتمال المشقة، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ في أن تَأْسَفَ وتحزن على أَمْرٍ أراده اللَّه، وأمضاه. وروى الدّارقطنيّ في «سننه» / عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قال: «إذا أَصَابَ أَحَدَكُمْ هَمٌّ أوْ حُزْنٌ فليقل سَبْعَ مَرَّاتٍ: اللَّه اللَّه رَبِّي لاَ أُشْرِكُ بِه شَيْئاً» «2» انتهى من «الكوكب الدّري» . وفَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي: بعلامة. وقال مَكّي، والمَهْدوي: الخِطَابُ بقوله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمُرَادُ أمته، وهذا ضَعِيفٌ لا يقتضيه اللفظ. قلت وما قاله ع: فيه عندي نَظَرٌ لأن هذا شَأْنُ التأويل إخراج اللَّفْظِ عن ظاهره لموجب، عَلَى أن أَبَا محمد مَكِّيًّا- رحمه اللَّه- نَقَلَ هذا القول عن غيره نَقْلاً، ولفظه: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي: ممن لا يعلم أن اللَّه لو شَاءَ لَجَمَعَ على الهُدَى جميع خَلْقِهِ. وقيل: معنى الخطاب لأمّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين، ومثله في القرآن كثير. انتهى من «الهِدَايَةِ» . وقوله سبحانه: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ هذا من النَّمَطِ المتقدّم في التسلية،

_ (1) ينظر: الطبري (5/ 178) . (2) ذكره الهندي في «كنز العمال» (2/ 117) رقم (3410) ، وعزاه للطبراني في «الأوسط» . [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 إلى 38]

أي: لا تحفل بمن أعرض، فإنما يَسْتَجِيبُ لداعي الإيمان الذين يَفْهَمُونَ الآيات، ويتلقون البَرَاهِينَ بالقَبُولِ، فعبر عن ذلك كله ب يَسْمَعُونَ إذ هو طريق العلم، وهذه لفظة تستعملها الصُّوفِيَّةُ- رضي اللَّه عنهم- إذا بلغت المَوْعِظَةُ من أحد مبلغاً شافياً، قالوا: سمع. ثم قال تعالى: وَالْمَوْتى يُرِيدُ الكفار أي: هم بمَثَابَةِ الموتى، فعبر عنهم بِضِدِّ ما عبر عن المؤمنين، وبالصفة التي تُشْبِهُ حالهم في العمى عن نور اللَّه، والصَّمَمِ عن وَعْيِ كلماته. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة «1» . ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يحتمل معنيين: قال الحسن: معناه يبعثهم بأن يُؤْمنوا حين يوفقهم «2» ، وقراءة الحسن «ثم إليه تُرْجَعُون» بالتاء من فوق «3» ، فَتَنَاسَبَت الآية. وقال مجاهد، وقتادة: وَالْمَوْتى يريد الكفار يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، أي: يَحْشرهم يوم القيامة، ثُمَّ إِلَيْهِ، أي: إلى سطوته، وعقابه يُرْجَعُونَ «4» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 38] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وقوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «لَوْلاَ» تحضيض بمعنى «هلاَ» ، ومعنى الآية: هلا نزل على محمد بَيَانٌ واضح كَمَلَكٍ يَشْهَدُ له، أو كَنْزٍ، أو غير ذلك من تَشَطُّطهِم المَحْفُوظِ في هذا، ثم أُمِرَ- عليه السلام- بالرَّدِّ عليهم بأن اللَّه- عز وجل- قَادِرٌ على ذلك، ولكن أكثرهم لا يَعْلَمُونَ أنها لو نَزَلَتْ، ولم يؤمنوا لَعُوجِلُوا بالعَذَابِ، ويحتمل وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أنه- سبحانه- إنما جعل الإِنْذَارَ في آيات معرضة للنظر، والتأمّل ليهتدي قوم ويضلّ آخرون.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 185) رقم (13209، 13211، 13212) وذكره ابن عطية (2/ 289) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 19) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن الحسن، ولعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن مجاهد بنحوه. (2) ذكره ابن عطية (2/ 289) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 289) . (4) ذكره ابن عطية (2/ 289) .

وقوله سبحانه: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ المعنى: في هذه الآية التَّنْبِيهُ على آيات اللَّه المَوْجُودَةِ في أنواع مَخْلُوقَاتِهِ المَنْصُوبَةِ لمن فَكَّرَ واعتبر كالدواب والطير، ويدخل في هَذَيْنِ جَمِيعُ الحَيَوَانِ، وهي أمم أي: جَمَاعَاتٌ مماثلة للناس في الخَلْقِ، والرزق، والحَيَاةِ، والمَوْتِ، والحَشْرِ. ويحتمل أن يريد بالمُمَاثَلَةِ في كونها أمماً لا غير، إلا أن الفَائِدَةَ في هذه الآية بأن تكون المُمَاثَلَةُ في أَوْصَافٍ غير كونها أمماً. قال الطبري «1» ، وغيره: والمُمَاثَلَةُ في أنها يُهْتَبَلُ بأعمالها، وتحاسب، ويقتصّ لبعضها من بَعْضٍ، على ما روي في الأحَادِيثِ أي: فإذا كان هذا يُفْعَلْ بالبهائم، فأنتم أَحْرَى إذ أنتم مُكَلَّفُونَ عُقَلاَء. وروى أبو ذَرٍّ: أنه انتطحت عنزان بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أَتَعْلَمُونَ فِيمَا انْتَطَحَتَا» ؟ / قِلْنَا: لا، قال: فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا» «2» . وقال مَكّي: المُمَاثَلَةُ في أنها تَعْرِفُ اللَّه، وتعبده. وقوله: بِجَناحَيْهِ تأكيد، وبيان، وإزالة للاستعارة المُتَعَاهَدَةِ في هذه اللفظة إذ يقال: طائر السَّعْدِ، والنَّحْسِ. وقال تعالى: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ( [الإسراء: 13] ، ويقال: طار لفلان طائر كذا، أي: سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى: بِجَناحَيْهِ إخراج للطائر عن هذا كله. وقوله سبحانه: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ التفريط: التقصير في الشَّيْءِ مع القُدْرَةِ على تَرْكِ التقصير. قال أبو حيان «3» : أصل فَرَّطْنَا يَتَعَدَّى ب «في» ثم يضمن معنى أغفلنا، فيتعدى إلى مَفْعُولٍ به، وهو هنا كذلك، فيكون مِنْ شَيْءٍ في موضع المفعول به. انتهى. والْكِتابِ: القرآن وهو الذي يقتضيه نَظَامُ المعنى في هَذِهِ الآيَاتِ. وقيل: اللوح المحفوظ، ومِنْ شَيْءٍ على هذا القول عَامٌّ في جَمِيعِ الأشياء، وعلى

_ (1) ينظر الطبري (5/ 186) . (2) أخرجه أحمد (5/ 172) ، والطيالسي (480) من حديث أبي ذر. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 355) ، وقال: وفيه راو لم يسم. (3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 126) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 39 إلى 41]

القول بأنه القرآن خاصّ. ويُحْشَرُونَ قالت فرقة من العلماء: حَشْرُ البهائم بَعْثُهَا، واحتجوا بالأَحَادِيثِ المضمنة أن اللَّه- تعالى- يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ من القَرْنَاءِ، ومن قال: إنما هي كِنَايَةٌ عن العَدْلِ، وليست بحقيقة، فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرّموز ونحوها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 39 الى 41] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ ... الآية كأنه قال: وما من دَابَّةٍ، ولا طائر، ولا شَيْءٍ، إلاَّ وفيه آية منصوبة دالة على وَحْدَانِيَّةِ اللَّه- تعالى- ولكن الذين كَذَّبُوا بآياتنا صُمّ وبكم لا يتلقون ذلك، ولا يَقْبَلُونَهُ، وظاهر الآية أنها تعمُّ كل مُكَذِّبٍ. وقال النقاش: نزلت في بني عَبْدِ الدَّارِ. قال ع «1» : ثم تَنْسَحِبُ على سواهم. وقوله: فِي الظُّلُماتِ يَنُوبُ عن عمي، وفي الظلمات أَهْوَل عبارة، وأفصح، وأوقع في النَّفْسِ. قال أبو حَيَّانَ «2» : فِي الظُّلُماتِ خبر مبتدإ مَحْذُوفٍ، أي: هم في الظلمات، أو صفة ل بُكْمٌ أي: كائنون في الظلمات، أو حال من الضمير المقدر في الخبر، أي: ضالون في الظلمات. انتهى. وقوله سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ابتداء احْتِجَاجٍ على الكفار الجاعلين للَّه شركاء، والمعنى: أرأيتم إذا خِفْتُمْ عَذَابَ اللَّه، أو خفتم هَلاَكاً، أو خفتم السَّاعَةَ، أتدعون أَصْنَامَكُمْ وتَلْجَئُون إليها في كَشْفِ ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة، بل إنما تدعون اللَّه الخَالِقَ الرازق، فيكشف ما خِفْتُمُوه، إن شاء، وتنسون أصنامكم، أي: تتركونهم، فعبر عن التَّرْكِ بأعظم وجوهه الذي هو مَعَ التَّرْكِ ذهول، وإغفال، فكيف يجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد والأزمات.

_ (1) ينظر: «المحرر» (2/ 290) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 127) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 إلى 45]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ في الكلام حَذْفٌ، تقديره: فكذبوا فأخذناهم؟ أي: تابعناهم بالبَأْسَاءِ الآية، والبأساء المَصَائِبُ في الأموال، والضراء في الأَبْدَانِ. هذا قول الأكثر. وقيل: قد يُوضَعُ كل واحد بَدَلَ الآخر، والتضرُّعُ التذلل، والاستكانة، ومعنى الآية توعد الكفار، وضرب المثل لهم، وفَلَوْ لا تحضيض، وهي التي تلي الفِعْلَ بمعنى: «هلا» وهذا على جِهَةِ المعاتبة لِمُذْنِبٍ غائب، وإظهار سوء فعله مع تَحَسُّرِ ما عليه. قلت: أي: مع تَحَسُّرٍ ما، باعتبار حالة البَشَرِ. وقوله سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ... الآية عبر عن الترك بالنّسيان، وفَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أي: من النِّعَمِ الدنيوية بعد الذي أَصَابَهُمْ من البَأْسَاءِ والضراء، وفَرِحُوا معناه: بطروا، / وأعجِبوا، وظنوا أن ذَلِكَ لا يَبيدُ، وأنه دَالٌّ على رضا اللَّه عنهم، وهو اسْتِدْرَاجٌ من اللَّه تعالى. وقد رُوِيَ عن بعض العلماء: رحم اللَّه عبداً تَدَبَّر هذه الآية حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً. وروى عقبة بن عامر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيت اللَّه- تعالى- يعطي العِبَادَ ما يشاءون على مَعَاصيهم، فذلك اسْتِدْرَاجٌ ثم تلا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ... الآية «1» كلها، وأَخَذْناهُمْ في هذا المَوْضِعِ معناه: استأصلناهم بَغْتَةً أي: فجأة، والمبلس الحَزِينُ الباهت اليَائِسُ من الخَيْرِ الذي لا يَحِيرُ جَوَاباً لشدة ما نَزَلَ به من سوء الحال. وقوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ ... الآية.

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 145) ، والدولابي في «الكنى» (1/ 111) ، والطبري (5/ 194) رقم (13244) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 128) رقم (4540) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 330- 331) رقم (913) ، وابن أبي الدنيا في كتاب «الشكر» (ص 9) من حديث عقبة بن عامر والحديث ذكره العراقي في «تخريج الإحياء» (4/ 115) وقال: رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي في «الشعب» بسند حسن.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 إلى 49]

الدَّابر: آخر القوم الذي يَأتي من خَلْفِهِم، وهذه كناية عن استئصال شأفتهم، ومَحْوِ آثارهم، كأنهم وَرَدُوا العَذَابَ حتى ورد آخرهم الذي دَبَرَهُمْ، وحَسُنَ الحمد عَقِبَ هذه الآية لِجَمَالِ الأفعال المتقدمة في أن أرسل- سبحانه- الرسل، ولطف في الأَخْذِ بالبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ ليتضرع إليه، فيرحم، وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظَّلَمَة، وذلك حَسَنٌ في نفسه، ونعمة على المؤمنين، فحسن الحَمْدُ عقب هذه الأفعال، وبحمده سبحانه ينبغي أن يُخْتَمَ كل فعل، وكل مَقَالٍ، إذ هو المحمود على كُلِّ حال لا رب غيره، ولا خير إلا خيره. [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ ... الآية أَخَذَ معناه أَذْهَبَ، والضمير في بِهِ عائد على المأخوذ، ويَصْدِفُونَ معناه: يعرضون، وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط] إذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أَحْسَنَهُ ... وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ «1» وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً ... الآية وعيد وتهديد. قال ع «2» : أَرَأَيْتُمْ عند سيبويه: تَتَنَزَّلُ منزلةَ «أخبروني» ولذلك لا تَحْتَاجُ إلى مفعولين. وقوله: بَغْتَةً: معناه: لم يتقدّم عندكم منه علم، وجَهْرَةً، معناه: تبدو لكم مَخَايلُهُ ومَبَاديه، ثم يتوالى حتّى ينزل.

_ (1) البيت لعدي بن الرقاع، وهو في «تفسير الطبري» (11/ 366) ، «البحر» (4/ 117) و «الدر المصون» (3/ 66) . وصدف: جمع: صدوف، كصبر في جمع صبور. وقيل: معنى صدف: مال، مأخوذ من الصدف في البعير، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل من الجانب الوحشيّ. والصّدف: جمع صدفة، وهي المحارة التي تكون فيها الدّرّة، قال: [البسيط] وزادها عجبا أن رحت في سمل ... وما درت درّ أنّ الدّرّ في الصّدف والصّدف والصّدف- بفتح الصاد والدال وضمهما، وضم الصاد وسكون الدال- ناحية الجبل المرتفع. (2) ينظر: «المحرر» (2/ 293) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 إلى 53]

قال الحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ: بَغْتَةً لَيْلاً، وجَهْرَةً» : نهارا. وقال مجاهد: بَغْتَةً فجاءة آمنين. وجَهْرَةً: وهم ينظرون «2» . قال أبو حَيَّان «3» : هَلْ يُهْلَكُ؟ «هل» حَرْفُ استفهام، معناه هنا النَّفْيُ، أي: ما يهلك ولذلك دخَلَتْ «إلاَّ» على ما بعدها. انتهى. وقوله سبحانه: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ، أي: إلاَّ ليبشِّروا بإنعامنا وَرَحْمَتِنَا مَنْ آمن، ومُنْذِرِينَ بعذابنا وعِقَابنا مَنْ كَذَّب وكَفَر، قال أبو حَيَّان: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ: حالٌ فيها معنَى العِلِّيَّة، أي: أرسلناهم للتبشير والإنذار. انتهى. ثم وَعَدَ سبحانَهُ مَنْ سلَكَ طريقَ البِشَارة، فآمَنَ وأصْلَح في امتثال الطاعةِ، وأوعد الآخرين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53] قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وقوله تعالى: قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ... الآية: هذا مِنَ الرَّدِّ على القائلين: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [الأنعام: 37] والطَّالِبِينَ أنْ ينزَّل ملَكٌ، أو تكونَ له جَنَّةٌ أو كَنْزٌ، ونَحْوُ هَذَا، والمعنى: إنما أنا بشر، وإنما أَتَّبِعُ ما يوحى إليَّ، وهو القرآنُ وسَائِرُ ما يأتيه مِنَ اللَّه سبحانه، أي: وفي ذلك عِبَرٌ وآياتٌ لمن تأمَّل. وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، أي: هل يستوي المؤمِنُ المُفَكِّرُ في الآياتِ، معِ الكافِرِ المُعْرِضِ عَنِ النَّظَر أفلا تتفكَّرون، وجاء الأمر بالفِكْرة في عبارة العرض والتّحضيض/.

_ (1) ذكره البغوي (2/ 98) ، وذكره ابن عطية (2/ 293) . (2) أخرجه الطبري (5/ 196) برقم (13253) ، وذكره ابن عطية (2/ 293) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 24) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه. [.....] (3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 126) .

وقوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ، أي: وأنذر بالقرآن الذين هُمْ مَظِنَّةُ الإيمان، وأهْلٌ للاِنتفاعِ، والضميرُ في بِهِ عائدٌ على ما يوحى. وقوله سبحانه: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ: إخبارٌ من اللَّه سبحانه عَنْ صفة الحالِ يَوْمَ الحَشْرِ، قال الفَخْر «1» : قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: قال ابن عَبَّاس: معناه: وأنذرهم لكَيْ يخافوا في الدنيا، وينتهوا عن الكُفْر والمعاصِي. انتهى. وقوله سبحانه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ: المرادُ ب الَّذِينَ ضَعَفَةَ المُؤْمنين في ذلك الوَقْت في أمور الدُّنْيا كَبَلاَلٍ. وصُهَيْبٍ، وعَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ «2» ، وصُبَيْحٍ، وذي الشِّمَالَيْنِ والمِقْدَادِ، ونحوِهِمْ، وسببُ الآية أنَّ بعض أشراف الكفّار قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: نَحْنُ لِشَرَفِنَا وأقْدَارِنَا لاَ يُمْكِنُنَا أنْ نختلطَ بهؤلاءِ، فلو طَرَدْتَّهم، لأتَّبَعْنَاكَ، وَرَدَ في ذلك حديثٌ عن ابْنِ مسعود، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فنزلت الآية، ويَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ: قال الحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن «3» : المراد به صلاةُ مكَّة الَّتي كانَتْ مرَّتين في اليومِ بُكْرةً وعَشِيًّا، وقيل: قوله: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ: عبارةٌ عن استمرار الفعْلِ، وأنَّ الزمان معمورٌ به، والمرادُ على هذا التأويل، قيل: الصلواتُ الخَمْس قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «4» ، وقيل: الدُّعاء، وذِكْرُ اللَّه، واللفظةُ على وجهها، وقيل: القُرآنُ وتعلُّمه قاله أبو جعفر «5» ، وقيل: العبادة قاله الضّحّاك «6» .

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 193) . (2) (خبّاب) بن الأرت: - بتشديد المثناة- بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي، ويقال: الخزاعي، أبو عبد الله. سبي في الجاهليّة، فبيع بمكّة، فكان مولى أم أنمار الخزاعية، وقيل غير ذلك. ثم حالف بني زهرة، وكان من السّابقين الأوّلين. وقال ابن سعد: بيع بمكّة، ثم حالف بني زهرة. وأسلم قديما وكان من المستضعفين، روى الباوردي أنه أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، وعذّب عذابا شديدا لأجل ذلك. ينظر: «الإصابة» (2/ 221) ، «طبقات ابن سعد» (3/ 164) ، «تهذيب الكمال» (373) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 133) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 295) . (4) أخرجه الطبري (5/ 201) برقم (13269) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 295) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 26) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس بنحوه. (5) ينظر الطبري (5/ 204) . (6) أخرجه الطبري (5/ 203) رقم (13291) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 295) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 إلى 57]

وقوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قلتُ: قال الغَزَّالِيُّ في «الجَوَاهر» : النيةُ والعَمَلُ بهما تمامُ العبادةِ، فالنِّيَّة أحد جُزْأيِ العبَادةِ، لكنها خير الجزأَيْن، ومعنى النيَّة إرادةُ وَجْه اللَّه سبحانه بالعَمَلِ، قال اللَّه تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، ومعنى إخلاصها تصفيةُ الباعِثِ عن الشوائِبِ، ثم قال الغَزَّالِيُّ: وإذا عرفْتَ فَضْل النية، وأنَّها تحلُّ حَدَقَةَ المقْصود، فاجتهد أنْ تستكثر مِنَ النِّيَّة في جميع أعمالِكَ حتى تنوي بعملٍ واحدٍ نيَّاتٍ كثيرة، ولو صَدَقَتْ رغبتُكَ، لَهُدِيتَ لطريقِ رشدك. انتهى. وقوله سبحانه: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، قال الحَسَنُ والجمهورُ: أيْ: مِنْ حسابِ عملهم، والمعنى: أنك لم تُكَلَّفْ شيئاً غيْرَ دعائهم «1» ، وقوله: فَتَطْرُدَهُمْ: هو جوابُ النفْيِ في قوله: مَا عَلَيْكَ، وقوله: فَتَكُونَ: جوابُ النهْيِ في قوله: وَلا تَطْرُدِ. وفَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أي: ابتلينا، ولِيَقُولُوا: معناه: ليصيرَ بحُكْم القَدَرِ أمرُهُمْ إلى أن يقولُوا على جهة الاِستخْفَافِ والهُزْء: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا، فاللامُ في لِيَقُولُوا: لامُ الصَّيْرورة. وقوله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ، أي: يا أيّها المستخفُّون، ليس الأمر أمر استخفاف، فاللَّه أعلَمُ بمن يشكر نعمه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 57] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) وقوله سبحانه: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ... الآية: قال جمهور المفسِّرين: هؤلاءِ هم الذينَ نَهَى اللَّهُ عَنْ طردهم، وشَفَعَ ذلك بِأنْ أَمَرَ سبحانه أنْ يسلِّم النبيُّ- عليه السلام- عليهم، ويُؤْنِسَهُمْ، قال خَبَّابُ بْنُ الأَرَتَّ: لما نزلَتْ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ... الآية، فكنّا نأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيقولُ لنا: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، ونقعُدُ معه، فإذا أراد أنْ يقوم، قَامَ، وتركَنا، فأنزل اللَّه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 296) .

يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... «1» [الكهف: 28] الآية، فكان يَقْعُدُ معنا، فإذا بَلَغَ الوقْتَ الذي يقوم فيه، قمنا وتركناه، حتّى يقوم، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ: ابتداءٌ، والتقديرُ: سَلاَمٌ ثابتٌ أو واجبٌ عليكم، والمعنَى: أمَنَةً لكُمْ مِنْ عذاب اللَّه في الدنيا والآخرة، ولفظه لفظُ الخَبَر، وهو في معنى الدُّعَاء، قال الفَخْر «2» قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: النّفس هاهنا: بمعنى الذَّات، والحقيقةِ، لا بمعنى الجِسْمِ، واللَّهُ تعالى مقدَّس عنه. انتهى. قلتُ: قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في كتاب «تفسير الأَفْعَال الواقعة في القُرآن» : قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، قال علماؤنا: كَتَبَ: معناه أَوْجَبَ، وعندي أنه كتب حقيقة، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكتب، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» «3» . انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 296) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (13/ 4) . (3) ورد ذلك في حديث عبادة بن الصامت، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة. فأما حديث عبادة فرواه أبو داود (2/ 637- 638) في السنة، باب في القدر (4700) ، والترمذي (4/ 398) في القدر، باب (17) (2155) وأحمد (5/ 317) ، والبخاري في «التاريخ» (6/ 92) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (102- 105) ، والبيهقي في «السنن» (10/ 204) ، من طرق عنه به مرفوعا، وكذا رواه الطبري (12/ 177) (34543، 34548) . وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأما حديث ابن عباس فروي مرفوعا أو موقوفا. فأما المرفوع فرواه أبو يعلى (2329) ، والبيهقي في «السنن» (9/ 3) ، وفي «الأسماء والصفات» ص (378) من طريق عبد الله بن المبارك قال: «أخبرنا رباح بن زيد، عن عمرو بن حبيب، عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا» . إن أول شيء خلقه الله القلم، وأمره فكتب كل شيء. وكذا رواه الطبري (34544) . وأخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 433) (12227) عن مؤمل بن إسماعيل، ثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس مرفوعا «إن أول ما خلق الله تعالى القلم والحوت قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كان إلى يوم القيامة» ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] فالنون: الحوت. والقلم: القلم. وقال الطبراني: لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل. وقال في «المجمع» (7/ 131) ومؤمل ثقة كثير الخطأ، وقد وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري، وبقية رجاله ثقات. وأما الموقوف فرواه الطبري (34528، 34530، 34531) وابن منده في «التوحيد» (1/ 94، 192) برقم (15، 65) ، وأبو الشيخ في «العظمة» (897) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 498) ، والبيهقي في-

وقرأ عاصمٌ «1» ، وابنُ عَامِرٍ أنَّهُ- بفَتْحِ الهَمْزةِ في الأولى- والثانيةِ «فأنَّهُ» : الأولى بدلٌ من الرَّحْمَةَ، و «أنّه» الثانية: خبر ابتداء مضمر، تقديره: فأمره أنّه عفور رحيمٌ، هذا مذْهَبُ سيبَوَيْه، وقرأ ابنُ كَثِيرٍ، وأبو عَمْرٍو، وحمزة، والكسائي «إنَّهُ» - بكسر الهمزة في الأولى والثانية-، وقرأ نافعٌ بفَتْح الأولى وكَسْر الثانية، والجهالةُ في هذا الموضِعِ: تعمُّ التي تُضَادُّ العِلْمَ، والتي تُشَبَّه بها وذلك أنَّ المتعمِّد لفعْلِ الشيء الذي قَدْ نُهِيَ عنه تسمى معصيته تِلْكَ جِهَالَةً، قال مجاهدٌ: مِنَ الجهالةِ ألاَّ يعلم حَلاَلاً مِنْ حرامٍ «2» ، ومن جهالته أنْ يركِّب الأمر. قُلْتُ: أيْ: يتعمَّده، ومن الجهالة الَّتي لا تُضَادُّ العلم قوله صلّى الله عليه وسلّم في استعاذته: «أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» «3» ومنها قولُ الشَّاعر: [الوافر] أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا «4»

_ - «الأسماء والصفات» ص (481) من طرق عن الأعمش، عن أبي ظبيان عنه قال: أول ما خلق الله عز وجل القلم، فقال له: اكتب، فقال: يا رب، ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة..... وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وله طرق أخرى عند الطبري (34538) ، والحاكم (2/ 453- 454) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر» (6/ 387) وزاد نسبته لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، والخطيب في «تاريخه» ، والضياء في «المختارة» . وأما حديث ابن عمر فرواه ابن أبي عاصم (106) ، والآجري في «الشريعة» (ص 175) عن بقية، حدثني أرطاة بن المنذر، عن مجاهد بن جبير عنه مرفوعا به. وأما حديث أبي هريرة فرواه الحكيم الترمذي كما في «الدر المنثور» (6/ 388) . (1) ينظر: «الدر المصون» (3/ 68) ، «البحر المحيط» (4/ 139) ، «حجة القراءات» ص (251) ، «النشر» (2/ 258) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 12- 13) ، و «إعراب القراءات» (1/ 157) ، و «شرح شعلة» (362، 363) ، و «العنوان» (91) ، و «شرح الطيبة» (4/ 253) . (2) أخرجه الطبري (5/ 207) رقم (13297) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 100) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 297) . [.....] (3) تقدم تخريجه. (4) البيت لعمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب من بني تغلب أبو الأسود، وهو من معلقته المشهورة. ومعناه: نهلكه ونعاقبه بما هو أعظم من جهله، فنسب الجهل إلى نفسه، وهو يريد الإهلاك والمعاقبة ليزدوج اللفظتان، فتكون الثانية على مثل لفظة الأولى، وهي تخالفها في المعنى لأن ذلك أخف عن اللسان وأحضر من اختلافهما. ينظر: «شرح القصائد العشر» للتبريزي (288) ، وينظر «البحر المحيط» (1/ 186) ، و «الدر المصون» (1/ 126) .

قال الفخْر «1» : قال الحَسَنُ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ معصيةً، فهو جاهلٌ، فقيل: المعنى أنه جاهلٌ بمقدارِ ما فاتَهُ منَ الثَّواب، وما استحقه من العقابِ، قلْتُ: وأيضاً فهو جاهلٌ بقَدْر مَنْ عصاه. انتهى. والإشارةُ بقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ، إلى ما تقدَّم من النهْيِ عن طَرْدِ المؤمنين، وبَيَانِ فَسَادِ مَنْزَعِ العارضين لذلك، وتفضيل الآياتِ: تبيينُها وشَرْحُها وإظهارُها، قلْتُ: ومما يناسِبُ هذا المَحَلَّ ذِكْرُ شيء ممَّا ورد في فَضْلِ المُصَافَحَة، وقد أسند أبُو عُمَر في «التمهيد» ، عن عبد الرحْمَنِ بْنِ الأسود «2» ، عن أَبِيهِ وعلقمة أنهما قَالاَ: «مَنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ المُصَافَحَةُ» ، وروى مالكٌ في «الموطإ» ، عن عطاءٍ الخراسانيّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا، وَتَذْهَب «3» الشَّحْنَاءُ» ، قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديث يتَّصلُ مِنْ وجوه شتى حِسَانٍ كلُّها، ثم أسند أبو عُمَر من طريقِ أبي دَاوُد وغَيْره، عن البَرَاءِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لهما قبل أن يتفرّقا» «4» ، ثم أسند أبو عُمَرَ عن البَرَاء بنِ عازب، قال: «لقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كُنْتُ لأحْسِبُ أَنَّ المُصَافَحَةَ لِلْعَجَمِ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا، ونَصِيحَةً، إلاَّ أُلْقِيَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا» «5» ، وأسند أبو عُمَرَ عن عمر بْنِ الخَطَّابِ، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا التقى المُسْلِمَانِ، فَتَصَافَحَا، أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ بِالمُصَافَحَةِ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ، وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ أحسنهما بشرا بصاحبه» «6» . انتهى.

_ (1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (13/ 5) . (2) عبد الرّحمن بن الأسود بن يزيد النّخعي أبو حفص الفقيه. عن أبيه وعائشة. وعنه: الأعمش، وأبو إسحاق الشّيباني. وثقه ابن معين. حج ثمانين حجة، واعتمر ثمانين عمرة. مات سنة ثمان وتسعين. ينظر: «الخلاصة» (2/ 125) . (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 908) كتاب «حسن الخلق» ، باب ما جاء في المهاجرة، حديث (16) عن عطاء مرسلا. (4) تقدم تخريجه. (5) ذكره الهندي في «كنز العمال» (9/ 134- 135) رقم (25368) ، وعزاه للروياني، وابن أبي الدنيا في كتاب «الإخوان» ، والضياء المقدسي في «المختارة» . (6) ذكره الهندي في «كنز العمال» (9/ 114) رقم (25245) ، وعزاه للحكيم الترمذي، وأبي الشيخ عن عمر.

وقد ذكرنا/ طَرَفاً مِنْ آدَابِ المُصَافحة فِي غَيْرِ هذا الموضعِ، فَقِفْ عليه، واعمل به، تَرْشَدْ، فإنَّ العلْم إنما يرادُ للعَمَل، وباللَّه التوفيق. وخُصَّ سبيلُ المُجْرمينَ بالذِّكْر لأنهم الذين آثَرُوا ما تقدَّم من الأقوال، وهو أهَمُّ في هذا الموضِعِ لأنها آياتُ رَدٍّ علَيْهم. وأيضاً: فتَبْيِينُ سَبِيلِهِمْ يتضمَّن بيانَ سَبِيلِ المُؤْمنين، وتَأوَّلَ ابنُ زَيْد أنَّ قوله: الْمُجْرِمِينَ مَعْنِيٌّ به الآمِرُونَ بطَرْد الضَّعَفَةِ «1» . وقوله سبحانه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ... الآية: أَمَرَ اللَّهُ سبحانه نَبيَّه- عليه السلام- أنْ يجاهرهم بالتبرّي ممّا هم فيه، وتَدْعُونَ: معناه تعبدون، ويْحْتَمَلُ أنْ يريدَ: تَدْعُونَ في أموركُمْ، وذلك مِنْ معنى العبَادةِ، واعتقادهم الأصنامَ آلهة. وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي: المعنى: قل إني على أمْر بيِّن، وَكَذَّبْتُمْ بِهِ، الضمير في «بِهِ» عائدٌ على «بَيِّن» ، أو علَى الرَّبِّ، وقيل: على القُرآن، وهو جليٌّ، وقال بعضُ المفسِّرين: الضميرُ في «به» الثانِي عائدٌ على «مَا» ، والمُرَادُ بها الآياتُ المقْتَرَحَةُ على ما قال بعض المفسِّرين، وقيل: المرادُ به العذابُ، وهو يترجَّح من وجْهَيْن: أحدهما: مِنْ جهة المعنى وذلك أنَّ قوله: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يتضمَّن أنَّكم واقعتم مَا تَسْتَوْجِبُون به العَذَابَ إلاَّ أنه ليس عنْدِي. والآخَرُ: مِنْ جهة لَفْظِ الاستعجالِ الذي لَمْ يأت في القُرآن إلاَّ للعذابِ. وأما اقتراحهم للآيَاتِ، فَلمْ يكُنْ باستعجال. وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أي: القضاء والإنفاذ، ويَقُصُّ الْحَقَّ، أيْ: يخبر به والمعنى: يقُصُّ القَصَص الحَقَّ، وقرأ حمزةُ «2» والكِسَائيُّ وغيرهما: «يَقْضِي الحَقَّ» ، أي: ينفذه.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 207) رقم (13302) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 298) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 27) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد بنحوه. (2) ينظر: «الدر المصون» (3/ 77) ، «البحر المحيط» (4/ 145) ، «حجة القراءات» ص (254) ، «النشر» (2/ 258) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 14) ، «الكشاف» (2/ 30) ، و «الحجة» (3/ 318) ، و «السبعة» (259) ، و «إعراب القراءات» (1/ 159) ، و «معاني القراءات» (1/ 359) ، و «شرح الطيبة» (4/ 254) ، و «شرح شعلة» (363) ، و «العنوان» (91) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 58 إلى 59]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 58 الى 59] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ: المعنى: لو كان عندي الآياتُ المُقْتَرَحةُ، أو العذابُ علَى التأويل الآخر، لقُضِيَ الأمر، أي: لَوَقَع الانفصال، وتَمَّ النزاعُ لظهور الآية المُقْتَرَحَةِ، أو لِنزولِ العذابِ بحسب التأْويلَيْنِ، وقِيلَ: المعنى: لَقَامَتِ القيامةُ، وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ: يتضمَّن الوعيدَ والتَّهْديدَ. وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ: مفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ، وهذه استعارة عبارةً عن التوصُّل إلى الغيوب كما يَتوصَّل في الشاهِدِ بالمِفْتَاحِ إلى المُغَيَّب، ولو كان جَمْعَ «مِفْتَاحٍ» ، لقال: مَفَاتِيح، ويظهرُ أيضاً أنَّ «مَفَاتِح» جمْعُ «مَفْتَح» - بفتح الميم-، أي: مواضِعِ تَفْتَحُ عن المغيَّبات ويؤيِّد هذا قَوْلُ السُّدِّيِّ وغيره: مَفاتِحُ الْغَيْبِ: خزائِنُ الغَيْب، فأما مِفْتَح «1» - بالكسر-، فهو بمعنى مِفْتَاح، قال الزَّهْرَاوِيُّ: وَمِفْتَحٌ أفصحُ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: الإشارةُ بِمَفَاتِحِ الغَيْبِ هي إلى الخَمْسة في آخر لُقْمَان: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... «2» [لقمان: 34] الآية، قلت: وفي «صحيحِ البخاريِّ» ، عن سالمِ بنِ عبد اللَّهِ «3» ، عَنْ أبيه أنَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 210) برقم (13308) ، وذكره ابن عطية (2/ 299) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 28) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي. (2) أخرجه الطبري (5/ 210، 211) برقم (13310) ، وذكره ابن عطية (2/ 299) . وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 28) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس. (3) سالم بن عبد الله بن عمر العدوي المدني الفقيه أحد السبعة وقيل: السابع أبو سليمان بن عبد الرّحمن. وقيل: أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث، قاله أبو الزناد. عن أبيه، وأبي هريرة، ورافع بن خديج، وعائشة. وعنه: ابنه أبو بكر، وعبيد الله بن عمر، وحنظلة بن أبي سفيان. قال ابن إسحاق: أصح الأسانيد كلها الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقال مالك: كان يلبس الثوب بدرهمين. وعن نافع: كان ابن عمر يقبّل سالما، ويقول: شيخ يقبل شيخا. وقال البخاري: لم يسمع من عائشة. مات سنة ست ومائة على الأصح. ينظر: «تهذيب الكمال» (1/ 460) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 436) ، «الكاشف» (3/ 344) ، «الثقات» (4/ 305) ، «سير الأعلام» (4/ 457) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 إلى 64]

وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] » انتهى «1» . وقوله سبحانه: مِنْ وَرَقَةٍ، أي: من وَرَقِ النَّبَاتِ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، يريدُ: في أشدِّ حالِ التَّغَيُّبِ، وحكى بعضُ النَّاسِ عن جَعْفَرِ بنِ محمَّد قولاً: / أنَّ الورقَةَ يُرَادُ بها السِّقْطُ مِنْ أولادِ بني آدم، والحَبَّة: يرادُ بها الذي لَيْسَ بِسِقْطٍ، والرَّطْب يرادُ به الحَيُّ، واليابسُ يراد به المَيِّت، وهذا قولٌ جارٍ على طريقةِ الرُّمُوز، ولا يصحُّ عن جعفر بن محمَّد، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إلَيْه «2» . وقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، قيل: يعني كتاباً على الحقيقةِ، ووجْهُ الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحَفَظَةُ، وذلك أنَّه رُوِيَ أنَّ الحَفَظَةَ يرفَعُونَ مَا كَتَبُوهُ، ويُعَارِضُونَهُ بهذا الكِتَابِ المُشَارِ إلَيْه ليتحقَّقوا صِحَّة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ: عِلْمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ المحيطِ بكلِّ شيءٍ. قال الفَخْرُ «3» : وهذا هو الأصْوَبُ، ويجوزُ أنْ يقالَ: ذَكر تعالى ما ذَكَر مِنَ الوَرَقَةِ وَالحَبَّة تنبيهاً للمكلَّفين على أمر الحساب. انتهى. قال مَكِّيٌّ: قالَ عبْدُ اللَّه بْنُ الحارِثِ: ما في الأرْض شَجَرٌ، ولا مَغْرَزُ إبرةٍ إلاَّ علَيْها مَلَكٌ، موكَّل، يأتي اللَّه بعلْمها بيَبَسِها إذا يَبِسَتْ، ورُطُوبَتِها إذا رَطِبَتْ «4» . وقيل: المعنى في كَتْبِها أنه لتعظيمِ الأمرِ، ومعناه: اعلموا أنَّ هذا الذي لَيْسَ فيه ثوابٌ ولا عقابٌ- مكتوبٌ فكيف ما فِيهِ ثوابٌ أو عقاب. انتهى من «الهداية» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 60 الى 64] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 141) كتاب «التفسير» ، باب وعنده مفاتيح الغيب، حديث (4627) ، والطيالسي (2/ 22- منحة) رقم (1966) ، وأبو يعلى (9/ 345) رقم (5456) كلهم من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه به. وأخرجه البخاري (2/ 609) كتاب «الاستسقاء» ، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله، حديث (1039) وأحمد (2/ 24، 52، 58) ، من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به. [.....] (2) ذكره ابن عطية (2/ 300) . (3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (13/ 10) . (4) أخرجه الطبري (5/ 211) برقم (13311) ، وذكره ابن كثير (2/ 137) .

وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، يعني به: النّوم، ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ، أي: مَا كَسَبْتم بالنَّهار، ويحتمل أنْ يكون جَرَحْتُمْ هنا من الجرح كأن الذنْبَ جرح في الدِّين، والعربُ تقولُ: ............ ... وَجُرْحُ اللّسان كجرح اليد «1» ويَبْعَثُكُمْ: يريد به الإيقاظَ، والضميرُ في فِيهِ عائدٌ على النهار قاله مجاهد وغيره «2» ، ويحتملُ أنْ يعود الضمير على التوفِّي، أي: يوقظُكُم في التوفِّي، أي: في خلالِهِ وتضاعِيفِهِ قاله عبد الله بن «3» كثير. ولِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى: المراد به آجالُ بني آدمَ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يريدُ: بالبَعْثِ والنشورِ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ، أي: يُعْلِمُكُمْ إعلامَ توقيفٍ، ومحاسبةٍ، ففي هذه الآية إيضاحُ الآياتِ المنصوبةِ للنَّظَر، وفيها ضَرْبُ مثالٍ للبعْثِ من القبور لأن هذا أيضاً إماتةٌ وبعْثٌ على نَحوٍ مَّا. وقوله سبحانه: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ: القاهرُ إنْ أُخِذَ صِفَةَ فِعْلٍ، أي: مظهر القَهْر بالصواعقِ والرياحِ والعذابِ، فيصحُّ أنْ تجعل فَوْقَ ظرفيةً للجهةِ لأن هذه الأشياء إنما تعاهَدَها العبادُ مِنْ فوقهم، وإنْ أُخِذَ الْقاهِرُ صفَةَ ذَاتٍ، بمعنى القُدْرة والاستيلاء، ف فَوْقَ: لا يجوزُ أنْ تكون للجهةِ، وإنما هي لعلُوِّ القَدْر والشِّأن على حد ما تقولُ: اليَاقُوتُ فَوْقَ الحديد، والأحرار فوق العبيد، ويُرْسِلُ عَلَيْكُمْ: معناه: يبثّهم فيكم، وحَفَظَةً: جمع حَافِظٍ، والمراد بذلكَ الملائكةُ الموكَّلون بكَتْبِ الأعمال، ورُوِيَ أنهم الملائكةُ الَّذين قالَ فيهِمُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يتعاقب فيكم ملائكة باللّيل وملائكة

_ (1) عجز بيت لامرىء القيس وصدره: [المتقارب] ولو عن نثا غيره جاءني ... ............... .............. ينظر: «ديوانه» (185) ، «الخصائص» (1/ 21) ، «الدر المصون» (1/ 265) . (2) أخرجه الطبري (5/ 213) برقم (13318) ، وذكره ابن عطية (2/ 300) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه. (3) ذكره ابن عطية (2/ 300) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) بنحوه.

بِالنَّهَارِ» «1» وقال السُّدِّيُّ وقتادة «2» ، وقال بعْض المفسِّرين: حَفَظَةً يَحفظُونَ الإنسانَ مِنْ كلِّ شيءٍ حتى يأتي أجله، والأول أظهر. وقرأ «3» حمزةُ وحْده: «تَوَفَّاهُ» . وقوله تعالى: رُسُلُنا: يريد به على ما ذكر ابنُ عباس، وجميعُ أهل التأويل: ملائكةً مقترنينَ بمَلَكِ المَوْت، يعاونونه ويَأْتَمِرُونَ له «4» ، ثُمَّ رُدُّوا، أي: العبادُ، إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ، وقوله: الْحَقِّ: نعْتٌ ل مَوْلاهُمُ، ومعناه: الذي لَيْسَ/ بباطلٍ، ولا مَجَاز، أَلا لَهُ الْحُكْمُ: كلامٌ مضمَّنه التنبيهُ، وهَزُّ النفوسِ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ: قيل لِعَليٍّ (رضي اللَّه عنه) : كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ العِبَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟! قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ» «5» . وقوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ... الآية: هذا تَمَادٍ في توبيخِ العادِلِينَ باللَّه الأوثانَ، وتركِهِمْ عبادَةَ الرَّحْمَنِ الذي يُنْجِي من الهَلَكَاتِ، ويُلْجَأُ إليه في الشّدائد، ودفع الملمّات، وظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: يريدُ بها شدائِدَهُما، فهو لفظٌ عامٌّ يستغرقُ ما كان مِنَ الشدائدِ بظلمةٍ حقيقيةٍ، وما كان بغَيْر ظلمةٍ، والعَرَبُ تقول: عَامٌ أَسْوَدُ، ويَوْمٌ مُظْلِمٌ، ويَوْمٌ ذو كواكِبَ، يريدُونَ به الشِّدَّة، قال قتادة وغيره: المعنى: مِنْ كَرْبِ البَرِّ والبَحْرِ، وتَدْعُونَهُ: في موضعِ الحالِ، والتَّضَرُّعُ: صفَةٌ باديةٌ على الإنسانِ، وخُفْيَة: معناه: الاختفاء «6» ، وقرأ عاصمٌ «7» في رواية أبي بكر: «وخفية»

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الطبري (5/ 214) رقم (13326، 13327) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 301) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن السدي بنحوه، وكذلك عزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه. (3) ينظر: «السبعة» (259) ، و «الحجة» (3/ 321) ، و «معاني القراءات» (1/ 361) ، و «شرح شعلة» (363) ، و «العنوان» (91) ، و «حجة القراءات» (254) . (4) أخرجه الطبري (5/ 215) برقم (13332، 13333، 13338) ، وذكره ابن عطية (2/ 301) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس. (5) ذكره ابن عطية (2/ 301) . (6) أخرجه الطبري (5/ 216) برقم (13346) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 302) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 31) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة. (7) ينظر: «الحجة» (3/ 316) ، و «إعراب القراءات» (1/ 159) ، و «حجة القراءات» (255) ، و «معاني-

[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 إلى 67]

- بكسر الخاء-، وقرأ الأعمشُ: «وخِيفَةً» من الخَوْف «1» . وقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها ... الآية: سبق في المُجَادَلة إلى الجَوَابِ إذْ لا محيدَ عنْه، وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ: لفظٌ عامٌّ أيضاً، ليتَّضِحَ العُمُومُ الذي في «الظلماتِ» ، ثُمَّ أَنْتُمْ، أي: ثم بَعْدَ معرفتكم بهذا كلِّه، وتحقّقكم له، أنتم تشركون. [سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وقوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ... الآية: هذا إخبارٌ يتضمَّن الوعيدَ، والأظهرُ مِنْ نَسَقِ الآياتِ: أنَّ هذا الخطابَ للكفَّار الذين تَقَدَّم ذكرهم، وهو مَذْهَبُ الطبريِّ «2» . وقال أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وجماعة: هو للمؤمِنِينَ، وهم «3» المرادُ. وهذا الاختلافُ إنما هو بحَسَبِ ما يَظْهَرُ منْ أنَّ الآية تتناوَلُ معانِيهَا المشركِينَ والمؤمنينَ وفي «البخاريِّ» وغيره مِنْ حَدِيثِ جابر وغيره: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لما نزلَتِ الآيةُ: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فلما نزلَتْ: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فلما نزلَتْ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال: هذه أهونُ أو أيَسر» «4» فاحتج بهذا الحديثِ من قال: إنّها

_ - القراءات» (1/ 362) ، و «العنوان» (91) ، و «شرح الطيبة» (4/ 258) ، و «شرح شعلة» (364) . [.....] (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 302) ، و «البحر المحيط» (4/ 154) ، و «الدر المصون» (3/ 84) . (2) ينظر الطبري (5/ 223) . (3) أخرجه الطبري (5/ 213) برقم (13384) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 302) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 32) وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي نعيم من طريق أبي العالية، عن أبي بن كعب بنحوه. (4) أخرجه البخاري (13/ 309) كتاب «الاعتصام» ، باب قول الله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً، حديث (7313) والترمذي (5/ 261) كتاب «التفسير» ، باب ومن سورة الأنعام، حديث (3067) ، وأحمد (3/ 309) والحميدي (1259) ، وأبو يعلى (3/ 362) رقم (1829) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه البخاري (8/ 142) كتاب «التفسير» ، باب قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، حديث (4628) من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 إلى 69]

نَزَلَتْ فِي المؤمنينَ، قال الطَّبريُّ «1» وغيره: مُمْتَنِعٌ أن يكون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تعوَّذ لأمَّته مِنْ هذه الأشياءِ الَّتي توعَّد بها الكُفَّار، وهَوَّنَ الثالثةَ لأنَّها بالمعنى هي التي دعا فيها، فمنع حسب حديثِ «المُوطَّإ» وغيره، ومِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ: لفظٌ عامٌّ للمنطبقِينَ علَىَ الإنسان، وقال السُّدِّيُّ، عن أبي مالِكٍ: مِنْ فَوْقِكُمْ: الرَّجْم، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ : الخَسْف «2» وقاله سعيدُ بن جُبَيْر ومجاهد «3» . وقوله سبحانه: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً: معناه: يخلِّطكم فِرَقاً، والبأْسُ: القَتْل، وما أشبهه من المَكَارِهِ، وفي قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ: استرجاعٌ لهم، وإنْ كان لفظها لَفْظَ تعجيب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فمضمَّنها أنَّ هذه الآياتِ والدلائلَ إنما هي لاستصرافهم عن طريقِ غَيِّهم، والفِقْهُ: الفَهْمُ. وقوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ، الضمير في بِهِ عائدٌ على القُرآن الذي فيه جاءَ تصريفُ الآياتِ قاله السُّدِّيُّ «4» ، وهذا هو الظاهرُ، ويحتملُ أنْ يعود الضميرُ على الوَعِيدِ الذي تضمَّنَتْه الآيةُ، ونحا إليه الطبريُّ «5» ، وقوله: قُلْ لَسْتُ/ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ: معناه: لسْتُ بمدفوعٍ إلى أخْذكم بالإيمان والهدى، وهذا كان قَبْلَ نزول آياتِ الجهادِ والأمْرِ بالقتالِ، ثم نُسِخَ. وقوله سبحانه: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ: أيْ: غايةٌ يعرف عندها صدقه من كذبه، وسَوْفَ تَعْلَمُونَ: تهديد محض ووعيد. [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 69] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ

_ (1) ينظر الطبري (5/ 223) . (2) أخرجه الطبري (5/ 217) برقم (13347) بنحوه، (13350) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 303) . (3) أخرجه الطبري (5/ 217) برقم (13348) ، (13349) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 303) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 32) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد بنحوه. (4) أخرجه الطبري (5/ 224) رقم (13385) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 303) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 37) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن السدي بنحوه. (5) ينظر الطبري (5/ 224) .

: هذا خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنون داخلُونَ في الخطاب معه، هذا هو الصحيحُ لأنَّ علَّة النهْي، وهي سماعُ الخَوْض في آياتِ اللَّه، تَشْمَلُهُمْ وإيَّاه، فأُمِرَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم هو والمؤمنون أنْ ينابذُوا الكُفَّار بالقيام عنهم، إذا استهزءوا وخاضوا ليتأدَّبوا بذلك، ويدَعُوا الخَوْضَ والاستهزاءَ، قلْتُ: ويدلُّ على دخولِ المؤمنينَ مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الخطابِ- قولُهُ تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء: 140] . انتهى. والخَوْضُ: أصله في الماءِ، ثم يستعملُ بعدُ في غمرات الأشياء التي هي مجاهلُ تشبيهاً بغَمَرَات الماء. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ: «إما» : شرط، وتلزمها النونُ الثقيلة في الأغلب، وقرأ ابن عامر «1» وحده: «يُنَسِّيَنَّكَ» - بتشديدِ السينِ، وفتحِ النونِ-، والمعنى واحدٌ إلا أن التشديد أكثر مبالغةً، والذِّكْرى والذِّكْر واحدٌ في المعنى، ووصْفُهم ب الظَّالِمِينَ متمكِّن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وفَأَعْرِضْ في هذه الآية: بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض، وأكملِ وجوهه ويدُلُّ على ذلك: فَلا تَقْعُدْ. وقوله سبحانه: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وروي أنه لما نزلَتْ: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء: 140] قال المؤمنون: إذا كنا لا نقْرَبُ المشركين، ولا نسمع أقوالهم، فلا يمكننا طَوَافٌ ولا قضاءُ عبادةٍ في الحرمِ، فنزلَتْ لذلك: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ... الآية. قال ع «2» : فالإباحة في هذا هي في القَدْر الذي يحتاجُ إلَيْه من التصرُّف بَيْن المشركين في عبادةٍ ونحوها، وقيل: إن هذه الآية الأخيرةَ ليْسَتْ إباحة بوجه، وإنما معناها: لا تَقْعُدوا معهم، ولا تَقْرَبوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأنَّ عليكم شيئاً من حسابهم، وإنما هو ذكرى لكم، ويحتملُ المعنى: ولكنْ ذكرى لعلَّهم إذا جانبتموهم، يتقون بالإمساكِ عن الاستهزاءِ، ويحتمل المعنى: ولكن

_ (1) وحجته ما جاء في البخاري: «ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسّي» . ينظر: «حجة القراءات» (256) ، و «السبعة» (260) ، و «الحجة» (3/ 324) ، و «إعراب القراءات» (1/ 160) ، و «معاني القراءات» (1/ 363) ، و «العنوان» (91) ، و «شرح الطيبة» (4/ 259) ، و «شرح شعلة» (364) . (2) ينظر: «المحرر» (2/ 304) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 70 إلى 73]

ذكِّروهم ذكرى، وينبغي للمؤمن أنْ يمتثل حكم هذه الآية مع المُلْحِدِين، وأهْلِ الجدلِ والخَوْضِ فيه، وحكى الطبريُّ «1» ، عن أبي جعفر أنه قال: «لاَ تُجَالِسُوا أَهْلَ الخُصُومَاتِ فإنَّهُمْ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ «2» اللَّهِ» ، وفي الحديث، عنه صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإنْ كَانَ مَازِحاً، وبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقه» ، خَرَّجه أبو داود «3» . انتهى من «الكوكب الدري» ، وقد ذكرنا هذا الحديثَ من غير طريقِ أبي داود بلفظ أوضَحَ من هذا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 70 الى 73] وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وقوله سبحانه: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً: هذا أمر بالمتاركة، وكان ذلك بحَسَب قلَّة المسلمين يومَئِذٍ، قال قتادة: ثم نُسِخَ ذلك، وما جرى مجراه بالقتَالِ «4» ، وقال مجاهد: الآيةُ إنما هي للتهديدِ والوعيدِ، فهي كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «5» [المدثر: 11] ، وليس فيها نَسْخٌ لأنها متضمنة خبراً، وهو التهديدُ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، أيْ: خدعتهم من الغُرُور، وهو الأطماعُ بما لا يتحصَّل فاغتروا بنعم/ الله

_ (1) ينظر الطبري (5/ 225) . (2) أخرجه الطبري (5/ 226) برقم (13395) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 38) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي نعيم في «الحلية» عن أبي جعفر. (3) أخرجه أبو داود (2/ 668) كتاب «الأدب» باب في حسن الخلق، حديث (4800) من حديث أبي أمامة مرفوعا. [.....] (4) أخرجه الطبري (5/ 228) برقم (13407، 13408) بنحوه، ذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 39) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس عن قتادة بنحوه. (5) أخرجه الطبري (5/ 228) برقم (13405) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 39) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه.

وإمهاله، وطَمَعُهُمْ ذلك فيما لم يتحصَّل من رحمته، واعلم أنَّ أعقلَ العقلاء مؤمنٌ مقبِلٌ على آخرته قد جَعَلَ الموْتَ نُصْبَ عينيه، ولم يغترَّ بزخارف الدنيا كما اغتر بها الحمقى، بل جعل همَّهُ واحداً هَمَّ المعادِ وما هو صائرٌ إليه وقد روى البَزَّار في مسنده، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِداً هَمَّ المَعَادِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ الدُّنْيَا، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ هُمُومُ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ تعالى فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ» «1» . انتهى من «الكوكب الدريِّ» . وقوله سبحانه: وَذَكِّرْ بِهِ: أي بالقرآن، وقيل: الضمير في بِهِ عائد على الدّين، وأَنْ تُبْسَلَ في موضع المفعولِ له، أي: لَئِلاَّ تُبْسَلَ، ومعناه: تُسْلَمَ قاله الحسن وعكرمة «2» وقال قتادةُ: تُحْبَسَ وتُرْهَنْ «3» ، وقال ابن عبَّاس: تُفْضَح «4» ، وقال ابن زيد «5» : تجزى، وهذه كلُّها متقاربةُ المعنى ومنه قول الشّنفرى «6» : [الطويل]

_ (1) أخرجه ابن ماجه (1/ 95) المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، حديث (257) والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 309- 310) وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 105) من طريق نهشل بن سعيد، عن الضحاك، عن الأسود، عن ابن مسعود به. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الأسود لم يرفعه إلا الضحاك، ولا عنه إلا نهشل. وقال البوصيري: إسناده ضعيف، فيه نهشل بن سعيد قيل: إنه يروي المناكير. وقيل: بل الموضوعات. وللحديث شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه الحاكم (2/ 443) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) أخرجه الطبري (5/ 228) برقم (13409، 13410) ، وذكره البغوي (2/ 106) عن عكرمة، وذكره ابن عطية (2/ 305) وذكره ابن كثير (2/ 144) عن الحسن، وعكرمة. (3) أخرجه الطبري (5/ 229) برقم (13415، 13416) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 106) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره ابن كثير (2/ 144) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 40) ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (4) أخرجه الطبري (5/ 229) رقم (13418) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره ابن كثير (2/ 144) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 39) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (5) أخرجه الطبري (5/ 229) برقم (13417) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 106) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره ابن كثير (2/ 144) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 40) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد بنحوه. (6) عمرو بن مالك الأزدي، من قحطان شاعر جاهلي، يماني، من فحول الطبقة الثانية. كان من فتاك العرب وعدّائيهم. وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم. قتله بنو سلامان. وهو صاحب «لامية العرب» التي مطلعها: [الطويل] «أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل» -

هُنَالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي ... سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلاً بِالْجَرَائِرِ «1» وباقي الآية بيِّن. وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ، أي: وإن تعط كلَّ فدية، وإنْ عظُمت، فتجعلها عِدْلاً لها، لا يُقْبَل منها، وقال أبو عُبَيْدة: وَإِنْ «2» تَعْدِلْ، هو من العَدْلِ المضادِّ للجور وردَّه الطبريُّ «3» بالإجماع على أنَّ توبة الكافر مقبولةً. قال ع «4» : ولا يلزم هذا الردُّ، لأنَّ الأمر إنما هو يوم القيامة، ولا تقبلُ فيه توبة، ولا عملٌ. قلْتُ: وأجلى من هذا أنْ يحمل كلامُ أبي عُبَيْدة على معنى أنَّه لا يقبلُ منها عدلُها لاختلال شَرْطه، وهو الإيمان، وأُبْسِلُوا: معناه: أُسْلِمُوا بما اجترحوه من الكُفْر، والحميمُ: الماءُ الحارُّ ومنه: الحَمَّام، والحَمَّة. وقوله سبحانه: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا، المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أنْ ندعو من دون اللَّه، والدعاءُ: يعم العبادة وغيرها لأن مَنْ جعل شيئاً موضعَ دعائه، فإياه يَعْبُدُ، وعليه يتوكّل، وما لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا: يعني: الأصنام، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا: تشبيهٌ بمَشْيِ القهقرى، وهي المِشْية الدنيَّة فاستعمل المَثَل بها فيمَنْ رجَعَ مِنْ خيرٍ إلى شَرٍّ. وقوله سبحانه: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ في الكلام حذفٌ، تقديره: ردًّا كَرَدِّ الذي، واسْتَهْوَتْهُ: بمعنى: استدعت هواه وأمالته، وهَدانَا: بمعنى: أرشَدَنَا، فسياقُ هذا المثل كأنه قال: أيَصْلُحُ أن نكون بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منَّا ارتدادا على العَقِبِ فنكون كَرَجُلٍ على طريق واضحٍ، فاستهوته عنه الشياطينُ، فخرج عنه إلى دعوتهم، فبقي حائرا.

_ - شرحها الزمخشري في «أعجب العجب» . ينظر: «الأعلام» (5/ 85) ، «الأغاني» (21/ 134- 143) ، «المقتطف» (6/ 186) ، «خزانة الأدب» (2/ 16- 18) . (1) البيت في ديوانه (36) ، و «المغتالين» لابن حبيب (873) ، و «الحماسة» (242) ، «العقد الفريد» (1/ 53) ، «محاضرات الراغب» (1287) ، وابن أبي الحديد (2/ 294) ، وفي «الحيوان» (6/ 153) لتأبط شرّا، وفي «المرتضى» (3/ 158) ، (2) ذكره ابن عطية (2/ 306) . (3) ينظر الطبري (5/ 230) . (4) ينظر: «المحرر» (2/ 306) .

وقوله: لَهُ أَصْحابٌ: يريد: له أصحابٌ على الطريق الذي خَرَجَ منه، فيشبَّه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يَدْعُونَ مَن ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويلُ مجاهد وابن عباس «1» ، وائْتِنا: من الإتيان، بمعنى المجيء، وقول من قال: إن المراد بالذي في هذه الآية: عبدُ الرحمنِ بْنُ أبي بَكْرٍ: وبالأصحاب: أبواه- قول ضعيفٌ يردُّه قول عائشة في الصحيحِ: «مَا نَزَلَ فِينَا مِنَ القُرآنِ شَيْءٌ إلاَّ بَرَاءَتِي» ، قلتُ: تريد وقصَّة الغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ [التوبة: 40] ، وقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ... [النور: 22] إذ نزلَتْ في شأن أبي بكر، وشأن مِسْطَحٍ «2» . قال ع «3» : حدثني أبي (رضي الله عنه) قال: سمعْتُ الفقيه الإمام أبا عبد اللَّه المعروفَ بالنحْويِّ المجاوِرِ بمكَّة، يقول: مَنْ نازع أحداً من المُلْحِدِينَ، فإنما ينبغي أن يردَّ عليه بالقرآن والحديث فيكونُ كَمَنْ يدعو إلى الهدى بقوله: ائْتِنا، ومَنْ ينازعهم بالجَدَل، ويحلِّق عليهم به، فكأنه بَعُدَ من الطريق الواضح أكْثَرَ، ليردَّ هذا الزائغَ/، فهو يخافُ علَيْه أنْ يضلَّ. قال ع «4» : وهذال انتزاعٌ حسنٌ جدًّا، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، أي: لم يخلقْها باطلاً لغير معنًى، بل لمعانٍ مفيدةٍ، وحقائقَ بيِّنة. وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَقُولُ «يوم» : نصب على الظرْفِ، وتقديرُ الكلامِ: واذكر الخَلْق والإعادة يَوْمَ، وتحتمل الآية مع هذا أنْ يكون معناها، واذكر الإعادة يَوْمَ يقولُ اللَّه للأجساد: كوني معادةً. وقوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، الجمهورُ أنَّ الصُّورَ هو القَرْن الذي قال فيه

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 233) برقم (13431) بنحوه عن مجاهد، وذكره ابن عطية (2/ 307) . [.....] (2) مسطح بن أثاثة: بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصيّ المطلبيّ. كان اسمه عوفا، وأما مسطح فهو لقبه وأمه بنت خالة أبي بكر، أسلمت، وأسلم أبوها قديما وكان أبو بكر يمونه لقرابته منه، ومات مسطح سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان ويقال: عاش إلى خلافة عليّ، وشهد معه صفّين، ومات في تلك السّنة سنة سبع وثلاثين. ينظر: «الإصابة» (6/ 74) ، «طبقات ابن سعد» (3/ 1/ 36) ، «أسد الغابة» (ت 4872) ، «الاستيعاب» (ت 2579) ، «حلية الأولياء» (2/ 20) ، «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 89) ، «العبر» (1/ 35) . (3) ينظر: «المحرر» (2/ 307) . (4) ينظر: «المحرر» (2/ 308) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 إلى 75]

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ لِلصَّعْقِ ثُمَّ لِلْبَعْثِ» «1» ، وباقي الآية بيّن. [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 75] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قال الطبري «2» : نبه الله نبيّنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم على الاقتداء بإبراهيم في محاجّته قومه إذا كانوا أهل أصنام، وكان قوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أهل أصنام، وقوله: أَصْناماً آلِهَةً: مفعولانِ، وذُكِرَ أن آزر أبا إبراهيِمَ- عليه السلام- كَانَ نَجَّاراً محسناً، ومهنْدِساً، وكان نُمْرُود يتعلَّق بالهندسةِ والنجُومِ، فحَظِيَ عنده آزر لذلك، وكان على خُطَّةِ عملِ الأَصنامِ تُعْمَلُ بأمره وتَدْبيره، ويَطْبَع هو في الصنمِ بخَتْمٍ معلومٍ عنده وحينئذٍ يُعْبَدُ ذلك الصنمُ، فلما نشأ إبراهيمُ ابنه على الصفة التي تأتي بعْدُ، كان أبوه يكلِّفه ببيعها، فكان إبراهيم ينادِي عليها: مَنْ يَشْتَري ما يضرُّه ولا ينفعه، ويستخفُّ بها، ويجعلها في الماءِ منكوسةً، ويقول لها: اشربي، فلما اشتهر أمْرُه بذلك، وأخذ في الدعاءِ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، قال لأبيه هذه المقالة، وأَراكَ في هذا الموضعِ: يشترك فيها القلبُ والبصرُ، ومُبِينٍ: بمعنى: ظاهر واضح. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: الآيةُ المتقدِّمةُ تقْضِي بهدايةِ إبْرَاهيم- عليه السلام-، والإشارةُ ب «ذلك» هي إلى تلك الهداية، أي: وكما هدَيْنَاه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر، أريناه ملكوت، ونُرِي: لفظها: الاستقبال، ومعناها: المضيُّ، وهذه الرؤْية قيل: هي رؤية البَصَر، ورُوِيَ في ذلك أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ فرج لإِبراهيم- عليه السلام- السمواتِ والأرْضَ حتى رأَى ببَصَره الملكوتَ الأعلى، والملكوتَ الأسفلَ وهذا هو قولُ مجاهدٍ «3» قال: تفرّجت له السموات والأرضون، فرأى

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 116) كتاب «التفسير» ، باب قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ حديث (4604) ، ومسلم (4/ 1843) كتاب «الفضائل» ، باب من فضائل موسى عليه السلام، حديث (159/ 2373) من حديث أبي هريرة. (2) ينظر: الطبري (5/ 238) . (3) أخرجه الطبري (5/ 242) برقم (13454) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) وذكره ابن كثير (2/ 150) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 44) وعزاه لآدم بن أبي إياس، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي عن مجاهد بنحوه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 إلى 79]

مكانه في الجنَّة، وبه قال سعيدُ بنُ جُبَيْر، وسلمانُ الفارسيُّ «1» ، وقيل: هي رؤيةَ بَصرٍ في ظاهر الملكوت، وقع له معها من الاعتبارِ ورؤيةِ القَلْب: ما لم يقعْ لأحد من أهل زمنه الذين بُعِثَ إليهم قاله ابن عباس «2» وغيره، وقيل: هي رؤية قَلْب، رأى بها ملكوتَ السمواتِ والأرضِ بفكرته ونظره، ومَلَكُوتَ: بناءُ مبالغةٍ، وهو بمعنى المُلْك، والعربُ تقول: لفلانٍ مَلَكُوتُ اليَمَنِ، أي: مُلْكُه، واللام في: لِيَكُونَ: متعلِّقة بفعلٍ مؤخَّر، تقديره: وليكونَ من الموقنين، أَرَيْنَاهُ، والمُوقُنِ: العالِمُ بالشيء علماً لا يمكنُ أنْ يطرأ له فيه شك، وروي عن ابنِ عبَّاس في تفسير: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ قال: جلى له الأمورَ سرَّها وعلانيتَها، فلم يَخْفَ عليه شيْءٌ من أعمال الخلائق «3» ، فلما جعل يلْعَنُ أصحابَ الذنوبِ، قال اللَّه له: إنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ هذا، فَرَدَّه لا يرى أعمالهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 79] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وقوله سبحانه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ... الآية: جَنَّ اللَّيْلُ: ستَرَ وغطى بظلامه، ذهب ابن عباس/ وناسٌ كثيرون إلى أنَّ هذه القصة وقعَتْ في حال صباه وقبل البلوغ والتكليفِ «4» ، ويحتملُ أنْ تكون وقعتْ له بعد بلوغه وكونه مكلَّفاً، وحكى الطبريُّ هذا عَنْ فرقةٍ، وقالتْ: إنه استفهم قومَهُ على جهة التوقيفِ والتوبيخِ، أي: هذا ربِّي، وحكي أن النمرودَ جَبَّارَ ذلك الزمان رأى له منجِّموه أنَّ مولوداً يُولَدُ في سَنَةِ كذا في عمله يكون خَرَابُ المُلْك على يديه، فجعل يَتَتَبَّعُ الحبالى، ويوكِّل بهن حُرَّاساً، فمن وضَعَتْ أنثى، تُركَتْ، ومَنْ وضعتْ ذكَراً، حمل إلى المَلِك فذَبَحه، وأن أمَّ إبراهيمَ حَمَلَتْ، وكانَتْ شابَّة قويةً، فسَتَرَتْ حملها، فلما قربت ولادتُها، بعثَتْ أبا إبراهيم إلى

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 242) رقم (13455، 13456) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 108) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 45) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن سلمان. (2) أخرجه الطبري (5/ 241) رقم (13445) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 108) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) . (3) أخرجه الطبري (5/ 243) رقم (13464) ، وذكره ابن عطية (2/ 312) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) . (4) أخرجه الطبري (5/ 245) رقم (13468) بنحوه عن ابن عباس، وذكره ابن كثير (2/ 151) بنحوه.

سَفَر، وتحيَّلت لمضيِّه إليه، ثم خرجَتْ هي إلى غارٍ، فولدَتْ فيه إبراهيم، وتركته في الغار، وكانَتْ تتفقَّده فوجدَتْه يتغذى بأنْ يمصَّ أصابعه، فيخرج له منها عسلٌ وسَمْنٌ ونحو هذا، وحُكِيَ: بل كان يغذِّيه مَلَكٌ، وحُكِيَ: بل كانَتْ أمه تأتيه بألبان النِّساء التي ذُبِحَ أبناؤهن، واللَّه أعلم، أيُّ ذلك كان، فشبَّ إبراهيم أضعافَ ما يشب غيره، والمَلِكُ في خلالِ ذلك يحسُّ بولادته، ويشدِّد في طلبه، فمكَثَ في الغار عَشَرَةَ أعوامٍ، وقيل: خمسَ عَشْرة سنةً، وأنه نظر أول ما عَقَل من الغارِ، فرأى الكواكِبَ، وجرَتْ قصة الآية، واللَّه أعلم «1» . فإن قلنا بأنه وقعَتْ له القصّة في الغار في حال الصّبوة، وعدمِ التكليفِ على ما ذهب إليه بعض المفسّرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينفسم على وجْهين: إما أنْ يجعل قوله: هذا رَبِّي تصميماً واعتقادا، وهذا باطلٌ لأن التصميم على الكُفْر لم يقع من الأنبياء- صلوات اللَّه عليهم-، وإما أنْ نجعله تعريضاً للنظر والاستدلال كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ البهيُّ ربِّي إن عضّدت ذلك الدلائل. وإنا قلنا إن القصَّة وقَعَتْ له في حال كِبَرِهِ، وهو مكلَّف، فلا يجوز أنْ يقولَ هذا مصمِّماً ولا مُعَرِّضاً للنظر لأنها رتبة جهلٍ أو شكٍّ، وهو- عليه السلام- منزَّه معصوم من ذلك كلِّه فلم يبق إلاَّ أنْ يقولها على جهة التَّقْرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامةِ الحُجَّة عليهم في عبادة الأصنام كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ ربِّي، وهو يريد: على زعمكم كما قال تعالى: أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27] ، أي: على زعمكم، ثم عَرَضَ إبراهيم عليهم مِنْ حَرَكَة الكوكب وأفولِهِ أَمارةَ الحدوث، وأنه لا يصلحُ أن يكون ربًّا، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك، ثم في الشَّمْس كذلك فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المُنِيرَاتِ الرفيعةِ أنها لا تصلح للربوبيَّة، فأصنامكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحرى أنْ يبين ذلك فيها ويَعْضُدُ عندي هذا التأويلَ قولُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، قلت: وإلى ترجيحِ هذا أشار عِيَاضٌ في «الشفا» قال: وذهب معظمُ الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه، ومستدلاًّ عليهم. قال ع «2» : ومَثَّلَ لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصْحَابَ علْمِ نجومٍ ونظرٍ في الأفلاك، وهذا الأمر كلُّه إنما وقع في ليلةٍ واحدةٍ، رأى الكوكب، وهو الزّهرة في قول

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 312) . (2) ينظر: «المحرر» (2/ 313) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 إلى 82]

قتادة «1» ، وقال السُّدِّيُّ: هو المشتري جانحاً إلى الغروب «2» ، فلما أَفَلَ بزغ القمر، وهو أول طلوعه، فَسَرَى الليل أجْمَعُ، فلما بزغَتِ الشمسُ، زال ضوء القمرِ قبلها لانتشار الصباحِ، وخَفِيَ نوره، ودنا أيضاً مِنْ مغربه، فسمى ذلك أفولاً لقربه من الأُفُولِ التامِّ على تجوُّز في التسمية، وهذا الترتيبُ يستقيمُ في الليلة الخامسةَ عَشَرَ من الشَّهْر إلى ليلة عشْرين، وليس يترتَّب في ليلةٍ واحدة كما/ أجمع أهل التفسير، إلاَّ في هذه الليالي، وبذلك يصحُّ التجوُّز في أفول القمر، «وأَفَلَ» في كلام العرب: معناه: غاب، وقيل: معناه، ذَهَبَ، وهذا خلافٌ في العبارة فقَطْ، والبزوغُ في هذه الأنوارِ: أوَّلُ الطلوع، وما في كَوْنِ هذا الترتيب في ليلةٍ من التجوُّز في أفول القمر لأنَّ أفوله لو قدَّرناه مَغِيبَهُ، لكان ذلك بَعْد بزوغ الشمسِ، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار، ويَهْدِيَنِي: يرشدْنِي وهذا اللفظ يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حالِ الصِّغَر، والقومُ الضالُّون هنا عبدةُ المخلوقاتِ كالأصنام وغيرها، ولما أفَلَتِ الشمسُ، لم يبقَ شيءٌ يمثِّل لهم به، فظهرَتْ حُجَّته، وقَوِيَ بذلك على منابذتهم والتبرِّي من إشراكهم، وقوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ: يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حال الكبر والتكليف، ووَجَّهْتُ وَجْهِيَ، أي: أقبلْتُ بقَصْدي وعبادتِي وتوحيدِي وإيمانِي للذي فطر السموات والأرض، أي: اخترعها وحَنِيفاً: أي مستقيماً، والحَنَف: المَيْل فكأنه مال عن كلّ جهة إلى القوام. [سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 82] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وقوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ، أي: أتراجعوني في الحجَّة في توحيد اللَّه، وَقَدْ هَدانِ، أي: قد أرشدني إلى معرفتِهِ وتوحيده، وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، الضميرُ في بِهِ يعودُ على اللَّهِ والمعنى: ولا أخافُ الأصنامُ التي تشركونَهَا باللَّه في الربوبيَّة، ويحتمل أنْ يعود على «ما» ، والتقديرُ: ما تشركون بسَبَبِهِ، وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً: استثناء ليس من الأوّل، وشَيْئاً: منصوب

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 313) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 46) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه. (2) ذكره ابن عطية (2/ 313) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 46) وعزاه لابن أبي حاتم، عن السدي بنحوه. [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 83 إلى 86]

ب يَشاءَ، ولما كانتْ قوة الكلامِ أنه لا يخَافُ ضرراً، استثنى مشيئةَ ربِّه تعالى في أن يريده بضرّ، وعِلْماً: نصبٌ على التمييز، وهو مصدرٌ بمعنى الفاعل كما تقول العرب: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً، المعنى: تصبَّبَ عَرَقُ زَيْدٍ فكذلك المعنى هنا وِسَعِ علْمُ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ: توقيفٌ وتنبيه وإظهار لموضعِ التقصيرِ منهم، وقوله: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ... الآيةَ إلى تَعْلَمُونَ، هي كلُّها من قول إبراهيم- عليه السلام- لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، والمعنى: وكيف أخاف أصناماً لا خَطْب لها، إذ نبذتُها، ولا تخافُونَ أنتم اللَّهَ عزَّ وجلَّ، وقد أشركتم به في الربوبيَّة مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً والسلطانُ: الحُجَّة، ثم استفهم على جهة التقرير: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ، مني ومنكم أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، قال أبو حَيَّان «1» : وَكَيْفَ: استفهام، معناه التعجّب والإنكار. انتهى. وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ... الآية، قال ابنُ إسحاق، وابنُ زيدٍ، وغيرهما: هذا قولٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ ابتداء حُكْمٍ فَصْلٍ عامٍّ لِوَقْتِ مُحاجَّة إبراهيم وغيره، ولكلِّ مؤمن «2» تقدَّم أو تأَخَّر. قال ع «3» : هذا هو البيِّن الفصيحُ الذي يرتبطُ به معنى الآية، ويحسُنُ رصْفها، وهو خبرٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ، ويَلْبِسُوا: معناه: يَخْلِطُوا، والظُّلْم في هذا الموضع: الشِّرْك تظاهرت بذلك الأحاديثُ الصحيحةُ، وفي قراءة «4» مجاهدٍ: «وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ» وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أي: راشدون. [سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 86] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وقوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ: «تلك» : إشارةٌ إلى هذه الحجَّة المتقدِّمة. وقوله سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، «الدرجات» : أصلها في الأجسام، ثم

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 175) . (2) أخرجه الطبري (5/ 250) رقم (13477، 13478) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 316) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 316) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 315) ، و «البحر المحيط» (4/ 175- 176) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 87 إلى 90]

تستعملُ في المراتِبِ والمنازل المعنويَّة. وقوله سبحانه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ... الآية: وَوَهَبْنا: عطْفٌ على «آتينا» وإسحاق ابنُهُ من سارَّة، ويعقوبُ هو ابْنُ إسحاقَ، وقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ: المعنى: وهَدَيْنَا من ذرِّيته، والضمير في ذُرِّيَّتِهِ، قال الزَّجَّاج «1» : جائزٌ أنْ يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكْرِ لوطٍ- عليه السلام- إذ ليس هو مِنْ ذرِّيَّة إبراهيم، بل هو ابْنُ أخيه، وقيلَ: ابنُ أختِهِ، ويتخرَّج ذلك عند مَنْ يرى الخالَ أباً، وقيل: يعود الضميرُ على نوح، وهذا هو الجيّد، ونصب/ داوُدَ: يحتملُ أنْ يكون ب وَهَبْنا، ويحتمل أنْ يكون ب هَدَيْنا، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: وعدٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لمن أحْسَنَ في عبادته، وترغيبٌ في الإحسان، وفي هذه الآية أنَّ عيسى- عليه السلام- مِنْ ذرِّية نوحٍ أو إبراهيم بحَسَب الاختلاف في عَوْد الضمير من ذُرِّيَّتِهِ، وهو ابنُ ابنة وبهذا يستدلُّ في الأحباس على أنَّ ولد البنْتِ من الذِّرِّيَّة، ويُونُسُ هو ابن متى، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ: معناه: عالمي زمانهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 87 الى 90] وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) وقوله سبحانه: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ: المعنى: وهدَيْنا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ، ف «مِنْ» للتبعيض، والمراد: مَنْ آمن منهم، نبيّا كان أو غير نبيّ، واجْتَبَيْناهُمْ، أي: تخيَّرناهم وهَدَيْنَاهم، أيْ: أرشدْناهم إلى الإيمان، والفوز برضا اللَّه عزَّ وجلَّ، والذرية: الأبناءُ، ويطلَقُ على جميعِ البَشَر ذرِّيَّة لأنهم أبناء. وقوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ ... الآية: ذلِكَ: إشارة إلى النعمة في قوله: وَاجْتَبَيْناهُمْ وأُولئِكَ: إشارة إلى مَنْ تقدَّم ذكره، والكتابُ يراد به الصُّحُفُ والتوراةُ والإنجيل والزَّبُور. وقوله سبحانه: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ: إشارة إلى كُفَّار قريشٍ، وإلى كلِّ كافر في ذلك العَصْر قاله ابن عباس وغيره «2» ، وقوله: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ:

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 269) . (2) أخرجه الطبري (5/ 260) رقم (13530) ، وذكره البغوي (2/ 14) ، وذكره ابن عطية (2/ 318) ، -

هم مؤمنو أهْل المدينة قاله ابن عباس وغيره «1» ، والآية على هذا التأويلِ، وإن كان القصْدُ بنزولها هذَيْن الصِّنْفَيْن، فهي تعم الكَفَرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الحسن وغيره: المراد ب «القَوْم» : مَنْ تَقَدَّم ذكْره من الأنبياء والمؤمنين «2» ، وقال أبو رجاء: المرادُ: الملائكةُ «3» . قلتُ: ويحتمل أنْ يكون المراد الجميعَ. وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ، والظاهر في الإشارة ب أُولئِكَ إلى المذكورين قبلُ من الأنبياء ومَنْ معهم من المؤمنين المهدِّيين، ومعنى الاقتداء: اتباع الأثر في القول والفعل والسّيرة، وإنما يصحّ اقتداؤه صلّى الله عليه وسلّم بجميعهم في العقودِ، والإيمان، والتوحيدِ الذي ليْسَ بينهم فيه اختلاف، وأما أعمالُ الشرائع فمختلفةٌ، وقد قال عزَّ وجلَّ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] ، واعلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو وغيره مخاطَبٌ بشَرْع مَنْ قبله في العقود والإيمانِ والتوحيدِ «4» لأنا نجد شرعنا ينبىء أنّ الكفار الذين كانوا قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَأَبَوَيْهِ وغيرهما في النَّار، ولا يُدْخِلُ اللَّهُ تعالى أحداً النار إلا بتَرْك ما كُلِّفَ، وذلك في قوله سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، وغير ذلك، وقاعدةُ المتكلِّمين: أن العقل لا يوجِبُ ولا يكلِّف، وإنما يوجب «5» الشرْعُ، فالوجه في هذا أنْ يقال: إنَّ آدم- عليه السلام- فَمَنْ بعده، دعا إلى توحيد اللَّه (عزَّ وجلَّ) دعاءً عامًّا، واستمر ذلك على العالَمِ، فواجبٌ على الآدميّ أن

_ - وذكره ابن كثير (2/ 155) بنحوه. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 52) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس بنحوه. (1) أخرجه الطبري (5/ 206) رقم (13530) ، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 316) ، وذكره ابن كثير (2/ 155) بنحوه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 52) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس بنحوه. (2) ذكره ابن عطية (2/ 318) . (3) أخرجه الطبري (5/ 260) رقم (13531) ، وذكره البغوي (2/ 114) وذكره ابن عطية (2/ 318) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 52) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن أبي رجاء بنحوه. (4) ينظر: «أحكام الآمدي» (4/ 121) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (139) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 442) ، «حاشية البناني» (2/ 352) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (4/ 191) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 393) ، «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 336) ، «التحرير» لابن الهمام» (359) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (3/ 129) . (5) تقدم الكلام على الحسن والقبح.

يبحث عن الشرْعِ الآمِرِ بتوحيدِ اللَّهِ تعالى، وينظر في الأَدلَّة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرعِ النَّظَرَ فيها، ويؤمنَ، ولا يَعْبُدَ غير اللَّه، فمَنْ فَرَضْناه لم يجدْ سبيلاً إلى العلْمِ بشرعٍ آمِرٍ بتوحيد اللَّهِ، وهو مع ذلك لم يَكْفُرْ، ولا عَبَدَ صنماً، بل تخلى، فأولئك أَهْلُ الفَتراتِ الذين أَطْلَقَ عليهم أهل العلْمِ أنهم في الجَنَّة، وهم بمنزلةِ الأطفالِ والمجانينِ، ومَنْ قَصَّرَ في النظر والبَحْث، فعبد صنماً أو غيره، وكَفَرَ، فهو تاركٌ للواجب عليه، مستوجِبٌ للعقاب بالنَّار، فالنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قَبْلَ مبعثِهِ ومَنْ كان معه مِنَ النَّاس وقَبْلَه- مخاطَبُونَ على أَلْسِنَةِ الأنبياء قَبْلُ بالتوحيد، وغيرُ مخاطبين بفُرُوعِ «1» شرائعهم إذ هي مختلفةٌ، وإذ لم يدعهم إليها نبيٌّ قال/ الفَخْر «2» : واحتجَّ العلماءُ بهذه الآية على أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أَفْضَلُ من جميع الأنبياءِ- عليهم السلام- وتقريره: أنا بيَّنَّا أنَّ خصال الكمالِ وصفاتِ الشَّرَفِ كانَتْ مفرَّقة فيهم، ثم إنه تعالى، لمَّا ذكر الكل، أمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم أنْ يجمع من خصال الطاعة والعبوديَّة والأخلاقِ الحميدة كُلَّ الصفاتِ التي كانَتْ مفرَّقة فيهم بأجمعهم، ولمَّا أمره اللَّه تعالى بذلك، امتنع أنْ يقال: إنه قصَّر في تحصيلها فثبت أنه حَصَّلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه مِنْ خصال الخَيْر ما كان فيهم مفرَّقاً بأسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أنْ يقال: إنه أفضلهم بكلِّيَّتهم واللَّه أعلم. انتهى. وقرأ حمزة «3» والكسائيُّ: «فَبِهُدَاهُمُ اقتد» - بحذف الهاءِ في الوَصْل، وإثباتها في الوَقْف-، وهذا هو القياسُ شبيهة بألفِ الوَصْل في أنها تُقْطَعُ في الابتداء، وتَسْقُط في الوصل. وقوله سبحانه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، أي: قل لهؤلاء الكفرة المعاندين: لا أسألكم على دعائي إياكم بالقُرآن إلى عبادة اللَّه تعالى- أُجْرَةً إن هو إلا موعظة وذكرى

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (3/ 36) ، «التمهيد» للأسنوي ص (364) ، و «نهاية السول» له (1/ 359) ، «زوائد الأصول» (ص 179) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 203) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 321) ، «المنخول للغزالي» ص (31) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 177) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (1/ 285) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (ص 98) ، «كشف الأسرار» للنفسي (1/ 137) ، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1/ 213) ، «نسمات الأسحار» لابن عابدين (ص 60) ، «ميزان الأصول» للسمرقندي (1/ 304) ، «البرهان في أصول الفقه» (1/ 107) ، «أصول الفقه» لمحمد أبي النور زهير (1/ 184) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 58) . [.....] (3) وحجة الباقين بإثبات الهاء في الوصل أنها مثبتة في المصحف، فكرهوا إسقاط حرف من المصاحف. ينظر: «حجة القراءات» (260) ، و «السبعة» (262) ، و «الحجة» (3/ 350، 351) ، و «إعراب القراءات» (1/ 164) ، و «العنوان» (91) ، و «إتحاف» (2/ 21) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 إلى 92]

ودعاء لجميع العالمين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وقوله سبحانه: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... الآية: قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في بني إسرائيل «1» ، قال النَّقَّاش: وهي آية مدنية، وقيل: المراد رجُلٌ مخصوص منهم، يقال له مالك بن الصّيف قاله ابن جُبَيْر «2» ، وقيل: فنْحَاص قاله السُّدِّيُّ «3» ، وقَدَرُوا: هو من توفيَةِ القَدْرِ والمنزلةِ، وتعليلُه بقولهم: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ: يقضي بأنهم جَهِلُوا، ولم يعرفوا الله حقّ معرفته إذا أحالوا عليه بعثةَ الرُّسُل، قال الفَخْر «4» : قال ابن عباس: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، أيْ: ما عظَّموا اللَّه حقَّ تعظيمه «5» ، وقال الأخفشُ: ما عَرَفُوه حقَّ معرفته، وقال أبو العالية: ما وصفوه حقَّ قُدْرته وعَظَمته، وهذه المعانِي كلُّها صحيحةٌ. انتهى، وروي أنَّ مالك بن الصَّيْفِ كان سَمِيناً، فجاء يخاصم النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بزعمه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَنْشُدُكَ اللَّه، أَلَسْتَ تَقْرَأُ فِيمَا أُنْزِلَ على موسى: إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْحِبْرَ السَّمِينَ» «6» ، فَغَضِبَ، وقال: «واللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ، قال الفَخْر «7» : وهذه الآية تدلُّ على أن النكرة في سياقِ النفْي «8» تعمُّ، ولو لم تفد العمومَ، لما كان قوله

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 263) رقم (13544) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 320) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 53) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس بنحوه. (2) أخرجه الطبري (5/ 362) برقم (13539) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 320) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 54) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير. (3) أخرجه الطبري (5/ 363) برقم (13541) ، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 320) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 53، 54) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن السدي. (4) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 60) . (5) أخرجه الطبري (5/ 264) برقم (13545) بنحوه. (6) ذكره الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (1/ 442- 443) رقم (450) ، وعزاه للطبري، والواحدي في «أسباب النزول» . (7) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 63) . (8) «البحر المحيط» (3/ 110- 122) ، «تقريب الوصول إلى علم الأصول» (ص 75) ، «نهاية السول» -

تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً- إبطالاً لقولهم ونقْضاً عليهم. انتهى. وقوله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ، يعني: التوراة، وقَراطِيسَ: جمع قِرْطَاس، أي: بطائق وأوراقاً، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وجَميعَ ما عليهم فيه حُجَّة. وقوله سبحانه: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ، يحتمل وجهين: أحدهما: أنْ يقصد به الامتنانَ عليهم، وعلى آبائهم. والوجه الثاني: أنْ يكون المقصود ذمَّهم، أي: وعلِّمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه، فما انتفعتم به لإعراضكم وضلالكم. ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلى موضع الحُجَّة، أي: قل اللَّه هو الذي أنْزَلَ الكتابَ على موسى، ثم أمره سبحانَهُ بتَرْك مَنْ كَفَر، وأعرض، وهذه آية منسوخةٌ بآية القتالِ إن تُؤُوِّلَتْ موادعةً، ويحتمل ألاَّ يدخلها نسْخٌ إذا جُعِلَتْ تتضمَّن تهديداً ووعيداً مجرَّداً من موادعة. وقوله سبحانه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ: «هذا» : إشارة إلى القرآن، وقوله: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، يعني: التوراةَ والإنجيل لأن ما تقدّم، فهو بين يدي ما تأخّر، وأُمَّ الْقُرى: مكَّة، ثم ابتدأ تباركَ وتعالى بمَدْحِ قومٍ وصفهم، وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرةِ والبَعْثِ والنشورِ، ويؤمنون بالقُرآن، ويصدِّقون بحقيقتِهِ، ثم قوى عزَّ وجلَّ مدحهم بأنهم يحافظون على صَلاَتهم التي هي قاعدةُ العباداتِ، وأمُّ الطاعاتِ، وإذا انضافت الصلاةُ إلى ضميرٍ، لم تكتب/ إلا بالألِفِ، ولا تكتبُ في المُصْحَف بواوٍ إلا إذا لم تُضَفْ إلى ضمير. وقد جاءت آثار صحيحةٌ في ثواب مَنْ حافظ على صلاته، وفي فَضْل المشْيِ إليها ففي «سنن أبي داود» ، عن بُرَيْدة، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بشّر المشّائين في الظّلم إلى

_ - (2/ 329) ، «الحاصل من المحصول» (1/ 510) ، «التمهيد» للأسنوي ص (318- 324) ، «البدخشي على المنهاج» (3/ 84) ، «الإبهاج في شرح المنهاج» (2/ 106) ، «الأحكام» (2/ 190) ، «ميزان الأصول» (ص 402) ، «البرهان» (1/ 337- 339) ، «تنقيح الفصول» (ص 181) ، «شرح الكوكب المنير» (3/ 136- 137) «نشر البنود» (1/ 210) ، «شرح المنهاج» للأصفهاني (1/ 354) ، «التحرير» (ص 70) ، «كشف الأسرار» (1/ 185- 186) .

[سورة الأنعام (6) : آية 93]

المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ» «1» ، وروى أبو داود أيضاً بسنده، عن سعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، قال: حضر رجلاً من الأنصار المَوْتُ، فقال: إني محدِّثكم حديثاً ما أحدثكموه إلا احتسابا، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاَةِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ اليمنى إلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ اليسرى إلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَةً، فَلْيَقْرُبْ أَوْ لِيُبْعِدْ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدِ، فصلى فِي جَمَاعَةٍ، غُفِرَ لَهُ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا بَعْضاً، وَبَقِيَ بَعْضٌ، صلى مَا أَدْرَكَ وَأَتَمَّ مَا بَقِيَ- كَانَ كَذَلِكَ فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا، فَأَتَمَّ الصَّلاَةَ، كَانَ كَذَلِكَ» «2» ، وأخرج أبو داودَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلاَّهَا أَوْ حَضَرَهَا، لاَ ينقص ذلك من أجورهم» «3» انتهى. [سورة الأنعام (6) : آية 93] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وقوله سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 209) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلم، حديث (561) ، والترمذي (1/ 435) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في جماعة، حديث (223) والبغوي في «شرح السنة» (2/ 118- بتحقيقنا) والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (752) من حديث بريدة. وأخرجه ابن ماجة (1/ 256) كتاب «المساجد» ، باب المشي إلى الصلاة، حديث (780) والحاكم (1/ 212) وابن خزيمة (1498، 1499) ، والطبراني في «الكبير» (5800) من حديث سهل بن سعد الساعدي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأخرجه ابن ماجه (1/ 256- 257) كتاب «المساجد» ، باب المشي إلى الصلاة، حديث (781) والحاكم (1/ 212) والقضاعي في «مسند الشهاب» (751) من حديث أنس. وقال البوصيري في «الزوائد» (1/ 276) : هذا إسناد ضعيف سليمان بن داود قال فيه العقيلي: لا يتابع على حديثه. وأخرجه أبو يعلى (2/ 361) رقم (1113) من حديث أبي سعيد الخدري. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 33) : رواه أبو يعلى، وفيه عبد الحكم بن عبد الله، وهو ضعيف. (2) أخرجه أبو داود (1/ 209- 210) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في الهدى في المشي إلى الصلاة، حديث (563) وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتاب الستة سوى أبي داود. (3) أخرجه أبو داود (1/ 210) كتاب «الصلاة» ، باب فيمن خرج يريد الصلاة، فسبق إليها، حديث (564) .

شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، هذه ألفاظٌ عامَّة، فكل مَنْ واقَعَ شيئاً مما يدخُلُ تحت هذه الألفاظ، فهو داخلٌ في الظُّلْم الذي قد عَظَّمه اللَّه تعالى، وقال قتادةُ «1» وغيره: المرادُ بهذه الآياتِ مُسَيْلِمَةُ «2» ، والأسودُ العَنْسِيُّ «3» . قال عكرمة «4» : أوَّلها في مُسَيْلِمَة، والآخر في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ «5» ، وقيل: نزلَتْ في النَّضْرِ بنِ الحارِثِ، وبالجملة فالآيةُ تتناولُ مَنْ تعرَّض شيئاً من معانيها إلى يوم القيامةِ كَطُلَيْحَةَ الأَسَدِيِّ «6» ، والمُخْتَارِ بن أبي عبيد وسواهما.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 269) رقم (13561، 13562، 13563) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 115) ، وذكره ابن عطية (2/ 322) ، وذكره ابن كثير (2/ 157) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 56) ، وعزاه لأبي الشيخ عن قتادة. [.....] (2) أبو ثمامة مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي. متنبىء، من المعمرين، ولد ونشأ ب «اليمامة» بوادي حنيفة، في نجد، تلقب في الجاهلية ب «الرّحمن» ، وعرف ب «رحمان اليمامة» ، وقد أكثر مسيلمة من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن، وكان مسيلمة ضئيل الجسم، قالوا في وصفه: «كان رويجلا، أصيغر، أخينس» ، ويقال: كان اسمه: «مسلمة» ، وصغره المسلمون تحقيرا له. قتل سنة (12 هـ) في معركة قادها خالد بن الوليد- في عهد أبي بكر الصديق- للقضاء على فتنته. ينظر: «سيرة ابن هشام» (3/ 74) ، و «الروض الأنف» (2/ 340) ، و «الكامل» لابن الأثير (2/ 137) . (3) عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي، ذو الخمار: متنبىء مشعوذ، من أهل اليمن. كان بطاشا جبارا. أسلم لما أسلمت اليمن، وارتد في أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكان أول مرتد في الإسلام. وادعى النبوة، وأرى قومه أعاجيب استهواهم بها، فاتبعته مذحج. وتغلّب على نجران وصنعاء، واتسع سلطانه حتى غلب على ما بين مفازة حضر موت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن. وجاءت كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى من بقي على الإسلام في اليمن، بالتحريض على قتله، فاغتاله أحدهم وكان مقتله قبل وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشهر واحد. وقال البلاذري: سمى نفسه «رحمان اليمن» كما تسمى مسيلمة «رحمان اليمامة» . ينظر: «الأعلام» (5/ 111) ، «جمهرة الأنساب» (381) . (4) أخرجه الطبري (5/ 268) رقم (13559) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 322) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 56) ، وعزاه لأبي الشيخ عن عكرمة. (5) عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، فاتح إفريقية، أسلم قبل الفتح، وهو من أهل «مكة» ، كان من كتاب الوحي، وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر. وكان واليا على «مصر» . واعتزل الحرب التي دارت بين علي ومعاوية. مات ب «عسقلان» وهو قائم يصلي، وأخباره كثيرة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 173) ، و «البداية والنهاية» (7/ 250) ، و «الروض الأنف» (2/ 274) ، و «الأعلام» (4/ 88- 89) . (6) طليحة بن خويلد الأسدي، يقال له: «طليحة الكذاب» لأنه ادعى النبوة، وله صيت في الشجاعة، وقد كان مسلما ثم ارتد في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ينظر ترجمته في: «تهذيب ابن عساكر» (7/ 89) ، و «الأعلام» (3/ 230) .

[سورة الأنعام (6) : آية 94]

وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ ... الآية: جوابُ «لو» محذوفٌ، تقديره: «لرأيت عجبا أو هولا، ونحو هذا، وحذف هذا الجواب أبلغ في نفس السامع، والظَّالِمُونَ لفظٌ عامٌّ في أنواعِ الظلمِ الذي هو كُفْر، و «الغَمَرَاتُ» : جمع غَمْرةٍ، وهي المُصِيبة المُذْهِلة، وهي مشبَّهة بغمرة الماء، والملائكة، يريد: ملائكة قبض الرّوح، وباسِطُوا أَيْدِيهِمْ: كنايةٌ عن مدِّها بالمكروهِ، وهذا المكروهُ هو لا مَحَالة أوائلُ العذابِ، وأماراته، قال ابنُ عبَّاس: يَضْرِبُون وجوههم وأدبارهم، وقوله: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ: حكايةٌ لما تقولُه الملائكة «1» ، والتقدير: يقولون لهم: أخرجوا أنْفُسَكم، وذلك على جهةِ الإهانة، وإدْخَال الرعْبِ عليهم، ويحتملُ: أخرجوا أنفسكُمْ مِنْ هذه المصائبِ والمحنِ، إنْ كان ما زعمتموه حقًّا في الدنيا، وفي ذلك توبيخٌ وتوقيفٌ على سالف فعلهم القبيحِ، قلت: والتأويل الأولُ هو الصحيحُ، وقد أسند أبو عمر في «التمهيد» ، عن ابن وَضَّاحٍ، قال: حدَّثنا أبو بكرِ بْنُ أبي شَيْبة، ثم ذَكَر سنده، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «المَيِّتُ تَحْضُرُهُ المَلاَئِكَةُ، فَإذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، قَالَتِ: اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخرجي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانٍ، قَالَ: فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، فَيُفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُون: فُلاَنٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَباً بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادخلي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ.، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَان، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، يَعْنِي: السَّابِعَةَ، وَإذَا كَانَ الرُّجُلُ السُّوءُ، وَحَضَرَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ، قالَتِ/: اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ، اخرجي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى تخرج ... » وذكر الحديث «2» . انتهى، والْهُونِ: الهَوَان. وقوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ... الآية: لفظ عامٌّ لأنواع الكفر، ولكنه يظهر منه الإنحاءُ على مَنْ قرب ذكره. [سورة الأنعام (6) : آية 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

_ (1) ذكر ابن عطية (2/ 323) بنحوه. (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1423- 1424) كتاب «الزهد» ، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4262) من حديث أبي هريرة. وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 310- 311) : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.

وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... الآية: هذه حكايةٌ عما يقالُ لهم بعد قَبْض أرواحهم، واعلم أيها الأخُ أنَّ هذه الآية الكريمةَ ونَحْوَها من الآيِ، وإن كان مساقها في الكُفَّار، فللمؤمن الموقِنِ فيها مُعْتَبَرٌ ومزدَجَر، وقد قيل: إن القبر بحْرُ النداماتِ، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي هريرة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يموت إلا ندم» ، قالوا: وما ندامته، يا رسول الله؟ قال: «إن كان محسنا، ندم ألا يكون ازداد، وإن كَانَ مُسِيئاً، نَدِمَ أَلاَّ يَكُونَ نَزَعَ» «1» . انتهى. وكَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تشبيهاً بالاِنفراد الأول في وقت الخلقة، وخَوَّلْناكُمْ، معناه: أعطيناكم، ووَراءَ ظُهُورِكُمْ: إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجوداً. وقوله سبحانه: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ: توقيفٌ على الخطإ في عبادة الأصنام، واعتقادهم أنها تشفع وتُقَرِّب إلى اللَّه زلفى، قال «2» أبو حَيَّان: وَما نَرى: لفظه لفظُ المستقبلِ، وهو حكاية حال. انتهى. وقرأ نافع «3» والكسائي: «بَيْنَكُمْ» - بالنصب- على أنه ظرْفٌ، والتقدير: لقد تقطَّع الاِتصال والاِرتباطُ بينكم، ونحْوُ هذا، وهذا وجهٌ واضحٌ وعليه فسَّره الناس مجاهد وغيره «4» ، وقرأ باقي السَّبْعة: «بَيْنُكُمْ» - بالرفع-، وقرأ ابن مسعود «5» وغيره: «لقد تقطّع ما بينكم» ، وضَلَّ، معناه: تلف وذهب، وما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، يريد: دعواهم أنها تشفَعُ، وأنها تشاركُ اللَّه في الألوهيَّة، تعالى اللَّه عن قولهم.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 190) . (3) وهي حفص عن عاصم، واستدلوا بقراءة ابن مسعود الآتية: «لقد تقطع ما بينكم» . ينظر: «السبعة» (263) ، و «الحجة» (3/ 357) ، و «إعراب القراءات» (1/ 164) ، و «معاني القراءات» للأزهري (1/ 371) ، و «حجة القراءات» (261) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح الطيبة» (4/ 264) ، و «إتحاف» (2/ 22) . (4) أخرجه الطبري (5/ 274) رقم (13578، 13579) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 60) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه. (5) ينظر: «الشواذ» (ص 44) ، و «الكشاف» (2/ 47) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 325) وزاد نسبتها إلى مجاهد والأعمش، وينظر: «البحر المحيط» (4/ 186) ، و «الدر المصون» (3/ 128) ، و «التخريجات النحوية والصرفية لقراءة الأعمش» (ص 365) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 97]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 97] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، هذا ابتداءُ تنبيهٍ على العبرة والنظَرِ، ويتصلُ المعنى بما قبله لأن المقصد أنَّ اللَّه فالقُ الحبِّ والنوى لا هذه الأصنامُ، قال قتادة وغيره: هذه إشارة إلى فعل اللَّه سبحانه في أنّ يشُقَّ جميع الحَبِّ عن جميع النباتِ الذي يكُونُ منه، ويشُقُّ النوى عن جميع الأشجار الكائِنَة مِنه «1» . وقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... الآية: قال ابن عباس وغيره: الإشارة إلى إخراج الإنسان الحيِّ من النطفة الميِّتة، وإخراج النطفة الميِّتة من الإنسان الحيِّ «2» ، وكذلك سائرُ الحيوان من الطَّير وغيره، وهذا القول أرجح ما قيل هنا. وقوله سبحانه: ذلِكُمُ اللَّهُ ابتداء وخبَرٌ متضمِّن التنبيه، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، أي: تصرفون وتصدّون، وفالِقُ الْإِصْباحِ، أي: شاقّه ومظهره، والفلق: الصبح، وحُسْباناً: جمع حسابٍ، أي: يجريان بحسَابٍ، هذا قول ابنِ عباس «3» وغيره، وقال مجاهد «4» في «صحيح البخاريِّ» : المرادُ بحُسْبَان كحسبان الرحى، وهو الدَّوْلاَب والعُودُ الذي عليه دَوَرانه. وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... الآية: هذه المخاطبةُ تعمُّ المؤمنين والكافرين، والحُجَّةُ بها على الكافرين قائمةٌ، والعبرة بها للمؤمنين متمكّنة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 98 الى 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 275) رقم (13586) ، بنحوه، وذكره البغوي (2/ 117) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 325) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 61) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه. (2) أخرجه الطبري (5/ 277) برقم (13598) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 325) . [.....] (3) أخرجه الطبري (5/ 279) رقم (13609، 13610) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 326) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 62) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس بنحوه. (4) ذكره ابن عطية (2/ 326) .

وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، يريد: آدم- عليه السلام-، فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، اختلف المتأوِّلون في معنى هذا الاستقرارِ والاِستيداعِ. فقال الجمهور: مستقَرٌّ في الرحِمِ، ومستودَعٌ في ظهور الآباءِ حتى يَقْضِيَ/ اللَّه بخروجهم، قال ابنُ عَوْن: مشَيْتُ إلى منزل إبراهيمَ النَّخَعيِّ وهو مريضٌ، فقالوا: قد تُوُفِّيَ، فأخبرني بعضهم أنَّ عبد الرحمن بْنَ الأسود سأله عن: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، فقال: مستقرٌّ في الرحِمِ، ومستودع في الصُّلْبِ «1» ، وقال ابن عباس: المستقرُّ: الأرض، والمستودَعُ: عند الرحمن «2» ، وقال ابن جُبَيْر: المستودَعُ: في الصلب، والمستقَرُّ في الآخرة «3» ، قال الفَخْر: والمنقول عن ابن عباس في أكثر الرواياتِ أن المستقرَّ هو الأرحام، والمستودَعُ الأصلاب «4» ، ثم قرأ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ [الحج: 5] ومما يدلُّ على قوة هذا القولِ أنَّ النطفة لا تبقى في صُلْب الأب زماناً طويلاً، والجنينُ في رَحِمِ الأم يبقى زماناً طويلاً، ولما كان المُكْث في الرحمِ أكثر مما في صُلْب الأب، كان حمل الاستقرارِ على المُكْث في الرحمِ أولَى. انتهى. قال ع «5» : والذي يقتضيه النظر أنَّ ابن آدم هو مستودَعٌ في ظهر أبيه، وليس بمستقِرٍّ فيه استقرارا مطلقاً لأنه يتنقَّل لا محالة، ثم ينتقلُ إلى الرحِمِ، ثم ينتقل إلى الدنيا، ثم ينتقلُ إلى القبر، ثم ينتقلُ إلى المَحْشَر، ثم ينتقلُ إلى الجَنَّة أو النار، فيستقرُّ في أحدهما استقرارا مطلقاً، وليس فيها مستودَعٌ لأنه لا نُقْلَة له بَعْدُ، وهو في كلِّ رتبة متوسِّطة بين هذين الطرفَيْن مُسْتَقِرٌّ بالإضافة إلى التي قبلها، ومستودَعٌ بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعةِ يقتضي فيها نُقْلة، ولا بُدَّ. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ،

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 285) برقم (13654) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 327) . (2) أخرجه الطبري (5/ 282) برقم (13627) ، وذكره ابن عطية (2/ 327) . (3) أخرجه الطبري (5/ 283) برقم (13630) ، وذكره ابن عطية (2/ 327) . (4) أخرجه الطبري (5/ 283، 284) رقم (13638، 13639) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 66) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم عن ابن عباس بنحوه. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 327) .

السَّماءِ في هذا الموضع: السحابُ، وكلُّ ما أظلَّك فَهُو سماءٌ، وقوله: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، قيل: معناه: ممَّا ينبتُ، وقال الطبريُّ «1» : المراد ب كُلِّ شَيْءٍ: كلُّ ما ينمو مِنْ جميع الحيوان والنباتِ والمعادِنِ، وغير ذلك لأن ذلك كله يتعذى وينمو بنزولِ الماء من السماءِ، والضمير في مِنْهُ يعود على النباتِ، وفي الثاني يعود على الخضر، وخَضِراً: بمعنى: أَخْضَر ومنه قوله- عليه السلام-: «الدُّنْيَا خَضِرَةً حُلْوَةٌ» «2» ، بمعنى: خضراء وكأن خَضِراً إنما يأتي أبداً لمعنى النَّضَارة، وليس لِلَّوْن فيه مدخلٌ، وأخضر إنما تمكُّنه في اللون، وهو في النّضارة تجوّز، وحَبًّا مُتَراكِباً: يعم جميع السنابلِ وما شاكَلَها كالصَّنَوْبر، والرُّمَّان، وغيرِ ذلك. وقوله: وَمِنَ النَّخْلِ، تقديره: ونُخْرِجُ مِنَ النخلِ والطَّلْعِ أولَ ما يخرج من النّخل، في أكمامه، وقِنْوانٌ: جمع قِنْو، وهو العِذْق- بكسر العين-، وهي الكِبَاسَةُ، والعُرْجُونُ: عوده الذي فيه ينتظمُ التمر، ودانِيَةٌ: معناه: قريبةٌ من التناول قاله ابن عباس «3» وغيره. وقرأ الجمهور: «وجَنَّاتٍ» - بالنصب- عطفاً على قوله: «نَبَاتَ» ، وروي عن «4» عاصم: «وجَنَّاتٌ» - بالرفع- على تقدير: ولكُمْ جناتٌ أو نحو هذا، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ- بالنصب إجماعاً- عطفاً على قوله: «حبّا» ، ومُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ، قال قتادة: معناه يتشابه في الوَرَقِ ويتبايَنُ في الثَّمَرِ «5» ، وقال الطبريُّ «6» : جائز أن يتشابه في الثَّمَر ويتبايَنُ في الطَّعْم، ويحتمل أن يريد يتشابه في الطَّعْمِ ويتباين في المنظر، وهذه الأحوال موجودة

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 287) . (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه الطبري (5/ 288) برقم (13666) ، وذكره ابن عطية (2/ 228) ، وابن كثير (2/ 159) ، والسيوطي (3/ 67) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) ينظر: «حجة القراءات» (264) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 328) ، وزاد نسبتها إلى محمد بن أبي ليلى، والأعمش. وينظر: «البحر المحيط» (4/ 193) ، و «الدر المصون» (2/ 140) ، و «التخريجات النحوية» (ص 200) . (5) أخرجه الطبري (5/ 289) برقم (13674) ، وذكره البغوي (2/ 118) ، وابن عطية (2/ 228) ، وابن كثير (2/ 159) ، والسيوطي (3/ 67) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة. (6) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 289) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 إلى 102]

بالاعتبار في أنواع الثمرات. وقوله سبحانه: انْظُرُوا، وهو نظرُ بَصَرٍ تتركَّب عليه فكرةُ قَلْبٍ، «والثمر» في اللغة: جَنَى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر: ثماراً، فبتجوُّز، وقرأ جمهور «1» الناس: وَيَنْعِهِ- بفتح الياء-، وهو مصدر يَنَعَ يَيْنَعُ إذا نَضِجَ، وبالنُّضْج فسره ابن «2» عباس، وقد يستعمل «يَنَعَ» بمعنى استقل واخضر ناضراً، قال الفخر «3» : وقدَّم سبحانه الزَّرع لأنه غذاء، والثِّمار فواكهٌ وإنما قدَّم النخل على الفواكِهِ لأن التمر يجرِي مجرى الغذاءِ/ بالنسبة إلى العرب. انتهى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 102] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) وقوله سبحانه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ: جَعَلُوا: بمعنى صيّروا، والْجِنَّ: مفعول، وشُرَكاءَ مفعولٌ ثانٍ. قال ص: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ: جَعَلُوا: بمعنى: صَيَّروا، والجمهورُ على نَصْب «الجنِّ» ، فقال ابن عطيَّة «4» وغيره: هو مفعولٌ أول ل جَعَلُوا، وشُرَكاءَ الثاني، وجوَّزوا فيه أن يكون بدلاً من شُرَكاءَ، ولِلَّهِ في موضع المفعول الثاني، وشُرَكاءَ الأول، وردَّه أبو حَيَّان «5» بأن البدل حينئذ لا يَصحُّ أن يحل محلَّ المبدل منه إذ لو قلْتَ: وجعلوا للَّه الجنَّ، لم يصحَّ، وشرط البدل أنْ يكون على نيَّة تكرار العامل على الأشهر، أو معمولاً للعاملِ، في المُبْدَلِ منه على قول، وهذا لا يصحُّ كما ذكرنا، قلْتُ: وفيه نظر. انتهى، قلتُ: وما قاله الشيخُ أبو حَيَّان عندي ظاهرٌ، وفي نظر الصَّفَاقُسِيِّ نَظَرٌ، وهذه الآية مشيرة إلى العادِلِينَ باللَّه تعالى، والقائلين: إن الجنَّ تعلم الغيْبَ، العابدين للجنِّ، وكانت طوائفُ من العرب تفعَلُ ذلك، وتستجير بجِنِّ الوادِي

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 328) ، و «البحر المحيط» (4/ 195) ، و «الدر المصون» (2/ 143) . [.....] (2) أخرجه الطبري (5/ 290) برقم (13677، 13678) ، وذكره ابن عطية (2/ 328) ، وابن كثير (2/ 159) ، والسيوطي (3/ 67) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس. (3) ينظر: «الرازي» (13/ 89) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 329) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 196) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 103 إلى 107]

في أسفارها ونحوِ هذا، وأما الذين خَرَقُوا البنين، فاليهود في ذكر عزيز، والنصارى في ذكر المسيحِ، وأما ذاكرو البناتِ، فالعربُ الذين قالوا: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ، تعالى اللَّه عن قولهم فكأنَّ الضمير في جَعَلُوا وخَرَقُوا لجميع الكفَّار إذ فَعَلَ بعضُهم هذا، وبعضُهم هذا، وبنحو هذا فسَّر السُّدِّيُّ وابن «1» زَيْد، وقرأ الجمهورُ «2» : «وَخلَقَهُمْ» - بفتح اللام- على معنى: وهو خلقهم، وفي مصحف ابنِ «3» مسعود: «وَهُوَ خَلَقَهُمْ» ، والضمير في خَلَقَهُمْ يَحْتَمِلُ العودَةَ على الجاعلين، ويحتملُها على المجْعُولِينَ، وقرأ السبعة «4» سوى نافعٍ: «وَخَرَقُوا» - بتخفيف الراء- بمعنى اختلقوا وافتروا، وقرأ نافع: «وَخَرَّقُوا» - بتشديد الراء- على المبالغة، وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ نصٌّ على قُبْح تقحُّم المجهلة، وافتراء الباطل على عمى، وسُبْحانَهُ: معناه: تنزَّه عن وصفهم الفاسدِ المستحيلِ عليه تبارك وتعالى، وبَدِيعُ: بمعنى: مبدع، وأَنَّى: بمعنى: كيف، وأين، فهي استفهام في معنى التوقيفِ والتقريرِ، وهذه الآيةُ ردٌّ على الكفار بقياس الغائِبِ على الشاهد. وقوله سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لفظٌ عامٌّ لكلِّ ما يجوز أن يدخل تحته، ولا يجوز أن تدخل تحته صفاتُ اللَّهِ تعالى، وكلامُهُ، فليس هو عموماً مخصَّصاً على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصَّص هو أن يتناول العموم شيئاً، ثم يخرجه التخصيصُ، وهذا لم يتناولْ قطُّ هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قَوْلِ الإنسان: قَتَلْتُ كُلَّ فَارِسٍ، وأَفْحَمْتُ كُلَّ خَصْمٍ، فلم يدخلِ القائلُ قطُّ في هذا العمومِ الظاهرِ من لفظه، وأما قوله: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو عمومٌ على الإطلاق لأنه سبحانه يعلم كلَّ شيء، لا ربَّ غيره، وباقي الآية بيّن. [سورة الأنعام (6) : الآيات 103 الى 107] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 292) برقم (13691) عن السدي، و (13692) عن ابن رشد، وذكره ابن عطية (2/ 329) ، وابن كثير (2/ 160) عن السدي، والسيوطي (3/ 68) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 329) . (3) ينظر السابق. (4) ومعنى القراءة بالتشديد أي: مرة بعد مرة، قال الزمخشري: وقرىء: وخرّقوا بالتشديد للتكثير لقوله: بَنِينَ وَبَناتٍ. ينظر: «الكشاف» (2/ 53) ، و «السبعة» (264) ، و «الحجة» (3/ 372) ، و «إعراب القراءات» (1/ 166) ، و «معاني القراءات» (1/ 376) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح الطيبة» (4/ 266) ، و «شرح شعلة» (371) ، و «إتحاف» (2/ 25) .

وقوله سبحانه: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، أجمع أهلُ السنَّة على أن اللَّه عزَّ وجلَّ يرى يوم القيامة، يَرَاهُ المؤمنون، والوَجْه أنْ يبيَّن جواز ذلك عقلاً، ثم يستند إلى ورود السمعِ بوقوعِ ذلك الجائِزِ، واختصار تبْيِينِ ذلك: أنْ يعتبر بعلمنا باللَّه- عز وجل- فمن حيثُ جاز أنْ نعلمه لا في مكانٍ، ولا متحيِّزاً، ولا مُقَابَلاً، ولم يتعلَّق علمنا بأكثر من الوجودِ، جاز أن نراه غير مقابلٍ، ولا محاذًى، ولا مكيَّفاً، ولا محدَّداً، وكان الإمام أبو عبد اللَّه النحويُّ يقولُ: مسألةُ العِلْمِ حَلَقَتْ لِحَى المُعْتَزِلة، ثم ورد الشرْعُ بذلك/ كقوله عزَّ وجلَّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ، وتعدية النَّظَر ب «إلى» إنما هو في كلام العربِ لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهب إليه المعتزلة ومنه قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيما صحَّ عنه، وتواتر، وكثر نقله: «إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ» «1» ، ونحوه من الأحاديث الصحيحةِ علَى اختلاف ألفاظها، واستمحل «2» المعتزلةُ الرؤيةَ بآراءٍ مجرَّدةٍ، وتمسَّكوا بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وانفصال أهل السنَّة عن تمسُّكهم بأن الآية مخصُوصَةٌ في الدنيا «3» ، ورؤية الآخرة ثابتةٌ بأخبارها وأيضاً فإنا نَفْرُقُ بين معنى الإدراك، ومعنى الرؤية، ونقول: إنه عز وجل تراه الأبصار، ولا تدركه وذلك أن الإدراك يتضمَّن الإحاطة بالشيء، والوصولَ إلى أعماقِهِ وحَوْزِهِ من جميع جهاتِهِ، وذلك كلُّه محالٌ في أوصافِ اللَّه عزَّ وجلَّ، والرؤيةُ لا تفتقرُ إلى أنْ يحيطَ الرائي بالمرئيِّ، ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتَّب العَكْس في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، ويحسن معناه، ونحو هذا رُوِيَ عن ابن عباسٍ وقتادة وعطيَّة العَوْفِيِّ «4» أنهم فرقوا بين الرؤية والإدراك، واللَّطِيفُ: المتلطّف في خلقه واختراعه،

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 462- 463) كتاب «التفسير» ، باب وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، حديث (4851) ، ومسلم (1/ 439- 440) كتاب «المساجد» ، باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث (211، 212/ 633) من حديث جرير. (2) يعني: استبعد. ينظر: «لسان العرب» (4147، 4148) ، و «المعجم الوسيط» (863) . (3) تقدم الكلام على الرؤية مفصلا. (4) أخرجه الطبري (5/ 294) برقم (13698) عن ابن عباس (13699) عن قتادة (13700) عن عطية العوفي، وذكره البغوي (2/ 120) عن ابن عباس، وابن عطية (2/ 330) ، وابن كثير (2/ 161، 162) ، والسيوطي (3/ 69) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي الشيخ عن قتادة، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي، وعطية هذا هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي أبو الحسن-

والبَصَائِرُ: جمع بَصِيرة، فكأنه قال: قد جاءكم في القرآن والآياتِ طرائقُ إبصار الحقِّ، والبصيرةُ للقَلْبِ مستعارةٌ من إبصارِ العَيْن، والبصيرةُ أيضاً هي المعتقد. وقوله سبحانه: فَمَنْ أَبْصَرَ، ومَنْ عَمِيَ: عبارةٌ مستعارةٌ فيمن اهتدى، ومَنْ ضَلَّ، وقوله: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ- كان في أول الأمر وقَبْلَ ظهور الإسلام، ثم بعد ذلك كان صلّى الله عليه وسلّم حفيظاً على العَالَمِ، آخذاً لهم بالإسلام أو السيفِ. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي: نردِّدها ونوضِّحها، وقرأ الجمهور «1» : «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» - بكسر اللام- على أنها لامُ كَيْ، وهي على هذا لامُ الصيرورة، أي: لَمَّا صار أمرهم إلى ذلك، وقرأ نافع وغيره: «دَرَسْتَ» ، أي: يا محمد دَرَسْتَ في الكتبِ القديمةِ ما تجيئُنا به، وقرأ ابن كثير وغيره: «دَارَسْتَ» ، أي: دارَسْتَ غيرك وناظرته، وقرأ ابن عامر: «دَرَسَتْ» - بإسناد الفعل إلى الآيات- كأنهم أشاروا إلى أنها تردَّدت على أسماعهم حتى بَلِيَتْ في نفوسهم، وامحت، واللام في قوله: لِيَقُولُوا، وفي قوله: وَلِنُبَيِّنَهُ: متعلِّقانِ بفعلِ متأخِّر، وتقديره: «صَرَّفْنَاهَا» ، وذهب بعض الكوفيِّين إلى أنَّ «لا» : مضمرةٌ بعد «أَنِ» المقدَّرةِ في قوله: وَلِيَقُولُوا، فتقدير الكلام عندهم: وَلأنْ لاَ يَقُولُوا دَرَسْتَ كما أضمروها في قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] . قال ع «2» : وهذا قَلِقٌ، ولا يجيز البصريُّون إضمار «لا» في موضعٍ من المواضعِ. قلت: ولكنه حسن جدًّا من جهة المعنى إذ لا يعلمون أنه دَرَسَ أو دارس أحدا صلّى الله عليه وسلّم، فتأمَّله. وقوله سبحانه: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... الآية: هذه الآية فيها موادعة، وهي منسوخة.

_ - الكوفي، عن: أبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وعنه: ابناه عمر، والحسن. ينظر: «الخلاصة» (2/ 233) . (1) ينظر: «السبعة» (264) ، و «الحجة للقراء السبعة» (3/ 372) ، و «إعراب القراءات» (1/ 166) ، و «معاني القراءات» (1/ 376) ، و «شرح الطيبة» (4/ 266) ، و «شرح شعلة» (372) ، و «حجة القراءات» (264) ، و «العنوان» (92) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 25) . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 331) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 إلى 110]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وقوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية: مخاطبة للمؤمنين والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: سببها أن كفَّار قريشٍ قالوا لأبي طَالِبٍ: إما أنْ ينتهِيَ محمَّد وأصحابه عن سَبِّ آلهتنا والغَضِّ منها، وإما أنْ نَسُبَّ إلهه ونَهْجُوه «1» ، فنزلَتِ الآية، وحكْمُها على كلِّ حال باقٍ في الأمة/، فلا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى سبّ الإسلام أو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو اللَّه عزَّ وجلَّ، وعبَّر عن الأصنامِ بالذين، وهي لا تَعْقِلُ، وذلك على معتقدِ الكَفَرة فيها، وفي هذه الآية ضَرْبٌ من الموادعة، وعَدْواً: مصدر من الاعتداء، وبِغَيْرِ عِلْمٍ: بيانٌ لمعنى الاعتداءِ. وقوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ: إشارة إلى ما زَيَّنَ لهؤلاء من التمسُّك بأصنامهم، وتَزْيينُ اللَّه عَمَلَ الأممِ هو ما يخلقه سبحانه في النُّفُوس من المحبَّة للخَيْر والشَّرِّ، وتزيينُ الشيطان هو ما يَقْذِفُه في النفُوسِ من الوسوسة وخَطَراتِ السُّوء، وقوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ ... الآية: تتضمَّن وعداً جميلاً للمحسنين، ووعيداً ثقيلاً للمسيئين. وقوله سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها: اللام في قوله: لَئِنْ لامُ توطئة للقَسَمِ، وأما المُتَلَقِّيَةُ للقَسَمِ فهي قوله: لَيُؤْمِنُنَّ بِها، وآيَةٌ: يريد: علامة، وحُكِيَ أنَّ الكفار لمَّا نزلَتْ: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] ، أقسموا حينئذٍ أنها إنْ نزلَتْ، آمنوا، فنزلَتْ هذه الآيةُ، وحُكِيَ أنهم اقترحُوا أنْ يعود الصفا ذَهَباً، وأقسموا على ذلك، فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُو في ذلك، فجاءه جِبْريلُ، فقال له: إنْ شئْتَ أصْبَحَ ذَهَباً، فإن لم يؤمنُوا، هَلَكُوا عَنْ آخرهم معاجلَةً كما فعل بالأمم المُقْتَرِحَةِ، وإن شئْتَ، أُخِّرُوا حتى يتوبَ تائبهم، فقال- عليه الصلاة والسلام-: بل حتّى يتوب تائبهم «2» ، ونزلت الآية.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 304) برقم (13742) ، وذكره البغوي (2/ 121) ، وابن عطية (2/ 332) ، وابن كثير (2/ 164) ، والسيوطي (3/ 71) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (5/ 306) عن محمد بن كعب القرظي به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 72) ، وعزاه لابن جرير.

قال ابنُ العربيِّ: قوله: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، يعني: غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. انتهى من «الأحكام» . ثم قال تعالى: قل لهم، يا محمَّد على جهة الردِّ والتخطئةِ: إنما الآياتُ عند اللَّه وليْسَتْ عندي، فَتُقْتَرَحَ علَيَّ، ثم قال: وَما يُشْعِرُكُمْ، قال مجاهدٌ: وابن زيد: المخاطَبُ بهذا الكفَّار «1» ، وقال الفَرَّاء وغيره: المخاطَبُ بهذا المؤمنون، وَما يُشْعِرُكُمْ: معناه: وما يُعْلِمُكم وما يُدْرِيكم، وقرأ ابن كثير «2» وغيره: «إنَّهَا» - بكسر الألف-، على القطعِ، واستئناف الأخبار، فمن قرأ «تُؤْمِنُونَ» «3» - بالتاء-، وهي قراءة ابن عامر وحمزة استقامت له المخاطبةُ، أولاً وآخراً، للكفَّار، ومن قرأ بالياء، وهي قراءةُ نافعٍ. وغيره، فيحتمل أنْ يخاطب، أولاً وآخراً، المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ الكفَّار، ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، وقرأ نافعٌ وغيره: «أَنَّهَا» - بفتح الألف-، فقيل: إنَّ «لا» زائدةٌ في قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ كما زيدَتْ في قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] ، ودعا إلى التزامِ هذا حفْظُ المعنى، لأنها لو لم تكُنْ زائدةً، لعاد الكلام عذراً للكفَّار، وفَسَدَ المراد بالآية، وضَعَّف الزَّجَّاج وغيره زيادةَ «لا» ، ومنهم مَنْ جعل أَنَّها بمعنى لَعَلَّها، وحكاه سيبَوَيْهِ عن الخليلِ، وهذا التأويل لا يحتاجُ معه إلى تقديرِ زيادةٍ، «لا» ، وحكى الكسائيُّ: أنه كذلك في مُصْحف أُبَيٍّ «وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا إذَا جَاءَتْ» ، ورجَّح أبو عليٍّ أنْ تكون «لا» زائدةً، وبسط شواهده في ذلك. وقوله سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ، فالمعنى على ما قالت فرقة: ونقلِّب أفئدتهم وأبصارهم في النَّار، وفي لهبها في الآخرة، لمَّا لم يُؤْمِنُوا في الدنيا، ثم استأنف على هذا: ونَذَرُهُمْ في الدنيا في طغيانهم يعمهون، وقالتْ فرقة: إنما المراد بالتقْلِيبِ التّحويل عن الحقّ والهدى والتّرك في

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 306) برقم (13748) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (2/ 333) ، والسيوطي (3/ 72) وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد. (2) ينظر: «السبعة» (265) ، و «الحجة» (3/ 375) ، و «إعراب القراءات» (1/ 167) ، و «معاني القراءات» (1/ 378) ، و «حجة القراءات» (265) ، و «شرح الطيبة» (4/ 268) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح شعلة» (372) ، و «إتحاف» (2/ 26) . (3) ينظر: «السبعة» (265) ، و «الحجة» (3/ 382) ، و «إعراب القراءات» (1/ 167) ، و «معاني القراءات» (1/ 379) ، و «حجة القراءات» (267) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح الطيبة» (4/ 268) ، و «شرح شعلة» (373) ، و «إتحاف» (2/ 26) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 إلى 112]

الضلالةِ والكُفْر، ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين أقسموا أنَّهم يؤمنُون إنْ جاءت آية- نحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم أنْ لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا أولَ مرَّة بما دُعُوا إلَيْه من عبادة اللَّه تعالى، فأخبر اللَّه عزَّ وجلَّ على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقالتْ فرقة: قوله: كَما في هذه الآية: إنما هي بمعنى المجازاة، أي: لما لم يؤمنوا أولَ مرَّة، نجازيهم، بأنْ نقلِّب أفئدتهم عن الهدى، ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال: ونحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم، جَزَاءً لِمَا لم يؤمنوا أول مرة بما دُعُوا إلَيْه من الشرع، والضميرُ في بِهِ يحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، أو على القرآن، أو على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَنَذَرُهُمْ: معناه: نتركُهم، والطغيانُ: التخبُّط في الشرِّ، والإفراط فيما يتناوله المرء، ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردّدون في حيرتهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 112] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ... الآية: أخبر سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه مِنْ إنزال ملائكةٍ وإحياءِ سلفهم حَسْبما اقترحه بعضُهم أنْ يُحْشَرَ قُصَيٌّ وغيره، فيخبر بصدْقِ محمَّد- عليه السلام-، أو يحشر عليهم كلُّ شيء قُبُلاً- ما آمنوا إلا بالمشيئةِ واللُّطْفِ الذي يخلقه ويَخْتَرِعُه سبحانه في نفْسِ مَنْ يشاء، لا ربَّ غيره. وقرأ نافع «1» وغيره: «قبلاً» ، ومعناه مواجهةً ومعاينةً قاله ابن عباس «2» وغيره، ونصبه علَى الحالِ، وقال المبرِّد: معناه: ناحيةً كما تقول: لِي قِبَلَ فلانٍ دَيْنٌ. قال ع «3» : فنصبه على هذا: هو على الظرفِ، وقرأ حمزة «4» وغيره: «قبلا» - بضمّ

_ (1) ينظر: «السبعة» (265- 266) ، و «الحجة» (3/ 383- 387) ، و «إعراب القراءات» (1/ 167) ، و «معاني القراءات» (1/ 380) ، و «حجة القراءات» (267) ، و «شرح الطيبة» (4/ 269) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح شعلة» (374) ، و «إتحاف» (2/ 27) . (2) أخرجه الطبري (5/ 312) برقم (13761) ، وذكره ابن عطية (2/ 335) ، وابن كثير (2/ 165) ، والسيوطي (3/ 73) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 335) . (4) ينظر مصادر القراءات السابق.

القافِ والباءِ-، واختلف في معناه، فقال بعضهم: هو بمعنى «قِبَل» بكسر القافِ، أي: مواجهةً كما تقول: قُبُل ودُبُر. وقال الزَّجَّاج والفَرَّاء: هو جَمْعُ قَبِيلٍ، وهو الكفيل، أي وحشرنا عليهم كلّ شيء كفلاء بصدق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد وغيره: هو جمع قَبِيلٍ، أي: صنفاً صنفاً، ونوعاً نوعاً «1» ، والنصب في هذا كلّه على الحالة، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، أي: يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتَضِي إيمانهم، ولا بُدَّ، فيقتضي اللفظ أنَّ الأقلَّ لا يجهل، فكان فيهم من يعتقد أنَّ الآية لو جاءت لم يُؤْمِنْ إلا مَنْ شاء اللَّه منه ذلك، قُلْتُ: وقال مكِّيٌّ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، أي: في مخالَفَتِكَ، وهم يعلمون أنَّك نبيٌّ صادقٌ فيما جئتهم به، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يُدَاعِبُ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ الفَتْحِ بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ، وَيَطْعُنُ بِهَا أَبَا سُفْيَانَ، فَإذَا أحرقته، قال: نحّ عنّي مخصرتك، فو الله، لَوْ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَسْلَمْتَ لَهُ، قِتَالُكَ إيَّايَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو/ سُفْيَانَ: تَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ أُقَاتِلُكَ تَكْذِيباً مِنِّي لَكَ، وَاللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي صَدْقِكَ قَطُّ، وَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُكَ إلاَّ حَسَداً مِنِّي لَكَ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَعَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَكَانَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَشْتَهِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَتَبَسَّمُ» . انتهى من «الهداية» . وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ... الآيةَ: تتضمَّن تسلية النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وعَرْضَ القُدْوة عليه، أي: هذا الذي امتحنت به، يا محمَّد، مِن الأعداء قد امتحن به غَيْرُك من الأنبياء ليبتليَ اللَّه أُولِي العزم منهم، وشَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: يريد: المتمردين من النوعين، ويُوحِي: معناه: يلقيه في اختفاء، فهو كالمناجاةِ والسِّرَارِ، وزُخْرُفَ الْقَوْلِ: محسَّنه ومُزَيَّنه بالأباطيل قاله عكرمة ومجاهد «2» ، والزخرفة أكثر ما تستعملُ في الشرِّ والباطل، وغُرُوراً: مصدرٌ، ومعناه يغرُّون به المضلَّلين، والضمير في فَعَلُوهُ عائدٌ على اعتقادهم العداوةَ، ويحتملُ على «الوحْيِ» الذي تضمَّنه يُوحِي. وقوله سبحانه: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ: لفظٌ يتضمَّن الأمر بالموادعة، وهو منسوخ

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 312، 313) برقم (13764، 13765) ، وذكره ابن عطية (2/ 335) ، وابن كثير (2/ 165) ، والسيوطي (3/ 73) وعزاه لأبي الشيخ عن مجاهد. (2) أخرجه الطبري (5/ 315، 316) برقم (13778) عن عكرمة، وبرقم (13780، 13781) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (2/ 336) ، والسيوطي (3/ 74) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي نصر السجزي في «الإبانة» ، وأبي الشيخ عن مجاهد.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 113 إلى 115]

قال قتادة: كُلُّ «ذَرْ» في كتاب اللَّه- منسوخ بالقتال «1» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 113 الى 115] وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وقوله سبحانه: وَلِتَصْغى: معناه: لِتَمِيلَ، قال «2» الفَخْر: والضميرُ في قوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ- يعود على زُخْرفِ القولِ، وكذلك في قوله: وَلِيَرْضَوْهُ والاقترافُ: معناه الاكتساب. وقال الزجّاج: ولِيَقْتَرِفُوا، أي: يختلقوا ويَكْذِبوا، والأول أفصحُ. انتهى. والقُرَّاء على كسر اللامِ في الثلاثةِ الأفعالِ على أنها لام كي معطوفة على غرورا وحَكَماً أبلغُ من حاكِمٍ إذ هي صيغةٌ للعَدْلِ من الحكام، والحاكم جَارٍ على الفعل، فقَدْ يقال للجائر، ومُفَصَّلًا: معناه: مزالُ الإشكال، والكتاب أولاً هو القرآن، وثانياً اسم جنسٍ للتوراةِ والإنجيلِ والزبورِ والصُّحُفِ. وقوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ: تثبيتٌ ومبالغةٌ وطَعْنٌ على الممترين. قلتُ: وقد تقدَّم التنبيه على أنه صلّى الله عليه وسلّم مَعْصُومٌ، وأنَّ الخطاب له، والمراد غيره ممَّنْ يمكن منه الشّكّ. وقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا ... الآية: تَمَّتْ في هذا الموضع: بمعنى: استمرت وصحَّتْ في الأزل صدقاً وعدلاً، وليس بتمامٍ مِنْ نقصٍ، ومثله ما وقَع في كتب «السِّيرة» مِنْ قولهم: وتَمَّ حَمْزَةُ على إسْلاَمِهِ، في الحديثِ مع أبي جهل، والكلمات: ما أنزل على عباده، ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ: معناه: في معانيها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 118] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 336) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 129) . [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 119 إلى 121]

وقوله سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ... الآية: المعنى: فامض، يا محمَّد لما أُمِرْتَ به، وبلِّغ ما أُرْسِلْتَ به، فإنك إنْ تطع أكثر من في الأرض يضلُّوك، قال ابنُ عباس «1» : الأرض هنا: الدنيا، وحُكِي أنَّ سبب هذه الآية أنَّ المشركين جادلوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر الذبائحِ، وقالوا: أتأكُلُ ما تقتُلُ، وتترُكُ ما قَتَلَ اللَّه، فنزلَتِ الآية، ثم وصفهم تعالى بأنهم إنما يقتدون بظنونهم ويتَّبعون تخرُّصهم، والخَرْصُ: الحَرْز والظنُّ، وهذه الآية/ خبر في ضمْنه وعيدٌ للضالِّين، ووعدٌ للمهتدين، وقوله سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ... الآية: القصْد بهذه الآية النهْيُ عما ذبح للنُّصُب وغيرها، وعن الميتة وأنواعها، ولا قصد في الآية إلى ما نَسِيَ المؤمن فيه التسميَة أو تعمّدها بالترك. [سورة الأنعام (6) : الآيات 119 الى 121] وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) وقوله سبحانه: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا ... الآية: «ما» : استفهام يتضمَّن التقريرَ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، أي: فصَّل الحرامَ من الحلالِ، وانتزعه بالبيانِ، و «ما» في قوله: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، يريد بها: مِنْ جميع ما حَرَّم كالميتة وغيرها، وهي في موضع نَصْب بالاستثناء، والاستثناءُ منقطعٌ. وقوله سبحانه: وَإِنَّ كَثِيراً يريد الكفرة المحادِّين المجادلين، ثم توعَّدهم سبحانه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وقوله جلَّت عظمته: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ- نهْيٌ عامٌّ، والظاهرُ والباطنُ: يستوفيان جميع المعاصي، وقال قوم: الظاهر: الأعمالُ، والباطنُ: المعتَقَد، وهذا أيضاً حسن لأنه عامٌّ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي أُمَامة، قال: سأل رجل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَا الإثْمُ؟ قَالَ: «مَا حَكَّ فِي صَدْرِكَ، فَدَعْهُ» «2» ، وروى ابن المبارك أيضاً بسنده أنَّ رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 338) . (2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 284) رقم (825) .

فَرَدَّ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَسْكُتُ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ» فَقَالَ: أَنَا ذَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ، فَدَعْهُ» «1» . انتهى، وقد ذكرنا معناه مِنْ طرُقٍ في غير هذا الموضعِ، فأغنى عن إعادته. ثم توعَّد تعالى كَسَبَةَ الإثمِ بالمجازاةِ على ما اكتسبوه من ذلك، والاقتراف: الاكتساب. وقوله سبحانه: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... الآية: مقصد الآية النهْيُ عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين: تَتْرُكُونَ ما قَتَلَ اللَّهُ، ومع ذلك، فلفظها يعمُّ ما تُرِكَتِ التسميةُ عليه من ذبائِحِ الإسلام «2» ، وبهذا العمومِ تعلَّق ابن عمر وابنُ سيرينَ والشَّعْبِيُّ وغيرهم فقالوا: ما تُرِكَتِ التسميةُ علَيْه، لم يؤكَلْ، عمدا كان أو نسيانا «3» ، وجمهورُ العلماء على أنه يؤكل إن كان تركُها نسياناً بخلاف العَمْدِ، وقيل: يؤكل، سواءٌ تركَتْ عمداً أو نسياناً، إلا أنْ يكون مستخِفًّا. وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ ... الآية: قال عكرمة: هم مردة الإنس من مجوس

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 283- 284) رقم (824) . (2) أجمع الفقهاء على مشروعية التسمية عند الذبح، وعند الإرسال: والرمي إلى الصيد. ولكنهم اختلفوا في كونها شرطا في حل الأكل: فذهب الشافعي وأصحابه إلى أنها سنة، فلو تركها عمدا أو سهوا، حل الصيد والذبيحة. وهي رواية عن «مالك» ، و «أحمد» . وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء، وسعيد بن المسيب والحسن، وجابر بن زيد، وعكرمة، وأبي عياض، وأبي رافع، وطاوس، وإبراهيم النخعي، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، وقتادة. وذهب أبو حنيفة- رحمه الله تعالى- إلى أن التسمية شرط للإباحة مع الذكر دون النسيان، فإن تركها عمدا، فالذبيحة ميتة. وهو مذهب جماهير العلماء، والصحيح من مذهب مالك- رضي الله عنه-، والمشهور عن أحمد في الذبيحة. وقال أهل الظاهر: إن تركها عمدا، أو سهوا لم يحل. وهو الصحيح عن أحمد في الصيد. وروي عن ابن سيرين، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن عمر، ونافع، وعبد الله بن يزيد الخطمي، والشعبي، وأبي ثور. ينظر: «الزكاة» ، لشيخنا عبد الله حمزة. (3) أخرجه الطبري (5/ 329) عن ابن سيرين برقم (13832) ، وذكره البغوي (2/ 127) ، وابن عطية (2/ 340) ، وابن كثير (2/ 169) والسيوطي (3/ 80) ، وعزاه لعبد بن حميد، عن محمد بن سيرين.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 إلى 124]

فَارِس «1» ، وذلك أنهم كانوا يوالُونَ قُرَيْشاً على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ من قريش لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم: تأكلون ما قَتَلْتُمْ ولا تأكلون ما قَتَلَ اللَّه فذلك من مخاطبتهمْ هو الوحْيُ، والأولياء هم قريشٌ، وقال ابن زَيْد وعبد اللَّه بن كثير: بل الشياطينِ الجِنُّ، واللفظة على وجْهها، وأولياؤهم: كَفَرة قريش، ووحْيُهم بالوسوسة، وعلى ألسنة الكُهَّان. ثم نهى سبحانه عن طاعتهم بلفظ يتضمَّن الوعيدَ وعرض أصعب مثالٍ في أن يشبه المؤمن بالمُشْرك، قال ابن العربيِّ «2» : قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ، سمَّى اللَّه تعالى ما يقع في القلوبِ من الإلهام وحياً/، وهذا مما يطلقه شيوخُ المتصوِّفة، وينكره جُهَّال المتوسِّمين بالعلْمِ، ولم يعلموا أن الوحْيَ على ثمانيةِ أقسامٍ، وأن إطلاقه في جميعها جائزٌ في دِينِ اللَّه. انتهى من «أحكام القرآن» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 124] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) وقوله سبحانه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، لما تقدَّم ذكْر المؤمنين، وذكْر الكافرين، مثَّل سبحانه في الطائفتين بأنْ شَبَّه الذين آمنوا بَعْد كفرهم بأمواتٍ أُحْيُوا، هذا معنى قول ابن عباس «3» ومجاهد وغيرهما، وشَبَّه الكافرين وحَيْرَةَ جهلهم بقَوْمٍ في ظلمات يتردَّدون فيها، ولا يمكنهم الخروجُ منها ليبيِّن عزَّ وجلَّ الفرق بيْنَ الطائفتَيْن، والبَوْن «4» بين المنزلتين، ونُوراً أمكن ما يعني به الإيمان، قيل: ويحتمل أن يراد به النُّور الذي يُؤْتَاهُ المؤمن يوم القيامة، وجَعَلْنا في هذه الآية: بمعنى صيّرنا، فهي تتعدّى إلى

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 340) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 747) . (3) أخرجه الطبري (5/ 332) برقم (13843، 13844، 13845) عن مجاهد وبرقم (13846، 13847) عن ابن عباس، وبرقم (13849) عن السدي، وبرقم (13850) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (2/ 341) ، والسيوطي (3/ 81) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن مجاهد. (4) البون والبون: مسافة ما بين الشيئين. ينظر: «لسان العرب» (391) .

مفعولَيْن، الأول: مُجْرِمِيها، والثاني: أَكابِرَ، وفي الكلام على هذا: تقديمٌ وتأخير، وتقديره: وكذلك جعلنا في كلِّ قريةٍ مجرميها أَكَابِرَ، وقدَّم الأهمَّ إذ لعلَّة كِبْرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعولُ الأول: «أكابر» ، و «مجرميها» «1» مضافٌ، والمفعولُ الثاني: في قوله: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، ولِيَمْكُرُوا: نصب بلامِ الصيرورةِ والأكابر: جمع أكْبَر كما الأفاضلُ جمع أفْضَل، قال الفَخْر «2» : وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل

_ (1) اختلف في تقديرهما، والصحيح: أن يكون «في كلّ قرية» مفعولا ثانيا قدم على الأول، والأول «أكابر» مضافا ل «مجرميها» . والثاني: أن يكون «في كلّ قرية» مفعولا ثانيا أيضا مقدما، و «أكابر» هو الأول، و «مجرميها» بدل من «أكابر» ذكر ذلك أبو البقاء. الثالث: أن يكون «أكابر» مفعولا ثانيا قدم، و «مجرميها» مفعول أول آخر، والتقدير: جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر- فيتعلق الجار بنفس الفعل قبله، ذكر ذلك ابن عطية. قال الشيخ: «وما أجازاه- يعني أبا البقاء وابن عطية- خطأ وذهول عن قاعدة نحوية، وهو أن «أفعل» التفضيل إذا كان ب «من» ملفوظا بها أو مقدرة، أو مضافة إلى نكرة كانت مفردة مذكرة على كل حال، سواء كانت لمذكر أم مؤنث مفرد أو مثنى أم مجموع. وإذا ثنيت أو جمعت أو أنثت، طابقت ما هي له، ولزمها أحد أمرين: إمّا الألف واللام، وإمّا الإضافة لمعرفة. وإذا تقرر ذلك، فالقول بكون «مجرميها» بدلا، وبكونه مفعولا أول، و «أكابر» مفعول ثان خطأ، لاستلزام أن يبقى «أكابر» مجموعا، وليست فيه ألف ولام، ولا هي مضافة لمعرفة. قال: وقد تنبه الكرماني إلى هذه القاعدة فقال: «أضاف «أكابر» إلى «مجرميها» لأن «أفعل» لا يجمع إلّا مع الألف واللام، أو مع الإضافة» . قال الشيخ: وكان ينبغي أن يقيد بالإضافة إلى معرفة. قلت: أما هذه القاعدة فمسلمة ولكن قد ذكر مكي ما ذكر ابن عطية سواء، وما أظنه أخذ إلّا منه، وكذلك الواحدي أيضا، ومنع أن يجوز إضافة «أكابر» إلى «مجرميها» . قال الواحدي- رحمه الله-: «والآية على التقديم والتأخير، تقديره: جعلنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن يكون «الأكابر» مضافة، لأنه لا يتم المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل، لأنك إذا قلت: جعلت زيدا، وسكت، لم يفد الكلام حتّى تقول: رئيسا أو ذليلا أو ما أشبه ذلك، ولأنك إذا أضفت «الأكابر» فقد أضفت النعت إلى المنعوت، وذلك لا يجوز عند البصريين» . قلت: هذان الوجهان اللذان ردّ بهما الواحدي ليسا بشيء. أما الأول فلا نسلم أنا نضمر المفعول الثاني، وأنه يصير الكلام غير مفيد، وما أورده من الأمثلة فليس مطابقا، لأنا نقول: إنّ المفعول الثاني هنا مذكور مصرح، وهو الجار والمجرور السابق. وأما الثاني فلا نسلم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها، لأن المجرمين: أكابر، وأصاغر، فأضاف للبيان، لا لقصد الوصف. الرابع: أن المفعول الثاني محذوف. قالوا: وتقديره: جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها فسّاقا ليمكروا. وهذا ليس بشيء لأنه لا يحذف شيء، إلا الدليل، والدليل على ما ذكروه غير واضح. وقال ابن عطية: ويقال: أكابرة، كما يقال: أحمر وأحامرة. ينظر: «الدر المصون» (3/ 171- 172) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 143) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 إلى 129]

رياستهم أقْدَرُ على الغَدْرِ والمَكْرِ ورُكُوبِ الباطلِ من غيرهم ولأن كثرة المال والجاه يَحْمِلاَنِ الإنسان على المبالغةِ في حِفْظهما وذلك الحِفْظُ لا يتمُّ إلا بجميع الأخلاق الذميمةِ كالغَدْر والمَكْر والكَذِب والغِيبة والنَّميمة والأَيْمَان الكاذبة ولو لم يكن للمالِ والجاهِ سوى أنَّ اللَّه تعالى حَكَم بأنه إنما وصفَ بهذه الأوصافِ الذميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه، لكفى ذلك دليلاً على خَسَاسة المالِ والجَاهِ. انتهى، وما ذكره من المال والجاه هو الأغلَبُ. وَما يَشْعُرُونَ، أي: ما يعلمون. وقوله سبحانه: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ، أي: علامةٌ ودليلٌ على صحَّة الشرع، تشطَّطوا، وقالوا: لَنْ نؤمن حتَّى يُفْلَقَ لنا البَحْرُ، ويحيى لنا الموتى، ونحْوَ ذلك، فردَّ اللَّه تعالى عليهم بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فيمن اصطفاه، وانتخبه، لا فيمن كَفَرَ، وجعل يتشطَّط على اللَّه سبحانه، قال الفَخْر «1» : قال المفسِّرون: قال الوليدُ بْنُ المُغِيرَةِ «2» : لو كانتِ النبوَّة حقًّا، لكنْتُ أولى بها، قال الضَّحَّاك: أراد كلُّ واحد من هؤلاء الكفرة أنْ يُخَصَّ بالوحْيِ والرسالةِ كما أخبر عنهم سبحانه: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] انتهى. ثم توعَّد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند اللَّه صَغَارٌ وذلَّة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 129] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 143) . (2) الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، أبو عبد شمس: من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش، ومن زنادقتها. يقال له «العدل» لأنه كان عدل قريش كلها: كانت قريش تكسو «البيت» جميعها، والوليد يكسوه وحده. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وضرب ابنه هشاما على شربها. وأدرك الإسلام، وهو شيخ هرم، فعاداه وقاوم دعوته. قال ابن الأثير: وهو الذي جمع قريشا، وقال: «إن الناس يأتونكم أيام الحج، فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا: كاهن: ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون وليس يشبه واحدا مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه: «ساحر» لأنه يفرق بين المرء وأخيه، والزوج وزوجته!» وهلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر، ودفن بالحجون. وهو والد سيف الله خالد بن الوليد. ينظر: «الأعلام» (8/ 122) ، «الكامل» لابن الأثير (2/ 26) ، «اليعقوبي» (1/ 215) .

وقوله سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... الآية: مَنْ: شرط، ويَشْرَحْ جوابُ الشرط. والآيةُ نصٌّ في أن اللَّه تعالى يريدُ هدى المؤمن، وضلالَ الكافر، وهذا عند جميعِ أهْل السنَّة بالإرادةِ القديمةِ التي هي صفةُ ذاته تبارك وتعالى، والهدى هنا: هو خَلْق الإيمان في القَلْبِ، وشَرْحُ الصدرِ: هو تسهيلُ الإيمان، وتحبيبُه، وإعدادُ القَلْبِ لقبولِهِ وتحصيلِهِ، والصَّدْر: عبارةٌ عن القلب، وفي يَشْرَحْ ضمير يعود على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ/ يَعْضُدُهُ اللفظ والمعنى، ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، والقولُ بأنه عائدٌ على «المَهْدِيِّ» - قولٌ يتركَّب عليه مذهب القَدَريَّة في خَلْق الأعمال، ويجبُ أن يُعتقد ضَعْفُهُ، والحَذَرُ منه، ورُوِيَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم «أنه لَمَّا نزلَتْ هذه الآية، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُشْرَحُ الصَّدْرُ؟ قَالَ: إذَا نَزَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ، انشرح لَهُ الصَّدْرُ، وانفسح، قَالُوا: وَهَلْ لِذَلِكَ عَلاَمَةٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الإنَابَةُ إلَى دَارِ الخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ، قَبْلَ المَوْتِ» ، والقول «1» في قوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ كالقول في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، وقرأ حمزة وغيره: «حَرَجاً» - بفتح الراء-، وروي أن عمر بن الخطاب (رضي اللَّه عنه) قرأها يوماً بفتح الراء، فقرأها له بعضُ الصَّحابة بكَسْر الراء، فقال: ابغوني رجُلاً من كِنَانَةَ، وليكنْ رَاعياً، وليكُنْ من بني مدلج، فلما جاء، قال له: يَا فتى، مَا الحَرِجَةُ عنْدَكُمْ؟ قال الشَّجَرَةُ تكُونُ بَيْن الأشجار لا تَصِلُ إليها راعيَةٌ ولا وَحْشِيَّة، قال عمر: كذلِكَ قَلْبُ المنافق لا يَصِلُ إليه شَيْءٌ من الخير «2» . وقوله سبحانه: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ، أي: كأنَّ هذا الضّيّق الصّدر متى حاول

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 83) عن ابن مسعود. وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي في «الشعب» وعزاه إلى عبد بن حميد، عن الفضيل بنحوه. [.....] (2) أخرجه الطبري (5/ 337) برقم (13865) ، وذكره البغوي (2/ 129) وابن عطية (2/ 343) ، وابن كثير (2/ 175) ، والسيوطي (3/ 84) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن أبي الصلت الثقفي، عن عمر بن الخطاب.

الإيمان أو فكَّر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذُ باللَّه، كصعوبةِ الصُّعود في السماء، قاله ابن جريج وغيره «1» ، وفِي السَّماءِ، يريد: مِنْ سفل إلى علوٍ، وتحتمل الآية أنْ يكون التشبيهُ بالصاعدِ في عَقَبَةٍ كَئُود كأنه يَصْعَدُ بها في الهواء، ويَصْعَدُ: معناه: يعلو، ويَصَّعَّدُ: معناه: يتكلَّف من ذلك ما يشقُّ عليه. وقوله: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ، أي: وكما كان الهدى كله من اللَّه، والضلال بإرادته تعالى ومشيئته كذلك يجعل اللَّه الرجْسَ، قال أهل اللغة: الرجْسُ يأتي بمعنى العَذَابِ، ويأتي بمعنى النَّجَس. وقوله تعالى: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ... الآية: هذا إشارة إلى القرآن والشرْعِ الذي جاء به نبيُّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم قاله ابن عباس، وفَصَّلْنَا، معناه: بيَّنا وأوضحنا «2» . وقوله سبحانه: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، أي: للمؤمنين، والضمير في قوله: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عائد عليهم، والسَّلام: يتجه أن يكون اسما من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، ويتجه أن يكون مصدراً بمعنى السلامة. وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يريد في الآخرة بعد الحشر، ووليّهم، أي: وليّ الإنعام عليهم، وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ، أي: بسَبَبِ ما كانوا يُقَدِّمون من الخير، ويفعلون من الطاعة والبر. وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، والمعنى: واذكر يَوْمَ، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: نقول: يا معشر الجنِّ، وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ: معناه: أفرطتم، ومِنَ الْإِنْسِ: يريد: في إضلالهم وأغوائهم قاله ابن عباس وغيره «3» ، وقال الكُفَّار من الإنْس، وهم أولياء الجنِّ الموبَّخين على جهة الاعتذار عن الجنِّ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، أي: انتفع وذلك كاستعاذتهم بالجنِّ إذ كان العربيُّ إذا نزل وادياً، ينادي: يا رَبَّ الوادِي، إنِّي أستجيرُ بك في هذه الليلة، ثم يرى سلامته إنما هي بحفْظِ جَنِّيِّ ذلك الوادِي، ونحو ذلك، وبلوغ الأجل المؤجّل: هو

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 340) برقم (13878، 13879) ، وذكره ابن عطية (2/ 343) ، وابن كثير (2/ 175) ، والسيوطي (3/ 84) ، وعزاه لأبي الشيخ عن ابن جريج. (2) أخرجه الطبري (5/ 442) برقم (13886) ، وذكره ابن عطية (2/ 344) . (3) أخرجه الطبري (5/ 442) برقم (13888) ، وذكره ابن عطية (2/ 345) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.

الموتُ، وقيل: هو الحشر. وقوله تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ ... الآية: إخبارٌ من اللَّه تعالى/ عما يقولُ لهم يوم القيامة إثْرَ كلامهم المتقدّم، ومَثْواكُمْ، أي: موضع ثوائكم كَمُقَامِكُمُ الذي هو مَوْضِعُ الإقامة قاله الزَّجَّاج، والاستثناءُ في قوله: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قالتْ فرقة: «مَا» بمعنى «مَنْ» ، فالمراد: إلا مَنْ شاء اللَّه مِمَّنْ آمن في الدنيا بعد، إن كان مِنْ هؤلاء الكَفَرة، وقال الطبريُّ «1» : إن المستثنى هي المُدَّة التي بَيْنَ حشرهم إلى دخولهم النار، وقال الطبريُّ «2» ، عن ابن عباس: إنه كان يتأوَّل في هذا الاستثناء أنه مبلغ حالِ هؤلاء في علْمِ اللَّه «3» ، ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحَدٍ أنْ يحكم على اللَّه في خَلْقه لا يُنْزِلُهم جنَّةً ولا ناراً. قال ع «4» : والإجماع على التخليد الأبديِّ في الكُفَّار، ولا يصحُّ هذا عن ابن عباس (رضي اللَّه عنه) . قال ص: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ: قيل: استثناء منقطعٌ، أي: لكِنْ ما شاء اللَّه مِنَ العذابِ الزائِدِ على النَّار، وقيل: متصلٌ، واختلفوا في تقديره، فقيل: هو استثناء مِنَ الأشخاصِ، وهم مَنْ آمن في الدنيا، ورُدَّ بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه، فيكون منقطعاً لا متصلاً لأنَّ مِنْ شرط المتصل اتحاد زمانَيِ المُخْرَجِ والمُخْرَجِ منه. انتهى، وقيل غير هذا. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً، قال قتادة «5» : معناه: نجعل بعضهم وليَّ بعض في الكفر والظلم، وقال أيضاً: المعنى نجعلُ بعضهم يَلِي بعضاً في دخول النار، وقال ابن زيد: معناه: نسلِّط بعض الظالمين على بعض، ونجعلهم أولياء النقمة «6» منهم.

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 343) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 343) . (3) أخرجه الطبري (5/ 343) برقم (13895) ، وذكره البغوي (2/ 131) ، وابن عطية (2/ 345) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 346) . (5) أخرجه الطبري (5/ 344) برقم (13896) ، وذكره البغوي (2/ 131) ، وابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة. (6) أخرجه الطبري (5/ 344) برقم (13898) ، وذكره ابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن زيد.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 130 إلى 132]

قال ع «1» : وقد حفظ هذا في استعمال الصحابة والتابعين كقول ابن الزُّبَيْر: أَلاَ إنَّ فم الذّبّان قتل لطيم الشّيطان «2» وكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 130 الى 132] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وقوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ ... الآية: هذا الكلامُ داخلٌ في القول يَوْمَ الحشر. قال الفَخْر «3» : قال أهل اللغة: المَعْشَر: كلُّ جماعةٍ أَمْرهم واحدٌ، وتَحْصُلُ بينهم معاشرةٌ ومخالطةٌ، فالمَعْشَر: المُعَاشِر. انتهى، ونْكُمْ : يعني: مِنَ الإنس قاله ابن جُرَيْج «4» وغيره، وقال ابن عباس: من الطائفَتَيْنِ «5» ، ولكنْ رسلُ الجنّ هم رسل رسل الإنس، وهم النّذر، وقُصُّونَ : من القصص، وقولهم: هِدْنا : إقرار منهم بالكفر. وقوله سبحانه: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا : التفاتة فصيحةٌ تضمَّنت أنَّ كفرهم كان بأذَمِّ الوجوه لهم، وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل رَّتْهُمُ أن يكون بمعنى: أشبعتهم وأطعمتهم بحَلْوَائها كما يقال: غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ. وقوله سبحانه: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ : الجمع بيْنَ هذه الآية وبَيْن الآي التي تقتضي إنكار المشركين الإشْرَاكَ هو إمَّا بأنها طوائفُ، وإما بأنها طائفةٌ واحدةٌ في مواطنَ شتى. وقوله: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، أي: ذلك الأمر، والْقُرى: المدن، والمراد: أهل

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 346) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 346) . (3) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 159) . (4) أخرجه الطبري (5/ 345) برقم (13900) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 346) نحوه، وابن كثير (2/ 177) ، والسيوطي (3/ 86) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج بنحوه، وعزاه أيضا لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....] (5) أخرجه الطبري (5/ 345) برقم (13900) ، وذكره ابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 177) بنحوه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 إلى 135]

القرى، وبِظُلْمٍ: يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لم يكُنْ سبحانه لِيُهْلِكَهم دون نِذَارة، فيكون ظُلْماً لهم، واللَّه تعالى ليس بظلاَّم للعبيد. والآخر: أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يُهْلِكْهم بظلمٍ واقعٍ منهم دون أنْ ينذرهم، وهذا هو البيِّن القويُّ، وذكر الطبري (رحمه اللَّه) التأويلين. وقوله سبحانه: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ... الآية: إخبارٌ من اللَّه سبحانه أنَّ المؤمنين في الآخرة على درجاتٍ من التفاضُل بحَسَب أعمالهم، وتفضُّل المولى سبحانه عليهم، ولكنْ كلٌّ راضٍ بما أعطِيَ غايةَ الرضا، / والمشركون أيضاً على دركاتٍ من العذابِ، قلتُ: وظاهر الآية أن الجنَّ يثابون وينالُونَ الدَّرَجَاتِ والدَّرَكَاتِ، وقد ترجم البخاريُّ على ذلك، فقال: ذِكْر الجنِّ وثَوَابِهِم وعقابِهِم لقوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... الآية، إلى قوله: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، قال الداوديّ: قال الضحاكُ: مِنَ الجنِّ مَنْ يدخل الجنَّة، ويأكل ويشرب «1» . انتهى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وقوله سبحانه: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ الآيةُ متضمِّنةٌ وعيداً وتحذيراً من بطْشِ اللَّه عزَّ وجلَّ في التعجيل بذلك، وإمَّا مع المُهْلَة ومرورِ الجَدِيدَيْن فذلك عادته سبحانه في الخَلْق بإذهاب خَلْقِ واستخلاف آخرين. وقوله سبحانه: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ، هو من الوعيدِ بقرينة: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، أي: وما أنتم بناجين هَرَباً فتعجزوا طالبكم، ثم أمرَ سبحانَه نبيَّه- عليه السلام- أنْ يتوعدَّهم بقوله: اعْمَلُوا، أي: فسترون عاقبةَ عملكم الفاسدِ، وصيغةُ «افعل» هنا: هي بمعنى الوعيد والتهديد، وعَلى مَكانَتِكُمْ: معناه: على حالكم وطريقتكم، وعاقِبَةُ الدَّارِ، أي: مآل الآخرة، ويحتمل مآل الدنيا بالنصر والظهور، ففي الآية إعلام بغيب.

_ (1) ذكره السيوطي (3/ 87) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» عن الضحاك.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 إلى 138]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 138] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ، يعني: مشركي العربِ الذين تقدَّم الردُّ عليهم من أول السورة، وذَرَأَ: معناه: خلَق وأنشأَ وبَثَّ، وسبَبُ نزول هذه الآية أنَّ العرب كانَتْ تجعل من غَلاَّتها وزُرُوعها وثمارها وأنعامها جُزْءاً تسميِّه للَّه، وَجْزْءاً تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفِّي والاهتبال بنَصيبِ الأصنام أكْثَرَ منها بنصيب اللَّهِ إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فَقْر، وليس ذلك باللَّه سبحانه، فكانوا إذا جمعوا الزَّرْعَ، فهبَّت الريحُ، فحملَتْ مِنَ الذي للَّه إلى الذي لشركائِهِمْ، أقروه، وإذا حملَتْ من الذي لشركائِهِمْ إلى الذي للَّه، ردُّوه، وإذا لم يُصِيبُوا في نصيبِ شركائهم شيئاً، قالوا: لا بُدَّ للآلهة مِنْ نفقةٍ، فيجعلون نصيب اللَّه تعالى في ذلك قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهدٌ والسديُّ وغيرهم «1» أنهم كانوا يفعلُونَ هذا ونحوه من الفعْلِ وكذلك في الأنعامِ كانوا إذا أصابتهم السَّنَةُ، أكلوا نصيبَ اللَّه، وتحامَوْا نصيبَ شركائهم. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ، الكثير هنا يرادُ به مَنْ كان يَئِدُ «2» مِنْ مشركي العرب، والشركاء هاهنا: الشياطين الآمِرُونَ بذلك، المزيِّنون له، والحاملون عليه أيضاً من بني آدم، ومقصد الآية الذمُّ للوأد والإنحاء على فعلته، ولِيُرْدُوهُمْ: معناه: ليهلكوهم من الرّدى، ولِيَلْبِسُوا: معناه: ليخلّطوا. وقوله سبحانه: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة اللَّه

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 350) برقم (13902) عن ابن عباس، وبرقم (13905) عن مجاهد، وبرقم (13909) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 349) ، وابن كثير (2/ 179) عن ابن عباس، والسيوطي (3/ 89) وعزاه لابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس، وعزاه أيضا لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد. (2) وأد البنات، أي: قتلهن، قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت، دفنها حين تضعها والدتها حية مخافة العار والحاجة. ينظر: «لسان العرب» (4745) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 139 إلى 140]

عزَّ وجلَّ، وفيها ردٌّ على من قال بأن المرء يَخْلُقُ أفعاله، وقوله: فَذَرْهُمْ: وعيدٌ محضٌ. وقوله سبحانه: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها الآيةُ تتضمَّن ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذباً منهم على الله سبحانه، وحِجْرٌ: معناه: التحجيرُ، وهو المنعُ والتحريمُ، وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا: قال جماعةٌ من المفسِّرين: إنَّهم كانت لهم سُنَّة في أنعامٍ مَّا ألاَّ يُحَجُّ عليها، فكانَتْ تُرْكَبُ في كلِّ وجه إلا في الحَجِّ، وقالت فرقة: بل ذلك في الذبائحِ، جعلوا لآلهتهم نصيباً منها لا يذكرون الله على ذبحها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 139 الى 140] وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وقوله سبحانه: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ... الآية: كان/ مِنْ مذاهبهم الفاسدةِ في بَعْض الأنعامِ أنْ يحرِّموا ما وَلَدَتْ على نسائهم، ويخصِّصونه لذُكُورهم، ف أَزْواجِنا: يراد به جماعةُ النساءِ التي هِيَ معدَّة أن تكون أزواجاً قاله مجاهد «1» ، وقوله: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً، يعني: أنه كان من سُنَّتهم أنَّ ما خرج من الأجنَّة ميتاً مِنْ تلك الأنعام الموقوفة، فهو حلالٌ للرجال والنساء جميعاً، وكذلك ما مات مِنَ الأنعامِ الموقوفةِ نَفْسِها، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات. وقوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ... الآية: تتضمَّن التشنيع بسوء فعلهم، والتَّعْجيبَ مِنْ سوء حالهم فيما ذَكَر، قال عكرمة: وكان الوَأْدُ في رَبِيعَةَ وفِي مُضَرَ «2» . قال ع «3» : وكان جمهورُ العرب لا يفعله، ثم إنَّ فاعليه كان منهم مَنْ يفعله

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 358) برقم (13944) ، وذكره البغوي (2/ 134) ، وابن عطية (2/ 352) ، والسيوطي (3/ 90) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد. (2) أخرجه الطبري (5/ 360) برقم (13953) ، وذكره البغوي (2/ 134) ، وابن عطية (2/ 352) ، والسيوطي (3/ 91) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ عن عكرمة. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 352) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 142]

خَوْفَ العَيْلَة والافتقار، وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السّباء، وقَدْ ضَلُّوا: إخبارٌ عنهم بالحَيْرة، وَما كانُوا: يريد في هذه الفَعْلَةِ، ويحتمل أن يريدَ: وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفَعْلة مهتدين، ولكنَّهم زادوا بهذه الفعلة ضلالا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 142] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ... الآية: تنبيهٌ على مواضع الاِعتبار، وأَنْشَأَ: معناه: خلق واخترع، ومَعْرُوشاتٍ، قال ابنُ عَبَّاس: ذلك في ثَمَر العِنَبِ، مِنْها: ما عرش وسمك، ومنها: ما لم يعرش «1» ، ومُتَشابِهاً: يريد: في المنظر، وغَيْرَ مُتَشابِهٍ: في الطعم قاله ابن جُرَيْج وغيره «2» ، وقوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ: نصٌّ في الإباحة، وقوله سبحانه: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ: قال ابن عباس وجماعة: هي في الزكاة المفْرُوضة «3» . قال ع «4» : وهذا القولُ مُعْتَرَضٌ بأن السورة مكِّيَّةٌ وبأنَّه لا زكاة فيما ذُكِرَ من الرُّمَّانِ، وما في معناه، وحكى الزجَّاج أنَّ هذه الآية قيل فيها: إنها نزلَتْ بالمدينة، وقال مجاهدٌ وغيره: بل قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ: نَدْبٌ إلى إعطاء حقوقٍ مِنَ المال غَيْر الزكاة «5» ، والسُّنَّة أن يُعْطِيَ الرجُلُ من زرعه عند الحصَادِ، وعِنْدَ الذَّرْوِ، وعنْدَ تكديسه في البَيْدَرِ «6» ، فإذا صفى وكال، أخرج من ذلك الزكاة.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 361) برقم (13961) ، وذكره البغوي (2/ 135) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 92) ، وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبري (5/ 362) برقم (13962) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 92) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ، عن ابن جريج. (3) أخرجه الطبري (5/ 363) برقم (13974) ، وذكره البغوي (2/ 135) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 94) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 353) . (5) أخرجه الطبري (5/ 365) برقم (13996) ، وذكره البغوي (2/ 135) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 92) وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ والبيهقي عن مجاهد. (6) البيدر: الأندر (شامية) وأندر القمح الكدس منه خاصة. وفي المعجم الوسيط: البيدر: الجرن، والقمح-

[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 إلى 145]

وقالتْ طائفة: هذا حكم صدَقَاتِ المسلمين حتى نزلَت الزكاةُ المفروضةُ، فنسخَتْها. قال ع «1» : والنسخ غَيْرُ مترتِّب في هذه الآية، ولا تَعَارُضَ بينها وبيْن آية الزكاة، بل تَنْبَنِي هذه على النَّدْبِ، وتلك على الفرض. وقوله سبحانه: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ النهْيُ عن الإسراف: إما للناس عن التمنُّع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعْلِ، وإما للولاة عن التشطُّط على الناسِ والإذاءة لهم، وكلٌّ قد قيلَ به في تأويل الآية. وقوله سبحانه: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً حَمُولَةً: عطْفٌ على جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ. التقدير: وأنشأنا من الأنعامِ حمولةً، والحَمُولَةُ: ما تحمل الأثقال مِنَ الإبل والبقر عنْدَ مَنْ عادته أنْ يحمل عليها، والفَرْش: ما لا يحمل ثقلاً كالغنم وصِغَار البَقَر والإبل، وهذا هو المرويُّ عن ابْنِ مسعود وابن عباس والحَسَن «2» وغيرهم، ولا مَدْخَل في الآية لغَيْر الأنعام، وقوله: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ: نصُّ إباحةٍ، وإزالةُ مَا سَنَّه الكفرة من البَحِيرَة والسَّائبة وغير ذلك، ثم تابع النهْيَ عن تلك السُّنَن/ الآفكة بقوله سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وهي جمع خُطْوَة، أي: لا تَمْشُوا في طريقه، قُلْتُ: ولفظ البخاريِّ: خُطُواتِ من الخَطْو، والمعنى: آثاره. انتهى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 145] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لآ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

_ - ونحوه بعد دياسه وتقويمه. ينظر: «لسان العرب» (229، 4382) ، و «المعجم الوسيط» (78) . [.....] (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 353) . (2) أخرجه الطبري (5/ 372، 373) برقم (14050، 14055، 14056، 14057) عن ابن مسعود، (14051، 14060، 14061) عن ابن عباس، و (14058، 14059، 14067) عن الحسن، وغيرهم منهم (14052، 14053، 14054) عن مجاهد، و (14063، 14064) عن قتادة، وذكره ابن عطية (2/ 354) ، وابن كثير (2/ 182) ، والسيوطي (3/ 94) وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والطبراني، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود.

وقوله سبحانه: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، واختلف في نَصْبِها فقيل: على البدل من «مَا» في قوله: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وقيل: على الحال، وقيل: على البدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً، وهذا أصوب الأقوال، وأجراها على «1» معنى الآيةِ، والزَّوْج: الذكر، والزَّوْج الأنثى، فكل واحدٍ منهما زَوْجُ صاحبِهِ، وهي أربعة أنواعٍ فتجيء ثمانية أزواجٍ، والضَّأْن: جمع ضَائِنَة وضَائِن. وقوله سبحانه: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، هذا تقسيمٌ على الكفَّار حتى يتبيَّن كذبهم على اللَّه، أي: لا بد أن يكون حَرَّم الذكَرَيْن فيلزمكم تحريمُ جميعِ الذُّكور، أو الأنثيين فيلزمكم تحريمُ جميع الإناث، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، فيلزمكم تحريمُ الجميعِ، وأنتم لم تلتزموا شيئاً يوجبه هذا التقسيمُ، وفي هذه السؤالاتِ تقريعٌ وتوبيخٌ، ثم أتْبَعَ تقريعَهُم بقوله: نَبِّئُونِي، أي: أخبروني بِعِلْمٍ، أي: من جهة نبوَّة أو كتابٍ من كتب الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وإِنْ شرطٌ، وجوابه في نَبِّئُونِي. وقوله سبحانه: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ ... الآية: القولُ في هذه الآية في المعنى وترتيبِ التقسيمِ كما تقدَّم، فكأنه قال: أنتم الذين تدَّعون أن اللَّه حرم خصائصَ مِنْ هذه الأنعام لا يَخْلُو تحريمه مِنْ أن يكون في الذَّكَرَيْن أو في الأُنْثَيَيْن، أو فيما اشتملت عليه أرحامُ الأنثيين، لكنه لم يُحَرِّم لا هذا ولا هذا ولا هذا فلم يَبْقَ إلا أنه لم يَقَعْ تحريمٌ، قال الفَخْر «2» : والصحيحُ عندي أن هذه الآية لم ترد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هي استفهام على سبيل الإنكار، وحاصلُ الكلام: أنكم لا تعترفُون بنبوَّة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة. انتهى. وقوله سبحانه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا: استفهامٌ على سبيل التوبيخ، وشُهَداءَ: جمعُ شهيدٍ، وباقي الآية بيِّن. وقوله تعالى: قُلْ لآ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ... الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ بمكَّة، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقْتِ شيء محرّم

_ (1) في أ: علي. (2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 178) .

غير هذه الأشياء، ثم نزلَت، سورة المائدة بالمدينة، وزيدَ في المحرَّمات كالخمر، وكأكل كل ذي نابٍ من السباعِ ممَّا وردَتْ به السُّنَّة. قال ع «1» : ولفظة التحريمِ، إذا وردَتْ على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنَّها صالحةٌ أن تنتهي بالشيء المذكور غَايَةَ المنْعِ والحظرِ، وصالحةٌ بحسب اللغة أنْ تقف دون الغاية في حَيِّز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينةُ التسليمِ من الصحابة المتأوِّلينِ، وأجمع عليه الكلُّ منهم، ولم تَضْطَرِبْ فيه ألفاظ الأحاديث، وأمضاه الناسُ- وجب بالشَّرْعِ أنْ يكون تحريمه قَدْ وصَل الغايةَ من الحَظْر والمَنْع، ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر، وما اقترنت به قرينةُ اضطراب ألفاظ الحديثِ، واختلف الأمة فيه، مع علمهم بالأحاديث كقوله- عليه السلام-: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السّباع حرام» «2» ، وقد روي عنه

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 356) . (2) أخرجه البخاري (9/ 657) كتاب «الذبائح والصيد» ، باب أكل كل ذي ناب من السباع. حديث (5530) ، ومسلم (3/ 1533) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (13، 14/ 1932) ومالك (2/ 496) رقم (13) والطيالسي ص (136) ، حديث (1016) ، وأحمد (4/ 193) والدارمي (2/ 84- 85) كتاب «الأضاحي» ، باب ما لا يؤكل من السباع وأبو داود (4/ 159) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع حديث (3802) ، والترمذي (4/ 73) ، كتاب «الأطعمة» ، باب ما جاء في كراهية كل ناب، حديث (1477) ، والنسائي (7/ 200- 201) وابن ماجة (2/ 1077) كتاب «الصيد» ، باب أكل ذي ناب من السباع، حديث (3232) . وابن الجارود (889) والشافعي (2/ 172- 173) كتاب «الصيد والذبائح» ، رقم (604، 605) والحميدي (2/ 386) رقم (875) ، وابن حبان (5255- الإحسان) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 190) وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 28) والبيهقي (9/ 331) والبغوي في «شرح السنة» (6/ 31- بتحقيقنا) من طريق أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة به. وقال الترمذي: حديث مشهور من حديث أبي ثعلبة حسن صحيح. وأما حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم (3/ 1534) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (16/ 1934) ، ومالك (2/ 496) كتاب «الصيد» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (14) والشافعي (2/ 172) كتاب «الصيد والذبائح» ، حديث (603) وأحمد (2/ 236) ، والترمذي (4/ 74) كتاب «الأطعمة» ، باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب، حديث (1479) والنسائي (7/ 200) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل السباع، وابن ماجة (2/ 1077) كتاب «الصيد» ، باب أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (3233) والبيهقي (9/ 315) كتاب «الضحايا» باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب. بلفظ أكل كل ذي ناب من السباع حرام، أما حديث جابر بن عبد الله قال: «حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير» . -

«نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» «1» ، ثم اختلفتِ الصحابة ومَنْ بعدهم في تحريمِ ذلك، فجاز لهذه الوجوه لِمَنْ ينظر أَنْ يحمل لفظ التحريم على المَنْع الذي هو على الكراهية ونحوها، وما اقترنت به/ قرينةُ التأويل كتحريمه- عليه السلام-

_ - أخرجه أحمد (3/ 323) ، والترمذي (4/ 73) كتاب «الأطعمة» باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب. حديث (1478) ، والبزار، والطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (5/ 47) . وقال الترمذي: حسن غريب. أما حديث خالد بن الوليد قال: «غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر، فأتت اليهود، فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم حمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» . أخرجه أحمد (4/ 89، 90) وأبو داود (4/ 160- 161) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع، حديث (3806) والنسائي (7/ 202) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل لحوم الخيل، والدارقطني (4/ 287) باب الصيد والذبائح والأطعمة، حديث (60، 61، 63) ، والبيهقي (9/ 328) كتاب «الضحايا» ، باب بيان ضعف الحديث الذي روي في النهي عن لحوم الخيل. وقال النسائي في الحديث (يشبه أن يكون صحيحا، ولكنه منسوخ بإباحة الخيل بعد ذلك) . أما حديث المقدام بن معد يكرب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة، من مال معاهد» . أخرجه أحمد (4/ 131) ، وأبو داود (4/ 160) كتاب «الأطعمة» باب النهي عن أكل السباع، حديث (3804) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 209) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب أكل لحوم الحمر الأهلية، والدارقطني (4/ 287) ، باب الصيد والذبائح، حديث (59) والبيهقي (9/ 332) كتاب «الضحايا» ، باب ما جاء في أكل لحوم الحمر الأهلية. (1) أخرجه مسلم (3/ 1543) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب، حديث (16/ 1934) وأبو داود (2/ 383) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع، حديث (3803) والدارمي (2/ 85) كتاب «الأضاحي» ، باب ما لا يؤكل من السباع وأحمد (1/ 244، 289، 302، 373) ، وابن الجارود (892) وابن حبان (5256- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 190) والبيهقي (9/ 315) كتاب «الضحايا» ، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 95) والبغوي في «شرح السنة» (6/ 32- بتحقيقنا) . من طريق أبي بشر- والحكم عند بعضهم- عن ميمون بن مهران عن ابن عباس به. وقد رواه ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أخرجه أبو داود (2/ 383) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع، حديث (3805) والنسائي (7/ 206) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب إباحة أكل لحوم الدجاج، وابن ماجة (2/ 1077) كتاب «الصيد» ، باب أكل كل ذي ناب من السباع حديث (3234) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 190) وأحمد (1/ 339) والبيهقي (9/ 315) كتاب «الضحايا» ، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب، وابن الجارود (893) من طريق علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 إلى 150]

لُحُومَ الحُمُرِ الأنْسِيَّةِ «1» ، فتأول بعض الصحابة الحاضِرِينَ ذلك لأنها لم تخمَّس، وتأوَّل بعضهم أن ذلك لئَلاَّ تفنى حمولةُ النَّاس، وتأول بعضهم التحريمَ المَحْضَ، وثبت في الأمة الاختلافُ في لَحْمها، فجائز لِمَنْ ينظر من العلماءِ أنْ يحمل لفظ التحريمِ بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها، وباقي الآية بيّن. [سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 150] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) وقوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... الآية: هذا خبر مِنَ اللَّهِ سبحانه يتضمَّن تكذيبَ اليَهُودِ في قولهم: «إن اللَّه لم يحرِّم علينا شيئاً، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حَرَّمه إسرائيل على نفسه» ، وكُلَّ ذِي ظُفُرٍ: يراد به الإبلُ، والنَّعَام، والإوَزُّ ونحوه من الحيوانِ الذي هو غير مُنْفَرِجِ الأصابع، وله ظُفُر، وأخبرنا سبحانه في هذه الآية بتحريمِ الشحومِ عليهم، وهي الثُّرُوب وشَحْمُ الكلى، ومَا كان شحماً خالصاً خارجاً عن الاستثناء الذي في الآية، واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم، فعن مالكٍ: كراهيةُ شحومهم من غير تحريمٍ. وقوله تعالى: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما، يريد: ما اختلط باللحْمِ في الظَّهْرِ والأجنابِ ونحوه، قال السُّدِّيُّ وأبو صالح: الأَلْيَاتُ ممَّا حملَتْ ظهورهما «2» ، والحَوَايَا: ما تحوى في البَطْن، واستدار، وهي المَصَارِينُ والحُشْوة ونحوها، وقال ابن عباس وغيره: هي المَبَاعِر «3» ، وقوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، يريد: في سائر الشخص.

_ (1) في أ: الأهلية. (2) أخرجه الطبري (5/ 384) برقم (14112) عن السدي، و (14113) عن أبي صالح، وذكره ابن عطية (2/ 358) ، والسيوطي (3/ 101) وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن أبي صالح. (3) أخرجه الطبري (5/ 384) برقم (14114، 14124) عن ابن عباس، وبرقم (14115، 14116، 14117) عن مجاهد، وبرقم (14120، 14121) عن قتادة (14119) ، (14120) عن سعيد بن-

وقوله سبحانه: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يقتضي أنَّ هذا التحريم إنما كان عقوبةً لهم على بغيهم، واستعصائهم على أنبيائهم. وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَصادِقُونَ: إخبار يتضمَّن التعريضَ بكَذِبهم في قولهم: ما حرَّم اللَّهُ علينا شيئاً. وقوله سبحانه: فَإِنْ كَذَّبُوكَ: أي: فيما أخبرْتَ به أنَّ اللَّه حرَّمه عليهم، فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ أي في إمهاله إذ لم يعاجلْكم بالعقوبةِ، مع شدَّة جُرْمِكم، ولكنْ لا تغترُّوا بسعة رحمته فإن له بَأْساً لا يُرَدُّ عن القوم المجْرِمِين، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانَسَها من آياتِ مكَّة مرتفعٌ حكْمُها بآية القتالِ، ثم أخبر سبحانه نبيَّه- عليه السلام- بأن المشركين سيحتجُّون لتصويبِ ما هُمْ عليه من شركهم وتديُّنهم: بتحريمِ تلك الأشياءِ بإمهال اللَّه تعالى لهم، وتقريرِهِ حالهم، وأنه لو شاء غَيْرَ ذلك، لما تَرَكَهم على تلْك الحال، ولا حُجَّة لهم فيما ذكَروه لأنه سبحانه شاء إشراكهم وأقدرهم على الاكتساب، ويلزمهم على احتجاجهم أنْ تكون كلُّ طريقةٍ وكلُّ نحلةٍ صواباً، إذْ كلها لو شاء اللَّه لَمْ تكُنْ، وفي الكلامِ حذفٌ يدلُّ عليه تناسُقُ الكلامِ كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا، وليس في ذلك حُجَّة لهم، ولا شَيْء يقتضي تكذيبَكَ، ولكن، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بنحو هذه الشبهة مِنْ ظَنِّهم أنَّ ترك اللَّه لهم دليلٌ على رضاه بحالهم، وفي قوله تعالى: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا: وعيدٌ بيِّن. وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ. أي: مِنْ قِبَلِ اللَّه، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، يريد البالغةَ غاية المَقْصِدِ في الأمر الذي يحتجُّ له، ثم أعلم سبحانه أنَّه لو شاء، لهدى العالم بأسره، وهَلُمَّ: معناها: هَاتِ وهي حينئذ متعدِّية، وقد تكون بمعنى: «أَقْبِلْ» فلا تتعدى، وبعضُ العرب يجعلها اسم فعْلٍ ك «رُوَيْدَكَ» ، وبعضهم يجعلها فِعْلاً، ومعنى الآية: قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن اللَّه حرَّم ما زعمتم تحريمَهُ، فَإِنْ شَهِدُوا، أي: فإن افترى لهم أحدٌ أو زَوَّرَ شهادةً أو خبراً عن نبوَّة ونَحوَ ذلك، فجَنِّبْ أنْتَ ذلك، ولا تَشْهد معهم، قلْتُ: وهذه الآية/ والتي بعدها مِنْ نوعَ ما تقدّم من أن الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره ممَّن يمكن ذلك منه، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أي: يجعلون لَهُ أنداداً يسوُّونهم به، تعالى الله عن قولهم.

_ - جبير، (14125) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 358) ، والسيوطي (3/ 100) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 إلى 153]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) وقوله سبحانه: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً: هذا أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه- عليه السلام- أنْ يدعو جميع الخَلْق إلى سماع تلاوة ما حَرَّم اللَّه بشَرْع الإسلام المبعوثِ به إلى الأسود والأحمر، وما نصبَتْ بقوله: أَتْلُ، وهي بمعنى «الَّذِي» ، و «أنْ» ، في قوله: أَلَّا تُشْرِكُوا في موضع رفع، التقدير: الأمر أنْ، أو ذَاكَ أنْ، وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتحُ التوراة: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ... » إلى آخر الآيات «1» ، وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحْكَمَات المذْكُورة في آل عمران، اجتمعت عليها شرائعُ الخَلْقِ، ولم تنسخ قطُّ في «2» ملة، وقد قيل: إنها العَشْر الكلمات المنزَّلة على موسى، والإملاق: الفَقْر وعدَمُ المال قاله ابن عباس وغيره، قال القُشَيْريُّ: خوفُ الفقر قرينةُ الكفر، وحُسْنُ الثقةِ بالرَّبِّ سبحانه نتيجةُ الأَيمان. انتهى من «التحبير» . وقوله سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، قال مجاهد: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ : التجارة فيه «3» ، والأَشُدُّ هنا: الحَزْمُ والنظرُ في الأمور وحُسْنُ التصرُّف فيها، وليس هذا بالأَشُدِّ المقرونِ بالأربعين، بل هذا يكون مع صِغَر السِّنِّ في ناسٍ كثيرٍ. وقوله سبحانه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ : أمر بالاعتدال. وقوله سبحانه: لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها : يقتضي أن هذه الأوامر إنما هِيَ فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفّظ والتحرّز.

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 361) ، والسيوطي (3/ 103) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن الضريس، وابن المنذر عن كعب. (2) ذكره ابن عطية (2/ 361) . [.....] (3) أخرجه الطبري (5/ 393) برقم (14152) ، وذكره البغوي (2/ 141) ، وابن عطية (2/ 362) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 إلى 157]

وقوله تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا : يتضمَّن الشهاداتِ والأحكامَ والتوسُّطَ بيْنَ الناسِ وغيْرَ ذلك، أي: ولو كان ميل الحقِّ على قراباتكم. وقوله سبحانه: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ: الإشارة ب هذا هي إلى الشرعِ الذي جَاءَ به نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الطبريُّ «1» : الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدَّمت مِنْ قوله: قُلْ تَعالَوْا، وقال ابن مسعود: إن اللَّه سبحانه جَعَلَ طريقه صراطا مستقيما طرفه محمّد صلّى الله عليه وسلّم وشرعه، ونهايتُه الجنَّة، وتتشعَّب منه طُرُقٌ، فمن سَلَك الجادَّة نجا، ومن خَرَج إلى تلْكَ الطرُقِ أفْضَتْ به إلى النَّار «2» ، وقال أيضاً: خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَوْماً خطًّا، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطُوطاً، فَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ على كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهَا» ، ثم قرأ هذه «3» الآية. قال ع «4» : وهذه الآية تعمُّ أهل الأهواء والبِدَع والشُّذُوذ في الفُرُوع وغير ذلك من أهل التعمُّق في الجَدَلِ، والخَوْضِ في الكلامِ، هذه كلّها عرضة للزّلل، ومظنّة لسوء المعتقد، ولَعَلَّكُمْ ترجٍّ بحسبنا، ومن حيث كانَتِ المحرَّمات الأوَلُ لا يقع فيها عاقلٌ قد نظر بعَقْله، جَاءَتِ العبارةُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، والمحرَّمات الأُخَرُ شهواتٌ، وقد يقع فيها من العقلاءِ مَنْ لم يتذكَّر، وركوبُ الجادَّة الكاملة يتضمَّن فعل الفضائلِ، وتلك درجة التقوى. [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

_ (1) ينظر الطبري (5/ 396) . (2) أخرجه الطبري (5/ 397) برقم (14175) ، وذكره البغوي (2/ 141) نحوه، وابن عطية (2/ 364) ، وابن كثير (2/ 190) نحوه، والسيوطي (3/ 106) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن مردويه عن ابن مسعود. (3) أخرجه أحمد (1/ 435، 465) ، والنسائي في «التفسير» (1/ 485) رقم (194) ، والطيالسي (244) والطبري (8/ 65) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (17) ، والبزار (2210- كشف) ، والدارمي (1/ 67- 68) ، وابن حبان (1741- موارد) ، والحاكم (2/ 318) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 263) عن ابن مسعود مرفوعا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 106) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 364) .

وقوله سبحانه: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ، ثُمَّ في هذه الآية: إنما مُهْلَتها في ترتيب القول الذي أمر به نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم كأنه قال: ثم ممَّا قضَيْناه أنَّا آتينا موسَى الكتاب ويدعو إلى ذلك أن موسى- عليه السلام-/ متقدِّم بالزمانِ على نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وتلاوته ما حرّم الله، والْكِتابَ: التوراة، وتَماماً: مصدر، وقوله: عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ: مختلفٌ في معناه، فقالت فرقة: الَّذِي بمعنى الّذين وأَحْسَنَ: فعلٌ ماضٍ صلَةُ «الذين» ، وكأن الكلام: وآتينا موسَى الكتابَ تفضُّلاً على المحسنين من أهْل ملَّته، وإتماماً للنعمة عليهم، وهذا تأويل مجاهد «1» ويؤيِّده ما في مصحف ابْنِ «2» مسعود: «تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أحْسَنُوا» ، وقالت فرقة: المعنى: تماماً على ما أحْسَنَ هو مِنْ عبادة ربِّه، يعني: موسى- عليه السلام- وهذا تأويل الربيع وقتادة «3» ، وقالت فرقة: المعنى: تماماً على الذي أحسن اللَّه فيه إلى عبادة من النبوُّات وسائر النعم وبِلِقاءِ رَبِّهِمْ، أي: بالبعث. وقوله سبحانه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، هذا إشارة إلى القرآن، ومُبارَكٌ: وصف بما فيه من التوسُّعات وأنواعِ الخَيْرات، ومعناه: مُنَمًّى خيره مُكثَّر، والبركةُ: الزيادةُ والنموُّ، فَاتَّبِعُوهُ: دعاء إلى الدِّين، وَاتَّقُوا: أمر بالتقوَى العامَّة في جميع الأشياء بقرينةِ قوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، و «أنْ» في قوله: أَنْ تَقُولُوا في موضعِ نصبٍ، والعاملُ فيه: أَنْزَلْناهُ، والتقدير: وهذا كتاب أنزلناه كراهيةَ أنْ تقولوا، والطائفتان: اليهودُ والنصارى بإجماع المتأوِّلين، والدِّرَاسَة: القراءةُ والتعلُّم بها، ومعنى الآية: إزالة الحجة مِنْ أيدي قُرَيْشٍ وسائرِ العربِ، ولما تقرَّر أن البينة قد جاءَتْهم، والحجَّةَ قد قامَتْ عليهم- حَسُنَ بعد ذلك أنْ يقع التقريرُ بقوله سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها، أي: حاد عنها، وزاغ، وأعرض، وسَنَجْزِي الَّذِينَ: وعيد.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 398) برقم (14176، 14177) ، وذكره ابن عطية (2/ 364) ، وابن كثير (2/ 192) ، والسيوطي (3/ 106) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن مجاهد. (2) ينظر: «الشواذ» (ص 47) ، و «الكشاف» (2/ 80) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 364) . (3) أخرجه الطبري (5/ 399) برقم (14178) عن الربيع، وبرقم (14179، 14180) ، عن قتادة، وذكره ابن عطية (2/ 364) ، والسيوطي (3/ 106) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.

[سورة الأنعام (6) : آية 158]

[سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) وقوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ، أي: ينتظرُونَ، يعني: العرب المتقدّم الآن ذكرهم، والْمَلائِكَةُ هنا: هم ملائكة المَوْت الذين يصحبون «1» عزرائيل المخْصُوصَ بقَبْض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابنُ جْرَيْج «2» . وقوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ، قال الطبريُّ «3» : لموقف الحساب يَوْمَ القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعةٍ من المتأوِّلين «4» ، وقال الزَّجَّاج «5» : إن المراد: «أو يأتي عذاب ربك» . قال ع «6» : وعلى كلِّ تأويل فإنما هو بحذفِ مضافٍ، تقديره: أمر ربك، أو بَطْش رَبِّك، أو حسابُ ربك، وإلا فالإتيانُ المفهومُ من اللغة مستحيلٌ على اللَّه تعالى ألا ترى أن اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] فهذا إتيان قد وقع، وهو على المجازِ، وحذفِ المضافِ. قال الفَخْر «7» : والجواب المعتمَدُ عليه هنا أنَّ هذا حكايةُ مذهب الكفَّار، واعتقادِهِم، فلا يفتقر إلى تأويله، وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علاماتُ القيامةِ. انتهى. قلتُ: وما ذكره الفَخْر من أن هذا حكايةُ مذهب الكفار هي دعوى تفتقر إلى دليلٍ. وقوله سبحانه: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ، قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى طلوع

_ (1) ولا يصح تسميته ملك الموت بهذا حيث لم يرد عندنا أثر صحيح بذلك. (2) أخرجه الطبري (5/ 404، 405) برقم (14200) عن مجاهد، وبرقم (14201، 14202) عن قتادة، و (14205) ، عن ابن جريج، وذكره ابن عطية (2/ 366) ، والسيوطي (3/ 108) وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولعبد بن حميد عن مجاهد. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 404) . (4) أخرجه الطبري (5/ 404، 405) برقم (14201، 14202) عن قتادة، و (14200) عن مجاهد، و (14205) عن ابن جريج، وذكره ابن عطية (2/ 366) ، والسيوطي (3/ 108) وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (5) ينظر: «معاني القرآن» (2/ 307) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 366) . [.....] (7) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 159) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 159 إلى 161]

الشمْسِ من مغربها بدليلِ الَّتي بعدها. قال ع «1» : ويصحُّ أن يريد سبحانه بقوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ جميعَ ما يُقْطَعُ بوقوعه من أشراط الساعة، ثم خصَّص سبحانه بعد ذلك بقوله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الآيةَ التي ترتفع التوبةُ معها، وقد بيَّنت الأحاديثُ الصِّحاح في البخاريِّ ومسلمٍ أنها طلوع الشمس مِنْ مغربها، ومقْصِدُ الآية تهديدُ الكفَّار بأحوالٍ لا يخلُونَ منها، وقوله: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يريد: جميعَ أعمال البرِّ، وهذا الفَصْل هو للعُصَاة من المؤمنين كما أن قوله: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ هو للكافرين، / فالآية المشارُ إليها تقطع توبة الصّنفين، قال الداوديّ: قوله تعالى: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً، يريد أن النفس المؤمنة التي ارتكبت الكبائر لا تُقْبَلُ منها التوبة يومئذ، وتكونُ في مشيئة اللَّه تعالى كأن لم تَتُبْ، وعن عائشة (رضي اللَّه عنها) : إذا خرجَتْ أول الآيات، طُرِحَتِ الأقلامُ، وحُبِسَتِ الحَفَظَةُ، وشَهِدَتِ الأجساد على الأعمال. انتهى. وقوله سبحانه: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ: لفظ يتضمّن الوعيد. [سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 161] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، قال ابن عباس وغيره: المراد ب «الذين» اليهود والنصارى «2» ، أي: فَرَّقوا دين إبراهيم، ووَصَفَهم ب «الشِّيَعِ» إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حضٌّ للمؤمنين على الائتلاف وتركِ الاختلافِ، وقال أبو الأحْوَص وأم سلمة زوجُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الآية في أهْل البدع والأهواء والفتنِ، ومَنْ جرى مجراهم من أمة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم «3» ، أي: فرّقوا دين

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 367) . (2) أخرجه الطبري (5/ 413، 414) برقم (14266) عن ابن عباس، و (14263، 14264) عن قتادة، (14267) عن الضحاك.، وذكره البغوي (2/ 145) ، وابن عطية (2/ 367) ، وابن كثير (2/ 196) عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، والسيوطي (3/ 117) وعزاه للنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبري (5/ 415) برقم (14273) عن أبي الأحوص، و (14275) عن أم سلمة، وذكره ابن عطية (2/ 367) ، والسيوطي (3/ 118) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن أبي الأحوص، وعزاه لابن منيع في «مسنده» ، وأبي الشيخ عن أم سلمة.

الإسلام، وقرأ حمزة «1» والكسائيُّ: «فارَقُوا» ، ومعناه: تركوا. وقوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ: أي: لا تشفع لهم، ولا لهم بك تعلُّق، وهذا على الإطلاق في الكفَّار، وعلى جهة المبالغة في العُصَاة. وقوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ... الآية: وعيدٌ محضٌ، وقال السدي: هذه آية لم يؤمر فيها بقتالٍ، فهي منسوخة بالقتال «2» . قال ع «3» : الآية خبر لا يدخله نسخٌ، ولكنها تضمَّنت بالمعنى أمراً بموادعةٍ، فيشبه أنْ يقال: إن النسخ وقع في ذلك المعنَى الذي قد تقرَّر نسخه في آيات أخرى. وقوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ... الآية: قال ابن مسعود وغيره: بِالْحَسَنَةِ هنا: «لا إله إلا الله» ، وبِالسَّيِّئَةِ: الكفر «4» . قال ع «5» : وهذه هي الغاية من الطرفَيْنِ، وقالت فرقة: ذلك لفظٌ عامٌّ في جميع الحسناتِ والسيئاتِ، وهذا هو الظاهر، وتقديرُ الآية: مَنْ جاء بالحسنة، فله ثوابُ عَشْرِ أمثالها، وقرأ «6» يعقوبُ وغيره: «فَلَهُ عَشْرٌ» - بالتنوين- «أَمْثَالُهَا» - بالرفع-. وقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ... الآية: في غاية الوضوح والبيان، وقِيَماً: نعت للدّين، ومعناه: مستقيما، ومِلَّةَ: بدل من الدّين.

_ (1) وحجة الباقين قوله بعد: وَكانُوا شِيَعاً أي: صاروا أحزابا وفرقا. ينظر: «السبعة» (274) ، و «الحجة» (3/ 437، 438) ، و «إعراب القراءات» (1/ 73) ، و «معاني القراءات» (1/ 396) ، و «حجة القراءات» (278) ، و «العنوان» (93) ، و «شرح الطيبة» (4/ 288) ، و «شرح شعلة» (385) ، و «إتحاف» (2/ 39) . (2) أخرجه الطبري (5/ 414) برقم (14272) ، وذكره ابن عطية (2/ 368) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 368) . (4) أخرجه الطبري (5/ 416) برقم (14278) ، وذكره ابن عطية (2/ 368) ، وابن كثير (2/ 197) ، والسيوطي (3/ 118) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية» عن ابن مسعود. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 368) . (6) ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 39) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 368) ، وزاد نسبتها إلى الحسن، وسعيد بن جبير، وعيسى بن عمر، والأعمش. وينظر: «البحر المحيط» (4/ 261) ، و «الدر المصون» (3/ 227) ، و «شرح الطيبة» (4/ 288) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 إلى 165]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 165] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ... الآية: أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه- عليه السلام- أنْ يعلن بأنَّ مقصده في صلاته، وطاعتِهِ من ذبيحة وغيرها، وتصرفَهُ مدَّةَ حياتِهِ، وحالهُ من إخلاصٍ وإيمانٍ عند مماته- إنما هو للَّه عزَّ وجلَّ، وإرادةِ وجهه، وطَلَبِ رضاه، وفي إعلان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهذه المقالة ما يلزمُ المؤمنين التأسِّي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قَصْدَ وجه اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أنَّ صلاته ونسكه وحياته ومماته «1» بِيَدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، واللَّه يصرفه في جميع ذلك كَيْفَ شاء سبحانه، ويكون قوله: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ على هذا التأويل- راجعاً إلى قوله: لاَ شَرِيكَ لَهُ فقطْ، أو راجعاً إلى القول وعلى التأويل الأول، يرجع إلى جميع ما ذُكِرَ من صلاة وغيرها، وقالتْ فرقة: النُّسُكُ في هذه الآية: الذبائح. قال ع «2» : ويُحَسِّن تخصيصَ الذبيحة بالذِّكْر في هذه الآية أنها نازلةٌ قد تقدَّم ذكرها، والجَدَل فيها في السُّورة، وقالتْ فرقة: النسك في هذه الآية: جميع أعمال الطاعاتِ مِنْ قولك: نَسَكَ فُلاَنٌ، فَهُوَ نَاسِكٌ إذا تعبَّد، وقرأ السبعة سوى نافع: «وَمَحْيَايَ» - بفتح الياء-، وقرأ نافع «3» وحده: «وَمَحْيَايْ» - بسكون/ الياء-، قال أبو حَيَّان «4» : وفيه جمع بين ساكنَيْنِ، وسوَّغ ذلك ما في الألفِ من المَدِّ القائمِ مَقَام الحركَة. انتهى، وقوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أي: من هذه الأمة. وقوله سبحانه: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ... الآية: حكى

_ (1) في أ: ومونة. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 369) . (3) ينظر: «السبعة» (274) ، و «الحجة» (3/ 440) ، و «إعراب القراءات» (1/ 174) ، و «معاني القراءات» (1/ 398) ، و «العنوان» (94) ، و «شرح الطيبة» (4/ 289) ، و «شرح شعلة» (386) ، و «حجة القراءات» (279) ، و «إتحاف» (2/ 40) . (4) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 262) . [.....]

النَّقَّاش أنه روي أنَّ الكُفَّار قالوا للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: ارجع يا محمَّد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفَّل لك بكلِّ تباعة تتوقَّعها في دُنْيَاك وآخرتك، فنزلَتْ هذه الآية «1» ، وهي استفهام يقتضي التوبيخَ لهم، وأَبْغِي: معناه أَطْلُبْ فكأنه قال: أفَيَحْسُنُ عندكم أن أَطْلُبَ إلهاً غير اللَّه الذي هو رَبُّ كلِّ شيء، وما ذكَرْتُم من كَفَالَتِكُمْ باطلٌ ليس الأمرُ كما تظُنُّون، فلا تَكْسِبُ كلُّ نفس من الشَّرِّ والإثم إلا عليها وحْدها، وَلا تَزِرُ، أي: تحملُ وازِرَةٌ، أي: حاملةٌ حمل أخرى وثقلها، و «الوِزْر» : أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم تجوُّزاً واستعارة، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ: تهديد ووعيد، وقوله: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، أي: في أمري في قول بعضكم: هو سَاحِرٌ، وبعضكم: هو شاعرٌ، إلى غير ذلك قاله بعض المتأوِّلين، وهذا التأويلُ يَحْسُنُ في هذا الموضع، وإن كان اللفظ يعمُّ جميع أنواع الاختلافاتِ بَيْن الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك، وخَلائِفَ: جمع خَلِيفَةِ، أي: يخلف بعضُكم بعضاً لأن مَنْ أتى خليفةٌ لِمَنْ مضى، وهذا يتصوَّر في جميع الأممِ وسائرِ أصنافِ الناسِ، ولكنه يحسن في أمة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائِف للأمم، وليس لهم من يخلفهم إذ هم آخر الأمم، وعليهم تقومُ الساعة، وروى الحَسَنُ بْنُ أبي الحسن أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، ويروى: «أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» . وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ: لفظٌ عامٌّ في المالِ، والقوةِ، والجاهِ، وجودةِ النفُوسِ والأذهانِ، وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر اللَّه سبحانه الخلْقَ، فيَرَى المحْسِنَ من المُسيء، ولما أخبر اللَّه عزَّ وجلَّ بهذا، ففسح للنَّاس مَيْدَانَ العَمَل، وحضَّهم سبحانه على الاستباقِ إلى الخيراتِ، توعَّد ووَعَد تخويفاً منه وترجيةً، فقال: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ إما بأخَذَاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحَسُنَ أنْ يوصف عقابُ الآخرة ب «سريع» لما كان متحقّقاً مضمون الإتيانِ والوقوعِ، وكلُّ آت قريبٌ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: ترجيةٌ لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب اللَّه كثيرٌ، وهو اقتران الوعيد بالوعدِ لطفاً من اللَّه سبحانه بعبادِهِ، اللَّهم اجعلنا مِمَّنْ شملته رحْمَتُكَ وغُفْرانُكَ، بجُودِكَ وإحسانِكَ، ومِنْ كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي (رحمه اللَّه) قَالَ: من أراد ألاَّ يضره ذنْبٌ، فليقل: ربِّ أعوذ بك من عذابِكَ يَوْمَ تبعث عبادَكَ، وأعوذ بك مِنْ عاجل العذابِ، ومِنْ سوء الحسابِ، فإنك لسريعُ الحِسَاب، وإنك لغفور رحيم، ربّ إني ظلمت

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 370) .

نفسي ظُلْماً كثيراً، فاغفر لي وتُبْ عليَّ لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين. انتهى، نسأل اللَّه أنْ ينفع به ناظِرَهُ وأنْ يجعله لنا ذخراً ونوراً يسعى بين أيدينا يوم لقائه، والحمدُ للَّه الَّذي بنعمته تتمُّ الصالحاتُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسلما/. انتهى هذا الجزء مصحّحا بالمقابلة على خط مؤلفه شكر الله سعيه، وقدّس سرّه ويليه الجزء الثالث وأوله سورة الأعراف ولله الحمد والمنة

الجزء الثالث

[الجزء الثالث] تفسير سورة الأعراف مكّيّة، كلها. قاله الضحاك «1» ، وغيره. وقال مقاتل: هي مكّيّة، إلا قوله سبحانه: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» إلى قوله: «مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» فإن هذه الآيات مدنية «2» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) قوله جَلَّتْ عظمتُهُ: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ تقدم القول في تَفْسِيرِ الحروف المقطعة في أوائل السور، والحَرَجُ: الضيقُ ومنه: الحَرِجَةُ الشجر الملتف الذي قد تَضَايَقَ، والحرج هاهنا يعم الشَّك، والخوف، والهم، وكلَ ما يَضِيقُ الصدر، والضمير في «منه» عائد على الكتاب، أي: بسبب من أسبابه. وقوله سبحانه: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس: إن فيه تَقْدِيماً وتأخيراً. وقوله: وَذِكْرى معناه تَذْكرة وإِرشاد. وقوله سبحانه: اتَّبِعُوا مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أَمْرٌ يعمُّ جَمِيعَ الناس، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ، أي: من دون ربَكُمُ أَوْلِياءَ يريد: كل مَنْ عُبِدَ، واتبعَ من دون اللَّه، وقَلِيلًا: نعت لمصدر نصب بفعل مُضْمَر. وقال مكي: هو منصوب بالفِعْلِ الذي بَعْدَهُ، و «ما» «3» في قوله: ما تَذَكَّرُونَ مصدرية.

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 372) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 372) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 373) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 إلى 5]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) وقوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ قالت فرقة: المراد وكم من أَهْلِ قرية. وقالت فرقة: اللفظ يَتَضَمَّنُ هَلاَكَ القرية وأهلها، وهو أعظم العُقُوبَةِ، و «الفاء» في قوله سُبْحَانَهُ: فَجاءَها بَأْسُنا لترتيب القَوْلِ فقط. وقيل: المعنى أَهْلَكْنَاهَا بالخذلان، وعدم التوفيق، فجاءها بَأْسُنَا بعد ذَلِكَ وبَياتاً، نصب على المصدر في موضع الحال، وقائِلُونَ من القائلة، وإنما خَصَّ وَقْتَيِ الدَّعَةِ «1» والسكون لأن مجيء العَذَابِ فيهما أَفْظَعُ وأَهْوَلُ لما فيه من البَغْتَةِ والفَجْأَةِ. قال أبو «2» حيان: أو للتفصيل، أي: جاء بعضهم بَأْسُنَا لَيْلاً، وبعضهم نهارا «3» انتهى. وقوله عز وجل: فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ هذه الآية يَتَبَيَّنُ منها أن المراد في الآية قبلها أهل القُرَى، والدعوى «4» في كلام العَرَبِ تأتي لمعنين: أحدهما: الدعاء، ومنه قوله عَزَّ وَجَلَّ: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ [الأنبياء: 15] . والثاني: الادِّعاءُ، وهذه الآية تَحْتَمِلُ المعنيين، ثم استثنى سُبْحَانَهُ من غير الأول كأنه قال: لم يكن منهم دُعَاءٌ أو ادِّعَاءٌ إِلاَّ الإقرار «5» ، والاعتراف، أي: هذا كان بدل الدعاء،

_ (1) الدّعة: الخفض من العيش والراحة، والهاء عوض من الواو. ينظر: «لسان العرب» (4795) (ودع) . (2) ينظر «البحر المحيط» (4/ 269) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 374) بنحوه. (4) هي قول مقبول يقصد به الإنسان إيجاب حق له على غيره، سواء كان ذلك حال المنازعة أو لا، وتقول العرب: ادعى كذا ادعاء: زعم أن له حقّا أو باطلا، والاسم منه الدعوى، والجمع: دعاوى بالفتح، ودعاو بالكسر، وهو الراجح عند سيبويه عند الإضافة إلى الضمير، وغلب الكسر في دعوى النسب، والفتح في المأدبة، واسم المدعي يتناول في العرف من لا حجة له، ولا يتناول من له حجة، ولذا يقال لمسيلمة الكذاب: مدعي النبوة، ولا يقال ذلك بالنسبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن نبوته ثبتت بالمعجزة، فالمطالب بحقه قبل قيام حجته يسمى مدعيا، وبعدها يسمى محقّا. ينظر: «الدعوى» لشيخنا: عبد الحميد سليمان الدسوقي. (5) الإقرار لغة: إفعال، من قرّ- الشيء: إذا ثبت- يقر، من باب ضرب وعلم وثبت وسكن، وأقره في مكانه: أثبته-

[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 إلى 7]

والادعاء، واعترافهم. وقولهم: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ هو في المُدَّةِ التي ما بين ظُهُورِ العَذَابِ إلى إتيانه على أنفسهم، وفي ذلك مُهْلَةٌ بحسب نَوْعِ العذاب تَتَّسِعُ لهذه المَقَالَةِ، وغيرها. وروى ابن مسعود، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يعذروا من أنفسهم» «1» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وقوله سبحانه: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ... الآية وعيد مِنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لجميع العالم أخبر سبحانه أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم، ويسأل النَّبيين عما بَلَّغُوا، وهذا هو سُؤَالُ التقرير، فإن اللَّه سبحانه قد أَحَاطَ علماً بكل ذلك قبل السؤال، فأما الأَنْبِيَاءُ والمؤمنون، فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة،

_ - بعد أن كان مزلزلا، وأقرّ له بحقّه: أذعن واعترف، إذا فالإقرار إثبات لما كان متزلزلا بين الإقرار والجحود. ينظر: «الصحاح» (2/ 788) ، «لسان العرب» (5/ 3582) ، «أنيس الفقهاء» ص: (243) . واصطلاحا: عرفه الشّافعية بأنه: إخبار بحقّ على المقر. وعرفه المالكية بأنه: خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه، أو لفظ نائبه. وعرفه الحنفية بأنه: إخبار بحق لآخر، لا إثبات له عليه. وعرفه الحنابلة بأنه: إظهار مكلّف مختار ما عليه بلفظ أو كتابة، أو إشارة أخرس، أو على موكله، أو موليه، أو مورثه بما يمكن صدقه. ينظر: «حاشية الباجوري» (2/ 2) ، «الخرشي» (6/ 86- 87) ، «الدرر» (2/ 357) ، «منتهى الإرادات» (2/ 684) . ومحاسن الإقرار كثيرة منها ما يأتي. (أ) إسقاط واجب النّاس عن ذمّته، وقطع ألسنتهم عن مذمّته. (ب) إيصال الحقّ إلى صاحبه، وتبليغ المكسوب إلى كاسبه، فكان فيه إنفاع صاحب الحقّ، وإرضاء خالق الخلق. (ج) إحماد النّاس المقرّ بصدق القول، ووصفهم إيّاه بوفاء العهد، وإنالة النول. (د) حسن المعاملة بينه وبين غيره. (1) أخرجه الطبري (5/ 429) برقم: (14328) ، وذكره ابن عطية (2/ 374) ، وابن كثير (2/ 201) ط: «دار إحياء الكتب العربية» ، والسيوطي (2/ 126) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 إلى 10]

وأما الكفار، ومن نفذ عليه الوَعِيد من العُصَاةِ، فيعقبهم جوابهم عَذَاباً وتوبيخاً. ت: وروى أبو عمر بن عبد البر «1» في كتاب «فَضْلِ العلمِ» بِسَنَدِهِ عن مَالِك أنه قال: بلغني أن العلماء يُسْأَلُونَ يوم القيامة كما تُسْأَلُ الأنبياء يعني عن تَبْلِيغ العِلمِ/ انتهى. وخرج أبو نُعَيْم الحافظ من حديث الأَعْمَشِ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عَبْدٍ يخطو خطوةً إِلا يُسْأَلُ عنها ما أَرَادَ بها» «2» . وقد ذكرنا حَدِيثَ مسلم عن أبي برزة في غير هذا المَوْضِعِ. وخرج الطبراني بسنده عن ابن عُمَرَ قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ دَعَا اللَّه بِعَبْدٍ من عِبَادِهِ، فيوقفه بين يَدَيْهِ، فيسأله عن جَاهِهِ، كما يسأله عن عَمَلِهِ» «3» . انتهى. وروى مالك عن يحيى بن سَعِيدٍ، قال: بلغني أن أَوَّلَ ما ينظر فيه من عَمَلِ الْمَرْءِ، الصلاة، فإن قُبِلَتْ منه نُظِرَ في ما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم يُنْظَرْ في شَيْءٍ من عمله. وروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه معنى هذا الحديث مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول ما يُحاسَبُ به النَّاسُ يوم القِيَامَةِ من أعمالهم الصَّلاَةُ» قال: يقول رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ للملائكة انْظُرُوا في صَلاَةِ عَبْدِي أتمَّهَا أم نَقَصَها، فإن كانت تَامَّةً كتبت تَامَّةً، وإن كان انتُقِصَ منها شيءٌ، قال الله: انظروا هل لعبدي من تَطَوُّعٍ؟ فإن كان له تَطَوَّع قال: أتموا لعبدي فَرِيضَتَهُ من تَطَوُّعِهِ، ثم تؤخذ الأعمال «4» على ذلك. انتهى. واللفظ لأبي داود. وقال النسائي: ثم سائر الأعمال تجري على ذلك انتهى من «التذكرة» » . وقوله سبحانه: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أي: فَلنسْرِدَنَّ عليهم أعمالهم قِصَّةً قصة، بِعِلْمٍ أي: بحقيقة ويقين وَما كُنَّا غائِبِينَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 10] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

_ (1) ينظر: «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 493) . (2) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 212) ، عن الأعمش مرسلا. (3) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 349) ، وقال: رواه الطبراني في «الصغير» ، وفيه يوسف بن يونس أخو أبي مسلم الأفطس، وهو ضعيف جدا. [.....] (4) تقدم تخريجه. (5) ينظر: «التذكرة» (1/ 379) .

وقوله عز وجل: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ التقدير: والوزن الحق ثابت، أو ظاهر يومئذٍ، أي يوم القيامة. قال جمهور الأمّة: إنّ الله عز وجل أراد أن يبين لعباده أن الحِسَابَ والنظر يوم القِيَامَةِ هو في غَايَةِ التحرير، ونهاية العَدْلِ بأَمْرٍ قد عرفوه في الدُّنْيَا، وعهدته أفهامهم، فميزان القِيَامَةِ له عمود وَكِفَّتَانِ على هيئة مَوَازِينِ الدنيا، جَمَع لفظ «المَوَازِين» إذ في الميزان مَوْزُونَاتٌ كثيرة، فكأنه أراد التَّنْبِيه عليها. قال الفخر «1» : والأظْهَرُ إثبات مَوَازِينَ في يوم القيامة لا ميزان واحدِ، لظواهر الآيات، وحمل الموازين على الموزونات، أو على الميزان الواحد يوجبان العُدُولَ عن ظَاهِرِ اللفظ، وذلك إنما يُصَارُ إليه عند تَعَذُّرِ حَمْلِ الكلام على ظَاهِرِهِ، ولا مانع هاهنا منه، فوجب إِجْرَاءُ اللفظ على حقيقته، فكما لم يمتنع إثبات مِيزانٍ له كِفَّتان، فكذلك لا يمتنع إِثْبَاتُ موازين بهذه الصِّفَةِ، وما الموجب لتَرْكِهِ، والمصير إلى التأويل. انتهى. قال أبو حَيَّان «2» : موازينه جُمِعَ باعتبار المَوْزُونَاتِ «3» ، وهذا على مذهب الجمهور في أن الميزَانَ واحد. وقال الحسن: لكل واحدِ ميزَانٌ «4» ، فالجمع إذن حَقِيقَةٌ انتهى. والآيات هُنَا البَرَاهِينُ والأوامر والنواهي. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ... الآية خطاب لجميع الناس، والمعايش: بكسر الياء دون هَمْزٍ جمع معيشة، وهي لفظة تعمُّ جَمِيعَ المأكول الذي يُعَاشُ به، والتحرف الذي يُؤَدِّي إليه، وقَلِيلًا نصب ب تَشْكُرُونَ ويحتمل أن تكون مَّا مع الفعل بتأويل المصدر، وقَلِيلًا نعت لِمَصْدَرٍ محذوف، تقديره: شكراً قليلاً شكركم، أو شكرا قليلا تشكرون.

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 23) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 271) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 376) بنحوه. (4) ذكره ابن عطية (2/ 376) بنحوه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 إلى 18]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 18] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ... الآية: هذه الآية مَعْنَاهَا التَّنْبِيهُ على مواضع العِبْرَةِ، والتعجيب من غريب الصنعة، وإسداء النعمة. واختلف العلماء في تَرْتِيبِ هذه الآية لأن ظاهرها/ يَقْتَضِي أن الخَلْقَ والتصوير لبني آدم قَبْلَ القَوْلِ للملائكة أَن يَسْجُدُوا، وقد صححت الشريعة أن الأَمْرَ لم يَكُنْ كذلك، فقالت فرقة: المُرَادُ بقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ آدم، وإن كان الخِطَابُ لبنيه. وقال مجاهد: المعنى: ولقد خَلَقْنَاكم، ثم صورناكم في صُلْبِ آدم، وفي وقت استخراج ذريّة آدم من ظَهْرِهِ أمثال الذّر في صورة البَشَرِ «1» ، ويترتب في هَذَيْنِ القولين أن تكون «ثم» على بابها في الترتيب، والمُهْلَةِ. وقال ابن عباس، والربيع بن أنس: أما «خلقناكم» فآدم، وأما «صورناكم» فذرّيته في بُطُونِ الأمهات «2» . وقال قتادة، وغيره: بل ذلك كله في بُطُونِ الأمهات من خَلْقٍ، وتصوير «3» ، وثُمَّ لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجُمَلِ في أنفسها. وقوله سبحانه: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ تقدم الكلام على قصص الآية في «سورة البقرة» .

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 437) برقم: (14356) بلفظ: «في صلب آدم» ، وذكره ابن عطية (2/ 378) ، وذكر نحوه البغوي (2/ 150) بلا نسبة. (2) أخرجه الطبري (5/ 436) ، برقم: (1443- 1444) ، وذكره ابن عطية (2/ 378) ، وذكره ابن كثير (2/ 203) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 134) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 378) .

«وما» في قوله: مَا مَنَعَكَ استفهام على جِهَةِ التوبيخ والتقريع، و «لا» في قوله: أَلَّا تَسْجُدَ قيل: هي زائدة، والمعنى: ما مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ، وكذلك قال أبو حَيَّان «1» : إنها زائدة «2» ، كهي في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] . قال: ويدلُّ على زيادتها سُقُوطها في قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: 75] في «ص» انتهى. وجواب إبليس اللعين ليس بمُطابق لما سئل عنه، لكن [لما] جاء بِكَلاَمٍ يتضمن الجَوَابَ والحجة، فكأنه قال: منعني فَضْلِي عليه، إذ أنا خير منه، وظن إبليس أن النار أَفْضَلُ من الطين، وليس كذلك بل هما في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ من حيث إنهما جَمَادٌ مخلوق، ولما ظن إبليس أن صُعُودَ النار، وَخِفَّتَهَا يقتضي فَضْلاً على سُكُونِ الطين وبلادته، قَاسَ أن ما خُلِقَ منها أَفْضَلُ مما خُلِقَ من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عليه أن الروح الذي نُفِخَ في آدم ليس من الطِّين. وقال الطبري «3» : ذهب عليه ما في النَّارِ من الطَّيْشِ، والخِفَّةِ، والاضطراب، وفي الطين من الوَقَارِ، والأَنَاةِ والحِلْمِ، والتثبت وروي عن الحسن، وابن سيرين أنهما قالا: أول مَنْ قَاسَ إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالقِيَاس «4» ، وهذا القَوْلُ منهما ليس هو بإنكار للقياس «5» . وإنما خرّج كلاهما نَهْياً عما كان في زمانهما من مَقَايِيسِ الخوارج

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 273) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 378) ، ولم يعزه لأحد. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 440) . (4) أخرجه الطبري (5/ 441) ، برقم: (14360) ، وبرقم: (14361) ، بلفظ: «قاس إبليس، وهو أول من قاس» ، وذكره ابن عطية (3/ 379) ، والبغوي (2/ 150) ، وذكره ابن كثير (2/ 203) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 134) عن الحسن نحوه. (5) ينظر: الكلام على القياس في: «البرهان» لإمام الحرمين (2/ 743) ، «البحر المحيط» للزركشي (5/ 5) ، «الإحكام في أصول الأحكام للآمدي» (3/ 167) ، «سلاسل الذهب» للزركشي ص: (364) ، «التمهيد» للأسنوي ص: (463) ، «نهاية السول» له (4/ 2) ، «زوائد الأصول» له ص: (374) ، «منهاج العقول» للبدخشي (3/ 3) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (211) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (2/ 155) ، «المنخول» للغزالي ص: (323) ، «المستصفى» له (2/ 228) ، «حاشية البناني» (2/ 202) ، «الإبهاج» لابن السبكي (3/ 3) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (4/ 2) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 239) ، «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 195) ، «إحكام الفصول من أحكام الأصول» للباجي ص: (528) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (7/ 368) ، (8/ 487) ، «أعلام الموقعين» لابن القيم (1/ 101) ، «التحرير» لابن الهمام ص: (415) ، «تيسير التحرير» لأمير باد شاه (3/ 263) «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (3/ 117) . [.....]

وغيرهم، فأرادا حمل الناس على الجَادَّةِ. وقوله سبحانه: فَاهْبِطْ مِنْها الآية: يظهر منه أنه أهبط أولاً، وأخرج من الجَنَّةِ، وصار في السماء لأن الأخبار تَظَاَهَرَتْ أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجَنَّة، ثم أُمِرَ آخراً بالهُبُوطِ من السماء مع آدم، وحواء، والحية. وقوله: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ حكم عليه بضدِّ معصيته التي عصى بها، وهي الكبرياء، فعوقب بالحمل عليه، بخلاف شهوته، وأمله والصَّغَارُ: الذل قاله السدي. ومعنى: أَنْظِرْنِي أخِّرْنِي «1» فَأَعْطَاهُ اللَّه النَّظِرَةَ إلى النفخة الأولى. قاله/ أكثر الناس «2» وهو الأصح والأشهر في الشَّرْع. وقوله: فَبِما يريد به القَسَمَ، كقوله في الآية الأخرى: فَبِعِزَّتِكَ [ص: 82] وأَغْوَيْتَنِي قال الجمهور: معناه: أضللتني من الغيِّ، وعلى هذا المعنى قال محمد بن كَعْبٍ القرظي: قاتل اللَّه القدرية لإِبْلِيسُ أعلم باللَّه منهم، يُرِيدُ في أنه علم أن اللَّه يَهْدِي وَيضل «3» . وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المعنى: لاعترضنَّ لهم في طَريق شرعك، وعبادتك، ومنهج النجاة، فَلأَصُدَّنهم عنه. ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان قَعَدَ لابن آدَمَ بأطرُقِهِ «4» نَهَاهُ عن الإِسْلاَمِ، وقال: تَتْرُكُ دِينَ آبائك، فَعَصَاهُ فأسلم، فنهاه عن الهِجْرَةِ فقال: تَدَعُ أَهْلَكَ وَبَلَدَك، فعصاه فهاجر، فنهاه عن الجِهَاد، فقال: تُقْتَلُ وتترك وَلَدَكَ، فَعَصَاهُ فجاهد فله الجَنَّة «5» ... » الحديث. وقوله سبحانه: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا

_ (1) وذكره ابن عطية (2/ 379) ، والبغوي (2/ 151) . (2) أخرجه الطبري (5/ 442) ، برقم: (14365) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 379) ، والبغوي (2/ 151) . (3) أخرجه الطبري (5/ 444) ، برقم: (14368) ، وذكره ابن عطية (2/ 380) . (4) هي جمع طريق على التأنيث لأن الطريق تذكر وتؤنث، فجمعه على التذكير: أطرقة: كرغيف وأرغفة، وعلى التأنيث: أطرق، كيمين وأيمن. ينظر: «النهاية» (3/ 133) . (5) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 293) ، والنسائي (6/ 21- 22) ، كتاب «الجهاد» ، باب: ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، وابن حبان (1601- موارد) ، والطبراني في «الكبير» (7/ 138) ، من حديث سبرة بن أبي الفاكه.

تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ مقصد الآية أن إبليس أَخْبَرَ عن نفسه أنه يأتي إِضْلاَلَ بني آدم من كُلِّ جهة، فعبر عن ذلك بأَلْفَاظٍ تقتضي الإِحَاطَةَ بهم، وفي اللفظ تَجَوُّزٌ، وهذا قَوْلُ جَمَاعَةٍ من المفسرين. قال الفخر «1» : وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي: على صِرَاطِكَ. أجمع النحاة على تقدير «على» في هذا الموضع. انتهى. وقوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أخبر اللعين أن سَعَايَتَهُ تفعل ذلك ظَنًّا منه، وتوسُّماً في خِلْقَةِ آدم حين رأى خِلْقَتَهُ من أشياء مختلفة، فعلم أنه سَتَكُونُ لهم شِيَمٌ تقتضي طَاعَتَهُ، كالغِلِّ، والحَسَدِ، والشهوات، ونحو ذلك. قال ابن عباس، وقتادة: إلا أن إبليس لم يَقُلْ: إنه يأتي بني آدم من فَوْقِهِمْ، ولا جعل اللَّه له سبيلاً إلى أن يَحُولَ بينهم وبين رحمة اللَّه وعفوه ومَنِّهِ، وما ظنه إبليس صدقه اللَّه عز وجل «2» . ومنه قوله سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبيّنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصَّحيح: «يَقُولُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: يا آدَمُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، فيقول: يا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ، فيقول: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعمَائةً وتِسْعَةً وتَسْعِينَ إلى النَّارِ، وواحداً إلى الجَنَّةَ» «3» . ونحوه مما يخصُّ أمة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنتم في الأمم إلا كالشَّعرة البَيْضَاءِ في الثور الأسود» «4» وشاكِرِينَ معناه: مُؤْمنين لأن ابن آدم لا يَشْكُرُ نعمة اللَّه إلا بأن يُؤمن. قاله ابن عباس وغيره «5» . وقوله سبحانه: اخْرُجْ مِنْها أي: من الجنة مَذْؤُماً أي مَعِيباً مَدْحُوراً أي: مقصيًّا مبعداً. لَمَنْ تَبِعَكَ بفتح اللام هي لام قسم.

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 32) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 32) . (3) تقدم تخريجه. (4) تقدم تخريجه. (5) ذكره ابن عطية (2/ 381) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 إلى 21]

وقال أبو حيان «1» : الظاهر أنها المُوَطِّئة لِلْقَسَمِ «2» ، و «من» شرطية في موضع رَفَعٍ بالابتداء، وحذف جواب الشرط لدلالة جَوَابِ القَسَم عليه، ويجوز أن تكون لام ابتداء، و «من» موصولة في مَوْضَعِ رَفْعٍ بالابتداء، والقَسَمُ المحذوف، وجوابه، وهو «لأملأن» في موضع خبرها. انتهى. وقال الفخر «3» : وقيل/: مَذْؤُماً، أي: محقوراً فالمَذْؤومُ المحتقر. قاله الليث. وقال ابن الأنباري «4» : المذءوم المذموم. وقال الفَرّاءُ: أَذْأَمْتُهُ إِذا عَيَّبْتُهُ. انتهى. وباقي الآية بَيِّنٌ. اللهم إنا نَعُوذُ بك من جَهْدِ البَلاَءِ، وسوء القَضَاءِ، ودَرك الشَّقَاء، وشماتة الأعداء. [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 21] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) وقوله جل وعلا: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ إذا أُمِرَ الإنسان بِشَيْءٍ، وهو متلبس به، فإنما المقصد من ذلك أن يستمر على حاله، ويتمادى في هَيْئَتِهِ. وقوله سبحانه لآدم: اسْكُنْ هو من هذا البَابِ، وقد تَقَدَّمَ الكلام في «سورة البقرة» على «الشَّجَرَةِ» وتعيينها، وقوله سبحانه: «هذه» قال (م) : الأَصْلُ هَذِي، وَالهَاءُ بَدَلٌ من الياء، ولذلك كسرت الذال، إذ ليس في كلامهم هاء تأنيث قبلها كسرة انتهى.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 278) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 382) . (3) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 37) . (4) عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري، كمال الدين الأنباري، ولد في 513 هـ، من علماء اللغة والأدب وتاريخ الرجال، كان زاهدا عفيفا، لا يقبل من أحد شيئا، له مصنفات منها: «نزهة الألباء في طبقات الأدباء» ، «لمعة الأدلة» ، «الميزان» ، توفي في 577 هـ. ينظر: «الفوات» (1/ 262) ، «بغية الوعاة» (301) ، «الوفيات» (1/ 279) ، «أدب اللغة» (3/ 41) ، «الأعلام» (3/ 327) . [.....]

وقوله عز وجل: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما الوَسْوَسَةُ الحديث في إخفاء همساً وإسْرَاراً من الصوت، والوسواس صَوْتُ الحُلِيِّ، فشبه الهمس به، وسمى إِلْقَاءُ الشيطان في نَفْسِ ابن آدم وَسْوَسَةً، إذ هي أَبْلَغُ الإسرار وأخفاه. هذا في حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم، فممكن أن تكون وَسْوَسَة بمُحَاوَرَةٍ خفية، أو بإلقاء في نَفْسٍ، واللام في «ليبدي» هي في قول الأكثرين لام الصَّيْرُورَةِ والعاقبة، ويمكن أن تكون لام «كي» على بابها «1» . وما وُورِيَ معناه ما ستر من قولك: وارى يُوَارِي إذا ستر، والسَّوْأَةُ الفَرْجُ والدُّبر، ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء. وقالت طائفة: إن هذه العِبَارَةَ إنما قصد بها أنها كُشِفَتْ لهما مَعَائِبهما، وما يسوءهما، ولم يقصد بها العورة، وهذا القَوْلُ محتمل، إلا أن ذِكْرَ خَصْفِ الوَرَقِ يَرُدُّهُ إلا أن يُقَدَّرَ الضمير في عَلَيْهِما عائد على بدنيهما فيصحّ. وقوله سبحانه: وَقالَ مَا نَهاكُما ... الآية، هذا القول المَحْكِيُّ عن إبليس يدخله من التأويل ما دَخَلَ الوَسْوَسَةَ، فممكن أن يقول هذا مخاطبةً وحِوَاراً، وممكن أن يقولها إلْقَاءً في النفس، ووحيا. وإِلَّا أَنْ تقديره عند سيبويه والبصريين: إلا كراهِيَة أن، وتقديره عند الكوفيين: «2» «إلا أن لا» على إضمار «لا» ، ويرجح قَوْلُ البصريين أن إضمار الأسماء أَحْسَنُ من إِضْمَارِ الحروف. وقرأ جمهور الناس «مَلَكَيْنِ» بفتح اللام. وقرأ ابن عباس: «مَلِكَيْنِ «3» » بكسرها، ويؤيده قوله: وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120]

_ (1) في هذه اللام قولان: أظهرهما أنها لام العلة على أصلها، لأن قصد الشيطان ذلك. وقال بعضهم: اللام للصيرورة والعاقبة، وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة، فالمعنى: أن أمرهما آيل إلى ذلك. والجواب أنه يجوز أن يعلم ذلك بطريق من الطرق. ينظر: «الدر المصون» (3/ 247) . (2) وقول البصريين أولى: لأن إضمار الاسم أحسن من إضمار الحرف. (3) وقرأ بها يحيى بن أبي كثير، والضحاك، والحسن بن علي، والزهري، وابن حكيم. ينظر: «الشواذ» ص: (48) و «البحر المحيط» (4/ 280) ، و «الدر المصون» (3/ 248) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 22 إلى 25]

وقال بعض الناس: يؤخذ من هذه الألفاظ أن الملائكة أَفْضَلُ من البَشَرِ، وهي مسألة اختلف النَّاسُ فيها، وتمسَّكَ كل فريق بِظَوَاهِرَ من الشريعة، والفضل بِيَدِ اللَّه يؤتيه من يشاء. وقاسَمَهُما أي: حلف لهما باللَّه، وهي مُفَاعلة، إذ قبول المحلوف له اليمين كالقسم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 22 الى 25] فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) وقوله عز وجل: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ قال: ع» : يشبه عندي أن تكون هذه اسْتعَارَةً من الرَّجُلِ يدلي آخر من هُوَّةٍ بحبل قد أَرمَ أو سَبَبٍ ضعيف يغترُّ به، فإذا تَدَلَّى به، وتوركَ عليه، انقطع به، وهلك، فيشبه الذي يغرُّ بالكلام حتى يصدقه، فيقع في مصيبة بالذي يُدْلي من هوة بِسَبَبٍ ضعيف. وقوله سبحانه: بَدَتْ قيل: تمزقت عنهما ثياب الجنة وملابسها، وتطايرت تبرّيا منهما، ويَخْصِفانِ معناه: يلصقانها، والمخصف الأشفى «2» وضم الورق بعضه إِلَى بَعْضٍ أشبه بالخَرَزِ منه بالخياطة. قال البخاري: يَخْصِفَانِ يؤلفان الوَرَقَ بعضه إلى بعض/ انتهى. وهو معنى ما تقدم. وروى أبيٌّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن آدم عليه السلام كان يَمْشي في الجنة كأنه النخلة السَّحُوقُ «3» فلما أَكَلَ من الشجرة وَبَدَتْ له حاله فَرَّ على وَجْهِهِ، فأخذت شجرة بِشَعَرِ رَأْسِهِ، فقال لها: «أرسليني» فقالت: ما أنا بمرسلتك، فناداه ربه جَلَّ وَعَلاَ أَمِنِّي تفرُّ يا آدم؟ فقال: لا يَا رَبّ، ولكن أَسْتَحْيِيكَ، فقال: أما كان لك فيما مَنَحْتُكَ من الجنة مندوحة عما حرمت عليك. قال: بلى يا رب، ولكن وَعِزَّتَكَ مَا ظَنَنْتُ أن أحداً يَحْلِفُ بك كاذبا، قال:

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 385) . (2) الإشفى: فعلى، وهو أداة للإسكاف، والجمع: أشافي. ينظر: «لسان العرب» (85) (أشف) . (3) أي: الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني. ينظر: «النهاية» (2/ 347) .

[سورة الأعراف (7) : آية 26]

فبعزَّتي لأهبطنك إِلى الأَرْضِ، ثم لا تنال العَيْشَ إلا كدًّا «1» . وقوله: عَنْ تِلْكُمَا بِحَسَبِ اللفظ أنه إنما أشار إلى شَجَرَةٍ مخصوصة، وَأَقُلْ لَكُما: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ إشارة إلى الآية التي في «طه» في قوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: 117] وهذا هو العَهْد الذي نَسِيَهُ آدم على مَذْهَبِ من جعل النسيان على بابه، وقولهما: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف من آدَمَ وحواء عليهما السلام وطَلَبٌ للتوبة، والستر، والتغمُّد بالرحمة، فطلب آدم هذا، فأجيب، وطلب إبليس النَّظِرَةَ، ولم يطلب التَّوْبَة، فوكل إلى سوء رأيه. قال الضحاك وغيره: هذه الآية هي الكَلِمَاتُ التي تلقى آدم من ربّه، وقوله عز وجل: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ المُخَاطَبَةُ بقوله: اهْبِطُوا. قال: أبو صَالِحٍ، والسدي، والطبري، وغيرهم: هي لآدم، وحوّاء، وإبليس، والحية. وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته، وإبليس وذريته. قال ع «2» : وهذا ضَعِيفٌ لعدمهم في ذلك الوَقْت. ت: وما ضعفه رحمه اللَّه صَحَّحَهُ في «سورة البقرة» ، فتأمله هناك، وعداوة الحية معروفة. روى قتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ» «3» . [سورة الأعراف (7) : آية 26] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) وقوله سبحانه: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ الآية خطاب لجميع الأمم وقت النبي صلّى الله عليه وسلّم والسَّبَب والمراد: قريش، ومَنْ كان مِنَ العَرَبِ يتعرّى في طوافه بالبيت.

_ (1) تقدم تخريجه في أوائل سورة البقرة. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 387) . (3) ورد هذا الحديث مسندا من حديث أبي هريرة، وابن عباس. حديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود (2/ 785) ، كتاب «الأدب» ، باب: في قتل الحيات، حديث (5248) ، وأحمد (2/ 232، 247، 520) ، وابن حبان (1079- موارد) ، وابن ماجه (3224) ، والدارمي (2/ 88- 89) ، والبيهقي (9/ 317) . أما حديث ابن عباس: أخرجه أبو داود (2/ 785) : كتاب «الأدب» ، باب: في قتل الحيات، حديث (5250) ، وعبد الرزاق (10/ 434) برقم: (19617) .

قال مجاهد: ففيهم نَزَلَتْ هذه الأربع آيات «1» . وقوله: أَنْزَلْنا يحتمل التَّدْرِيجَ أَي: لما أنزل المَطَر، فكان عنه جميع ما يلبس، ويحتمل أن يريد ب أَنْزَلْنا خلقنا، كقوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد: 25] ولِباساً عام في جميع ما يلبس، ويُوارِي: يستر. وقرأ الجمهور: «وريشاً» ، وقرأ عاصم، وأبو عمرو «ورياشاً» وهما عِبَارَتَانِ عن سَعَةِ الرزق، ورفاهة العَيْشِ، وَجَوْدَةِ الملبس والتمتع. وقال البخاري: قال ابن عباس: وريشاً: المال انتهى «2» . وقرأ نافع «3» ، وغيره: «ولباسَ» بالنصب. وقرأ حمزة، وغيره بالرفع. وقوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ إشارة إلى جَمِيعِ ما أنزل اللَّه من اللِّبَاسِ والرِّيشِ. وحكى النَّقَّاشُ: أن الإِشَارَةَ إِلى لِبَاسِ التَّقوى أي: هو في العبد آية أي: علامة وأمارة من اللَّه تعالى أنه قد رَضِيَ عنه، ورحمه. وقال ابن عَبَّاسٍ: لباس التقوى هو السَّمْتُ الحَسَنُ «4» في الوَجْهِ. وقاله عثمان بن عفان على المنبر. وقال ابن عَبَّاسٍ أيضاً: هو العَمَلُ الصالحَ «5» . وقال عُرْوَةُ بن الزبير: هو خَشْيَةُ اللَّه «6» وقيل: هو لباس الصوف، وكل ما فيه تواضع لله عز وجل.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 455) برقم: (14425) ، وذكره ابن عطية (2/ 388) . (2) أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم (6/ 416) : كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب: «خلق آدم وذريته» ، وقال ابن حجر: «هو قول ابن عباس، ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه» ، والطبري (5/ 457) برقم: (14433) ، وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والبغوي (2/ 154) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 141) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (3) وقرأ بها ابن عامر والكسائي. عطفوا على الريش، والمعنى: وأنزلنا عليكم لباس التقوى. ينظر: «السبعة» (280) ، و «الحجة» (4/ 12) ، و «حجة القراءات» (280) ، و «إعراب القراءات» (1/ 178) ، و «العنوان» (95) ، «شرح الطيبة» (4/ 293) ، «شرح شعلة» (387) ، «إتحاف» (1/ 46) ، «معاني القراءات» (1/ 403) . (4) أخرجه الطبري (50/ 458) برقم: (14449) ، وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والسيوطي (3/ 142) . (5) أخرجه الطبري (5/ 458) برقم: (14449) وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والبغوي (2/ 155) . [.....] (6) أخرجه الطبري (5/ 459) برقم: (14452) ، وذكره ابن كثير (2/ 207) .

[سورة الأعراف (7) : آية 27]

وقال الحَسَنُ «1» : هو الوَرَعُ. وقال معبد الجهني: هو «2» الحَيَاءُ. وقال ابن عَبَّاسٍ أيضاً: لِبَاسُ التقوى العفة «3» . قال ع «4» وهذه كلها مثل، وهي من لباس التقوى، ولَعَلَّهُمْ ترجّ بحسبهم، ومبلغهم من المعرفة. [سورة الأعراف (7) : آية 27] يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وقوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ/ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الآية: خطاب لجميع العالم، والمقصود بها في ذلك الوَقْتِ مَنْ كان يطوف من العَرَبِ بالبيتِ عُرْيَاناً. قيل: كانت العَرَبُ تَطُوفُ عُرَاةً إِلا الحُمْس «5» ، وهم قريش، ومن وَالاَهَا، وهذا هو الصحيح، ثم نودي ب «مكة» في سنة تسع: لا يحجّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عريان «6» والفتنة في هذه الآية الاسْتِهْوَاءُ، والغَلَبَةُ على النفس، وأضاف الإِخْرَاجَ في هذه الآية إلى إبليس تجوُّزاً لما كان هو السَّبَب في ذلك. قال أبو حيان «7» : كَما أَخْرَجَ «كما» في موضع نَصْبٍ، أي: فتنة مثل فتنة إِخْرَاجِ أبويكم انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 389) وزاد فيه: «والسمت والحسن في الدنيا» . (2) أخرجه الطبري (5/ 458) برقم: (14446) ، وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والسيوطي (3/ 142) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 389) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 389) . (5) الحمس: جمع الأحمس، وهم قريش ومن ولدت قريش، وكنانة وجديلة قيس، سمّوا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا. والحماسة: الشجاعة. ينظر: «النهاية (1/ 440) . (6) أخرجه البخاري (3/ 483) : كتاب «الحج» ، باب: لا يطوف بالبيت عريان، الحديث (1622) ، ومسلم (2/ 982) : كتاب «الحج» ، باب: لا يحج البيت مشرك، الحديث (435/ 1347) واللفظ له، من حديث أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجّة التي أمّره عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحجّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عريان» . (7) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 284) .

وقوله سبحانه: إِنَّهُ يَراكُمْ ... الآية زيادة في التحذير، وإعلام بأن الله عز وجل قد مَكَّنَ إبليس من بَني آدَمَ في هذا القدر، وبحسب ذلك يَجِبُ أن يكون التّحرّز بطاعة الله عز وجل وقَبِيلُ الشيطانُ يُرِيدُ نوعه، وصنفه، وذريته، والشيطان مَوْجُودٌ، وهو جسم. قال النووي «1» : وروينا في كتاب ابن السّني عن أَنَسٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ستر ما بين أَعْيُنِ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ إِذَا أَراد أن يطرح ثِيَابَهُ: بسم اللَّه الذي لا إله إِلاَّ هُوَ» «2» انتهى. وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستر ما بين الجنِّ وعَوْرَاتِ بني آدَمَ إِذا دَخَلُوا الكُنُفَ أَن يقولوا: بسم اللَّه» . رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بالقَوِيِّ «3» . قال النووي: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويُسْتَحَبُّ العَمَلُ في الفَضَائِلِ، والترغيب، والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً وأما الأحكام كالحَلاَلِ، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك فلا يُعْمَلُ فيها إلا بالحديث الصحيح «4» ، أو الحسن «5» إلا أن يكون في احْتِيَاطٍ في شيء من ذلك، كما إذا ورد حديث

_ (1) ينظر: «الأذكار» ص: (51) . (2) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» برقم: (274) من حديث أنس مرفوعا به. (3) أخرجه الترمذي (2/ 503- 504) : كتاب «الصلاة» ، باب: ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، حديث (606) ، وابن ماجه (1/ 109) : كتاب «الطهارة» ، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، حديث (297) من حديث علي، وقال الترمذي: إسناده ليس بالقوي. (4) الصحيح: في اللغة فعيل بمعنى فاعل من الصحة، وهي ذهاب المرض والبراءة من كل عيب. وفي اصطلاح المحدثين يختلف عند المتقدمين وعند المتأخرين. أما عند المتقدمين فقال الخطابي: الصحيح: ما اتصل سنده وعدلت نقلته. وأما الصحيح لذاته عند المتأخرين، فقال ابن الصلاح: هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معللا. والصحيح لغيره: هو الحديث الذي لم يكن صحيحا لذاته وارتقى إلى درجة الصحيح بجابر يجبر القصور فيه، وذلك هو الحديث الحسن لذاته إذا جبر بجابر بأن تقوى بمتابع أو شاهد مساو أو راجح أو بأكثر من طريق إن كان أدنى. وعليه فنقول إنه: هو ما اتصل سنده بنقل عدل قلّ ضبطه عن الدرجة العليا للضبط وتوبع بطريق آخر مساو أو راجح أو بأكثر من طريق إن كان أدنى وكان غير شاذ ولا معل. ينظر: «غيث المستغيث» ص: (32، 33، 35) . (5) الحسن: في اللغة الجمال، والحسن الجميل.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 إلى 30]

ضعيف بكَرَاهِةِ بعض البيوع، أو الأنكحة، فإن المستحبَّ أن يتنزَّه عنه، ولكن لا يَجِبُ انتهى. ونحوه لأبي عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» : ثم أخبر عز وجل أنه صَيَّرَ الشياطين أولياء، أي: صحابة، ومتداخلين للكفرة الذين لا إيمان لهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) وقوله: وإذا فَعَلُوا وما بعده دَاخِلٌ في صفة الذين لا يؤمنون، والفاحشة في هذه الآية، وإن كان اللفظ عَامّاً هي كَشْفُ العَوْرَةِ عند الطَّوَافِ، فقد روي عن الزهري أنه قال: إن في ذلك نزلت هذه الآية. وقاله ابن عبّاس ومجاهد «1» . وقوله عز وجل: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ تضمن معنى اقسطوا، ولذلك عطف عليه قوله: وَأَقِيمُوا حملاً على المعنى، والقِسْطُ العَدْلُ واختلف في قوله سبحانه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فقال مجاهد، والسدي: أراد إلى الكعبة «2» ، والمقصد على هذا

_ وفي الاصطلاح: لهم فيه عبارات كثيرة لعدم ضبط الأقدمين له حتى قال البلقيني: الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر كان شيئا ينقدح في نفس الحافظ. وقد تقصر عبارته عنه كما قيل في الاستحسان، فلهذا صعب تعريفه لكن استقر الرأي أخيرا على أنه: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط الذي قصر به حفظه وإتقانه عن درجة رجال الصحيح غير شاذ ولا معل. والحسن لغيره: هو الحديث الذي يكون في أصله غير حسن، ثم يرتقي بالجابر حتى يكون في درجة الحسن، وذلك أن الحديث إذا فقد أحد الشروط الخمسة المعتبرة في الصحيح لذاته والحسن لذاته ينزل إلى درجة الضعيف، لكن الضعيف منه ما يقبل الجبر، ومنه ما لا يقبل الجبر بحال، فتوقفت معرفة الحسن لغيره على معرفة ما يقبل الجبر من الضعيف- ويسمى عندهم ما يعتبر به أي حديث يكتب للاعتبار به في المتابعات والشواهد- ومعرفة ما لا يقبل الجبر منه- ويسمى عندهم ما لا يعتبر به. ينظر: «الغيث المستغيث» ص: (34، 35) . [.....] (1) أخرجه الطبري (5/ 463) برقم: (14467- 14468- 14469- 14473- 14474) ، وابن عطية (2/ 391) ، والبغوي (2/ 155) ، وابن كثير (2/ 208) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 143) . (2) أخرجه الطبري (5/ 464) برقم: (14478) وبرقم: (14479) ، وذكره ابن عطية (2/ 391) ، والبغوي (2/ 156) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 143) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة الأعراف (7) : آية 31]

شَرْعُ القبلة والتزامها. وقيل: أراد الأمر بإحضار النية لله في كُلِّ صَلاَةٍ، والقصد نحوه، كما تقول: وَجَّهْتُ وَجْهِي لله قاله الربيع «1» . وقيل: المراد إبَاحَةُ الصلاة في كُلِّ موضع من الأرض، أي: حيث ما كنتم فهو مَسْجِدٌ لكم تلزمكم عند الصَّلاَةِ إقامة وجوهكم فيه لله عز وجل. وقوله سبحانه: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال ابن عَبِّاسٍ، وقتادة، ومجاهد: المعنى: كما أوجدكم، واخترعكم، كذلك يعيدكم بعد الموتِ «2» والوقف على هذا التأويل تعودون و «فريقاً» نصب ب «هدى» والثاني منصوب بِفِعْلٍ تقديره: وعذب فريقاً. وقال جابر بن عبد اللَّه/ وغيره: وروي معناه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المُرَادَ الإعلام بأن مَنْ سَبَقَتْ له من اللَّه الحُسْنَى، وكتب سعيداً كان في الآخِرَةِ سَعِيداً، ومن كتب عليه أنه من أَهْلِ الشَّقَاءِ، كان في الآخرة شَقِيًّا، ولا يتبدَّل من الأمور التي أحكمها وَدَبَّرَهَا، وأنفذها شيء، فالوقف في هذا التأويل في قوله: تَعُودُونَ غير حسن وفَرِيقاً على هذا التأويل نصب على الحال، والثاني عطف على الأول. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ معناه: يظنُّونَ. قال الطبري «3» : وهذه الآية دَلِيلٌ على خَطَإ من زَعَمَ أن اللَّه لا يعذب أحداً على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب. [سورة الأعراف (7) : آية 31] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) وقوله سبحانه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الآية: هذا خطاب عَامٌ لجميع العالم كما تقدم، وأمروا بهذه الأَشْيَاءِ بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مُشْرِكِي العَرَبِ فيها، والزينة الثياب الساترة. قاله مجاهد وغيره «4» . وعِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 465) برقم: (14482) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 391) ، وابن كثير (2/ 208) بنحوه. (2) أخرجه الطبري (5/ 967) برقم: (14502) ، وذكره ابن عطية (2/ 392) ، والبغوي (2/ 156) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 469) . (4) أخرجه الطبري (5/ 470) برقم: (14520- 14521) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 392) ، والبغوي (2/ 157) ، وابن كثير (2/ 210) ، والسيوطي (3/ 145) بنحوه.

أي: عند كل مَوْضِعِ سُجُودٍ، فهي إشارة إلى الصلوات، وستر العورة فيها. ت: ومن المستحسن هنا ذكر شيء مما جاء في اللِّبَاسِ، فمن أحسن الأحاديث في ذلك، وأصحها ما رواه مالِكٌ في «الموطأ» عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنَّ أُزْرَةَ المُؤْمِنِ إِلى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لا جُنَاحَ عليه فيما بينه وبَيْنَ الكَعْبَيْنِ، ما أَسْفَلَ من ذَلِكَ ففي النَّارِ» قال ذلك ثلاث مرات: «لاَ يَنْظُرُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَراً» «1» . وحَدَّثَ أَبو عمر في «التمهيد» بسنده عن ابن عمر قال: فيما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإزَارِ فهو في القَمِيصِ يعني ما تَحْتَ الكَعْبَيْنِ من القَمِيصِ في النار «2» ، كما قال في الإزَارِ، وقد روى أبو خيثمة زهير بن مُعَاوِيةَ «3» قال: سمعت أَبا إِسْحَاقَ السبيعي يقول: أدركتهم وقمصهم إلى نِصْفِ الساق أو قريب من ذلك، وكُمُّ أحدهم لا يُجَاوِزُ يَدَهُ انتهى. وروى أبو داود عن أسماء بنت يَزِيدَ قالت: كانت يَدُ كُمِّ قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسْغ «4» ، وأما أحبُّ اللِّبَاسِ فما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت: كان أحبّ الثياب إلى رسول

_ (1) أخرجه مالك (2/ 914- 915) : كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في إسبال الرجل ثوبه، حديث (12) ، وأبو داود (2/ 457) كتاب «اللباس» ، باب: في قدر موضع الإزار، حديث (4093) ، وابن ماجه (2/ 1183) : كتاب «اللباس» ، باب: موضع الإزار أين هو؟، حديث (3573) من طريق العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عن أبِيهِ، عن أبي سعيد الخدري به. (2) روي هذا المعنى أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: «ما أسفل الكعبين من الإزار فهو في النار» . أخرجه البخاري (10/ 268) ، في كتاب «اللباس» ، باب: «ما أسفل من الكعبين فهو في النار» (5787) ، والنسائي في «المجتبى» (8/ 207) ، في كتاب: «الزينة» ، وابن ماجه (3573) ، وأحمد في «المسند» (2/ 461) ، (5/ 9) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (8/ 204) . (3) زهير بن معاوية بن حديج بضم المهملة الأولى مصغرا، وآخره جيم ابن الرّجيل بجيم مصغرا ابن زهير بن خيثمة الجعفي أبو خيثمة الكوفي أحد الحفاظ والأعلام. عن سماك بن حرب والأسود بن قيس، وزياد بن علاقة، وأبي الزّبير، وخلق، وعنه القطّان، وابن مهدي، وأبو نعيم، والأسود بن عامر، وعمر بن خالد، وخلق. قال شعيب بن حرب: زهير أحفظ من عشرين مثل شعبة. وقال أحمد: زهير ثبت سمع من أبي إسحاق بآخره. قال الخطيب: حدث عنه ابن جريج، وعبد الغفار الحراني، وبين وفاتيهما بضع وستون سنة، توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة، ومولده سنة مائة. ينظر: «الخلاصة» (1/ 340) ، «تهذيب الكمال» (1/ 436) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 351) ، «الكاشف» (1/ 327) ، «الثقات» (6/ 337) . (4) أخرجه أبو داود (2/ 441) : كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في القميص، حديث (4027) .

الله صلّى الله عليه وسلّم القميص «1» . انتهى. وجاء في المُسْبِلِ وَعيدٌ شديد وعنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لرجل أَسْبَلَ إزاره: «إن هذا كان يصلي وهو مُسْبِلٌ إزَارَهُ وإِن اللَّه لا يَقْبَلُ صَلاَةَ رَجُلٍ مسبل إزاره» رواه أبو داود «2» . انتهى. وقوله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إباحة لما التزموه من تَحْرِيمِ اللحم، والودك «3» في أيام المواسم. قاله ابن زَيْدٍ وغيره، ويدخل في ذلك «4» البَحِيرَةُ والسائبة، ونحو ذلك نصّ على ذلك قَتَادَةُ. وقوله سبحانه: وَلا تُسْرِفُوا معناه: لا تفرطوا. قال أهل التأويل: يريد تُسْرِفُوا بأن تحرموا ما لم يحرّم الله عز وجل واللفظةَ تَقْتَضِي النهي عن السَّرَفِ مُطْلَقاً، ومن تَلَبَّسَ بفعلٍ مباح، فإن مشى فيه على القَصْدِ، وأوسط الأمور، فحسن، وإن أفْرَطَ جعل أيضا من المسرفين.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 440) كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في القميص، حديث (4025، 4026) ، والترمذي (4/ 237- 238) كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في القميص، حديث (1762) ، وفي «الشمائل» رقم: (55) ، وابن ماجه (2/ 1183) كتاب «اللباس» ، باب: لبس القميص، حديث (3575) ، وأحمد (6/ 317) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» برقم: (1540) ، وأبو يعلى (12/ 445) رقم (7014) ، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي» ص: (100) ، والطبراني في «الكبير» (23/ 421) برقم: (1018) ، والحاكم (4/ 192) ، والبيهقي (2/ 239) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 146- بتحقيقنا) . كلهم من طريق عبد المؤمن بن خالد عن عبد الله بن بريدة، عن أم سلمة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن بن خالد، تفرد به وهو مروزي، وروى بعضهم هذا الحديث عن أبي تميلة عن عبد المؤمن بن خالد، عن عبد الله بن بريدة، عن أمه، عن أم سلمة. (2) أخرجه أبو داود (1/ 228) كتاب «الصلاة» ، باب: الإسبال في الصلاة، حديث (638) ، وفي (2/ 455) كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في إسبال الإزار، حديث (4086) ، والبيهقي (2/ 241) كتاب «الصلاة» ، من حديث أبي هريرة، وهذا الحديث لم يخرجه سوى أبي داود من أصحاب الكتب الستة. (3) الودك: دسم اللحم، ودهنه الذي يستخرج منه. ينظر: «النهاية» (5/ 169) . (4) البحيرة: أنهم كانوا إذا ولدت إبلهم سقيا (يعني ولد الناقة) بحروا أذنه: أي شقوها، وقالوا: اللهم إن عاش ففتيّ وإن مات فذكي، فإذا مات أكلوه وسموه البحيرة، وقيل: البحيرة: هي بنت السائبة، كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر إناث لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو ضيف، وتركوها مسيّبة لسبيلها وسموها السائبة، فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقوا أذنها، وخلوا سبيلها، وحرم منها ما حرم من أمها، وسموها البحيرة. ينظر: «النهاية» (1/ 100) . [.....]

[سورة الأعراف (7) : آية 32]

وقال ابن عَبَّاس في هذه الآية: أحلَّ اللَّه الأكل والشرب ما لم يكن سَرَفاً أو مخيلة «1» . قال ابن العربي «2» : قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا الإِسْرَافُ تَعَدِّي الحد، فنهاهم سبحانه عن تعدي الحَلاَل إلى الحرام. وقيل: لا يزيد على قَدْرِ الحاجة، وقد اختلف فيه على قولين فقيل/ حرام. وقيل: مكروه، وهو الأصح. فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البُلْدَانِ، والأَزْمَانِ، والإِنسان، والطعمان. انتهى من «أحكام القرآن» . [سورة الأعراف (7) : آية 32] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) وقوله سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي: قل لهم على جِهَةِ التوبيخ. وَزِينَةُ اللَّه هي ما حَسَّنته الشَّرِيعَةُ، وقررته، وزِينَةُ الدنيا كل ما اقتضته الشَّهْوَةُ، وطلب العلو في الأرض كالمَالِ والبنين. والطَّيِّباتِ قال الجمهور: يريد المُحَلّلات. وقال الشافعي وغيره: هي المُسْتَلَذَّاتُ أي: من الحلال، وإنما قاد الشَّافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوَزَغِ «3» ونحوهَا، فإنه يقول: هي من الخَبَائِث. ت: وقال مكي: المعنى قل مَنْ حَرَّمَ زينة اللَّه، أي: اللِّبَاس الذي يزين الإنسان بأَن يستر عَوْرَتهُ، ومن حرم الطيبات من الرزق المُبَاحَةِ. وقيل عنى بذلك ما كَانَتِ الجَاهِلِيَّةُ تحرمه من السوائب والبَحَائِر. انتهى. وقوله سبحانه: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن

_ (1) أخرجه ابن جرير (5/ 472) برقم: (14535) ، وذكره ابن عطية (2/ 393) ، وابن كثير (2/ 210) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 146) . (2) ينظر: «الأحكام» (2/ 781) . (3) الوزغ: دويبة، وهي سوام أبرص. ينظر: «اللسان» (4826) .

[سورة الأعراف (7) : آية 33]

جُبَيْرٍ: المعنى: قل هي للذين آمَنُوا في الحَيَاةِ الدنيا يَنْتَفِعُونَ بها في الدُّنْيَا، ولا يتبعهم إثمها يوم القِيَامَةِ «1» . وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: المعنى هو أن يخبر صلّى الله عليه وسلّم أن هذه الطَّيبات المَوْجُودَاتِ هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا، وإن كانت أيْضاً لغيرهم معهم، وهي يوم القيامة خالصة لهم، أي: لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة «2» . وقرأ نافع «3» وحده «خالصةٌ» بالرفع، والباقون بالنَّصْب. وقوله سبحانه: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي: كما فَصَّلنا هذه الأشياء المتقدمة الذِّكر نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: نبين الأمَارَاتِ، والعَلاَمَاتِ، والهِدَايَاتِ لقوم لهم علم ينتفعون به. [سورة الأعراف (7) : آية 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وقوله عز وجل: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ... الآية: لما تقدم إنكار ما حرمه الكُفَّار بآرائهم أتبعه بذِكْرِ ما حرم الله عز وجل. والفَوَاحِشُ في اللغة ما فَحُشَ وشنع، وأصله من القُبْحِ في النظر، وهي هنا إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه، فكل ما حرمه الشَّرْعُ، فهو فاحش، والإثم لفظ عام في جَمِيعِ الأفعال والأقوال التي يَتَعَلَّقُ بمرتكبها إثم. هذا قول الجمهور. وقال بعض الناس: هي الخَمْرُ وهذا قول مردود لأن هذه السورة مَكيّة، وإنما حرمت الخَمْرُ ب «المدينة» بعد أُحد وَالْبَغْيَ التعدي، وتجاوز الحد. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من أنه حرم البَحِيرَةَ والسائبة ونحوه.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 475) برقم: (14556) ، وابن عطية (2/ 393) . (2) أخرجه الطبري (5/ 473- 474- 475) برقم: (14546- 14555) ، وذكر البغوي (2/ 157) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 150) . (3) والتقدير على قراءة الرفع أي: هي خالصة للذين آمنوا. ينظر: «السبعة» (280) و «الحجة» (4/ 13) ، و «حجة القراءات» (281) ، و «العنوان» (95) و «إعراب القراءات» (1/ 180) ، و «شرح الطيبة» (4/ 294) ، و «شرح شعلة» (388) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 47) و «معاني القراءات» (1/ 404) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 34 إلى 36]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 34 الى 36] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) وقوله سبحانه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ المعنى: ولكل أمة أجل مُؤَقَّت لمجيء العَذَابِ إذا كفروا، وخالفوا أَمْرَ ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك. قاله الطبري «1» وغيره. وقوله: ساعَةً لفظ عين به الجزء القليل من الزمان، والمراد جميع أجزائه، والمعنى: لا يستأخرون سَاعَة، ولا أقل منها، ولا أكثر. وقوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ/ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الخِطَابُ في هذه الآية لجميع العالم، و «إن» هي الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة، وكان هذا الخطاب لجميع الأُمم قَدِيمِها وحَدِيثِهَا هو متمكن لهم، ومتحصِّل منه لحاضري نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أن هذا حُكْمُ اللَّه في العالم منذ أنشأه، ويَأْتِيَنَّكُمْ مستقبل وُضِعَ موضع ماضٍ ليفهم أن الإتيان بَاقٍ وَقْتَ الخطاب، لِتَقْوَى الإشارة بصحّة النبوءة إلى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا على مُرَاعَاةِ وَقْتِ نزول الآية. وأسند الطَّبَري إلى أبي سَيَّارٍ السُّلمي قال: «إن الله سبحانه خاطب آدم وذريته، فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... الآية: قال: ثم نظر سبحانه إلى الرّسل، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ... [المؤمنون: 51، 52] » الحديث «2» . قال ع «3» : ولا مَحَالَةَ أن هذه المُخَاطَبَة في الأزل. وقيل: المراد بالرسل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ذَكَرَهُ النقاش ويَقُصُّونَ أي: يسردون، ويوردون، «والآيات» لَفْظٌ جامع لآيات الكُتُب المنزلة، وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، ونفي الخوف والحزن يعم جَمِيعَ أنواع مكاره النفس وأنكادها.

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 476) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 477) برقم: (14560) من حديث أبي سيار السلمي، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 153) وعزاه لابن جرير. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 396) .

[سورة الأعراف (7) : آية 37]

[سورة الأعراف (7) : آية 37] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قوله سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ... الآية: هذه الآية وَعِيدٌ واستفهام على جهة التقرير، أي: لا أحد أظلم منه، والكتاب هو اللوح المَحْفُوظُ في قول الحَسَنِ وغيره. وقيل: ما تكتبه الحَفَظَةُ، ونصيبهم من ذلك هو الكُفْرُ وَالمَعَاصي. قاله مجاهد، وغيره. وقيل: هو القرآن، وحَظُّهم فيه سَوَادُ الوجوه يوم القيامة. وقال الربيع بن أنس، وغيره: المعنى بالنصيب مَا سَبَقَ لهم في أُم الكتاب من رِزْق، وعمر، وخير، وشر في الدنيا، ورجحه «1» الطبري. واحتج له بقوله تعالى بعد ذلك: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي: عند انقضاء ذلك، فكان معنى الآية على هذا التأويل: أولئك يتمتعون، ويتصرَّفُونَ في الدنيا بِقَدْرِ ما كتب لهم حتى إِذا جاءتهم رُسُلنا لموتهم وهذا تأويل جَمَاعَةٍ، وعلى هذا يترتّبُ ترجيحُ الطبري. وقالت فرقة: رُسُلُنا يريد بهم مَلاَئِكَةَ العَذَابِ يوم القيامة، ويَتَوَفَّوْنَهُمْ معناه عندهم يستوفونهم عَدَداً في السوق إلى جهنم. وقوله سبحانه حكايةً عن الرسل أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ استفهام تقرير، وتوبيخ، وتوقيف على خِزْيٍ، وتَدْعُونَ معناه: تعبدون، وتؤمِّلُون. وقولهم: ضَلُّوا عَنَّا معناه: هلكوا، وتلفوا، وفقدوا. ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله سبحانه: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 481) .

قوله سبحانه: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ هذه حكاية ما يَقُولُ اللَّه سبحانه لهم يَوْمَ القيامة، بواسطة ملائكة العَذَابِ، نسأل اللَّه العافية. وعبر عن يقول ب «قال» لتحقُّق وقوع ذلك، وصدق القصة، وهذا كثير، وخَلَتْ حكاية عن حَالِ الدنيا، أي: ادخلوا في النَّار في جملة الأمم السابقة لكم في الدنيا الكافرة. ت: وكذا قدره «1» أبو حَيَّانَ في جملة «أمم» ، قال: وقيل: «في» بمعنى «مع» أي: مع أمم، وتقدم له في «البقرة» أن «في» تجيء للمُصَاحَبَةِ، كقوله تعالى: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ انتهى. وقدم ذِكْرَ الجن لأنهم أَعْرَقُ/ في الكفر، وإبليس أَصْلُ الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجنِّ في النار، والذي يقتضيه النظر أن مُؤمنيهم في الجَنَّةِ لأنهم عُقَلاَءُ، مُكَلَّفُونَ، مبعوث إليهم، آمنوا وصدقوا، وقد بَوَّب البخاري رحمه اللَّه باباً في ذِكْرِ الجن، وثوابهم، وعقابهم. وذكر عبد الجليل: أن مؤمني الجن يكونون تُرَاباً كالبهائم، وذكر في ذلك حديثاً مجهولاً، وما أَراه يصحُّ. واللَّه أعلم. والإِخْوَةُ في هذه الآية إِخْوَةُ الملة. قال ص: في «النار» متعلق ب «خَلَتْ» ، أو بمحذوف، وهو صفة ل «أمم» أي: في أمم سابقة، في الزمان كائنة، من الجن والإنس كائنة في النار، ويحتمل أن يتعلق ب «ادخلوا» على أن «في» الأولى بمعنى «مع» ، والثانية للظرفية، وإذا اختلف مَدْلُول الحرفين، جاز تعلقهما بمحلّ واحد. انتهى. وادَّارَكُوا معناه: تلاحقوا، أصله: تداركوا أدغم، فجلبت ألف الوَصْل. وقال البخاري: ادَّارَكُوا اجتمعوا. انتهى. وقوله سبحانه: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ معناه: قالت الأمم الأخيرة التي وجدت ضلالات متقررة، وسنناً كاذبةً مستعملة للأولى التي شرعت ذلك، وافترت على اللَّه، وسَلَكَتْ سبيل الضَّلال ابتداءً رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، أي: طرقوا لنا طُرُقَ الضلال، قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: عذاب مشدَّد على الأول والآخر وَلكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ أي المقادير، وصور التضعيف.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 297) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 إلى 42]

قوله سبحانه: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي: قد اسْتَوَتْ حالنا وحالكم فَذُوقُوا الْعَذابَ باجْتَرَامِكُمْ، وهو من كلام الأمة المتقدمة للمتأخّرة. وقيل: قوله: فَذُوقُوا هو من كلام الله عز وجل لجميعهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الآية، هذه الآية عامة في جميع الكَفَرَةِ قديمهم وحديثهم. قرأ نافع «1» وغيره: «تُفَتَّح» بتشديد التاء الثانية، وقرأ أبو عمرو: «تُفْتَح» بالتاء أيضاً وسكون الفاء، وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة «يفتح» بالياء من أسفل، وتخفيف التاء، ومعنى الآية: لا يرتفع لهم عَمَلٌ، ولا روح، ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين. قاله ابن عباس، وغيره. ثم نفى سبحانه عنهم دُخُولَ الجنة، وعلق كونه بِكَوْنٍ محال، وهو أن يدخل الجمل في ثُقْبِ الإبرة حيث يدخل الخَيْطُ، والجمل كما عهد، والسَّمّ كما عهد، وقرأ جمهور «2» المسلمين «الجمل» واحد الجمال، وقرأ ابن عباس وغيره «3» «الجُمّل» بضم الجيم وتشديد الميم، وهو حَبْلُ السفينة «4» والسّمّ: الثقب من الإبرة وغيرها، وكَذلِكَ أي: وعلى هذه

_ (1) والتشديد أي: مرة بعد مرة. وحجة هؤلاء قوله تعالى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] . ينظر: «السبعة» (280) ، و «الحجة» (4/ 18) ، و «حجة القراءات» (282) ، و «إعراب القراءات» (1/ 180) ، و «العنوان» (95) ، و «شرح الطيبة» (4/ 294) ، و «شرح شعلة» (388) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 48) ، و «معاني القراءات» (1/ 405) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 400) ، و «البحر المحيط» (4/ 300) ، و «الدر المصون» (3/ 269) . (3) وقرأ بها سعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وأبي العلاء بن الشّخير، ورويت عن أبي رجاء. ينظر: «الشواذ» (48) ، و «المحتسب» (1/ 249) ، و «الكشاف» (2/ 103) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 400) ، وزاد نسبتها إلى عكرمة، وينظر: «البحر المحيط» (4/ 300) ، وزاد في نسبتها إلى ابن يعمر، وأبي مجلز، وأبي رزين، وابن محيصن، وأبان عن عاصم، وينظر: «الدر المصون» (3/ 270) . [.....] (4) أخرجه الطبري (5/ 487) ، وابن كثير (2/ 214) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 157) .

[سورة الأعراف (7) : آية 43]

الصفة، وبمثل هذا الحتم، وغيره نجزي الكفرة وأهل الجَرَائِمِ على اللَّه. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي: فراش، ومسكن، ومضجع يتمهَّدُونه، وهي لهم غَوَاشٍ جمع غاشية، وهي ما يَغْشَى الإنسان أي: يغطيه، ويستره من جهة فَوْق. وقوله سبحانه: لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ هذه آية وعد مخبرةٌ أن جميع المؤمنين هم أصْحَابُ الجنة، ولهم الخُلْدُ فيها، ثم اعترض فيها القَوْل بعقب الصِّفَةِ التي شرطها في المؤمنين باعتراض يُخَفِّفُ الشرط، ويرجى في رحمة اللَّه، ويعلم أن دينه يُسْر، وهذه الآية نصٌّ في أن الشريعة لا يَتَقَرَّرُ من تكاليفها شَيْءٌ لا يُطَاقُ، وقد/ تقدم ذلك في «سورة البقرة» . «والوُسْعُ» معناه: الطاقة، وهو القدر الذي يتّسع له البشر. [سورة الأعراف (7) : آية 43] وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وقوله سبحانه: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ هذا إخبار من الله عز وجل أنه ينقي قُلُوبَ ساكني الجنة من الغِلِّ، والحِقْدِ، وذلك أن صاحب الغل مُعَذَّبٌ به، ولا عذاب في الجَنَّةِ. وورد في الحديث: «الغلُّ على بَابِ الجنة كَمَبَارِكِ الإِبِلِ قد نَزَعَهُ اللَّه من قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ» «1» . والغل: الحِقْدُ والإِحنة الخَفِيَّةُ في النفس. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا الإِشارة ب «هذا» يتجه أن تكون إلى الإيمان، والأعمال الصالحات المؤدية إلى الجنة، ويحتمل أن تكون إلى الجنة نَفْسِهَا، أي: أرشدنا إلى طرقها. وقرأ ابن عامر «2» وَحْدَهُ: «ما كنا لنهتدي» بسقوط الواو، وكذلك هي في مَصَاحِف أهل «الشام» ، ووجهها أن الكَلاَمَ مُتَّصِلٌ، مرتبط بما قبله. ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن اللَّه سبحانه، وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا:

_ (1) ينظر: «تفسير القرطبي» (7/ 208) . (2) ينظر: «شرح طيبة النشر» (4/ 295) ، و «شرح شعلة» (389) ، و «العنوان» (95) ، و «معاني القراءات» (1/ 407) ، و «إتحاف» (2/ 49) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 46]

لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أي: قيل لهم بِصِيَاحٍ، وهذا النداء من قِبَلِ اللَّه، «وأن» مفسرة لمعنى النداء، بمعنى: أي. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لا على طَرِيق وجوب ذلك على اللَّه تعالى لكن بقرينة رحمته، وتغمده، والأعمال أمارة من اللَّه سبحانه وطريق إلى قوة الرَّجَاء، ودخولُ الجَنَّة إنما هو بِمُجَرَّدِ رحمته، والقَسْمُ فيها على قدر الأعمال. «وأورثتم» مشيرة إلى الأقسام. [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 46] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا ... الآية. هذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تَقْرِيعٌ، وتوبيخ، وزيادة في الكَرْبِ، وهو بأن يشرفوا عليهم، ويخلق الإدراك في الأسماع والإبصار. وقوله سبحانه: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أي: أعلم معلم، والظالمون هنا هم الكافرون. ت: حكي عن غير وَاحِدٍ أن طاوس دخل على هشام بن عبد الملِكِ «1» فقال له: اتّق الله، واحْذَرْ يوم الأذان، فقال: وما يوم الأذان؟ فقال قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فصعق هشام، فقال طاوس: هذا ذُلُّ الوَصْفِ، فكيف ذل المُعَايَنَةِ انتهى. وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: يطلبونها، أو يطلبون لها، والضمير في يَبْغُونَها عائد على السَّبيل.

_ (1) هشام بن عبد الملك بن مروان: من ملوك الدولة الأموية في الشام. ولد في دمشق وبويع فيها بعد وفاة أخيه يزيد سنة 105 هـ، خرج عليه زيد بن علي بن الحسين سنة 120 هـ بأربعة عشر ألفا من أهل الكوفة، فوجه إليه من قتله وفلّ جمعه، نشبت في أيامه حرب هائلة مع خاقان الترك في ما وراء النهر، كان حسن السياسة، يقظا في أمره، يباشر الأعمال بنفسه. ولد سنة 71 هـ، وتوفي في سنة 125 هـ. انظر: «ابن الأثير» (5/ 96) «الطبري» (8/ 283) ، «اليعقوبي» (3/ 57) ، «ابن خلدون» (3/ 80) ، «الأعلام» (8/ 86) .

وقوله سبحانه: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ. وَبَيْنَهُما: أي: بين الجنة والنار، ويحتمل بين الجَمْعَيْنِ، والحِجَابُ هو السور الذي ذكره الله عز وجل في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد: 13] . قال ابن عباس، وقال مجاهد: الأعراف حجاب بين الجنة والنار «1» . وقال ابن عباس أيضاً: هو تَلٌّ بين الجنة والنار» . وذكر الزّهراويّ حديثا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أُحُداً جَبَلٌ يحبنا ونحبُّه، وإِنَّه يَوْمَ القِيَامَةِ يمثلُ بينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَحْتَبِسُ عَلَيْهِ أَقْوَامٌ، يعرفون كُلاًّ بِسِيماهُمْ، هُمْ إِن شَاءَ اللَّه من أَهْلِ الجَنَّةِ» «3» . والأعراف جمع عرف، وهو المرتفع من الأرض، ومنه عُرْفُ الفرس، وعرف الديك لعلوِّهُمَا. وقال بعض الناس: سُمِّيَ الأعراف أَعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس. قال ع «4» : وهذه عُجْمَةٌ، وإنما المراد على أعراف ذلك الحِجَاب، أي أعاليه. وقوله: رِجالٌ قال الجمهور: إنهم رِجَالٌ من البَشَرِ، ثم اختلفوا في تعيينهم، فقال شرحبيل بن سَعْدٍ: هم المستشهدون في سَبِيلِ اللَّه الذين خَرَجُوا عُصَاةً لآبائِهِم «5» . وذكر الطَّبَرِيُّ في ذلك/ حَدِيثاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه تعادل عُقُوقُهم، واستشهادهم «6» . وقال ابن عباس، وغيره: هم قوم اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وسيئاتهم «7» ، ووقع في «مسند

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 498) برقم: (14687) ، (14688) وبرقم: (14686) ، وذكره ابن عطية (2/ 404) ، وابن كثير (2/ 216) ، وذكره السيوطي (3/ 160) ، (3/ 161) . (2) أخرجه الطبري (5/ 498) برقم: (14685) ، وذكره ابن عطية (2/ 404) ، وابن كثير (2/ 216) ، والسيوطي (3/ 161) . (3) الحديث بهذا اللفظ لم أجده أما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» فثابت من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 404) . (5) أخرجه الطبري (5/ 501) برقم: (14711) ، وابن عطية (2/ 404) ، والبغوي (2/ 162) بنحوه. (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 501) برقم: (14713) والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 163) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأحمد بن منيع، والحارث بن أبي أسامة، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» ، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» ، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» . (7) أخرجه الطبري (5/ 500) برقم: (14700- 14705- 14706) ، وذكره ابن عطية (2/ 404) ، والبغوي (2/ 162) ، وابن كثير (2/ 216) ، والسيوطي (3/ 163) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 47 إلى 49]

خيثمة «1» بن سليمان» في آخر الجزء الخامس عشر عن جَابِرِ بن عَبْدِ اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «تُوضَعُ المَوَازِينُ يوم القيامة، فتوزن الحَسَنَاتُ والسَّيِّئَاتُ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ على سيئاته مِثْقَالَ صُؤَابَةٍ دخل الجَنَّةَ، ومن رَجَحَتْ سيئاته على حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ صُؤَابَةٍ دخل النار. قيل: يا رَسُولَ اللَّه فمن استوت حَسَنَاتُهُ وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأَعْرَافِ لم يَدْخُلوها وهم يَطْمَعُون» «2» . وقيل غير هذا من التَّأويلات. قال ع «3» : واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السُّور، أو على مواضع مرتفعة عن الفَرِيقَيْنِ حيث شاء اللَّه تعالى رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يتأخر دخولهم، ويقع لهم ما وصف من الاعتبار. ويَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ، أي: بِعَلاَمَاتِهِمْ من بياض الوجوه، وحُسْنِهَا في أهل الجنة، وسَوَادِهَا وقبحها في أهل النَّارِ إلى غير ذلك في حَيِّزِ هؤلاء، وحيز هؤلاء. وقوله: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ المراد به: أهل الأعراف فقط، وهو تأويل ابن مَسْعُودٍ، والسدي، وقتادة، والحسن «4» وقال: واللَّه ما جعل اللَّه ذلك الطَّمَعَ في قلوبهم إلا لخير أَرَادَهُ بهم. قال ع «5» : وهذا هو الأظهر الأليق مما قيل في هذه الآية، ولا نَظَرَ لأَحَدٍ مع قول النبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 47 الى 49] وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

_ (1) الإمام الثّقة المعمّر، محدّث الشّام، أبو الحسن، خيثمة بن سليمان بن حيدرة بن سليمان، القرشي، الشّامي، الأطرابلسي، مصنّف «فضائل الصّحابة» . كان رحّالا جوّالا صاحب حديث. وثّقه الخطيب، وقال: ثقة ثقة. ينظر: «سير أعلام النبلاء» (15/ 412- 413) ، «العبر» (2/ 262) ، «النجوم الزاهرة» (3/ 312) . (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 162) ، وعزاه إلى ابن عساكر، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 404) . [.....] (4) ذكره ابن عطية (2/ 405) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 405) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 إلى 53]

وقوله سبحانه: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي: أبصار أصحاب الأعراف، فهم يسلمون على أصحاب الجنة، وإذا نظروا إلى النار، وأهلها، قالوا: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قاله ابن عباس «1» ، وجماعة من العلماء. وقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ يريد من أهل النار. مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ «ما» استفهام بمعنى التَقْرِيرِ، والتوبيخ، و «ما» الثانية مصدرية، و «جمعكم» لفظ يعم المال والأَجْنَادَ والخَوَلَ. وقوله سبحانه: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أهل الأعراف هم القائلون: «أهؤلاء» إشارة إلى أهل الجنة، والذين خوطبوا هم أهل النار، والمعنى: أهؤلاء الضُّعَفَاء في الدنيا الذين حَلَفْتُمْ أن اللَّه لا يعبؤبهم، قيل لهم: ادخلوا الجنة. وقال النقاش: اقسم أهْلُ النَّارِ أن أصحاب الأعراف داخلون النَّارَ «2» معهم، فنادتهم المَلاَئِكَةُ: أهؤلاء، ثم نادت أصحاب الأَعْرَافِ: ادخلوا الجنة. وقرأ عكرمة «3» : «دخلوا الجَنَّة» على الإخبار بفعل ماض. [سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 53] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) وقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ ... الآية: لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وَقَعَ لهم علم بأن أهل الجنّة يسمعون نداءهم،

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 505) برقم: (14743) بلفظ: «إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وذكره ابن عطية (2/ 405) بمثله، وابن كثير (2/ 218) بنحوه. (2) ذكره ابن عطية (2/ 406) ، والبغوي (2/ 163) بنحوه، والسيوطي (3/ 166) بنحوه، وعزاه للربيع. (3) ينظر: «الشواذ» (49) ، و «الكشاف» (2/ 107) ، و «المحتسب» (1/ 249) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 406) ، و «البحر المحيط» (4/ 306) ، و «الدر المصون» (3/ 276) .

وجائز أن يكون ذلك، وهم يرونهم بإِدراك يجعله اللَّه لهم عَلَى بُعْدِ السُّفْلِ من العلو، وجائز أن يكون ذلك، وبينهم السُّورُ والحجاب المتقدم الذِّكْر. وروي أن ذلك النداء هو عند اطِّلاَع أهل الجنة عليهم. وقوله سبحانه: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إشارة إِلى الطعام. قاله السدي «1» . فيقول لهم أهل الجنة: إن اللَّه حَرَّمَ طعام الجَنَّةِ وشَرَابَهَا على الكافرين، وإجابة أهل الجنة بهذا الحُكْمِ هو عن أَمْرِ اللَّه تعالى. ومعنى قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً أي بالإِعْرَاضِ والاستهزاء. بِمَنْ يدعوهم إلى الإسلام. وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي: خدعتهم بزخرفها، واعتقادهم أنها الغَايَةُ القصوى. وقوله: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ هو من إخبار اللَّه عز وجل عما يَفْعَلُ بهم والنسيان هنا بمعنى التَّرْكِ، أي: نتركهم في العذاب، كما تركوا النَّظَر/ للقاء هذا اليوم. قاله ابن عباس «2» وجماعة. «وما كانوا» عطف على «ما» من قوله: «كما نسوا» ، ويحتمل أن تقدر «ما» الثانية زائدة، ويكون قوله: و «كانوا» عَطْفاً على قوله: «نسوا» . وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ الضمير في جِئْناهُمْ لمن تَقَدَّم ذكره، و «الكتاب» اسم جنس، واللام في «لقد» لام قَسَم. وقال يحيى بن سلام: بل الكلام تَمَّ في يَجْحَدُونَ، وهذا الضمير لمكذبي نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم «3» وهو ابتداء كلام آخر، والمراد بالكتاب القرآن، وعَلى عِلْمٍ معناه: على بَصِيرَةٍ. وقوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون إِلَّا تَأْوِيلَهُ، أي مآله وعاقبته يوم القيامة. قاله ابن عباس «4» وغيره.

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 509) برقم: (14757) ، وذكره ابن عطية (2/ 406) ، وابن كثير (2/ 219) ، والسيوطي (3/ 166) ، وعزاه للسدي. (2) أخرجه الطبري (5/ 510) برقم: (14766- 14767) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 407) ، وابن كثير (2/ 219) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 407) . (4) أخرجه الطبري (5/ 512) برقم: (14775) ، وذكره ابن عطية (2/ 408) ، وابن كثير (2/ 220) ، والسيوطي (3/ 168) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 إلى 55]

وقال السدي: مآله في الدنيا وقعة بَدْرٍ وغيرها، ويوم القيامة «1» أيضاً، ثم أخبر تعالى أن مآل حال هذا الدين يوم يأتي يَقَعُ معه نَدَمُهُمْ، ويقولون تأسُّفاً على ما فاتهم من الإيمان: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فالتأويل على هذا من آل يؤول، وَنَسُوهُ يحتمل أن يكون بمعنى الترك، وباقي الآية بَيِّنٌ. ت: وهذا التقرير يرجّح تأويل ابن سلام المتقدم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 55] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... الآية خطاب عام يقتضي التوحيد، والحجة عليه بدلائله، وجاء في التفسير والأحاديث أن اللَّه سبحانه ابتدأ الخَلْقَ يوم الأَحدِ، وكملت المَخْلُوقَاتُ يوم الجمعة، وهذا كله والساعة اليَسِيرَةُ في قُدْرَةِ اللَّه سبحانه سواء. قال م: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «ستة» أصلها سِدْسَة، فأبدلوا من السِّين تاء، ثم أدغموا الدال في التاء، وتصغيره سديس وسديسة. انتهى. وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ معناه عند أبي المعالي وغيره من حُذَّاق المتكلمين: الملك، والسلطان «2» ، وخصّ العرش بالذِّكْرِ تشريفاً له إذ هو أَعْظَمُ المخلوقات. وقوله سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ «ألا» : استفتاح كلام. وأخذ المفسرون «الخَلْق» بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها مِلْكُهُ، واختراعه، وأخذوا الأمر مَصْدَراً من أمر يأمر. قال ع «3» : ويحتمل أن تؤخذ لفظة «الخَلْقِ» على المصدر من: خلق يخلق خَلْقاً، أي: له هذه الصفة إذ هو المُوجِدُ للأشياء بعد العَدَمِ، ويؤخذ الأمر على أنه واحد

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 512) برقم: (14773) ، وذكره ابن عطية (2/ 408) ، والبغوي (2/ 164) بلفظ: «عاقبته» ، والسيوطي (3/ 168) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) ذكره ابن عطية (2/ 408) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 409) .

الأمورِ، فيكون بمنزلة قوله: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: 210] . وكيف ما تَأَوَّلَتِ الآية، فالجميع للَّه سبحانه. وتَبارَكَ معناه: عظم، وتعالى، وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله سبحانه. وتَبارَكَ لا يَتَصَرَّفُ في كلام العرب، فلا يقال منه: يتبارك، والْعالَمِينَ جمع عالم. قوله عز وجل: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ هذا أمر بالدعاء، وتعبد به، ثم قرن سبحانه بالأَمْرِ به صفات تحسن معه. وقوله: تَضَرُّعاً معناه بخشوع، واستكانة، والتضرع لفظة تَقْتَضِي الجَهْرَ، لأن التضرع إنما يكون بإشَارَاتِ جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، وخُفْيَةً يريد في النفس خاصة، وقد أثنى اللَّه سبحانه على ذلك في قوله سبحانه: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] ، ونحو هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ» «1» والشريعة مقررة أن السر فيما لم يفرض من أعمال البر أعظم أَجْراً من الجَهْرِ. ت: ونحو هذا لابن العربي لما تكلَّمَ على هذه الآية، قال: الأَصْلُ في الأعمال الفرضية الجَهْرُ، والأصل في الأعمال النَّفْلية السِّرُّ، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرِّيَاءِ، والتَّظَاهُر بذلك في الدنيا، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال، وقلوب الخَلْقِ جُبِلَتْ بالمَيْلِ إلى أهل الطاعة. انتهى/ من «الأحكام» . وقوله سبحانه: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عامّاً، والاعتداء في الدعاء على وجوه منها: الجَهْرُ الكثير، والصياح، وفي «الصحيح» عنه صلّى الله عليه وسلّم: «أيها النَّاسُ ارْبَعُوا على أَنفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لاَ تدعون أصمّ ولا غائبا» «2» .

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 187) ، وفي «الزهد» ص: (10) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» ص: (76) برقم: (137) ، وأبو يعلى (2/ 81- 82) برقم: (731) ، وابن حبان (2323- موارد) ، من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن سعد بن أبي وقاص به. وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 84) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة، وقد وثقه ابن حبان، وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص. قلت: وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح. (2) أخرجه البخاري (7/ 537) كتاب «المغازي» ، باب: غزوة خيبر، حديث (4205) ، وفي (11/ 191) كتاب «الدعوات» ، باب: الدعاء إذا علا عقبه، حديث (6384) ، وفي (11/ 217) كتاب «الدعوات» ، [.....]

ومنها: أن يدعو في مُحَالٍ، ونحو هذا من التشطّط وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قالُّ: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الدُّعَاءِ، وحَسْبُ المرء أن يَقُولَ: اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرَّب إِلَيْهَا من قَوْلٍ، أو عَمَلٍ، وأَعُوذُ بك من النَّارِ، وما قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلِ، أو عَمَلٍ» «1» . وقال البخاري: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي: في الدعاء وغيره. انتهى. ت: قال الخطابي: وليس معنى الاعتداء الإكثار، فقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدّعاءِ» «2» ، وقال: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَكْثرْ، فإنما هُوَ يَسْأَلُ رَبَّهُ» «3» . انتهى. وروى أبو داودَ في «سُنَنَهِ» عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سَيَكُونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ قوم يَعْتَدُونَ في الطّهر والدّعاء» «4» انتهى.

_ - باب: قَوْلَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، حديث (6409) ، وفي (13/ 384) كتاب «التوحيد» ، باب: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً، حديث (7386) ، ومسلم (4/ 2076) كتاب «الذكر والدعاء» ، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث (44- 45/ 2704) ، وأبو داود (1/ 478) كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، حديث (1526) ، و (1527) ، و (1528) ، والترمذي (5/ 457) ، كتاب «الدعوات» باب: (3) ، حديث (3374) ، وابن ماجه (2/ 1256) كتاب «الأدب» باب: ما جاء في لا حول ولا قوة إلا بالله، حديث (3824) ، وأحمد (4/ 402، 403، 407، 417، 418، 419) ، وأبو يعلى (13/ 241) برقم: (7252) ، وابن حبان (792) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» برقم: (521) كلهم من طريق أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (1) أخرجه أحمد (1/ 172، 182) ، وأبو داود (1/ 466- 467) كتاب «الصلاة» باب: الدعاء، حديث (1480) ، والطبراني في «الدعاء» (55) ، وابن أبي شيبة (10/ 288) ، وأبو يعلى (10/ 71) برقم: (715) من حديث سعد بن أبي وقاص. (2) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (4/ 452) من طريق يوسف بن السفر عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مرفوعا. وأسند العقيلي عن البخاري قوله في يوسف بن السفر: منكر الحديث، والحديث موضوع آفته يوسف هذا. (3) أخرجه البخاري (11/ 144) كتاب «الدعوات» باب: ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، حديث (6338) ومسلم (4/ 2063) كتاب «الذكر والدعاء» باب: العزم، حديث (9/ 2679) ، وأحمد (2/ 486) وأبو داود (1/ 467) كتاب «الصلاة» ، باب: الدعاء، حديث (1483) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه أبو داود (1/ 72) كتاب «الطهارة» باب: الإسراف في الماء، حديث (96) ، وابن ماجه (2/ 1271) كتاب «الدعاء» باب: كراهية الاعتداء في الدعاء، حديث (3864) ، وأحمد (4/ 87) (5/ 55) ، وابن أبي شيبة (10/ 288) ، والحاكم (1/ 162) ، وابن حبان (6764) ، والطبراني في «الدعاء» (59) -

[سورة الأعراف (7) : آية 56]

[سورة الأعراف (7) : آية 56] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وقوله سبحانه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ... الآية ألفاظها عامة تتضمن كل فَسَادٍ قَلّ أو كثر بعد صَلاَحٍ قل أو كثر، والقَصْدُ بالنهي هو [على] العموم، وتخصيص شيء دون شَيْءٍ، في هذا تحكم إلا أن يُقَالَ على جهة المثال. وقوله سبحانه: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أمر بأن يكون الإنسان في حالة تقرب، وتحرز، وتأميل لله عز وجل حتى يَكُونَ الخَوْفُ والرجاء كالجَنَاحَيْنِ للطير يَحْمِلاَنِهِ في طريق استقامة، وإن انفرد أحدهما هَلَكَ الإنسان. وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يَغْلِبَ الخَوْفُ الرَّجَاءَ طُولَ الحياة، فإذا جاء المَوْتُ غلب الرَّجَاءُ. وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخَوْفُ أغلب على المَرْءِ بكثير، وهذا كله طَرِيقُ احتياط، ومنه تَمَنَّى الحسن البصري أَن يَكون الرَّجُل الذي هو آخِرُ مَنْ يدخل «1» الجَنَّةَ، وتمنى سَالِمٌ مولى أبي حذيفة أن يكون من أَصْحَابِ الأَعْرَافِ «2» . ثم آنسَ سبحانه بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا ... الآية: هذه آية اعتبار، واستدلال. وقرأ عاصم «3» «الرياح» بالجمع، «بشرا»

_ - كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي دغامة، عن عبد الله بن مغفل به. وأخرجه أحمد (4/ 86) من طريق حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أبي دغامة، عن ابن المغفل به. (1) ذكره ابن عطية (2/ 411) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 411) . (3) ينظر: «السبعة» (283) ، و «الحجة» (4/ 31، 32) ، و «حجة القراءات» (285) ، و «إعراب القراءات» (1/ 186) ، و «شرح شعلة» (391) ، و «شرح الطيبة» (4/ 299) ، و «العنوان» (96) ، و «إتحاف» (2/ 53) ، و «معانى القراءات» (1/ 408، 409) .

بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه «بُشُراً» بضم الباء والشين، ومن جمع الريح في هذه الآية، فهو أسعد وذلك أن الرِّيَاحَ حيث وَقَعَتْ في القرآن فهي مقترنة بالرحمة، كقوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 46] وأكثر ذِكْرِ الريح مفردة إنما هو بقرينة عَذَابٍ، كقوله سبحانه: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] وقد تقدم إيضاح هذا في «سورة البقرة» . ومن قرأ في هذه الآية «الريح» بالإفراد، فإنما يريد به اسْمَ الجِنْسِ، وأيضاً فتقييدها ب «بشراً» يزيل الاشتراك. والإِرْسَالُ في الريح هو بمعنى الإجراءِ، والإطلاق، وبُشْرَاً، أي: تَبْشُرُ السحابَ، وأما «بُشُراً» بضم الباء والشين، فجمع بَشِير، كنذير ونذور، والرحمة في هذه الآية المطر، وبَيْنَ يَدَيْ، أي: أمام رحمته وقدامها، وأَقَلَّتْ معناه: رفعته من الأرض، واستقلّت به، وثِقالًا معناه من الماء، والعَرَبُ تَصِفُ السحاب بالثّقَلِ، والرِّيحُ تَسُوقُ السحاب من ورائه فهو سوق حقيقة، والضمير في سُقْناهُ عائد على السحاب، ووصف البلد بالمَوْتِ استعارة بسبب شعثه وجدوبته. والضمير في قوله فَأَنْزَلْنا بِهِ يحتمل أن يَعُودَ على السحاب، أي منه، ويحتمل أن يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الريح. وقوله تبارك وتعالى: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى يحتمل مقصدين: أحدهما: أن يراد كهذه/ القُدْرَةِ العظيمة هي القدرة على إِحْيَاءِ الموتى، وهذا مثال لها. الثاني: أن يراد أن هكذا نَصْنَعُ بالأموات من نزول المَطَرِ عليهم، حتى يحيوا به، حَسَبَ ما وردت به الآثار، فيكون الكَلاَمُ خبراً لا مثالاً. وقوله سبحانه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ ... آية مُتَمِّمَةٌ للمعنى الأول في الآية قبلها، معرفة بِعَادَةِ اللَّه سبحانه في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مِثَالاً لقلب المؤمن، وقلب الكافر، كما هو محكي عن ابن عَبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي «1» ، فذلك مترتب، لكن أَلْفَاظَ الآية لا تقتضي أن المَثَل قصد به ذلك، والطيب: هو الجَيِّدُ التُّرَابِ الكريمُ الأَرْضِ وخص بإذن ربه مَدْحاً وتشريفاً، وهذا كما تقول لمن تغضّ منه: أنت

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 519) برقم: (14794) ، وذكره ابن عطية (2/ 414) ، وذكره ابن كثير (2/ 222) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 إلى 64]

كما شَاءَ اللَّه، فهي عبارة تعطي مُبَالَغَةً في مَدْحٍ أو ذم. والخبيث هو السّبَاخُ ونحوها من رَدِيء الأرض. والنَّكدُ العَسِيرُ القليل. كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي هكذا نبين الأمور، ويَشْكُرُونَ معناه: يؤمنون ويثنون بآلاء الله سبحانه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) قوله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. قال الطبري «1» : أقسم اللَّه تعالى أنه أرسل «2» نوحاً، وكذا قال أبو حيان «3» : «لقد» اللام جواب قسم محذوف. انتهى. و «غَيْرُهُ» بالرفع بَدَلٌ من قوله: مِنْ إِلهٍ لأنه في موضع رَفْعٍ، ويجوز أن يكون نَعْتاً على الموضع لأن التقدير ما لكم إله غيره، والمَلأُ الجماعة من الأشراف. قيل: إنهم مأخوذون من أنهم يملئون النَّفْسَ والعَيْنَ، ويحتمل من أنه إذا تمالؤوا على أَمْر تمّ. وقولهم: إِنَّا لَنَراكَ يحتمل من رُؤْيَةِ البصر، ويحتمل من رؤية القَلْبِ، وهو أظهر. وفِي ضَلالٍ أي في تَلَفٍ وجهالة بما تسلك. وقوله لهم جواب عن هذا:

_ (1) ينظر: الطبري في «تفسيره» (5/ 520) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 414) . (3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 323) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 إلى 70]

لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ مبالغة في حُسْنِ الأدب، والإعراض عن الجَفَاءِ منهم، وتناول رفيق، وسعة صدر حسب ما تقتضيه خلق النبوة. وقوله: وَلكِنِّي رَسُولٌ تعرض لمن يريد النظر، والبَحْثَ، والتأمل في المعجزة. وقوله عليه السلام: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ لفظ مُضَمَّنُهُ الوَعِيد، لا سيما وهم لم يسمعوا قطّ بأمة عذبت. وقوله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ. الاستفهام هنا على جِهَةِ التقرير والتوبيخ، وقوله: عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ قيل: «على» بمعنى «مع» . وقيل: هو على حَذْفِ مضاف، تقديره: على لسان رجل، ويحتمل أن يكون معناه منزَّل على رَجُلٍ منكم إذ كل ما يأتي من اللَّه سبحانه فله حكم النزول، ولَعَلَّكُمْ تَرَجٍّ بحسب حال نوح ومعتقده. وقوله سبحانه: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ... الآية. وفي التفسير: إن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رَجُلاً. وقيل: ثمانون رجلاً وثمانون امرأة وقيل: عشرة وقيل: ثمانية. قاله قتادة. وقيل: سبعة. واللَّه أعلم. وفي كثير من كتب الحديث التِّرْمذِيِّ وغيره أن جَمِيعَ الخَلْقِ الآن من ذُرِّيَّةِ نوح عليه السلام وقوله: عَمِينَ جمع عَمٍ، ويريد عَمِيَّ البَصَائر، وأتى في حديث الشفاعة وغيره أن نُوحاً أَوَّلُ الرسل «1» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 70] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)

_ (1) تقدم تخريجه. [.....]

وقوله سبحانه: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ عاد اسم الحَيِّ، وهم عَرَبٌ فيما يذكر، و «أخاهم» نصب ب «أرسلنا» وهو معطوف على نوح، وهذه أيضاً نذارة من هود عليه السلام. وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ استعطاف إلى التقوى، والإيمان. وقوله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قوله: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي في الخِلْقَةِ، والبَسْطَةُ الكمال في الطول والعَرْضِ. وقيل: زادكم على أهل عصركم. وقال الطبري: زادكم على قَوْمِ نوح. وقاله قتادة «1» . قال ع «2» : واللفظ يقتضي أن الزيادة على جَمِيع العَالم، وهو الذي يقتضيه ما يذكر عنهم. وروي أن طُولَ الرجل منهم كان مائة ذِرَاعٍ، وطول أقصرهم ستّون ونحوها. والآلاء جمع «إلًى» على مثل «معًى» ، وهي النعمة والمنة. قال الطبري: وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إِسْحاقَ من ولد عاد بن إرم بن عوض بن سَام بن نوح، وكانت مَسَاكنهم «الشّحر» من أرض «اليمن» وما وَالى «حَضْرَمَوْتَ» إلى «عمان» «3» .

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 417) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 418) . (3) أخرجه الطبري (5/ 524) برقم: (14809) ، وذكره ابن عطية (2/ 418) .

قال السدي: وكانوا بالأَحْقَافِ، وهي الرمال، وكانت بلادهم أَخْصَبَ بلاد، فردها اللَّه صحارى «1» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن قبر هُودٍ عليه السلام هنالك في كَثِيبٍ أحمر تُخَالطه مدرة ذات أَراكٍ وسِدْر، وكانوا قد فشوا في جميع الأَرْض، وملكوا كثيراً بِقُوَّتِهِمْ وعَدَدِهِمْ، وظَلَمُوا النَّاسَ وَكَانُوا ثَلاَثَةَ عَشَرَ قَبِيلَةً، وكانوا أَصْحَابَ أَوثان، فبعث اللَّه إليهم هُوداً من أفضلهم وأوسطهم نَسَباً، فدعاهم إِلى تَوْحِيدِ اللَّه سبحانه وإلى تَرْكِ «2» الظُّلْمِ. قال ابن إسحاق: ولم يأمرهم فيما يذكر بِغَيْرِ «3» ذلك، فكذبوه وعتوا، واستمروا على ذلك إلى أن أراد اللَّه إنفاذ أمره أمْسَكَ عنهم المَطَرَ ثلاث سنين، فشقوا بذلك، وكان الناس في ذلك الزمان إذا دهمهم أمر، فزعوا إلى المسجد الحرام ب «مكَّة» فدعوا اللَّه فيه تَعْظِيماً له مؤمنهم وكافرهم، وأهل «مكة» يومئذٍ العَمَالِيقُ، وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بَكْرٍ، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وَفداً إلى «مكة» يَسْتَسْقُونَ اللَّه لهم، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال، وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد، وكان هذا مؤمناً يكتم إيمانه، وجلهمة بن الخيبري في سَبْعِينَ رَجُلاً من قومهم، فلما قدموا «مكة» نَزَلُوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر «مكة» خارج الحَرَمِ، فأنزلهم، وأقاموا عنده شَهْراً يشربون الخَمْرَ، وتغنيهم الجَرَادَتَانِ قَيْنَتَا معاوية، ولما رأى معاوية إقامتهم، وقد بعثهم عَادٌ لِلْغَوْثِ أشفق على عَادٍ، وكان ابن أختهم أمه: كلهدة ابنة الخيبري أخت جلهمة، وقال: هَلَكَ أخوالي، وشق عليه أن يأمر أَضْيَافَهُ بالانصراف عنه، فشكا ذلك إلى قَيْنَتَيْهِ، فقالتا: اصنع شِعْراً نغني به، عسى أَن نُنَبِّهَهُمْ، فقال: [الوافر] أَلاَ يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَاداً ... قَدَ امسوا لاَ يُبَينُونَ الكَلاَمَا مِنَ العَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلاَ الغُلاَمَا وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْر ... فَقَدْ أَمْسَتْ/ نِسَاؤُهُمُ عيامى

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 524) برقم: (14810) ، وذكره ابن عطية (2/ 418) ، والسيوطي (3/ 178) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ذكره ابن عطية (2/ 418) ، وابن كثير (2/ 224) بنحوه. (3) أخرجه الطبري (5/ 524) برقم: (14812) ، وذكره ابن عطية (2/ 418) ، والسيوطي (3/ 178) ، وعزاه لإسحاق بن بشر، وابن عساكر.

وَإِن الوُحْشَ تَأْتِيهِمْ جَهَاراً ... وَلاَ تخشى لِعَادِيٍّ سِهَامَا وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُم ... نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمِ ... وَلاَ لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلاَمَا «1» فغنت به الجَرَادَتَانِ، فلما سمعه القَوْمُ قال بعضهم: يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حَلَّ بهم، فادخلوا هذا الحَرَمَ، وادعوا لَعَلَّ اللَّه يغيثهم فخرجوا لذلك، فقال لهم مرثد بن سعد: إنكم واللَّه ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم سقيتم، وأظهر إيمانه يومئذٍ، فَخَالَفَهُ الوَفْدُ، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احْبِسَا عنا مرثداً، ولا يدخل معنا الحَرَم، فإنه قد اتبع هُوداً، ومَضَوْا إلى الحرم، فاستسقى قيل بن عنز، وقال: يا إلاهنا إن كان هود صادقاً، فاسقنا، فإنا قد هلكنا، فأنشأ اللَّه تعالى سحائب ثَلاَثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى مُنَادٍ من السماء: يَا قَيْلُ اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شِئْتَ، فقال قيل: قد اخترت السَّوداء فإنها أكثرهن مَاءً، فنودي: قد اخترت رَمَاداً رَمْدداً ... لاَ تُبْقُي مِنْ عَادٍ أَحَدَا لا وَالِداً وَلاَ وَلَداً ... إِلاَّ جَعَلْتُهُمْ هَمَدَا وساق اللَّه السَّحَابَةَ السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من وَادٍ لهم يقال له: المُغِيثُ، فلما رأوها، قالوا هذا عَارِضٌ ممطرنا، حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها: مهدر، فصاحت وصعقت، فلما أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: ريحاً فيها كَشُهبِ النار، أمامها رجال يَقُودُونَهَا، فسخرها اللَّه عليهم سَبْعَ ليال، وثمانية أيام حُسْوماً، والحُسُوم: الدائمة، فلم تَدَعْ من عَادٍ أحداً إلا هلك، فاعتزل هود، ومن معه من المُؤْمنين في حَظِيرَةٍ ما يصيبه من رِيحٍ إلا ما يلتد به. قال ع «2» : وهذا قصص وقع في «تفسير الطبري» مطولاً، وفيه اختلاف، فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز، وفي خبرهم: أن الريح كانت تَدْمَغُهُمْ بالحِجَارَةِ، وترفع الظَّعِينَةَ عليها المرأة حتى تلقيها في البحر. وفي خبرهم: أن أقوياءهم كان أحدهم يسدّ بنفسه مَهَبَّ الريح حتى تَغْلبَهُ فتلقيه في البَحْر، فيقوم آخر مكانه حتى هَلَكَ الجَمِيعُ. وقال زيد بن أسلم: بلغني أن ضبعا ربّت

_ (1) الأبيات في «الكامل» (1/ 86) ، و «تاريخ الطبري» (1/ 220) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 418) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 419) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 71 إلى 72]

أولادها في حِجَاجِ عَيْنِ رَجُلٍ منهم. وفي خبرهم: أن اللَّه سبحانه لما أهلكهم بَعَثَ طيراً، فنقلت جِيفَهُمْ حتى طرحتها في البَحْرِ، فذلك قوله سبحانه: فَأَصْبَحُوا لاَ يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] وفي بعض ما رُويَ من شأنهم أن الريح لم تُبْعَثْ قط إلا بِمِكْيَالٍ إلا يومئذٍ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنَةِ، فغلبتهم، فذلك قوله سبحانه: فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: 6] وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمَنَ معه إلى «مكة» فكانوا بها حتى مَاتُوا، فاللَّه أعلم أي ذلك كَانَ. وقولهم: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ... الآية: ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم، ويفردون العبادة للَّه مع إقرارهم بالإله الخَالِقِ المُبْدِعِ، وهذا هو الأظهر فيهم، وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية اللَّه تعالى من الكَفَرَةِ إلا مَنْ أفرطت غباوته. وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا: تصميم على التكذيب، واستعجال للعقوبة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 71 الى 72] قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وقوله سبحانه: قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ... الآية: أعلمهم بأن القَضَاءَ قد نَفذ، وحَلَّ عليهم الرجس، وهو السخط والعذاب. / وقوله: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أي: في مسمّيات سميتموها آلهة، وَقَطَعْنا دابِرَ استعارة تُسْتَعْمَلُ فيمن يُسْتأصَل بالهلاك، والدابر: الذي يَدْبُرُ القوم، ويأتي خَلْفَهُمُ، فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك، فلم يبق أحد. وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا دالّ على المعجزة، وإن لم تتعين. ت: ومن مُعْجِزَاتِهِ قوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود: 55] على ما سيأتي إن شاء الله في موضعه.

[سورة الأعراف (7) : آية 73]

[سورة الأعراف (7) : آية 73] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وقوله سبحانه: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قرأ الجمهور: «وإلى ثَمُودَ» بغير صَرْفٍ «1» على إرادة القبيلة، وقرأ يحيى بن وثَّاب «2» والأعمشُ: «وإلى ثَمُودٍ» بالصرف على إرادة الحيِّ والقراءتان فصيحتان، مستعملتان، وقد قال تعالى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود: 68] ، وأَخاهُمْ عطْفٌ على «نوح» ، والمعنى: وأرسلنا إِلى ثمود أخاهم، وهي أخوَّة نسب، وهم قومٌ عربٌ، فَهُودٌ وَصَالِحٌ عربيَّان، وكذلك إِسماعيل وشُعَيْب كذا قال الناس، وفي أمر إِسماعيل نَظَرٌ. ت: النظرُ الذي أشار إليه لا يخفى عليك وذلك أن إِسماعيل والدهُ إبراهيم عليه السلام أَعْجميٌّ، وتعلَّم إسماعيل العربيةَ من العرب الَّذين نَزَلُوا عليه بمكَّة حَسَب ما ذكره أهْل السيرة فهذا وجْهُ النظر الذي أشار إليه، وفي نظره رحمه الله نَظَرٌ يمنعني مِنَ البَحْث معه ما أنا له قاصدٌ من الإيجاز والاختصار، دون البَسْط والانتشار، نَعَمْ خَرَّج أبو بكر الآجُرِّيُّ من حديث أَبي ذر رضي اللَّه عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وأَرْبَعَةٌ من العَرَبِ: هُودٌ، وَشُعَيْبٌ، وَصالحٌ وَنَبيُّكَ، يَا أَبَا ذَرًّ» انتهى، ولم يذكر إِسماعيل، فهذا الحَديثُ قد يَعْضُدُ ما قاله ع: وصالحٌ عليه السلام هو صالحُ بنُ عُبَيْدِ بن عَابِرِ بنْ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ كذا ذكر «3» مكِّيٌّ. قال وهْبٌ «4» : بعثه اللَّه حين راهق الحُلُمَ، ولمَّا هلك قومُهُ، ارتحل بمَنْ معه إِلى مكَّة، فأقاموا بها حتى ماتوا فقُبُورُهُمْ بَيْنَ دار الندوة والحِجْر، أي: كما ارتحلَ هودٌ بمَنْ معه إِلى مكَّة صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.

_ (1) ينظر: «الكشاف» (2/ 120) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 420) ، و «البحر المحيط» (4/ 330) ، و «الدر المصون» (3/ 292) . (2) ينظر: «الشواذ» ص: (50) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 420) ، و «البحر المحيط» (4/ 330) ، و «الدر المصون» (3/ 292) ، و «التخريجات النحويّة» (154) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 421) . (4) ذكره ابن عطية: (2/ 421) ، وابن كثير (2/ 230) بنحوه، والسيوطي (3/ 185) بنحوه، وعزاه لوهب.

وقوله: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: آيةٌ أو حجة أو موعظة بيِّنة من ربكم، قال بعض الناس: إِن صالحاً جاء بالناقة من تلقاء نَفْسه. وقال الجمهور: بل كانَتْ مقْتَرَحَةً، وهذا أليقُ بما ورد في الآثارِ من أمرهم، رُوِيَ أنَّ قومه طَلَبُوا منْهُ آية تضْطَرُّهم إِلى الإِيمان، وقالوا: يا صالح، إن كنْتَ صادقاً، فادع لنا ربَّكَ يُخْرِجْ لنا من هذه الهَضْبَةِ، وفي بعضِ الروايات مِنْ هذه الصَّخْرَةِ- لِصَخَّرةٍ بالحِجْر- نَاقَةً عُشَراءَ، فَدَعَا اللَّهَ، فتمخَّضت تلك الهَضْبةُ، وانشقت عن ناقةٍ عظيمة، وروي أنها كانَتْ حاملاً، فولدَتْ سَقَبَها المشهور. ورُوِيَ أنه خرج معها فَصِيلُها من الصخْرة. وقيل لها: ناقَةُ اللَّهِ تشريفاً لها، وتخصيصاً، وهي إِضافةُ خَلْقٍ إلى خالقِ، وجعل اللَّه لها شِرْباً يوماً، ولهم شِرْب يومٍ، وكانت آية في شُرْبها وحَلْبها. قال المفسِّرون: كانت خلقاً عظيماً تأتي إِلى الماء بين جبلين، فيزحمانها من العَظْم، وقاسَمَتْ ثمود في الماء يوماً بيومٍ، فكانت الناقةُ تَرِدُ يومها، فتستوفي ماءَ بئْرهم شُرْباً، ويحلبونها ما شَاؤوا من لَبَنٍ، ثُم تمكُثُ يوماً، وترد بعد ذلك غِبًّا، فاستمر ذلك ما شاء اللَّه حتى ملَّتها ثمود، وقالوا: مَا نَصْنَعُ باللَّبَنِ الماءُ أَحبُّ إِلينا منه، وكان سببُ المَلَلِ فيما روي: أنها كانَتْ تصيفُ في بطن الوادِي، وادي الحجر/ وَتَشْتُو في ظاهره، فكانت مواشيهم تفرُّ منها، فتمالؤوا على مَلَلِ الناقةِ، وَرُوِيَ أن صالحاً أوحى اللَّه إِلَيْهِ أَنَّ قومك سَيَعْقُرونَ الناقة، وينزلُ بهم العذابَ عند ذلك، فأخبرهم بذلك، فقالوا: عِيَاذاً بِاللَّهِ أنْ نفعل ذلك، فقال: إِنْ لم تفعلوا أنْتُمْ أوْشَكَ أنْ يولَدَ فيكم مَنْ يفعله، وقال لهم صفةَ عَاقِرِها: أَحْمرُ، أشْقَرُ، أَزْرَقُ، فَوُلِدَ قُدَارٌ على الصفة المذكورة، فكان الذي عَقَرها بالسيف، وقيل: بالسهم في ضَرْعها، وهَرَب فَصِيلها عند ذلك حتَّى صَعِدَ على جبلٍ يقال له القَارة، فَرَغَا ثلاثاً، فقال: يا صَالحُ، هذا ميعادُ ثلاثةِ أيامٍ للعذابِ، وأمرهم قبل رُغَاءِ الفَصِيل أنْ يطلبوه عسى أنْ يصلوا إِلَيْهِ، فيندفع عنهم العذابُ به، فرامُوا الصعودَ إِلَيْهِ في الجبل فارتفع الجبلُ في السماء حتى ما تناله الطيرُ وحينئذٍ رغا الفصيلُ، وروي أنَّ صالحاً عليه السلام قال لهم، حين رغا الفَصيلُ: سَتَصْفَرُّ وجوهُكم في اليوم الأولَ، وتحمرُّ في الثاني، وتسودُّ في الثالث، فلمَّا ظهرت العلامَاتُ التي قال لهم، أيْقَنُوا بالهلاك، واستعدوا، ولَطَّخُوا أبدانهم بالمُرِّ، وحفروا القبورَ، وتحنَّطوا وتكفَّنوا في الأنطاع، فأَخذتْهم الصيحةُ، وخرج صالحٌ ومَنْ آمن معه حتى نَزَلَ رَمْلَةَ فلسطينَ، وقد أكثر الناسُ في هذا القصص، وهذا القَدْر

كافٍ، وَمِنْ أراد استيفاء هذا القصص، فليطالِعِ الطبريَّ «1» . قال ع «2» : وبلادُ ثَمُود هِيَ بَيْنَ الشامِ والمدينة، وهي التي مَرَّ بها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مع المسلمين في غَزْوَةِ تَبُوك «3» فقال: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ أَنَّ تَكُونُوا بَاكينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، ثُمَّ اعتجر «4» بِعمامَةٍ» ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ، حتى جَازَ الوادي صلّى الله عليه وسلّم. ت: ولفظُ البخاريِّ: ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ السّير ... الحديث «5» .

_ (1) ينظر: الطبري في «تفسيره» (5/ 530، 531) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 422) . [.....] (3) «غزوة تبوك» : في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة- لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصار الطائف إلى المدينة بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد حشدوا له جمعا كثيرا يريدون غزوة في عقر داره، فأراد أن يلاقيهم على حدود بلادهم قبل أن يغشوه على غرة، فسار بجيشه حتى وصل تبوك، وكانت الروم قد بلغها أمر هذا الجيش وقوته، فآثرت الانسحاب بجيشها، لتتحصن في داخل بلاد الشام، فرأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن من الحكمة ألا يتبعهم داخل بلادهم، فلم يتبعهم. وهناك جاءه يوحنا بن رؤبة، فصالحه على الجزية كما صالحه أهل «جرباء» وأهل «أذرح» من بلاد الشام، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب «دومة الجندل» ، فأتى به خالد أسيرا بعد أن قتل أخاه، فحقن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دمه، وصالحه على الجزية وأخلى سبيله. وأقام بضع عشرة ليلة لم يقدم عليه الروم ولا العرب المتنصرة فعاد إلى المدينة. ولما بلغ ملك الروم ما فعله يوحنا أمر بقتله، وصلبه عند قريته. لم يكن من المعقول بعد ذلك أن يتهاون المسلمون فيما أصابهم من قتل رسولهم وأبطالهم ومعاهدهم الذي آمنوه على نفسه وماله بأخذ الجزية، وإعطاء العهد، كما أنه لم يكن معقولا أن الروم بعد أن رأوا حضور المسلمين للقصاص يكفون عن مناجزتهم والإيقاع بهم أينما وجدوا لذلك سبيلا. لهذا عاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في آخر حياته إلى تجهيز جيش آخر تحت إمرة أسامة بن زيد، ولكن لم يكد يتم أمره حتى قبض الرسول صلوات الله عليه، وانتقل إلى الرفيق الأعلى، وتولى أمر المسلمين بعده صاحبه أبو بكر، فارتأى رضي الله عنه أن الحزم في إنفاذ هذا الجيش حتى لا يطمع في الإسلام أعداؤه، ويتألب عليه خصومه، وتوالت بعد ذلك حروب الروم حتى فتح المسلمون بلادهم في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد نضال عنيف، وحروب كثيرة. (4) الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويردّ طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه. ينظر: «النهاية» (3/ 185) . (5) أخرجه البخاري (7/ 731) كتاب «المغازي» باب: نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث (4419) ، ومسلم (4/ 2286) كتاب «الزهد والرقائق» باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، حديث (39/ 2980) ، وأبو يعلى (9/ 425) رقم (5575) كلهم من طريق الزهري عن سالم، عن أبيه. وأخرجه البخاري (7/ 731) كتاب «المغازي» باب: نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث (4420) ، ومسلم (4/ 2285) كتاب «الزهد والرقائق» باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، حديث (38/ 2980) ، -

[سورة الأعراف (7) : الآيات 74 إلى 79]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 74 الى 79] وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ... الآية: بَوَّأَكُمْ: معناه مكَّنكم، وهي مستعملة في المكانِ وظروفِهِ، و «القُصُور» : جمع قَصْر، وهي الديارُ التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصةٍ بخلاف بُيُوت العمود، وقُصِرَتْ على الناس قصراً تامًّا، و «النحْتُ» : النَّجْرُ والقَشْر في الشيء الصُّلْب كالحَجَر والعُودِ، ونَحْوه، وكانوا ينحتون الجبالَ لطولِ أعمارِهِمْ، وَ (تَعْثَوْا) معناه تُفْسِدُوا. قال أبو حيان «1» : ومُفْسِدِينَ: حال موكّدة. انتهى. والَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هم الأشرافُ والعظماء الكَفَرة، و «الَّذِينَ استضعفوا» : هم العامة والأَغْفَالُ في الدنيا، وهم أتْبَاعُ الرُّسُلِ، وقولهم: أَتَعْلَمُونَ: استفهام على معنى الاستهزاء والاستخفاف، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصَّرامة في دين اللَّه، فحملت الأنفةُ الأشرافَ عَلى مناقَضَةِ المؤمنين في مَقَالَتهم، واستمروا على كُفْرِهم. وقوله سبحانه: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تَمَالُؤٍ منهمْ واتفاقٍ، وكذلك رُوِيَ أنَّ قُدَاراً لم يعقرها حتّى كان يستشير، وعَتَوْا: معناه: خَشُنُوا وصَلُبُوا، ولم يذعنوا للأمر والشرعِ، وصمَّموا على تكذيبه، واستعجلوا النِّقْمة بقولهم: ائْتِنا بِما تَعِدُنا، فحلّ بهم العذاب، والرَّجْفَةُ: ما تؤثِّره الصيحةُ أو الطَّامَّة التي يُرْجَفُ بها الإِنسانُ، وهو أن يتحرَّك ويضْطَرِب/، ويرتَعِدَ ومنه: «فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ» وروي أنَّ صيحة ثَمُود كان فيهَا مِنْ كلِّ صوتٍ مهولٍ، وكانت مُفْرَطة شقّت قلوبهم، فجثموا على صدورهم، والجاثم اللّاطئ «2» بالأرض

_ - وأحمد (2/ 9، 58) ، والحميدي (2/ 290) برقم: (653) كلهم من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. (1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 332) . (2) لطأت بالأرض ولطئت أي: لزقت. ينظر: «اللسان» (4038) (لطا) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 إلى 84]

على صَدْره، ف جاثِمِينَ: معناه: باركين قَدْ صُعِقَ بهم، وهو تشبيه بجُثُوم الطير، وجُثُوم الرماد، وقال بعض المفسرين: معناه: حميماً محترقين كالرماد الجاثم، وذهب صاحبُ هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعقُ مُحْرِقَةٌ، وروي أن الصيحةَ أصابَتْ كلَّ مَنْ كان منهم في شَرْق الأرض وغَرْبِهَا إِلاَّ رَجُلاً كان في الحَرَم، فمنعه الحرمُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ خروجه من الحَرَم ففي «مُصَنَّف أبي داود» ، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قال: أبو رغال «1» ، وذكره الطبريّ أيضا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الخبر يردُّ ما في السير من أَنَّ أَبا رُغَالٍ هو دليلُ الفِيل، وقوله: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، أي: تولَّى عنهم وقت عَقْر الناقة، وذلك قبل نزول العذاب وكذلك رُوِيَ أنه عليه السلام خَرَجَ مِنْ بين أظهرهم قبل نزول العذاب، وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم، ويحتمل أن يكون خطابُهُ لهم وهُمْ موتى على جهة التفجُّع عليهم، وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أهْل قليب بَدْر. قال الطبريُّ وقيل: إنه لم تَهْلِكْ أُمَّة، ونبيُّها «2» معها، ورُوِيَ أنه ارتحلَ بمَنْ معه حتَّى جاء مكَّة، فأقام بها حتى مات، ولفظ التولِّي يقتضي اليأْس مِنْ خَيْرهم، واليقينَ في إِهلاكهم، وقوله: وَلكِنْ لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ: عبارةٌ عن تغليبهم الشهواتَ عَلَى الرأْي السديد إذ كلامُ الناصح صَعْبٌ مُضادٌّ لشهوة الذي يُنصحُ، ولذلك تقول العرب: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك. [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وقوله سبحانه: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ. لوطٌ عليه عليه السلام بعثه اللَّه سبحانه إِلى أُمَّة تسّمى «سدوم» وروي أنه ابن أخي

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 198) كتاب «الإمارة» باب: نبش القبور العادية يكون فيها المال، حديث (3088) ، والبيهقي (4/ 156) ، وفي «الدلائل» (7/ 297) من حديث عبد الله بن عمرو. (2) ذكره الطبري (5/ 539) ، وابن عطية (2/ 424) ، وابن كثير (2/ 230) ، والسيوطي بنحوه (3/ 185) .

إِبراهيمَ عليه السلام ونَصْبُه: إما ب «أرسلنا» المتقدِّم في الأنبياء، وإما بفعل محذوف، تقديره: واذكر لوطا، والْفاحِشَةَ: إتيان الذكور في الأَدْبَارِ، ورُوِيَ أنه لم تكُنْ هذه المعصيةُ في أُمَّة قبلهم، وحُكْم هذه الفاحشة عند مالك وغيره: الرجْمُ، أُحْصِنَ أم لم يُحْصن «1» ، وحرَّقُ أبو بكر الصديقُ رضي الله عنه رجلا عمل عَمِلَ قومِ لوط «2» ، وقرأ نافع وغيره: «أَنَّكُمْ» على الخبر كأنه فَسَّر الفاحشة، والإِسرافُ: الزيادةُ الفاسدةُ، ولم تكُنْ مراجعةُ قومه باحتجاج منهم، ولا بمدافعة عقليَّة، وإِنما كانَتْ بكُفْر وخِذْلان، ويَتَطَهَّرُونَ: معناه: يتنزَّهون عن حالنا وعادَتِنا. قال قتادة: عَابُوهم بِغَيْرِ عَيْبٍ، وذمُّوهم بغير ذَمٍّ «3» واستثنى اللَّه سبحانه امرأة لوطٍ عليه السلام من الناجينَ، وأخبر أنها هَلَكَتْ، والغابِرُ: هو الباقي هذا هو المشهور في اللغة، وقد يجيء الغَابِرُ بمعنى الماضِي، وكذلك حَكَى أهل اللغةُ «غَبَرَ» بمعنى بَقِيَ، وبمعنى «مضى» ، وقوله: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ... الآية، أي: بحجارةٍ، ورُوِيَ أنَّ اللَّه تعالى بعث جبريل، فاقتلعها بجناحِهِ، وهي ستُّ مدن. / وقيل خمسٌ، وقيل: أربع، فرفعها حتَّى سمع أَهْلُ السماء الدنيا صُرَاخَ الدِّيَكَة، وَنُبَاحَ الكِلاَبِ، ثم عكَسَها، وَرَدَّ أعلاها أَسْفَلَهَا، وأرسلها إِلى الأرض، وتبعتهم الحِجَارَةُ مع هذا، فأهلكَتْ مَنْ كان منهم، مَنْ كان في سَفَر، أو خارجاً من البقع المرفوعةِ، وقالت امرأة لوط، حين سمعت الوجبة: وا قوماه، والتفتت، فأصابتها صخرة فقتلتها.

_ (1) حكم الإمام مالك في اللواطة بالرجم، وهو مذهب الشعبي، والزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والشافعي، في قول له، وذهب جمع أنه يحرق بالنار منهم: أبو بكر، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الله. وذهب سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والحسن والثوري، والأوزاعي، والإمام يحيى، والشافعي في قول له أنه كالزنا. وذهب أبو حنيفة، والشافعي في قول له، والمرتضى، والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط. ولم يشترط ما اشترطه في الرجم في الزنا من الإحصان والإسلام والحرية، واختلفوا في الفاعل المكره، فقيل: يرجم على المشهور من أن الانتشار اختيار. وقيل: لا يرجم لأن الإكراه شبهة تدرأ الحد، أما المفعول المكره فينبغي ألّا يرجم قولا واحدا إذا كان المرتكب لهذه الجريمة ممن لم يبلغوا الحلم، وقد كان مميزا فعقابه التأديب بما يراه الإمام زاجرا. (2) ذكره ابن عطية (2/ 425) . (3) أخرجه الطبري (5/ 541) برقم: (14849) ، وذكره ابن عطية (2/ 425) ، وابن كثير (2/ 230) ، والسيوطي (3/ 186) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 إلى 93]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 93] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وقوله سبحانه: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ... الآية: قيل في مَدْيَنَ إِنه اسم بلد وقُطْرٍ، وقيل: اسم قبيلةٍ، وقيل: هم مِنْ ولد مَدْيَنَ بْنِ إِبراهيمَ الخليلِ، وهذا بعيدٌ، ورُوِي أَنَّ لوطاً هو جَدُّ شعيبٍ لأُمِّه. وقال مكِّيّ: كان زوج بنت لوط، وأَخاهُمْ: منصوبٌ ب «أرسلنا» في أول القصص، و «البيِّنة» : إشارة إِلى معجزته، وَلا تَبْخَسُوا معناه ولا تظلموا ومنْه قولهم: تَحْسَبُهَا حَمْقَاءَ، وَهِيَ بَاخِسٌ، أي: ظالمة خادعة، وقال في «سورة هود» : البَخْس: النَّقْصَ. ت: ويحتمل واللَّه أعلم أنَّ البَخْسَ هو ما اعتاده النَّاسُ من ذَمِّ السِّلَع ليتوصَّلوا بذلك إلى رُخَصها، فتأمَّله، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه. قال أبو حَيانَ: ولا تَبْخَسُوا: متعدٍّ إلى مفعولين، تقول: بَخَسْتُ زَيْداً حَقَّهُ، أي: نقصته إياه. انتهى. وأَشْياءَهُمْ: يريد أمتعتهم وأموالهم، وَلا تُفْسِدُوا: لفظٌ عامٌّ في دقيق الفساد وجليله وكذلك الإصلاح عامٌّ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، أيْ: عند اللَّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ،

أي: بشرط الإِيمان والتوحيد، وإِلا فلا ينفع عَمَلٌ دون إِيمانٍ، وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ ... الآية: قال السديُّ: هذا نهيٌ عن العَشَّارين والمتغلِّبين ونحوه مِنْ أخْذ أموال الناس بالباطِل «1» ، و «الصِّرَاطُ» : الطريقُ، وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل بَخْسهم ونَقْصهم الكيلَ والوزْنَ، وقال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: هو نهْيٌ عن السَّلْبِ وقطْع الطرقِ «2» ، وكان ذلك مِنْ فعلهم، وروي في ذلك حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما تقدَّم من الآية يؤيِّد هذين القولَيْنِ، وقال ابنْ عَبَّاس وغيره: قوله: وَلا تَقْعُدُوا نهيٌّ لهم عمَّا كانوا يفعلونه مِنْ رَدِّ الناس عَنْ شُعَيْب «3» وذلك أنهم كانوا يَقْعُدونَ على الطُّرُقات المفضية إلى شُعَيبٍ، فيتوعَّدون مَنْ أَراد المجيءَ إِلْيه، ويصُدُّونه، وما بعد هذا مِنَ الألفاظ يشبه هذا مِنَ القول، والضميرُ في «به» يحتمل أن يعود على اسم اللَّه، وأنْ يعود على شُعَيْب في قول مَنْ رأى القعودَ على الطُّرُق للرَّدِّ عن شعيب، قال الداوديّ: وعن مجاهد تَبْغُونَها عِوَجاً: يلتمسون «4» لها الزيْغَ. انتهى. ثم عدَّد عليهم نِعَمَ اللَّه تعالَى، وأنه كَثَّرهم بعد قلَّةِ عددٍ. وقيل: أغناهم بعد فَقْر، ثم حذرهم ومثَّل لهم بمن امتحن من الأممِ، وقوله: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا ... الاية: قوله: فَاصْبِرُوا تهديدٌ للطائفة الكافرة، وقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا معناه: أو لتَصِيرُنّ، و «عَادَ» في كلام العرب على/ وجهين: أحدُهُمَا: عَادَ الشَّيْءُ إِلى حالٍ قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذا الوجه لا تتعدى، فإِن عُدِّيَتْ، فبحرف ومنه قول الشاعر: [الطويل] أَلاَ لَيْتَ أَيَّامَ الشَّبَابَ جَدِيدُ ... وعمرا تولّى يا بثين يعود «5»

_ (1) أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14860) ، وذكره ابن عطية (2/ 426) بمثله، والبغوي (2/ 180) ، وابن كثير (2/ 231) ، والسيوطي (3/ 190) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14861) ، وذكره ابن عطية (2/ 426) . (3) أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14856) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 427) ، وابن كثير (2/ 231) والسيوطي (3/ 190) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. [.....] (4) أخرجه الطبري (5/ 545) برقم: (14862) . (5) روي البيت هكذا: ألا ليت أيّام الصّفاء جديد ... وعهدا تولّى يا بثين يعود وهو لجميل بثينة في «ديوانه» ص: (61) ، و «الأغاني» (2/ 350) ، و «أمالى القالي» (1/ 272، 2/-

ومنْه قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] . والوجه الثاني: أنْ تكون بمعنى «صَارَ» ، وعاملةً عملَهَا، ولا تتضمَّن أن الحال قد كانَتْ متقدِّمة ومنه قول الشاعر: [البسيط] تِلْكَ المَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالاَ «1» ومنه قول الآخر: وَعَادَ رَأْسِي كالثَّغامَةِ ... «2» ومنه قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] ، عَلى أن هذه محتملةٌ بقوله في الآية: أَوْ لَتَعُودُنَّ، وشعيبٌ عليه السلام لَمْ يَكُ قطُّ كافراً، فيقتضي أنها بمعنى «صار» ، وأما في جهة المؤمنين به بَعْدَ كُفْرهم، فيترتَّب المعنى الآخر، ويخُرُج عنه شعيبٌ، وقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ توقيفٌ منه لهم على شِنْعَة المعصيةِ، وطَلَبٌ أن يقروا بألسنتهم بإِكراهِ المُؤْمنين على الإِخراج ظُلْماً وغشماً. قال ص: قَدِ افْتَرَيْنا: هو بمعنى المستقبل لأنه سَدَّ مسد جواب الشرط، وهو: إِنْ عُدْنا أو هو جوابه، على قول. انتهى. وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يحتملُ أن يريد إلاَّ أنْ يسبق علينا في ذلك مِنَ اللَّه سابقُ سُوء، وينفذ منه قضاءٌ لا يُرَدُّ. قال ع «3» : والمُؤمنون هم المجوزون لذلك، وأما شُعَيْبٌ، فقد عصمته النبوَّة، وهذا أظهر ممَّا يحتملُ القول، ويحتمل أنْ يريد استثناء ما يمكن أن يتعبَّد اللَّهُ به المؤمنين ممَّا يفعله الكُفَّارُ من القربات.

_ 299) و «الحماسة البصرية» (2/ 105) و «خزانة الأدب» (10/ 450) و «شرح عمدة الحافظ» ص: (505) ، و «مجالس ثعلب» ص: (597، 598) . (1) روي البيت هكذا: هذي المفاخر لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بعد أبوالا هو لأبي الصلت الثقفي والد أميّة في «الشعر والشعراء» ص: (469) ، و «العقد الفريد» (2/ 23) ولأميّة بن أبي الصلت في «ديوانه» ص: (52) ، وللنابغة الجعدي في «ديوانه» ص: (112) ، وللثقفي في «شرح المفصّل» (8/ 104) . (2) وهو من شواهد «المحرر الوجيز» (2/ 429) . ويروى في «اللسان» : [ثغم] برواية: وصار رأس الشيخ كثغامة وعليه يكون من بحر الرجز، وفي «القاموس» : والرأس صار كالثغامة بياضا. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 428) .

وقيل: إِنَّ هذا الاستثناء إِنما هو تَسَنُّنٌ وَتَأَدُّبٌ، وقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً: معناه: وَسِعَ عِلْمُ رَبنا كلَّ شيء كما تقول: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً أَيْ: تصبَّب عَرَقُ زيدٍ، وَوَسِعَ بمعنى «أحاط» ، وقوله: افْتَحْ معناه: احكم، وقوله: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا: استسلام للَّه سبحانه، وتمسُّكٌ بلطفه وذلك يؤيِّد التأويل الأول في قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا. وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً ... الآية: أي: قال الملأ لتباعهم ومقلّديهم، والرَّجْفَةُ: الزلزلةُ الشديدةُ التي يَنَالُ الإِنسانَ معها اهتزاز وارتعاد واضطراب، فيحتملُ أنَّ فرقةً من قومٍ شُعَيْب هلكَتْ بالرجفة، وفرقةً بالظُّلَّة، ويحتمل أن الظُّلَّة والرَّجْفَة كانتا في حِينٍ واحدٍ. ت: والرجفةُ هي الصَّيْحة يَرْجُفُ بسببها الفؤاد وكذلك هو مصرَّح بها في قصَّة قوم شُعَيْب في قوله سبحانه: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ... الآية [هود: 94] ، وقوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الضميرْ في قوله «فيها» عائدٌ على دارِهِمْ، وَيَغْنُوا: معناه: يقيمونَ بنَعْمَة وخَفْضِ عيش، وهذا اللفظ فيه قوَّةُ الإِخبار عن هلاكهم، ونزولِ النقمةِ بهم، والتنبيه عَلَى العبرة والاتعاظ بهم، ونحوُ هذا قولُ الشاعر: [الطويل] كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ «1» قال ع «2» : فَغَنيتُ في المكان، إنما يقالُ في الإِقامة التي هي مقترنة بتنعّم وعيش مرضيّ، وقوله: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ: كلامٌ يقتضي حزناً وإِشفاقاً لَمَّا رأى هلاكَ قومه إِذْ كان أمله فيهم غَيْرَ ذلك، ولمَّا وجد في نفسه ذلك،

_ (1) وهو لعمرو بن الحارث بن مضاض أو للحارث الجرهمي في «لسان العرب» (13/ 109) (جحن) وبلا نسبة في «شرح قطر الندى» ص: (159) . واستشهد بقوله: «كأن لم يكن» حيث خفّف «كأن» فحذف اسمها، وأتى بخبرها جملة فعليّة. وذكر ياقوت في «معجم البلدان» (2/ 260) (الحجون) ، ونسبه إلى مضّاض بن عمرو الجرهمي يتشوّق مكة لما أجلتهم عنها خزاعة: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أنيس، ولم يسمر بمكة سامر بلى! نحن كنا أهلها، فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر فأخرجنا منها المليك بقدرة، ... كذلك، يا للناس، تجري المقادر فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة، ... كذلك عضّتنا السنون الغوابر وبدّلنا كعب بها دار غربة، ... بها الذئب يعوي والعدوّ المكاشر فسحّت دموع العين تجري لبلدة، ... بها حرم أمن وفيها المشاعر ينظر: «المعجم» (1/ 375) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 430) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 إلى 96]

طَلَب أنْ يثير في نفسه سَبَبَ التسلِّي عنهم، فجعل يعدِّد معاصيهم وإِعراضهم، ثم قال لنفسه لمّا نظر وفكّر: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ، ونحو هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم لأَهْل قليب بَدْرٍ، وأسى معناه: أحزن. / قال مَكِّيٌّ: وسار شعيبٌ بمن معه حتَّى سكن مكّة إلى أن ماتوا بها «1» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 96] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أخبر سبحانه أنَّه ما بعث نبيًّا في قرية، وهي المدينةُ إِلاَّ أخذ أهلها المكذِّبين له بِالْبَأْساءِ وهي المصائبُ في المال، وعوارضُ الزَّمَن وَالضَّرَّاءِ وهي المصائبُ في البدن كالأمراض ونحوها، لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي: ينقادون إلى الإِيمان، وهكذا قولهم: الحُمَّى أَضْرَعَتْنِي لَكَ، ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ، وهي البأساءُ والضرَّاءُ الْحَسَنَةَ، وهي السرَّاء والنِّعمة حَتَّى عَفَوْا: معناه: حتى كَثُرُوا، يقال: عَفَا النباتُ والرِّيشُ إِذا كَثُر نباته ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأعْفُوا اللحى» «2» ولما بدَّل اللَّه حالهم بالخَيْر لُطْفاً بهم فَنَمْوا، رأوا أن إِصابة الضَّرَّاء والسَّرَّاء إنما هي بالاتِفاق، وليستْ بقَصْد كما يخبر به النبيُّ، واعتقدوا أنَّ ما أصابهم مِنْ ذلك إِنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم، فجعلوه

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 431) . (2) أخرجه مالك (2/ 947) كتاب «الشعر» باب: السنة في الشعر، حديث (1) ، والبخاري (10/ 351) كتاب «اللباس» باب إعفاء اللحى، حديث (5893) ، ومسلم (1/ 222) كتاب «الطهارة» باب: خصال الفطرة، حديث (52، 53/ 259) ، وأبو داود (2/ 483) كتاب «الترجل» ، باب: في أخذ الشارب، حديث (4198) ، والترمذي (5/ 95) كتاب «الأدب» باب: ما جاء في إعفاء اللحية، حديث (2763، 2764) ، والنسائي (1/ 16) كتاب «الطهارة» باب: إحفاء الشارب وإعفاء اللحى، حديث (15) ، وفي (8/ 181- 182) كتاب «الزينة» باب: إحفاء الشوارب وإعفاء اللحية، حديث (5226) ، وأبو عوانة (1/ 189) ، وابن أبي شيبة (8/ 376) ، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 239) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 230) ، والبيهقي (1/ 151) كتاب «الطهارة» وفي «الآداب» برقم: (830) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 247) ، وفي «الجامع لأخلاق الراوي» (1/ 375) برقم: (863) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 219 بتحقيقنا) من طرق عن نافع، عن ابن عمر به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 97 إلى 100]

مثالاً، أي: قد أصاب هذا آباءنا، فلا ينبغي لنا أنْ نُنْكَره، ثم أخبر سبحانه أنه أخذ هذه الطوائفَ الَّتي هذا معتَقَدُها، وقوله: بَغْتَةً أي: فجأَةً وأخْذَةَ أَسَفٍ، وبَطْشاً للشقاء السابق لهم في قديم علمه سبحانه. وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي: مِنْ بركاتِ المطرِ والنباتِ، وتسخير الرياحِ والشمْسِ والقمر في مصالح العبادِ وهذا بحَسَب ما يدركُه نَظَر البشر، وللَّه سبحانه خُدَّامٌ غير ذلك لا يحصى عددهم، وما في علم الله أكثر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 97 الى 100] أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) وقوله سبحانه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ... الآية تتضمَّن وعيداً للكافرين المعاصرين لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم الخالية، قال: وهل يأْمَنُ هؤلاء أنْ ينزلَ بهم مثلُ ما نَزَلَ بأولئك، وهذا استفهام على جهة التوقيف، والبأس: العذاب، ومَكْرَ اللَّهِ هي إضافة مخلوقٍ إلى خالقٍ، والمراد فِعْلٌ يعاقب به مَكَرة الكَفَرةِ، والعربُ تسمِّي العقوبةَ باسْمِ الذنْب. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها ... الآية: هذه ألِفُ تقريرٍ دَخَلَتْ على واو العطف، و «يَهْدي» : معناه: يبيَّن، فيحتملُ أنْ يكون المبيِّن اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون المبيِّن قولَهُ: أَنْ لَوْ نَشاءُ، أي عِلْمُهُمْ بذلك، وقال ابنُ عباس، ومجاهد، وابن زيد: يهْدِي: معناه: يتبيَّن، وهذه أيضاً آيةُ وعيد، أي: أَلَمْ يظهر لوارثي الأرض بَعْد أولئك الذين تقدَّم ذكرهم، وما حَلَّ بهم- أنا نَقْدِرُ لو شئناً أصبناهم بذنوبهم كما فعلنا بمن تقدَّم، وفي العبارة وعْظٌ بحالِ مَنْ سلف من المهلكين. [سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 108] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

وقوله سبحانه: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ «تلك» ابتداءٌ، و «القرى» قال قوم: هو نعْتٌ، والخبر «نَقْصُّ» ، وعندي: أن «أهل القرَى» هِي خَبَر الابتداءِ، وفي ذلك معنى التعظيمِ لها، ولِمُهْلِكِها وهذا كما قيل في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 2] وكما قال عليه السلام: «أُولَئِكَ الملأ» وكقول ابن أبي الصلت: [البسيط] تِلْكَ المَكَارِمُ............. ... ............... .... «1» وهذا كثير. ثم ابتدأ سبحانهُ الخبر عن جميعهم بقوله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، هذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً من التأويل: أحدها: / أنْ يريد أنَّ الرسول جاء لكلِّ فريقٍ منهم، فكذَّبوه لأول أمره، ثم استبانت حجته، وظهَرتِ الآياتُ الدالَّة على صدقه، مع استمرار دعوته.، فلَجُّوا هم في كفرهم، ولم يؤمنوا بما سَبَقَ به تكذيبُهم. والثاني: من الوجوه: أنْ يريد: فما كان آخرهم في الزّمنِ لِيُؤْمِنَ بما كَذَّب به أوَّلهم في الزمَنِ، بل مشى بعضهم على سَنَن بعضٍ في الكُفْرِ أشار إِلى هذا التأويلِ النَّقَّاش «2» . والثالث: أنَّ هؤلاء لَوْ رُدَّوا من الآخرة إلى الدنيا، لم يكُنْ منهم إِيمانٌ قاله مجاهد «3» ، وقرنه بقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] . والرابع: أنه يحتمل: فما كانوا ليُؤْمنوا بما سَبَق في عِلم اللَّه سبحانه أنهم مكذّبون به وذكر هذا التأويل المفسّرون.

_ (1) تقدم قريبا. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 437) ، و «البحر المحيط» (4/ 359) و «الدر المصون» (3/ 317) . (3) أخرجه الطبري (6/ 13) برقم: (14912) ، وذكره ابن عطية (2/ 434) ، والبغوي (2/ 184) ، وابن كثير (2/ 235) ، والسيوطي (3/ 194) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

وقوله سبحانَه: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ... الآية: أخبر سبحانه أنه لم يجدْ لأكثرهم ثبوتاً على العَهْد الذي أخذه سبحانه على ذريِّة آدم وقْتَ استخراجهم من ظهره قاله أبو العالية «1» عن أبيِّ بنْ كَعْب، ويحتمل أن يكون المعنى: وما وجدنا لأكثرهم التزامَ عَهْدٍ، وقبولَ وصاةٍ ممَّا جاءتهم به الرسُلُ عن اللَّه، ولا شَكَروا نعم اللَّه عزَّ وجلَّ. قال ص: لِأَكْثَرِهِمْ: يحتمل أن يعود على «النَّاس» أو على أَهْلَ الْقُرى أو «الأُمم الماضية» . انتهى. وقوله سبحانه: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها ... الآيات في هذه الآية: عامٌّ في التسْع وغيرِهَا، والضميرُ في «مِنْ بعدهم» عائدٌ على الأنبياءِ المتقدِّم ذكْرُهم، وعلى أممِهِمْ. وقوله سبحانه: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ: فيه وعيدٌ، وتحذيرٌ للكَفَرة المعاصرين لنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، قرأ نافعٌ «2» وحده: «عَلَيَّ» بإِضافة «على» إِليه، وقرأ الباقون: «على» بسكون الياء. قال الفارسيُّ: معنى هذه القراءة أنَّ «عَلَى» وضعتْ موضع الباء كأنه قال: حقيقٌ بأن لا أقولَ على اللَّه إِلاَّ الحَقَّ، وقال قوم: «حقيقٌ» صفةٌ ل «رَسُولٌ» ، تم عندها الكلامُ، و «عَليَّ» : خبرٌ مقدّمٌ و «أَلاَّ أقول» : ابتداءٌ، وإِعراب «أَنْ» ، على قراءة مَنْ سكَّن الياء خفْضٌ، وعلى قراءة من فتحها مشدَّدةً: رَفْعٌ، وفي قراءة عبد اللَّه: «حَقيقٌ أَنْ لا أَقُول» ، وهذه المخاطَبَةُ- إِذا تأَمَّلْتَ- غايةٌ في التلطُّف، ونهايةٌ في القول الليِّن الذي أُمِرَ به عليه السلام، وقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «البينة» هنا إشارةٌ إلى جميع آياته، وهي على المُعْجزة منْها أدلُّ، وهذا من موسى عليه السلام عَرْضُ نبوَّته، ومنْ فرعون استدعاءُ خَرْق العادة الدالِّ على الصدْقِ، وظاهرُ هذه الآية وغيرها أنَّ موسى عليه السلام لم تَنْبَنِ شريعته إِلا على بني إسرائيل فقَطْ، ولَمْ يَدْعُ فرعونَ وقومه إِلا إِلى إِرسال بني إِسرائيل، وذكره: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] .

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 14) برقم: (14915) ، وذكره ابن عطية (2/ 434) ، وابن كثير (2/ 235) ، والسيوطي (3/ 195) ، وعزاه لابن أبي حاتم، ولابن جرير. [.....] (2) ينظر: «الحجة» (4/ 56) ، و «السبعة» (287) ، و «حجة القراآت» (289) و «إعراب القراآت» (1/ 196) ، و «العنوان» (96) ، و «شرح شعلة» (393) ، و «شرح الطيبة» (4/ 303) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 55) ، و «معاني القراآت» (1/ 414) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 إلى 116]

وقوله: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، روي أن موسى قَلِقَ به، وبمجاورته فرعون، فقال لأعوانِهِ: خذوه، فألقى موسَى العصا، فصارَتْ ثعباناً، وهمَّت بفرعون، فَهَرَبَ منْها. وقَالَ السّديُّ: إِنه أَحَدَث، وقال: يا موسى كُفَّهُ عني «1» ، فَكفَّه، وقال نحوه سعيدُ بنُ «2» جبير، ويقال: إن الثعبان وضع أسفل لَحْيَيْهِ في الأرض وأعلاهما في أعلى شرفات القصر. والثعبان: الحَيَّة الذَّكَر/ وهو أهولُ وأجَرأُ قاله الضحاك «3» ، وقال قتادة: صارَتْ حَيَّةً أشْعَرَ ذَكَراً «4» ، وقال ابن عباس: غرزَتْ ذَنَبها في الأرض، ورفَعَتْ صدْرَها إِلى فرعون، وقوله: مُبِينٌ معناه: لا تَخْييلَ فيه، بل هو بَيِّن إنه ثعبانٌ حقيقة، وَنَزَعَ يَدَهُ: معناه: مِنْ جيبه، أو من كُمِّه حسب الخلافِ في ذلك. وقوله: فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ، قال مجاهد: كاللبن أَو أَشَدَّ بياضاً «5» ، وروي أنها كانت تظهر منيرةً شفَّافةً كالشَّمْس تأْتَلِقُ، وكان موسى عليه السلام آدَمَ أَحْمَرَ إِلى السوادِ، ثم كان يَرُدُّ يده، فترجع إِلى لون بَدَنِهِ. قال ع «6» : فهاتان الآيتان عرضهما عليه السلام للمعارَضَة، ودعا إلى اللَّه بهما، وخَرَق العادة بهما. ت: وظاهر الآية كما قال، وليس في الآية ما يَدُلُّ على أنه أراد بإلقاء العصا الانتصار والتخويفَ كما يعطيه ما تقدَّم ذكْرُهُ من القصص. [سورة الأعراف (7) : الآيات 109 الى 116] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 16) برقم: (14919) ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، والبغوي (2/ 185) ، وابن كثير (2/ 236) ، والسيوطي (3/ 197) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (6/ 16) برقم: (14921) ، وذكره ابن عطية (2/ 436) . (3) أخرجه الطبري (6/ 16) برقم: (14925) ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، وابن كثير (2/ 236) . (4) أخرجه الطبري (6/ 15) برقم: (14917) بلفظ: «تحولت حية عظيمة» ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، والسيوطي (3/ 197) نحوه، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (5) أخرجه الطبري (6/ 17) برقم: (14928) بلفظ: «نزع يده من جيبه بيضاء من غير برص» ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، وابن كثير (2/ 236) بنحوه. (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 436) .

وقوله عز وجل: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ لا محالةَ أنهم خافوا أمْرَ موسى، وجالَتْ ظنونهم كُلَّ مجالٍ، وقوله: فَماذا تَأْمُرُونَ الظاهرُ أنه من كلام المَلإ بعضِهِمْ لبعض، وقيل: إنه من كلام فرعونَ لهم، وَرَوى كَرْدم عَنْ نافعٍ: تَأْمُرُونَ «1» بكسر النون وكذلك في «الشعراء» [الشعراء: 35] . و «ما» : استفهامُ، و «ذَا» : بمعنى الَّذي، فهما ابتداءٌ وخبرٌ، وفي «تأمرون» : ضميرٌ عائدٌ على الذي، تقديرُهُ: تَأْمُرونَ به، ويجوز أنْ تجعل «مَاذَا» بمنزلةِ اسم واحدٍ في موضع نصب ب «تأمرون» ولا يضمر فيه على هذا، وقوله: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أشار المَلأُ على فرعونَ بأن يؤخِّر موسى وهارون، وَيَدَعَ النظر في أمرهما، وَيَجْمَعَ السحرةَ، وحكَى النَّقَّاش أنه لم يكن يجالسُ فرعونَ وَلَدُ غِيَّةٍ، وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا بالإِرجاء، ولم يشيروا بالقَتْل، وقالوا: إنْ قتلته، دخلَتْ على الناسِ شُبْهَةٌ، ولكنِ اغلبه بالحجة «2» . وقوله سبحانه: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ: «الأَجر» هنا: الأجْرَةُ. واختلف الناسُ في عدد السَّحَرة على أقوالٍ كثيرةٍ ليس لها سَنَدٌ يوقَفُ عنده «3» ، والحاصلُ من ذلك أنهم جَمْعٌ عظيم، وقوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وخيَّر السحرةُ موسى في أن يتقدَّم في الإِلقاء أو يتأخَّر، وهذا فعْلُ المُدِلِّ الواثقِ بِنَفْسِهِ، والظاهرُ أنَّ التقدُّم في التخْييلاتِ وَالمَخَارِيقِ أنْجَحُ لأنَّ بديهتها تمضِي بالنفُوس، فليظهر اللَّه أمر نبوَّة موسَى، قوى نفسه ويقينه، وِوَثقَ بالحَقِّ، فأعطاهم التقدُّم، فَنَشَطُوا وَسُرُّوا حتَّى أظهر الله الحق،

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 437) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 438) . (3) انظر كيف كان المؤلف عليه رحمة الله يتحرى الدقة في النقل واهتمامه بالسند انطلاقا منه بأن السند من الدين!!.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 إلى 119]

وأَبطَلَ سعيهم، وقوله سبحانه: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ: نصٌّ في أن لهم فِعْلاً ما زائداً على ما يُحْدِثُونه من التزْوِيقِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ بمعنى: أرهبوهم، أي: فزَّعوهم، ووصف اللَّه سبحانه سِحْرَهُمْ ب «العَظِيم» ، ومعنى ذلك مِنْ كثرته، ورُوِي أنهم جَلَبُوا ثَلاَثِمَائَةٍ وَسِتِّينَ بعيراً موقُورَةً بالْحِبَالِ، والعِصِيِّ، فلما أَلْقَوْهَا، تحرَّكت، ومَلأَت الوادِيَ، يركَبُ بعضُها بعضاً فاستهول النَّاس ذلك، واسترْهَبَهم، قال الزَّجَّاج: قيل: إنهم جعلوا فيهم الزِّئْبَقَ، فكانَتْ لا تستقرّ «1» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 119] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وقوله سبحانه: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ: وروي أن موسى عليه السلام لَمَّا كان يَوْمُ الجمعِ، خَرَجَ متَّكِئاً عى عصاه، ويُدُه في يَدِ أخيه، وقد صُفَّ له السحرةُ في عَدَدٍ عظيم/، حَسْبما ذُكِر، فلما أَلْقَوْا واسترهَبُوا، أَوحَي اللَّه إِليه أَنْ أَلْقِ، فألقى عصاه فإِذا هي ثعبانٌ مبينٌ، فعَظُم حتَّى كان كالجَبَل. وروي أن السحرة، لَمَّا أَلْقَوْا، وألقى موسَى، جعلوا يَرْقَوْنَ، وجَعَلَتْ حبالُهم تَعْظُمْ وجعلَتْ عصا موسى تَعْظُمُ حتى سدَّت الأُفُقَ، وابتلعت الكُلَّ، ورُوِي أن الثعبانَ استوفى تلك الحِبَالَ والعِصيَّ أَكْلاً، وأعْدَمها اللَّه عزَّ وجلَّ، ومَدَّ موسى يده إِلى فمه، فعاد عصا كما كان، فعلم السَّحَرَةُ حينئذٍ أنَّ ذلك ليس من عند البَشَر، فَخَرُّوا سُجَّداً مؤمنين باللَّه ورسوله، وتَلْقَفُ معناه: تبتلع وتَزْدَرِد، وقرأ ابن جبير «2» : «تَلْقُم» بالميم. وقوله سبحانه: فَوَقَعَ الْحَقُّ ... الآية: أيْ: نَزلَ ووُجِد، وقال أبو حيان «3» : فوقع، أي: فظهر، و «الحَقُّ» : يريدُ به سطوعَ البرهانِ، وظهور الإعجاز، وما كانُوا يَعْمَلُونَ لفظٌ يعمُّ سحْرَ السحرة، وسعْيَ فرعونَ، وشيعتِهِ، والضميرُ في قوله: فَغُلِبُوا: عائدٌ على جميعهم أيضاً، وفي قوله: وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ، إِنْ قَدَّرَنا انقلاب الجمع قبل إِيمان السحرة، فهم في الضمير، وإِن قدَّرناه بعد إِيمانهم، فليسوا في الضمير، ولا لحقهم صَغَارٌ لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 120 الى 127] وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 439) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 439) ، وقال أبو عبيد: ويقال: لفق ولقم ولهم بمعنى واحد. (3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 364) .

وقوله سبحانه: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، لما رأَى السحرة من عظيم القدرة ما تيقّنوا به نبوَّة موسى، آمنوا بقلوبهم، وانضاف إِلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفَزَعُ مِنْ قدرة اللَّه عزَّ وجَلَّ، فخرُّوا للَّه سبحانه مُتَطَارِحِينَ قائلين بألسِنَتِهِمْ: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. قال ع «1» : وهارونُ أخو موسى أسَنُّ منه بثلاثِ سِنِينَ، وقولُ فرعون: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ: دليلٌ عَلى وَهَنِهِ، وضَعْف أمره لأنه إِنما جعل ذَنْبَهُمْ عَدَمَ إِذنه، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على اسم اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يعود على موسى عليه السلام، وعنَّفهم فرعونُ على الإِيمان قبل إِذْنِهِ، ثم ألزمهم أنَّ هذا كان عن اتفاق منهم، وروي في ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، أن موسى اجتمع مع رَئِيس السَّحَرة، واسْمُهُ شَمْعُونُ، فقال له موسى: أَرَأَيْتَ إِنْ غَلَبْتُكُمْ أتؤمنُونَ بي، فقالَ: نَعَمْ، فَعَلِمَ بذلك فرعونُ فلهذا قال: إِن هذا لمكْرٌ مكَرْتُمُوه في المدينة، ثم توعَّدهم «2» . وقوله سبحانه: قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا.. الآية: هذا استسلامٌ مِنْ مؤمني السَّحرة، واتكالٌ على اللَّه سبحانه، وثقةٌ بما عنده، وقرأ الجمهور «3» : «تنْقِمُ» - بكسر القاف-، ومعناه: وما تَعُدّ علينا ذنباً تؤاخذُنا به إِلاَّ أنْ آمنا، قال ابنُ عبَّاس وغيره فيهم: أَصْبَحُوا سَحَرَةً، وَأَمْسَوْا شُهَدَاءَ «4» ، قال ابن عباسٍ: لما آمنت السحرةُ اتبع موسى سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ من بني إِسرائيل «5» ، وقولُ ملإِ فرعونَ:

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 440) . [.....] (2) أخرجه الطبري (6/ 24) برقم: (14963) ، وذكره ابن عطية (2/ 440) ، وابن كثير (2/ 238) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 441) ، و «البحر المحيط» (4/ 366) . (4) أخرجه الطبري (6/ 25) برقم: (14965) ، وذكره ابن كثير (2/ 238) . (5) ذكره ابن عطية (2/ 441) ، والبغوي (2/ 190) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 128 إلى 132]

أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ ... الآية: مقالةٌ تتضمَّن إِغراء فرعون وتحريضَهُ، وقولُهم: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ، رُويَ أن فرعون كان في زمنه للناس آلهةٌ مِنْ بقرٍ، وأصنامٍ، وغير ذلك، وكان فرعونُ قَدْ شَرَع ذلك، وَجَعل نَفْسَه الإله الأَعلَى فقوله على هذا أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] إنما يريدُ: بالنَّسْبة إِلى تلك المعبودات. وقيل: إِن فرعون كان يعبد حَجَراً يعلِّقه في صَدْره. كأنه/ ياقوتَةٌ أو نحوها، وعن الحسنِ نحوه، وقوله: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ، المعنى: سنستمرُّ عَلى ما كنا عليه مِنْ تعذيبهم، وقوله: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ، يريد: في المنزلة، والتمكّن من الدنيا، وقاهِرُونَ: يقتضي تحقير أمرهم، أي: هم أقلُّ من أن يُهتمَّ بهم. قلت: وهذا من عَدُوِّ الله تجلُّدٌ، وإِلاَّ فقد قال فيما أخبر الله سبحانه به عنه: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ [الشعراء: 54، 55، 56] . [سورة الأعراف (7) : الآيات 128 الى 132] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) وقوله سبحانه: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ... الآية: لما قال فرعونُ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ، وتوعدهم، قال موسى لبني إسرائيل، يثبتهم، ويعدهم عن اللَّه تعالى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ، والأرض هنا: أرضُ الدنيا، وهو الأظهرُ. وقيل: المراد هنا أرضُ الجَنَّة، وأما في الثانية، فأرض الدنيا لا غير، والصَّبْرُ في هذه الآية: يعمُّ الانتظارَ الذي هو عبادةٌ، والصَّبْرَ في المناجزاتِ، والبأْسَ، وقولهم: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا، يعنون به الذَّبْحَ الذي كان في المُدَّة التي كانَ فِرْعَون يتخوَّف فيها أنْ يولَدَ المولودُ الذي يُخَرِّبُ ملكه، وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا، يعنون به وعيدَ فِرْعَونَ، وسائِرَ ما كان خلالَ تلك المدَّة، من الإخافة لهم. وقال ابنُ عباس «1» والسدّيُّ «2» : إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة، حين اتّبعهم

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 29) برقم: (14984) ، وذكره ابن عطية (2/ 442) . (2) أخرجه الطبري (6/ 29) برقم: (14983) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 442) .

فرعون، واضْطَرَّهم إِلى البحر. قال ع «1» : وبالجملة فهو كلامٌ يجري مع المعهودِ مِنْ بني إِسرائيل مِن اضطرابهم على أنبيائهم، وقلَّةِ يقينهم، واستعطاف موسى لهم بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض، يدُلَّ على أنه يستدعي نفوساً نافرةً ويقوِّي هذا الظنَّ في جهة بني إِسرائيل سلوكُهم هذا السبيلَ في غَيْر مَا قصَّةٍ، وقوله: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ تنبيهٌ وحضٌّ على الاستقامة، ولقد استخلفوا في مِصْرَ في زمن دَاوُدَ وسليمانَ، وقد فتحوا بَيْتَ المَقْدِسِ مع يُوشَعَ. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، أي: بالجُدُوب والقُحُوطِ، وهذه سِيرَةُ اللَّه في الأممِ، وقوله: وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ، أي: حتى رُوِيَ أن النخلة مِنْ نخلهم لا تَحْمَلُ إِلا ثمرةً واحدةً، وقال نحوه رجاءُ بْنُ حَيْوَة «2» وفعل اللَّه تعالى بهم هذا لينيبوا ويَزْدَجِرُوا عَمَّا هم عليه من الكُفْرِ إِذ أحوالُ الشدَّة ترقُّ معها القلوبُ، وترغبُ فيما عند اللَّه سبحانه. وقوله عزَّ وجلَّ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ... الآية: كان القَصْدُ في إِصابتهم بِالقَحْط والنقْصِ في الثمراتِ أن ينيبوا ويرجعوا، فإذا هم قد ضَلُّوا، وجعلوها تشاؤماً بموسى، فكانوا إِذَا اتفق لهم اتفاق حسنٌ في غَلاَّت ونحوها، قالوا: هذه لنا، وبسببنا، وإذا نالهم ضُرٌّ، قالوا: هذا بسبب موسى وشُؤْمِهِ قاله مجاهد «3» وغيره، وقرأ الجمهور «4» «يَطَّيَّرُوا» - بالياء وشدِّ الطاء والياءِ الأخيرة-، وقرأ طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ «5» وغيره: «تَطِيرُوا» - بالتاء وتخفيف الطاء-، وقرأ «6» مجاهدٌ: «تَشَاءَمُوا بمُوسَى» - بالتاء من فوق- وبلفظ الشؤم.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 442) . (2) أخرجه الطبري (6/ 29- 30) برقم: (14988) ، وذكره ابن عطية (2/ 443) ، وابن كثير (2/ 239) ، والسيوطي (3/ 202) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (6/ 30) برقم: (14992) ، وذكره ابن عطية (2/ 443) ، والسيوطي (3/ 202) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 443) ، و «البحر المحيط» (4/ 370) ، و «الدر المصون» (3/ 327) . (5) وهي قراءة عيسى بن عمر. ينظر: «الشواذ» (50) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 443) ، و «البحر المحيط» (4/ 370) ، و «الدر المصون» (3/ 327) . (6) قال أبو حيان: فينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف. ينظر «البحر المحيط» (4/ 370) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 443) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 133 إلى 137]

وقوله سبحانه: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ معناه: حظُّهم ونصيبهم قاله ابن عباس «1» ، وهو مأخوذ من زَجْر الطَّيْرِ فسُمِّيَ ما عند اللَّه من القدر للإِنسان طائراً لما كان الإِنسان يعتقدُ أنَّ كل ما يصيبه إِنما هو بحَسَب ما يراه في الطَّائِرِ، فهي لفظةٌ مستعارةٌ، ومهما أصلها عنْدَ الخليل مَامَا/، فأبدلت الألف الأولى هاء، وقال سيبوَيْهِ: هي «مَهْ مَا» خُلِطَتَا، وهي حَرْفٌ واحدٌ لمعنًى واحدٍ. وقال غيره: معناها: «مَهُ» ، أي: كُفَّ، و «ما» : جزاءٌ، ذكره الزَّجَّاجُ، وهذه الآيةُ تتضمَّن طغيانهم، وعتوهم، وقَطْعَهم على أنفسهم بالكُفْر البحت. [سورة الأعراف (7) : الآيات 133 الى 137] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وقوله سبحانه: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ... الآية: الطُّوفانُ: مصْدَر مِنْ قولكّ: طَافَ يَطُوفُ، فهو عامٌ في كلِّ شيء يطُوفُ إِلاَّ أن استعمال العَرَب له كثيرٌ في الماءِ والمَطَر الشديد، قال ابن عبَّاس وغيره: الطُّوفَان في هذه الآية: هو المطر الشديدُ، أصابهم وتوالى عليهم حتَّى هدَّم بيوتَهُمْ وضيَّق عليهم «2» ، وقيل: طَمَّ فَيْضُ النِّيلِ عليهم، ورُوي في كيفيَّته قصصٌ كثيرةٌ، وقالتْ عائشة رضي اللَّه عنها، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ الطُّوفان المراد في هذه الآية هو الموت» «3» .

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 31) برقم: (14995) بلفظ: «مصائبهم عند الله» ، برقم: (14996) بلفظ: «الأمر من قبل الله» ، وذكره ابن عطية (2/ 443) ، والبغوي (2/ 190) بنحوه، وابن كثير (2/ 239) بلفظ: «أي من قبل الله» ، والسيوطي (3/ 202) ، وعزاه لابن جرير، عن ابن عباس بلفظ: «مصائبهم» ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري (6/ 31) برقم: (14998) ، (6/ 36) برقم: (15028) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 444) ، وابن كثير (2/ 240) بنحوه، والسيوطي (3/ 203) بسندين، الأول: لأبي الشيخ، والثاني: لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 32) برقم: (15005) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 203) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

قُلْتُ: ولو صحَّ هذا النقلُ، لم يبق مجملا وروي أن الله عز وجل لما والى عليهم المطر، غَرِقَتْ أرضهم، وامتنعوا من الزراعة قالوا: يا موسى ادع لنا ربك في كَشْف هذا الغَرَقِ، ونحن نؤمنُ، فدعا، فكَشَفَه اللَّه عنْهم، فأنبتتِ الأرضُ إنباتاً حسناً، فنكَثُوا، وقالوا: ما نودُّ أنَّا لم نمطر، وما هذا إِلا إِحسانٌ مِنَ اللَّه إِلينا، فبعث اللَّه علَيْهم حينئذٍ الجَرَادَ، فأكل جميعَ ما أنبتَتِ الأرض، فروى ابنُ وَهْبٍ، عن مالكٍ أنه أكل حتى أبوابَهم، وأكل الحديدَ والمساميرَ، وضيَّق عليهم غايةَ التضْييق، وترك اللَّهُ مِنْ نباتهم ما يَقُومُ به الرَّمق «1» ، فقالوا لموسى: ادع لنا ربَّك في كشف الجراد، ونحن نؤمن، فدعا اللَّه فكَشَفه «2» ، ورجعوا إِلى كفرهم، فبعث اللَّه عليه القُمَّل، وهي الدبى صغارُ الجَرَادِ، الذي يثب ولا يطير قاله ابن عباس «3» وغيره، وقرأ الحسن: «القَمْل» «4» - بفتح القاف، وسكون الميم- فهي على هذا القَمْلُ المعروفُ، وروي أن موسى مشى بعصاه إِلى كثيب أَهِيلٍ «5» ، فضربَهُ، فانتشر كُلُّه قُمَّلاً في مِصْر، ثم إِنهم قالوا: ادع في كَشْفِ هذا، فدعا فرَجَعُوا إلى طُغْيَانهم، وكُفرهم، فبعَثَ اللَّه عَلَيْهم الضَّفَادَع، فكانَتْ تدخلُ في فَرُشِهِمْ، وبَيْن ثيابهم، وإِذا هَمَّ الرجُلُ أن يتكلَّم، وَثَبَ ضفْدَعٌ في فَمِهِ. قال ابن جُبَيْر: كان الرجُلُ يجلسُ إلى ذقنه في الضفادع «6» . وقال ابنُ عبَّاس: لما أُرْسِلَتِ الضفادِعُ عليهم، وكانَتْ بَرِّيَّةً، سمعتْ وأطاعت، فَجعلتْ تقذفُ أنفسها في القُدُور، وهي تغلي، فأثابها اللَّه بحُسْن طاعتها بَرْدَ «7» الماء، فقالوا: يا موسى، ادع في كَشْف هذا فدعا، فكشفَ، فرجَعُوا إِلى كُفْرهم، فبعث اللَّه عليهم الدَّم، فرجع ماؤهم الذي يستقونه، ويَحْصُلُ عندهم دماً، فرويَ أنه كان يستقي

_ (1) الرّمق: بقية الحياة. وفي «الصحاح» : بقية الروح. وقيل: هو آخر النّفس. ينظر: «لسان العرب» (1732) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 444) . (3) أخرجه الطبري (6/ 37) برقم: (15030) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 444) ، والبغوي (2/ 192) بلفظ: «القمل: السوس الذي يخرج من الحنطة» ، والسيوطي (3/ 206) بلفظ: «القمل: الدبا» . (4) ينظر: «الشواذ» (50) ، و «المحتسب» (1/ 257) ، و «الكشاف» (2/ 148) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 444) ، و «البحر المحيط» (4/ 373) ، و «الدر المصون» (3/ 330) . (5) أي: منهال لا يثبت. ينظر: «لسان العرب» (4739) . (6) أخرجه الطبري (6/ 34- 35) برقم: (15023) ، وذكره ابن عطية (2/ 444) . (7) أخرجه الطبري (6/ 37) برقم: (15031) ، وذكره ابن عطية (2/ 444) ، والبغوي (2/ 192) ، والسيوطي (3/ 206) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

القبْطِيُّ والإسرائيليُّ بإِناء واحدٍ، فإِذا خرج الماء، كان الذي يلي القِبْطِيَّ دماً، والذي يلي الإِسرائيليَّ ماءً إِلى نحو هذا، وشبهه، من العذاب بالدَّمِ المنقلبِ عن الماء، هذا قول جماعة من المتأوِّلين. وقال زيدُ بن أسْلَمَ: إِنما سلط عليهم الرُّعَاف «1» ، فهذا معنى قوله: وَالدَّمَ، وقوله: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ التفصيل: أصله في الأجرام: إِزالة الاتصال، فهو تفريقُ شيئَيْن، فإِذا استعمل في المعاني، فيراد به أنه فُرِقَ بينها، وأُزِيلَ اشتباكها وإِشكالها، فيجيء من ذلك بيانها. وقالتْ فرقةٌ: مُفَصَّلاتٍ يراد بها: مفرَّقات في الزمَن. قال الفخر: قال المفسِّرون: كان العذابُ يبقى عليهم من السَّبْت إِلى السَّبْت، وبَيْنَ العذابِ والعذابِ شَهْرٌ، وهذا معنى قوله: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، على هذا التأويل، أي: فصلَ بين بعضها وبَعْضٍ بزمانٍ تمتحنُ فيه أحوالهم، ويُنْظَرُ أيقبلون الحُجَّة والدليلَ، أم يستمرُّون على الخلاف والتقليد. انتهى. وقوله عز وجل: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ/ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ... الآية: «الرّجز» : العذابُ، والظاهر من الآية أنَّ المراد بالرجْزِ هنا العذابُ المتقدِّم الذكْر من الطُّوفان والجراد وغيره. وقال قوم: [إن] الرجْزَ هنا طاعون أنزله اللَّه بهم، واللَّه أعلم، وهذا يحتاجُ إلى سندٍ، وقولهم: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لفظ يعمُّ جميع الوسائل بَيْنَ اللَّه وبَيْنَ موسى من طاعةٍ من موسى ونعمةٍ من اللَّه تبارك وتعالى، ويحتمل أنْ يكون ذلك منهم على جهَةِ القَسَمِ على موسَى، وقولُهم: لَئِنْ كَشَفْتَ أي: بدعائك، لَنُؤْمِنَنَّ وَلَنُرْسِلَنَّ قسمٌ وجوابُه، وهذا عهدٌ من فرعونَ وَمَلَئِهِ، وروي أنه لما انكشف العذابُ، قال فرعون لموسى: اذهب ببني إسرائيل حيْثُ شِئْتَ، فخالفه بعْضُ مَلَئِهِ، فرجع ونكث، و «إذا» هنا للمفاجأة، والأَجَلُ: يراد به غايةُ كُلِّ واحد منهم بما يخصُّه من الهلاكِ والموتِ كما تقول: أخَّرْتُ كذا إِلى وقْتٍ، وأنْتَ لا تريد وقْتاً بعينه، فاللفظ متضمِّن توعُّداً مَّا، وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي: غافلين عما تضمَّنته الآيات من النجاة والهدى.

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 444) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 206) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 إلى 141]

وقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ... الآية: الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ كناية عن بني إسرائيل، ومَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا. قال الحسنُ وغيره: هي الشامُ «1» . وقالتْ فرقة: يريد الأرضَ كلَّها وهذا يتَّجه إِمَّا على المَجازِ لأنه ملَّكهم بلاداً كثيرة، وإِما على الحقيقة في أَنَّه ملك ذرِّيَّتهم، وهمْ سليمانُ بنُ دَاوُدٌ، ويترجَّح التأويل الأَول بوَصْف الأرض بأنها التي بَارَكَ فيها سبحانه. وقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى، أي: ما سبق لهم في علمه وكلامِهِ في الأزلِ من النَّجَاة من عدوِّهم، والظهور عليه قاله مجاهد «2» ، ويَعْرِشُونَ قال ابن عباس «3» ومجاهد «4» : معناه: يبنون. قال ع «5» : رأيتُ للحسنِ البصريِّ رحمه اللَّه أنَّه احتجَّ بقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ... إلى آخر الآية على أنه ينبغي أَلاَّ يخرج عن ملوك السُّوء، وإِنما ينبغي أنْ يُصْبَر عليهم فإِن اللَّه سبحانه «6» يدمِّرهم، ورأَيْتُ لغيره أنه إذا قابل الناس البلاء بمثله، وَكَّلَهُمُ اللَّهُ إلَيْه، وإِذا قابلوه بالصبر، وانتظارِ الفَرَجِ، أتى اللَّه بالفَرَج، ورُوِي هذا أيضا عن الحسن «7» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 43- 44) برقم: (15053) ، وذكره ابن عطية (2/ 446) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 208) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن عساكر. (2) أخرجه الطبري (6/ 44) برقم: (15058) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 446) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (6/ 45) برقم: (15060) ، وذكره ابن عطية (2/ 447) ، وابن كثير (2/ 442) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (6/ 45) برقم: (15061) ، وذكره ابن عطية (2/ 447) ، والبغوي (2/ 194) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 447) . [.....] (6) ذكره ابن عطية (2/ 447) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (7) ذكره ابن عطية (2/ 447) .

وقوله سبحانه: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ: أي: بَحْرَ القُلْزُم، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ، قيل: هم الكَنْعَانِيُّونَ. وقيل: هم مِنْ لَخْم وجُذام، والقَوْمُ فى كلام العرب: هم الرجَالُ خاصَّة يَعْكُفُونَ، العُكُوفُ: الملازمة عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، قيل كانت بقراً. وقال ابن جُرَيْج: كانت تماثيلَ بقرٍ من حجارةٍ وعيدانٍ ونحوها، وذلك كان أوَّل فتنةِ العِجْل، وقولهُم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، يظهر منه استحسانهم لمَا رَأَوْه من تلك الآلهة بجهلهم فأرادوا أنْ يكون ذلك في شَرْع موسى، وفي جملة ما يُتقرَّبُ به إِلى اللَّه، وإِلاَّ فبعيدٌ أن يقولوا لموسَى: اجعل لنا صنماً نُفْرِدُهُ بالعبادة، ونَكْفُر بربِّك وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي نصّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قَوْلِ أَبي واقِدٍ اللِّيْثِّي اجعل لَنَا، يَا رَسُولَ اللَّه، ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذات أنواط «1» ، فأنكره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَر! قُلْتُمْ واللَّهَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ: لَتَّتبعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ... » الحديث «2» ، ولم يقصد أبو واقدٍ بمقالته فساداً، وقال بعضُ الناسَ كان ذلك من بني إسرائيل كفراً، ولفظةً «الإله» تقتضي ذلك، وهذا محتملٌ، وما ذكرتُهُ أولاً أصحُّ، واللَّه أعلم. قلتُ: وقولهم: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه: 88] ، وجواب موسى هنا يقوِّي الاحتمال الثاني، نعم: الَّذي يجب أن يعتقد أنَّ مِثْلَ هذه المقالاتِ إنما صدرت من

_ (1) هي اسم شجرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم، أي: يعلقونه بها، ويعكفون حولها، فسألوه أن يجعل لهم مثلها، فنهاهم عن ذلك. وأنواط: جمع نوط، وهو مصدر سمي به المنوط. ينظر: «النهاية» (5/ 128) . (2) أخرجه الترمذي (4/ 475) كتاب «الفتن» باب: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، حديث (2180) ، وأحمد (5/ 218) ، والنسائي في التفسير (1/ 499- 500) ، والحميدي (848) ، والطيالسي (1346) ، وعبد الرزاق (20763) ، وأبو يعلى (3/ 30) برقم: (1441) ، وابن حبان (1835- موارد) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (76) ، والطبراني (3290، 3294) كلهم من طريق سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 213) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 إلى 145]

أشرارهم وقريبي العَهْد بالكُفْر، قال الشيخُ الحافظُ أبو القاسِمِ عَبْدُ الرحمن بْنُ عبْدِ اللَّهِ الخَثْعَمِيُّ ثم السُّهَيْليُّ ذكر النَّقَّاش في قوله تعالى: فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أنهم كانوا مِنْ لَخْمٍ، وكانو يعبُدُون أصناماً على صور البقر، وأنَّ السامِريَّ كان أصله منهم، ولذلك نزع إِلى عبادة العجْلِ. انتهى، واللَّه أعلم، وهذا هو معنى ما تقدَّم من كلام ع «1» ، وقوله: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ، أي: مُهْلَكٌ، مُدَمَّر، رديء العاقبة، والتّبار: الهلاك، وإناء مُتَبَّرٌ، أي: مكسورٌ، وكسارته تِبْرٌ ومنه: تِبْرُ الذَّهَبِ لأنه كسارة، وقوله: مَّا هُمْ فِيهِ يعمّ جميع أحوالهم وباطِلٌ: معناه: فاسد ذاهب مضحملّ، وأَبْغِيكُمْ معناه: أطلبُ. ثم عدَّد عليهم سبحانه في هذه الآية النِّعَمَ التي يجبُ من أجلها أَلاَّ يكفروا به، ولا يَرْغَبُوا في عبادة غيره، فقال: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ... الآية، ويَسُومُونَكُمْ معنا: يحمِّلُونكم، ويكلِّفونكم، ومساوَمَةُ البيع تنظر إِلى هذا فإِنْ كلَّ واحد من المتساوِمَيْن يكلِّف صاحبه إِرادَتُه، ثم فَسَّرَ سوء العذاب بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ... الآية. [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 145] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) وقوله سبحانه: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ... الآية: قال ابن عباس وغيره: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة، وأن العشر هي عَشْرُ ذي «2» الحِجَّة، وروي أن الثلاثين إِنما وعد بأن يصومَهَا، وأَنَّ مدة المناجاة هِيَ العَشْر، وحيث ورد أنَّ المواعدة أربعُونَ ليلةً، فذلك إِخبار بجملة الأمْر، وهو في هذه الآية إِخبار بتفصيله، والمعنى في قوله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ: أنه خلق لَهُ إِدراكاً سَمِعَ به الكلام القائم بالذات القديم

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 448) . (2) أخرجه الطبري (6/ 48) برقم: (15076) ، وذكره ابن عطية (2/ 449) ، وابن كثير (2/ 243) ، والسيوطي (3/ 214) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

الذي هو صفةُ ذاتٍ، وكلامُ اللَّه سبحانه لا يشبه كلامَ المخلوقين «1» ، وليسَ في جهة مِنَ الجهاتِ، وكما هو موجودٌ لا كالموجودات، ومعلومٌ لا كالمعلومات كذلك كلامه لا يُشْبِهُ الكلامَ الذي فيه علاماتُ الحدوثِ، وجَوابُ «لَمَّا» في قوله: قالَ، والمعنى أنَّه لمَّا كلَّمه اللَّه عزَّ وجلَّ، وخصَّه بهذه المرتبة، طَمَحَتْ همته إِلى رُتْبة الرؤْية، وتشوَّق إِلى ذلك، فسأل ربّه الرؤية، ورؤية الله عز وجلّ عند أهل السنة جائزةٌ عقْلاً لأنه من حيثُ هو موجودٌ تصحُّ رؤيته قالوا: لأن الرؤية للشَّيْءِ لا تتعلَّق بصفةٍ مِنْ صفاته أَكْثَرَ من الوُجُود، فموسى عليه السلام لم يسأَلْ ربَّه محالاً، وإِنما سأله جائزاً، وقوله سبحانه: لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ... الآية: ليس بجواب مَنْ سأل محَالاً، و «لَنْ» تنفي الفَعْلَ المستقبَلَ، ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسى أبداً، ولا في الآخرةِ، لكنْ ورد من جهة أخرى بالحديثِ المتواتر أنَّ أهل الإِيمانَ يَرَوْنَ اللَّه يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرَى برؤيته، قُلْتُ: وأيضاً قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ، فهو نصّ في الرؤية بيّنه صلّى الله عليه وسلّم ففي «الترمذيُّ» عن ابن عُمَرَ، قال: قَالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة» ، ثم

_ (1) لا خلاف لأرباب الملل جميعا في كون الباري تعالى متكلما، وإنما الخلاف في معنى كلامه، وهل هو قديم أو حادث، وقد قام الدليل السمعي على إثبات الكلام لله تعالى، وهو ما نقل تواترا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أنه تعالى أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأخبر بكذا. وكل هذا من أقسام الكلام، وليس في إثبات الكلام للواجب تعالى بما نقل تواترا عن الأنبياء دور لأن ظهور المعجزة كاف في الدلالة على صدقهم في دعواهم النبوّة، وليس تصديقه تعالى لهم كلاما حتى يجيء الدور، بل تصديقه لهم بإظهار المعجزة على صدق دعواهم، سواء كانت المعجزة من جنس الكلام من حيث كونه معجزا، كالقرآن أو كانت شيئا آخر. والأشاعرة يقولون: كلام الواجب وصف له، ووصف القديم قديم. ويريدون من «الكلام» المعنى النفسي. فكلامه تعالى صفة أزلية قائمة بذاته تعالى منافية للسكوت والآفة كما في الخرس والطفولية، ليست من جنس الأصوات والحروف، هو بها أمر ناه. وتلك الصفة واحدة في ذاتها وإن اختلفت العبارات الدالة عليها كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة مختلفة. وخالفت الفرق جميعها الأشاعرة فيما ذكر، فقد اتفقوا على نفي كونه صفة نفسية. حيث قالوا: هو اللفظ المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة. وافترقت هذه الطوائف إلى ثلاثة فرق، وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة، وأن الكلام النفسي غير معقول. ينظر: «تحقيق صفة الكلام» لشيخنا حافظ محمد مهدي.

قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] «1» ، قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث مِنْ غير وجه مرفوعاً، وموقوفاً. انتهى. قال مجاهد وغيره: إن الله عز وجل قال له: يا موسى، لن تراني، ولكنّ سأتجلَّى للجَبَل، وهو أقوى منك، وأَشَدُّ فإِن استقر وأطاقَ الصبْرَ لهيبتي، فسَتُمْكِنُكَ أَنْتَ رؤيتي «2» . قال ع «3» : فعلى هذا إِنما جعل اللَّه الجَبَل مثالاً، قلتُ: وقول ع «4» : ولو بَقِينَا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسَى أبداً ولا في الآخرة، قولٌ مرجوحٌ لم يتفطَّن له رحمه اللَّه، والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه أَنَّ «لن» لا تقتضي النفي المؤبّد «5» .

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 431) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة القيامة» ، حديث (3330) ، والطبري في «تفسيره» (12/ 344) برقم: (35666) كلاهما من طريق إسرائيل عن ثوير عن عبد الله بن عمر به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد رواه غير واحد عن إسرائيل مثل هذا مرفوعا، ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن ابن عمر من قوله، ولم يرفعه. اهـ. قلت: بل رواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعا. أخرجه الحاكم (2/ 509) من طريق عبد الملك به وقال: تابعه إسرائيل بن يونس، عن ثوير، عن ابن عمر. وقال أيضا: وثوير بن أبي فاختة، وإن لم يخرجاه، فلم ينقم عليه غير التشيع. وتعقبه الذهبي فقال: بل هو واهي الحديث. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 470) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والآجري في «الشريعة» ، والدارقطني في «الرؤية» ، وابن مردويه، واللالكائي في «السنة» . (2) أخرجه الطبري (6/ 54) برقم: (15100) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 450) ، والسيوطي (3/ 221) ، وعزاه لعبد بن حميد. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 450) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 450) . (5) لن: لا يلزم من نفيها التأبيد، وإن كان بعضهم فهم ذلك، حتّى إن ابن عطية قال: فلو بقينا على هذا النفي بمجرده لتضمن أن موسى لا يراه أبدا، ولا في الآخرة، لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الجنة يرونه، قلت: وعلى تقدير أنّ «لن» ليست مقتضية للتأبيد، فكلام ابن عطية وغيره ممن يقول: إنّ نفي المستقبل بعدها يعمّ جميع الأزمنة المستقبلة صحيح، لكن لمدرك آخر، وهو أن الفعل نكرة، والنكرة في سياق النفي تعمّ، وللبحث فيه مجال. والاستدراك في قوله: وَلكِنِ انْظُرْ واضح. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: وَلكِنِ انْظُرْ؟ قلت: اتصل به على معنى أن النظر إليّ محال فلا تطلبه، ولكن اطلب نظرا آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل. وهذا على رأيه من أن الرؤية محال مطلقا في الدنيا والآخرة. ينظر: «الدر المصون» (3/ 338- 339) .

قال بدْرُ الدين أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مالِكٍ/ في شرح التَّسْهِيلِ: «وَلَنْ» كغيرها من حروفِ النفي في جواز كون استقبال المنفيِّ بها منقَطعاً عنْدَ حَدٍّ وغَيْرَ منقطعٍ، وذكر الزمخشريُّ في «أُنْمُوذجِهِ» أَنَّ «لَنْ» لتأبيدِ النفْي، وحاملُهُ على ذلك اعتقادُهُ أنَّ اللَّه تعالى لا يُرَى، وهو اعتقادٌ باطلٌ لصحَّةَ ثبوتِ الرؤية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستدل على عدم اختصاصها بالتأبيد بمجيء استقبال المنْفِيِّ بها مُغَيًّا إِلى غايةٍ ينتهي بانتهائها، كما في قوله تعالى: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91] ، وهو واضح. انتهى، ونحوه لابْنِ هشامٍ، ولفظه: ولا تفيدُ «لَنْ» توكيدَ المنفيِّ خلافاً للزمخشريِّ في «كشافه» ، ولا تأْبِيدَهُ، خلافاً له في «أنموذجه» ، وكلاهما دعوى بلا دليلٍ قيل: ولو كانَتْ للتأبيدِ، لم يقيد منفيُّها ب «اليوْم» في فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26] ولكان ذكْرُهُ «الأَبَدَ» في وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] تَكْراراً، والأصل عدمه. انتهى من «المغني» . وقوله سبحانه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ: التجلِّي: هو الظهورُ منْ غير تشبيهٍ ولا تكييفٍ، وقوله: جَعَلَهُ دَكًّا، المعنى: جعله أرضاً دكًّا، يقال: ناقةٌ دَكَّاء، أَيْ: لا سنامَ لها، وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، أي: مغشيًّا عليه، قاله جماعة من المفسِّرين. قال ص: وَخَرَّ معناه سقَطَ، وقوله: سُبْحانَكَ، أي: تنزيهاً لك كذا فسَّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ، معناه: منْ أن أسألك الرُّؤْية في الدنيا، وأنْتَ لا تبيحها فيها. قال ع «1» : ويحتمل عنْدي أنه لفظ قاله عليه السلام لشدَّة هَوْل المَطْلَعَ، ولم يعن التَّوْبَة مِنْ شيء معيَّن، ولكنَّه لفظٌ لائقٌ بذلك المقامِ، والذي يتحرَّز منه أَهْلُ السنة أنْ تكون تَوْبَةً من سؤال المُحَال كما زعَمَتِ المعتزلةُ، وقوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، أي: مِنْ قومه قاله ابن عباس «2» وغيره، أَو مِنْ أَهْلِ زمانه إِنْ كان الكُفْر قد طَبَّق الأرض، أو أولُ المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا قاله أبو العالية «3» . وقوله سبحانه: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه تأديبٌ، وتقنيعٌ، وحملٌ على جادَّة السلامة، ومثالٌ لكلِّ أحدٍ في حاله، فإِن جميع النّعم من عند الله سبحانه بمقدار،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 452) . (2) أخرجه الطبري (6/ 56) برقم: (15110) ، وبرقم: (15111) وذكره ابن عطية (2/ 452) ، وابن كثير (2/ 245) ، والسيوطي (3/ 222) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه، والحاكم وصححه. [.....] (3) ذكره ابن عطية (2/ 452) ، وابن كثير (2/ 245) ، والسيوطي (3/ 223) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي الشيخ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 إلى 147]

وكُلُّ الأمور بِمَرْأًى منه ومَسْمَعٍ، وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أي: مِنْ كل شيءٍ يَنْفَعُ في معنى الشرْع، وقوله: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مثُلُه، وقوله: بِقُوَّةٍ، أي: بجدٍّ وصبرٍ عليها قاله ابن عباس «1» ، وقوله: بِأَحْسَنِها يحتملُ معنيين. أحدهما: التفضيلُ كما إِذا عرض مثلاً مباحانِ كالعفو والقِصَاصِ، فيأخذون بالأحْسنِ منهما. والمعنى الثاني: يأخذون بَحَسن وَصْفِ الشريعة بجملتها كما تقول: اللَّه أَكْبَرُ، دون مقايسة. وقوله سبحانه: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ، الرؤية هنا: رؤيةُ عَيْن هذا هو الأظهر إِلا أن المعنى يتضمَّن الوعد للمؤمنين، والوعِيدَ للفاسقين، ودارٌ الفاسقين: قيل: هي مِصْرُ، والمراد آل فرعون، وقيل: الشام، والمراد العَمَالِقَةُ وقيل: جَهَنَّم، والمرادُ الكَفَرَةُ بموسى، وقيل غير هذا ممَّا يفتقرُ إِلى صحة إِسناد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وقوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ ... الآية: المعنى: سأَمْنَعُ وأصُدُّ، قال سفيان بن عُيَيْنَة: الآياتُ هنا كلُّ كتابٍ منزّل «2» . قال ع «3» : والمعنى عن فَهْمِها وتصدِيقها، وقال ابن جُرَيْج: الآياتُ: العلامات المنصوبة الدالَّة على الوحدانية، والمعنى: عن النظر فيها، والتفكُّر والاستدلال بها، واللفظُ يعمُّ الوجْهَيْن «4» /، والمتكبِّرون في الأرض بغير الحَقِّ: هم الكُفَّار، قُلْتُ: ويدخل في هذا

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 58) برقم: (15122) ، وذكره ابن عطية (2/ 452) ، والسيوطي (3/ 233) ، وعزاه لابن جرير. (2) أخرجه الطبري (6/ 60) برقم: (15132) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 454) ، والبغوي (2/ 200) بنحوه، وابن كثير (2/ 247) ، والسيوطي (3/ 234) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 454) . (4) أخرجه الطبري (6/ 61) برقم: (15133) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 454) ، والبغوي (2/ 200) ، والسيوطي (3/ 234) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 إلى 151]

المعنى مَنْ تشبَّهَ بهم من عُصَاة المؤمنين، والمعنى في هذه الآية: سأجْعَلُ الصَّرْف عن الآيات عقوبةً للمتكبِّرين على تكبُّرهم، وقوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها حَتْمٌ من اللَّه على الطائفةِ التي قَدَّر عليهم أَلاَّ يؤمنوا، وقوله: ذلِكَ: إِشارة إِلى الصَّرْف المتقدِّم. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ... الآية: هذه الآية مؤكَّدة للتي قبلها، وفيها تهديد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 151] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) وقوله سبحانه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ: الخُوَارُ: صَوْتُ البقر، وقرأَتْ فرقة: «لَهُ جُؤَارٌ» - بالجيم-، أيْ: صِيَاحٌ، ثم بيَّن سبحانه سُوءَ فِطَرهم، وقرَّر فساد اعتقادهم بقوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ ... الآية: وقوله: وَكانُوا ظالِمِينَ: إِخبارٌ عن جميع أحوالهم ماضياً، وحالاً، ومستقبلاً، وقد مَرَّ في «البقرة» قصَّة العِجْلِ فأغنى عن إِعادته. قال أبو عُبَيْدة: يقال لمن نَدِمَ على أمْرٍ، وعَجَز عنه: سُقِطَ في يَدِهِ، وقولُ بني إِسرائيل: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا، إِنما كان بَعْدَ رجوعِ موسى، وتَغَيُّرِهِ عليهم، ورؤيتِهِمْ أنهم قد خَرَجُوا من الدِّين، ووقعوا في الكُفْر. وقوله سبحانه: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، يريد: رجَعَ من المُنَاجَاة، والأَسَفُ: قد يكون بمعنى الغَضَبِ الشديدِ، وأكثرُ ما يكونُ بمعنى الحُزْن، والمعنيانِ مترتبان هنا. وعبارةُ ص: غَضْبانَ: صفةُ مبالغةٍ، والغَضَبُ غليان القلب بسبب ما يؤلم وأَسِفاً: مِنْ أَسِفَ، فهو أَسِفٌ، كَفَرِقَ فهو فَرِقٌ، يدل على ثبوت الوصف، ولو ذُهِبَ به مَذْهَبُ الزمان، لقيل: آسِف على وزن فَاعِل، والأَسَفُ: الحزنُ. انتهى. وقوله تعالى: أَعَجِلْتُمْ، معناه: أسابقتم قضاء رَبِّكُم، واستعجلتم إِتْيَانِي قبل الوقت الذي قدر به، قال سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: كان سببُ إِلقائه الأَلْوَاحَ- غضبه على

[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 إلى 155]

قومه في عبادتهم العِجْل، وَغَضَبَهُ على أخيه في إِهمال أَمرهم «1» . قال ابن عباس: لمَّا ألقاها، تكسَّرت، فَرُفِعَ أكثَرُها الذي فيه تفصيلُ كلِّ شيء، وبقي الذي في نُسْخَتِهِ الهدى والرحمة، وهو الذي أخذ «2» بعد ذلك، قال ابن عبَّاس: كانت الألواح مِنْ زُمُرُّدِ، وقيل: من ياقوتٍ، وقيل: من زَبَرْجَدٍ، وقيل: من خشبٍ، واللَّه أعلم «3» . وقوله: ابْنَ أُمَّ استعطافٌ برحمِ الأمِّ إذ هو ألْصَقُ القراباتِ، وقوله: كادُوا، معناه: قاربوا، ولم يَفْعَلُوا، وقوله: وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يريد: عَبَدَةَ العجْلِ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 155] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وقد وقع ذلك النَّيْلُ بهم في عَهْدِ موسى عليه السلام، فالغضبُ والذِّلَّة هو أمرهم بقَتْل أنفسهم، وقال بعض المفسِّرين: الذِّلَّة: الجِزْيَة، ووَجْه هذا القول أن الغضب والذِّلَّة بقيتْ في عَقِبِ هؤلاء، وقال ابن جُرَيْج: الإِشارةُ إلى من مات من عَبَدة العجْل قبل التوبة بقَتْل الأنْفُس، وإِلى مَنْ فَرَّ، فلم يكُنْ حاضراً وقت القَتْلِ «4» ، والغَضَبُ من اللَّه عزَّ وجلَّ، إِن أخذ بمعنى الإِرادة، فهو صفةُ ذات، وإِن أُخِذ بمعنى العقوبةِ وإِحلالِ النِّقْمة، فهو صفةُ فِعْلٍ، وقوله: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ، المرادُ أَولاً أولئك الَّذين افتَرْوا عَلَى الله سبحانه

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 65) برقم: (15138) ، وذكره ابن عطية (2/ 457) . (2) أخرجه الطبري (6/ 67) برقم: (15147) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 457) ، والسيوطي (3/ 235) ، وعزاه لأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (6/ 67) برقم: (15147) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 452) ، والبغوي (2/ 199) ، والسيوطي (3/ 225) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (6/ 70- 71) برقم: (15157) ، وذكره ابن عطية (2/ 458) .

في عبَادة العِجْل، وتكونُ قوَّة اللفظ تَعُمُّ كُلَّ مفترٍ إلى يوم القيامة، وقد قال سفيان «1» بن عُيَيْنَة وأبو قِلاَبة «2» وغيرهما/: كلُّ صاحب بدعة أو فِرْيَة، ذليلٌ واستدلوا بالآية. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ... الآية تضمَّنت وعداً بأن اللَّه سبحانه يغفرُ للتائبين وقرأ معاوية بنُ قُرَّة «3» «وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ» . قال أبو حَيَّان «4» : واللام في لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ مُقَوِّية لوصولِ الفعْلِ، وهو يَرْهَبُونَ إلى مفعوله المتقدِّم. وقال الكوفيُّون: زائدةٌ «5» . وقال الأخفشُ: لام المفعول له، أي: لأجْلِ ربِّهم. انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 72) برقم: (15161) ، وذكره ابن عطية (2/ 458) ، والبغوي (2/ 202) ، وابن كثير (2/ 248) ، والسيوطي (3/ 236) . (2) أخرجه الطبري (6/ 71) برقم: (15159) ، وذكره ابن عطية (2/ 458) ، والبغوي (2/ 202) ، وابن كثير (2/ 248) بنحوه، والسيوطي (3/ 236) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) معاوية بن قرّة بن إياس المزني أبو إياس البصري. عن علي مرسلا، وابن عباس، وابن عمر. وعنه قتادة وشعبة وأبو عوانة وخلق، وثقه ابن معين وأبو حاتم. قال خليفة: مات سنة ثلاثة عشرة ومائة، ومولده يوم الجمل. ينظر: «الخلاصة» (3/ 41- 42) ، «التقريب» : (2/ 261) ، «الثقات» (5/ 412) . (4) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 396) . (5) وفي اللام أقوال: أحدها أن اللام مقوية للفعل، لأنه لما تقدم معموله ضعف فقوي باللام، كقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ اللام تكون مقوية حيث كان العامل مؤخرا، أو فرعا، نحو: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، ولا تزاد في غير هذين إلا ضرورة عند بعضهم، كقوله: فلمّا أن توافقنا قليلا ... أنخنا للكلاكل فارتمينا أو في قليل من الكلام عند آخرين، كقوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ. والثاني: أن اللام لام العلة، وعلى هذا فمفعول «يرهبون» محذوف، تقديره: يرهبون عقابه لأجله، وهذا مذهب الأخفش. الثالث: أنها متعلقة بمصدر محذوف، تقديره: الذين هم رهبتهم لربهم، وهو قول المبرد، وهذا غير جار على قواعد البصريين، لأنه يلزم منه حذف المصدر، وإبقاء معموله، وهو ممتنع إلا في شعر. وأيضا فهو تقديره مخرج للكلام عن وجه فصاحته. الرابع: أنها متعلقة بفعل مقدر أيضا، تقديره: يخشعون لربهم، ذكره أبو البقاء، وهو أولى مما قبله. ينظر: «الدر المصون» (3/ 350) . [.....]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 156 إلى 157]

قلْتُ: قال ابنُ هِشَامٍ في «المُغْني» ولام التقْويَةِ هي المَزِيدَةُ لتقويةٍ عاملٍ ضَعُفَ إِما لتأخير نحو: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ، وإِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] أو لكَوْنِهِ فرعاً في العمل نحو: مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ [البقرة: 91] فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: 16] ، وقد اجتمع التأخيرُ والفرعيةُ في: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78] . انتهى. وقوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ ... الآية: قال الفَخْرُ» : قال جماعة النحوِّيين: معناه: واختار موسى مِنْ قومه، فحذف «مِنْ» ، يقال: اخترت مِنَ الرجالِ زيْداً، واخترْتُ الرجالَ زَيْداً. انتهى. قال ع «2» : معنى هذه الآية أَن موسى عليه السلام اختار مِنْ قومه هذه العِدَّة لَيَذْهَبَ بهم إِلى مَوْضِعِ عبادةٍ وابتهالٍ ودعاءٍ، فيكون منه ومنهم اعتذار إِلى اللَّه سبحانه مِنْ خطإِ بني إِسرائيل في عبادةِ العِجْلِ، وقد تقدَّم في «سورة البقرة» [البقرة: 51] قصصهم، قالتْ فرقة من العلماء: إِنَّ موسى عليه السلام لمَّا أعلمه اللَّه سبحانه بعبادة بني إِسرائيل العِجْلَ، وبصفته، قالَ موسى: أيْ ربِّ، ومَنْ اختاره؟ قَالَ: أنا، قال موسى: فأنْتَ، يا ربِّ، أضْلَلْتهُمْ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ أيْ: إِنَّ الأمور بيدك تفْعلُ ما تريد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 157] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) وقوله سبحانه: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً ... الآية: اكْتُبْ: معناه: أَثْبتْ واقض، والكَتْب: مستعمل في كلّ ما يخلّد، وحَسَنَةً: لفظ عامٌّ في كل ما يحسن في الدنيا من عاقبة وطاعة للَّه سبحانه، وغَيْرِ ذلك، وحَسَنَةُ الآخرةِ: الجَنَّة، لا حَسَنَةَ دونها، ولا مرمى وراءها، وهُدْنا- بضم الهاء-: معناه: تُبْنَا. وقوله سبحانه: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ، يحتمل أن يريد ب «العذاب»

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 15) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 459) .

الرجفةَ التي نزلَتْ بالقوم، ثم أخبر سبحانه عن رحمته، ويحتملُ وهو الأظهر: أن الكلام قصد به الخَبَرُ عن عذابه، وعن رحمته، وتصريف ذلك في خليقته كما يشاء سبحانه، ويندرجُ في عمومِ العذابِ أصحابُ الرجفة، وقرأ الحسنُ بنُ أبي الحسن، وطَاوُسٌ، وعَمْرُو «1» بن فائدٍ: «مَنْ أَسَاءَ» «2» من الإِساءة، ولا تعلُّق فيه للمعتزلة، وأطنب القُرَّاء في التحفُّظ من هذه القراءَةِ، وَحَمَلَهُمْ على ذلك شُحُّهم «3» على الدِّين. وقوله سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قال بعض العلماء: هو عمومٌ في الرحمة، وخصوصٌ في قوله: كُلَّ شَيْءٍ، والمراد: مَنْ قد سبق في عِلْم اللَّه أن يرحمهم، وقوله سبحانه: فَسَأَكْتُبُها، أي: أقدِّرها وأقضيها. وقال نَوْفٌ البِكَالِيُّ «4» : إِن موسى عليه السلام قال: يا رَبِّ، جعلْتَ وِفَادَتِي لأمَّة محمَّد عليه السلام، وقوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ: الظاهر: أنها الزكاةُ المختصَّة بالمالِ، وروي عن ابن عباس أن المعنى: يؤتون الأعمالَ التي يزكُّون بها أنفسهم «5» . وقوله سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... الآية: هذه ألفاظٌ أخرجَت

_ (1) عمرو بن فائد، أبو علي الأسواري التميمي: معتزلي قدري، من القراء القصاص، من أهل البصرة، كان منقطعا إلى أميرها محمد بن سليمان، أخذ عن عمرو بن عبيد، وله معه مناظرات، وكان متروك الحديث، ليس بثقة، ولا يكتب حديثه، وقيل: له «تفسير» كبير. قال ابن حجر: مات بعد المائتين بيسير. ينظر: ترجمته في «الأعلام» (5/ 83) (540) . (2) وقد حسنها أبو الفتح على مذهبه من الاعتزال. ينظر: «المحتسب» (1/ 261) ، و «الشواذ» (51) ، و «الكشاف» (2/ 165) و «المحرر الوجيز» (2/ 461) ، و «البحر المحيط» (4/ 400) ، وزاد أبو حيان نسبتها إلى زيد بن علي، ثم قال: وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وقرأ بها سفيان بن عيينة مرة واستحسنها، فقام إليه عبد الرحمن المقرئ وصاح به، وأسمعه، فقال سفيان: لم أدر، ولم أفطن لما يقول أهل البدع. ينظر: «الدر المصون» (3/ 353) . (3) الشّحّ في الأصل هو: البخل، وتشاحوا في الأمر وعليه: شح بعضهم على بعض، وتبادروا إليه حذر فوته، وكان المعنى هنا مأخوذ من الحرص على المحافظة على أساس الدين. ينظر: «لسان العرب» (2205) . (4) نوف بن فضالة الحميري البكالي: إمام أهل دمشق في عصره، من رجال الحديث، ورد ذكره في «الصحيحين» وكان راويا للقصص، وهو ابن زوجة كعب الأحبار، ذكره البخاري في فصل: من مات ما بين التسعين إلى المائة. ينظر: ترجمته في «الأعلام» (8/ 54) (511) . (5) أخرجه الطبري (6/ 82) برقم: (15224) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 461) .

اليهودَ والنصارى مِنَ الاشتراك الذي يظهر في قوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وخلُصَتْ هذه العِدَةُ لأمة محمّد/ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس «1» وغيره. قلْتُ: وهذه الآيةُ الكريمة مُعْلِمَةٌ بشَرَف هذه الأمَّة على العُمُوم في كلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه تعالى، وأقرَّ برسالة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم هم يتفاوتون بعدُ في الشرف بحَسَب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في «الإِحياء» : وإِنما أمّته صلّى الله عليه وسلّم مَنِ اتبعه، وما اتبعه إِلاَّ مَنْ أعرض عن الدنيا، وأَقْبَلَ على الآخرةِ، فإِنه عليه السلام ما دَعَا إِلاَّ إِلى اللَّهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، وما صَرَفَ إِلاَّ عن الدنيا والحظوظِ العاجلةِ، فبقدْرِ ما تُعْرِضُ عن الدنيا، وتُقْبِلُ على الآخرة، تسلك سبيله الذي سلكه صلّى الله عليه وسلّم، وبقَدْرِ ما سَلَكْتَ سبيله، فقد اتبعته، وبقَدْر ما اتبعتَهُ، صِرْتَ من أمته، وبقَدْرِ ما أَقبلْتَ على الدنيا، عَدَلْتَ عن سبيله، ورغبْتَ عَنْ متابعته، والتحقت بالذين قال اللَّه تعالى فيهم: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 37، 38، 39] . انتهى، فإن أردتّ اتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الحقيقة، واقتفاء أثره، فابحث عن سيرته وخُلُقه في كتب الحديث والتفسير. قال ابنُ القَطَّان في تصنيفه الذي صنَّفه في «الآيات والمعجزات» : والقول الوجيز في زُهْدِهِ وعبادتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وسائر حلاه ومعاليه صلّى الله عليه وسلّم: أنه مَلَكَ مِنْ أقْصَى اليمن إلى صحراء عمان إِلى أقصى الحجاز، ثم تُوُفِّيَ عليه السلام، وعليه دَيْنٌ، ودِرْعُهِ مَرْهونةٌ في طَعَام لأهله، ولم يتركْ ديناراً ولا درهماً، ولا شَيَّد قَصْراً، ولا غَرَس نَخْلاً، ولا شَقَّقَ نَهْراً، وكان يأكل على الأرْضِ ويجلسُ على الأرض، ويَلْبَسُ العَبَاءة، ويجالسُ المَساكين، ويَمْشِي في الأسواق، ويتوسَّد يَدُه، ويلعقُ أصابعه، ويُرقِّع ثوبه، ويَخْصِفُ نَعْلَه، ويُصْلِح خُصَّه، ويمهنُ لأهله، ولا يأكل متْكِئاً، ويقول: «أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْد» ، ويقتصُّ من نفْسه، ولا يرى ضاحكاً مِلْء فِيهِ ولو دُعِيَ إِلى ذراعٍ، لأجاب، ولو أُهْدِيَ إِليه كُرَاعٌ لَقِبل، لا يأكلُ وحده، ولا يَضْرِبُ عبده، ولا يمنعُ رفْده ولا ضَرَبَ قطُّ بيدِهِ إِلاَّ في سَبِيل اللَّه، وقام للَّه حتَّى تَوَرَّمَتْ قدماه، فقيل له: أتَفْعَلُ هذا وقد غَفَرَ اللَّه لك مَا تَقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ؟ فقال: «أفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً» ، وكان يُسْمَعُ لجوفه أزير كأزيز المِرْجَلِ «2» من البكاءِ إِذا قام بالليل صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وأتباعه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة. انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 83) برقم: (15225) ، وبرقم: (15226) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 462) ، والسيوطي (3/ 241) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) المرجل: القدر من الحجارة والنّحاس. مذكر. ينظر: «لسان العرب» (1601) .

وقال «1» الفَخْر: قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ... الآية: قال بعضهم: الإِشارة بذلك إِلى مَنْ تقدَّم ذكْرُه من بني إِسرائيل، والمعنى: يتبعونه باعتقاد نبوَّته من حيث وَجَدُوا صفتَهُ في التوراة، وسيجدونه مكتوباً في الإِنجيل. وقال بعضهم: بل المرادُ مَنْ لحق مِنْ بني إِسرائيل أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبيَّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمةُ الآخرة إِلاّ إذا اتبعوا النبيَّ الأُميُّ. قال الفخْر «2» : وهذا القول أقربُ. انتهى. وقوله: يَجِدُونَهُ، أي: يجدون صفة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته ففي «البخاريِّ» وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو أنَّ في التوراة مِنْ صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «يا أيّها النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً/ وَنَذِيراً وَحِرْزاً لِلأُمِيِّيِّن، أنْتَ عَبْدِي وَرَسُولي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سخَّاب «3» في الأَسْوَاق، وَلاَ يَجْزي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حتى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاء بأنْ يَقُولُوا: لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، فَنُقِيمُ بِهِ قُلُوباً غُلْفاً، وأَذَاناً صُمًّا، وَأَعْيُناً عُمْياً» ، وفي «البخاريِّ» : «فَيَفْتَحُ بِهِ عُيُونَاً عُمْياً، وآذاناً صُمًّا، وقُلُوباً غُلْفاً «4» » ، ونصَّ كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إِلاَّ أنه قال: «قُلُوباً غُلُوفاً، وآذناً صُمُوماً» . وقوله سبحانه: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ... الآية: يحتملُ أن يكون ابتداء كلامٍ وُصِفَ به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويحتملُ أن يكون متعلِّقاً ب «يجدونه» في موضع الحال على تجوُّزٍ، أي: يجدونه في التوراةِ آمراً بشرط وجوده، والمعروف: ما عُرِفَ بالشرع، وكلُّ معروف من جهة المروءة، فهو معروف بالشرع، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم محاسن الأخلاق» «5» والْمُنْكَرِ: مقابله، والطَّيِّباتِ عند مالك: هي المحلّلات، والْخَبائِثَ هي المحرَّمات، وكذلك قال ابن عباس، والإِصْرُ الثّقل «6» ، وبه فسّر هنا قتادة «7» وغيره،

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 20) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 20) . (3) السّخب والصّخب: الصياح. ينظر: «النهاية» (2/ 349) . (4) تقدم تخريجه. (5) تقدم تخريجه. [.....] (6) أخرجه الطبري (6/ 85- 86) برقم: (15241) بلفظ: «عهدهم» ، وبرقم: (15247) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 463) ، والبغوي (2/ 206) ، والسيوطي (3/ 248) . (7) أخرجه الطبري (6/ 86) برقم: (15248) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 4630) ، والبغوي (2/ 206) ، والسيوطي بنحوه (3/ 248) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 158 إلى 160]

والإِصْر أيضاً: العَهْد، وبه فسر ابنُ عباس وغيره «1» ، وقد جَمَعَتْ هذه الآيةُ المعنيين فإِن بني إِسرائيل قد كان أخذ عليهم العَهْدُ بأن يقوموا بأعمال ثقال، فَوَضَعَ عنهم نبيُّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال ابن جُبيْر: الإِصْر: شدَّة العبادة «2» ، وقرأ ابن عامر «3» : «آصارَهُمْ» بالجمع فمَنْ وحَّد «الإصر» فإنما هو اسمُ جنْس عِنده، يراد به الجمعُ، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ عبارةٌ مستعارَةٌ أيضاً لتلك الأثقال، كَقَطْعِ الجِلْدِ من أثر البَوْلِ، وأن لا ديةَ، ولا بدَّ من قَتْل القاتل، إلى غير ذلك، هذا قول جمهور المفسِّرين، وقالَ ابن زَيْدٍ: إنما المراد هنا ب الْأَغْلالَ قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ في اليهود: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64] ، فمنْ آمن بنبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، زالَتْ عنه الدعوةُ، وتغليلها «4» ، ومعنى عَزَّرُوهُ: أي: وقَّروه، فالتعْزيرُ والنصْرُ: مشاهدةٌ خاصَّة للصحابة، واتباع النور: يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، والنُّورُ: كنايةٌ عن جُمْلة الشرع، وشَبَّه الشرعَ والهدى بالنور، إِذ القلوبُ تستضيء به كما يستضيء البصر بالنّور. [سورة الأعراف (7) : الآيات 158 الى 160] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً هذا أمر من الله

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 85) برقم: (15241) ، وذكره ابن عطية (2/ 463) ، والسيوطي (3/ 248) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (2) ذكره ابن عطية (2/ 463) ، والسيوطي (3/ 248) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (3) وحجته أنه لم يختلف في جمع «الأغلال» ، وهي نسق على الإصر، وحجة الباقين قوله تعالى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً [البقرة: 286] ، وقوله سبحانه: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران: 81] . ينظر: «السبعة» (295) ، و «الحجة» (4/ 93) ، و «إعراب القراءات» (1/ 210) ، و «حجة القراءات» (298) ، و «إتحاف» (2/ 65) ، و «معاني القراءات» (1/ 425) ، و «شرح شعلة» (397- 398) ، و «شرح الطيبة» (4/ 31) و «العنوان» (98) . (4) ذكره ابن عطية (2/ 464) .

سبحانه لنبيِّه بإشهار الدعوة العامَّة، وهذه من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم من بين سائر الرسل فإنه صلّى الله عليه وسلّم بُعِثَ إِلى الناس كافَّة، وإِلى الجنِّ، وكلُّ نبيٍّ إِنما بعث إِلى فرقة دون العُمُوم. وقوله سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: حَضٌّ على اتباع نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ، أيْ: يصدق باللَّه وكلماته، والكلماتُ هنا: الآياتُ المنزلة مِنْ عند الله كالتوراة والإنجيل، وقوله: وَاتَّبِعُوهُ لفظ عامٌّ يدخل تحته جميعُ إلزامات الشريعة، جعلنا اللَّه مِنْ متَّبعيه على ما يلزم بمنِّه ورحمته. قُلْتُ: فإِن أردتَّ الفوْزَ أيُّها الأخ، فعليك باتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمِ شريعته، وتعظيم جَمِيعِ أسبابه. قال عِيَاضٌ: ومن إعظامه صلّى الله عليه وسلّم وإِكبارهِ إِعظام جميع أَسبابه وإِكْرَامُ مشاهده وأَمْكِنَتِهِ، ومعاهِدِهِ، وما لَمَسَهُ عليه السلام أَوْ عُرِفَ به، حُدِّثْتُ أن أبا الفَضْل الجوهري، لمَّا وَرَدَ المدينةَ زائراً، وقَرُبَ من بيوتها، ترجَّل، ومشى باكياً منشداً: [الطويل] وَلَمَّا رَأَيْنَا رَسْمَ مَنْ لَمْ يَدَعْ لَنَا ... فُؤَاداً لِعِرْفَانِ/ الرُّسُومَ «1» وَلاَ لُبَّا «2» نَزَلْنَا عَنِ الأَكْوَارِ «3» نَمْشِي كَرَامَةً ... لِمَنْ بَانَ عَنْهُ أَنْ نَلُمَّ بِهِ رَكْبَا وحُكِيَ عن بعض المريدين أنه لما أشْرَفَ على مدينة الرسول عليه السلام، أنشأ يقُولُ: [الكامل] رُفِعَ الحِجَابُ «4» لَنَا فَلاَحَ لِنَاظِرِي ... قَمَرٌ تَقَطَّعُ دُونَهُ الأَوْهَامُ «5» وَإِذَا المَطِيُّ «6» بِنَا بَلَغْنَ محمّدا ... فظهورهنّ «7» على الرّجال حرام

_ (1) الرسم: آثار الديار الدارسة، والمراد آثاره صلّى الله عليه وسلّم في معاهده ومساكنه، والفؤاد: القلب، والعرفان: المعرفة، واللّب: العقل. (2) الأبيات للمتنبي (1/ 56) ، ينظر: الأبيات في «الشفا» ص: (621) . (3) الأكوار: جمع كور، وهو للإبل بمنزلة السرج للفرس، بان: بعد، نلمّ: نأتيه لزيارته، والإلمام: الإتيان قليلا. (4) المراد برفع الحجاب في الشعر: رفع ستائر أبواب الملوك والعظام، وهو هنا، بمعنى انقضاء المسافة، والقرب من المدينة، والقمر: الممدوح، وتقطع: تضمحل. (5) الأبيات لأبي نواس في مدح محمد الأمين. ينظر: «ديوانه» ص: (408) ، وتنظر الأبيات في: «الشفا» (622) . (6) المطيّ: جمع مطية: ناقة تمتطى وتركب، ولاح: بدا وظهر، دونه: قريبا منه. (7) فظهورهن على الرجال حرام، أي: إذا أوصلتهم لمقاصدهم، كانت لها حرمة تقتضي رعايتها وراحتها،

قرّبننا من خير من وطئ الحَصَى «1» ... فَلَهَا عَلَيْنَا حُرْمَةٌ وَذِمَامُ وحُكِيَ عن بعض المشايِخِ أنه حجَّ ماشياً، فقيل له في ذلك، فقال: العَبْدُ الآبِقُ يأتي إلى بيت مولاه راكباً؟ لو قَدْرَتُ أَنْ أَمْشِيَ على رأسِي، ما مَشَيْتُ على قدَمي. قال عياضَ: وجديرٌ لمواطَنَ عُمِرَتْ بالوحْيِ، والتنزيل وتردَّد فيها جبريلُ وميكائيل، وعَرَجَتْ منها الملائكةُ والرُّوح وضجَّتْ عرصاتها «2» بالتقديس والتسبيح، واشتملَتْ تربتها على جَسَد سَيِّد البَشَر وانتشر عنْهَا مِنْ دِينِ اللَّه وسنة رسُوله ما انتشر، مدارسُ وآيات ومَسَاجِدُ وصَلَوَات ومَشَاهِدُ الفَضَائِلِ والخَيْرَات ومعاهدُ البراهين والمُعْجِزَات- أنْ تعظَّم عَرَصَاتها وتُتَنَسَّمَ نفحاتها وتُقَبَّلَ ربُوعُها وجدراتُها: [الكامل] يَا دَارَ خَيْر المُرْسَلِينَ ومَنْ بِه ... هَدْيُ الأَنَامُ» وَخُصَّ بِالآيَاتِ «4» عِنْدِي لأَجْلِكَ لَوْعَةٌ «5» وَصَبَابَةٌ ... وَتَشَوُّقٌ مُتَوَقِّدُ الجَمَرَاتِ الأبيات. انتهى من «الشفا» . وقوله سبحانه: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ، أي: يرشدُونَ أنفسهم، وهذا الكلامُ يحتملُ أنْ يريد به وصْفَ المؤمنين منهم، على عهد موسى، وما والاَهُ مِنَ الزمَنِ، فأخبر سبحانه، أنه كان في بني إسرائيل على عتوِّهم وخلافِهِمْ مِنَ اهتدى واتقى وعَدَلَ، ويحتمل أنْ يريد الجماعةَ التي آمَنَتْ بنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم، وقوله: أَسْباطاً: بَدلٌ من اثْنَتَيْ، والتمييزُ الذي بَيْنَ العَدَدَ محذوفٌ تقديره: اثنتي عَشْرَةَ فرقةً أو قِطْعَةً أسباطاً. وقوله سبحانه: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ

_ فلا يركبها بعد ذلك رجل، ولا يوضع على ظهرها شيء، بل تترك سارحة منعمة في مرعاها. [.....] (1) روي البيت في «الشفا» «.... من وطىء الثرى» . وخير من وطىء الثرى: النبي، فهو خير الناس، والحرمة: الحق الذي يلزم احترامه، والذمام: ما يلزم احترامه، أو جمع ذمة، وهي العهد، وما يجب الوفاء به. (2) العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. ينظر: «لسان العرب» (2883) . (3) الأنام: الخلق، خصّ بالآيات: القرآن، أو جميع المعجزات. (4) الشعر للقاضي عياض، ينظر الأبيات في: «الشفا» (623) ، و «نسيم الرياض» (3/ 488) ، وقال القاري: (2/ 102) : قال الحلبي: الذي يظهر أن هنا الشعر من قول عياض رحمه الله. (5) اللوعة: شدة الحب وحرقته، والصبابة: رقة الشوق.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 إلى 162]

فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ... الآية: فَانْبَجَسَتْ: بمعنى انفجرت، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المعاني في «البقرة» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وقوله سبحانه: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ: القَرْيَةُ هي بيْتُ المقدس. وقيل: أريحا، و «بدّل» : معناه غيّر اللّفظ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وقوله سبحانه: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ... الآية: قال بعضُ المتأوِّلين: إِن اليهود المعاصرين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالُوا: إِنَّ بني إِسرائيل لم يَكُنْ فيهم عصْيانٌ، ولا معاندةٌ لمَا أُمرُوا به، فنزلَتْ هذه الآيةُ موبِّخة لهم، فسؤالهم إِنَّما هو على جهة التوبيخِ، والقريةُ هنا: أَيْلَةُ، قاله «1» ابن عباس وغيره، وقيل: مَدْيَن، و «حاضِرة البَحْر» ، أي: البحر فيها حاضرٌ، ويحتملُ أنْ يريد معنى «الحاضرة» على جهة التعظيم لها، أي: هي الحاضرة في مدن البحر، ويَعْدُونَ: معناه: يخالفون الشرع من عدا يعدو، وشُرَّعاً، أي: مقبلة إِليهم مُصْطَفَّة، كما تقولُ: شُرِعَتِ الرماحُ إِذا مُدَّتْ مصطَفَّة، وعبارةُ البخاري/ شُرَّعاً أيْ: شوارِعَ انتهى. والعامل في قوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ قولُهُ: لاَ تَأْتِيهِمْ، وهو ظرفٌ مقدّم،

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 91) برقم: (15263) ، وذكره ابن عطية (2/ 467) ، والبغوي (2/ 208) ، وابن كثير (2/ 257) ، والسيوطي (3/ 251) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 إلى 168]

ومعنى قوله كَذلِكَ الإشارةُ إلى أمر الحُوت، وفِتنَتِهِمْ به، هذا على من وَقَفَ على تَأْتِيهِمْ، ومن وقف على كَذلِكَ، فالإشارة إِلى كثرة الحيتانِ شُرَّعاً، أي: فما أتى منها يوم لا يسبتون، فهو قليل، ونَبْلُوهُمْ، أي: نمتحنهم بِفِسْقهم وعِصْيانهم، وقد تقدَّم في «البقرة» قصصهم. وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً. قال جمهور المفسِّرين: إن بني إِسرائيل افترقت ثلاثَ فرقٍ: فرقةٌ عصَتْ، وفرقةٌ نهَتْ، وجاهَرَتْ وتكلَّمَت واعتزلت، وفرقةٌ اعتزلت، ولم تَعْصِ ولم تَنْهِ، وأن هذه الفرقة لما رأتْ مجاهرة الناهية، وطُغيانَ العاصيةِ وعَتُوَّهَا، قالَتْ للناهية: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً، يريدونّ: العاصيةَ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ، فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إِلى اللَّه، أي: إِقامة عُذْر، ومعنى مُهْلِكُهُمْ، أيُّ: في الدنيا، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ، [أي] : في الآخرةِ، والضمير في قوله: نَسُوا للمَنْهِيين، وهو تَرْكٌ سُمِّيَ نِسياناً مبالغةً، و «ما» في قوله: مَا ذُكِّرُوا بِهِ بمعنى الَّذي، والسُّوءِ: لفظ عامٌّ في جميع المعاصي إِلاَّ أنَّ الذي يختصُّ هنا بحَسَب قصص الآيةِ هو صيد الحوت، والَّذِينَ ظَلَمُوا: هم العاصُونَ، وقوله: بِعَذابٍ بَئِيسٍ معناه: مؤلمٌ موجِعٌ شديدٌ، واختلف في الفرقة التي لم تعص ولم تنه، فقيل: نجت مع الناجين، وقيل: هلَكَتْ مع العاصين. وقوله: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، أي: لأجل ذلك، وعقوبةً عليه، والعُتُوُّ الاستعصاء وقلَّة الطواعية. وقوله سبحانه: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا، يحتمل أن يكون قولاً بلفظ مِنْ مَلَك أسْمَعَهم فكَانَ أذْهَبَ في الإِعراب والهَوْلِ والإِصغارِ، ويحتمل أن يكون عبَارةً عن القدرة المكوّنة لهم قردة، وخاسِئِينَ: معناه مبعَدِين ف «خاسئين» خبر بعد خبرٍ، فهذا اختيار أبي الفَتْح، وضعَّف الصفَة، فرُوِيَ أنَّ الشباب منهم مُسِخُوا قردةً، والرجالَ الكبارَ مسخوا خنازير. [سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 168] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) وقوله سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ معنى هذه الآية: وإِذْ علم اللَّه لَيَبْعَثَنَّ، وتقتضي قوَّة الكلام أنَّ ذلك العلْمَ منه

[سورة الأعراف (7) : الآيات 169 إلى 170]

سبحانه مقترِنٌ بإنفاذٍ وإمِضاء كما تقول في أمر عَزَمْتَ عليه: عَلِمَ اللَّهُ لأَفْعَلَنَّ. وقال الطبريُّ «1» وغيره: تَأَذَّنَ معناهُّ: أعْلَمَ، وقال مجاهد: تَأَذَّنَ معناه: أَمَرَ «2» وقالت فرقة: معنى تَأَذَّنَ: تَأَلَّى، والضمير في عَلَيْهِمْ، لبني إِسرائيل، وقوله: مَنْ يَسُومُهُمْ قال ابن عباس: هي إشارةٌ إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأُمَّتِهِ، يسومُونَ اليهودَ سُوءَ العذاب «3» . قال ع «4» : والصحيح أنَّ هذا حالهم في كل قُطْر، ومع كلّ ملّة، ويَسُومُهُمْ: معناه: يكلّفهم ويحمّلهم، وسُوءَ الْعَذابِ: الظاهر منه: أنه الجِزْيَةُ، والإذلالُ، وقد حتم اللَّه علَيْهم هذا، وحَطَّ مُلْكَهم، فليس في الأرض رايَةٌ ليهوديٍّ، ثم حَسُنَ في آخر الآية التنبيهُ على سرعة العِقَاب، والتخويفُ لجميعِ الناسِ، ثم رجى سبحانه بقوله: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لطفاً منه بعباده جلَّ وعَلا، وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ، معناه: فرَّقناهم في الأرض. قال الطبريُّ «5» عن جماعة من المفسِّرين: ليس في الأرض بقعةً إِلاَّ وفيها مَعْشَرٌ من اليهودِ، والظاهر في المُشَارَ إِليهم بهذه الآية أنهم الذين بعد سُلَيْمَانَ وَقْتَ زوالِ مُلْكهم، والظاهر أنهم قبل مُدَّة عيسى عليه السلام لأنهم لم يكُنْ فيهم صالحٌ/ بعد كُفْرهم بعيسى صلّى الله عليه وسلّم وبَلَوْناهُمْ، معناه: امتحناهم بِالْحَسَناتِ، أي: بالصِّحَّة والرخاءِ، ونحو هذا ممَّا هو بَحَسَب رأي ابْن آدم ونظره، والسَّيِّئاتِ: مقابلات هذه، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الطاعة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 169 الى 170] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 102) . (2) أخرجه الطبري (6/ 102) برقم: (15308- 15309) ، وذكره ابن عطية (2/ 471) ، والبغوي (2/ 209) ، وابن كثير (2/ 259) ، والسيوطي (3/ 255) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (6/ 102) برقم: (15310) ، وذكره ابن عطية (2/ 471) ، وابن كثير (2/ 259) . (4) ينظر: «تفسير المحرر الوجيز» (2/ 471) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 104) .

وقوله سبحانه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ... الآية: خَلَفَ معناه: حَدَثَ خَلْفَهم وبعدهم، وخَلْفٌ- بإِسكان اللام- يستعمل في الأشهر: في الذَّمِّ. وقوله سبحانه: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى إشارةٌ إلى الرّشا والمكاسب الخبيثة، والعَرَضُ: ما يَعْرِضُ وَيعنُّ، ولا يثبُتُ، والأَدنَى: إِشارةٌ إِلَى عيشِ الدنيا، وقولهم: سَيُغْفَرُ لَنا ذمٌّ لهم باغترارهم، وقولهِمْ سَيُغْفَرُ لَنا، مع علمهم بما في كتاب اللَّهِ، مِنَ الوعيد على المعاصي، وإِصرارِهِم، وأنَّهم بحالٍ إِذا أمكنَتْهم ثانيةً ارتكبوها، فهؤلاء عَجَزَةٌ كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنى عَلَى اللَّهِ» «1» ، فهؤلاءِ قطعوا بالمغفرة وهم مُصِرُّون، وإِنما يقول: سَيُغْفَرُ لَنا مَنْ أقلع ونَدِمَ. وقوله سبحانه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ ... الآية: تشديدٌ في لزوم قول الحقِّ على اللَّه في الشَّرْع والأحكام، وقوله: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ معطوفٌ على قوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ لأنه بمعنى المُضِيِّ، والتقديرُ: أَلَيْسَ قد أُخِذَ عليهم ميثاقُ الكتابِ، ودَرَسُوا ما فيه، وبهذَيْنِ الفعْلَيْنِ تقومُ الحجَّة عليهم في قولهم الباطَل، وقرأ أبو عبد «2» الرحمن السُّلَمِيُّ: «وادارسوا مَا فِيه» . ثم وعظ وذكَّر تبارَكَ وتعالى بقوله: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ، وقرأ أبو عمرو: «أفلا يعقلون» - بالياء «3» من أسفل-.

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 638) كتاب «صفة القيامة» باب: (25) ، حديث (2459) ، وابن ماجه (2/ 1423) كتاب «الزهد» باب: ذكر الموت والاستعداد له، حديث (7143) ، وأحمد (4/ 124) ، والحاكم (1/ 57) ، وابن المبارك في «الزهد» ص: (56) برقم: (171) ، والبيهقي (3/ 369) كتاب «الجنائز» باب: ما ينبغي لكل مسلم أن يستعمله من قصر الأمل، وفي «شعب الإيمان» (7/ 350) برقم: (10546) ، والطبراني في «الكبير» (7/ 341) برقم: (7143) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 267) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 50) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» برقم: (185) ، كلهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن شداد بن أوس مرفوعا. وقال الترمذي: حديثٌ حَسَن. وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرط البخاري ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: لا والله، أبو بكر واه. (2) وهي قراءة علي بن أبي طالب كما في «الشواذ» ص: (52) . وينظر: «المحتسب» (1/ 267) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 473) ، و «البحر المحيط» (4/ 415) ، و «الدر المصون» (3/ 367) . (3) وقرأ بها حمزة والكسائي، وابن كثير. ينظر: «حجة القراءات» (301) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 473) ، و «البحر المحيط» (4/ 415) ، و «الدر المصون» (3/ 367) . [.....]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 إلى 174]

وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ عطْفٌ على قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وقرأ عاصمٌ وحْده في رواية أبي بَكْرٍ «يُمْسِكُونَ» «1» - بسكون الميم، وتخفيف السين-، وقرأ الأعمش «2» : «والّذين استمسكوا» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 174] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وقوله عز وجل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، نَتَقْنَا: معناه: اقتلعنا ورفَعْنا، وقد تقدَّم قصص الآية في «البقرة» ، وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ، أي: تدبَّروه واحفظوا أوامره ونواهيه، فما وَفَّوْا. وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا ... الآية، قوله: مِنْ ظُهُورِهِمْ قال النُّحاة: هو بدلُ اشتمال من قوله: مِنْ بَنِي آدَمَ، وتواترتِ الأحاديثُ في تفسير هذه الآية عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ طُرُقٍ: «أن اللَّه عزَّ وجلَّ استخرج مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عليه السلام نَسَمَ بنيه، ففي بعض الروايات كالذَّرِّ، وفي بعضها: كالخَرْدَلِ» . وقال محمد بن كَعْب: إِنها الأرواحُ «3» جُعلَتْ لها مِثَالاَتٌ، وروي عن عبد اللَّه بن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «أُخِذُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَمَا يؤخذ بالمشط من الرّأس «4» ،

_ (1) وقراءة أبي بكر من الإمساك، أي: يأخذون بما فيه من حلال وحرام. وحجته قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة: 4] ، وقوله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] ولم يقل: مسّك. ينظر: «السبعة» (297) ، و «الحجة» (4/ 102- 103) ، و «إعراب القراءات» (1/ 214) ، و «حجة القراءات» (301) ، و «شرح الطيبة» (4/ 314) ، و «العنوان» (98) ، و «معاني القراءات» (1/ 428) ، و «شرح شعلة» (398) . (2) وقرأ بها عبد الله، كما في «الكشاف» (2/ 175) ، وينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 473) ، و «البحر المحيط» (4/ 416) ، و «الدر المصون» (3/ 368) . (3) أخرجه الطبري (6/ 116) برقم: (15387) ، والسيوطي (3/ 259) . (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 259) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، واللالكائي في «السنة» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 إلى 177]

وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَقُولاً كَنَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَأَنْ لاَ إله غَيْرُهُ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، والتزموه وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهْ سَيَبْعَثُ الرُّسْلَ إِلَيْهِمْ مُذَكِّرَةً وداعيةً، فشهد بعضُهم على بعض، وشهد اللَّه عليهم وملائكته» «1» قال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: من مات صَغيراً، فهو على العَهْدِ الأول، ومَنْ بَلَغَ، فقد أخذه العهدُ الثَّاني، يعني الذِي في هذه الحياة المعقولة الآنَ. وقوله/ شَهِدْنا يحتملُ أن يكون مِنْ قَوْلَ بَعْضِ النَّسمِ لبعضٍ، فلا يَحْسِنُ الوقْفُ على قوله: بَلى، ويحتمل أن يكون قوله: شَهِدْنا من قول الملائكة، فيحسن الوقْفُ على قوله: بَلى. قال السديُّ: المعنى: قال اللَّه وملائكته «2» : شَهِدْنَا ورواه عبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله سبحانه: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ... الآية: المعنى: لِئَلاَّ تقولُوا، أَوْ مخافَةَ أنْ تقولوا، والمعنى في هذه الآية: أنَّ الكَفَرَة لو لم يؤخذ عليهم عَهْدٌ، ولا جاءَهُمْ رسولٌ مذكِّر بما تضمَّنه العَهْد من توحيد اللَّه وعبادته، لكانَتْ لهم حُجَّتَان: إحداهما: أنّ يقُولُوا كُنَّا عن هذا غافلين. والأخرى: كنا تباعاً لأسلافنا، فكَيْفَ نَهْلِكُ، والذنْبُ إنما هو لِمَنْ طَرَّق لنا وأضلَّنا، فوقَعَ شهادَةُ بعضهم على بعضُ، وشهادةُ الملائكة عليهم، لتنقطع لهم هذه الحجة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) وقوله سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 111- 112) برقم: (15363) ، وذكره ابن عطية (2/ 475) ، وابن كثير (2/ 262) ، والسيوطي (3/ 261- 262) ، وعزاه لابن جرير. (2) أخرجه الطبري (6/ 116) برقم: (15384) ، وذكره ابن عطية (2/ 476) ، والبغوي (2/ 212) .

قال ابن عباس: هو رجُلٌ من الكَنْعَانِيِّينَ الجَبَّارِين، اسمه بَلْعَمُ بْنُ باعُوراء «1» ، وقيل: بَلْعَامُ بْنُ باعِر. وقيل: غير هذا، وكان في جملة الجَبَّارِين الذي غَزَاهُمْ موسى عليه السلام، فَلَما قَرُبَ منهم موسى، لجؤوا إِلى بَلْعَام، وكانَ صالِحاً مستجابَ الدَّعْوة، وقيل: كان عنْدَهُ علْم مِنْ صُحُف إِبراهيم ونحوها. وقيل: كان يعلم اسم اللَّه الأَعظمَ، قاله ابنُ عبَّاس «2» أيضاً، وهذا الخلافُ هو في المراد بقوله: آتَيْناهُ آياتِنا، فقال له قومُه: ادع اللَّه على موسى وعَسْكَره، فقالَ لَهُمْ: وَكَيْفَ أدعو عَلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فما زالوا به حتى فَتَنُوهُ، فخَرَجَ حتى أشْرَفَ عَلَى جَبَلٍ يرى منه عَسْكَرَ موسى، وكان قد قال لِقَوْمِهِ: لا أفعَلُ حتى أستأْمِرَ رَبِّي، فَفَعَلَ، فنُهِيَ عن ذلك، فقال لهم: قد نُهِيتُ، فما زالوا به حتَّى قال: سأَسْتَأْمِرُ ثانيةً، ففعل، فسكَتَ عنه، فأخبرهم، فقالوا له: إِن اللَّه لَمْ يَدَعْ نَهْيَكَ إِلا وقدْ أَراد ذلك، فخَرَجَ، فلما أشْرَفَ على العَسْكَر، جَعَلَ يدْعُو على موسَى، فتحوَّل لسانُهُ بالدعاءِ لموسى، والدعاءِ على قومه، فقالوا له: ما تقولُ؟ فقال: إِني لا أمْلِكُ هذا، وعَلِمَ أنه قد أخطأ، فَرُوِيَ أنه قد خرج لِسَانُه على صدره، فقال لقومه: إِني قَدْ هَلَكْتُ، ولكِنْ لَمْ يَبْقَ لكم إِلا الحِيلَة، فأخرجوا النِّسَاء على عَسْكَرِ موسى عَلَى جهة التَّجْرِ وغيره، ومُرُوهُنَّ أَلا تَمْتَنِع امرأة مِنْ رجل، فإِنهم إِذا زَنَوْا هلَكُوا، ففعلُوا، فخرج النِّسَاء، فزنى بهِنَّ رجالٌ [مَنْ] بني إِسرائيل، وجاء فِنْحَاصُ بْنُ العِيزَارِ بْنِ هَارُونَ، فانتظم بُرمْحه امرأة ورجُلاً من بني إِسرائيل، ورفعهما على الرَمْحِ، فوقع في بني إِسرائيل الطاعونُ، فمات منهم في ساعةٍ [واحدةٍ] سبْعُونَ ألْفاً، ثم ذَكَرَ المعتمِرُ عن أبيه: أنَّ موسى عليه السلام قَتَلَ بعد ذلك الرَّجُلَ المُنْسَلِخَ مِنْ آيات اللَّه. قال المَهْدَوِيُّ: رُوِيَ أنه دعا على مُوَسَى أَلاَّ يَدْخُلَ مدينةَ الجَبَّارين فأجيب، ودعا عليه موسى أَنْ ينسى اسم اللَّهِ الأعْظَمَ فأجيبَ، وفي هذه القصَّة رواياتٌ كثيرةً تحتاجُ إِلى صحّة إسناد، وفَانْسَلَخَ: عبارةٌ عن البراءةِ منها، والإنفصال والْبُعْدِ، كالمُنْسَلِخ من الثياب والجلد، وفَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ، أيْ: صيَّره تابِعاً كذا قال الطبريُّ: إما لضلالة رسمها له، وإما لنفسه، ومِنَ الْغاوِينَ، أي: مِنَ الضالين، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، قال ابن

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 119) برقم: (15398، 15401) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 476) ، والبغوي (2/ 213) بنحوه، وابن كثير (2/ 264) ، والسيوطي (3/ 266) ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (6/ 121) برقم: (15423) ، وذكره ابن عطية (2/ 477) ، والبغوي (2/ 215) .

عباس وجماعة: معنى «لرفعناه» لشرَّفنا/ ذكْرَه، ورفَعْنَا منزلته لدينا بهذه الآيات «1» الَّتي آتيناه، ولكنه أخلد إِلى الأرْضِ، أي: تقاعَسَ إلى الحضيض الأسفَلِ الأخسِّ من شهوات الدنيا ولذَّاتها وذلك أنَّ الأرض وما ارتكن فيها: هي الدنيا وكلُّ ما عليها فانٍ، ومَنْ أخلد إِلى الفاني، فقد حرم حظَّ الآخرة الباقية. ت: قال الهَرَوِيُّ: قوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ: معناه: سكَنَ إِلى لَذَّاتها، واتبع هواه، يقال: أخلد إِلى كَذَا، أي: رَكَنَ إِليه واطمأَنَّ به. انتهى. قال عَبْدُ الحَقِّ الإِشْبِيليُّ رحمه اللَّه في «العاقبة» : واعلم رحمك اللَّه أَنَّ لسوء الخاتمة أعاذنا اللَّه منْها أسباباً، ولها طرقٌ وأبوابٌ، أعظمها: الإِكبابُ على الدنيا، والإِعراضُ عن الآخرة، وقد سَمِعْتَ بقصَّة بَلْعَام بْنِ بَاعُورَاءَ، وما كان آتاه اللَّه تعالى من آياته وأطلعه عليه من بيِّناته وما أراه من عجائب مَلَكُوته، أخْلَدَ إِلى الأرض، واتبع هواه فسَلَبَه اللَّه سبحانه جَمِيعَ ما كان أَعطاه وتَرَكَه مع مَنِ استماله وأغواه. انتهى. وقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، شُبِّه به في أنه كان ضالاًّ قبل أن يُؤتى الآياتِ، ثم أُوتِيَها، فكان أيضاً ضالاًّ لَم تنفَعْه، فهو كالكَلْب في أنَّه لا يفارِقُ اللَّهَثَ في كلِّ حال هذا قول الجمهور. وقال السدِّيُّ وغيره: إِنَّ هذا الرجل عُوقِبَ في الدنيا، فإِنه كان يَلْهَثُ كما يَلْهَثُ الكَلْبُ، فشُبِّه به صورةً «2» وهيئةً، وذكر الطبريُّ، عن ابن عباس أنَّ معنى: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ: إنْ تَطْرَدهُ «3» . وقوله: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، أي: هذا المَثَلُ، يا محمد، مثَلُ هؤلاء الذين كانوا ضالِّين قَبْلَ أن تأتيهم بالهدى والرِّسالة، ثم جئتهم بها، فَبَقُوا على ضلالتهم، ولم ينتفِعُوا بذلك، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الكَلْبِ. وقوله: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ، أي: اسرد عليهم ما يعلمون أنَّه من الغيوب الَّتي لا يعلمها إِلا أهْل الكتب الماضية ولَسْتَ منهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ذلك فيؤمنوا.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 125) برقم: (15436) ، وذكره ابن عطية (2/ 478) ، والبغوي (2/ 215- 216) بنحوه، والسيوطي (3/ 267) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) أخرجه الطبري (6/ 128) برقم: (15452) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 478) . (3) أخرجه الطبري (6/ 127) برقم: (15449) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 478) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 إلى 180]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 180] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وقوله سبحانه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، القول فيه: أن ذلك كلَّه من عند اللَّه: الهدايةُ منه وبخَلْقه واختراعه وكذلك الإِضلال، وفي الآيةِ تعجيبٌ مِنْ حال المذْكُورين. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، هذا خبرٌ من اللَّه تعالى أنه خَلَق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثيرا، وفي ضِمْنه وعيدٌ للكفَّار، «وذرأ» : معناه: خَلَق وأوْجَدَ، مع بَثٍّ ونَشْرٍ. وقوله سبحانه: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ... الآيةَ: لما كانَتْ هذه الطائفةُ الكافرةُ المُعْرِضَةُ عن النَّظَر في آيات اللَّه، لم ينفعْهم النظَرُ بالقَلْب، ولا بالعَيْن، ولا ما سَمِعُوه من الآيات والمواعظ، استوجبوا الوصْفَ بأنهم لا يفقهون، ولا يُبْصرون، ولا يَسْمعون، والفِقْه: الفَهْم، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في أنَّ الأنعام لا تَفْقَهُ الأشياء، ولا تعقلُ المقاييسِ، ثم حَكَم سبحانه عَلَيْهم بأنهم أضَلُّ لأن الأنعام تلك هِيَ بِنْيَتُها وخِلْقَتُها، وهؤلاءِ مُعَدُّونَ للفَهْم والنظر، ثم بَيَّنَ سبحانه بقوله: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الطريق الذي به صاروا أضَلَّ من الأنعام، وهو الغَفْلة والتقصير. قال الفَخْر «1» : أمَّا قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، فتقريره: أن الإِنسان وسائر الحيوانات مُتشَاركةٌ في قُوَى الطَّبيعة الغَاذِيَةِ، والنامية، والمُوَلِّدةِ، ومتشاركَةٌ أيضاً في منافع الحواسِّ الخَمْسِ الباطنةِ والظاهرةِ، وفي أحوالِ التخيُّل، والتفكُّر، والتذكُّر، وإِنما حَصَل الامتياز بيْنَ الإِنسان، وسائِرِ الحيواناتِ في القوَّة العقليَّة والفكْريَّة التي تهديه إِلى معرفة الحقِّ، فلما أعرضَ الكُفَّار عن أحْوالِ العَقْلِ والفكْرِ، ومعرفةِ الحقِّ، كانوا كالأنعام، بل هم أضلُّ لأن الحيواناتِ لا قدرةَ لها على تحْصيلِ هذهِ الفضائل، وقد قال حَكِيمُ الشّعراء: [البسيط]

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (16/ 53) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 إلى 183]

الرُّوحُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ العَرْشِ مَبْدَؤُه ... وَتُرْبَةُ الأَرْضِ أَصْلُ الجِسْمِ والبَدَنِ قَدْ أَلَّفَ المَلِكُ الجَبَّارُ بَيْنَهُمَا ... لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الأَمْرِ والْمِحَنِ فَالرُّوحُ فِي غُرْبةٍ وَالجِسْمُ في وَطَن ... فَلْتَعْرِفَنَّ ذِمَامَ النَّازِحِ الوَطنِ انتهى. وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ... الآية: السببُ في هذه الآية على ما روي، أن أبَا جهلٍ سمع بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ، فيذكُر اللَّه تعالَى في قراءته، وَمَرَّةَ يَذْكُر الرحمن، ونَحْوَ ذلك، فقال: محمَّدٌ يَزعم أنَّ إلإله واحِدٌ، وهو إِنما يعبدُ آلهةً كثيرةً، فنزلَتْ هذه الآية، ومِنْ أسماء اللَّه تعالى ما ورد في القُرآن، ومنها ما ورد في الحديث وتواتَرَ، وهذا هو الذي ينبغي أَنْ يُعْتَمدَ عليه. وقوله سبحانه: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، قال ابن زيد: معناه: اتركوهم «1» ، فالآية على هذا منسوخةٌ، وقيل: معناه: الوعيدُ كقوله سبحانه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحجر: 3] يقال: أَلْحَد وَلَحَدَ بمعنى جَارَ، ومَالَ، وانحرف، و «ألْحَدَ» : أشهرُ ومنه لَحْدُ القَبْرِ، ومعنى الإِلحاد في أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ: أنْ يسمُّوا اللاَّتَ نظيرَ اسم اللَّه تعالى قاله ابن عباس «2» ، والعُزَّى نظيرَ العزيزِ قاله مجاهد «3» ، ويسمُّون اللَّه أباً، ويسمُّون أوثانهم أرْباباً. وقوله سبحانه: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ: وعيد محض. [سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 183] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) وقوله سبحانه: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، الآية تتضمَّن الإِخبار عن قَوْمٍ أهْلِ إِيمانٍ واستقامةٍ وهدايةٍ، وظاهُرها، يقتضي كُلَّ مُؤْمِنٍ كان مِنْ لَدُنْ آدم عليه السلام إِلى قيام الساعة، ورُوِيَ عن كثيرٍ من المفسِّرين: أنها في أمَّة نبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم، وروي في ذلك حديث أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 133) برقم: (15468) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 481) . (2) أخرجه الطبري (6/ 132) برقم: (15464) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 481) ، والبغوي (2/ 218) ، وابن كثير (2/ 269) بنحوه، والسيوطي (3/ 271) ، وعزاه لابن أبي حاتم. [.....] (3) أخرجه الطبري (6/ 132) برقم: (15465) ، وذكره ابن عطية (2/ 481) ، والبغوي (2/ 218) ، وابن كثير (2/ 269) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 184 إلى 186]

قَالَ: «هَذِهِ الآيَةُ لَكُمْ» . وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الآية وعيد، والإِشارة إِلى الكُفَّار، وسَنَسْتَدْرِجُهُمْ معناه: سنُسوقهم شيئاً بعد شَيْءٍ ودرجةً بعد درجةٍ بالنِّعم عليهم والإِمهال لهم حتى يغترُّوا ويظنُّوا أنهم لا ينالُهم عقابٌ، وقوله: مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، أيْ: من حيث لا يَعْلَمُون أنه استدراج لهم، وهذه عقوبةٌ لهم مِنَ اللَّه سبحانه عَلَى التَّكْذِيبِ لِمَا حَتمَ عليهم بالعذاب، أملَى لهم ليزدادوا إثماً. وقوله: وَأُمْلِي: معناه: أُؤخِّرُ ملاَوَةً من الدهر، أي: مدّة ومَتِينٌ: معناه: قويّ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 184 الى 186] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ/ ... الآية: تقريرٌ يقارنه توبيخ للكفّار، والوقف على قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا، ثم ابتدأ القولَ بنَفْي ما ذكروه، فقال: مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أي: بمحمَّد صلّى الله عليه وسلّم، ويحتملُ أنْ يكون المعنى: أو لم يتفكَّروا أنه ما بصاحبهم مِنْ جِنَّةٍ، ويظهر مِنْ رصف الآية أنها باعثةٌ لهم على الفِكْرة في أمره صلّى الله عليه وسلّم وأنه ليس به جنَّةٌ كما أحالهم بعد هذه الآية على النَّظَرْ. وقال الفَخْر «1» : قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أمر بالفِكْرِ والتأمُّل والتدُّبر، وفي اللفظ محذوفٌ، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلَمُوا مَا بِصَاحِبهمْ منْ جِنَّة، والجِنَّة: حالَةٌ مِنَ الجُنُون، كَالجِلْسَةِ، ودخولُ «مِنْ» في قوله: مِنْ جِنَّةٍ ينفي أنواع الجنون. انتهى. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الاية: النَّظَرُ هنا بالقَلْب عِبْرَة وفكراً، ومَلَكُوتِ: بناءُ عظمةٍ ومبالغةٍ. وقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ: لفظٌ يعمُّ جميع ما ينظر فيه، ويستدلُّ به من الصنعة الدالَّة على الصانع، ومِنْ نَفْس الإِنسان وحواسَّه ومواضِعِ رزْقه، والشَّيْءُ: واقعٌ على الموجودات، وَأَنْ عَسى: عطْفٌ على قوله: فِي مَلَكُوتِ، والمعنى: توقيفُهُمْ علَى أنْ لم يَقَعْ لهم نَظَرٌ في شيء من هذا، ولا في أنهم قَرُبَتْ آجالُهُمْ، فماتوا ففات أو ان

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 62) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 187 إلى 188]

التدَارُكِ، ووجَبَ عليهم المحذورُ، ثم وقفهم «بِأَيِّ حديثٍ» أو أمْرٍ يقعُ إيمانُهم وتَصْدِيقُهم إِذا لم يقع بأمْرٍ فيه نجاتُهم، ودخولُهم الجَنَّةَ ونحو هذا المعنى قولُ الشاعر: [الطويل] ............... ...... ... وَعنْ أَيّ نَفْسٍ دُونَ نَفْسِي أُقَاتِلُ «1» والضمير في بَعْدَهُ يراد به القُرْآن. وقيل: المراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقصَّتُهُ وأمْرُهُ أجْمَعَ، وقيل: هو عائد على الأجَلِ، أي: بعد الأجل، إِذ لا عَمَلَ بعد الموت. وقوله سبحانه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ ... الآية: هذا شرطٌ وجوابٌ، مضمَّنه اليأْسُ منهم، والمَقْتُ لهم لأن المراد أَنَّ هذا قد نزل بهم، والطغيان: الإفراطُ في الشيء، وكأنه مستعملٌ في غير الصَّلاح، والعمه: الحيرة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 187 الى 188] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) وقوله سبحانك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، قال قتادة: السائِلُونَ: هم قريش «2» . وقال ابن عباس: هم أحبار اليهود «3» . ت: وفي «السِّيرَة» لابنِ هشامٍ: أَن السائلين من أحبار اليهود: حَمَلُ بْنُ أبي قُشَيْرٍ، وَسَمَوْءلُ بْنُ زَيْدٍ. انتهى. والساعة: القيامة مُوِّتَ كُلّ من كان حَيًّا حينئذٍ، وبعث الجميع، وأَيَّانَ: معناه مَتَى، وهي مبنيَّةٌ على الفتْحِ، قال الشاعر: [الرجز]

_ (1) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (2/ 483) . (2) أخرجه الطبري (6/ 136) برقم: (15473) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، والبغوي (2/ 219) بنحوه، والسيوطي (3/ 274) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (3) أخرجه الطبري (6/ 136) برقم: (15474) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، والسيوطي (3/ 274) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وأبي الشيخ.

أَيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أَيَّانَا ... أَمَا ترى لِفعْلِهَا أبانا «1» ومُرْساها معناه: مُثْبَتُها ومُنْتَهَاها مأخوذٌ من: أرسى يُرْسِي، ف «مُرْسَاهَا» : رَفْعٌ بالابتداء، والخبرُ «أَيَّانَ» ، وعبارة البخاريّ: أَيَّانَ مُرْساها: متى خروجها. انتهى، ويُجَلِّيها: معناه يظهرها. وقوله سبحانه: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قيل: معناه: ثَقُلَ أنْ تُعْلَم ويُوقَفَ عَلى حقيقةٍ وَقْتها، وقال الحسنُ بن أبي الحَسَن: معناه: ثَقُلَتْ هيئتها والفزعُ عَلَى/ أَهْل السموات «2» والأرض، لاَ تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، أي: فجأةً. وقوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قالَ ابن عبَّاس وغيره: المعنى يسألونك كأنكَ حَفِيٌّ، أي: مُتْحَفٌ ومُهْتَبِلٌ «3» بهم، وهذا ينحُو إلى ما قالَتْ قريشٌ: يا محمَّدُ، إِنا قرابَتُكَ، فأخبرْنا بوَقْت السَّاعة. وقال ابن زَيْد وغيره: معناه: كأنك حفيٌّ في المسألة عَنْها، والاشتغالِ بها، حتى حصَّلَتْ علمها «4» . وقرأ ابن عبَّاس «5» فيما ذكر أبو حاتم: «كأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهَا» . وقوله سبحانه: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قال الطَّبريُّ: معناه: لا يعلمُونَ أنَّ هذا الأَمْرَ لا يعلمه إِلا اللَّهُ، بل يظنُّ أكثرهم أنه ممَّا يعلمه البَشَرُ. وقوله سبحانه: قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ ... الآية: هذا أمر بأنْ يبالِغَ في الاستسلام، ويتجَّردَ من المشاركةِ في قُدْرة اللَّه، وغَيْبِه، وأنَّ يصفَ نفسه لهؤلاءِ السائلين بأنه لا يملكُ من منافع نفسه ومضارِّها إِلا مَا سَنَّى اللَّه وشاء ويسّر، وهذا

_ (1) البيت في «تهذيب الأزهري» (15/ 653) [أي] ، و «الدر المصون» (3/ 379) . (2) أخرجه الطبري (6/ 137- 138) برقم: (15485) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، والبغوي (2/ 219- 220) . (3) أخرجه الطبري (6/ 139) برقم: (15491) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، وابن كثير (2/ 271) ، والسيوطي (3/ 275) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (4) أخرجه الطبري (6/ 140) برقم: (15503) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، وابن كثير (2/ 271) . (5) وقرأ بها ابن مسعود كما في «الشواذ» ص: (53) . وينظر: «المحتسب» (1/ 269) ، و «الكشاف» (2/ 185) و «المحرر الوجيز» (2/ 484- 485) ، و «البحر المحيط» (4/ 433) ، و «الدر المصون» (3/ 381) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 193]

الاستثناءُ منقطعٌ، وأخبر أنه لو كان يَعْلَمُ الغَيْبَ، لعمل بحَسَب ما يأتي، واستعد لكلِّ شيءٍ استعداد مَنْ يعلم قَدْرَ ما يَسْتَعِدُّ له، وهذا لفظٌ عامٌّ في كل شيء. وقوله: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يحتمل وجْهين، وبكليهما قيل. أحدهما: أن «ما» معطوفةٌ على قوله: لَاسْتَكْثَرْتُ أي: وَلَمَا مسني السوءُ. والثاني: أن يكون الكلامُ مقطوعاً تَمَّ في قوله: لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وابتدأ يخبرُ بنَفْي السوءِ عنه، وهو الجُنُون الذي رَمَوْهُ به. قال مؤرِّجٌ السَّدُوسيُّ «1» : السُّوءُ الجنون بلغة هُذَيْلٍ. ت: وأما على التأويل الأول، فلا يريد ب «السوء» الجنونَ، ويترجَّح الثاني بنحو قوله سبحانه: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ... [سبأ: 46] الآية، ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: يحتملُ معنيين: أحدهما: أنْ يريد: لقومٍ يُطْلَبُ منهم الإِيمانُ، وهؤلاء الناسُ أجمع. والثاني: أن يخبر أنه نذير، ويتمُّ الكلام، ثم يبتدىء يخبر أنه بشيرٌ للمؤمنين به، ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 193] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) وقوله: جلّت عظمته: وهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ... الآية. قال جمهورُ المفسِّرين: المراد بالنَّفْسِ الواحدة: آدم عليه السلام، وبقوله: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها حَوَّاء، وقولُه: مِنْها هو ما تقدَّمَ ذكْره مِنْ أنَّ آدمَ نام، فاستخرجت قصرى أضلاعِهِ، وخُلِقَتْ منها حوّاء.

_ (1) مؤرج بن عمرو بن الحارث، من بني سدوس بن شيبان، أبو فيد: عالم بالعربية والأنساب، من أعيان أصحاب الخليل بن أحمد، من أهل «البصرة» . كان له اتصال بالمأمون العباسي، ورحل معه إلى خراسان، فسكن مدة، ب «مرو» ، وانتقل إلى «نيسابور» . من كتبه «جماهير القبائل» و «حذف من نسب قريش» ، و «غريب القرآن» وكتاب «الأمثال» و «المعاني» وله شعر جيد. ينظر: ترجمته في «الأعلام» (7/ 318) (2569) .

وقوله: لِيَسْكُنَ إِلَيْها، أي: ليأنسَ، ويطمئنَّ، وكان هذا كلُّه في الجنة. ثم ابتدأ بحالةٍ أخرَى، وهي في الدنيا بعد هبوطهما، فقال: فَلَمَّا تَغَشَّاها، أي: غَشِيَها، وهي كناية عن الجماع، والحمل الخفيف: هو المنيُّ الذي تحمله المرأة في رَحِمِهَا. وقوله: فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرت به، وقرأَ ابنُ عبَّاس: «فاستمرت بِهِ» ، وقرأ ابن «1» مسعود: «فاستمرت بِحَمْلِهَا» وقرأ عبد اللَّه بن عمرو بن «2» العاص: «فَمَارَتْ بِهِ» ، أي جاءَتْ به، وذهَبَتْ، وتصرَّفَت كما تقولُ: مَارَتِ الرِّيحُ مَوْراً، وأَثْقَلَتْ: دخلَتْ في الثِّقل، كما تقول: أصْبَحَ وأمْسَى، والضمير في قوله دَعَوَا، على هذا التأويل: عائدٌ على آدم وحوَّاء، وروي في قصص ذلك/ أن الشيطانَ أشار عَلَى حواء، أن تُسَمِّيَ هذا المولودَ «عَبْدَ الحَارث» ، وهو اسْمُ إبليسَ، وقال لها: إِن لم تفعلي قَتَلْتُهُ، فزعموا أنهما أطاعاه حرْصاً علَى حياة المولود، فهذا هو الشِّرك الذي جَعَلاَ لِلَّهِ، في التسمية فَقَطْ. وقال الطبريُّ والسديُّ «3» في قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ كلامٌ منفصلٌ من خَبَرِ آدم وحَوَّاء، يراد به مشركُو العرب «4» . ت: وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقِفْ بَعْدُ على صحَّة ما رُوِيَ في هذه القِصَصِ، ولو صَحَّ، لوجب تأويله، نَعَمْ روى الترمذيُّ عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ «5» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ، طَافَ بِهَا إبْلِيسُ، وكانَ لا يَعيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ لَهَا: سَمِّيهِ عَبْدَ الحَارِثِ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الحَارِثِ، فَعَاشَ ذلك، وكان ذلك من

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 486) ، و «البحر المحيط» (4/ 437) . (2) قال أبو الفتح: والمعنى واحد. ينظر: «المحتسب» (1/ 270) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 486) ، و «البحر المحيط» (4/ 437) ، وزاد نسبتها إلى الجحدري، وينظر: «الدر المصون» (3/ 382) . وقد نسبها ابن خالويه في «مختصره» ص: (53) إلى ابن أبي عمار. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 146) . [.....] (4) أخرجه الطبري (6/ 148) برقم: (15542) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 487) ، والسيوطي (3/ 279) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ. (5) هو: سمرة بن جندب بن هلال بن حريج بن مرة بن حرب بن عمرو بن جابر أبو سليمان الفزاري، سكن «البصرة» ، قدمت به أمه المدينة بعد موت أبيه، فتزوجها رجل من الأنصار اسمه: مري بن سنان بن ثعلبة، وكان في حجره إلى أن صار غلاما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض غلمان الأنصار كل سنة، فمرّ به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة بعده فرده، فقال سمرة: لقد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته قال: فدونكه فصارعه، فصرعه سمرة، فأجازه من البعث. قيل: أجازه يوم أحد، والله أعلم ...

وَحْيِ الشَّيْطَان، وأَمْرِهِ، قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ «1» غريبٌ، انفرد به عُمَرُ بنُ إبراهيم «2» ، عن قَتَادَةَ، وعمرُ شَيْخٌ بصريٌّ. انتهى. وهذا الحديثُ ليس فيه أنهما أطاعاه، وعلى كلِّ حالٍ: الواجبُ التوقُّفْ، والتنزيهُ لِمَنْ اجتباه اللَّه، وحُسْنُ التأويل ما أمكن، وقد قال ابنُ العربيِّ في توهينِ هذا القَوْل وتزييفِهِ: وهذا القولُ ونحوه مذكُورٌ في ضعيف الحديثِ في الترمذيِّ وغيره، وفي الإِسرائيليات التي لَيْسَ لها ثباتٌ، ولا يعوِّل عليها مَنْ له قَلْبٌ، فإِنَّ آدم وحواء- وإِن كانا غرَّهما باللَّهِ الغرور- فلا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين، وما كانا بعْدَ ذلك لِيقْبَلاَ له نُصْحاً، ولا يسمعا له قَوْلاً، والقولْ الأشبه بالحَقِّ: أن المراد بهذا جنْسُ الآدميين. انتهى من «الأحكام» . قال «3» ع: وقوله صالِحاً: قال الحَسَن: معناه: غُلاَماً «4» ، وقال ابن عباس وهو الأظهر: بَشَراً سَوِّياً «5» سليماً. وقال قومٌ: إنما الغَرَضُ من هذه الآية تعديدُ النعمة في الأزواج، وفي تسهيل النَّسْل والولادةِ، ثم ذكر سُوءَ فعْلِ المشركينَ المُوجبِ للعقابِ، فقال مخاطباً لجميع الناس: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها يريد: آدم وحواء، أي: واستمرّت

_ - توفي قيل: سنة 58 هـ، وقيل: 59 هـ ب «البصرة» . ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 454) ، «الإصابة» (3/ 130) ، «الثقات» (3/ 174) ، «الاستيعاب» (2/ 653) ، «الإكمال» (2/ 67) ، «الأعلام» (3/ 139) ، «العبر» (1/ 65) ، «الكاشف» (1/ 403) ، «بقي بن مخلد» (35) ، «الرياض المستطابة» (107) ، «التاريخ الكبير» (4/ 176) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 239) ، «التاريخ الصغير» (1/ 106- 107) ، «الوافي بالوفيات» (15/ 611) ، «تاريخ جرجان» (239) ، «التحفة اللطيفة» (193) ، «الطبقات الكبرى» (9/ 89) ، «سير أعلام النبلاء» (3/ 183) . (1) أخرجه الترمذي (5/ 267- 268) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة الأعراف» ، حديث (3077) ، من طريق عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث عمر بن إبراهيم، عن قتادة، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه عمر بن إبراهيم شيخ بصري. (2) عمر بن إبراهيم العبدي أبو حفص البصري، صاحب الهروي بفتح الهاء. عن قتادة، وعنه ابنه الخليل وعبّاد بن العوّام، وثقه ابن معين في رواية الدارمي، وقال ابن عدي: حديثه عن قتادة مضطرب. ينظر ترجمته في: «الخلاصة» (2/ 265) (5122) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 486) . (4) أخرجه الطبري (6/ 143) برقم: (15517) ، وذكره ابن عطية (2/ 486) ، وابن كثير (2/ 274) ، والسيوطي (3/ 278) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) ذكره ابن عطية (2/ 486) ، وابن كثير (2/ 274) .

حالُكم واحداً واحداً كذلك، فهذه نعمةٌ يختصُّ كلُّ واحد بجزء منْها، ثم جاء قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها ... إلى آخر الآية، وصفاً لحالِ الناس واحداً واحداً، أي: هكذا يفعلون، فإِذا آتاهم اللَّه ولداً صالحاً سليماً كما أرادوه، صرفوه عن الفِطْرة إِلى الشرك، فهذا فِعْلُ المشركين. قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» وهذا القول هو الأشبه بالحقِّ وأقربُ للصدق، وهو ظاهر الآية، وعمومها الذي يشملُ جميعَ متناولاتها، ويسلم فيها الأنبياءُ عن النّقصِ الذي لا يليقُ بجهَّال البَشَرُ، فكيف بسادَاتِهِمْ، وأنبيائهم؟! انتهى، وهو كلامٌ حسنٌ وباللَّه التوفيق. وقرأ نافعٌ «1» ، وعاصم في رواية أبي بَكْر: «شركاً» - بكسر الشين، وسكون الراء- على المصدر، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيُّ، وحفصٌ عن عاصم: «شُرَكَاء» على الجمع، وهي بينة على هذا التأويل الأخير، وقلقةٌ على قول من قال: إن الآية الأولى في آدم وحواء، وفي مُصْحَف أَبيٍّ بن «2» كَعْب: «فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً أَشْرَكَا فِيهِ» . وقوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً ... الآية: ذهب بعضُ من قال بالقول الأول إلى أنَّ هذه الآية في آدم وحواء على ما تقدَّم، وفيه قَلقٌ وتعسُّفٌ من التأويل/ في المعنى وإِنما تنسق هذه الآياتُ، ويَرُوقُ نَظْمها، ويتناصَرُ معناها على التأويل الأخير، فإِنهم قالوا: إن الآية في مُشْركي الكُفَّار الذي يُشْركُون الأصنام في العبادة، وإِياها يراد في قوله: مَا لاَ يَخْلُقُ، وعبَّر عن الأصنام ب هُمْ كأنها تَعْقِلُ على اعتقاد الكُفَّار فيها وبحسب أسمائها، ويُخْلَقُونَ: معناه: يُنْحَتُونَ ويُصْنَعُونَ، يعني: الأصنام، ويحتملُ أن يكونَ المعنى، وهؤلاء المشركُونَ يُخْلَقُونَ أي: فكان حقُّهم أن يعبدوا خالِقَهُمْ، لا مَنْ لا يخلق شيئاً، وقرأ أبو عبد الرحمن: «عَمَّا تُشْرِكُونَ» «3» بالتاء مِنْ فوقُ «أَتُشْركُونَ» . وقوله سبحانه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ، من قال: إن الآياتِ في آدم عليه السلام، قال: هذه مخاطبة مستأنفة

_ (1) ينظر: «السبعة» (299) ، و «الحجة» (4/ 111) ، و «إعراب القراءات» (2/ 216) ، و «حجّة القراءات» (304) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 71) ، و «العنوان» (98) و «شرح الطيبة» (4/ 318) ، و «شرح شعلة» (40) ، و «معاني القراءات» (1/ 431) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 487) ، و «البحر المحيط» (4/ 438) . (3) ينظر: «الشواذ» ص: (53) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 488) ، و «البحر المحيط» (4/ 438) ، و «الدر المصون» (3/ 383) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 إلى 198]

للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته في أمر الكفّار المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومَنْ قال بالقولِ الآخَر، قال: إِن هذه مخاطبةٌ للمؤمنين والكُفَّار على قراءة مَنْ قرأ: «أَيُشْرِكُونَ» - بالياء من تَحت-، وللكفَّار فقطْ على قراءة مَنْ قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيفِ، أيْ: هذا حالُ الأصنام معكم إن دعوتموهم، لم يجيبوكم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 198] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ... الآية مخاطبةٌ للكفَّار في تحقير شأْن أصنامهم، وقوله: فَادْعُوهُمْ أي: فاختبروا، فإن لم يستجيبوا، فهم كما وصفنا. وقوله سبحانه: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ... الآية. الغرض من هذه الآية أَلَهُمْ حواس الحَيِّ وأوصافه، فإِذا قالوا: «لا» ، حكموا بأنها جماداتٌ من غير شكٍّ، لا خَيْرَ عندها. قال الزّهْراوِيُّ: المعنى: أنتم أفضلُ منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم، ثُمَّ أمرَ سبحانَه نبيَّه عليه السلام أنْ يعجزهم بقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، أي: استنجدوهم واستنفروهم إِلى إِضْرَارِي وكَيْدي، ولا تؤخِّروني، المَعْنَى: فإِن كانوا آلهةً، فسيظهر فعلكم، وَلَمَّا أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضَرَره، وأراهم أنَّ اللَّه سبحانه هو القَادِرُ عَلَى كُلِّ شيء لاَ تلك، عقَّب ذلك بالإِستناد إِلى اللَّه سبحانه، والتوكُّلِ عليه، والإِعلام بأنه وليُّه وناصره، فقال: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إِنما تكرَّر القولُ في هذا، وترَّددت الآياتُ فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكِّناً من نفوس العرب في ذلك الزَمانِ، ومستولياً علَى عقولها، فأوعب القولَ في ذلك لُطْفاً منه سبحانه بهم. وقوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا ... الآية: قالت فرقة: هذا خطاب

[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 إلى 200]

للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته في أمر الكُفَّار، والهاءُ والميمُ في قوله: «تدعوهم» للكفَّار، ووصفهم بأنهم لا يَسْمَعُونَ، ولا يبصرون إِذ لم يتحصَّل لهم عن النَّظَر والاستماع فائدةٌ قاله مجاهدٌ «1» والسدِّي «2» . وقال الطبريُّ «3» : المرادُ بالضمير المذكور: الأصنامُ، ووصْفُهم بالنظر كنايةً عن المحاذاة والمقابلة ولِمَا فيها من تخييلِ النَّظَر كما تقول: دَارُ فُلاَنٍ تَنْظُر إلى دار فلان. [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 200] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) وقوله سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ... الآية: وصيَّةٌ من اللَّه سبحانه لنبيِّه عليه السلام تعمُّ جميع أمته، وأَخْذٌ بجميع/ مكَارِم الأخلاقِ. قال الجمهور: معنى: خُذِ الْعَفْوَ اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عَفْواً، دون تكلُّف، فالعَفْوُ هنا: الفَضْل والصفو، قال مكِّيٌّ قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ... الآية. قال بعض أهْل المعاني، في هذه الآية بيان قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلَمِ» «4» فهذه الآية قد جَمَعَتْ معاني كثيرةً، وفوائدَ عظيمةً، وجمعتْ كلَّ خُلُقٍ حَسَن لأَنَّ في أخذ العَفْوِ صلَةُ القاطعينِ، والصفْحَ عن الظالِمينَ، وإِعطاءَ المانعين، وفي الأَمر بالمعروف تَقْوَى اللَّه وطاعته، وصِلة الرحِمِ، وصَوْن الجوارحِ عن المحرِّمات، وسمَّي هذا ونحوه عُرْفاً لأن كلَّ نَفْس تعرفه، وتركَنُ إِليه، وفي الإِعراض عن الجاهلين: الصبرُ، والحِلْم، وتنزيهُ النفْس عن مخاطبةِ السفيه، ومنازعةِ اللَّجوج، وغيرُ ذلك من الأفعال المرضية. انتهى من «الهداية» . وقوله: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ: معناه: بكلِّ ما عرفَتْه النفوسُ ممَّا لا تردُّه الشريعة ومِنْ ذلك: «أَنْ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنَ ظلمك ... » الحديث «5» ،

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 151) برقم: (15545) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 490) ، وابن كثير (2/ 277) طرفا منه، والسيوطي (3/ 280) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) أخرجه الطبري (6/ 151) برقم: (15544) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 490) ، وابن كثير (2/ 277) بنحوه، والسيوطي (3/ 280) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 151) . [.....] (4) تقدم تخريجه. (5) تقدم تخريجه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 إلى 202]

فالعرف بمعنى المعروف. وقوله عز وجل: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، هذه الآية وصِيَّة من الله سبحانه لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم تعمُّ أمته رجُلاً رجلاً، والنَّزْغ: حركةٌ فيها فسادٌ قلَّما تستعملُ إِلا في فَعْلِ الشيطان لأن حركته مسرِعَةٌ مفسدة ومنه قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ عَلَى أخِيهِ بالسِّلاَح لاَ يَنْزَغِ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ» ، فالمعنى في هذه الآية: فإِمَّا تَلُمَّنَّ بك لَمَّةٌ من الشيطان، فاستعذ باللَّه، وعبارة البخاريِّ: يَنْزَغَنَّكَ: يستَخِفَنَّكَ. انتهى. وَنَزْغُ الشيطان عامٌّ في الغَضَبِ، وتحسينِ المعاصِي، واكتساب الغوائل، وغير ذلك وفي «جامع الترمذيِّ» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إِن لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وللشَّيْطَانِ لَمَّةً ... » «1» الحديث. قال ع «2» : عن هاتين اللَّمّتَيْنِ: هي الخواطِرُ من الخير والشر، فالآخِذُ بالواجبِ يلقى لَمَّةَ المَلَك بالامتثال والاستدامة، وَلَمَّةَ الشيطانِ بالرفْضِ والاستعاذة، واستعاذ: معناه: طَلَب أَنْ يُعَاذَ، وعَاذَ: معناه: لاذ، وانضوى، واستجار. قال الفَخْر «3» : قال ابنُ زيد: لما نَزَل قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كَيْفَ يَا رَبِّ، والغَضَبُ؟ فَنَزَل قولُه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» «4» ، وقوله: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يدلُّ علَى أن الاستعاذة لا تفيدُ إِلاَّ إِذا حضر في القَلْبِ العِلْمُ بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالَى قال: اذكر لَفْظَ الاستعاذة بلسانك فإن سميعٌ، واستحضر معاني الاستعاذة بِعَقْلِكَ وقَلْبِك فإِني عَليمٌ بما في ضَمِيركَ، وفي الحقيقة: القوْلُ اللسانيُّ دون المعارفِ العقليَّة، عديمُ الفائدة والأثر. انتهى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ... الآية خرَجَتْ مَخْرَجَ المدح للمتقين، والتقوى هاهنا عامَّة في اتقاء/ الشِّرْك والمعاصِي، وقرأ ابن

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 491) . (3) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 79) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 155) برقم: (15564) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 203 إلى 204]

كثير «1» وغيره: «طَيْفٌ» . قال أبو عليٍّ الطائفُ كالخاطر، والطّيف كالخطرة، وقوله: تَذَكَّرُوا: إشارة إِلى الاستعاذة المأمور بها، وإِلى ما للَّه عزَّ وجلَّ من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرُّض الشيطانِ فيها، وقرأ ابنُ الزُّبَيْر «2» : «مِن الشَّيْطَان تَأَمَّلُوا فإِذَا هُمْ» ، وفي مُصْحَفِ «3» أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ «إِذَا طَافَ مِنَ الشَّيْطَانِ طَائِفٌ تَأَمَّلُوا» ، وقوله: مُبْصِرُونَ: من البصيرة، أي: فإِذا هم قد تبيَّنوا الحقَّ، ومالوا إليه، والضميرُ في إِخْوانُهُمْ، عائدٌ على الشياطين، وفي يَمُدُّونَهُمْ عائدٌ على الكُفَّار، وهم المرادُ ب «الإِخوان» ، هذا قول الجمهور. قال ع «4» : وقرأ جميعُ السبعة «5» غير نافع: يَمُدُّونَهُمْ من مَدَدتُّ، وقرأ نافعٌ: «يَمِدُّونَهُمْ» ، من أَمْدَدتْ. قال الجمهور: هما بمعنًى واحدٍ، إلا أن المستعمَلَ في المحبوب «أَمَدَّ» ، والمستعملَ في المكروه «مَدَّ» ، فقراءة الجماعةِ جارِيَةٌ على المنهَاج المستعمل، وقراءةُ نافع هي مقيَّدة بقوله: فِي الغَيِّ كما يجوز أَنّ تقيِّد البِشَارَةَ، فتقول: بَشَّرْتُهُ بشرٍّ وَمَدُّ الشياطينِ للكَفَرَةَ، أيْ: ومَنْ نَحا نحوهم: هو بالتزيين لهم، والإِغواءِ المتتابعِ، وقوله: ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ من أَقْصَرَ، والضميرُ عائدٌ على الجميع، أي: هؤلاء لا يقصرون عن الإغواء، وهؤلاء لا يُقْصِرُونَ في الطاعة للشياطين. [سورة الأعراف (7) : الآيات 203 الى 204] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وقوله سبحانه: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها، سببها فيما رُوِيَ أن الوَحْيَ

_ (1) ينظر: «السبعة» (301) ، و «الحجة» (4/ 120) ، و «حجة القراءات» (305) و «إعراب القراءات» (1/ 217) ، و «إتحاف» (2/ 73) ، و «العنوان» (99) ، و «معاني القراءات» (1/ 433) ، و «شرح الطيبة» (4/ 321) ، و «شرح شعلة» (403) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 492) ، و «البحر المحيط» (4/ 446) . (3) ينظر: مصادر القراءة السابقة. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 493) . (5) ينظر: «السبعة» (301) ، و «الحجة» (4/ 122) ، و «إعراب القراءات» (1/ 219) ، و «حجة القراءات» (306) ، و «إتحاف» (2/ 73) ، و «معاني القراءات» (1/ 434) ، و «شرح الطيبة» (4/ 321) ، و «شرح شعلة» (403) ، و «العنوان» (99) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 إلى 206]

كان يتأخَّر أحياناً، فكان الكُفَّار يقولون: هَلاَّ اجتبيتها، أي: اخترتها، فأمره اللَّه عزَّ وجلَّ أنْ يجيب بالتسْلِيمِ للَّه، وأَنَّ الأمر في الوحْي إِليه ينزِّله متى شاء، ثم أشار بقوله: هذا بَصائِرُ إلى القرآن، أي: علاماتُ هُدًى، وأنوارٌ تستضيء القلوبُ به. وقوله سبحانه: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، ذكر الطبريّ وغيره أن أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانوا بمكَّةَ يتكلَّمون في المكتوبةِ بحوائجهم، فنزلتِ الآية أمْراً لهم بالاستماع والإنصات في الصَّلاة، وأما قولُ من قال: إِنها في الخُطْبة، فضعيفٌ، لأن الآية مكِّيَّة، والخُطْبَة لم تُكنْ إِلا بعد الهِجْرة، وألفاظ الآية على الجملة تتضمَّن تعظيم القُرْآن وتوقيرَهُ، وذلك واجبٌ في كل حالة، والإِنصاتُ: السكوتُ. قال الزجَّاج: ويجوز أن يكون: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، أي: اعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه. قالَ ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ، وأبو داود، عن عُبَادَة بْنِ الصَّامِتِ، قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ القِرَاءَةُ، فَلَمَّا انصرف، قال: «إنّي لأراكم تقرءون وَرَاءَ إمامكم، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيْ وَاللَّهِ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ بِأُمِّ القُرْآنِ فإِنَّه لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» «1» وقد رَوَى الناسُ في قراءة المأمومين خَلْفَ الإِمام بفاتحةِ الكِتَاب أحاديثَ كثيرةً، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطنيُّ، وقد جمع البخاريُّ في ذلك جزءًا «2» ، وكان رَأْيُهُ قراءةَ الفَاتحَةِ خلْفَ الإِمامِ في الصلاة الجهريَّة، وهي إِحدى روايات مالكٍ، وهو اختيارُ الشافعيِّ. انتهى، وقد تقدَّم أول الكتاب ما اختاره ابن العربيّ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ... الآية: مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم/، وتعمُّ جميعَ أمته، وهو أمر من اللَّه تعالَى بذكْره وتسبيحِهِ وتقديسِهِ، والثناءِ عليه بمحامدِهِ، والجمهورُ على أن الذِّكْر لا يكون في النفْسِ، ولا يراعَى إِلا بحركه اللسَانِ، ويُدلُّ على ذلك من هذه الآية قوله: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ، وهذه مرتبةُ السرِّ، والمخافتة. وقال الفَخْر «3» : المراد بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، كونه عارفا بمعاني

_ (1) تقدم. (2) أسماه القراءة خلف الإمام. (3) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 86) . [.....]

الأذكار التي يقولها بلسانه، مستحضراً لصفاتِ الجلالِ والعظمة، وذلك أن الذكْرَ باللِّسَان، إِذَا كان عارياً عن الذكْر بالقلْب، كان عدِيمَ الفائدة، ألاَ تَرَى أن الفقهاء أجمَعُوا على أنَّ الرجُلَ، إِذا قال: بِعْتُ واشتريت مع أنَّه لاَ يَعْرفُ معانِي هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئاً، فإِنه لا ينعقد البَيْعُ والشراءُ، فكذلك هنا، قال المتكلِّمون: وهذه الآية تدُلُّ على إثبات كلامِ النفْس. وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ، يدُلُّ على أن الذكْرَ القلبيَّ يجبُ أن يكون دائماً، وألاَّ يغفُلَ الإنسان لحظةً عن استحضار جلالِ اللَّهِ وكبريائِهِ بقَدْر الطاقةِ البشريَّة، وتحقيقُ القول في هذا أنَّ بَيْنَ الرُّوحِ والبدنِ عَلاَقةً عجيبةً لأَن كلَّ أثر يحصُلُ في البدَنَ يصْعَدُ منه نتائجُ إِلى الرّوحِ أَلاَ تَرَى أنَّ الإِنسان إِذا تخيَّل الشيء الحامِضَ، ضَرَسَ منه، وإِذا تخيل حالَةً مكروهةً، أو غَضِبَ، سَخِنَ بدنه. انتهى. وتَضَرُّعاً: معناه: تذُّلَلاً وخُضُوعاً، البخاريُّ: وَخِيفَةً، أي: خوفاً انتهى. وقوله: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ: معناه: دَأَباً، وفي كلِّ يوم، وفي أطرافِ النهارِ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ تنبيهٌ منه عزَّ وجلَّ، ولما قال سبحانه: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ: جَعَل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائِكَةِ لِيَبْعَثَ على الجِدِّ في طاعة اللَّهِ سبحانه. ت: قال صاحبُ «الكلم الفارقية» : غفلةُ ساعةٍ عَنْ ربِّك مَكْدَرَة لمرآةِ قَلْبِكَ فكَيْفَ بِغَفْلَة جميعِ عُمْرك. انتهى. قال ابن عطاء اللَّهِ رحمه اللَّه: لا تتركُ الذِّكْر، لِعَدَمِ حُضُورك مع اللَّه فيه لأن غفلتك عن وُجودِ ذكْرِهِ أشدَّ مِنْ غفلتك في وجودِ ذكْرِهِ فعسى أن يرفعك مِنْ ذكْرٍ مع وجود غفلة، إِلى ذكْرٍ مع وجودِ يَقَظَةٍ، ومن ذِكْرٍ مع وجود يقظةٍ إِلى ذكْرٍ مع وجودِ حُضُورٍ، ومِنْ ذكْرٍ مع وجود حضور، إِلى ذكْرٍ مع وجود غيبة عمَّا سوى المذْكُور، وما ذلك على اللَّه بعزيز. انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه» : قوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ: أي: فيما أُمِرْتَ به، وكُلِّفْتَه، وهذا خطابٌ له عليه السلام، والمراد به جميعُ أمته. انتهى. وقوله: الَّذِينَ، يريد به الملائكةَ. وقوله: عِنْدَ، إِنما يريد به المنزلةَ، والتشريف، والقُرْبَ في المكانة، لا في المكان، فَهُمْ بذلك عنده، ثم وصف سبحانه حَالَهُمْ مِنْ تواضعهم، وإِدمانهم العبادة، والتَسبيحَ والسُّجودَ» ، وفي الحديث: «أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ

إِلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ، أَوْ رَاكعٌ، أَوْ سَاجِدٌ» «1» وهذا موضع سجدة. / قال عَبْدُ الرحمن بْنُ محمَّدٍ عفا اللَّه عنه: كَمُلَ ما انتخبناه في تفسير السورة، والحمد لله على ما به أنعم، وصلَّى اللَّه على سيّدنا محمّد وآله وسلّم تسليما كثيرا.

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 556) كتاب «الزهد» باب: في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا» ، حديث (2312) ، وابن ماجه (2/ 1402) كتاب «الزهد» باب: الحسن والبكاء، حديث (4190) ، والحاكم (2/ 510) من طريق مجاهد، عن مورق العجلي عن ابن ذر به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي.

تفسير سورة الأنفال

تفسير سورة الأنفال مدنيّة كلّها قال مجاهد: إلّا آية واحدة، وهي قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في شأن بدر، وأمر غنائمه. [سورة الأنفال (8) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... الآية، النَّفَلُ والنَّافلة، في كلام العرب: الزِّيَادَةُ على الواجب، والأكثرُ في هذه الآيةِ أنَّ السؤال إِنما هو عَنْ حُكْمِ الأَنفال، وقالَتْ فرقةٌ: إنما سألوه الأَنْفَالَ نفْسَها محتجِّين بقراءة سعد بن أبي وقَّاص وغيره: «يَسْئَلُونَكَ الأَنْفَالَ» «1» وعن أبي أمامة الباهليِّ، قال: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَال، فَقَالَ: فِينَا- أَهْلَ بَدْر- نَزَلَتْ، حِينَ اختلفنا، وَسَاءَتْ أَخْلاَقُنَا «2» ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِيَنَا، وَجَعَلَهُ إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقَسَمَهُ عليه السلام- بَيْنَ المُسْلِمينَ عَلَى بَوَاءٍ- يريد: على سَوَاءٍ- فكان في ذَلِكَ تَقْوَى اللَّه وطَاعَةُ رسوله، وصلاحُ ذات البين. قال ع «3» : ويجيء مِنْ مجموع الآثار المذكُورة هنا أن نفوسَ أهْلَ بدر تنافَرَتْ، ووقع فيها ما يَقَعُ في نفوس البَشَرَ مِنْ إِرادة الأثرة، لا سيَّمَا مَنْ أَبْلَى، فأنزل اللَّه عزَّ وجَلَّ الآيةَ، فَرضِيَ المسلمون، وسَلَّموا، فأصْلَح ذات بينهم، وردّ عليهم غنائمهم.

_ (1) وقرأ بها ابن مسعود، وعلي بن الحسين، وأبو جعفر محمد بن علي، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، وطلحة بن مصرف. ينظر: «الشواذ» ص: (54) ، و «المحتسب» (1/ 272) ، و «الكشاف» (2/ 195) و «المحرر الوجيز» (2/ 496) ، وزاد نسبتها إلى عكرمة، والضحاك، وعطاء. وينظر: «البحر المحيط» (4/ 453) ، و «الدر المصون» (3/ 392) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 497) . (3) ينظر «المحرر الوجيز» (2/ 497) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 2 إلى 4]

قال بعضُ أهل التأويل عكرمة، ومجاهد: كان هذا الحُكْمُ من اللَّه سبحانه لِرَفْعِ الشَّغَبِ ثم نُسِخَ بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... [الأنفال: 41] الآية. وهذا أولَى الأقوال وأصحُّها. وقوله سبحانه: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ: تصريحٌ بأنه شَجَرَ بينهم اخْتِلاَفٌ، ومالت النفوس إلى التّشاحّ، وذاتَ في هذا المَوْضِعِ يُرَادُ بها نَفْسُ الشيء وحقيقته، والذي يُفْهَمُ من بَيْنِكُمْ هو معنى يعم جَمِيعَ الوُصَلِ، والالْتِحَامَات، والمَوَدَّات، وذات ذلك هو المَأْمُور بإِصلاحها، أي: نفسه وعينه، وباقي الآية بيّن. [سورة الأنفال (8) : الآيات 2 الى 4] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... الآية، إِنَّمَا لفظ لا تُفَارِقُهُ المُبَالَغَةُ والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك لِلْحَصْرِ، بحسب القرينة، فقوله هنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ظاهرها أنَّها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون. قال الشَّيْخُ أبو عَبْدُ اللَّه محمد بن محمد بن أحمد الأَنْصَارِيّ الساحلي المالقي في كتابه الذي ألَّفَهُ في «السلوك» : واعلم أن الإنْسَانَ مطلوب بطَهَارَة نفسه، وتزكيتها، وطُرُقُ التزكية وإن كَثُرَتْ، فطريق الذِّكْرِ أسرع نفعاً، وأقرب مَرَاماً، وعليه دَرَجَ أكثر مشائخ التربية، ثم قال: والذِّكْرُ ضد النسيان، والمطلوب منه عِمَارَةُ الباطن باللَّهِ تعالى في كل زمان، ومع كل حال لأن الذِّكْرَ يَدُلُّ على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المَحَبَّةَ له، والمعرفة به، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه، فلكل معنًى [من] معانيه اختصاص بنوعٍ من التَّحْلِيَةِ والتخلية، والتزكية، ثم قال: والذِّكْرُ على/ قسمين: ذكر العامة، وذِكْرُ الخاصة. أما ذِكْرُ العامة، وهو ذِكْرُ الأجور، فهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بما شاء من ذِكْرِهِ لا يقصد غير الأجور والثواب، وأما ذكر الخَاصَّة، فهو ذِكْرُ الحضور، وهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بأذكار مَعْلُومَةٍ، على صفة مَخْصُوصَةٍ لِينال بذلك المَعْرِفَةَ باللَّهِ سبحانه بطهارة نَفْسِهِ من كل خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وتحليتها بكل خُلُق كريم. انتهى. ووَجِلَتْ: معناه: فَزِعَتْ، وَرَقَّتْ، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العلماء. وتُلِيَتْ معناه: سُرِدَتْ، وقرئت، والآيات هنا: القرآن المَتْلُوُّ. ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية» : إن تَيَقَّظْتَ يقظة قلبية، وانْتَبَهْتَ انتباهة حقيقية لم تر في وَقْتِكَ سَعَةً لغير ذِكْرِ ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإِقبال على طاعته، ما في

[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 إلى 6]

وَقْتِ العاقل فَضْلَةٌ في غير ما خُلِقَ له من عبادة خالقه، والاهتمام بمَصَالِحِ آخرته، والاستعداد لمَعَادِهِ، أعرف العبيد بجلالِ مَوْلاَهُ أَخْلاَهُمْ عما سواه، وأكثرهم لَهَجاً بذكره، وتعظيماً لأمره، وأحسنهم تَأَمُّلاً لآثار صنعته، وبدائع حِكْمته، وأشدهم شَوْقاً إلى لقائه، ومشاهدته انتهى. وزيادة الإيمان على وجوه كلها خَارِجٌ، عن نَفْسِ التصديق: منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكما من أحكام الله عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعه، فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به إذ لكل حُكْم تَصْدِيقٌ خاص، وهذا يَتَرتَّبُ فيمن بَلَغَهُ ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القِيَامَةِ، وترتب زيادة الإِيمان بزيادة الدَّلاَئِلِ، ولهذا قال مالك: الإِيمان يَزِيدُ ولا ينقص، ويترتب بِزِيَادَةِ الأعمال البَرَّةِ على قول من يَرَى أنَّ لَفْظَةَ الإيمان واقعة على التَّصْدِيقِ والطاعات، وهؤلاء يقولون: يزيد وينقص. وقوله سبحانه: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ عبارة جامعة لِمَصَالِحِ الدنيا والآخرة إذا اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يَمْتَثِلَ الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعد ما وعد به من نَصْرٍ، أو رزق، أو غيره، وهذه أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ وَصَفَ اللَّه بها فُضَلاَءَ المؤمنين، فجعلها غاية للأُمَّةِ يَسْتَبِقُ إِليها الأَفَاضِلُ، ثم أَتْبَعَ ذلك وَعْدَهُمْ وَوَسْمَهُمْ بإِقامة الصلاة، ومدحهم بها حضّا على ذلك. وقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. قال جَمَاعَةٌ من المفسرين: هي الزَّكَاةُ وإِنما حملهم على ذلك اقْترَانُ الكلام بإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وإِلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخَيْرِ، وَصِلاَتِ المستحقين، ولفظ ابنَ عَبَّاسٍ في هذا المعنى محتمل. وقوله سبحانه: لَهُمْ دَرَجاتٌ ظَاهِرُهُ، وهو قَوْلُ الجمهور أن المراد مَرَاتِبُ الجنة، ومنازلها، ودرجاتها على قَدْرِ أعمالهم، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يريد مَآكِلَ الجنة، ومشاربها، وكَرِيمٌ صفة تقتضي رَفْعَ المَذَامِّ، كقوله: ثوب كَرِيمٌ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 6] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وقوله سبحانه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ... الآية: اختلف في معنى هذه الآية، فقال الفَرَّاءَ: التقدير امْضِ لأمرك/ في الغَنَائِمِ، وإن كرهوا كما أخرجك رَبُّكَ. قال ع «1» : وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال: هذه الكاف شبّهت هذه القصّة

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 502) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 7 إلى 10]

التي هي إِخْرَاجُهُ من بيته بالقِصَّةِ المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأَنْفَال، كأنهم سألوا عن النَّفَلِ، وتشاجروا، فأَخرج اللَّه ذلك عنهم، فكانت فيه الخِيَرَةُ، كما كَرِهُوا في هذه القصة انبعاث النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخرجه اللَّه من بَيْتِهِ، فكانت في ذلك الخِيَرَةُ، وعلى هذا التأويل يُمْكِنُ أن يكون قوله: يُجادِلُونَكَ كلاماً مُسْتَأْنَفاً يراد به الكفار، أي: يجادلونك في شريعة الإسلام من بَعْد ما تَبَيَّنَ الحَقُّ فيها، كأنما يساقون إلى المَوْتِ في الدُّعَاءِ إلى الإيمان، وهذا الذي ذكرت من أن يُجادِلُونَكَ في الكُفَّار منصوص. وقال مجاهد وغيره: المعنى في الآية: كما أخرجك ربك من بَيْتِكَ على كَرَاهِيَةٍ من فريق منهم، كذلك يُجَادِلُونَكَ في قتال كفار «مكة» ، ويوَدُّونَ غير ذَاتِ الشَّوْكَة من بعد ما تَبَيَّنَ لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يُريدُون «1» هم، وقائل هذه المَقَالَةِ يقول: إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول: إن المُجَادِلِينَ هم المشركون، وهذان القولان يتم بهما المَعْنَى، ويحسن رَصْفُ اللفظ. وقيل غير هذا. وقوله: مِنْ بَيْتِكَ يريد من «المدينة» «يثرب» قاله الجمهور. [سورة الأنفال (8) : الآيات 7 الى 10] وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) وقوله سبحانه: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ... الآية: في هذه الآية قَصَصٌ حَسَنٌ، محل استيعابه «كتاب سيرة رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم» لابن هشام، واختصاره: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه، وقيل: أوحي إليه أن أبا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، قد أَقبل من «الشام» بالعِيرِ التي فيها تجارة قُرَيْشٍ وأموالها قال لأصحابه: إن عِيرَ قريش قد عَنّتْ لكم، فاخرجوا إليها، لعل اللَّه أن يَنْفُلَكُمُوها. قال: فانبعث معه من خَفَّ، وثَقُلَ قوم، وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يَلْوِي على من تَعَذَّرَ، ولا ينظر من غاب ظهره، فسار في ثلاث

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 180- 181) برقم: (15714) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 502) ، وابن كثير (2/ 287) بنحوه، والسيوطي (3/ 300) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

مائة وثلاثة عشر، أو نحو ذلك من أصحابه بين مُهَاجِرِيٍّ وأَنْصَارِيٍّ، وقد ظَنَّ الناس بأجمعهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يلقى حَرْباً، فلم يكثر اسْتِعْدَادُهُمْ، وكان أبو سُفْيَانَ في خلال ذلك يَسْتَقْصِي، ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث ضَمْضَمَ بْنَ عَمْروٍ الغفاري إلى «مكة» يَسْتَنْفِرُ أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل «مكة» في ألف رَجُل، أو نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خروجهم أوحى اللَّه إِليه وَحْياً غير مَتْلُو يعده إحدى الطّائفتين، فعرّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بذلك، فَسرُّوا، وَوَدُّوا أن تكون لهم العِيرُ التي لا قِتَالَ معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه أخذ طَرِيقَ الساحل، وأبعد وفات، ولم يبق إلا لقاء أهل «مكة» ، وأشار بعض الكُفَّارِ على بَعْضِ بالانصراف، وقالوا: هذه عِيرُنَا قد نَجَتْ، فلننصرف/ فحرش «1» أبو جهل وَلَجَّ، حتى كانَ أَمْرُ الواقعة. وقال بعضٍ المؤمنين: نحن لم نخرج لِقِتَالٍ، ولم نَسْتَعِدَّ له، فجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَصْحَابَهُ، وهو بِوَادٍ يسمى «دَقران» وقال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فقام أبو بَكْرٍ، فتكلم، وأحسن، وحَرَّضَ الناس على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاسْتِشَارَةَ، فَقَامَ عمر بِمِثْلِ ذلك، فأعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاسْتِشَارَةَ، فتكلم المِقْدَادُ بْنُ الأسود الكندي «2» ، فقال: لا نقول لك يَا رَسُولَ اللَّه كما قالت بَنُو إِسرائيل: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن نَقُولُ: إِنا معكما مقاتلون، واللَّه لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة «الحبشة» لَقَاتَلْنَا معك من دُونِهَا، فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكلامه، ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فكلمه سعد بنُ مُعَاذٍ، وقيل: سعد بن عبادة، ويحتمل هما معاً فقال: يا رسول اللَّه، كأنك إيانا تُريدُ معشر الأنصار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجل، فقال: إنا قد آمَنَّا بك، واتبعناك،

_ (1) التحريش: الإغراء بين القوم. ينظر: «لسان العرب» (834) . (2) هو: المقداد بن عمرو (الأسود الكندي) بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود بن عمرو بن سعد ... أبو الأسود البهراوي. الشهرة: المقداد بن الأسود الكندي، قال ابن حجر: أسلم قديما وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وكان فارسا يوم بدر حتى أنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره، وروى المقداد عن النبي أحاديث كثيرة، توفي سنة 33 في خلافة عثمان وله 70 سنة. ينظر: «الثقات» (3/ 371) ، «أسد الغابة» (5/ 251) ، «التاريخ الصغير» (1/ 83) ، «معجم الثقات» (123) ، «الاستبصار» (145، 208) ، «تقريب التهذيب» (2/ 272) ، «المنمق» (453، 513، 514) ، «تراجم الأحبار» (3/ 351، 370) ، «الإصابة» (6/ 133) ، «الأعلام» (7/ 282) ، «أصحاب بدر» (85) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 92) ، «الجرح والتعديل» (8/ 426) ، «الطبقات» (16/ 120) .

وبايعناك، فامض لأمر الله، فو الله لو خُضْتَ بنا هذا البَحْرَ لَخُضْنَاهُ معك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «امضوا على بَرَكَةِ اللَّه، فكأني أنظر إلى مَصَارِعِ القوم» فالتقوا وكانت وقعة بدر. ت: وفي «صحيح البخاري» من حَدِيثِ عائشة، في خروج أبي بكر من «مكة» فلقيه ابن الدّغنة عند برك الغمَادِ «1» الحديث، وليست بمدينة «الحبشة» من غير شَكٍّ. فاللَّه أعلم، ولعلهما موضعان. انتهى. والشَّوْكَةِ عبارة عن السِّلاَحِ والحِدَّةِ. وقوله سبحانه: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ المعنى: ويريد اللَّه أن يُظْهِرَ الإِسلام، ويعلي دعوة الشَّرْعِ بكلماته التي سَبَقَتْ في الأَزَلِ، والدابر الذي يدبر القَوْمَ، أي يأتي آخرهم، وإِذا قطع فقد أتى على آخرهم بشَرْطِ أَن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهَلاَكُ عليه. وقوله سبحانه: لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي: ليظهر الحق الذي هو دين الإسلام، ويُبْطِلَ الْباطِلَ، أي: الكفر، وتَسْتَغِيثُونَ معناه: تطلبون الغوث، ومُمِدُّكُمْ أي: مكثركم، ومقويكم من: أمددت، ومُرْدِفِينَ معناه: متبعين. وقرأ سائر السبعة «2» غير نافع: «مردفين» - بكسر الدال-، ونافع بفتحها، وروي عن ابن عَبَّاسٍ: خَلْفَ كل مَلَكٍ مَلَكٌ «3» ، وهذا معنى التتابع، يقال: رَدِفَ وأَرْدَفَ إِذا اتبع، وجاء بعد الشَّيْءِ، ويحتمل أن يُرَادُ مُرْدِفِينَ للمؤمنين، ويحتمل أن يُرَادَ مردفين بعضهم بَعْضَاً، وأنشد الطبري «4» شَاهِداً على أن أرْدَفَ بمعنى جاء تَابِعاً قَوْلَ الشاعر: [الوافر] إِذَا الجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا «5» والثرَيَّا تطلع قبل الجوزاء.

_ (1) أخرجه البخاري (4/ 555- 556) كتاب «الكفالة» باب: جوار أبي بكر في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعقده، حديث (2297) . (2) ورويت عن أبي عمرو كما في «الكشاف» (2/ 1- 2) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 504) ، و «البحر المحيط» (4/ 460) ، و «الدر المصون» (3/ 398) . (3) أخرجه الطبري (6/ 189) برقم: (15758) ، وذكره ابن عطية (2/ 504) ، وابن كثير (2/ 290) ، والسيوطي (3/ 310) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ. (4) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 190) . (5) البيت لخزيمة بن مالك. ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 190) ، وينظر: «اللسان» (ردف) ، و «الدر المصون» (3/ 400) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 إلى 13]

وروي في «الصحيح» : الأشهر أن المَلاَئِكَةَ قاتلت يَوْمَ بَدْرٍ. واختلف في غيره قال ابن إسحاق: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّه بن أبي بكر أنه حُدِّثَ عن ابن عباس، أنه قال: حدثني رَجُلٌ من بني غِفَارٍ، قال: أقبلت أنا وابن عَمٍّ لي حتى صَعَدْنَا في جَبَل يُشْرِفُ بنا على بَدْرٍ، ونحن مشركان ننتظر الوَقْعَةَ على من تكون، فَنَنْتَهِبُ مع من يَنْتَهِبُ. قال: فبينما نحن في الجَبَلِ، إذ دنت منا سَحَابَةٌ، فسمعنا فيها حَمْحَمَةَ الخَيْلِ، / فسمعت قائلاً يقول: أقدمَ حَيْزُوْم، فأما ابن عمي، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِهِ، فمات مكانه، وأما أنا فَكِدْتُ أَهْلَكُ، ثم تَمَاسَكْتُ «1» . قال ابن إسحاق: وحدثني عَبْدُ اللَّه بن أبي بَكْرٍ عن بعض بني سَاعِدَةَ عن أبي سعيد مالك بن رَبِيعَةَ، وكان شهد بَدْراً، قال بعد أن ذهب بَصَرُهُ: لو كنت اليوم ببدر، ومعى بَصَرِي لأريتكم الشِّعْبَ الذي خَرَجَتْ منه المَلاَئِكَةُ لا أَشَكُّ ولا أَتَمَارَى. انتهى من «سيرة ابن هِشَامٍ» . وقوله سبحانه: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ الضمير في «جعله» عائد على الوَعْدِ، وهذا عندي أَمْكَنُ الأقوال من جهة المَعْنَى. وقيل: عائد على المَدَدِ، والإِمداد. وقيل: عائد على الإرداف. وقيل: عائد على الأَلْف، وقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ توقيف على أن الأَمْرَ كُلَّهُ للَّه وأن تَكَسُّبَ المَرْءِ لا يغني، إذا لم يساعده القَدَرُ، وإن كان مَطْلُوباً بالجدّ، كما ظاهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين در عين. [سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 13] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) وقوله سبحانه: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ. القصد تعديد نعمه سبحانه على

_ (1) أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (2/ 296) ومن طريقه الطبري في «تاريخه» (2/ 453) ، وذكره ابن كثير في «البداية والنهاية» (3/ 279- 280) . [.....]

المؤمنين في يوم بَدْرٍ، والتقدير: اذكروا إذ فعلنا بكم كذا، وإذ فعلنا كذا، والعامل في «إذ» «اذكروا» وقرأ نافع: «يُغْشِيكُم» - بضم «1» الياء، وسكون الغين- وقرأ حمزة وغيره: يُغَشِّيكُمُ- بفتح الغين وَشَدِّ الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره: «يَغْشَاكم» - بفتح الياء وألف بعد الشين- «النُّعَاسُ» بالرفع، ومعنى يُغَشِّيكُمُ: يغطيكم، والنُّعَاسُ أَخَفُّ النوم، وهو الذي يصيب الإِنْسَانَ، وهو واقف أو مَاشٍ، وينص على ذلك قَصَصُ هذه الآية أنهم إنما كان بهم خَفْقٌ بالرُّؤُوس، وقوله: أَمَنَةً مصدر من أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنَاً وأَمَنَةً وأَمَاناً، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المَسَاءَةِ والحَمَاقَةِ والمَشَقَّةِ. وروي عن ابن مَسْعُودٍ أنه قال: النُّعَاسُ عند حضور القِتَالِ عَلاَمَةُ أمن، وهو من اللَّه، وهو في الصَّلاَةِ من الشيطان «2» . قال ع «3» : وهذا إنما طريقه الوَحْيُ، فهو لا مَحَالَةَ يسنده وقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ. وذلك أن قَوْماً من المؤمنين لحقتهم جَنَابَاتٌ في سفرهم، وعدموا المَاءَ قَرِيبَ بَدْرٍ، فصلوا كذلك، فَوَسْوَسَ الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العَدُوِّ وقلتهم، وأيضاً فكانت بينهم وبين مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ، من رمل دَهْسٍ «4» تَسُوخُ «5» فيها الأَرْجُلُ، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكُفَّارُ إلى ماء بدر، فأنزل اللَّه تلك المَطَرَةَ فَسَالَتِ الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم اللَّه تعالى فذهب رِجْزُ الشيطان، وَتَدَمَّثَ «6» الطريق، وتَلَبَّدَتْ «7» تلك الرِّمَالُ، فسهل اللَّه عليهم السير، وأمكنهم الإسراع

_ (1) ينظر: «السبعة» (304) ، «الحجة» (4/ 125) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 77) ، «حجة القراءات» (308) ، «إعراب القراءات» (1/ 222) ، «النشر» (2/ 276) ، و «شرح الطيبة» (4/ 324) ، و «شرح شعلة» (405) ، و «معاني القراءات» (1/ 437) . (2) أخرجه الطبري (6/ 192) برقم: (15771- 15772- 15773) ، وذكره ابن عطية (2/ 506) ، والبغوي (2/ 234) ، وابن كثير (2/ 291) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 506) . (4) رمل أدهس بيّن الدّهس، والدّهاس من الرمل: ما كان كذلك لا ينبت شجرا، وتغيب فيه القوائم ... وقيل: ما سهل ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رملا. ينظر: «لسان العرب» (1441) ، و «النهاية» (2/ 145) . (5) أي: غاصت في الأرض. ينظر: «اللسان» (2141) . (6) الدّمث: السهول من الأرض، الواحدة دمثة، وهو أيضا المكان اللين ذو رمل، ودمّث الشيء: إذا مرسه حتى يلين. ينظر: «لسان العرب» (1418- 1419) . (7) أي: صارت قوية لا تسوخ فيها الأرجل. ينظر: «لسان العرب» (3984) .

حتى سبقوا إلى ماءَ بَدْرٍ، وأصاب المشركين من ذلك المَطَرَ ما صَعَّبَ عليهم طريقهم، فسر المؤمنون، وتبينوا من فِعْلِ اللَّه بهم ذلك قَصْدَ المعونة لهم، فطابت نفوسهم، واجتمعت، وتَشَجَّعَتْ، فذلك الرَّبْطُ على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللَّيِّنَةِ. والضمير في «به» على هذا الاحتمال عَائِدٌ على الماء، ويحتمل عَوْدُهُ على رَبْطِ القلوب، ويكون تثبيت/ الأقدام عِبَارَةً عن النصر والمعونة في مَوْطِنِ الحَرْبِ، ونزول الماء كان في الزمن قبل تَغْشِيَةِ النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القَصْدُ فيها تَعْدِيدُ النعم فقط. وقوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم المُؤْنِسَةِ، ويحتمل أن يكون التَّثْبِيتُ بما يلقيه المَلَكُ في القلب بِلَمَّتِهِ من تَوَهُّمِ الظَّفَرِ، واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه. قال ع «1» : ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وعلى هذا التأويل يجيء قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قال عكرمة: هي على بابها، وأراد الرؤوس «2» ، وهذا أنبل الأقوال. قال ع» : ويحتمل عندي أن يريد وَصْفَ أبْلَغِ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فَوْقَ عَظْمِ العنق دون عَظْمِ الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن الصِّمَّة «4» ، فيجيء على هذا فوق الأَعْنَاقِ متمكناً. والبَنَان: قالت فرقة: هي المَفَاصِلُ حيث كانت من الأعضاء.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 508) . (2) أخرجه الطبري (6/ 197) برقم: (15800) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 508) ، والبغوي (2/ 235) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 313) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 508) . (4) دريد بن الصمة الجشمي البكري، من هوازن: شجاع، من الأبطال، الشعراء، المعمرين في الجاهلية، كان سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم، وغزا نحو مائة غزوة لم يهزم في واحدة منها، وعاش حتى سقط حاجباه عن عينيه، وأدرك الإسلام، ولم يسلم، فقتل على دين الجاهلية «يوم حنين» ، وكانت هوازن خرجت لقتال المسلمين فاستصحبته معها تيمنا به، وهو أعمى، فلما انهزمت جموعها أدركه ربيعة بن رفيع السلميّ فقتله، له أخبار كثيرة، والصمة لقب أبيه معاوية بن الحارث. ينظر ترجمته في: «الأعلام» (2/ 339) (4164) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 14 إلى 16]

وقال فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو الصحيح لأنه إذا قطع البنان لم ينتفع صَاحِبُهُ بشيء من أعضائه واستأسر. واقُّوا : معناه خالفوا ونَابَذُوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشَّقِّ، وهو القَطْعُ والفَصْلُ بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله: اقُّوا أي: صاروا في شق غير شقه. قال ع «1» : وهذا وإن كان معناه صَحِيحاً، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه، وقوله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ جَوَابٌ للشرط، تضمن وَعِيداً وتهديدا. [سورة الأنفال (8) : الآيات 14 الى 16] ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) وقوله سبحانه: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ المُخَاطَبَةُ للكفار، أي ذلكم الضَّرْبُ والقَتْلُ، وما أوقع اللَّه بهم يوم بَدْرٍ، فكأنه قال: الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا قرره سيبويه. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون «ذلكم» في موضع نَصْبٍ، كقوله: زيداً فاضربه، وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً ... الآية: زَحْفاً يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي: يزحف بعضهم إِلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الأَلْيَةِ، ثم سمي كل مَاشٍ إلى آخر في الحرب رُوَيْداً زاحفاً، إذ في مشيته من التَّمَاهُلِ والتَّبَاطُؤِ ما في مشي الزاحف، وفي هذا المعنى شواهد من كلام العرب، ونهى اللَّه سبحانه في هذه الآية عن تَوَلِّي الأَدْبَارِ، وهذا مقيد بالشَّريطَةَ المنصوصة في مثلي المؤمنين، والفرار هنالك كَبِيرَةٌ موبقة بظاهر القرآن، والحديث، وإجماع الأكثر من الأمة. وقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ... الآية. قال جمهور الأمة: الإشارة ب يَوْمَئِذٍ إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله: إِذا لَقِيتُمُ وحكم الآية باقٍ إِلى يوم القيامة، بشرط الضعف الذي بَيَّنَهُ اللَّه سبحانه. ت: قال ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عَدَدُ/ المسلمين اثني عشر أَلْفاً، فإِن بلغ حرم الفرار، وإن زاد المشركون على الضعف للحديث «لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قِلَّةٍ» ، فإن أكثر أهل العِلْمِ خَصَّصُوا بهذا الحديث عموم الآية.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 509) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 17 إلى 19]

وعن مالك مثله. انتهى. وفهم ع «1» : الحديث على التَّعَجُّبِ، ذكره عند قوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ [التوبة: 25] ، وما قاله ابنُ رشْدٍ هو الصواب. والله أعلم. ومُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يراد به الذي يَرَى: أن فعله ذلك أنْكَى للعدو، ونصبه على الحال، وكذلك نصب مُتَحَيِّزاً، وأما الاسْتِثْنَاءُ، فهو من المولين الذين تضمنهم «من» . والفِئَةُ هنا الجَمَاعَةُ الحاضرة للحرب، هذا قول الجمهور. [سورة الأنفال (8) : الآيات 17 الى 19] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) وقوله سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى هذه الألفاظ تَرِدُ على من يزعم أن أَفْعَالَ العباد خَلْقٌ لهم، ومذهب أهل السنة أنها خلق للرب سبحانه كسْبٌ للعبد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يومئذٍ ثلاث قَبَضَاتٍ من حَصًى وتُرَابٍ، فرمى بها في وجوه القوم، فانهزموا عند آخر رمْيَةِ، ويروى أنه قال يوم بدر: «شَاهَتِ الوُجُوهُ» «2» وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم «حنين» بلا خلاف. ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليصيبهم ببلاء حَسَنٍ، وظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة، والظفر، والعزة. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتكم، عَلِيمٌ بوجوه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو. وقوله سبحانه: ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من قَتْلِ اللَّه لهم، ورميه إياهم، وموضع ذلِكُمْ من الإعراب رفع.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 510) . (2) أخرجه أحمد (1/ 303، 368) ، والحاكم (3/ 157) ، وابن حبان (6502) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (6/ 240) من طريق ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وصححه الحاكم وابن حبان. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 228) ، وقال: رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما: رجال الصحيح. [.....]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 إلى 23]

قال سيبويه: التقدير: الأمر ذلكم، ومُوهِنُ معناه مضعف مبطل. وقوله سبحانه: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ... الآية: قال أكثر المتأولين: هذه الآية مخاطبة لكفار «مكة» روي أن قريشاً لما عَزَمُوا على الخروج إلى حِمَايَةِ العِيرِ، تعلقوا بأستار الكعبة، واستفتحوا، وروي أن أبا جَهْلٍ قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر أَحَبَّ الفئتين إليك، وأظهر خَيْرَ الدِّينَيْنِ عندك، اللهم أَقْطَعُنَا للرحم فَأَحْنِهِ الغَدَاةَ، ونحو هذا فقال اللَّه لهم: إن تطلبوا الفَتْحَ فقد جاءكم، أي: كما ترونه عليكم لاَ لَكُمْ، وفي هذا توبيخ لهم، وإن تنتهوا عن كفركم وغيكم فهو خَيْرٌ لكم، وإن تعودوا للاستفتاح نَعُدْ بمثل وَقْعَةِ بدر، وباقي الآية بيّن. [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية: قيل: إنها نزلت بسبب اختلافهم في النَّفْل، ومجادلتهم في الحق، وكراهيتهم خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتَوَلَّوْا أصله: تتولوا. وقوله: أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ يريد دُعَاءه لكم بالقرآن والمواعظ. وقوله: كَالَّذِينَ قالُوا يريد الكفار إما من قريش لقولهم: سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] ، وأما الكفار على الإطلاق. وقوله سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ مَقْصِدُ الآية بيان أن هذه/ الصنيفة العاتية من الكُفَّارِ هي شَرُّ النَّاسِ عند اللَّه سبحانه وأنها في أخَسِّ المَنَازِلِ لديه، وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وقوله: الصُّمُّ الْبُكْمُ عبارة عما في قلوبهم، وعدم انشراح صدورهم، وإدراك عقولهم. وقوله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي سماع هدى، وَتَفَهُّمٍ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أي: ولو فهمهم لَتَوَلَّوْا بحكم القضاء السابق فيهم، ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى. [سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ... الآية: اسْتَجِيبُوا بمعنى: أجيبوا وقوله: لِما يُحْيِيكُمْ قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة «1» ، وما يتضمنه القرآن، وهذا إحياء مستعار لأنه من مَوْتِ الكفر والجهل، والطَّاعَةُ تؤدي إلى الحَيَاةِ الدائمة في الآخرة. وقوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحتمل وجوهاً: منها: أنه لما أمرهم سبحانه بالاستجابة في الطاعة، حضَّهم على المبادرة والاستعجال، وأعلمهم أنَّه يحولُ بين المرء وقَلْبه بالموت والقَبْض، أي: فبادروا الطاعات، ويلتئم مع هذا التأويلِ قوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أي: فبادروا الطاعات، وتزوَّدوها ليوم الحَشْر. ومنها: أن يقصد إِعلامهم أن قُدْرة اللَّه وعلْمه وإِحاطته حائلةٌ بين المرء وقلبه، فكأن هذا المعنَى يحضُّ على المراقبة والخَوْفِ للَّه المُطلَّع على الضمائر حُكِيَ هذا التأويلُ عن قتادة «2» ويحتملُ أن يريد تخويفهم إِنْ لم يمتثلوا الطَّاعات، ويستجيبوا للَّه وللرَّسول أَنْ يَحُلَّ بهم ما حل بالكفَّار الذين أرادهم بقوله: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23] لأن حَتْمهُ عليهم بأنهم لو سَمِعُوا لم ينتفعوا يقتضِي أنه كان قد حال بينهم وبَيْنَ قلوبهم. ومنها: أنْ يكون المعنَى ترجيةً لهم بأنَّ اللَّه يبدِّل الخوف الذي في قلوبهم مِنْ كثرة الَعدُوِّ، فيجعله جراءةً وقوةً، وبضدِّ ذلك للكفَّار، أي: فإِن اللَّه تعالَى هو مقلِّب القلوب كما كان قسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل غير هذا. قال مكِّيٌّ، وقال الطبريُّ «3» : هذا خبر من الله عز وجلّ أنه أَمْلَكُ بقلوبِ العباد منهم لها، وأنه يحولُ بينهم وبينها إِذا شاء حتى لا يُدْرِك الإِنسان شيئاً من إِيمان ولا كُفْر، ولا يعي شيئاً، ولا يفهم شيئاً إِلا بإذنه ومشيئته سبحانه، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول في

_ (1) ذكره ابن عطية (2/ 514) . (2) أخرجه الطبري (6/ 215) برقم: (15916) بنحوه. (3) ينظر: «الطبري» (6/ 215) .

دعائه: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي علَى دِينِكَ» «1» انتهى من «الهداية» . وروى مالكُ بن أنس والنسائي، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دَعَا أُبَيَّ بْنُ كَعْب وهو في الصَّلاَة، فَلَمْ يُجِبْهُ، وأَسْرَعَ في بَقِيَّةِ صَلاَتِهِ، فَلَمَّا فرغ جاء، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألم يقل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ؟ قال أُبَيٌّ: لاَ جَرَمَ، يا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَدْعُونِي أَبَدَاً إِلاَّ أَجَبْتُكَ ... » «2» الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه، وفي «البخاريِّ ومسلم» أن ذلك/ وقع مع أبي سَعِيدِ بن المعلى «3» ، وروي أنه وقع نحوه مع حُذَيْفَة بن اليَمَانِ «4» في غزوة الخَنْدَق. وقوله: عزَّ وجلَّ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً في الآية تأويلاتٌ، أسبقها إِلى النفْسِ، أن اللَّه سبحانه حذَّر جميع المؤمنين من فتنة إِن أصابَتْ لم تخصَّ الظلمة فقطْ، بل تصيبُ الكُلَّ من ظالمٍ وبريءٍ، وهذا تأويلُ الزُّبَيْر بن العَوَّام، والحسنِ البَصْرِيِّ «5» ، وكذلك تأويل ابن عباس فإنه قال: أمر اللَّه المؤمنين في هذه الآية ألاَّ يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمّهم العذاب «6» وخَاصَّةً: نعت لمصدرٍ محذوف، تقديره إِصابةً خاصةً، فهي نصب على الحال، وقرأ علي «7» بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وغيره: «لتُصِيبَنَّ» - باللام- على جواب قسم، والمعنَى على هذا: وعيدٌ للظلمة فقط. وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ... الآية: هذه الآية تتضمَّنِ تعديد نِعَم اللَّه على المؤمنين، و «إذ» : ظرفٌ لمعمول، «واذكروا» : تقديره: واذكروا حالكم الكائنة، أو

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه في سورة «الفاتحة» . (3) تقدم تخريجه. (4) تقدم تخريجه في سورة «الفاتحة» . (5) أخرجه الطبري (6/ 216- 217) برقم: (15917) وبرقم: (15918- 15919- 15920) ، وذكره ابن عطية (2/ 515) ، وذكر نحوه البغوي (2/ 241) ، وابن كثير (2/ 299) بنحوه أيضا، والسيوطي (3/ 321) . (6) أخرجه الطبري (6/ 217) برقم: (15923) ، وذكره ابن عطية (2/ 515) ، والبغوي (2/ 241) ، وابن كثير (2/ 299) ، والسيوطي (3/ 322) . (7) وقرأ بها ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو العالية، وأبو جعفر محمد بن علي، والربيع بن أنس، وابن جمّار. ينظر: «الشواذ» ص: (54) ، و «المحتسب» (1/ 277) ، و «الكشاف» (2/ 212) و «المحرر الوجيز» (2/ 516) ، و «البحر المحيط» (4/ 478) ، و «الدر المصون» (3/ 412) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 إلى 29]

الثابتَةَ إذْ أنتم قليل، ولا يجوزُ أنْ تكون «إذْ» ظرفاً للذِّكْر. وإِنما يعمل الذِّكْرُ في «إذْ» لو قدَّرناها مفعولة، واختلف في الحال المشار إِليها بهذه الآية. فقَالَتْ فرقَةٌ وهي الأكثر: هي حالُ المؤمنين بمكَّة في وقْتِ بداءةِ الإسلام، والنَّاس الذين يُخَافُ تخطُّفُهم كُفَّار مكَّة، والمأْوَى: المدينةُ، والتأييدُ بالنَّصْر: وَقْعَةُ بَدْرٍ وما انجر معها في وقتها، والطيبات: الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالتْ فرقة: الحال المشارُ إليها هي حالهم في غزوة بَدْرٍ، والناس الذين يُخَافُ تخطُّفهم، على هذا: عسكر مكَّة وسائر القبائل المجاورة، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتخوَّف من بعضهم، والمأوى على هذا، والتأييد بالنصر: هو الإِمداد بالملائكَةِ والتغليبُ على العدو، والطّيّبات: الغنيمة. [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ هذا خطابٌ لجميع المؤمنين إِلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخياناتِ كلَّها قليلَهَا وكثيرَهَا، والخيانةُ: التنقُّص للشيءِ باختفاء، وهي مستعْمَلَةٌ في أنْ يفعل الإِنسان خلاف ما يَنْبَغِي مِنْ حفظ أمْرٍ مَّا، مالاً كان أو سرًّا أو غير ذلك، والخيانة للَّه عَزَّ وجل: هي في تنقّص أوامره في سِرٍّ. وقوله: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ. قال الطبريُّ «1» : يحتمل أن يكون داخلاً في النهيْ كأنه قال: لا تخونوا اللَّه والرسولَ، ولا تخونوا أماناتِكُمْ، ويحتمل أن يكون المعنَى: لا تخونوا اللَّه والرسول فذلك خيانةٌ لأماناتكم. وقوله: فِتْنَةٌ ، يريد: محنةً واختبارا وامتحانا ليرى كَيْفَ العملُ في جميع ذلك. وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، يريد: فوز الآخرة، فلا تَدَعُوا حظَّكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإِن المذخور للآخرة أعظم أجرا. قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ... الآية: وعْدٌ للمؤمنين بشرط

_ (1) ينظر: «الطبري» (6/ 221) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 30 إلى 31]

التقوى والطاعة لله سبحانه، ويَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً: معناه: فرْقاً بين حقِّكم، وباطل مَنْ ينازعكم بالنصْر والتأييد، وعبَّر قتادة، وبعضُ المفسّرين عن «الفرقان» هاهنا بالنجاةِ «1» ، وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ: معناه: مَخْرَجاً «2» ، ونحو هذا مما يعمه ما ذكَرْناه، وقد يوجَدُ للعرب استعمال «الفرقان» ، كما ذكر المفسِّرون وعلى ذلك شواهد منها قول الشاعر: [الطويل] وَكَيْفَ أُرَجِّي الخُلْدَ والمَوْتُ طَالِبِي ... وَمَاليَ مِنْ كَأْسِ المَنيِّةِ فُرْقَانُ «3» ت: قال ابن رُشْد: وأَحْسَنُ ما قيلَ في هذا المعنى قوله تعالى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي: فصلا بين الحق والباطل حتى يعرفوا ذلك بقلوبهم، ويهتدوا إليه. انتهى من «البيان» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وقوله سبحانه: وَإِذْ يَمْكُرُ/ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: تذكيرٌ بحال مكَّة وضيقها مع الكفرة، وجميل صُنْع اللَّه تعالى في جميع ذلك، والمَكْرُ: المخاتلة والتداهي تقول: فلانٌ يَمْكُرُ بفلان إِذا كان يستدرجه، وهذا المكر الذي ذكر اللَّه تعالى في هذه الآية هو بإِجماع من المفسِّرين: إِشارةٌ إِلى اجتماع قُرَيْش في «دار النَّدْوَةِ» بمحْضَر إِبْليسَ في صورة شيخٍ نَجْدِيٍّ على ما نصَّ ابن إِسحاق في «سِيَرِهِ» الحديثَ بطوله، وهو الذي كان خُرُوجُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بَعْدَ مَوْت أبي طالب، ففي القصَّة: أن أبا جهْلٍ قال: الرأْيُ أنْ نأخذ من كل بطنٍ في قريشٍ فَتًى قويًّا جَلْدياً، فيجتمعون ثم يأخُذ كُلُّ واحد منهم سيفاً، ويأتون محمداً في مَضْجَعه، فيضربونه ضَرْبةَ رجُلٍ واحدٍ، فلا تَقْدِرُ بَنُو هاشِمٍ على قِتالِ قُرَيْشَ بأسرها، فيأخذون العَقْلَ، ونستريحُ منه، فقال النَّجْدِيُّ: صدق الفَتَى هذا الرأيُ: لاَ رَأْيَ غيره، فافترقوا عَلَى ذلك، فأخبر اللَّه تعالَى بذلك نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأذن له في الخُرُوجِ إِلى المدينة، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ليلته، وقال لعليّ بن أبي

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 224) برقم: (15963) ، وذكره ابن عطية (2/ 518) ، والبغوي عن عكرمة (2/ 243) ، وابن كثير (2/ 301) ، والسيوطي (3/ 324) . (2) أخرجه الطبري (223) برقم: (1590، 15958) ، وذكره ابن عطية (2/ 518) . (3) ينظر البيت في: «البحر المحيط» (4/ 481) ، و «الدر المصون» (414) ، و «القرطبي» (7/ 396) . [.....]

طالب: «التف في بُرْدِيَ الحَضْرَمِيِّ، واضطجع فِي مَضْجَعِي فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ شَيْء، فَفَعَل» ، فجاءَ فتْيَانُ قُرَيْشٍ، فجعلوا يرصُدُون الشخْصَ، وينتظرون قيامه، فيثورون به، فلما قام رَأَوْا عَلِيًّا، فقالوا له: أيْنَ صَاحِبُكَ؟ فقال: لا أدْرِي، وفي «السّير» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ عَلَيْهِم، وهُمْ في طريقه، فطَمَسَ اللَّه أعينهم عَنْه، وجعل عَلَى رأس كلِّ واحد منهم تراباً، ومضَى لوجهه، فجاءهم رجُلٌ، فقال: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ قَالُوا: محمَّداً، قال: إِنِّي رأَيْتُهُ الآن جائياً من ناحيتكم، وهو لا مَحَالَة، وضَعَ الترابَ علَى رؤوسكم، فَمَدّ كلُّ واحدٍ يده إِلى رَأْسِهِ، فإِذا عليه الترابُ، وجاؤوا إلى مضجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَوَجدوا عَلِيًّا، فركبوا وراءه حينئذٍ كُلَّ صَعْبٍ وذَلُولٍ، وهو بالغارِ، ومعنى: لِيُثْبِتُوكَ: لِيَسْجُنُوكَ قاله عطاء وغيره «1» وقال ابنُ عَبَّاس وغيره: ليُوثِقُوكَ «2» . وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، يعني: القرآن، قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أي: قَصَصُهُمُ المَكْتُوبةُ المسْطُورة، وأساطيرُ: جمع «أسطورة» ، ويحتمل جمع: «أَسْطَار» ، وتواترتِ الرواياتُ عن ابنِ جُرَيْج وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارِثِ وذلك أنه كان كَثِيرَ السَّفَرِ إِلى فَارسَ والحِيرَة، فكان قد سَمِعَ من قصص الرهبان وأخبار رُسْتُم وإسْفِنْديَار، فلما «3» سمع القرآن، ورأى فيه أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلْتُ مثْلَ هذا، وكان النضْرُ من مردة قريش النائلين من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونزلَتْ فيه آيات كثيرة من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمْكَنَ اللَّه منْهُ يَوْمَ بدر، وقتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صَبْراً بالصَّفْرَاء مُنْصَرَفَهُ من بَدْرٍ في موضعٍ يقال له «الأَثيل» ، وكان أَسَرَهُ المِقْدادُ، فلما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضرب عُنْقِهِ، قال المقداد: أَسِيرِي، يا رَسُولَ الله! فقال/ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ في كِتَابِ اللَّهِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ» ، ثُمَّ أَعَادَ الأَمْرَ بِقَتْلِهِ، فَأَعَادَ المقداد مقالته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ، أَغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ» ، فَقَالَ المِقْدَادُ: هذا الّذي أردت، فضربت عنق النّضر «4» .

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 225) برقم: (15975) ، وذكره ابن عطية (2/ 519) ، والبغوي (2/ 244) ، وابن كثير (2/ 302) نحوه. (2) أخرجه الطبري (6/ 225) برقم: (15971) ، وذكره ابن عطية (2/ 519) ، والبغوي (2/ 244) ، وابن كثير (2/ 203) ، والسيوطي (3/ 326) . (3) أخرجه الطبري (6/ 229) برقم: (15991) ، وذكره ابن عطية (2/ 520) ، والبغوي (2/ 245) ، وابن كثير (2/ 304) ، والسيوطي (3/ 327) . (4) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (ص 248- 249) برقم: (337) عن سعيد بن جبير مرسلا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 إلى 34]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 34] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وقوله عز وجل: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ... الآية: رُوِيَ عن مجاهدٍ وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النَّضْرُ بْنُ الحَارثِ المذكورُ، وفيه نزلَتْ هذه الآية «1» . قال ع «2» : وترتَّب أن يقول النَّضْرُ مقالَةً، وينسبها القُرآن إِلى جميعهم لأن النضر كان فيهم موسُوماً بالنُّبْل والفَهْم، مسكوناً إِلى قوله، فكان إِذا قال قولاً قاله منهم كثيرٌ، واتبعوه عليه حَسَب ما يفعله الناسُ أبداً بعلمائهم وفقهائهم. ت: وخرَّج البخاريُّ بسنده، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قَالَ أَبو جَهْلٍ: اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عندكْ، فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلَتْ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، إِلى: عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «3» اه، والمشار إِليه ب هذا هو القرآن وشَرْعُ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحَسَدُ، فعَمِيَتْ بصائرهم عن الهدَى، وصَمَّموا على أنَّ هذا ليس بحقٍّ، نعوذ باللَّه من جَهْدِ البلاءِ، وسُوء القضاء، وحكى ابن فُورَكَ: أن هذه المقالة خرجَتْ منهم مَخْرَجَ العنادِ، وهذا بعيدٌ في التأويل، ولا يقولُ هذا على جهة العناد عاقلٌ، وقراءةُ الناسِ إِنما هي بنَصْب «4» «الحق» على أنه خَبَرَ «كان» ، ويكون «هو» فصلا، فهو حينئذٍ اسم، و «أمْطِرْ» إِنما تستَعْملُ غالباً في المكروه، و «مَطَرَ» في الرحمة قاله أبو عُبَيْدة «5» . وقوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ... الآية: قالَتْ فرقة: نزلَتْ هذه الآية كلُّها بمكَّة، وقالت فرقة: نزلَتْ كلُّها بعد وقعة بَدْرٍ حكاية عما مضى.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 230- 231) برقم: (15995، 15999) ، وذكره ابن عطية (2/ 520) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 520) . (3) أخرجه البخاري (8/ 160) كتاب «التفسير» باب: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ برقم: (4649) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 521) ، و «البحر المحيط» (4/ 482) ، و «الدر المصون» (3/ 414) . (5) ذكره ابن عطية (2/ 521) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 35 إلى 36]

وقال ابْنُ أَبْزَى «1» : نَزَلَ قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ، وَأَنْتَ فِيهِمْ بمكَّة إِثر قولهم: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، ونزل قوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، عند خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكَّة في طريقه إِلى المدينة، وقد بقي بمكَّة مؤمنون يستغفرون، ونَزَلَ قوله: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ... إلى آخر الآية، بعد بَدْر عند ظهور العَذَاب عليهم. ت: وهذا التأويل بَيِّن، وعليه اعتمد عِيَاضٌ في «الشِّفَا» قال: وفي الآية تأويلٌ آخر، ثم ذكَرَ حديث التِّرْمِذيِّ، عن أبي موسَى الأشعريِّ، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتي: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فَإِذَا مَضَيْتُ، تَرَكْتُ فِيهِمْ الاستغفار» . انتهى. قال ع «2» : وأجمعَ المتأوِّلون عَلى أن معنى قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يعذِّب قطُّ أُمةً ونبيُّها بَيْنَ أظهرها، أي: فما كان اللَّه ليعذِّب هذه الأمة، وأنْتَ فيهم، بل كرامَتُكَ لديه أعظَمُ. وقوله عز وجل: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ تُوعُّد بعذاب الدنيا، والضمير في قوله: أَوْلِياءَهُ: عائدٌ على اللَّه سبحانه، أو على المسجدِ الحرامِ، كلُّ ذلك جيِّد، ورُوِيَ الأخير عن الحسن «3» . وقال الطبريُّ «4» : عن الحسنِ بْنِ أَبي الحسنِ أن قوله سبحانه: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ناسخ لقوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. قال ع «5» : وفيه نظر لأنه خبر لا يدخله نسخ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 35 الى 36] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)

_ (1) عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث، روى اثني عشر حديثا، وعن أبي بكر، وأبي، وعن عمار. قال البخاري: له صحبة، وقال ابن أبي داود: تابعي. ينظر: «تهذيب الكمال» (2/ 772) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 132) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 123) ، «الكاشف» (2/ 154) ، «الجرح والتعديل» (5/ 2009) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 521) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 522) . (4) ينظر: «الطبري» (6/ 232) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 523) . [.....]

وقوله سبحانه: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ/ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً المُكَاء: الصَّفير قاله ابن عباس «1» والجمهورُ، والتصدية: عبَّر عنها أكْثَرُ النَّاس بأنها التصفيقُ، وذهب أكثر المفسِّرين إِلى أَن المُكَاء والتَّصْدية إِنَّما أحدثهما الكُفَّار عند مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لِتَقْطَعَ عليه وعلى المؤمنين قراءَتَهم وصلاتَهم، وتخلطَ عليهم، فلما نفى اللَّه تعالى وِلاَيتهم للبَيْت، أمْكَنَ أن يعترض منهم معترضٌ بأنْ يقول: وكيف لا نَكُونُ أولياءه، ونحن نَسْكُنُهُ، ونصلِّي عنده فقطع سبحانه هذا الاعتراض بأنْ قال: وما كان صلاتهم عند البيت إِلا المكاءً والتَّصْدية. قال ع «2» : والذي مَرَّ بي من أمر العرب في غير ما دِيوَان أنَّ المكاء والتصدية كانا مِنْ فعل العرب قديماً قبل الإِسلام علَى جهة التقرُّب به والتشرُّع وعلَى هذا يستقيم تغييرُهُم وتنقُّصهم بأَن شرعهم وصلاتهم لم تَكُنْ رهبةً ولا رغبةً، وإِنما كانَتْ مكاءً وتصديةً من نوع اللعب، ولكنَّهم كانوا يتزيّدون فيهما وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليشغلوه هو وأمته عن القراءة والصَّلاة. وقوله سبحانه: فَذُوقُوا الْعَذابَ ... الاية: إِشارةٌ إِلى عذابهم ببَدْرٍ بالسيف قاله الحسن وغيره «3» فيلزم أن هذه الآية الآخِرَةَ نزلَتْ بعد بَدْرٍ، ولا بدَّ. قال ع «4» : والأشبه أنَّ الكلَّ نزل بعد بَدْرٍ حكايةً عما مضَى. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية: لما قُتِلَ من قُتِلَ ببدر، اجتمع أبناؤهم وقراباتهم، فقالوا لِمَنْ خَلُصَ ماله في العِيرِ: إِن محمَّداً قد نال منَّا ما تَرَوْنَ، ولكنْ أعينونا بهذا المال الذي كان سَبَبَ الوَقعَةِ، فلعلَّنا أنْ ننال منه ثأراً، يريدون نفقته في غَزْوَةَ أَحُدٍ. وقوله سبحانه: فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ، الحسرة: التلهّف

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 238) برقم: (16037- 16038) ، وذكره ابن عطية (2/ 523) ، والبغوي (2/ 247) ، وابن كثير (2/ 306) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 332) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه والضياء. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 524) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 525) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 525) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 37 إلى 40]

على فائتٍ، وهذا من أخبار القرآن بالغيوب قبل أن تكون، فكان كما أخبر، ثم أخبر سبحانه عن الكافرين، وأنهم يُجْمَعُونَ إِلى جهنّم، والحشر: الجمع. [سورة الأنفال (8) : الآيات 37 الى 40] لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وقوله سبحانه: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وقرأ حمزة والكسائيُّ «1» : «لِيُمَيِّزَ اللَّهُ» - بضم الياءِ، وفتحِ الميم، وشدِّ الياء-، قال ابن عباس وغيره: المعنيُّ ب الْخَبِيثَ: الكفَّارُ، وب الطَّيِّبِ المؤمنون «2» ، وقال ابْنُ سَلاَّم والزَّجَّاج: الْخَبِيثَ: ما أنفقه المشركون في الصَّدِّ عن سبيل اللَّه، والطَّيِّبِ: هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل اللَّهِ «3» . قال ع «4» : روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَنَّ اللَّه سبحانه يُخْرِجُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَالِ مَا كَانَ صَدَقَةً أَوْ قُرْبَةً، ثُمَّ يأْمُرُ بِسَائِرِ ذَلِكَ، فيلقى فِي النَّارِ: وعلى التأويلين: فقوله سبحانه: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً إِنما هي عبارةٌ عن جَمْع ذلك، وضَمه، وتأليف أشتاته، وتكاثُفِه بالاجتماع، ويَرْكُمُهُ في كلام العرب: يُكَثِّفه ومنه سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور: 44] وعبارة البخاريِّ: فيركمه: فَيَجْمَعه. انتهى. وقوله سبحانه: إِنْ يَنْتَهُوا، يعني: عن الكفر، يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ لأن الإِسلام يجبّ ما قبله، وإِنْ يَعُودُوا، يريدُ بِهِ: إِلى القِتَالِ، ولا يصحُّ أن يُتَأَوَّل: وإن يعودوا إِلى الكُفْرِ لأنهم لم ينفصلوا عنه. وقوله: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ/ الْأَوَّلِينَ: عبارةٌ تجمَعُ الوعيدَ والتهديدَ والتمثيلَ بمَنْ هَلَكَ من الأمم في سالف الدَّهْرِ بعذاب اللَّه حين صدَّ في وَجْهِ نبيِّه بمَنْ هلك في يَوْمِ بَدْرٍ بسيف الإسلام. وقوله سبحانه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ قال ابن عباس، وابن عمر،

_ (1) ينظر: «السبعة» (306) ، و «الحجة» (4/ 152) ، و «إعراب القراءات» (1/ 229) ، و «إتحاف» (2/ 79) . (2) ذكره ابن عطية (2/ 526) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 526) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 526) .

وغيرهما: الفِتْنَةُ: الشِّرْكُ «1» . قال ع «2» : وهذا هو الظاهر، ويفسّر هذه الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إله إلّا الله ... » «3» الحديث.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 245) برقم: (16090) ، وبرقم: (16092) عن قتادة، وبرقم: (16093) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 527) عن ابن عباس وغيره، وابن كثير (2/ 309) . (2) ينظر «المحرر الوجيز» (2/ 528) . (3) هذا الحديث متواتر، رواه جماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم: أبو هريرة وابن عمر، وجابر، وأنس بن مالك، وأبو بكر، وعمر، وجرير، وسهل بن سعد، وأبو بكرة، وأبو مالك الأشجعي، وعياض الأنصاري، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب، ومعاذ، وأوس بن أوس، ورجل من بلقين، وابن عباس. حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (3/ 262) كتاب «الزكاة» باب: وجوب الزكاة، حديث (1399) ، ومسلم (1/ 52) كتاب «الإيمان» باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلّا الله، وأبو داود (3/ 101) ، كتاب «الزكاة» باب: على ما يقاتل المشركون، حديث (2640) ، والترمذي (4/ 117) ، كتاب «الإيمان» باب: ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، حديث (2733) ، والنسائي (5/ 14) ، كتاب «الزكاة» باب: مانع الزكاة، وابن ماجه (2/ 1295) كتاب «الفتن» باب: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، حديث (3927) ، والشافعي (1/ 13) باب: الإيمان والإسلام، وعبد الرزاق (6/ 67) كتاب «أهل الكتاب» باب: أقاتلهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، حديث (10022) ، وأحمد (2/ 345) ، وابن الجارود ص: (343) باب: في ما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء إلى توحيد الله عز وجل والقتال عليها، حديث (1032) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 213) كتاب «السير» باب: ما يكون الرجل به مسلما، وابن سعد في «الطبقات» ، والدارقطني (1/ 231- 232) ، كتاب «الصلاة» باب: تحريم دمائهم وأموالهم إذا شهدوا بالشهادتين، حديث (2) ، والحاكم (1/ 387) كتاب «الزكاة» ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 306) ، وابن حبان (174) من طرق عن أبي هريرة. أما حديث ابن عمر: أخرجه البخاري (1/ 22) كتاب «الإيمان» باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، حديث (25) . ومسلم (1/ 53) كتاب «الإيمان» باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ... (36/ 22) ، والدارقطني (1/ 232) ، والبيهقي (3/ 92) . حديث جابر: أخرجه مسلم (1/ 53) كتاب «الإيمان» باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ... (35/ 22) ، وابن ماجه (2/ 1295) كتاب «الفتن» باب: الكف عن من قال: لا إله إلا الله (3928) ، والترمذي (5/ 409) كتاب «التفسير» باب: تفسير سورة الغاشية (3338) ، وأحمد (3/ 295) ، وأبو حنيفة في «مسنده» (6) ، وأبو يعلى (4/ 190) برقم: (2282) من طرق عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح. - حديث أنس: أخرجه البخاري (1/ 594) كتاب «الصلاة» باب: فضل استقبال القبلة، حديث (392) ، وأحمد (3/ 199، 224) ، وأبو داود (2/ 50- 51) كتاب «الجهاد» باب: على ما يقاتل المشركون، حديث

وقال ابن إِسحاق: معناها: حتَّى لا يفتن أحَدٌ عن دينهِ كما كانت قريشٌ تَفْعَلُ بمكّة بمن أسلم.

_ (2641) والترمذي (5/ 4) كتاب «الإيمان» باب: ما جاء في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمرت بقتالهم ... (2608) ، والدارقطني (1/ 232) كتاب «الصلاة» باب: تحريم دمائهم وأموالهم إذا تشهدوا بالشهادتين (2) ، وأحمد (3/ 199) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 173) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 215) ، والبيهقي (3/ 92) ، والخطيب (10/ 464) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 96- بتحقيقنا) ، من طريق حميد الطويل، عن أنس. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. حديث أبي بكر وعمر: ويرويه عنهما أنس بن مالك قال: قال عمر لأبي بكر في الردة: ألم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. قال أبو بكر: إنما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ... أخرجه النسائي (7/ 76- 77) ، وأبو يعلى (1/ 69) رقم: (68) ، وابن خزيمة (4/ 7) رقم: (2447) ، والحاكم (1/ 368) من طريق عمران القطان، عن معمر، عن الزهري، عن أنس به. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 30) ، وقال: رواه البزار وقال: لا أعلمه يروي عن أنس، عن أبي بكر إلا من هذا الوجه وأحسب أن عمران أخطأ في إسناده. وقال الترمذي بعد الحديث (2610) : وقد روى عمران القطان هذا الحديث عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر وهو حديث خطأ. وقد حكم عليه بالخطأ أيضا الإمام أبو زرعة الرازي فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 159) رقم: (1970) : سئل أبو زرعة عن حديث رواه عمرو بن عاصم، عن عمران القطان، عن معمر، عن الزهري، عن أنس ... فذكر الحديث. قال أبو زرعة: هذا وهم إنما هو الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة. أما الحاكم فله مع هذا الحديث شأن آخر فقال بعد إخراجه: صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يخرجا عمران القطان وليس لهما حجة في تركه فإنه مستقيم الحديث، ووافقه الذهبي. وعمران روى له البخاري تعليقا والأربعة، وقال الحافظ في «التقريب» (2/ 83) : صدوق يهم. حديث جرير: أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 347) رقم: (2276) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 29) ، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» وفي إسناده إبراهيم بن عيينة وقد ضعفه الأكثرون، قال ابن معين: كان مسلما صدوقا. اه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: أتى بمناكير. ينظر «المغني» (1/ 21) . حديث سهل بن سعد: أخرجه الطبراني في «الكبير» (6/ 132) رقم: (5746) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 30) وقال: رواه الطبراني وفي إسناده مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان والأكثر على تضعيفه اه. ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وقال الحافظ: لين الحديث.

وقوله: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، أيْ: لا يُشْرَكَ معه صَنَمٌ، ولا وَثَنٌ، ولا يُعْبَدَ غيره

_ ينظر «المغني» (2/ 660) ، و «التقريب» (2/ 251) . حديث أبي بكرة: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 30) وقال: رواه الطبراني في «الكبير والأوسط» وفيه عبد الله بن عيسى الخزاز وهو ضعيف لا يحتج به اه، وذكره الذهبي في «المغني» (1/ 350) وقال: عبد الله بن عيسى أبو خلف الخزاز، عن يونس بن عبيد ضعفوه. حديث أبي مالك الأشجعي: أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 382) رقم: (8191) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (1/ 30) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله موثقون. حديث عياض الأنصاري: أخرجه البزار (1/ 10- كشف) رقم: (4) من طريق عبد الرحمن القرشي عن عياض مرفوعا: بلفظ: إن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة، لها عند الله مكان، وهي كلمة من قالها صادقا أدخله الله بها الجنة، ومن قالها كاذبا حقنت دمه وأحرزت ماله ولقي الله غدا فحاسبه. قال البزار: ولا نعلم أسند عياض إلا هذا. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 31) وقال: رواه البزار، ورجاله موثقون إن كان تابعه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. حديث النعمان بن بشير: أخرجه البزار (1/ 15- كشف) رقم: (15) من طريق أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، عن سماك، عن النعمان بن بشير به. وقال البزار: وهذا أخطأ فيه أسود. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 31) : رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. حديث سمرة بن جندب: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 30) وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه مبارك بن فضالة واختلف في الاحتجاج به. حديث معاذ بن جبل: أخرجه ابن ماجه (1/ 28) : المقدمة: باب في الإيمان، حديث (72) ، والدارقطني (1/ 233) كتاب «الصلاة» : باب تحريم دمائهم وأموالهم ... من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ به. قال الحافظ البوصيري في «الزوائد» (1/ 56) هذا إسناد حسن. اه. وفيه شهر بن حوشب وقد اختلف في الاحتجاج به. حديث أوس بن أوس: أخرجه الدارمي (2/ 218) كتاب «السير» باب: في القتال على قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وابن ماجه (3929) ، وأحمد (4/ 8) ، وعزاه السيوطي في «الأزهار المتناثرة» ص: (20) رقم: (4) إلى ابن أبي شيبة. حديث الرجل من بلقين: أخرجه أبو يعلى (13/ 131- 132) ، والبيهقي (6/ 336) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 53- 54) ، وقال: رواه أبو يعلى وإسناده صحيح. وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (2/ 185) رقم: (2010) ، وعزاه إلى أحمد بن منيع، وذكره برقم: (2011) ، وعزاه إلى أبي يعلى. حديث ابن عباس: ذكره الهيثمي في «المجمع» (1/ 30) ، وقال: رواه الطبراني، ورجاله موثقون إلا أن فيه إسحاق بن يزيد الخطابي، ولم أعرفه. وهذا الحديث قد صرح الحافظ السيوطي بتواتره فأورده في «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» ص: (19- 20) رقم: (4) وعزاه إلى الشيخين عن ابن عمر وأبي هريرة ومسلم عن جابر وابن أبي شيبة في «المصنف» عن أبي بكر الصديق، وعمر وأوس وجرير

[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 إلى 44]

سبحانه، ثم قال تعالَى: فَإِنِ انْتَهَوْا، عن الكفر، فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ بِعَمَلِهم، مُجَازٍ عليه، عنده ثوابه، وجميلُ المقارضة عليه. وقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ: معادلٌ لقوله: فَإِنِ انْتَهَوْا، المعنى: وإِن تولَّوا، ولم ينتهوا، فاعلموا أن اللَّه تعالَى ينصُرُكُمْ عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظّفر، والْمَوْلى هاهنا الموالى والمُعِينُ، والمَوْلَى في اللغة على معانٍ، هذا هو الذي يليقُ بهذا الموضعِ منها، والمَوْلَىَ: الذي هو السيِّد المقترنُ بالعَبْدِ يعمّ المؤمنين والمشركين. [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 44] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) وقوله عزّ وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ... الآية: الغنيمةُ في اللغة: ما يناله الرجل بسعي ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصّيام في الشّتاء هي الغنيمة الباردة» «1» ،

_ البجلي، والطبراني، عن أنس وسمرة بن جندب وسهل بن سعد وابن عباس، وأبي بكرة، وأبي مالك الأشجعي، والبزار عن عياض الأنصاري والنعمان بن بشير. [.....] (1) أخرجه الترمذي (3/ 153) كتاب «الصوم» ، باب: ما جاء في الصوم في الشتاء، حديث (797) ، وأحمد (4/ 335) ، وابن أبي شيبة (3/ 100) ، وأبو الشيخ في «الأمثال» (223) ، والبيهقي (4/ 296- 297) كتاب «الصيام» ، باب ما ورد في صوم الشتاء، والقضاعي في «مسند الشهاب» (231) كلهم من طريق نمير بن عريب، عن عامر بن مسعود مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث مرسل، عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال البيهقي: هذا مرسل. قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» ص: (160) : قال أبو زرعة: عامر بن مسعود من التابعين. وقال الترمذي في «العلل الكبير» ص (127) رقم: (218) : سألت محمدا عن حديث أبي إسحاق، عن نمير بن عريب، عن عامر بن مسعود، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء» . فقال: هو حديث مرسل، وعامر بن مسعود لا صحبة له، ولا سماع من النبي صلّى الله عليه وسلّم اه.

وقوله: مِنْ شَيْءٍ: ظاهرة العمومُ، ومعناه الخصوصُ، فأَمَّا النَّاضُّ «1» والمتاعُ والأطفال والنساء وما لا يؤكل [لحمه] من الحيوان ويَصِحُّ تملُّكه، فالإِمام يأخذ خُمْسُهُ، ويَقْسِمُ الباقي في الجيش، وأما الأرضُ، فقال فيها مالكٌ: يقسمها الإِمام إِن رأى ذلك صوابا كما فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِخَيْبَرَ، أَوْ لاَ يَقْسِمُها، بل يتركها لنوائب المسلمينَ إن أداه اجتهاده إلى ذلك كما فعل عُمَرُ بنُ الخطَّاب رضي اللَّه عنه بِأَرْضِ مِصْرِ وبسَوَادِ الكَوفة، وأمَّا الرجالُ، ومَنْ شارف البُلُوغ من الصِّبْيان، فالإِمام عند مالك وجمهور العلماء، مُخَيَّرٌ فيهم علَى خمسة أوجه «2» :

_ وقال يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (3/ 127) : ليس لعامر صحبة. وقد جزم بعدم صحبته أيضا أبو داود، وابن حبان، والبغوي، وابن السكن. ينظر: «الإصابة» (3/ 489) بتحقيقنا اهـ. لكن لهذا الحديث شاهد من حديث أنس: أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 254) ، وابن عدي في «الكامل» (3/ 1210) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 416) رقم: (3943) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس مرفوعا. وقال الطبراني: لم يروه عن قتادة إلّا سعيد، تفرد به الوليد. وقال ابن عدي: لا يرويه عن قتادة غير سعيد، وعن سعيد غير الوليد. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 203) وقال: رواه الطبراني في «الصغير» ، وفيه سعيد بن بشير، وهو ثقة لكنه اختلط اه. وللحديث شاهد آخر من حديث جابر: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 1075) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 416) رقم: (3942) من طريق عبد الوهاب بن الضحاك: نا الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن ابن المنكدر، عن جابر مرفوعا. وعبد الوهاب بن الضحاك: قال الحافظ في «التقريب» (1/ 528) : متروك كذبه أبو حاتم. (1) النّاضّ: أهل الحجاز يسمّون الدّراهم والدّنانير: النّاضّ والنّضّ. قال أبو عبيد: إنّما يسمّونها ناضّا: إذا تحوّل عينا بعد أن كان متاعا لأنّه يقال: ما نضّ بيدي منه شيء، وخذ ما نضّ لك من دين، أي: تيسّر وهو يستنضّ حقّه من فلان، أي: يستنجزه، ويأخذ منه الشّيء بعد الشّيء. مأخوذ من نضاضة الماء وهي: بقيّته، وكذلك النّضيضة، وجمعها: نضائض. ذكره الأزهري. ينظر: «النظم» (1/ 154) . (2) الأسرى: إما أن يكونوا من الرجال العقلاء البالغين، أو يكونوا من النساء، والصبيان، ومن في حكمهم، فإذا كانوا من هؤلاء فالمشهور عند عامّة الفقهاء أنهم يصيرون أرقاء بنفس الأسر، ولا يجوز قتلهم اتفاقا، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتل النساء والصبيان في حديث متفق عليه. أما إذا كانوا من الرجال البالغين العقلاء، فالإمام مخير فيهم بين خصال بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وهي كما يأتي: «القتل» : ثبت عند فقهاء الأمصار أنه يجوز للإمام قتل المحارب الكافر بعد أسره، والاستيلاء عليه، وحكي عن الحسن البصري وعطاء، وسعيد بن جبير، والضحاك، وابن عمر كراهته. «المنّ» : ويكون بتخلية سبيل الأسرى من غير عوض، وقال به الشافعية والمالكية في المشهور عنهم والحنابلة، وذهب الحنفية إلى عدم جوازه.

منها: القتل، وهو مستَحْسَنٌ في أهْل الشجاعة والنِّكَاية. ومنها: الفداءُ، وهو مستحسنٌ في ذي المَنْصب الذي ليس بشُجَاع ولا يُخَاف منه رأْي ومَكِيدَة لانتفاع المسلمين بالمَال الذي يؤخَذُ منه. ومنها: المَنُّ، وهو مستحْسَنٌ فيمن يرجى أنْ يحنو على أَسْرَى المسلمين، ونحو ذلك من القرائن. ومنها: الاسترقاق. ومنها: ضَرْبُ الجزية، والتَّرْكُ، في الذِّمَّة. وأما الطعام، والغَنَمْ، ونَحْوَها ممَّا يؤكل، فهو مباحٌ في بلد العدو أكله، وما فَضَل منه كان في المَغْنَم. ومحلُّ استيعاب فُرُوعِ هذا الفَصْل كُتُب الفقه. وقوله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا، أي: من النصر والظهور الذي أنزله الله

_ «الفداء» : ذهب جمهور الفقهاء ومعهم أبو يوسف، ومحمد من علماء الحنفية إلى جواز الفداء بالأسرى، وجاء ذلك رواية عن أبي حنيفة، وجاءت عنه رواية أخرى بمنعه. وأمّا الفداء بالمال فالجمهور على جوازه، والمشهور من مذهب الحنفية عدم الجواز، وقد جاء في «السير الكبير» أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة إليه. «الاسترقاق» : اتفق الفقهاء على أن الأسير إذا كان مرتدا لا يجوز ضرب الرق عليه، فلا بد أن يسلم أو يقتل لأنه كفر بربه بعد ما هدي إلى الإسلام. واختلفوا في غيره من الأسرى، فذهب المالكية، والشافعية والحنابلة إلى جواز استرقاقهم لا فرق بين عربي منهم أو عجمي، وذهب الحنفية إلى عدم جواز استرقاق المشركين من العرب. وإذا قلنا: إن الإمام مخير في الأسرى، فليس معناه أن يجعل التصرف فيهم تبعا لعاطفته وميل هواه، وإنما معناه أن يتحرى فيهم ما تقتضيه مصلحة المسلمين ثم ينفذها، فإذا كان الأسير شديد الدهاء، كثير التأليب على المسلمين والكيد لهم، ولا يؤمن مكره، أو تكرر نقضه لعهدهم قتله الإمام كفاية لشره وقطعا لدابره. ويظهر ذلك للإمام من اطّلاع على أحواله أو علمه بأخباره، وإذا ظهر له أن الأسير مأمون الجانب، ويتألف بإطلاقه طائفة عظيمة على الإسلام، أو يتوسم أن تطلق عشيرته ما عندها من أسرى الحرب منّ عليه، وكذلك إذا كان الأسير من ذوي العلل والعاهات، أو الضعفاء والزمنى الذين لا يرجى منهم منفعة للمسلمين، أو كان للأسير قيمة، وترجح عند الإمام الحاجة إلى المال لمصالح المسلمين جعل نظير كل رقبة يطلقها مقدارا من المال يختلف بحسب مكانة الأسير في قومه، وإن رأى أن في استرقاقه عزة ومهابة للمسلمين اختار من بينهم من يضرب الرق عليه، وهكذا.

سبحانه يَوْمَ بَدْر، ويحتمل أن تكون الإِشارة إِلى قرآن/ نزَلَ يوْمَ بدر، أو في قصَّة يوم بَدْر، ويوم الفُرْقَان: معناه: يَوْمُ الفَرْقِ بين الحقِّ والباطل بإِعزاز الإِسلام وإِذلالِ الشرك، والجَمْعَانِ: يريد: جَمْعَ المسلمين وَجَمْعَ الكُفَّار، وهو يوم بَدْر، ولا خلاف في ذلك. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَعْضُدُ أَنَّ قوله: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا، يراد به النصْرُ والظَّفْر، أي: الآيات والعظائم مِنْ غلبة القليلِ للكثيرِ، وذلك بقدرة اللَّه عَزَّ وجَلَّ الذي هو عَلَى كلِّ شيء قدير. وقوله سبحانه: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، العُدْوَة: شفيرُ الوادِي، وحَرْفُهُ الذي يتعذَّرُ المَشْيُ فيه بمنزلة رَجَا البئْر لأنها عَدَتْ ما في الوادِي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادِيَ، أي: منعته ومنه قول الشاعر: [الوافر] عَدَتْنِي عَنْ زِيَارَتِكِ العَوَادِي ... وَحَالَتْ دُونَهَا حَرْبٌ زَبُون «1» وقرأ ابنُ كَثِير «2» ، وأبو عمرو: بِالْعُدْوَةِ- بِكَسْرِ العين-، وقوله: الدُّنْيا، والْقُصْوى، إِنَّما هو بالإِضافة إِلى المدينة، وبين المدينة ووادِي بَدْر موضعُ الوقعة مَرْحَلتان، والدُّنْيَا: من الدُّنُوِّ، والقصوى: منِ القُصُوِّ، وهو البُعْد، وَالرَّكْبُ، بإِجماعٍ من المفسِّرين: عِيرُ أبي سفيان، وقوله: أَسْفَلَ، في موضع خَفْض، تقديره: في مكان أَسْفَلَ كَذَا. قال سِيبَوَيْهِ: وكان الرَّكْبُ، ومُدَبِّر أمره أبو سفيانَ بْنُ حَرْب، قد نَكَبَ عن بدر حين نذر بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأخَذَ سيْفَ البَحْرِ، فهو أَسْفَلُ بالإِضافة إِلى أَعلى الوَادِي. وقوله سبحانه: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، المَقْصدُ من الآية: تَبْيينُ نعمة اللَّه سُبْحانه في شأنِ قِصَّة بَدْر، وتيسيره سُبْحانه ما يَسَّر من ذلك، والمَعنَى: لو تواعدتم، لاختلفتم في الميعادِ بَسَببِ العوارِضِ التي تَعْرضُ للناس، إِلاَّ مع تيسير اللَّه الذي تَممَّ ذلك، وهذا كما تقولُ لصاحبك في أمْر سَنَاهُ اللَّه تعالى دونَ تَعَبٍ كثير: لَوْ بَنَيْنَا عَلَى هَذَا، وسَعَيْنَا فِيهِ، لَمْ يَتِمَّ هَكَذَا، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، أي: لينفِّذَ ويُظْهِر أمراً قد قدَّره في الأزل مفعولاً لكم بشرط وجودكم في وَقْتِ وجودِكُمْ، وهذا كلُّه معلومٌ عنده عزَّ وجلّ

_ (1) ينظر «الدر المنثور» (3/ 421) . (2) ينظر: «السبعة» (306) ، و «الحجة» (4/ 128) ، و «حجة القراءات» ص: (310- 311) ، و «إعراب القراءات» (1/ 224) ، و «إتحاف» (2/ 79) ، و «معاني القراءات» (1/ 440) ، و «شرح الطيبة» (4/ 327) ، و «شرح شعلة» (406) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 47]

لم يتجدَّد له به علْمٌ، وقوله عزَّ وجلَّ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، قال الطبريُّ «1» : المَعنى: ليُقْتَلَ من قُتِلَ من كفَّار قريش وغيرهم ببيانٍ مِنَ اللَّه وإِعذارٍ بالرسالة، ويَحْيَا أيضاً ويعيشَ مَنْ عاش عن بيانٍ منْه أيضاً وإِعذار لا حجة لأحد عليه سبحانه. ت: قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» في قوله عزَّ وجلَّ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ... الآية: البيِّنة: ما بان به الحقُّ. انتهى. وقال ابنُ إِسْحَاق وغيره: معنى «لِيَهْلِكَ» ، أيْ: لِيَكْفُرَ، و «يَحْيَا» أي: ليؤمنَ فالحياةُ والهلاكُ على هذا التأويل: مستعارتان. وقوله سبحانه: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ/ قَلِيلًا ... الآية: وتظاهرتِ الرواياتُ أن هذه الآية نزلَتْ في رُؤْيَا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى فيها عَدَدَ الكُفَّار قليلاً، فأَخبر بذلك أصحابه، فقَوِيَتْ نفوسُهم، وحَرِصُوا على اللقاء قاله مجاهد وغيره، والظاهر أنه رآهم صلّى الله عليه وسلّم في نومه قليلاً قَدْرُهُم وبأْسُهم، ويحتمل أنه رآهم قليلاً عدَدُهم، فكان تأويلُ رؤياه انهزامهم، والفشل: الخور عن الأمر، ولَتَنازَعْتُمْ، أي: لتخالَفْتم في الأمر، يريد: في اللقاءِ والحرب. وسَلَّمَ: لفظ يعمُّ كلَّ متخوَّف. وقوله سبحانه: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ ... الآية، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإِجماع، وهي الرؤية التي كانَتْ حين التقوا، ووقعتِ العَيْنُ على العين، والمعنَى: أن اللَّه تعالَى لَمَا أراده من إِنفاذ قضاءه في نُصْرة الإِسلام وإِظهار دِينِهِ، قَلَّلَ كُلَّ طائفةٍ في عُيُونِ الأخرَى، فوقع الخَلَلُ في التخمينِ والحَزْرِ الذي يستعمله الناسُ في هذا لتَجْسُرَ كلُّ طائفة على الأخرَى، وتتسبَّب أسبابُ الحَرْب، والأمر المفعولُ المذكورُ في الآيتين هو القصَّة بأجمعها. وقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: تنبيهٌ علَى أن الحَوْلَ بأجمعه للَّه، وأنّ كلّ أمّر، فله وإليه. [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 258) .

وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا ... الآية: هذا أَمْرٌ من اللَّه سبحانه بما فيه داعيةُ النَّصْر، وسبَبُ العزِّ، وهي وصيَّة منه سبحانه بِحَسَبِ التقْييد الذي في آية الضَّعْفِ، والفِئَةُ الجماعة، أصلها: «فِئَوَة» ، وهي مِنْ: «فأَوْتُ» ، أي: جمعتُ، ثم أمر سبحانه بإِكثار ذكْره هناك إِذ هو عصمةُ المستنجد، وَوَزَرُ المستعين. قال قتادة: افترض اللَّه ذِكْرَهُ عند اشغل ما يكونُ عنْدَ الضرِّاب والسُّيوف. قال ع «1» : وهذا ذِكْرٌ خفيٌّ لأن رَفْعَ الصَّوْت في موطن القتَال رديءٌ مكروهٌ إِذا كان ألغاطاً، فأما إِن كان من الجميعِ عند الحَمْلة، فَحَسَنٌ فَاتٌّ في عَضُد العَدُوِّ قال قيسُ بْنُ عُبَادٍ «2» : كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يكرهُونَ الصَّوْت عند ثلاثٍ عند قراءة القُرآن، وعند الجنازة، وعند القتال «3» ، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اطلبوا إِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ القِتَالِ، وإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، ونُزُولِ الغَيْثِ» «4» وكان ابن عباس يُكْرَه التلثُّم عنْدَ القتالِ «5» . قال النَّوويُّ: وسُئِلَ الشيخُ أبو عَمْرِو بْنُ الصَّلاَحِ «6» ، عن القَدْرِ الذي يصيرُ به المرء

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 536) . (2) قيس بن عباد، القيسي الضّبعي أبو عبد الله البصري مخضرم، عن عمر وعلي وعمّار، وعنه ابنه عبد الله والحسن البصري، وابن سيرين مات بعد الثمانين. ينظر ترجمته في: «الخلاصة» (2/ 357) (5886) . (3) ذكره ابن عطية (2/ 536) . (4) ذكره الهندي في «كنز العمال» (2/ 102) رقم: (3339) ، وعزاه للشافعي، والبيهقي في «المعرفة» عن مكحول مرسلا. (5) ذكره ابن عطية (2/ 535) . (6) عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر، الإمام العلامة مفتي الإسلام، تقي الدين، أبو عمرو بن الإمام البارع صلاح الدين أبي القاسم، النصري- بالنون والصاد المهملة، نسبة إلى جده أبي نصر- الكردي، الشهرزوري الأصل، الموصلي المربا، الدمشقي الدار والوفاة، ولد سنة سبع وسبعين- بتقديم السين فيهما- وخمسمائة بشهرزور، وتفقه على والده، ثم نقله إلى الموصل فاشتغل بها مدة وبرع في المذهب. ينظر ترجمته في «الأعلام» (4/ 369) و «طبقات الشافعية» للسبكي (5/ 137) و «وفيات الأعيان» (2/ 408) و «البداية والنهاية» (13/ 168) و «طبقات الشافعية» لابن هداية ص: (84) و «النجوم الزاهرة» (6/ 354) و «شذرات الذهب» (5/ 221) و «مفتاح السعادة» (1/ 397) ، (2/ 214) و «مرآة الزمان» (8/ 502) و «مرآة الجنان» (4/ 108) . [.....]

من الذَّاكرين اللَّهَ كثيراً، فقال: إِذا واظب على الأَذْكَارِ المأثورة المُثْبَتَةِ صباحاً ومساءً، وفي الأوقاتِ والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً- وهي مبيَّنةٌ في كتب «عمل اليوم والليلة» - كان من الذاكرين اللَّه كثيراً واللَّه سبحانه أعلم. انتهى من «الحلية» . ت: وأَحْسَنُ من هذا جوابُهُ صلّى الله عليه وسلّم حَيْثُ قَالَ: «سَبَقَ المُفْرِّدُون! قَالُوا: «وَمَا المُفَرِّدُونَ، يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ» ، رواه مسلمٌ/، والترمذيُّ، وعنده: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: المُسْتَهْتِرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ يَضَعُ عَنْهُمُ الذِّكْرُ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يوم القيامة خفافا» «1» ، قال صاحب «سلاح المؤمن» : المستَهْتِرُونَ في ذكْر اللَّهِ، - هو بفتح التاءَيْنِ المثنّاتين- يعني: الذين أُولِعُوا به يقال: استهتر فُلانٌ بكَذَا، أي: أَولِعَ به، واللَّه أعلم. انتهى. فقَد بيَّن صلّى الله عليه وسلّم هنا صفةَ الذاكرين اللَّه كثيراً، وقد نقلنا في غير هذا المَحَلِّ بيانَ صفةَ الذاكرين اللَّه كثيراً، بنحو هذا مِنْ طريق ابن المبارك، وإِذا كان العبد مُسْتَهْتِراً بِذِكْرِ مولاه، أَنِسَ به، وأَحبَّه، وأحبَّ لقاءه فلم يبال بلقاءِ العَدُوِّ، وإِن هي إِلا إِحدى الحسنيين: إِما النصْرُ وهو الأغلب لمن هذه صفته، أو الشهادة وذلك مناه، ومطلبه. انتهى. وتُفْلِحُونَ: تنالون بغيتكم، وتنالون آمالكم، والجمهور علَى أن الرِّيحَ هنا مستعارةٌ. قال مجاهد: الرِّيح: النصْرُ والقوة، وذهب ريح أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم حينَ نازعُوه يَوْمَ أحد «2» ، وقوله سبحانه: وَاصْبِرُوا ... إلى آخر الآية: تتميمٌ في الوصية وِعدَةٌ مُؤْنِسَة، وقوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ... الآية: الإشارة إِلى كفار قريش، والبَطَر: الأَشَر وغَمْطُ النِّعْمة، ورُوِيَ أن أبا سفيان، لمَّا أحرز عِيَره، بعث إِلى قريش، وقال: إِن اللَّه قد سَلَّم عِيركُمْ، فارجعوا، فأتَى رأْي الجماعةِ علَى ذلك، وخالَفَ أبو جَهْل، وقال: واللَّهِ، لاَ نَفْعَلُ حَتَّى نَأْتيَ بَدْراً- وكانَتْ بَدْرٌ سُوقاً من أسواقِ العَرَبِ لها يومُ موسمٍ- فننحَرُ عليها الإِبلَ، ونَشْرَب الخمر، وتَعْزِفُ علينا القِيَانُ، وتسمع بنا العربُ، ويَهَابُنا النَّاسُ، فهذا معنى قوله تعالى: وَرِئاءَ النَّاسِ.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 361) برقم: (16178- 16179) بنحوه، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 536) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 343) ، وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة الأنفال (8) : آية 48]

[سورة الأنفال (8) : آية 48] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) وقوله سبحانه: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، الضمير في لَهُمُ عائد على الكفّار، والشَّيْطانُ: إبليس نفْسُه، والذي عليه الجمهورُ، وتظاهرَتْ به الرواياتُ أن إبْلِيسَ جاء كُفَّار قريشٍ، ففي «السِّيَر» لابن هشامٍ: أنه جاءهم بمكَّة، وفي غيرها: أنَّه جاءهم، وهُمْ في طريقهم إِلى بَدْرٍ، وقد لحقهم خَوْفٌ من بني بَكْر وكِنَانَةَ لحروبٍ كانَتْ بينهم، فجاءهم إِبليس في صورة سُرَاقَةَ بْنِ مالِكِ بْنِ جُعْشُم، وهو سيِّد مِنْ ساداتهم، فقال لهم: إِنِّي جارٌ لَكُمْ، ولن تخافوا من قومي، وهم لكُمْ أعوانٌ على مَقْصِدِكم، ولَنْ يغلبكم أحدٌ، فروي أنه لما التقى الجمعانِ، كانَتُ يده في يدِ الحَارِثِ بن هشام، فلما رأَى الملائكَةَ، نَكَصَ، فقال له الحارثُ: أَتَفِرُّ يا سُرَاقَةُ؟! فلم يَلْو عَليه، ويروى أَنه قال له ما تضمَّنته الآيةُ، وروي أن عُمَيْرَ بْنَ وهبٍ، أو الحارثِ بْنَ هشامٍ قال له: أَيْنَ يا سُرَاقُ؟ فلم يَلْوِ مِثْلَ عَدُوِّ اللَّه، فذهبَ، ووقعتِ/ الهزيمة، فتحدَّثوا أنَّ سُرَاقَةَ فَرَّ بالنَّاسِ، فبلغ ذلك سُرَاقَةَ بْنَ مالك، فأتى مكَّة، فقال لهم: واللَّه، ما عَلِمْتُ بشيء منْ أمركم حتى بَلَغَتْني هزيمَتُكُمْ، ولا رأْيْتُكُم، ولا كُنْتُ معكم. ت: قال ابنُ إسحاق: ذكر لي أنهم كانوا يرونه في كلِّ مَنْزِلٍ في صُورَة سُرَاقَة لا يُنْكِرُونه حتَّى إِذا كان يَوْمُ بَدْر، والتقى الجمعان، نكَصَ عدوُّ اللَّه على عَقِبَيْه، فأوردهم ثُمَّ أَسلمهم. انتهى من «السيرة» لابن هشام. وقوله: إِنِّي جارٌ لَكُمْ أي: أنتم في ذمَّتي وحِمَائي، و «تراءت» : تفاعلَتْ من الرؤية، أي: رأى هؤلاءِ هؤلاءِ. قوله: نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ، أي: رَجَعَ من حيث جاء، وأصْل النُّكُوص في اللغة: الرجوعُ القَهْقَرَى. وقوله: إِنِّي أَرى مَا لاَ تَرَوْنَ، يريد: الملائكةَ، وهو الخبيثُ، إِنما شرط أَنْ لاَ غَالِبَ لهم من الناس، فلما رأَى الملائكة، وخَرْقَ العادةِ، خَافَ وَفَرَّ. وقوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، قال الزَّجَّاج وغيره: خافَ ممَّا رأَى مِنَ الأمر، وهَوْلِهِ أنَّه يومُهُ الذي أُنْظِرَ إِليه ويقوِّي هذا أَنه رأَى خَرْقَ العادةِ، ونزولَ الملائكةِ للحَرْب.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 49 إلى 51]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 49 الى 51] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) وقوله سبحانه: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... الآية: قال المفسرون: إِن هؤلاء الموصوفين بالنِّفاق، إِنما هُمْ من أهْل عَسْكر الكُفَّار ممَّن كان الإِسلام دَاخِلَ قلوبهم، خَرَجُوا مع المُشْركين إِلَى بَدْرٍ، منهم مكرَهٌ وغيرُ مُكْرَهٍ، فلما أشرفوا على المسلمينَ، ورأَوْا قلَّتهم، ارتابوا، وقالُوا مشيرين إِلى المسلمين: غَرَّ هؤلاءِ دينُهُمْ. قال ع «1» : ولم يُذْكَرْ أحدٌ ممَّن شهد بدراً بنفاقٍ إِلا ما ظَهَرَ بعْدَ ذلك من مُعَتِّب ابن قُشَيْرٍ فإِنه القائل يَوْمَ أحُدٍ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: 154] وقد يحتمل أنْ يكون منافقو المدينة، لما وَصَلَهم خروجُ قريشٍ في قوَّة عظيمةٍ، قالوا هذه المقالةَ، ثم أخبر اللَّه سبحانه بأنَّ مَنْ توكَّل عليه، وفوَّض أمره إليه، فإِن عزَّته سبحانه وحِكْمته كفيلةٌ بنَصْره، وقوله سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ... الآية: هذه الآيةُ تتضمَّن التعجيبَ ممَّا حلَّ بالكُفَّار يوم بَدْر قاله مجاهدٌ وغيره، وفي ذلك وعيدٌ لمن بَقِيَ منهم، وقوله: وأَدْبارَهُمْ، قال جُلُّ المفسِّرين: يريد أَسْتَاهَهْم، ولكنَّ اللَّه كريمٌ كَنَّى «2» ، وقال ابن عبَّاس، والحسن: أراد ظهورَهُمْ وما أَدْبَرَ منهم «3» وباقي الآية بيِّن. [سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) وقوله سبحانه: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ... الآية: الدَّأْبُ: العادةُ في كلام العربِ، وهو مأخوذٌ من دَأَبَ عَلَى العمل، إِذا لازمه.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 539) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 267) برقم: (16215- 16216- 16217) برقم: (16218) عن سعيد بن جبير، وذكره ابن عطية (2/ 540) ، وعزاه إلى جمهور المفسرين، والبغوي في «تفسيره» (2/ 256) عن سعيد بن جبير ومجاهد برقم: (50) ، وابن كثير (2/ 319) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 346) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وأبي الشيخ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ذكره ابن عطية (2/ 540) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 إلى 59]

وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... الآية: معنى هذه الآية إِخبارٌ من اللَّه سبحانه، إِذا أنعم على قومٍ نعمةً، فإِنه بلُطْفه ورحمته لا يبدأُ بتغييرها وتنْكِيدها، حتى يجيءَ ذلك منْهم بأنْ يغيِّروا حالهم الَّتي تُرَادُ، أو تَحْسُنُ منهم، فإِذا فعلوا ذلك، غيَّر اللَّه نعمته عنْدَهم بِنِقْمته منْهم، ومثالُ هذه نِعْمَةُ اللَّه عَلَى قُرَيْشٍ بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فكَفَروا به، فغيَّر اللَّه تلك النعمة، بأنْ نقلها إِلى غيرهم من الأنصار، وأَحَلَّ بهم عقوبَتَهُ. وقوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ/ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، هذا التكريرُ هو لمعنًى ليس للأول إذ الأول دَأْبٌ في أنْ هَلَكُوا لما كَفَرُوا، وهذا الثَّاني دأْبٌ في أَنَّهُ لم يغيِّرْ نعمتهم حتَّى غيروا ما بأنْفُسِهِم، والإِشارة بقوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إِلى قومِ شعيبٍ وصالحٍ وهود ونوح وغيرهم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وقوله سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ، أجمع المتأوِّلون أن الآية نزلَتْ في بني قُرَيْظَةَ، وهي بَعْدُ تَعُمُّ كلَّ مَنِ اتصف بهذه الصفة إِلى يوم القيامة، وقوله: فِي كُلِّ مَرَّةٍ: يقتضي أن الغَدْرَ قد تكرَّر منهم. وحديثُ قُرَيْظَةَ هو أنهم عاهدوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ألاَّ يحاربوه، ولا يعينوا عَلَيْه عدوًّا من غيرهم، فلمَّا اجتمعت الأحزاب على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينةِ، غَلَبَ على ظنِّ بني قريظة أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مغلوبٌ ومستأصَلٌ، وخَدَعَ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ النَّضْرِيُّ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ القُرَظِيَّ صاحبَ عَقْد بني قريظة، وعهْدِهِم، فغدروا ووالوْا قريشاً، وأمدُّوهم بالسِّلاح والأَدْرَاعِ، فلما انجلت تلك الحالُ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أمره اللَّه تعالَى بالخروج إِليهم وحَرْبِهم، فاستنزلوا، وضُرِبَتْ أعناقهم بحُكْم سَعْدٍ، واستيعاب قصَّتهم في «السِّير» وإِنما اقتضبت منها ما يخُصُّ تفسير الآية. وقوله سبحانه: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ... الآية: معنى تَثْقَفَنَّهُمْ تأسرهم، وتحصِّلهم في ثِقَافِكَ، أو تَلْقَاهم بحالٍ تقدرُ عليهم فيها، وتغلبهم، ومعنى: فَشَرِّدْ أي:

[سورة الأنفال (8) : آية 60]

طَرِّدْ، وأبْعِدْ، وخَوِّف. والشريدُ: المبعد عن وطَنٍ ونحوه، ومعنى الآية: فإِن أَسَرْتَ هؤلاءِ الناقضين في حربك لهم، فافعل بهم من النقمة ما يكُونُ تشريداً لمن يأتي خلْفَهم في مثْلِ طريقتهم، وعبارةُ البخاريِّ: «فَشَرَّدْ» فَرَّقَ. انتهى. والضمير في لَعَلَّهُمْ عائدٌ على الفرقة المشرَّدة، وقال ابن عباس: المعنى: نكِّل بهم مَنْ خلفهم «1» . وقالَتْ فرقة: معناه: سَمِّعْ بهم، والمعنَى متقارب، ومعنى: خَلْفَهُمْ أي: بعدهم، ويَذَّكَّرُونَ، أيْ: يتعظون. وقوله سبحانه: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ... الآية: قال أكثر المفسِّرين: إِن الآية في بني قُرَيْظة، والذي يظهر من ألفاظ الآية أنَّ أَمْرَ بني قريظة قد انقضى عند قوله: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، ثم ابتدأ تبارَكَ وتعالَى في هذه الآية بما يَصْنَعُهُ في المستقبل، مع مَنْ يخافُ منه خيانةً إِلى آخر الدهر، وبَنُو قريظة لم يَكُونوا في حَدِّ مَنْ تُخَافُ خيانته، وقوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ، أي: أَلْقِ إِليهم عَهْدهم، وقوله: عَلى سَواءٍ، قيل: معناه: حتى يكونَ الأمْرُ في بيانِهِ والْعِلْمِ به، على سواءٍ منْكَ ومنهم فتكُونُونَ في استشعار الحَرْب سواءً، وذَكَرَ الفَرَّاء أن المعنَى: فانبذ إليهم على اعتدال وسواءٍ من الأمر، أي: بَيِّنْ لهم على قَدْر ما ظهر منهم، لا تُفَرِّطْ، ولا تَفْجَأْ بحربٍ، بل افعل بهم مِثْلَ ما فعلوا بك، يعني: موازنةً ومقايسةً، وقرأ نافع وغيره: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ» - بالتاء- مخاطبةً للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وسَبَقُوا: معناه: فَاتُوا بأنفسهم وأنْجَوْهَا، إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ أي: لا يُفْلِتُونَ، ولا يُعْجِزُونَ طالبهم، ورُوِيَ أن الآية نزلَتْ فيمن أَفْلَتَ من الكفَّار في بَدْرٍ وغيره فالمعنى: لا تظنَّهم نَاجِينَ، بل هم مُدْرَكُون، وقرأ حمزة وغيره: «ولا يحسبنّ» - بالياء من تحت، وبفتح السين «2» . [سورة الأنفال (8) : آية 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 271) برقم: (16227- 16228) ، وذكره ابن عطية (2/ 542) ، والبغوي (2/ 257) بنحوه، وابن كثير (2/ 320) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 347) . (2) وقرأ بها ابن عامر وحفص عن عاصم. ينظر: «السبعة» ص: (307) ، «الحجة» (4/ 154- 155) ، «حجة القراءات» (312) ، «إعراب القراءات» (1/ 230) ، و «إتحاف» (2/ 81- 82) ، و «معاني القراءات» (1/ 441) ، و «شرح الطيبة» (4/ 329) ، و «العنوان» (101) .

وقوله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا/ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... الآية: المخاطبةُ في هذه الآية لجميع المؤمنين، وفي «صحيحِ مُسْلِمْ» : «أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» «1» ولما كانت الخيلُ هي أصْل الحرب، وأَوزَارَهَا، والتي عُقِدَ الخيرُ في نواصيها «2» ، خَصَّها اللَّه تعالى بالذكْرِ، تشريفاً لها، ولما كانت السهامُ من أنجع ما يتعاطى

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1522) كتاب «الإمارة» ، باب: فضل الرمي والحث عليه، حديث (167/ 1917) ، وأبو داود (2/ 17) كتاب «الجهاد» باب: في الرمي، حديث (2514) ، وابن ماجه (2/ 940) ، كتاب «الجهاد» ، باب: الرمي في سبيل الله، حديث (2813) ، وأحمد (4/ 157) ، وأبو يعلى (3/ 283) رقم: (1743) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 44) رقم: (4299) ، كلهم من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي علي ثمامة بن شفي، عن عقبة بن عامر به. وأخرجه الدارمي (2/ 204) ، كتاب «الجهاد» ، باب: في فضل الرمي والأمر به، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 44) رقم: (4298) ، كلاهما من طريق سعيد بن أبي أيوب: ثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله، عن عقبة به. وأخرجه الترمذي (5/ 270- 271) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة الأنفال» ، حديث (3083) من طريق صالح بن كيسان، عن رجل لم يسمه، عن عقبة بن عامر. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 348) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم القراب في كتاب «فضل الرمي» . (2) ورد عن جماعة من الصحابة: منهم: عروة البارقي، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجرير بن عبد الله، وأبو كبشة، وابن مسعود، وجابر: أما حديث عروة البارقي، فأخرجه البخاري (6/ 64) في «الجهاد والسير» باب الخير معقود في نواصيها الخيل (2850) ، و (6/ 66) باب: الجهاد ماض مع البر والفاجر (2852) و (6/ 253) في فرض الخمس (3119) ، (6/ 731) في المناقب (3643) ، ومسلم (3/ 1493) في «الإمارة» باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (98، 99، 873) ، والنسائي (6/ 222) في «الجهاد» باب: فتل ناصية الفرس، وابن ماجه (2/ 923) في «الجهاد» باب: ارتباط الخيل في سبيل الله (2786) ، وأحمد (4/ 375- 376) ، وأبو يعلى (6828) ، والحميدي في «مسنده» (2/ 272- 273) برقم: (841- 842) ، والدارمي (2/ 211- 212) في «الجهاد» باب: فضل الخيل في سبيل الله، وسعيد بن منصور في «سننه» (2/ 198) في «الجهاد» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (2426) ، والطيالسي في «الجهاد» (1/ 241) برقم: (1184- 1185) والطبراني (17/ 155) برقم (396- 400) ، والبيهقي (6/ 112) في «القراض» : باب المضارب يخالف بما فيه زيادة لصاحبه، و (6/ 329) في قسم «الفيء» باب: الإسهام للفرس دون غيره من الدواب، و (9/ 52) في «السير» باب: تفضيل الخيل و (10/ 15) في كتاب «السبق والرمي» باب: ارتباط الخيل عدة في سبيل الله عز وجل، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 274- 275) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 127) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (5/ 530) في «السير والجهاد» باب: اتخاذ الخيل للجهاد (2639) من طرق عنه به. وأما حديث ابن عمر، فأخرجه البخاري (6/ 64) في «الجهاد والسير» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (2849) ، و (6/ 731) في «المناقب» (3644) ومسلم (3/ 1492- 1493) في

في الحرب وأَنْكَاه في العدو وأَقْربه تناولاً للأرواح، خصّها صلّى الله عليه وسلّم بالذكر والتنبيه عليها.

_ «الإمارة» باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (96/ 1871) ، والنسائي (6/ 221- 222) في الخيل: باب فتل ناصية الفرس، وابن ماجه (2/ 923) ، في «الجهاد» باب: ارتباط الخيل في سبيل الله (2787) ، ومالك (2/ 467) في «الجهاد» باب: ما جاء في الخيل والمسابقة (44) ، وأحمد (1/ 101) و (2/ 49، 57) ، والطيالسي في «الجهاد» (1/ 242) برقم: (1186) ، والطحاوي (3/ 273- 274) ، وأبو يعلى (2642) ، والبيهقي (6/ 329) في «الفيء» باب: الإسهام للفرس دون غيره من الدواب، والخطيب في «التاريخ» (12/ 394) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (5/ 530) برقم: (2638) من طريق نافع عن ابن عمر رفعه بنحوه. وأما حديث أنس، فأخرجه البخاري (6/ 64) في «الجهاد» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (2851) ، (6/ 731) في «المناقب» (3645) ، ومسلم (3/ 1494) في «الإمارة» باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (100/ 1874) ، والنسائي (6/ 221) في «الخيل» باب: بركة الخيل، وأحمد (3/ 127، 771) ، وسعيد بن منصور (2/ 199) في «الجهاد» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (2427) ، وأبو يعلى في «مسنده» (4173، 4177) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 529) برقم: (2637) بتحقيقنا من طريق شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البركة في نواصي الخيل» . وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه مسلم (2/ 682) في «الزكاة» ، باب: إثم مانع الزكاة (24- 987) ، والترمذي في «الجهاد» باب: ماء جاء في فضل من ارتبط فرسا في سبيل الله (1636) ، وابن ماجه (2/ 923) في «الجهاد» باب: ارتباط الخيل في سبيل الله (2788) ، وأحمد (2/ 101، 262، 383) ، وابن خزيمة (4/ 10، 31) (2252، 2253، 2291) ، وأبو يعلى (2640- 2641) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 261) ، والخطيب في «التاريخ» (5/ 196) ، والبيهقي (4/ 81) في الزكاة، باب ما ورد في الوعيد فيمن كنز مال زكاة ولم يؤد زكاته، من طرق عن أبي هريرة. وأما حديث جرير، فأخرجه مسلم (3/ 1493) في «الإمارة» باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (97/ 1972) ، والنسائي (6/ 221) في الخيل، باب: فتل ناصية الفرس، وأحمد (4/ 361) ، والطحاوي (3/ 274) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (5/ 530) برقم: (2640) من طريق يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن جرير بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلوي ناصية فرس بإصبعه وهو يقول: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة» . وأما حديث أبي كبشة، فأخرجه الطبراني (22/ 339) برقم: (849) ، وابن حبان (1635) - موارد، والطحاوي (2/ 274) ، والحاكم (2/ 91) من طريق ابن وهب: حدثني معاوية بن صالح، حدثني نعيم بن زيادة، أنه سمع أبا كبشة صاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم: يقول: الخيل معقود في نواصيها الخير، وأهلها معانون عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه الزيادة، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في «المجمع» (5/ 262) رجاله ثقات. وأما حديث ابن مسعود فهو عند أبي يعلى (5396) ، قال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن علي حدثني يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود قال: جاءه

ت: وفي «صحيح مسلم» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ، وَتَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَو قَدْ عَصَى» «1» ، وفي «سنن أبي داودَ، والترمذيِّ، والنسائيِّ» ، عن عُقْبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخلُ بالسَّهْم الوَاحِدِ ثَلاَثَةَ أَنُفُسٍ الجَنَّة صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ، فارموا واركبوا، وأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَن تَرْكَبُوا، كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ، بَاطِلٌ إِلاَّ رَمْيَهَ بَقْوسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتَهُ امرأته» «2» . انتهى. ورباطُ الخيل: مصدَرٌ مِنْ رَبَط، ولا يكثُرُ رَبْطُها إِلاَّ وهي كثيرة، ويجوز أن يكون

_ رجل فقال: أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في الخيل شيئا؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الخيل معقود ... » فذكره مطولا. وذكره الهيثمي في «المجمع» (5/ 280) وقال: رواه أبو يعلى. وفيه بقية بن الوليد، وهو مدلس. وبقية رجاله ثقات. وأما حديث جابر، فأخرجه أحمد (3/ 352) من طريق إبراهيم بن إسحاق، وعلي بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك، عن عتبة بن أبي حكيم، حدثني حصين بن حرملة، عن أبي مصبح، عن جابر به. وأخرجه أبو يعلى في «معجم شيوخه» (195) من طريق يحيى بن سعيد الأموي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/ 2557) من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا علي بن ثابت عن الوازع، عن أبي سلمة، عن جابر. وذكره الهيثمي في «المجمع» (5/ 261) وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط» باختصار، ورجال أحمد ثقات. وقال الحافظ في «الفتح» (6/ 67) : روى حديث «الخيل معقود في نواصيها الخير» جمع من الصحابة غير من تقدم ذكره، وهم: ابن عمر، وعروة، وأنس، وجرير، وممن لم يتقدم سلمة بن نفيل (6/ 214) ، وأبو هريرة عند النسائي، وعتبة بن عبد عند أبي داود (2542) ، وجابر، وأسماء بنت يزيد (6/ 455) ، وأبو ذر (5/ 181) عند أحمد، وابن مسعود عند أبي يعلى، وأبو كبشة عند أبي عوانة، وابن حبان في «صحيحيهما» ، وحذيفة عند البزار، وأبو أمامة، وعريب: - (وهو بفتح المهملة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة) - المليكي، والنعمان بين بشير وسهل بن الحنظلية عند الطبراني. وعن علي، عند ابن أبي عاصم في «الجهاد» ... (1) أخرجه مسلم (3/ 1522- 1523) كتاب «الإمارة» باب: فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه، حديث (169/ 1919) ، وابن ماجه (2/ 940- 941) كتاب «الجهاد» باب: الرمي في سبيل الله، حديث (2814) من حديث عقبة بن عامر. (2) أخرجه أبو داود (2/ 16- 17) كتاب «الجهاد» باب: في الرمي، حديث (2513) ، والترمذي (4/ 174) كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، حديث (1637) ، والنسائي (6/ 222- 223) كتاب «الخيل» باب: تأديب الرجل فرسه، حديث (357) ، والحاكم (2/ 95) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 44- 45) رقم: (4301) من حديث عقبة بن عامر.

مصدراً من رَابَطَ، وإِذا رَبَطَ كلُّ واحد من المؤمنين فرساً لأجل صاحبه، فقد حَصَلَ بينهم رباطٌ، وذلك الذي حضَّ عليه في الآية، وقد قال عليه السلام: «مَنْ ارتبط فَرَساً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ كَالبَاسِطِ يَدَهُ بِالصَّدَقَةِ لاَ يَقْبِضُهَا» «1» ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ. ت: وقد ذكرنا بعْضَ ما وردَ في فَضْلِ الرباط في آخر «آل عمران» قال صاحبُ «التذكرة» «2» : وعن عثمانَ بْنِ عَفَّانَ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهِا» «3» ، وعن أبي بن كعب، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان- أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وَقِيَامِهَا، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ المُسْلِمينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان- أَفْضَلُ عند الله وأعظم أجرا- أراه قال: من عِبَادَةِ أَلْفِيْ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا- فَإِنْ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِهِ سالِماً، لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ أَلْفَ سَنَةٍ، ويُكْتَبُ لَهُ مِنَ الحَسَنَاتِ، وَيَجْرِي لَهُ أَجْرُ الرِّبَاطِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» «4» ، قال القرطبيُّ» في «تذكرته» : فدلَّ هذا الحديثُ على أن رباط يومٍ في رمضانَ يحصِّل له هذا الثوابَ الدائمَ، وإِنْ لم يَمُتْ مرابطاً. خرَّج هذا الحديث، والذي قبله ابنُ ماجه. انتهى من «التذكرة» . وتُرْهِبُونَ: معناه: تخوّفون وتفزّعون، والرهبة: الخوف: وقوله:

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 196) وعزاه لابن سعد. [.....] (2) ينظر: «التذكرة» (1/ 209) . (3) أخرجه ابن ماجه (2/ 924) كتاب «الجهاد» باب: فضل الرباط في سبيل الله، حديث (2766) من طريق عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلَمُ، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، عن عثمان بن عفان به. وقال البوصيري في «الزوائد» (2/ 390) : هذا إسناد ضعيف عبد الرحمن بن زيد ضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والنسائي. وقال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه. قال المنذري في «الترغيب» (2/ 203) : وآثار الوضع ظاهرة عليه اه. وقال البوصيري في «الزوائد» (2/ 392- 393) : هذا إسناد ضعيف، لضعف محمد بن يعلى وشيخه عمر بن صبيح، ومكحول لم يدرك أبي بن كعب، ومع ذلك فهو مدلس. (4) أخرجه ابن ماجه (2/ 924- 925) كتاب «الجهاد» باب: فضل الرباط في سبيل الله، حديث (2768) من طريق محمد بن يعلى السلمي، ثنا عمر بن صبيح، عن عبد الرحمن بن عمرو، عن مكحول، عن أبي بن كعب مرفوعا. (5) ينظر: «التذكرة» (1/ 209) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 إلى 63]

وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ، فيه أقوال: قيل: هم المنافِقُونَ، وقيل: فَارس، وقيل: غير هذا. قال ع «1» : ويحسُنُ أن يقدَّر قوله: لاَ تَعْلَمُونَهُمُ، بمعنى: لا تَعْلَمُونهم فَازِعِينَ رَاهِبينَ. وقال ص: لا تعلمُونَهُمْ بمعنى: لا تَعْرِفُونهم، فيتعدَّى لواحدٍ، ومَنْ عدَّاه إِلى اثنين، قدَّره: محاربين، واستُبْعِدَ لعدم تقدُّم ذكره، فهو ممنوعٌ عند بعضهم، وعزيز جدّا عند بعضهم انتهى. [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) وقوله سبحانه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها جَنَحَ الرَّجُلُ إِلى الأمْرِ إِذا مال إِليه، وعاد الضميرُ في «لها» مؤنَّثاً إِذ «السَّلْم» بمعنى المسالمة والهُدْنَة، وذهب جماعةٌ من المفسِّرين إِلى أَن هذه الآية منسوخةٌ، والضمير في «جَنَحُوا» هو للذين نُبِذَ إِليهم على سواءٍ. وقوله سبحانه: وَإِنْ يُرِيدُوا/ أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ... الآية: الضمير في قوله: «وإِن يريدوا» عائدٌ على الكفَّار الذين قال فيهم: وَإِنْ جَنَحُوا، أي: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ، بأنْ يُظْهِروا السَّلْم، ويُبْطِنُوا الغَدْر والخيانة، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، أي: كافيك ومعطيك نصره، وأَيَّدَكَ: معناه: قوَّاك وَبِالْمُؤْمِنِينَ، يريد الأنصارَ، بذلك تظاهَرَتْ أقوالُ المفسَّرين. وقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ... الآية: إشارة إلى العداوة التي كانَتْ بين الأوْسِ والخَزْرَجِ. قال ع «2» : ولو ذَهَبَ ذاهبٌ إِلى عمومِ المؤمنين في المهاجرين والأنصارِ، وجعل التأليف ما كَانَ بيْنَ جميعهم من التحابِّ، لساغ ذلك، وقال ابنُ مَسْعُود: نزلَتْ هذه الآية في المتحابِّين في الله «3» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 547) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 548) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 281) برقم: (16275) ، وابن كثير (2/ 323) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 361) ، وزاد نسبته إلى ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب «الإخوان» ، والنسائي، والبزار، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم، وصححه.

وقال مجاهد: إِذا تَرَاءَى المتحابَّانِ في اللَّه، وتصَافَحَا، تَحَاتَّتْ خطاياهما، فقال له عَبْدَةُ بنُ أبي لُبَابَةَ «1» : إِن هذا لَيَسِيرٌ، فقال له: لا تَقُلْ ذلك، فإِن اللَّه تعالَى يَقُولُ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، قال عَبْدَةُ: فعرفْتُ أنه أفْقَهُ مني «2» . قال ع «3» : وهذا كلُّه تمثيلٌ حَسَنٌ بالآية، لا أنَّ الآية نزلَتْ في ذلك، وقد رَوَى سهْلُ بن سعد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «المؤمن مَألَفَةٌ لاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤلَفُ» «4» . قال ع «5» : والتشابه سَبَبُ الأُلْفَة، فمَنْ كان من أهْل الخَيْر، أَلِفَ أشباهَهُ وأَلِفُوهُ. ت: وفي «صحيح البخاريِّ» : «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تَعَارَفَ مِنْهَا ائتلف، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اختلف» «6» . انتهى، وروى مالكٌ في «الموطإ» ، عن أبي هريرة قال: قَالَ

_ (1) عبدة بن أبي لبابة الأسدي الغاضري بمعجمتين مولاهم أبو القاسم البزّاز الكوفي الفقيه نزيل دمشق. عن عمر في مسلم مرسلا وابن عمر وعبد الله بن عمرو وجماعة، وعنه حبيب بن أبي ثابت والأعمش وابن جريج والسفيانان، وثقه أبو حاتم. قال الأوزاعي: لم يقدم علينا أفضل منه. قال ابن عيينة: جالسته سنة ثلاث وعشرين ومائة. ينظر: «الخلاصة» (2/ 189) ، «طبقات خليفة» (160) ، «التاريخ الكبير» (6/ 114) ، و «تهذيب التهذيب» (6/ 461) . (2) أخرجه الطبري (6/ 280) برقم: (16274) ، وذكره ابن عطية (2/ 548) ، وابن كثير (2/ 323) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 548) . (4) أخرجه أحمد (5/ 335) ، والطبراني في «الكبير» (6/ 131) رقم: (5744) ، والخطيب (11/ 376) من طريق مصعب بن ثابت، عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي به. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 90) وقال: رواه أحمد والطبراني، وفيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات اه. وذكره أيضا في (10/ 276) وقال: وإسناده جيد. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 549) . (6) أخرجه مسلم (4/ 2031) في البر والصلة، باب: الأرواح جنود مجنّدة، (159/ 2638) ، وأحمد (2/ 295، 527) ، والخطيب في «التاريخ» (3/ 329) (4/ 352) من طريق سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به. وكذا أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (908) . وأخرجه أبو داود (2/ 675) في «الأدب» باب: من يؤمر أن يجالس (4834) ، وأحمد (2/ 539) من طريق جعفر بن يرقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» (6/ 460) برقم: (3365) بتحقيقنا من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ويشهد له حديث عائشة، رواه البخاري في «الأدب المفرد» (906- 907) ، وأبو يعلى (4381) ،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 إلى 66]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَيْنَ المُتَحَابُّونَ لَجَلاَلي؟ اليَوْمَ أُظِلُّهُمْ في ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي» «1» . قال أبو عمر بن عبد البَرِّ في «التمهيد» : ورُوينا عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنه قال: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، أَتَدْرِي، أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الوِلاَيَةُ في اللَّهِ: الحُبُّ والبُغْضُ فِيهِ» «2» ، ورواه البراءُ بنُ عَازِبٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيضاً «3» ، وعن عبد اللَّهِ في قوله تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، قال: نزلَتْ في المتحابِّين في اللَّه «4» قال أبو عمر: وأما قوله: الَيْومَ أُظلُّهُمْ فِي ظِلِّي، فإِنه أراد- واللَّه أعلم- في ظلِّ عرشه، وقد يكونُ الظِّلُّ كنايةً عن الرحْمةِ كما قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات: 41] ، يعني: بذلك مَا هُمْ فيه مِنَ الرحمة والنعيم. انتهى. [سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

_ والقضاعي في «مسند الشهاب» (274) عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة مرفوعا به. وعلقه البخاري (6/ 426) في أحاديث الأنبياء، باب: الأرواح جنود مجنّدة (3336) . بهذا الإسناد، وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 91) : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. ويشهد له حديث علي رواه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 110- 111) عن الأعمش، عن أبي وائل عنه وقال: غريب من حديث الأعمش لم نكتبه إلا بهذا الإسناد. وأخرجه العقيلي (1/ 135) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عنه به. وقال العقيلي: هذا الحديث يعرف من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي موقوف، كما يشهد له حديث سلمان. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 198) ، وينظر: «مجمع الزوائد» (8/ 91) وحديث ابن عباس رواه السهمي في «تاريخ جرجان» ص: (244) ، وحديث ابن مسعود رواه الطبراني في «الكبير» (10/ 283) برقم: (10557) وفيه عن عبد الله بن مسعود أو غيره. [.....] (1) أخرجه مالك (2/ 952) كتاب «الشعر» باب: ما جاء في المتحابين في الله، حديث (13) ، ومسلم (4/ 1988) كتاب «البر والصلة» باب: فضل الحب في الله، حديث (37/ 2566) وأحمد (2/ 237، 535) ، والطيالسي (2335) ، والدارمي (2/ 312) ، وابن حبان (2/ 334) رقم: (574) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه الطيالسي (378) ، والحاكم (2/ 480) من طريق الصعق بن حزن، عن عقيل الجعد، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح، فإن الصعق وإن كان موثقا فإن شيخه منكر الحديث. قاله البخاري. (3) أخرجه أحمد (4/ 286) من حديث البراء بن عازب. (4) تقدم.

وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قال النَّقَّاش: نزلَتْ هذه الآية بالبَيْداء «1» في غزوة بَدْر، وحُكِيَ عن ابنِ عبَّاس: أنها نزلَتْ في الأوس والخزرج. وقيل: إِنها نزلَتْ حين أسلم عمر وكمَلَ المسلمون أَربَعِينَ. قاله ابن عمر، وأنس فهي على هذا مكِّيَّة: و «حسبك» في كلام العرب، وشرعك: بمعنى كافِيكَ ويَكْفِيك، والمحسب: الكافي، قالت فرقة: معنى الآية: يَكْفِيكَ اللَّهِ، ويكفيكَ مَنِ اتبعك، ف «مَنْ» في موضع رفع. وقال الشَّعْبِيُّ وابن زَيْد: معنى الآية: حَسْبُكَ اللَّهُ وحَسْبُ مَنِ اتبعك من المؤمنين، ف «مَنْ» في موضع نَصْب عطفاً على موضع الكاف لأن موضعها نَصْبٌ على المعنى ب «يكفيك» التي سدَّتْ «حَسْبُكَ» مسدَّها. قال ص: ورد بأنَّ الكاف لَيْسَ موضعها نصْب لأن إضافة حسب إليها إضافة صحيحة انتهى. وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ... الآية: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، أي: حُثَّهم وحُضَّهم، وقوله سبحانه: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ... إلى آخر الآية، لفظُ خبرٍ، مضمَّنه وعدٌ بشرط لأن قوله: إِنْ يَكُنْ/ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ، بمنزلة أنْ يقال: إِنْ يَصْبِرْ منكم عشرون يغلبوا، وفي ضمنه الأمر بالصَّبر، قال الفخر: وحَسُنَ هذا التكليفُ لما كان مسبوقاً بقوله: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فلمَّا وعد اللَّه المؤمنين بالكِفَايَة والنصرِ، كان هذا التكليفُ سَهْلاً لأن مَنْ تكلَّف اللَّه بنصره، فإِن أَهْلَ العَالَمِ لاَ يقدرون على إذاءته انتهى، وتظاهرت الرواياتُ عن ابن عبَّاس وغيره من الصحابة بأنَّ ثبوت الواحدِ للعَشَرةِ، كان فرضاً على المؤمنين، ثم لمَّا شَقَّ ذلك عليهم، حطّ الله

_ (1) البيداء: اسم الأرض بين مكة، والمدينة، وهي إلى مكة أقرب، تعدّ من الشرف أمام ذي الحليفة. ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 239) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 إلى 69]

الفَرْضَ إِلى ثبوتِ الواحِدِ للاثنَيْنِ، وهذا هو نَسْخُ الأَثْقَلِ بالأَخَفِّ «1» ، وقوله: لاَّ يَفْقَهُونَ: معناه: لا يفهمون مراشِدَهم، ولا مَقْصِدَ قتالهم، لا يريدون به إِلا الغلبةَ الدنيويَّة، فهم يخافُونَ المَوْت إِذا صُبَر لهم، ومَنْ يقاتلْ ليَغْلِبَ، أَو يُسْتشهد، فيصير إِلى الجنة، أثبَتُ قدماً لا محالة. وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ: لفظُ خبرٍ في ضمنه وعْدٌ وحضٌّ على الصبر، ويُلْحَظُ منه وعيدٌ لمن لم يَصْبِرْ بأنه يغلب. [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69] مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) وقوله سبحانه: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ... الآية: قال ع «2» : هذه آية تتضمَّن عندي معاتَبةً مِنَ اللَّه عزَّ وجلَّ لأصحاب نبيِّه عليه السلام والمعنى: ما كان ينبغي لكُمْ أَنْ تفعلوا هذا الفعْلَ الذي أوْجَبَ أن يكون للنبيِّ أَسْرَى قبل الإِثخان ولذلك استمرَّ الخطابُ لهم ب تُرِيدُونَ والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر باستبقاء الرِّجَالِ وقْتَ الحَرْبِ، ولا أراد صلّى الله عليه وسلّم قَطُّ عَرَضَ الدنيا، وإِنما فعله جمهورُ مُبَاشِرِي الحرب، وجاء ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الآية مشيراً إِلى دخوله عليه السلام في العَتْبِ حين لم يَنْهَ عن ذلك حين رآه من العَرِيشِ، وأنْكَره سعْدُ بْنُ معاذ، ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم شَغَلَهُ بَغْتُ الأمر، وظهورُ النصر عن النهْي ومَرَّ كثيرٌ من المفسِّرين على أنَّ هذا التوبيخَ إنما كان بسبب إشارة مَنْ أشار على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأخذ الفدْيَةِ، حين استشارهم في شأن الأَسرَى، والتأويل الأول أَحْسَنُ، والإِثخانُ: هو المبالغةُ في القَتْل والجراحةِ، ثم أمر مخاطبة أصحاب النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، أي: مالها الذي يعز وَيَعْرِضُ، والمراد: ما أُخِذَ من الأسرى من الأموال، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، أيْ: عمل الآخرة، وذكَر الطبريُّ وغيره أن رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال للنّاس: «إن

_ (1) اتفق الأصوليون على جواز نسخ الحكم بأخف أو مساو. واختلفوا في جوازه بأثقل. فالجمهور ذهب إلى جوازه عقلا ووقوعه شرعا ومنع ذلك طائفة منهم الإمام الشافعي رضي الله عنه مفترقين إلى فرقتين. فرقة منعت جوازه عقلا ووقوعه شرعا، وفرقة منعت وقوعه شرعا فقط. ينظر: «المعتمد» (1/ 416) «المحصول» (766) (1/ 3/ 480) «المستصفى» (1/ 120) «التبصرة» » (258) ، «شرح الكوكب» (3/ 550) «العدة» (3/ 785) «الإحكام للآمدي» (3/ 126) «ميزان الأصول» (2/ 1000) «كشف الأسرار» (3/ 187) «التلويح» (2/ 36) «فتح الغفار» (2/ 134) «إرشاد الفحول» (188) «الإبهاج» (2/ 238) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 551) .

شِئْتُمْ، أَخَذْتُمْ فِدَاءَ الأسرى، وَيُقْتَلُ مِنْكُمْ في الحَرْبِ سَبْعُونَ على عَدَدِهِمْ، وإِنْ شِئْتُمْ، قُتِلُوا وَسَلِمْتُمْ، فَقَالُوا: نَأْخُذُ المَالَ، وَيُسْتَشْهَدُ مِنَّا» «1» ، وذكر عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ «2» بسنده أَنَّ جبريلَ نَزَلَ على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بتخْيِيرِ النَّاسِ هكذا وعَلَى هذا، فالأمر في هذا التخيير مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فإِنه إِعلامٌ بغيب، وإِذا خُيِّروا رضي اللَّه عنهم، فكيف يقع التوبيخُ بعدُ بقوله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فهذا يدُّلك على صحَّة ما قدَّمناه، أنَّ العتب لهم إِنما هو على استبقاءِ الرجالِ وقْتَ الهزيمةِ رغبةً في أخْذ المال، وهو الذي أقولُ به، وذكر المفسِّرون أيضاً في هذه الآيات تحليلَ/ المَغَانِمِ، ولا أَقولُ ذلك لأن تحليل المغانم قد تقدَّم قبْل بَدْرٍ في السَّرِيَّة التي قُتِلَ فيها ابْنُ الحَضْرَمِيِّ، وإِنما المُبْتَدَعُ في بَدْرٍ استبقاء الرِّجَال لأجل المال، والذي مَنَّ اللَّه به فيها: إِلحاق فدية الكافر بالمغانمِ التي تقدَّم تحليلها، وقوله سبحانه: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ... الآية: قال ابن عبَّاس، وأبو هريرة، والحَسَن، وغيرهم: الكِتَابُ: هو ما كان اللَّه قَضَاهُ في الأَزَلِ مِنْ إِحلالِ الغنائمِ والفداءِ لهذه الأمة، وقال مجاهد وغيره: الكتابُ السابق: مغفرةُ اللَّهِ لأهْلِ بدر، وقيل: الكتاب السابقُ: هو ألاَّ يعذب اللَّه أحداً بذَنْبٍ إِلا بعد النَّهْيِ عنه، حكاه «3» الطبريُّ. قال ابنُ العربيِّ في «أحكام القُرآن» : وهذه الأقوالُ كلُّها صحيحةٌ ممكنَةٌ، لكن أقواها ما سبق مِنْ إِحلال الغنيمة، وقد كانوا غَنِمُوا أوَّلَ غنيمة في الإسلام حين أرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَبْدَ اللَّه بْنَ جَحْش «4» . انتهى، ورُوِيَ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ نَزَلَ في هَذَا الأَمْرِ عَذَابٌ، لَنَجَا مِنْهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب» «5» ، وفي حديث آخر: «وسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» وذلك أن رأيهما كان

_ (1) ذكره الطبري في «تفسيره» (6/ 292) . (2) عبد بن حميد بن نصر الكشّي أبو محمد الحافظ مؤلف «المسند والتفسير» عن علي بن عاصم، ومحمد بن بشر العبدي، وعبد الرزاق، والنضر بن شميل، وخلائق، وعنه مسلم، والترمذي وخلق. قال البخاري وقال عبد الحميد: أنبأنا عثمان بن عمر فذكر حديثا، قيل: عبد الحميد هو عبد بن حميد، قلت: روى الحديث مسلم، عن عبد بن حميد. قال ابن حبان: مات سنة تسع وأربعين ومائتين. قاله في «الخلاصة» (2/ 188) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 288- 289- 290) . (4) عبد الله بن جحش الأسدي بن رياب- براء تحتانية وآخره موحدة- ابن يعمر الأسدي: حليف بني عبد شمس، أحد السابقين. قال ابن حبان: له صحبة، وقال ابن إسحاق: هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا، ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل نيف وأربعون سنة. ينظر: «الإصابة» (4/ 31، 33) ، «أسد الغابة» (2858) بتحقيقنا، «الثقات» (3/ 237) ، «صفوة الصفوة» (1/ 385) ، «حلية الأولياء» (1/ 108- 109) . (5) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 203) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 إلى 71]

أنْ تُقْتَلَ الأَسْرَى، وقوله سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ... الآية: نصٌّ عَلَى إِباحة المال الذي أُخِذَ من الأسْرَى، وإِلحاقٌ له بالغنيمة التي كان تقدّم تحليها. [سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، روي أنّ الأسرى ببدر أعلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّ لهم مَيْلاً إِلى الإِسلام، وأنهم إِنْ رجعوا إِلى قومهم، سَعَوْا في جلبهم إِلى الإِسلام، قال ابن عَبَّاس: الأَسْرَى في هذه الآية: عبّاس وأصحابه «1» ، قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: آمنا بما جئْتَ به، ونشهد إِنك لَرَسُولُ اللَّه، ولَنَنْصَحَنَّ لك علَى قومنا، فنزلَتْ هذه الآيةُ، ومعنى الكلام: إِن كان هذا عَنْ جِدٍّ منكم، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ أَنفسكم الخَيْرَ والإِسلام، فإِنه سيجبر عليكم أَفْضَلَ مما أَعطيتم فديةً، ويغفرْ لكم جميعَ ما اجترمتموه، وروي أنَّ العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي اللَّه عنه قال: فيَّ وفي أصْحَابِي نَزَلَتْ هذه الآية، وقال حين أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ مالِ البَحْرَيْنِ ما قَدِّرَ أنْ يقول: هذا خَيْرٌ ممَّا أُخِذَ مِنِّي، وأنا بَعْدُ أَرجُو أنْ يَغْفِرَ اللَّهِ «2» لِي، وروي عنه أنه قال: ما أَوَدُّ أَنَّ هذه الآية لَمْ تَنْزِلْ «3» ، ولي الدنيا بأجمعها وذلك أن اللَّه تعالى قد أتاني خَيْراً مما أُخِذَ مني، وأنا أرجو أَنْ يَغْفِرَ لي، وقوله: فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي: بالكُفْر، فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي: بأن جعلهم أسْرَى، وَاللَّهُ عَلِيمٌ فيما يبطنونه، حَكِيمٌ فيما يجازيهم به. [سورة الأنفال (8) : آية 72] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 292) برقم: (16340) ، وذكره ابن عطية (2/ 554) ، والبغوي (2/ 263) ولم يعزه لأحد، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 369) ، وزاد نسبته لأبي نعيم في «الدلائل» . (2) أخرجه ابن جرير (6/ 292) برقم: (16338) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 555) ، والبغوي (2/ 263) نحوه، والسيوطي (3/ 370) بنحوه، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن عساكر. [.....] (3) ذكره ابن عطية (2/ 555) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 73 إلى 75]

وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، مَقْصِدُ هذه الآية وما بعدها: تبيينُ منازل المهاجرين والأنصار، والمؤمنين الذين لم يُهَاجِرُوا، وذكر المهاجرين بَعْد الحديبية، فقدَّم أوَّلاً ذِكْرَ المهاجرين، وهُمْ أصل الإِسلام، وتأمَّل تقديمَ عُمَرَ لهم في الاستشارةِ، وَهَاجَرَ: معناه/: هَجَرَ أهله وقرابته، وهَجَرُوهُ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا: هم الأنصارُ، فحكَمَ سبحانه على هاتَيْنِ الطائفتين بأن بَعْضَهُم أولياءُ بَعْضٍ، فقال كثيرٌ من المفسِّرين: هذه الموالاةُ: هي المؤازرة، والمعاونة، واتصال الأيدي، وعليه فَسَّر الطبريُّ الآية، وهذا الذي قالوه لازم من دلالة لفظ الآية، وقال ابن عبَّاسٍ وغيره: هذه الموالاةُ هي في المواريث «1» وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم آخَى بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجريُّ إذا ماتَ، ولم يكُنْ له بالمدينةِ وليٌّ مهاجريٌّ، ورثه أخوه الأنْصَارِيُّ، وكان المسلم الذي لم يُهَاجِرْ لا ولايَةَ بينه، وبَيْنَ قريبه المهاجريِّ، ولا يرثه، ثم نُسِخَ ذلك بقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ ... الآية [الأنفال: 75] وعلى التأويلين، ففي الآية حضٌّ على الهجرة، قال أبو عُبَيْدَة: الوِلاَيَةُ- بالكسر- من وَليتُ الأَمْرَ إِليه، فهي في السلطان، وبالفَتْحِ هي من المَوْلَى يقال: مَوْلَى بَيِّنَ الوَلاَيَةِ- بفتح الواو-. وقوله سبحانه: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ، يعني: إِن استدعى هؤلاء- المؤمنون الذين لم يُهَاجِروا نَصْرَكُمْ- فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فلا تنصروهم عليهم لأنّ ذلك غدر ونقض للميثاق. [سورة الأنفال (8) : الآيات 73 الى 75] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وذلك يجمع الموارثَةَ والمعاوَنَةَ والنُّصْرة، وهذه العبارةُ تحريضٌ وإِقامةٌ لنفوس المؤمنين كما تقولُ لمن تريدُ تحريضَهُ: عَدُوُّكَ مُجْتَهِدٌ أي: فاجتهد أَنْتَ، وحكى الطبريُّ في تفسير هذه الآية «2» ، عن

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 294) برقم: (16345) ، وابن عطية (2/ 555) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 464) ، وابن كثير (2/ 328) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 371) نحوه، وزاد نسبته إلى ابن مردويه. (2) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 297) .

قتادة أنه قال: أبَى اللَّهُ أَن يقبل إِيمانَ مَنْ آمن ولم يُهَاجرْ، وذلك في صدر الإسلام، وفيهم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ المُشْرِكِينَ لاَ تَتَرَاءَى نَارُهُمَا» » الحديثَ على اختلاف ألفاظه، وقول قتادة، إِنما هو فيمن كان يُقيمُ متربِّصاً يقول: مَنْ غَلَبَ، كُنْتُ معه وكذلِكَ ذُكِرَ في كتاب «2» «الطَّبريِّ» ، وغيره، والضميرُ في قوله: إِلَّا تَفْعَلُوهُ، قيل: هو عائدٌ على المُؤازرة والمعاونة، ويحتملُ على الميثاق المذكور، ويحتملُ على النَّصْر للمسلمين المستَنْصِرِينَ، ويحتمل على الموارثَة والتزامها، ويجوز أَن يعود مجملاً على جميعِ ما ذُكِرَ، والفتْنَةُ: المِحْنَة بالحَرْب وما انجر معها من الغارَاتِ، والجلاءِ، والأسر، والفسادُ الكَبيرُ: ظُهُورُ الشِّرْك. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، تضمَّنت الآيةُ تخصيصَ المهاجرين والأنصار، وتشريفَهم بهذا الوَصْف العظيمِ. ت: وهي مع ذلك عند التأمُّل يلوح منها تأويل قتادَةَ المتقدِّم، فتأمَّله، والرزْقُ الكريمُ: هو طعام الجنَّة كذا ذكر الطبريُّ وغيره «3» . قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «4» : وإِذا كان الإِيمان في القَلْب حقًّا، ظهر ذلك في

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 52) كتاب «الجهاد» باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، حديث (2645) ، والترمذي (4/ 132- 133) كتاب «السير» باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، حديث (1604) ، والطبراني في «الكبير» (2/ 303) رقم: (2264) ، والبيهقي (8/ 131) كتاب «القسامة» باب: ما جاء في وجوب الكفارة في أنواع قتل الخطأ، من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير به. وقد أعله أبو داود بالإرسال فقال: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة لم يذكروا جريرا. وقد أخرجه مرسلا الترمذي (4/ 133) كتاب «السير» باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، حديث (1605) ، والنسائي (8/ 36) كتاب «القسامة» باب: القود بغير حديدة، والبيهقي (8/ 130) كتاب «القسامة» ، كلهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم مرسلا. وقال الترمذي: وهذا أصحّ وأكثر أصحاب إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية ولم يذكروا فيه عن جرير، ورواه حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس عن جرير مثل حديث أبي معاوية. قال: وسمعت محمدا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم اه. (2) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 298) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 299) . (4) ينظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 889) .

استقامة الأعمال بامتثال الأمر واجتناب المَنْهِيِّ عنه، وإِذا كان مجازاً، قَصَّرت الجوارحُ في الأعمال إذ لم تبلغ قوَّتُهُ إليها. انتهى. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ: قوله: «من بعد» ، يريدُ به مِنْ بَعْدِ الحُدَيْبِيَةِ وذلك أن الهجرة مِنْ بعدِ ذلك كانَتْ أقلَّ رتبةً من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهِجْرَةُ الثانية، وَجاهَدُوا مَعَكُمْ: لفظٌ يقتضي/ أنهم تَبَعٌ لا صَدْرٌ. وقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، قالَ مَنْ تقدَّم ذكره: هذه في المواريثِ، وهي ناسخةٌ للحُكْم المتقدِّم ذكْرُهُ. وقالتْ فرقة، منها مالك: إن الآية لَيْسَتْ في المواريث، وهذا فَرارٌ من توريثِ الخَالِ والعَمَّة ونحو ذلك. وقالَتْ فرقة: هي في المواريث، إِلا أنها نُسِخَتْ بآية المواريث المبيّنة، وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ: معناه: القرآن، أي: ذلك مُثْبَتٌ في كتاب اللَّه. وقيل: في اللَّوْحِ المحفوظِ. كَمَلَ تفسيرُ السُّورة، والحَمْدُ للَّهِ، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

تفسير سورة التوبة

تفسير سورة التوبة وهي مدنية إلا آيتين قوله سبحانه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... [التوبة: 128] إلى آخرها وتسمّى «سورة التّوبة» قاله حذيفة وغيره، وتسمّى «الفاضحة» قاله ابن عباس، وقال: ما زال ينزل: ومنهم، ومنهم حتّى ظنّ أنه لا يبقى أحد، وهي من آخر ما أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال عليّ رضي الله عنه لابن عبّاس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان وبشارة، وبراءة نزلت بالسّيف ونبذ العهود فلذلك لم تبدأ بالأمان «1» . [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) قوله عز وجل: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، التقدير: هذه الآيات براءَةٌ، ويصحُّ أن يرتفع «براءَةٌ» بالابتداء، والخَبَرُ في قوله: إِلَى الَّذِينَ. وبَراءَةٌ معناه: تَخَلَّصٌ وتَبَرٍّ من العهود التي بَيْنَكم، وبَيْنَ الكفَّار البادئين بالنَّقْض. قال ابن العَرَبِّي في «أحكامه» «2» : تقول: بَرَأْتُ مِنَ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، فأنا مِنْه بَرِيءٌ إِذا أنزلْتَهُ عن نَفْسكَ، وقطَعْتَ سبَبَ ما بينك وبَيْنه. انتهى. ومعنى السياحة في الأرض: الذَّهَاب فيها مسرحين آمنين كالسَّيْح من الماء، وهو الجاري المنبسطُ قال الضَّحَّاك، وغيره من العلماء: كان من العرب مَنْ لا عَهْدَ بينه وبَيْن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم جملةً، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ، وتحُسسَ منهم نَقْضٌ، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ ولم ينقضوا، فقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هو أَجَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهِ

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 3) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 377) ، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، وابن مردويه. (2) ينظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 893) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 3 إلى 4]

لِمَنْ كان بينه وبينهم عهد، وتحسَّس منهم نقْضَهُ، وأول هذا الأجَلِ يومُ الأذان، وَآخره انقضاء العَشْر الأُوَل مِنْ رَبيعٍ الآخِرِ، وقوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] حُكْمٌ مباينٌ للأوَّل، حَكَمَ به في المشركين الذي لا عَهْدَ لهم ألبتة، فجاء أَجَلُ تأمينهم خمسين يوماً، أوَّلها يومُ الأذانِ، وآخرها انقضاء المُحَرَّم. وقوله: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ، يريد به الذين لَهُمْ عهدٌ، ولم ينقضوا، ولا تُحُسِّسِ منهم نَقْضٌ، وهم فيما روي بَنُو ضَمْرَةَ من كِنَانَة، كان بَقِيَ مِنْ عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر. وقوله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، أي: لا تفلتون الله، ولا تعجزونه هربا. [سورة التوبة (9) : الآيات 3 الى 4] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) وقوله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: أي: إعلام، ويَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قال عمر وغيره: هو يَوْمُ عَرَفَة «1» ، وقال أبو هريرة وجماعة: هو يوم النَّحْر «2» ، وتظاهرتِ الرواياتُ/ أن عليًّا أَذَّنَ بهذه الآياتِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِثْرَ خُطْبة أبي بَكْر، ثم رأَى أَنه لم يعمَّ الناس بالاستماع، فتتبَّعهم بالأذانِ بها يوم النَّحْر «3» ، وفي ذلك اليَوْمِ بَعثَ أبو بَكْرٍ مَنْ يعينه في الأذَانِ بها كَأَبِي هُرَيْرَة «4» وغيره، وتتَّبعوا بها أيضاً أسْوَاقَ العَرَب، كَذِي المَجَازِ وغيره وهذا هو سبب الخلاف، فقالتْ طائفةٌ: يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَر: عرفَةُ حيث وقع أَوَّلُ الأذان. وقالتْ أُخْرَى: هو يومُ النَّحْرِ حيث وقع إِكمال الأذَان. وقال سفيان بن عُيَيْنَة: المراد باليَوْمِ أيامُ الحجِّ كلُّها كما تقول: يَوْمُ صفِّينَ، ويوم

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 310) رقم: (16400) ، وذكره ابن عطية (3/ 5) ، والبغوي (2/ 286) رقم: (3) . (2) ذكره ابن عطية (3/ 5) . (3) أخرجه الطبري (6/ 304) رقم: (16376) ، وذكره ابن عطية (3/ 5) . (4) أخرجه الطبري (6/ 305- 306) برقم: (16383- 16384) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 5) .

الجَمَلِ ويتجه أن يوصَفُ ب «الأَكبر» علَى جهة المدحِ، لا بالإِضافة إِلَى أصْغِرَ معيَّنٍ، بل يكون المعنى: الأكبر مِنْ سائر الأيام، فتأمَّله. واختصار ما تحتاجُ إِلَيْهِ هذه الآيةُ على ما ذكَرَ مجاهد وغيره مِنْ صورة تلك الحال: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتتح مكَّة سنةَ ثمانٍ، فاستعمل عليها عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وقضى أَمْرَ حُنَيْنٍ والطائِفِ، وانصرف إِلى المدينة، فأقام بها حتَّى خرج إِلى تَبُوكَ، ثم انصرفَ مِنْ تَبُوكَ في رَمَضَانَ سَنَةَ تسْعٍ، فأَراد الحَجَّ، ثم نظر في أَنَّ المشرِكِينِ يَحُجُّون في تلْكَ السَّنَة، ويَطُوفون عُرَاةً، فقال: لا أريدُ أنْ أَرَى ذلك، فأمر أبابكر على الحَجِّ بالناس، وأنفَذَهُ، ثم أَتْبَعَهُ عليَّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه علَى ناقتِهِ العَضْبَاءِ، وأمره أنْ يؤذِّن في النَّاس بأربعين آيةً: صَدْرُ سورةِ «بَرَاءَة» ، وقيل: ثَلاَثِينَ، وقيل: عشرين، وفي بعض الروايات: عَشْر آيات، وفي بعضها: تسع آيات، وأمره أن يُؤْذِنَ الناسَ بأربعةِ أشياء، وهي: أَلاَّ يحجَّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يدخُلَ الجَنَّة إِلا نَفْسٌ مؤمنةٌ، وفي بعض الروايات: ولا يَدْخُلَ الجَنَّةَ كَافرٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ، ومَنْ كان له عنْدَ رَسُولِ اللَّهِ عهْدٌ، فهو إِلى مدَّته، وفي بعض الروايات: ومَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ، فأجله أربعةُ أَشهُرٍ يسيحُ فيها، فإِذا انقضت، فإِن اللَّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولَهِ. قال ع «1» : وأقول: إنهم كانوا ينادُونَ بهذا كلِّه، فأربعةُ أشهر للذين لهم عَهْدٌ وتُحُسِّسَ منهم نقضُهُ، والإِبقاء إِلى المدَّة لمن لم يخبر منه نقضٌ، وذكر الطبريُّ أن العرب قالت يومئذٍ: نَحْنُ نَبرأُ مِنْ عهدك، ثم لام بعضُهُمْ بعضاً، وقالوا: ما تَصْنَعُونَ، وقد أسلَمَتْ قريشٌ؟ فأسلموا كلُّهم، ولم يَسِحْ أحد. قال ع «2» : وحينئذٍ دخل الناس في دين اللَّه أفواجاً. وقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي: ورسولُهُ بريءٌ منهم. وقوله: فَإِنْ تُبْتُمْ، أي: عن الكُفْر. وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، هذا هو الاستثناءُ الذي تقدَّم ذكْره، وقرأ عكرمة وغيره: «ينقضوكم» «3» - بالضاد المعجمة-، ويُظاهِرُوا: معناه: يعاونوا،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 6) . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 6) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 7) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 5 إلى 7]

والظَّهيرُ: المُعِينُ. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: تنبيهٌ على أنَّ الوفاء بالعَهْد من التقوَى. [سورة التوبة (9) : الآيات 5 الى 7] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) وقوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ: الانسلاخ: خروجُ الشيء عن الشيء المتلبِّس به كانسلاخ الشاة عن الجِلْدِ، فشبه انصرام الأشهر بذلك. وقوله سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... الآية: قال ابن زَيْد: هذه الآية، وقوله سبحانه: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] : هما مُحْكَمَتان أي: ليستْ إِحداهما بناسخةٍ للأخرى. قال ع «1» : هذا هو الصواب. وقوله: وَخُذُوهُمْ معناه: الأسْر. وقوله: كُلَّ مَرْصَدٍ: معناه: مواضع الغرَّة حيث يرصدون ونصب «كُلَّ» على الظرف أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كلّ مرصد. وقوله: فَإِنْ تابُوا، أي: عن الكُفْر. وقوله سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ، أي: جَلَبَ منك عهداً وجواراً/ يأمن به، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، يعني القُرْآن، والمعنى: يفهم أحكامه، قال الحسن: وهذه آية محكمة وذلك سُنَّة إِلى يوم القيامة «2» . وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... الآية: قال ابنُ إسحاق: هي قبائلُ بني بَكْر كانوا دخلوا وقْتَ الحديبية في العهد، فأُمِرَ المسلمون بإِتمام العَهْدِ لمن لم يكُنْ نَقَضَ منهم.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 8) . (2) ذكره ابن عطية (3/ 5) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 8 إلى 11]

[سورة التوبة (9) : الآيات 8 الى 11] كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وقوله سبحانه: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ... الآية: في الكلام حذْفٌ، تقديره: كيف يكون لهم عهد ونحوه، وفي «كيف» هنا تأكيدٌ لِلاستبعادِ الذي في الأولى، ولا يَرْقُبُوا معناه: لا يُرَاعُوا، ولا يَحْفَظُوا، وقرأ الجمهور «1» : إِلًّا، وهو اللَّه عزَّ وجلَّ قاله مجاهد، وأبو مِجْلِزٍ، وهو اسمه بالسُّرْيانية «2» ، وعُرِّب، ويجوز أن يراد به العَهْدُ، والعَرَبُ تقول للعهد والحِلْف والجِوَارِ ونحوِ هذه المعاني: «إِلاًّ» ، والذّمة أيضا: بمعنى الحلف والجوار ونحوه. [سورة التوبة (9) : الآيات 12 الى 13] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) وقوله سبحانه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ... الآية، ويليق هنا ذكْرُ شيء مِنْ حُكْمٍ طعن الذميِّ في الدِّين، والمشهورُ من مذْهَب مالِكٍ: أنه إِذا فعل شيئاً من ذلك مِثْلُ تكذيبِ الشريعة، وسبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قُتِلَ. وقوله سبحانه: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أي: رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودُونَ الناس إِليه، وأصوبُ ما يقال في هذه الآية: أنه لا يُعْنَى بها معيَّنٌ وإِنما وَقَعَ الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكَفَرةِ إِلَى يوم القيامة، واقتضت حالُ كفَّار العرب ومحارِبي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَن تكون الإِشارة إِليهم أَولاً، ثم كُلُّ مَنْ دَفَعَ في صدر الشريعة إِلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم. وقرأ الجمهور «3» : «لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ» (جَمْع يمين) ، أي: لا أيمان لهم يُوفَى بها وتُبَرُّ، وهذا المعنَى يشبه الآيةَ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة: «لا إيمان لهم» ، وهذا يحتمل وجهين:

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 10) . (2) ذكره ابن عطية (3/ 10) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 12) ، و «البحر المحيط» (5/ 17) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 14 إلى 15]

أحدهما: لا تصديقَ لهم، قال أبو عَليٍّ: وهذا غَيْرُ قويٍّ لأنه تكريرٌ، وذلك أنه وَصَفَ أَئمَّة الكُفْرِ بأنهم لا إِيمان لهم، والوجْه في كَسْر الألفِ أَنَّه مصْدَرٌ من آمَنْتُهُ إِيماناً ومنه قوله تعالى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4] فالمعنى: أنهم لاَ يُؤَمَّنُونَ كما يُؤَمَّنُ أَهْلُ الذمَّة الكتابيُّون إِذ المشركون ليس لهم إِلا الإِسلام أو السَّيْفَ، قال أبو حاتمْ: فَسَّر الحَسَنُ قراءته: لا إِسلام لهم. قال ع «1» : والتكريرُ الذي فَرَّ أبو عَلِيٍّ منه متَّجِهٌ، لأنه بيانُ المهمِّ الذي يوجبُ قتلهم. وقوله عز وجل: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ... الآية «ألا» : عَرْضٌ وتحضيضٌ، قال الحسن: والمراد بِإِخْراجِ الرَّسُولِ: إخراجُه من المدينة، وهذا مستقيمٌ كغزوة أُحُدٍ والأحزاب «2» . وقال السديُّ: المرادُ مِنْ مَكَّة «3» . وقوله سبحانه: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قيل: يراد أفعالهم بمكَّة بالنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وبالمؤمنين. وقال مجاهدٌ: يراد به ما بَدَأَتْ به قريشٌ مِنْ معونة بني بَكْر حلفائِهِمْ، على خزاعة حلفاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكان هذا بَدْءَ النقْض «4» . وقال الطبريُّ «5» : يعني فعْلَهم يَوْمَ بدر. قال الفَخْر «6» : قال ابن إِسحاق والسُّدِّيُّ والكَلَبِيُّ: نزلَتْ هذه الآية في كفَّار مَكَّة نكثوا أيمانهم بعد عَهْدِ الحديبية، وأعانوا بني بَكْر عَلَى خُزَاعة «7» . انتهى. وقوله سبحانه: أَتَخْشَوْنَهُمْ: استفهام على معنى التقرير والتوبيخ، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أي: كاملي الإيمان. [سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15] قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 12) . (2) ذكره ابن عطية (3/ 13) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 13) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 13) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 331) . (6) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 187) . (7) أخرجه الطبري (6/ 331) برقم: (16553) ، وذكره ابن عطية (3/ 13) بنحوه. [.....]

وقوله سبحانه: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، قرّرت الآياتُ قبلها أفعالَ الكَفَرة، ثم حضَّ على القتال مقترناً بذنوبهم لتنبعث الحميَّة مع ذلك، ثم جزم الأمْرَ بقتالِهِمْ في هذه الآيةَ مقترناً بوَعْدٍ وكِيدٍ يتضمَّن النصْرَ عَلَيْهِم، والظَّفَرَ بهم. وقوله سبحانه: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، معناه: بالقتل والأسر، ووَ يُخْزِهِمْ، معناه: يذلَّهم علَى ذنوبهم، يقال: خَزِيَ الرجُلُ يَخْزَى خَزْياً، إِذا ذَلَّ من حيثُ وَقَعَ في عَارٍ، وأَخْزَاهُ غيره، وخزي يخزي خزاية/ إذا استحى، وأما قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، فيحتمل أنْ يريد جماعةَ المؤمنين، لأن كلَّ ما يهدُّ من الكُفْرِ هو شفاءٌ مِنْ هَمِّ صدور المؤمنين، ويحتمل أنْ يريد تخصيصَ قومٍ من المؤمنين، وروي أنهم خُزَاعَةْ قاله مجاهدٌ والسُّدِّيُّ «1» ، ووجْه تخصيصهم أنهم الذين نُقِضَ فيهم العهدُ، ونالتهم الحربُ، وكان يومئذٍ في خُزَاعَةَ مؤمنون كثير ويقتضي ذلك قول الخزاعيّ المستنصر بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: [الرجز] ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا وفي آخر الرجز: وقتّلونا ركّعا وسجّدا «2»

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 332) برقم: (16554- 16557- 16558- 16559) ، وذكره ابن عطية (3/ 13) ، والبغوي (2/ 273) رقم: (14) ، وابن كثير (2/ 339) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 389) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) والأبيات: يا ربّ إنّي ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا كنت لنا أبا وكنّا ولدا ... ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا عبدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... أبيض مثل الشّمس ينمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا وزعموا أن لست تدعو أحدا ... وهم أذلّ وأقلّ عددا هم بيّتونا بالحطيم هجّدا ... وقتلونا ركّعا وسجّدا ذكر السيوطي في هذه الأبيات (3/ 215) نقلا عن ابن إسحاق والبيهقي في «الدلائل» ، وانظر القرطبي (8/ 43) ، و «روح المعاني» (10/ 44) ، و «البحر المحيط» (5/ 7) ، والواحدي في «الوسيط» (2/ 481- 482) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (4/ 161) ، وعزاه لأبي يعلى، وينظر: «الاستيعاب» لابن عبد البر (3/ 1175) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 16 إلى 18]

وقرأ جمهور الناس: و «يَتُوبُ» «1» - بالرفع-، على القطْع مما قبله، والمعنَى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يَتُوبُ على بعض هؤلاء الكَفَرة الذين أَمَرَ بقتالهم. وعبارةُ ص: و «يَتُوب» ، الجمهورُ بالرّفْعِ على الاستئناف، وليس بداخلٍ في جوابِ الأمر لأن توبته سبحانه على مَنْ يشاء لَيْسَتْ جزاءً على قتال الكُفَّار. انتهى. [سورة التوبة (9) : الآيات 16 الى 18] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) وقوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ... الآية: خطابٌ للمؤمنين كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ... الآية [آل عمران: 142] ومعنى الآية: أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحانٍ، والمراد بقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ، أي: لم يعلم اللَّه ذلك موْجُوداً كما عَلِمَهُ أَزلاً بشرط الوجود، وليس يَحْدُثُ له علم تبارك وتعالى عن ذلك، ووَلِيجَةً: معناه: بِطَانَة ودَخِيلة، وهو مأخوذ من الوُلُوج، فالمعنى: أَمْراً باطناً مما يُنْكَر، وفي الآيةِ طَعْنٌ على المنافقين الذين اتخذوا الوَلاَئِجَ، قال الفَخْر «2» : قال أبو عُبَيْدَة: كلّ شيءٍ أدخلْتَه في شيءٍ ليس منه، فهو وَلِيجةٌ، وأصله من الوُلُوج، قال الواحديُّ يقال: هو وَلِيجَةٌ، للواحدِ والجمع. انتهى. وقوله سبحانه: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ، إِلى قوله: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ... الآية، لفظ هذه الآية الخَبَرُ، وفي ضمنها أمر المُؤمنين بِعَمارة المساجد، وروي أبو سعيدٍ الخدريّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ، فاشهدوا له بالإيمان» «3» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 14) ، و «البحر المحيط» (5/ 19) ، و «الدر المصون» (3/ 452) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (16/ 6) . (3) أخرجه الترمذي (5/ 12) كتاب «الإيمان» باب: ما جاء في حرمة الصلاة، حديث (2617) ، وفي (5/ 277) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة التوبة» ، حديث (3093) ، وابن ماجه (1/ 263) كتاب «المساجد» باب: لزوم المساجد وانتظار الصلاة، حديث: (802) ، وأحمد (3/ 68) ، والدارمي (1/ 278) كتاب «الصلاة» باب: المحافظة على الصلوات، وابن خزيمة (2/ 379) رقم: (1502) ، وابن حبان (1721) ، والحاكم (2/ 332) ، والبيهقي (3/ 66) كتاب «الصلاة» باب: فضل المساجد،

[سورة التوبة (9) : الآيات 19 إلى 22]

ت: زاد ابن الخَطِيبِ في روايته: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. انتهى من ترجمة محمَّد بنِ عبدِ اللَّهِ، وفي الحديثِ عنه صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِمَنْ كَانَتْ المَسَاجِدُ بَيْتَهُ الأَمْنَ، والأَمَانَ، وَالجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ القِيَامَةِ» خَرَّجه عليُّ بن عبد العزيز البَغَوِّيُّ في «المُسْنَد المُنْتَخَب» له، وروى البغويُّ أيضا في هذا «المسند» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَوْطَنَ الرَّجُلُ المَسَاجِدَ بِالصَّلاَةِ، وَالذِّكْرِ، تَبَشْبَش اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الغَائِبِ لِغَائِبِهمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ» . انتهى من «الكَوْكَب الدُّرِّيِّ» ، قيل: ومعنى «يَتَبَشْبَشُ» : أي يفرح به. وقوله سبحانه: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ، يريد: خشيةَ التعظيمِ والعبادةِ، وهذه مرتبةُ العَدْل من الناس، ولا محالة أَنَّ الإِنسان يخشَى غيره، ويخشَى المحاذيرَ الدنيويَّة، وينبغي أن يخشَى في ذلك كلّه قضاء الله وتصريفه. [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) وقوله سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ... الآية: سِقايَةَ الْحاجِّ: كانَتْ في بني هَاشِمٍ، وكان العبَّاس يتولاَّها، قال الحسن: ولما نزلَتْ هذه الآيةُ، قال العبَّاس: ما أَراني إلاَّ أتركُ السقاية، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أُقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ» «1» وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: قيلَ: هي حِفْظه ممَّن يظلم فيه، أو يقول هُجْراً، وكان ذلك إِلى العبَّاس، وقيل: هي السّدَانَة «2» وَخِدْمَةِ البَيْت خَاصَّة، وكان ذلك في بني عَبْد الدَّار، وكان يتولاَّها عثمانُ بنُ طَلْحَة، وابنُ عمه شَيْبَةُ، وأقرَّها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لهما ثَانِيَ يَوْمِ الفتحِ، وقال: «خُذَاهَا خَالِدَةً تالدة

_ وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 327) كلهم من طريق عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري به. وقال الترمذي: حديث غريب حسن. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي. وأخرجه أحمد (3/ 76) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» ص: (289) رقم: (923) ، عن الحسن بن موسى، ثنا ابن لهيعة عن دراج به. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 391) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 396) ، وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن. (2) سدانة الكعبة: خدمتها، وتولي أمرها، وفتح بابها وإغلاقه. ينظر: «النهاية» (2/ 355) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 23 إلى 24]

لاَ يُنَازِعُكُمُوهَا إِلاَّ ظَالِمٌ» . واختلف الناس في سبب نزولِ هذه الآية، فقال مجاهدٌ: أُمرُوا بالهجرة، فقال العبَّاس: أنا أسقي الحاجَّ، وقال عثمانُ بن طلحة: أنا حاجبُ الكَعْبَة، وقال محمدُ بنُ كَعْب: إِن العبَّاس وعليًّا وعثمان بن طلحة تَفَاخَرُوا فنزلَتِ الآية، وقيل غير هذا. / وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ... الآية: لما حكم سبحانه في الآية المتقدِّمة بأن الصِّنفين لا يستوون، بيَّن ذلك في هذه الآية الأخيرة، وأوضحه، فعدَّد الإِيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفْس، وحَكَم عَلَى أنَّ أهل هذه الخصالِ أَعظمُ درجةً عند اللَّه مِنْ جميع الخَلْقِ، ثم حَكَمَ لهم بالفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ ورضْوانه، والفَوْزُ: بلوغُ البُغْيَةْ، إمَّا في نيل رَغِيبَة، أو نجاةٍ من هَلَكَة، ويَنْظُرُ إِلى معنَى هذه الآية الحديثُ: «دَعُوا لي أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نِصِيفَهُ» «1» ولأن أصحاب هذه الخِصَال علَى سيوفهم انبنى الإِسلام، وتمهَّد الشرْعُ. وقوله سبحانه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ، هذا وعْدٌ كريمٌ مِنْ ربٍّ رحيمٍ، وفي الحديث الصحيح: «إِذَا استقر أَهْلُ الجَنَّةِ في الجَنَّة، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لا نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك! رِضْوَانِي أَرْضَى عَلَيْكُمْ فَلاَ أسخط عليكم أبدا ... » «2» الحديث. [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)

_ (1) ورد ذلك من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس بن مالك: فأمّا حديث أبي سعيد، فرواه البخاري (2517) في «فضائل الصحابة» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا» (3673) ، ومسلم (4/ 1967) في «فضائل الصحابة» باب: تحريم سب الصحابة (222/ 2541) ، وأبو داود (2/ 626) في «السنة» باب: في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (4658) ، والترمذي (5/ 653) في المناقب (3861) ، وأحمد (3/ 11، 54، 63) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 478- 479) (990- 991) ، والبيهقي (10/ 209) والخطيب في «التاريخ» (7/ 144) عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأما حديث أبي هريرة، فرواه مسلم (221- 2540) ، وابن ماجه (1/ 57) في «المقدمة» باب: فضل أهل بدر (161) عن الأعمش، عن أبي صالح عنه مرفوعا به. وأما حديث أنس فرواه أحمد (3/ 266) . (2) تقدم تخريجه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 25 إلى 27]

وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، ظاهر هذه المخاطبة: أنها لجميع المؤمنين كافَّة، وهي باقيةُ الحُكْمِ إلى يوم القيامة، وروتْ فرقة أنها نزلَتْ في الحَضِّ على الهجرة، ورفضِ بلادِ الكفر. وقوله سبحانه: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ... الآية: هذه الآيةُ تقوِّي مذهب مَنْ رأى أن هذه الآية والَّتي قبلها إنما مقصودُهُما الحَضِّ على الهجْرة، وفي ضمْن قوله: فَتَرَبَّصُوا: وعيدٌ بيِّن. وقوله: بِأَمْرِهِ، قال الحَسَنُ: الإشارة إلى عذابٍ أو عقوبةٍ من الله تعالى «1» . وقال مجاهدٌ: الإِشارة إِلى فتح مكَّة «2» ، وذكر الأَبناء في هذه الآية دون التي قَبْلَها، لما جلبتْ ذِكرهم المَحَبَّة، والأبناء: صَدْرٌ في المحبة وليسوا كذلك، في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة، واقترفتموها: معناه: اكتسبتموها، ومساكِنُ: جَمْعُ مَسْكَنٍ- بفتح الكاف:، مَفْعَلٌ من السُّكْنَى، وما كان من هذا معتلَّ الفاءِ، فإِنما يأتي على مَفْعِلٍ (بكسر العين) كموعد وموطن. [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) وقوله سبحانه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، هذه مخاطبةٌ لجميع المؤمنين يعدِّد الله تعالى نِعَمَهُ عليهم، والمواطِنُ المُشَارُ إلَيْها بَدْرٌ والخَنْدَق والنَّضير وقُرَيْظة وخَيْبَر وغيرها، وحُنَيْنٌ وادٍ بين مكَّة والطائِف. وقوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال حين رأى جملته اثني عشر

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 18) . (2) أخرجه الطبري (6/ 339) برقم: (16584) ، وذكره ابن عطية (3/ 18) ، والبغوي (2/ 277) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 403) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

أَلْفاً: «لَنْ تُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ» «1» ، وروي أَنَّ رجلاً من أصحابه قالها فأَراد الله تعالى إظهار العجز فظهر حين فَرَّ الناسُ. ت: العجب جائزٌ في حقِّ غير النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو معصوم منه صلّى الله عليه وسلّم، والصوابُ في فَهْمِ الحديث، أَنه خَرَجَ مَخْرَجَ الإِخبار، لا على وجه العُجْب وعلى هذا فَهِمُه ابنُ رُشْدٍ وغيره، وأَنه إِذا بلغَ عَدَدُ المسلمين اثني عشر ألفاً حُرِمَ الفِرَارُ، وإن زاد عددُ المُشْرِكين على الضِّعْف وعليه عَوَّلَ في الفتوى، وقوله تعالى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، معناه: بِرُحْبها كأنه قال: عَلَى ما هي عليه في نَفْسها رَحْبةً واسعة، لشدّة الحال وصعوبتها ف «ما» : مصدرية. وقوله سبحانه: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، أي: فرارا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واختصار هذه القصّة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا فتح مكّة، وكان في عشرة آلاف منْ أصحابه، وانضاف إِليهم ألفانِ من الطُّلَقَاءِ، فصار في اثني عشر ألفا، سمع بذلك كفَّار العرب، فشَقَّ عليهمِ، فجمعتْ له هوازنُ وألفافها، وعليهم مَالِكُ بن عوفٍ النصريُّ، وثقيفٌ، وعليهم عبْد يَالِيلَ بْنُ عَمْرُو/ وانضاف إِليهم أَخلاطٌ مِنَ الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اجتمعوا بحُنَيْنٍ، فلما تصافَّ الناسُ، حمل المشركون من مَحَانِي الوادِي، وانهزم المُسْلِمون، قال قتادة: وكان يقال: إِن الطلقاء مِنْ أَهْل مكَّةَ فرُّوا، وقصدوا إِلقَاءَ الهَزيمة في المُسْلمين «2» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلَى بغلته البَيْضَاء قد اكَتَنَفَهُ العَبَّاس عمُّه، وابنُ عَمِّه أبو سفيانَ بْنُ الحارثِ بنِ عبد المُطَّلبِ، وبَيْنَ يدَيْهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أيمن، وثمّ قتل رحمه الله والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنا ابن عبد المطّلب فلما رأى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شدَّةَ الحالِ، نَزَلَ عن بَغْلَتِهِ إِلى الأرض قاله البَرَاءُ بنُ عازب «3» ، واستنصر اللَّه عَزَّ وجلَّ، فأَخَذَ قبضةً مِنْ ترابٍ وحصًى، فرمَى بها في وُجُوه الكُفَّار، وقال: «شَاهَت الوُجُوه» ، ونادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأنصارِ، وأمَرَ العبَّاسَ أنْ ينادِيَ: «أَيْنَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ؟ أَيْنَ أَصْحَابُ سُورَةِ البَقَرةِ؟» فَرَجَعَ النّاسُ عَنَقاً واحداً للحَرْبِ، وتصافحوا بالسُّيوفِ والطَّعْنِ والضرب، وهناك قال عليه السلام: «الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ» «4»

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 404) ، وعزاه للبيهقي في «دلائل النبوة» . (2) أخرجه الطبري (6/ 340) برقم: (16588) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 19) . [.....] (3) أخرجه الطبري (6/ 343) برقم: (16595) وذكره ابن عطية (3/ 19) . (4) تقدم في: سورة الأنفال.

[سورة التوبة (9) : الآيات 28 إلى 29]

وهزم اللَّهُ المشركين، وأَعْلَى كلمةَ الإِسلام إِلى يَوْمِ الدينِ، قال يَعْلَى بن عطاءٍ: فحدَّثني أبناءُ المنهزمين عَنْ آبائهم، قالوا: لم يَبْقَ منَّا أحَدٌ إِلا دخَلَ عينيه مِنْ ذلك التُّرَابِ واستيعابُ هذه القصة في كتب «السِّيَر» . ومُدْبِرِينَ: نصب على الحال المؤكِّدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة: 91] ، والمؤكِّدة هي التي يدلُّ ما قبلها عليها كدلالة التولِّي على الإِدبار. وقوله سبحانه: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ... الآية: السكينةُ: النَّصْر الذي سَكَنَتْ إِليه ومعه النفُوسُ، والجنودُ: الملائكةُ، والرُّعْبُ قال أبو حاجز يزيدُ بنُ عامرٍ: كان في أجوافنا مثلُ ضَرْبَةِ الحَجَرِ في الطَّسْتِ من الرُّعْبِ، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أيْ: بالقتل والأسْرِ، وروَى أبو داود، عن سهل بن الحَنْظَلِيَّة «1» أنهم سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عشِيَّةً، فحضرت الصّلاة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انطلقت بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حتى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِم بظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ، وشِيَاهِهِمْ، اجتمعوا إِلَى حُنَيْنٍ، فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «تلك غنيمة المسلين غَداً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ... » الحديثَ. انتهى «2» ، فكانوا كذلك غنيمة بحمد الله، كما أخبر صلّى الله عليه وسلّم. [سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)

_ (1) هو: سهل بن الربيع بن عمرو بن عدي بن زيد، الأوسي، الأنصاري. قال ابن الأثير في «الأسد» : كان ممن بايع تحت الشجرة، وكان فاضلا معتزلا عن الناس، كثير الصلاة والذكر، كان لا يزال يصلي مهما هو في المسجد، فإذا انصرف لا يزال ذاكرا، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى عنه أبو كبشة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 469) ، «الإصابة» (3/ 138) ، «الثقات» (3/ 170) ، «نقعة الصديان» (192) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 243) ، «الاستيعاب» (2/ 662) ، «بقي بن مخلد» (391) ، «تقريب التهذيب» (1/ 336) ، «تهذيب التهذيب» (4/ 251) ، «تهذيب الكمال» (1/ 554) ، «الجرح والتعديل» (4/ ت 841) ، «التاريخ الكبير» ، (4/ 98) ، «الطبقات الكبرى» (8/ 328) . (2) أخرجه أبو داود (2/ 12- 13) كتاب «الجهاد» باب: في فضل الحرس في سبيل الله عز وجل، حديث (2501) ، والحاكم (2/ 83- 84) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 125- 126) ، والطبراني في «الكبير» (6/ 96) ، رقم: (5619) من حديث سهل بن الحنظلية.

وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، قال ابن عباس وغيره: معنى الشِّرْكَ هو الذي نَجَّسهم كنجاسة الخَمْر «1» ، ونصَّ اللَّه سبحانه في هذه الآية على المُشْرِكِينَ، وعلى المَسْجِد الحرام، فقاسَ مالكٌ رحمه اللَّه وغيره جَميعَ الكُفَّار من أهْلِ الكتاب وغيرهم على المشركين، وقَاسَ سائرَ المساجِدِ على المَسْجِدِ الحرامِ، وَمَنَعَ مِنْ دخولِ الجميعِ في جميعِ المساجدِ، وقوَّةُ قوله سبحانه: فَلا يَقْرَبُوا يقتضي أمْرَ المسلمين بمَنْعهم. وقوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا، يريد: بعد عامِ تِسْعٍ من الهجرة، وهو عَامُ حَجَّ أبو بَكْرٍ بالنَّاس. وقوله سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً، أي: فقْراً، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وكان المسلمون، لَمَّا مُنِعَ المشركون من المَوْسِم، وهم كانوا يجلبون الأطعمةَ والتجاراتِ، قَذَفَ الشيطان في نفوسهم الخَوْفَ من الفَقْر، وقالوا: مِنْ أيْنَ نعيش؟ فوعَدَهم اللَّه سبحانه بأنْ يغنيهم مِنْ فَضْله، فكان الأمر كما وعد اللَّه سبحانه، فأسلَمَتِ العربُ، فتمادَى حجُّهم وتَجْرُهم، وأغنى اللَّه من فضله بالجهادِ والظهورِ على الأُمَمِ. وقوله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ/ ... الآية: هذه الآيةُ تضمَّنت قتالَ أهْلَ الكتاب، قال مجاهد: وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غَزْوَ الرُّومِ، ومشَى نحو تَبُوكَ، ونفَى سبحانه عن أَهل الكتاب الإِيمان باللَّه واليوم الآخر حيث تركوا شَرْعَ الإِسلام وأَيضاً فكانَتِ اعتقاداتهم غيْرَ مستقيمةٍ، لأنهم تشعّبوا، وقالوا عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ، واللَّهُ ثالِثُ ثلاثةٍ، وغَيْرَ ذلك ولهم أيضاً في البعث آراءٌ فاسدةٌ كشراءِ منازِلِ الجنَّة من الرُّهْبَانِ إِلى غير ذلك من الهَذَيان، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، أي: لا يطيعون، ولا يمتثلون ومنْه قولُ عائشة: «مَا عَقَلْتُ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ» ، والدِّينُ هنا: الشريعةُ، قال ابن القاسِمِ وأشْهَبُ وسَحْنُون: وتؤخذ الجزيةُ منْ مجوس العربِ والأمم كلِّها، وأما عَبَدة الأَوثان والنِّيران وغيرِ ذلك، فجمهور العلماء على قبولِ الجزيةِ منهم، وهو قولُ مالكٍ في «المدوَّنة» . وقال الشافعيُّ وأبو ثور: لا تؤخذ الجزيةُ إِلا مِنَ اليهودِ والنصارَى والمجوسِ فقطْ، وأما قَدْرها في مذْهَب مالك وغيره، فأربعةُ دنَانِير عَلَى أهْلِ الذَّهَبِ، وأربعون درْهماً عَلَى أَهْل الفضَّة، وهذا في العَنْوة، وأما الصُّلْح، فهو ما صالحوا عَلَيْه، قليلٌ أو كثيرٌ. وقوله: عَنْ يَدٍ يحتمل وجوها:

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 345) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 20) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 30 إلى 33]

منها: أنْ يريد عن قُوَّة منكم عليهم، وقَهْرٍ، واليدُ في كلام العرب: القُوَّة. ومنها: أَنْ يريد سَوْقَ الذِّميِّ لها بِيَدِهِ، لا أنْ يبعثها معَ رَسُولٍ ليكون في ذلك إِذلالٌ لهم. ومنها: أنْ يريد نَقْدَهَا ناجزاً، تقول: بِعْتُهُ يَداً بِيَدٍ، أي: لا يؤخِّروا بها. ومنها: أنْ يريد عن استسلام، يقال: ألقى فلان بيده، إذا عجز واستسلم. [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ: الذي كثر في كُتُب أهْل العلم أنَّ فرقةً من اليهود قالَتْ هذه المقالة وروي أنه قالها نَفَرٌ يسير منهم فِنحْاص وغيره، قال النَّقَّاش: ولم يبق الآن يهودي يقولها، بل انقرضوا. قال ع «1» : فإِذا قالها ولو واحدٌ من رُؤسَائهم، توجَّهت شنعة المقالة علَى جماعتهم، وحكَى الطبريُّ وغيره أن بني إِسرائيل أصابتهم فتن وجلاء، وقيل: مَرَض، وأذهب اللَّه عنهم التَّوْراة في ذلك، ونَسُوها، وكان علماؤهم قد دَفَنُوها أول ما أحسُّوا بذلك البلاء، فلما طالَتْ المدة، فُقِدَت التوراة جملةً، فحفَّظها اللَّهُ عُزَيْراً كرامةً منه له، فقال لبني إِسرائيل: إِن اللَّهَ قد حفَّظني التوراةَ، فجعلوا يَدْرُسُونها من عنْده، ثم إِن التوراة المدْفُونَة وجدت، فإذا هي مساوية لما كان عزيز يدرِّس، فضَلُّوا عند ذلك، وقالوا: إِن هذا لم يتهيّأ لعزيز إِلاَ وهو ابن اللَّه، نعوذُ باللَّه من الضَّلال. وقوله: بِأَفْواهِهِمْ، أي: بمجرَّد الدعوَى من غير حجّة ولا برهان، ويُضاهِؤُنَ، قراءةُ الجماعة «2» ، ومعناه: يحاكُون ويماثلون، والإشارة بقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ:

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 23) . (2) وقرأ عاصم وحده من «السبعة» «يضاهئون» ، وكذلك طلحة بن مصرف. وهي من «ضاهأ» بمعنى «ضاهى» ، وهي لغة ثقيف. ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 25) ، و «العنوان في القراءات السبع» (102) ، و «الحجة» (4/ 186) ، و «السبعة» (314) ، و «معاني القراءات» (1/ 451) .

إِما لمشركي العرب إِذ قالوا: الملائكة بناتُ اللَّهِ قاله الضَّحَّاك، وإِما لأممٍ سالفةٍ قبلها، وإِما للصَّدْر الأول من كَفَرة اليهودِ والنَصَارَى، ويكون يُضاهِؤُنَ لمعاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان الضمير في يُضاهِؤُنَ للنصارَى فقطْ، كانت الإِشارة ب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ إلى اليهود وعلى هذا فسَّر الطبريُّ، وحكاه غيره عن قتادة «1» . وقوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ: دعاءٌ عليهم عامٌّ لأنواع الشَّر، وعن ابن عباس أن المعنَى: لعنهم اللَّه «2» . قال الداوديّ: وعن ابن عباس قاتلهم اللَّه: لعنهم اللَّه، وكلُّ شيء في القُرآن: قَتَلَ، فهو لَعْن. انتهى. وأَنَّى يُؤْفَكُونَ، أَي: يُصْرَفُون عن الخَيْر. وقوله سبحانه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ ... الآية: هذه الآية يفسِّرها ما حكاه الطَّبريُّ «3» أن عدي بن حاتم قال: «جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي عُنُقي صَلِيبُ ذَهَب، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ/ اطرح هَذَا الصَّلِيبَ مِنْ عُنُقِكَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وكَيْفَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَمْ نَعْبُدْهُمْ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَسْتَحِلُّونَ مَا أَحَلُّوا وَتُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمُوا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَذَلِكَ «4» » . ومعنى: سُبْحانَهُ تنزيها له، ونُورَ اللَّهِ في هذه الآية: هُدَاه الصادرُ عن القرآن والشَّرْع. وقوله: بِأَفْواهِهِمْ عبارةٌ عن قلَّةِ حيلتهم وضَعْفها. وقوله: بِالْهُدى: يعم القرآن وجميعَ الشَّرْع. وقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وقد فعل ذلك سبحانه، فالضمير في لِيُظْهِرَهُ: عائدٌ على الدِّين، وقيل: على الرسول، وهذا وإِنْ كان صحيحاً، فالتأويل الأول أبْرَعُ منه، وأَلْيَقُ بنظام الآية.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 352) برقم: (16639) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 25) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 415) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) أخرجه الطبري (6/ 353) برقم: (16643) ، وذكره ابن عطية (3/ 25) ، وابن كثير (2/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 415) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 354) . (4) أخرجه الترمذي (5/ 278) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة التوبة» ، حديث (3095) من طريق عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 إلى 35]

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، المراد بهذه الآية: بيانُ نقائصِ المذكورين، ونَهْيُ المؤمنين عن تلك النقائصِ مترتِّب ضِمْنَ ذلك، واللام في لَيَأْكُلُونَ: لامُ التوكيدِ، وصورةُ هذا الأكْلِ هي بأنهم يأخذونَ من أموال أتباعهم ضرائِبَ وفُرُوضاً باسم الكنائسِ والبِيَعِ وغَيْرِ ذلك ممَّا يوهمونهم أنَّ النفقة فيه مِنَ الشَّرْعَ والتَقرُّب إِلى اللَّهَ، وهم خلاَلَ ذلك يحتجنون تلك الأموالَ، كالذي ذكره سلمان في كتاب «السير» ، عن الراهِبِ الذي استخرج كَنْزَهُ. وقوله سبحانه: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أي: عن شريعة الإِسلام والإيمان بنبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ ابتداءٌ، وخبره فَبَشِّرْهُمْ والذي يظهر من ألفاظ الآية: أنه لما ذَكَر نَقْصَ الأحبار والرهبانِ الآكلين للمَالِ بالباطل، ذَكَرَ بعد ذلك بقَوْلٍ عامٍّ نَقْصَ الكانزين المانعين حقَّ المال، وقرأ طلحةُ بْنُ مُصَرِّف: «الَّذِينَ يَكْنِزُونَ» «1» بغير واو، وعلى هذه القراءة يجري قولُ معاوِيَةَ: أنَّ الآية في أهْل الكتَاب، وخالفه أبو ذَرٍّ، فقال: بل هِيَ فينا. ويَكْنِزُونَ: معناه: يجمعون ويحفظون في الأَوعية، وليس مِنْ شرط الكَنْز: الدفْنُ، والتوعُّد في الكنز، إِنما وقع عَلَى منع الحقوق منه، وعلى هذا كثيرٌ من العلماء، وقال عليٌّ رضي اللَّه عنه: أربعةُ آلاف دِرْهَمٍ فما دُونَهَا نفقةٌ، وما زاد علَيْهَا فهو كَنْز، وإِن أَدَّيْتُ زَكَاتَهُ. وقال أبو ذَرٍّ وجماعةٌ معه: ما فَضَلَ مِنْ مالِ الرَّجُل على حاجةِ نَفْسِه، فهو كَنْز، وهذان القولان يقتضيان أنَّ الذمَّ في حبس المال، لا في منع زكاته فقطْ. ت: وحدَّث أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، عن عليِّ بن أبي طالب، وابنِ عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ للفُقَرَاءِ في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم، فإن

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 27) ، و «البحر المحيط» (5/ 38) ، و «الدر المصون» (3/ 460) .

[سورة التوبة (9) : آية 36]

مَنَعُوهُمْ حَتَّى يَجُوعُوا وَيَعْرَوْا وَيَجْهَدُوا، حَاسَبَهُمُ اللَّهُ حِسَاباً شَدِيداً، وعَذَّبَهُمْ عَذَاباً نُكْراً» انتهى «1» . وقوله سبحانه: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ ... الآية: قال ابنُ مَسْعود: واللَّه، لاَ يَمَسُّ دينارٌ ديناراً، بل يُمَدُّ الجلدُ حتى يكوَى بكلِّ دينار، وبكلِّ درهم «2» قال الفخر «3» : قال أبو بكر الوَرَّاقُ: وخُصَّتْ هذه المواضعُ بالذكْرِ لأن صاحِب المال، إِذا رأى الفقيرَ، قَبَضَ جبينه، وإِذا جلَس إِلى جَنْبه، تباعد عَنْه، وولاَّه ظَهْره. انتهى. [سورة التوبة (9) : آية 36] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) وقوله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ، هذه الآيةُ والتي بعدها تتضمَّن ما كانت العربُ عليه في جاهليَّتها من تحريم شُهُورِ الحلِّ، وتحليلِ شهورِ الحُرْمَةَ، وإِذا نصَّ ما كانت العرب تفعله، تبيَّن معنى الآيات، فالذي تظاهرَتْ به الرواياتُ، ويتخلَّص من مجموع ما ذَكَره النَّاسُ: أن العرب كانَتْ لا عَيْشَ لأكْثَرها إِلا من الغارات وإِعمالِ سِلاَحِها، فكانوا إِذا توالَتْ عليهم حُرْمَةُ الأشهر الحُرُمِ، صَعُبَ عليهم، وأَمْلقوا «4» / وكان بنو فُقَيْمٍ من كِنانة أهْلَ دينٍ في العرب، وتَمَسُّكٍ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام، فانتدب منهم القلمس، وهو حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ، فنَسِيَ الشهورَ للعربِ، ثم خَلَفَهُ عَلَى ذلك بنوه، وذكر الطبريُّ وغيره أن الأمر كان في عدوانٍ قبل بني مالكِ بن كنانةً، وكانتْ صورة فعلهم: أن العرب كانَتْ إِذا فرغَتْ من حَجِّها، جاء إِليه مَنْ شاء منهم مجتمعين، فقالوا: أَنْسَانَا شَهْراً، أيْ: أخّرْ عنا حرمةَ المُحَرَّم، فاجعلها في صَفَرٍ، فيحلُّ لهم المُحَرَّمَ، فيغيرون فيه، ثم يلتزمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ ليوافقوا عدَّة الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة قال مجاهد: ويسمُّون ذلك الصَّفَرَ المُحرَّم، ثم يسمعون ربيعاً الأوَّل صفراً وربيعاً الآخِرَ ربيعاً الأَوَّل، وهكذا في سائِرِ الشهورِ، وتجيء السنةُ مِنْ ثلاثة عشر شهرا أولها: المحرّم

_ (1) أخرجه الخطيب في «تاريخه» (5/ 308) عن علي وذكره الهندي في «كنز العمال» (15823) وقال: وفيه محمد بن سعيد البورقي، كذاب يضع. (2) أخرجه الطبري (6/ 363، 364) برقم: (16697- 16698) نحوه، وابن عطية (3/ 29) ، والبغوي (2/ 289) نحوه، وابن كثير (2/ 352) نحوه. [.....] (3) ينظر: «تفسير الرازي» (16/ 39) . (4) يعني: افتقروا، وضربهم الإملاق، وهو الافتقار. ينظر: «لسان العرب» (5/ 426) .

المُحَلَّل، ثم المحرَّم الذي هو في الحقيقة صَفَرٌ «1» ، وفي هذا قال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، أيْ: ليستْ ثلاثةَ عَشَرَ، ثم كانَتْ حِجَّةُ أبي بَكْرٍ في ذي القَعْدة حقيقةً، وهم يسمُّونه ذَا الحِجَّة، ثم حَجَّ رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم سَنَةَ عَشْرٍ في ذي الحِجَّة حقيقةً، فذلك قوله عليه السلام: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استدار كَهَيْئتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالأَرْضِ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّة، والمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان» «2» . وقوله في كِتابِ اللَّهِ، أَيْ: فيما كتبه، وأثبته في اللَّوْحِ المحفوظ، أو غيرِهِ، فهي صفةُ فِعْلٍ مثل خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وليستْ بمعنى قضاءه وتقديره لأن تلكَ هي قَبْلَ خلْق السموات والأرض. وقوله سبحانه: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: نصٌّ على تفضيلِ هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة: «اصطفى اللَّه مِنَ الملائكةِ والبَشَرِ رُسُلاً، ومِنَ الشَهور المُحَرَّمَ ورمَضَانَ، ومِنَ البُقَعِ المساجَدِ، ومِنَ الأيام الجمعةَ، ومِنَ الليالِي ليلةَ القَدْرِ، ومِنَ الكلام ذِكْرُهُ، فينبغي أَنْ يعظَّم ما عَظَّمُ اللَّه» «3» . وقوله سبحانه: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، قالتْ فرقة: معناه: الحسابُ المُسْتَقيم، وقال ابن عباس، فيما حكى المَهْدَوِيُّ: معناه: القضاء المستقيم.

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 30) . (2) أخرجه البخاري (6/ 338) في بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين (3197) ، و (7/ 711) في «المغازي» باب: حجة الوداع (4406) ، و (8/ 175) في «التفسير» باب: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً (4662) ، و (10/ 10) في الأضاحي باب: من قال: الأضحى يوم النحر (5550) ، و (13/ 433) في التوحيد، باب: قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، (7447) ، ومسلم (3/ 1305) ، في القسامة باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (29/ 1679) ، وأبو داود (1/ 599) في: المناسك، باب: الأشهر الحرم (1948) ، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن ابن أبي بكرة به. وأخرجه أبو داود برقم: (1947) ، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة به، بدون ذكر ابن أبي بكرة، وقال أبو داود: وسماه ابن عون فقال: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة في هذا الحديث. ويشهد له حديث أبي هريرة عند البزار (1142) - «كشف الأستار» ، عن شعث بن سوّار، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رفعه. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 271) فيه أشعث بن سوار، وهو ضعيف، وقد وثق. (3) ذكره ابن عطية (3/ 31) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 37 إلى 39]

قال ع «1» : والأصوب عندي أنْ يكون الدِّينُ هاهنا عَلَى أشهر وجوهه، أي: ذلك الشَّرْعُ والطَّاعة. وقوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ، أي: في الاثني عَشَرَ شَهْراً، أي: لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كلِّه، وقال قتادة: المرادُ الأربعةُ الأشْهُرِ، وخُصِّصتْ تشريفاً لها. قال سعيدُ بن المسيّب: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحرِّم القتَالَ في الأشْهُرِ الحُرُم بما أنزل اللَّه في ذلك حتَّى نزلَتْ «براءة» . وقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ، معناه: فيهنَّ فأحْرَى في غيرهن، وقوله: كَافَّةً، معناه: جميعا. [سورة التوبة (9) : الآيات 37 الى 39] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) وقوله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ، يعني: فِعْلُ العرب في تأخيرهم الحُرْمَةَ، زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، أي: جارٍ مع كفرهم باللَّهِ، وخلافِهِمْ للحقِّ، فالكفر متكثِّر بهذا الفِعْلِ الذي هو باطلٌ في نفْسهِ وممَّا وُجِدَ في أشعارهم قَوْلُ جِذْلٍ الطَّعَانِ: [الوافر] وَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي ... كِرَامُ النَّاسِ إِنَّ لَهُمْ كِرَامَا أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا «2» وقوله سبحانه: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، معناه: عاماً من الأعوام، وليس يريد أنَّ تلك كانَتْ مداولة. وقوله سبحانه: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، معناه: ليوافقُوا، والمواطَأَةُ: الموافقة. وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 31) . (2) الشعر لعمير بن قيس، ينظر: «أما لي القالي» (1/ 4) ، «التهذيب» ، و «اللسان» (نسا) ، و «الدر المصون» (3/ 463) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 40 إلى 41]

، هذه الآيةُ بلا خلافٍ أنها نزلَتْ عتاباً على تخلّف من تخلّف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تَبُوكَ، وكانَتْ سنةَ تسْعٍ من الهجرةِ بعد/ الفَتْح بعامٍ، غزا فيها الرُّوم في عِشْرينَ ألْفاً بين راكبٍ وراجلٍ، والنَّفْر: هو التنقُّل بسرعة من مكانٍ إلى مكانٍ، وقوله: «أثاقلتم» أصله تَثَاقَلْتُمْ، وكذلك قرأ الأعمش «1» وهو نحو قوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] وقوله: أَرَضِيتُمْ تقريرٌ، والمعنى: أرضيتمْ نَزْرَ الدنيا، على خطير الآخرةِ، وحَظِّها الأَسْعَد. قَالَ ابنُ هِشامٍ ف «مِنْ» من قوله: مِنَ الْآخِرَةِ للبدل. انتهى. ثم أخبر سبحانه، أنَّ الدنيا بالإِضافة إِلى الآخرة قليلٌ نَزْرٌ، فتعطي قُوةُ الكلام التعجُّبَ مِنْ ضلالِ مَنْ يرضَى النزْرَ الفانِيَ بَدَل الكثير الباقي. ت: وفي «صحيح مُسْلم» و «الترمذي» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا الدُّنْيَا في الآخرة إِلاَّ مَثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا تَرْجعٌ» . قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى «2» . وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ: شرطٌ وجوابٌ، ولفظُ «العذاب» عامٌّ يدخل تحته أنواعُ عذابِ الدنيا والآخرة. وقوله: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ: تَوعُّدٌ بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوماً لا يقعدون عند استنفاره إِياهم، والضميرُ في قوله: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً عائدٌ على اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو أليق. [سورة التوبة (9) : الآيات 40 الى 41] إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

_ (1) ينظر: «الشواذ» ص: (57) ، و «الكشاف» (2/ 271) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 34) و «البحر المحيط» (5/ 43) ، و «الدر المصون» (3/ 464) ، و «التخريجات النحوية» (356) . (2) أخرجه مسلم (4/ 2193) كتاب «الجنة» باب: فناء الدنيا، حديث (55/ 2858) ، والترمذي (4/ 486) كتاب «الزهد» باب: هوان الدنيا، حديث (2323) ، وابن ماجه (2/ 1376) كتاب «الزهد» باب: مثل الدنيا، حديث (4108) ، وأحمد (4/ 228، 230) ، وابن حبان (4330) ، والحاكم (4/ 319) من طريق قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد به.

وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ هذا أيضاً شرطٌ وجوابٌ، ومعنى الآية: إِنكم إِن تركتم نَصْره، فاللَّه متكفِّل به إِذ قد نصره في موضع القلَّة والانفراد وكثرةِ العدو، ولَنْ يترك نَصْرَهُ الآن. وقوله: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أسند الإخراج إِليهم تذنيباً لهم، ولما كان مَقْصِدُ أبي سفيان بن الحارثِ الفَخْرَ في قوله: من طردت كل مطرد، لم يقرّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى ما عُلِمَ في كتب «السِّيرَةِ» ، والإِشارةُ إلى خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ مكَّة إلى المدينة، وفي صحبته أبو بكر، واختصار القصّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ينتظر إِذْنَ اللَّه سبحانه في الهِجْرة من مكَّة، وكان أبو بَكْر حينَ تَرَكَ ذمَّة ابنِ الدِّغِنَّةِ قد أراد الخروجَ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اصبر، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَهِّلَ الصُّحْبَةَ» فَلَمَّا أَذِنَ اللَّه لنبيِّه في الخروج، تجهَّز مِنْ دار أبي بَكْر، وخَرَجَا، فبقيا في الغار الذي في جَبَلِ ثَوْرٍ في غَرْبِيِّ مَكَّة ثلاثَ ليالٍ، وخرج المشركُونَ في إِثرهِمْ حتى انتهوا إِلى الغار، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِم الأَثَرَ، وقال أبو بكر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ نَظَر أَحَدُهُمْ إِلى قدمه، لرآنَا، فَقَالَ له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا ظَنُّكَ باثنين اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» «1» هكذا في الحديث الصحيحِ، ويروَى أن العنكبوتَ نَسَجَتْ على باب الغَار. ويُرْوَى أن الحمامة عشَّشَتْ عند باب الغارِ، وكان يروحُ عليهما باللَّبَنِ عامرُ بْنُ فُهَيْرَةَ «2» . وقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ، معناه: أحد اثنين، وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، يريد: بالنصر والنجاة واللُّطْف. وقوله سبحانه: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، قيل: يريد: لا إله إِلا اللَّه، وقيل: الشرع بأسره.

_ (1) تقدم تخريجه في: سورة آل عمران. (2) عامر بن فهيرة التيميّ، مولى أبي بكر الصّديق، أحد السّابقين، وكان ممن يعذّب في الله. له ذكر في «الصّحيح» ، حديثه في الهجرة عن عائشة قالت: خرج معهم عامر بن فهيرة، وعنها: لما قدمنا المدينة اشتكى أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، منهم: أبو بكر، وبلال، وعامر بن فهيرة ... الحديث. وفيه: وكان عامر بن فهيرة إذا أصابته الحمى يقول: [الرجز] إنّي وجدت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه كلّ امرئ مجاهد بطوقه ... كالثّور يحمي جلده بروقه وقال ابن إسحاق في «المغازي» عن عائشة: كان عامر بن فهيرة مولّدا من الأزد، وكان للطفيل بن عبد الله بن سخيرة، فاشتراه أبو بكر منه فأعتقه، وكان حسن الإسلام. ينظر ترجمته في: «الإصابة» (3/ 482) ، (4433) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 42 إلى 45]

وقوله سبحانه: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا معنى الخِفَّة والثّقل هاهنا: مستعار لمن يمكنه السفَرُ بسهولة، ومن يمكنه بصُعُوبة، وأما من لا يمكنه، كالعُمْيِ ونحوهم، فخارجٌ عن هذا. وقال أبو طلحة «1» : ما سمع اللَّه عذر أحد، وخرج إِلى الشامِ، فجاهد حتَّى ماتَ. وقال أبو أيُّوب: ما أَجدني أبداً إِلا خفيفاً أو ثقيلاً «2» . وقوله سبحانه: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: تنبيهٌ وهزّ للنفوس. [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 45] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وقوله سبحانه: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ، هذه الآية في المنافقين المتخلِّفين في غزوة تَبُوكَ، وكَشْفِ ضمائرهم، وأما الآيات التي قبلها، / فعامَّة فيهم وفي غيرهم، والمعنى: لو كان هذا الغزوَ لِعَرَضٍ، أي: لمال وغنيمةٍ تنالُ قريباً بسَفرٍ قاصدٍ يسيرٍ، لبادروا لا لوجه اللَّه، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وهي المسافةُ الطويلة. وقوله: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، يريد: المنافقينَ، وهذا إِخبار بغيب. وقوله عز وجل: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، هذه الآيةُ هي في صِنْفٍ مُبَالِغٍ في النفاق، استأذنوا دون اعتذار، منهم: الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ التأبوت وَمنِ اتبعهم قال مجاهدٌ: وذلك أَنَّ بعضهم قال: نَسْتَأْذنه، فإِن أَذِنَ في القعودِ قعدنا «3» ، وَإِلاَّ قعدنا، وقَدَّم له العفو قبل العتاب: إكراما له صلّى الله عليه وسلّم، وقالت فرقة: بل قوله سبحانه عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: استفتاح كلامٍ كما تقولُ: أصْلَحَكَ اللَّهُ، وأَعَزَّكَ اللَّهُ، ولم يكنْ منه عليه السلام ذَنْبٌ يعفَى عنه لأن صورة الاستنفار وقَبُول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 376) برقم: (16751) ، وذكره ابن عطية (3/ 37) . (2) ذكره ابن عطية (3/ 37) . (3) أخرجه الطبري (6/ 381) برقم: (16778) ، وذكره ابن عطية (3/ 38) ، والبغوي في «تفسيره» (3/ 441) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]

[سورة التوبة (9) : الآيات 46 إلى 49]

وقوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، يريد: في استئذانك، وأنك لو لم تأذن لهم، خرجوا معك. وقوله: وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ، أي: بمخالفتكَ، لَوْ لم تأذن لأنهم عَزَمُوا على العِصْيَان، أذنتَ لهم أو لم تأذن، وقال الطبريُّ: معناه: حتى تعلم الصَّادقين في أَنَّ لهم عُذْراً، والكاذبين، في أن لا عُذْرَ لهم، والأول أصْوبُ، واللَّه أعلم، وأمَّا قوله سبحانه: في سورة النور: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ... [النور: 62] الآية، ففي غزوة الخندَقِ نزلت: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ، أي: شكّت ويَتَرَدَّدُونَ، أي: يتحيَّرون إِذ كانوا تخطر لهم صِحَّة أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحياناً، وأنه غير صحيحٍ أحياناً، فهم مذبذبُونَ. [سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 49] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَّا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) وقوله سبحانه: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، أيْ: لو أرادوا الخروجَ بنيَّاتهم، لنظروا في ذلك واستعدوا له. وقوله: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ. ص: ولكِنْ: أصلها أَن تقع بَيْنَ نقيضَيْن أَو ضِدَّيْنِ، أَوْ خَلافَيْن، على خلاف فيه. انتهى. وانْبِعاثَهُمْ: نفوذَهُمْ لهَذِهِ الغزوة، والتثبيطُ: التَّكْسِيلُ وكَسْر العزم. وقوله سبحانه: وَقِيلَ اقْعُدُوا، يحتمل أنْ يكون حكايةً عن اللَّه، أي: قال اللَّه في سابق قضائِهِ: اقعدوا مع القاعدين، ويحتملُ أنْ يكون حكايةً عنهم، أي: كانَتْ هَذِهِ مقالَةَ بَعْضِهِمْ لبعضٍ، ويحتملُ أنْ يكون عبارةً عن إذن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لهم في القعود، أيْ: لما كره اللَّه خروجهم، يَسَّر أَنْ قلْتَ لهم: اقعدوا مع القاعدين، والقعودُ هنا: عبارةٌ عن التخلُّفِ، وكراهيةُ اللَّهِ انبعاثهم: رِفْقٌ بالمؤمنين. وقوله سبحانه: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَّا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا الخبالُ: الفسادُ في الأشياء المؤتَلِفة كالمودات، وبَعْضِ الأجرامِ، لَأَوْضَعُوا معناه: لأسرعوا السّير،

[سورة التوبة (9) : الآيات 50 إلى 52]

وخِلالَكُمْ معناه: فيما بينكم. قال ص: خِلالَكُمْ جمع خَلَلٍ، وهو الفُرْجَة بين الشيئين، وانتصب على الظّرف ب لَأَوْضَعُوا، ويَبْغُونَكُمُ: حالٌ، أي: باغين. انتهى. والإِيضاع: سُرْعَةُ السير، ووقَعْتُ لَأَوْضَعُوا بألف بَعْدَ «لا» في المصحف، وكذلك وقعتْ في قوله: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل: 21] يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، أي: يطلبون لكم الفتْنَة، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، قال مجاهد وغيره: معناه: جواسيسُ يسمعون الأخبار، ويَنْقُلُونها إِليهم «1» ، وقال الجمهور: معناه: وفيكم مُطِيعُونَ سامعون لهم. وقوله سبحانه: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، في هذه الآية تحقيرٌ لشأنهم، ومعنَى قوله: مِنْ قَبْلُ: ما كان من حالهم في أُحُدٍ وغيرها، ومعنى قوله: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ: دبَّروها ظهراً لبطْنٍ، وسعوا بكُلِّ حيلةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، نزلَتْ في الجَدِّ بْنِ قيس، وأسند الطبريّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم/ قالَ: «اغْزُوا تَبُوكَ، تَغْنَمُوا بَنَاتِ الأصْفَرِ» فقال الجَدُّ: ائذن لَنَا وَلاَ تَفْتِنَّا «2» بالنِّسَاءِ، وقال ابن عبَّاس: إِن الجَدَّ قال: ولكنِّي أُعِينُكَ بِمَالِي «3» . وقوله سبحانه: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، أي: في الذي أظهروا الفرار منه. [سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 52] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) وقوله سبحانه: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ... الآية: الحسنَةُ هنا بحسب الغَزْوَة: هي الغنيمةُ والظفرُ، والمصيبةُ: الهزيمة والخيبةُ، واللفظ عامٌّ بعد ذلك في كلِّ محبوب ومكروه، ومعنى قوله: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ، أَيْ: قد أخذنا بالحَزْمِ في تخلّفنا

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 384) برقم: (16792- 16793) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 41) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 298) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 443) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 443) ، وعزاه إلى ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم في «المعرفة» . (3) ذكره ابن عطية (3/ 42) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 53 إلى 54]

وَنَظَرْنَا لأنفسنا، ثم أمر تعالَى نبيَّه، فقال: قل لهم يا محمَّد: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا، وهو إِما ظفراً وسروراً عاجلاً، وإما أن نستشهد فَنَدْخُلَ الجنة، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، أي: قل للمنافقين، والْحُسْنَيَيْنِ: الظَّفَرُ، والشَّهادة. وقوله: أَوْ بِأَيْدِينا، يريد: القَتْلَ. [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 54] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) وقوله سبحانه: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الآية: سَبَبُها أَنَّ الجَدَّ بْنَ قَيْسٍ حين قال: ائذن لي ولا تفتنِّي، قال: إِني أعينك بمالي «1» ، فنزلَتْ هذه الآية فيه، وهي عامَّة بعده. وقوله عزَّ وجلَّ: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. وفي «صحيح مسلم» عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِنَّ ثَوَابَ الكَافِرِ عَلَى أَفْعَالِهِ البَرَّةِ هُوَ في الطُّعْمَةِ يَطْعَمُهَا» «2» وَنَحْوَ ذلك، وهذا مَقْنَعٌ لا يحتاج معه إِلى نَظَرٍ، وأما أَنْ ينتفع بها في الآخرة فلا، وكُسالى: جمع كسلان. [سورة التوبة (9) : الآيات 55 الى 57] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وقوله سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... الآية: حقَّر في الآية شأْنَ المنافقين، وعلَّل إِعطاء اللَّه لهم الأَمْوَالَ والأولاد بإِرادته تعذيبهم بها في الحياةِ الدنيا، وفي الآخرة. قال ابنُ زَيْد وغيره: تعذيبُهم بها في الدُّنْيَا هو بمصائبها ورزايَاهَا، هِيَ لهم عذابٌ إذ لا يُؤْجَرُونَ عليها، ومِنْ ذلك قَهْرُ الشَّرعِ لهم على أداء الزكاةِ والحقوقِ والواجبات.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم.

قال الفَخْرُ «1» : أمَّا كون كثرة الأموال والأولادِ سَبَباً للعذاب في الدنيَا، فحاصَلٌ من وجوه: مِنْهَا: أن كلَّما كان حُبُّ الإِنسان للشيء أَشَدَّ وأقوَى، كان حزنُهُ وتألُّم قلبِهِ علَى فراقه أعظَمَ وأصعَبَ، ثم عند الموتِ يَعْظُمُ حزنه، وتشتدُّ حسرته، لمفارقته المحبوبَ، فالمشغوفُ بحبِّ المال والولدِ لا يزالُ في تَعَبٍ، فيحتاج في اكتساب الأموالِ وتحصيلها إِلى تعبٍ شديدٍ ومشقَّة عظيمةٍ، ثم عند حصولِهَا يحتاجُ إِلى متاعِبَ أَشدَّ وأصعَبَ في حفظها وصونِها لأن حفظ المَالِ بَعْد حصوله أصْعَبُ من اكتسابه، ثم إِنه لا ينتفع، إِلاَّ بالقليلِ مِنْ تلك الأموال، فالتعبُ كثيرٌ، والنفعُ قليلٌ، ثم قالَ: واعلم أنَّ الدنْيَا حلوةٌ خَضِرةٌ، والحواسُّ الخمسُ مائلةٌ إِليها، فإِذا كَثُرت وتوالَتْ استغرقت فيها، وانصرف الإِنسان بكلِّيته إِليها، فيصير ذلك سبباً لحرمانه من ذكْرِ اللَّهِ، ثم إِنه يحْصُلُ في قلبه نَوْعُ قسوةٍ وقوةٍ وقهْرٍ، وكلَّما كان المال والجاهُ أَكثر، كَانَتْ تلك القسوةُ أَقوَى، وإِلى ذلك الإِشارةُ بقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سَبَبٌ قويٌّ في زوال حُبِّ اللَّه تعالى وحبِّ الآخرة مِنَ القَلْبِ، وفي حصول الدنْيَا وشهواتِهَا في القَلْبِ، وعنْدَ الموت: كأَنَّ الإِنسان ينتقلُ من البستان إلى السِّجْن، ومِنْ مجالسة الأقرباءِ والأحبَّة إِلَى موضعِ الغُرْبَة والكُرْبة، فيعظُمُ تألمُّه، ويقوَى حزنه، ثم عند الحَشْر: حَلاَلُهَا حسابٌ، وحرامُها عِقَابٌ، فثبت أن كثرة الأمْوَالِ والأولادِ سَبَبٌ لحصولِ العَذَاب في الدُّنْيا والآخرة. انتهى. ثم أخبر سبحانه أنهم ليسوا مِنَ المؤمنين، / وإِنما هم يَفزَعُونَ مِنْهم، والفَرَقُ: الخوف. وقوله سبحانه: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً: الملجأ مِنْ لَجَأَ يَلْجَأُ، إِذا أَوَى واعتصم، وقرأ الجمهور: «أَوْ مَغَارَاتٍ» - بفتح الميم «2» -، وهي الغيران في أعراض الجبالِ، أَوْ مُدَّخَلًا، معناه: السَّرَبُ والنَّفَقُ في الأرض، وهو تفسير ابن عبَّاس «3» في هذه الألفاظ، وقرأ جمهور الناس: «يَجْمَحُونَ» : ومعناه يسرعون.

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (16/ 75) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 46) ، و «البحر المحيط» (5/ 56) ، و «الدر المصون» (3/ 474) . (3) أخرجه الطبري (6/ 392) برقم: (16823- 16824) ، وابن عطية (3/ 46) ، وذكره ابن كثير (2/ 363) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 447) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة التوبة (9) : الآيات 58 إلى 59]

قال الفَخْر «1» : قوله: وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون إِسراعاً لا يرد وجوههم شَيْء، ومِنْ هذا يقال: جمح الفَرَسُ، وفَرَسٌ جَمُوحٌ، وهو الذي إِذا حَمَلَ، لم يردّه اللجام، انتهى. [سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) وقوله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ ... الآية: أَيْ: ومن المنافقين مَنْ يلمزك، أيْ: يعيبُكَ ويأخذ منك في الغَيْبة ومنه قولُ الشاعر: [البسيط] إِذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَة ... وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الهَامِزُ اللُّمَزَهْ «2» ومنه قوله سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... الآية: المعنى: لو أن هؤلاء المنافقين رَضُوا قِسْمَةَ اللَّهِ الرزْقَ لهم، وما أعطاهم على يدِ رَسُولِهِ، وأقرُّوا بالرغْبَةِ إِلى اللَّهِ، لكان خَيْراً لهم، وحُذِفَ الجوابُ، لدلالة ظاهر الكَلاَمِ عليه، وذلك مِنْ فصيحَ الكلامِ وإيجازه. [سورة التوبة (9) : آية 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وقوله سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... الآية: إِنَّمَا في هذه الآيةِ حاصرةٌ تقتضي وقوفَ الصَدقاتِ على الثمانيةِ الأصناف، وإِنما أُخْتُلِفَ في صُورَة القِسْمَةِ، ومَذْهَب مالكٍ وغيره أَنَّ ذَلِكَ عَلى قَدْر الاجتهاد، وبحسب الحاجة، وأما الفقيرُ والمِسْكين، فقال ابن عبَّاس والحسن ومجاهدٌ والزُّهْرِيُّ وابن زَيْد وغيرهم: المَسَاكِينُ: الذين يَسْعَوْنَ وَيَسْأَلُونَ، والفقراء: الذين يتصَاوَنُون «3» ، وهذا القولُ أحسنُ ما قيل في هذا، وتحريره أن الفقيرَ هو الذي لا مَالَ له إِلا أنه لم يذلَّ نفسه، ولا يذلُّ وجهه وذلك إِما لتعفُّفٍ مفرط،

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (16/ 77) . (2) البيت لزياد الأعجمي، ينظر: «الكشاف» (4/ 795) ، «البحر المحيط» (8/ 509) ، و «القرطبي» (20/ 124) ، و «الدر المصون» (6/ 568) ، و «فتح القدير» (5/ 494) . (3) أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 395) برقم: (16834- 16839) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 48) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 302) ، والسيوطي (3/ 449) ، عن ابن عباس نحوه، وزاد نسبته إلى ابن المنذر والنحاس (3/ 450) عن الزهري بنحوه، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.

وإِما لِبُلغَةٍ تكون له، كالحَلُوبة وما أشبهها، والمسكينُ هو الذي يقترن بفقره تذلُّل وخضوعٌ وسؤالٌ، فهذه هي المَسْكَنَة ويقوِّي هذا أن اللَّه سبحانه قد وَصَف بني إِسرائيل بالمَسْكَنة، وقَرَنها بالذِّلَّة مع غناهم، وإِذا تأمَّلت ما قلناه، بَانَ أنهما صِنْفان موجُودَان في المسلمين. ت: وقد أكْثر الناس في الفَرْق بين الفَقِير والمِسْكِين، وأوْلَى ما يعوَّل عليه ما ثبت في ذلك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد رَوَى مالكٌ، عن أبي الزِّنَادِ «1» عن الأعرج «2» عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَيْسَ المِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ» «3» ، انتهى. وأوَّل أبو عمر في «التمهيد» هذا الحديثَ، فقال: كأنه أراد- واللَّه أعلم- ليس المسكينُ على تمامِ المَسْكَنة، وعلى الحقيقة، إِلا الذي لا يسأل النّاس. انتهى.

_ (1) عبد الله بن ذكوان الأموي، مولاهم، أبو الزّناد المدني، يكنى: أبا عبد الرحمن، كان أحد الأئمة، عن أنس، وابن عمر، وعمر بن أبي سلمة مرسلا. قال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال الواقدي: مات فجأة سنة ثلاثين ومائة. قال الحافظ شمس الدين الذهبي: ولي بعض أمور بني أمية فتكلم فيه لأجل ذلك، وهو ثقة حجة لا يعلق به جرح. ينظر: «الخلاصة» (2/ 53) ، «تهذيب الكمال» (2/ 679) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 203) و «تقريب التهذيب» (1/ 413) ، «الكاشف» (2/ 84) ، «الثقات» (7/ 6) . (2) عبد الرحمن بن هرمز الهاشمي، مولاهم، أبو داود المدني الأعرج، القارئ عن أبي هريرة، ومعاوية، وأبي سعيد، وعنه الزهري، وأبو الزّبير، وأبو الزّناد، وخلق، وثقه جماعة. قال أبو عبيد: توفي سنة سبع عشرة ومائة بالإسكندرية. ينظر ترجمته في: «الخلاصة» (2/ 53- 54) (3480) . (3) ورد ذلك من حديث أبي هريرة، وابن مسعود: فأما حديث أبي هريرة، فأخرجه البخاري (3/ 398) في «الزكاة» باب: قول الله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (1476، 1479) ، و (8/ 50) في «التفسير» باب: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (4539) ، ومسلم (2/ 719- 720) في «الزكاة» ، باب: المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له، فيتصدق عليه (101- 102- 1039) ، وأبو داود (1/ 513) في «الزكاة» باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى (1631- 1632) ، والنسائي (5/ 86) في «الزكاة» باب: تفسير المسكين، ومالك (92312) في صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم باب: ما جاء في المساكين (7) ، وأحمد (2/ 260، 316، 393، 395، 457، 469) ، والدارمي (1/ 379) في «الزكاة» ، باب: المسكين الذي يتصدق عليه، وأبو يعلى (6337) ، والحميدي (1059) ، والبيهقي (7/ 11) من طرق عنه. وأما حديث ابن مسعود، فأخرجه أحمد (1/ 384، 446) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 108) ، وأبو يعلى (5118) عن إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود مرفوعا به. قال الهيثمي (3/ 95) : رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. [.....]

[سورة التوبة (9) : الآيات 61 إلى 62]

وأَمَّا العاملون: فهم جُبَاتها يستنيبهم الإِمامُ في السعْي على الناس، وجَمْعِ صَدَقَاتهم، قال الجُمْهور: لَهُمْ قَدْر تعبهم ومؤنتهم، وأما الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فكانوا مُسْلِمين وكافرينَ مستَتِرِينَ مُظْهرين للإِسلام حتى وثَّقه الاستئلاف في أكثرهم، واستئلافهم إِنما كان لِتُجْلَبَ إلى الإِسلام مَنْفَعة، أو تُدْفَعَ عنه مَضَرَّة، والصحيحُ بَقَاءُ حكمهم إِن احتيج إِليهم، وأَما الرِّقابِ، فمذْهَبُ مالك وغيره هو ابتداء عِتْق مؤْمِن، وأما الغَارِمُ: فهو الرجُلُ يرْكَبه دَيْن في غير مَعْصِيَة ولا سَفَه، كذا قال العلماء، وأما فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فهو الغازِي، وإِن كانَ مَلِيًّا ببَلَده، وأمَّا ابْنِ السَّبِيلِ، فهو المسافِرُ، وإِن كان غنيًّا ببلده، وسمي المُسَافِرِ ابْنَ السبيلِ لملازمته السبيلِ. ومَنِ ادعى الفقْر صُدِّق إِلاَّ لريبة فيكلَّف حينئذٍ/ البيِّنة، وأمَّا إِن ادعى أنه غارمٌ أو ابن السبيل أو غازٍ، ونحو ذلك مما لا يُعْلَم إِلا منه، فلا يعطَى إِلا ببينة، وأهلُ بلد الصَّدقة أَحقُّ بها إِلا أن تَفْضُل فضلةٌ، فتنقل إِلى غيرهم. قال ابنُ حَبِيب: وينبغي للإِمام أن يأمِر السُّعَاة بتَفْريقها في المواضِعِ التي جُبِيَتْ فيها، ولا يحمل منها شيْءٌ إِلى الإِمام، وفي الحديثِ: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» «1» . وقوله سبحانه: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ: أي: موجبةً محدودةً. [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 62] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

_ (1) أخرجه البخاري (3/ 261) كتاب «الزكاة» باب: وجوب الزكاة، حديث (1395) ، ومسلم (1/ 50) كتاب «الإيمان» باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث (29/ 19) ، وأبو داود (2/ 242، 243) كتاب «الزكاة» باب: في زكاة السائمة، حديث (1584) ، والترمذي (2/ 69) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة، حديث (621) ، والنسائي (2/ 5) كتاب «الزكاة» باب: وجوب الزكاة، وابن ماجه (1/ 568) ، كتاب «الزكاة» باب: فرض الزكاة، حديث (1873) ، وأحمد (1/ 233) ، من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حجاب» .

وقوله سبحانه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أي: ومن المنافقين، ويُؤْذُونَ: لفظ يعمّ أنواع إذاءتهم له صلّى الله عليه وسلّم، وخص بعد ذلك مِنْ قولهم: هُوَ أُذُنٌ، وروي أن قائل هذه المقالة نَبْتَلُ بْنُ الحارثِ، وكان من مَرَدَةِ المنافقين، وفيه قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلِ بْنِ الحَارِثِ» «1» ، وكان ثائر الرأس، منتفشَ الشَّعْر، أحمر العينَيْن، أسْفَع الخدَّيْن، مشوَّهاً. قال الحسن البصريُّ ومجاهد: قولهم: هُوَ أُذُنٌ: أي: يسمع معاذيرنا ويقبلها «2» ، أي: فنحن لا نُبَالِي من الوقوع فيه، وهذا تنقُّص بقلَّة الحزم، وقال ابن عبَّاس وغيره: إِنهم أرادوا بقولهم: هُوَ أُذُنٌ: أي: يسمع كلَّ ما ينقَلُ إِليهِ عنا، ويصغَي إِليه «3» ويقبله، فهذا تَشَكٍّ منه عليه السلام، ومعنى أُذُنٌ: سماع، وهذا من باب تسمية الشيْء بالشيء، إِذا كان منْهُ بسبب كما يقال للرؤية: عيْن وكما يقال للمسنَّة من الإِبل التي قد بَزَلَ نابها: نَاب. وقيل: معنى الكلامِ: ذو أُذُنٍ، أَي: ذو سماع، وقيل: إِنه مشتقٌّ من قولهم: أَذِنَ إِلَى شَيْءٍ إِذا استمع ومنه قول الشاعر: [البسيط] صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا وقرأ نافع: «أذن» - بسكون الذال فيهما-، وقرأ الباقون «4» بضمِّها فيهما، وكلُّهم قرأ بالإِضافة إِلى «خير» إِلا ما رُوِيَ عن عاصمٍ، وقرأ الحسن «5» وغيره: «قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ» - بتنوين

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 116) بسنده عن ابن إسحاق، فذكره بلاغا. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (3/ 253) ، عن ابن عباس موصولا. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 406) برقم: (16917- 16918- 16919) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 52) ، وابن كثير (2/ 366) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 454) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة. (3) أخرجه الطبري (6/ 405- 406) برقم: (16916) ، وذكره ابن عطية (3/ 52) ، وابن كثير (2/ 366) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 454) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (4) وكأن نافعا استثقل ثلاث ضمات فسكّن. ينظر: «السبعة» (315) ، «الحجة للقراء السبعة» (4/ 198، 203) ، «حجة القراءات» ص: (319) ، «إعراب القراءات» (1/ 250) ، «إتحاف» (2/ 94) ، و «العنوان» (102) ، و «شرح شعلة» (412) . (5) وقرأ بها عاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر عنه. والمعنى حينئذ: «قل يا محمد فمن يستمع منكم ويكون قريبا منكم قابلا للعذر خير لكم» .

«أُذن» ، ورفع «خير» -، وهذا جار على تأويله المتقدِّم، والمعنى: من يقبل معاذيركم خيرٌ لكم، ورُوِيَتْ هذه القراءة عن عاصمٍ، ومعنى «أذن خيرٍ» على الإِضافة: أي سَمَاعُ خيرٍ وحقٍّ، ويُؤْمِنُ بِاللَّهِ: معناه: يصدِّق باللَّه، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: قيل: معناه: ويصدِّق المؤمنين، واللام زائدة، وقيل: يقال: آمَنْتُ لك، بمعنى: صدَّقتك ومنه: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يوسف: 17] . قال ع «1» : وعندي أن هذه التي معها اللامُ في ضِمْنها بَاءٌ، فالمعنَى: ويصدِّق للمؤمنين بما يخبرونه به، وكذلك قوله: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بِمَا نَقُوله. ت: ولما كانَتْ أخبار المنافقين تصلُ إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تارةً بإِخبار اللَّه له، وتارةً بإِخبار المؤمنين، وهم عدولٌ، ناسب اتصال قوله سبحانه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ بما قبله، ويكون التصديقُ هنا خاصًّا بهذه القضيَّة، وإِن كان ظاهر اللفظ عامّا إذ من المعلوم أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يَزَلْ مصدِّقاً باللَّه، وقرأ جميع السبعة إِلاَّ حمزة و «رَحْمَةٌ» - بالرفع- عطفاً على «أُذُن» ، وقرأ حمزة وحْده: و «رَحْمَةٍ» - بالخفض- عطفاً على «خَيْرٍ» ، وخصَّص الرحمة للذين آمنوا إِذ هم الذين فازوا ونَجْوا بالرسول عليه السلام، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ: يعني: المنافقين. وقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ: التقدير عند سيبَوَيْهِ: واللَّه أحقُّ أَن يرضوه، ورسوله أحَقُّ أن يرضُوه، فحذف الخَبَر من الجملة الأولَى، لدلالة الثانية عليه. وقيل: الضمير في «يرضوه» عائدٌ على المذكور كما قال رُؤْبَةُ: [الرجز] فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الجلد توليع البهق «2» أي: كأنّ المذكور.

_ ينظر: مصادر القراءة السابقة، و «معاني القراءات» (1/ 457) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 53) ، و «البحر المحيط» (5/ 64) ، وزاد نسبتها إلى مجاهد، وزيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (3/ 477) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 53) . (2) ينظر: «ديوانه» ص: (104) و «أساس البلاغة» ص: (509) (ولع) و «الأشباه والنظائر» (5/ 63) ، و «تخليص الشواهد» ص: (53) و «خزانة الأدب» (1/ 88) ، و «شرح شواهد المغني» (2/ 764) ، و «لسان العرب» (8/ 411) (ولع) ، (10/ 29) (بهق) ، و «المحتسب» (2/ 154) ، و «مغني اللبيب» (2/ 678) وبلا نسبة في «شرح شواهد المغني» (2/ 955) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 63 إلى 64]

[سورة التوبة (9) : الآيات 63 الى 64] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية: يُحادِدِ: معناه: يخالفُ ويشاقُّ. وقوله سبحانه: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ: يَحْذَرُ: خبرٌ عن حال قلوبهم. وقال الزَّجَّاج «1» وغيره: «يحذر» : الأمْرُ، وإِن كان لفظه لفْظَ الخبر كأنه قال: «ليحذر» . وقوله سبحانه: قُلِ اسْتَهْزِؤُا: لفظه لفظُ الأمر، / ومعناه التهديدُ، ثم أخبر سبحانه أنَّه مخرجٌ لهم ما يحذَرُونه إِلى حِينِ الوجودُ، وقد فعل ذلك تَبَارَكَ وتعالى في «سورة بَرَاءَةَ» ، فهي تُسمَّى «الفَاضِحَةَ» لأنها فضحت المنافقين. [سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) وقوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ... الآية: نَزلَتْ على ما ذكر جماعةٌ من المفسِّرين في وديعةَ بْنِ ثابِتٍ وذلك أنه مع قَوْمٍ من المنافقين كانوا يَسِيرُونَ في غزوة تَبُوكَ، فقال بعضهم: هذا يريدُ أن يَفْتَحَ قُصُور الشام، ويأخذ حصون بني الأصْفَرِ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! فوقَفهم رسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، وقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا: إِنما كنا نخُوضُ وَنَلْعَب، وذكر الطبريُّ «2» عن عبد اللَّه بن عمر أنه قَالَ: رَأَيْتُ قائل هذه المقالة «وديعةَ» متعلِّقاً بحقب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يماشيها، والحجارةُ تَنْكُبُه، وهو يقول: إِنما كنا نخوض ونلعب، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقوله: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ، ثم حكم سبحانه عَلَيْهم بالكُفْر، فقال لهم: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ «3» الآية.

_ (1) ينظر «معاني القرآن» (2/ 459) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 409) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 409) برقم: (16928) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 455) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 إلى 68]

وقوله سبحانه: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ، يريد فيما ذكره المفسِّرون، رجلاً واحداً، قيل: اسمه مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَر، قاله ابنُ إِسحاق، وذكر جميعهم أنَّه استشهد باليَمَامَةِ، وقد كان تَابَ، وتسمَّى عبد الرحمن، فدعا اللَّه أنْ يَسْتَشْهِدَ، ويُجْهَلَ أمره، فكان كذلك، ولم يوجَدْ جَسَده، وكان مَخْشِيٌّ مع المنافقين الذين قالوا: إِنما كنا نخوضُ وَنَلْعَبُ، فقيل: كان منافقاً، ثم تاب توبةً صحيحةً، وقيل: كان مسلماً مُخْلِصاً إِلا أنه سمع المنافقينَ، فَضَحِكَ لهم، ولم يُنْكِرْ عليهم، فعفا اللَّه عنْه في كلا الوجْهَيْن، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الّذين قالوا ما تقدّم. [سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 68] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) وقوله سبحانه: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ: يريد: في الحُكْم والمَنْزلة في الكُفْر، ولمَّا تقدَّم قبلُ: وَما هُمْ مِنْكُمْ [التوبة: 56] حَسُن هذه الإخبار، ويَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ: أي: عن الصدقة، وفعْلِ الخير، نَسُوا اللَّهَ: أَيْ: تركوه حِينَ تَرَكُوا اتباع نَبيِّه وشَرْعِهِ، فَنَسِيَهُمْ: أي: فتركَهم حين لم يَهْدِهِمْ، والكُفَّار في الآية: المُعْلِنُونَ، وقوله: هِيَ حَسْبُهُمْ: أي: كافيتهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 69 الى 72] كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) وقوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: أي: أنتم، أيها المنافقُونَ، كالذين مِنْ قبلكم كانوا أشدَّ منكم قوةً، فَعَصَوْا فأهلكوا، فأنتم أولَى بالإِهلاك لمعصيتكم وضَعْفِكم، والخَلاَقُ: الحَظُّ من القَدْرِ والدينِ وجميعِ حال المَرْءِ، فخلاقُ المَرْء: الشيء الذي هُوَ به خليقٌ، والمعنى: عَجَّلوا حَظَّهم في دنياهم، وتركوا الآخرة، فاتبعتموه أنتم،

أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: المعنى: وأنتم أيضاً كذلك، ويحتمل أنْ يريد ب أُولئِكَ: المنافقين. وقوله سبحانه: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ... الآية: المعنى ألم يأتِ هؤلاءِ المنافقين خَبَرُ الأُمم السالفة التي عَصَتِ اللَّه بتكْذيب رسله، فأهلكها، وقَوْمِ إِبْراهِيمَ: نُمْرُود وأصحابه وأَتْبَاعَ دَوْلَته، وَأَصْحابِ مَدْيَنَ قومُ شُعَيْب، وَالْمُؤْتَفِكاتِ: أهلُ القرى الأربعةِ أو السَّبْعة التي بعث إِليهم لوطٌ عليه السلام، ومعنى الْمُؤْتَفِكاتِ: المنصرفَاتُ والمنْقَلِبَاتُ أُفِكَتْ فَأْتَفَكَتْ لأنها جعل عاليها سافلها، ولفظ البخاريّ: الْمُؤْتَفِكاتِ: ائتفكت: انقلبت بهم الأرضُ. انتهى. والضمير في أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ: عائدٌ على هذه الأمم المذكورة، ثم عقَّب سبحانه بذكْر المؤمنين، وما مَنَّ به علَيْهِمْ مِنْ حُسْن الأعمال ترغيباً وتنشيطاً لمبادرة ما به أَمَرَ لطفاً منه بعباده سبحانه، لا ربَّ غيْرُهُ، ولا خَيْر إِلا خيره. وقوله سبحانه: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ: قال ابن عباس: هي الصلوات الخمس «1» . قال ع «2» : وبحسب هذا تكون الزَّكَاةُ هي المفروضةُ، والمَدْحُ عندي بالنوافلُ أبلغُ إِذ من يقيم النوافِلَ أحْرَى بإِقامة/ الفَرْض، والسين في قوله: سَيَرْحَمُهُمُ: مُدْخِلَةٌ في الوَعْدِ مُهْلَةً لتكون النفوسُ تنعم برجائه سبحانه، وفَضْلُه سبحانه زعيمٌ بالإِنجاز، وذكَر الطبريُّ «3» في قوله تعالى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً، عن الحسن أنَّه سأل عنها عِمْرَانَ بنَ حُصَيْن وأبا هريرة، فقالا: على الخَبِيرِ سَقَطَت! سَأَلْنَا عَنْهَا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: «قَصْرٌ فِي الجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فِيهِ سَبْعُونَ دَاراً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاء، في كُلِّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً» «4» ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ، ويقرب منها، فاختصرتها طَلَبَ الإِيجاز. ت: وتمام الحديث من «الإِحياءِ» ، وكتاب الآجُرِّيِّ المعروف ب «كتاب النصيحة» ، عن الحسن عن عمرانَ بن حُصَيْن وأبي هريرة، قالا: «على كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ، وفِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مائدة،

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 415) برقم: (19654) ، وذكره ابن عطية (3/ 58) . (2) ينظر «المحرر الوجيز» (3/ 58) . [.....] (3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 416) . (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 461) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 73 إلى 74]

عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الطَّعَامِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، وَيُعْطَى المُؤْمِنُ فِي كُلِّ غَدَاةٍ مِنَ القُوَّةِ مَا يَأَتِي عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ» «1» ، وأما قوله سبحانه: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، ففي الحديث الصحيح أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يَقُولُ لِعِبَادِهِ إِذَا استقروا فِي الجَنَّةِ: «هَلْ رَضِيتُمْ؟! فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لاَ نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل مِنْ هَذَا كُلِّهِ، رِضْوَانِي، أَرْضَى عَنْكُمْ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدا ... » «2» الحديث، وقوله: أَكْبَرُ: يريد: أَكْبَرُ من جميعِ ما تقدَّم، ومعنى الآيةِ والحديث مُتَّفِقٌ، وقال الحسن بن أبي الحسن: وصل إِلى قلوبهم برضْوَانِ اللَّهِ مِن اللَّذَّة والسُّرور ما هو أَلَذُّ عندهم وأقرُّ لأَعينهم من كل شيء أصابُوه من لَذَّة الجَنَّة، قال الإِمام «3» الفَخْر: وإِنما كان الرضوان أَكْبَرَ لأَنه عند العارفين نَعِيمٌ رُوحَانِيٌّ، وهو أشرفُ من النعيم الجِسْمَانيِّ. انتهى. انظره في أوائل «آل عمران» . قال ع «4» : ويظهر أن يكون قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ إِشارةً إِلى منازل المقرَّبين الشاربين مِنْ تسنيمٍ، والذين يَرَوْنَ كما يُرَى النَّجْمُ الغَابِرُ في الأُفُق، وجميعُ من في الجنة رَاضٍ، والمنازل مختلفةٌ، وفضل الله متّسع، والْفَوْزُ: النجاةُ والخَلاَصُ، ومن أُدْخِلَ الجنة فقد فاز، والمقرَّبونَ هم في الفوز العظيم، والعبارةُ عندي ب «سرور وكمالٍ» أجوَدُ من العبارة عنها ب «لذة» ، واللَّذَّة أيضاً مستعملة في هذا. [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ: أي: بالسيف والْمُنافِقِينَ، أي: باللسان والتعنيفِ والاكفهرار في الوجْه، وبإِقامة الحدود عليهم. قال الحَسَن: وأكثر ما كَانَتِ الحدودُ يومئذٍ تصيبُ المنافقين، ومذْهَبُ الطبريِّ أَنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، فلفظةٌ عامَّة في الأفعال والأقوال، ومعنى الغِلَظِ: خشن الجانب، فهو ضدّ قوله تعالى:

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) ينظر: «تفسير الرازي» (16/ 106) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 59) .

وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ، وقولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا ... الآية، نزلَتْ في الجُلاَسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وقوله: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ محمَّد حقًّا، لَنَحْنُ شر مِنَ الحُمُر، فسمعها منه رَبِيبُهُ أو رجل آخر، فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجاء الجُلاسُ، فَحَلَفَ باللَّه مَا قالَ هذه الكلمة، فنزلَتِ الآية، فكلمة الكُفْر: هي مقالته هذه لأن مضمنها قَوِيٌّ في التكذيب، قال مجاهد: وقوله: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا: يعني: أنَّ الجُلاَس قد كان هَمَّ بقَتْل صاحبه الذي أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال قتادة: نزلَتْ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سَلُولَ، وقوله في غزوة المُرَيْسِيعِ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلاَّ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، ولَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ [المنافقون: 8] ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فوقفه، فَحَلفَ أَنَّه لم يقُلْ ذلك، فنزلَتِ الآية مكذِّبة له. ت: وزاد ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» قولاً ثالثاً أنَّ الآية نزلَتْ في جماعة المنافقين قاله الحسن، وهو الصحيحُ/ لعموم القول ووجود المعنَى فيه، وفيهم، انتهى. وحدَّث أبو بَكْرٍ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، قال: سُئِلَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الهَمِّ: أيؤاخَذُ به صاحِبُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَزْماً أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ... الآية، إِلى قوله: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، فجعل عليهم فيه التَّوْبَةِ، قال سفيانُ: الهَمُّ يسوِّد القلْبَ انتهى. قال ع «2» : وعلى تأويل قتادة، فالإِشارة ب كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِلى تمثيل ابنِ أُبَيٍّ «سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ» «3» . قال قتادة: والإِشارة ب هَمُّوا إِلى قوله: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ «4» [المنافقون: 8] . وقال الحَسَنُ: هُمَّ المنافِقُونَ من إِظهار الشرك ومكابرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما لم ينالوا «5» ، وقال تعالَى: بَعْدَ إِسْلامِهِمْ، ولم يقل: «بعد إِيمانهم» لأن ذلك لم يتجاوزْ ألسنتهم. وقوله سبحانه: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ ... الآية: كأَنَّ الكلامَ، وما نقموا إِلا ما حقُّه أنْ يُشْكَرَ، وذُكِرَ رسولُ اللَّه في إِغنائهم منْ حَيْثُ كَثُرَتْ أموالهم من الغنائم،

_ (1) ينظر: «الأحكام» (2/ 979) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 60) . (3، 4) أخرجه الطبري (6/ 422) برقم (16989) ، وذكره ابن عطية (3/ 60) ، وابن كثير (2/ 371) . (5) ذكره ابن عطية (3/ 60) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 إلى 79]

ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَبَبٌ في ذلك، وعلى هذا الحَدِّ قال عليه السلام للأنصارِ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: «كُنْتُمْ عَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ» ، قال العراقيُّ: نَقَمُوا: أي: أنْكَرُوا. وقال ص: إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ: إِنْ وصلْتَها: مفعولُ نَقَمُوا: أي: ما كرهوا إِلا إِغْنَاء اللَّه إِياهم، وقيل: هو مفعولٌ من أجله، والمفعولُ به محذوفٌ، أي: ما كرهوا الإِيمانَ إِلاَّ للإِغناء. انتهى. ثم فتح لهم سبحانَهُ بابَ التَّوْبةِ رفقاً بهم ولطفاً، فروي أن الجُلاَسَ تَابَ من النفاقِ، وقال: إِن اللَّه قَدْ تَرَكَ لي بَابَ التَّوْبَة، فاعترف وأخلص، وحسنت توبته «1» . [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 79] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... الآية: هذه الآية نزلَتْ في ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطب الأنصاريِّ «2» ، قال الحسن: وفي معتّب بن قشير معه،

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 424) برقم: (16999) ، وذكره ابن عطية (3/ 61) ، والبغوي (2/ 311) . (2) جاءت في «الإصابة» ترجمة ثعلبة بن حاطب أو ابن أبي حاطب الأنصاري بعد ترجمة ثعلبة بن حاطب بن عمرو وقال في ثعلبة بن حاطب أو ابن حاطب الأنصاري: ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار، وروى الباوردي وابن السكن وابن شاهين وغيرهم في ترجمة الذي قبله من طريق معان بن رفاعة، عن عليّ بن زيد، عن القاسم، عن أبي أمامة- أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لاَ تطيقه ... » . فذكر الحديث بطوله في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له وكثرة ماله ومنعه الصدقة ونزول قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ.... وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات ولم يقبض منه الصدقة، ولا أبو بكر، ولا عمر، وأنه مات في خلافة عثمان. قال ابن حجر: وفي كون صاحب هذه القصة- إن صحّ الخبر ولا أظنه يصحّ- وهو البدري المذكور قبله- نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما، يقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضا أن ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية عن ابن عبّاس في الآية المذكورة. قال: وذلك أن رجلا يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار أتى مجلسا فأشهدهم فقال: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: 75] الآية فذكر القصّة بطولها، فقال: إنه ثعلبة بن أبي حاطب، والبدريّ اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النّار أحد شهد بدرا والحديبيّة» . وحكى عن ربّه أنه قال لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه، وينزل فيه ما نزل؟ فالظاهر أنه غيره، والله أعلم.

واختصار ما ذكره الطبريُّ «1» وغيره مِنْ أمره: أنه جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادع اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي مَالاً، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ ذَا مَالٍ، لَقَضَيْتُ حُقُوقَهُ، وَفَعَلْتُ فِيهِ الخَيْرَ، فَرَادَهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَالَ: «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تطيقه» فعاود، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَوْ دَعَوْتُ اللَّه أَنْ يُسَيِّرَ الجِبَالَ مَعِي ذَهَباً، لَسَارَتْ» فَأَعَادَ عَلَيْهِ حَتَّى دَعَا لَهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِذَلِكَ، فاتخذ غَنَماً، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ حتى ضاقَتْ به المدينةُ، فتنحَّى عنها، وكَثُرت غنمه، حتَّى كان لا يُصَلِّي إِلا الجُمُعَةَ، ثم كَثُرَتْ حتى تَنَحَّى بعيداً، فترك الصَّلاَة، وَنَجَمَ نِفَاقه، وَنَزَلَ خلال ذلك فَرْضُ الزكاةِ، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مُصَدِّقِينَ بكتابه في أخْذ زكاة الغَنَمِ، فلما بلغوا ثَعْلَبَةَ، وقرأ الكِتَابَ، قالَ: هَذِهِ أُخْتُ الجِزْيَةِ، ثم قال لهم: دَعُونِي حَى أَرَى رأيي، فلما أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأَخْبَروه، قال: «وَيْح ثَعْلَبَة» ثَلاَثاً، ونزلَتْ الآية فيه، فحضر القصَّةَ قريبٌ لثعلبة، فخرج إِليه، فقال: أَدْرِكْ أَمرك، فقد نَزَلَ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، فَرَغِبَ أَنْ يؤدِّي زكاتَهُ، فأعرض عنه رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَلاَّ آخُذَ زَكَاتَكَ» ، فبقي كذلك حتّى توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم وَرَدَ ثَعلبةُ على أبي بَكْر، ثم على عمر، ثم على عثمان، يرغَبُ إِلى كلِّ واحد منهم أنْ يأخذ منه الزكاةَ، فكلّهم ردّ ذلك وأباه اقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبقي ثعلبةُ كذلك حتى هَلَكَ في مدَّة عثمان «2» . وفي قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ: نصٌّ في العقوبة على الذَّنْب بما هو أشدُّ منه. وقوله: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ: يقتضي موافاتَهُمْ على النّفاق، قال ابن العربيّ: في ضمير

_ ينظر في: «أسد الغابة» (5/ 48) ، «الإصابة» (6/ 33) ، «تهذيب مستمر الأوهام» (ب 144) ، «الاستيعاب» (3/ 1358) ، «الجرح والتعديل» (8/ 215) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 68) ، «الطبقات الكبرى» (5/ 530) ، (6/ 29) ، «الأنساب» (3/ 108) . (1) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 425) . [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 425- 426) رقم (17002) والواحدي في «الوسيط» (2/ 513) بتحقيقنا، وفي «أسباب النزول» ص: (191- 192) من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي به. وذكره الهيثمي في «المجمع» (7/ 34) ، وعزاه للطبراني. وقال: وفيه علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (3/ 135) سنده ضعيف، والحديث ضعفه الحافظ في «تخريج الكشاف» (77) وقال: إسناده ضعيف جدا. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 467) ، وعزاه إلى الحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والعسكري في «الأمثال» ، والطبراني وابن منده والباوردي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» وابن عساكر.

يَلْقَوْنَهُ قولان: أحدهما: أنه عائدٌ على اللَّه/ تعالى. والثاني: أنه عائدٌ على النفاقِ مجازاً على تقدير الجَزَاءِ كأنه قال: فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يَوْمِ يلقون جَزَاءَهُ. انتهى من «الأحكام» . ويَلْمِزُونَ: معناه: ينالون بألسنتهم، وأكثر الروايات في سَبَبِ نزول الآية أَنَّ عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ تصدَّق بأربعة آلاف، وأمْسَكَ مثلها. وقيل: هو عمر بنُ الخطَّاب تصدَّق بِنِصْفِ مالِهِ، وقيل: عاصمُ بْنُ عَدِيٍّ «1» تصدَّق بمائَةِ وَسْقٍ «2» ، فقال المنافقون: ما هذا إِلا رياء، فنزلَتِ الآية في هذا كلِّه، وأما المتصدِّق بقليل، فهو أبو عقيل تصدَّق بصاعٍ من تمرٍ، فقال بعضهم: إِن اللَّه غنيٌّ عن صاعِ أبي عقيل، وخرَّجه البخاريُّ «3» ، وقيل: إِن الذي لُمِزَ في القليلِ هو أبو خَيْثَمَةَ قاله كعب بن مالك «4» . فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ: معناه: يستهزئون ويستخفُّونْ وروى مسلم عن جرير بن

_ (1) هو: عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل بن عمرو بن ودم بن ذبيان، أبو عبد الله، قال ابن الأثير: شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: لم يشهد بدرا بنفسه لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رده من الروحاء واستخلفه على العالية من المدينة، قاله محمد بن إسحاق وابن شهاب وضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره. توفي سنة 45 وله 115 سنة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 114) ، «الإصابة» (4/ 5) ، «الثقات» (3/ 286) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 282) ، «الاستيعاب» (2/ 781) ، «الاستبصار» (298) ، «بقي بن مخلد» (256) ، «الجرح والتعديل» (6/ 345) ، «أصحاب بدر» (158) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 49) ، «تهذيب الكمال» (2/ 636) ، «الأعلام» (3/ 248) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 270) ، «شذرات الذهب» (1/ 54) . (2) الوسق: ستون صاعا وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثلاثون رطلا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد. ينظر: «لسان العرب» (4836) . (3) ورد هذا في حديث أخرجه البخاري (8/ 181) كتاب «التفسير» باب: «الذين يلمزون المطوعين في الصدقات» برقم: (4668- 4669) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن ابن عباس أخرجه الطبري (6/ 430) برقم: (17018) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 63) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 375) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 470) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 432) برقم: (17031) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (3/ 63) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 470) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 80 إلى 81]

عبد اللَّهِ، قال: كُنْتُ عند رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم في صدر النهار، قال: فجاءَه قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ متقلِّدي السُّيُوف، عَامَّتِهِم مِنْ مُضَرَ، بلِ كلُّهم مِنْ مُضَرَ، فتمعَّر وَجْهُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالاً، فأَذَّن وأقَام، فصلَّى ثم خطب، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ... إِلى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1] والآية التي في سورة الحشر: واتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّه، مِنْ صَاعِ تَمْره حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تتابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رأَيْتُ كُومَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حتّى رأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلّل كأنّه مذهبة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» «1» . انتهى. [سورة التوبة (9) : الآيات 80 الى 81] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) وقوله سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ: المعنى: أَنَّ اللَّه خَيَّر نبيَّه في هذا، فكأنه قال له: إِن شئْتَ فاستغفر لهم، وإِن شئت لا تستغفر، ثم أعلمه أنَّه لا يغفِرُ لهم، وإِن استغفر سبعين مرَّةً، وهذا هو الصحيحُ في تأويل الآية، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَيَّرَنِي فاخترت، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنِّي إِذَا زِدتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ لَزِدْتُ ... » «2» الحديث، وظاهرُ لفْظِ الحديثِ رفْضُ إلزام دليل الخطاب، وظاهر صلاته صلّى الله عليه وسلّم عَلَى ابن أُبَيٍّ أَنَّ كُفْره لم يكنْ يقيناً عنده، ومحالٌ أَنْ يُصلِّيَ على كافرٍ، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار

_ (1) أخرجه مسلم (2/ 704- 705) كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، حديث (69/ 1017) ، والنسائي (5/ 75) كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة، حديث (2554) من حديث جرير. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 435) برقم: (17045) عن ابن عباس. وأخرجه عن مجاهد أيضا (6/ 434) برقم: (17040، 17043) بنحو حديث ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 472) وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي شيبة وابن المنذر.

[سورة التوبة (9) : الآيات 82 إلى 84]

ووَكَلَ سريرته إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وعلَى هذا كان سَتْرُ المنافقين، وإِذا ترتَّب كما قلنا التخييرُ في هذه الآيةِ، صَحَّ أَنَّ ذلك التخييرَ هو الَّذِي نُسِخَ بقوله تعالى في «سورة المنافقين: [6] » : سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. ت: والظاهر أن الآيتين بمعنًى، فلا نَسْخ، فتأمَّله، ولولا الإِطالة لأَوْضَحْت ذلك. قال ع «1» : وأما تمثيله بالسبعين دُونَ غيرها من الأعدادِ، فلأَنه عددٌ كثيراً مَّا يجيءُ غايةً ومقنعاً في الكَثْرة. وقوله: ذلِكَ إِشارة إِلى امتناع الغُفْرَانِ. وقوله عزَّ وجلَّ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ... الآية: هذه آية تتضمَّن وصف حالِهِمْ، على جهة التوبيخ، وفي ضمنها وعيدٌ، وقوله: الْمُخَلَّفُونَ: لفظٌ يقتضي تحقيرَهُم، وأنهم الذين أبعدهم اللَّه مِنْ رضاه/ و «مقْعَد» : بمعنى القُعُود، و «خِلاَف» : معناه: «بَعْدَ» ومنه قولُ الشاعر: [الطويل] فَقُلْ للَّذِي يَبْغِي خِلاَفَ الَّذِي مَضَى ... تَأَهَّبْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَد يريد: بعد الذي مَضَى. وقال الطبريُّ «2» : هو مصدرُ: خَالَفَ يُخَالِفُ، وقولهم: لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ: كان هذا القول منهم لأن غزوة تبوك كَانَتْ في شدّة الحرّ وطيب الثمار. [سورة التوبة (9) : الآيات 82 الى 84] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وقوله سبحانه: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إِشارة إِلى مدة العُمر في الدنيا. وقوله: وَلْيَبْكُوا كَثِيراً إِشارةٌ إِلى تأبيدِ الخلودِ في النَّارِ، فجاء بلَفْظ الأمر، ومعناه الخبر عن حالهم، وتقديرُ الكلام: لِيَبْكُوا كثيراً إِذ هم معذَّبون، جزاءً بما كانوا يكسبون،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 64) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 435) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 85 إلى 89]

وخرَّج ابن ماجه بسنده، عن يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ «1» ، عن أنس، قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يُرْسَلُ البُكَاءُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَتَّى تَصِيرَ في وُجُوهِهِمْ كَهَيْئَةِ الأُخْدُودِ لَوْ أُرْسِلَتْ فِيهَا السُّفُنُ لَجَرَتْ» «2» ، وخرَّجه ابن المبارك أيضاً عن أنس، قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يا أيّها النَّاسُ، ابكوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ تَسِيلُ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعَ، فَتَسِيلُ الدِّمَاءُ، فَتُقَرِّحُ العُيُونَ، فَلَوْ أَنَّ سُفُناً أُجْرِيَتْ فِيهَا، لَجَرَتْ» «3» ، انتهى من «التذكرة» . وقوله سبحانه: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ... الآية: يشبه أنْ تكون هذه الطائفةُ قد حُتِمَ عليها بالموافاة على النفاق، وعيّنوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ: نصٌّ في موافاتهم على ذلك وممَّا يؤيِّد هذا ما روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عَيَّنهم لحذيفةَ بْنِ اليمانِ، وكان الصحابة إِذا رأَوْا حذَيفةَ تأخَّر عن الصَّلاة على جنازة، تأَخَّرُوا هم عنها، وروِي عَنْ حذيفة أَنه قَالَ يَوْماً: بَقِيَ من المنافقين كَذَا وَكَذَا «4» . وقوله: أَوَّلَ هو بالإِضافة إِلى وَقْت الاستئذان، و «الخالفون» : جَمْعُ مَنْ تخلَّف من نساءٍ، وصبيان، وأهْل عذر، وتظاهرت الرواياتُ أنه صلَّى الله عليه وسلّم صلَّى على عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُول، وأَنَّ قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ نزلَتْ بعد ذلك، وقد خرَّج ذلك البخاريُّ من رواية عمر بن الخَطَّاب. انتهى. «5» . [سورة التوبة (9) : الآيات 85 الى 89] وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

_ (1) يزيد بن أبان الرّقاشي أبو عمرو البصري الزاهد، عن أبيه، وأنس، وعنه الأعمش، وأبو الزّناد من أقرانه، تكلم فيه شعبة. وقال الفلّاس: ليس بالقوي، وضعفه ابن معين وله أخبار في المواعظ والخوف والبكاء. ينظر ترجمته في «الخلاصة» (3/ 166) (8093) . (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1446) كتاب «الزهد» باب: صفة النار، حديث (4324) . وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 323) هذا إسناد فيه يزيد بن أبان الرقاشي، وهو ضعيف. (3) أخرجه أبو يعلى (7/ 162) برقم: (4134) من طريق يزيد عن أنس به. وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 394) وقال: روى ابن ماجه بعضه، رواه أبو يعلى، وأضعف من فيه يزيد الرقاشي وقد وثق على ضعفه. (4) ذكره ابن عطية (3/ 66) . (5) تقدم تخريجه. [.....]

[سورة التوبة (9) : الآيات 90 إلى 92]

وقوله سبحانه: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ: تقدم تفسير مثل هذه الآية، والطَّوْلُ في هذه الآية المالُ قاله ابن عباس وغيره «1» ، والإِشارة بهذه الآيةِ إِلى الجَدِّ بْنِ قَيْسٍ ونظرائِهِ، و «القاعدون» : الزَّمْنَى وأهْلُ العُذْر في الجُمْلَة، والْخَوالِفِ: النساءُ جَمْعُ خالفةٍ هذا قول جمهور المفسِّرين. وقال أبو جعفر النَّحَّاس: يقال للرجُلِ الذي لا خَيْرَ فيه: خَالِفَةٌ، فهذا جمعه بحَسَبِ اللفظ، والمراد أخسَّةُ الناسِ وأخلافهم ونحوه عن النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وقالت فرقة: الخوالفُ: جمعُ خَالِفٍ كفَارِسٍ وَفَوَارِس. وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ: أي: لا يفهمون، والْخَيْراتُ: جمع خَيْرَة، وهو المستحْسَنُ من كلِّ شيء. وقوله سبحانه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: أَعَدَّ: معناه يَسَّر وَهَيَّأ، وباقي الآية بيّن. [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) وقوله سبحانه: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ... الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: هؤلاء كانوا مؤمنين، وكانَتْ أَعذارُهُم صادقة «2» ، وأصل اللفظة: «المُعْتَذِرُونَ» ، فقلبت التاءُ ذالاً وأدغمتْ، وقال قتادة، وفرقةٌ معه: بل الذين جاؤوا كفرةٌ «3» ، وقولُهُمْ وعُذْرهم كَذِبٌ. قال ص: والمعنى: تكلَّفوا العُذْر، ولا عذر لهم، وكَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ،

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 441) برقم: (17076) ، (17077) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 68) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 476) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) ذكره ابن عطية (3/ 69) ، والبغوي (2/ 318) ، وابن كثير (2/ 381) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 477) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 444) برقم: (17089- 17090) ، وذكره ابن عطية (3/ 70) ، وابن كثير (2/ 381) نحوه.

أي: في إيمانهم. انتهى. وقوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ... الآية/ قوله: مِنْهُمْ يؤيِّد أن المعذِّرين كانوا مؤمنين، فتأمَّله، قال ابنُ إِسحاق: المعذِّرون: نَفَرٌ من بني غِفَارٍ وهذا يقتضي أنهم مؤمنون. وقوله جلَّت عظمته: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ... الآية: يقولُ: ليس على أهل الأعذار مِنْ ضَعْف بدنٍ أو مرضٍ أو عدمِ نفقةٍ إِثمٌ والحَرَجُ: الإِثم. وقوله: إِذا نَصَحُوا: يريد: بنيَّاتهم وأقوالهم سرًّا وجهراً، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ: أي: من لائمةٍ تناطُ بِهِمْ، ثم أكَّد الرجاءَ بقوله سبحانه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقرأ ابنُ عبَّاس «1» : «وَاللَّهُ لأَهْلِ الإِسَاءَة غَفُورٌ رَحِيم» ، وهذا على جهة التفسيرِ أشبهُ منه على جهةِ التلاوة لخلافه المصحف، واختلف في من المرادُ بقوله: الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ: فقالتْ فرقة: نَزلَتْ في بَنِي مُقَرِّنٍ: ستَّة إِخوة، وليس في الصحابة ستَّة إِخوة غيرهم، وقيل: كانوا سبعةً. وقيل: نزلَتْ في عائِذِ بْنِ عمرو المُزَنيِّ قاله قتادة «2» ، وقيل: في عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَعْقِلٍ المزَنِّي «3» . قاله ابن عباس «4» . وقوله عَزَّ وجلَّ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ هذه الآيةُ نزلَتْ في البَكَّائين، واختلف في تعيينهم، فقيل: في أبي موسَى الأشعريِّ وَرَهْطِهِ، وقيل: في بني مُقَرِّنٍ وعلى هذا جمهور المفسِّرين، وقيل: نزلَتْ في سبعة نَفَرٍ من بطونٍ شتَّى، فهم

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 70) ، و «البحر المحيط» (5/ 88) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 445) برقم: (17093) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 478) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) عبد الله بن معقل بن مقرن، أبو الوليد المزني، قال ابن حجر في «الإصابة» : ذكره ابن فتحون في «ذيل الاستيعاب» ولم يذكر مستندا لذكره في الصحابة، وقد قال ابن قتيبة: ليست له صحبة ولا إدراك، وذكره في التابعين ابن سعد، والعجلي، والبخاري، وابن حبان وغيرهم، وله رواية عند أبي داود في «المراسيل» ، وقال بعده: ابن معقل لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال العجلي: تابعي ثقة من خيار التابعين. توفي سنة 88 تقريبا. ينظر ترجمته في «الإصابة» (5/ 144) ، «الثقات» (5/ 35) ، «بقي بن مخلد» (644) ، «الجرح والتعديل» (5/ 169) ، «تقريب التهذيب» (1/ 453) ، «سير أعلام النبلاء» (4/ 206) . (4) أخرجه الطبري (6/ 445) برقم: (17094) ، وذكره ابن عطية (3/ 70) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 93 إلى 94]

البكّاءون، وقال مجاهد: البكّاءون هم بنو مُقَرِّن من مُزَيْنة «1» ، ومعنى قوله: لِتَحْمِلَهُمْ: أيْ: عَلَى ظَهْر يُرْكَبُ، ويُحْمَل عليه الأثاثُ. ت: وقصة أبي موسَى الأشعريِّ ورَهْطِهِ مذكورةٌ في الصَّحيح، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «2» : القول بأن الآية نزلَتْ في أبي موسى وأصحابه هو الصحيح، انتهى. [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 94] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) وقوله سبحانه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ ... الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في المنافقين المتقدِّم ذكْرُهُمْ: عبدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، والجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبٌ، وغيرهم. وقوله: إِذا رَجَعْتُمْ: يريد: مِنْ غزوةَ تَبُوكَ، ومعنَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ: لن نصدِّقكم، والإِشارة بقوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ إِلى قوله: مَّا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: 47] ، ونحوه من الآيات. وقوله سبحانه: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ: توعُّد، والمعنى: فيقع الجزاءُ عليه، قال الأستاذ أبو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: اعمل للدنيا بقَدْر مُقَامِكَ فيها، واعمل للآخرة بقَدْر بقائك فيها، واستحيي مِنَ اللَّه تعالى بقَدْرِ قُرْبه منْكَ، وأَطِعْهُ بقَدْر حَاجَتِكَ إِليه، وخَفْهُ بقَدْر قُدْرته عليك، واعصه بِقَدْر صَبْرَكَ على النَّار. انتهى من «سراج الملوك» . وقوله: ثُمَّ تُرَدُّونَ: يريد البَعْثَ من القبور. [سورة التوبة (9) : الآيات 95 الى 97] سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وقوله عز وجل: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ... الآية: قيل: إن هذه

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 446) برقم: (17095، 17098) ، وذكره ابن عطية (3/ 71) ، وابن كثير (2/ 381) . (2) ينظر: «الأحكام» (2/ 993) .

[سورة التوبة (9) : آية 98]

الآية من أول ما نَزَلَ في شأن المنافقين في غزوة تَبُوكَ. وقوله: إِنَّهُمْ رِجْسٌ: أي: نَتَنٌ وقَذَر، وناهِيكَ بهذا الوَصْف مَحَطَّةً دنيويةً، ثم عطف بمحَطَّةِ الآخِرَةِ، فقال: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، أي: مسكنهم. وقوله: فَإِنْ تَرْضَوْا ... إِلى آخر الآية: شَرْطٌ يتضمَّن النهْيَ عن الرضا عنهم، وحُكْم هذه الآية يستمرُّ في كل مغموص عليه ببدْعَةٍ ونحوها. وقوله سبحانه: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً: هذه الآيةُ نزلَتْ في منافقين كانوا في البوادِي، ولا محالة أنَّ خوفهم هناك كان أقلَّ من خوف منافِقِي المدينة، فألسنتهم لذلك مطلقة، ونفاقهم أنجم، وأَجْدَرُ: معناه أحْرَى. وقال ص: معناه/ أحقُّ، والحُدُودُ هنا: السّنن والأحكام. [سورة التوبة (9) : آية 98] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وقوله سبحانه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً ... الآية نصٌّ في المنافقين منهم، و «الدوائر» : المصائبُ، ويحتمل أن تشتقَّ من دَوَرَانِ الزمانِ، والمعنَى: ينتظر بكم ما تأتي به الأيام، وتدُورُ به، ثم قال على جهة الدعاء: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وكلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عزَّ وجل، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء لأَنَّ اللَّه لا يَدْعُو على مخلوقاته، وهي في قبضته ومن هذا وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] ، فهي كلُّها أحكام تامَّة تضمَّنها خبره تعالى. ت: وهذه قاعدةٌ جيِّدة، وما وقع له رحمه اللَّه مما ظاهره مخالفٌ لهذه القاعدة، وجب تأويله بما ذَكَرَه هنا، وقد وقَع له ذلك بعد هذا في قوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ [التوبة: 127] ، قال: يحتملُ أنْ يكون دعاءً عليهم، ويحتملُ أنْ يكون خبراً، أي: استوجبوا ذلك، وقد أوضَحَ ذلك عند قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 4] ، فانظره هناك. [سورة التوبة (9) : الآيات 99 الى 100] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وقوله سبحانه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال قتادة: هذه ثنية اللَّه تعالى من

[سورة التوبة (9) : آية 101]

الأعراب، وروي أنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في بني مُقَرِّن وقاله مجاهد «1» وَيَتَّخِذُ في الآيتين بمعنَى: يَجْعَلُهُ قَصْدَهُ، والمعنى: ينوي بنفقته ما ذكره الله عنهم، وصَلَواتِ الرَّسُولِ: دعاؤه، ففي دعائه خَيْرُ الدنيا والآخرة، والضَّمير في قوله: إِنَّها: يحتملُ عودُهُ على النفَقَةِ، ويحتمل عوده على الصَّلوات، وباقي الآية بَيِّن. وقوله سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... الآية: قال أبو موسى الأشعريُّ وغيره: السابقون الأولون مَنْ صلى القبلتين «2» ، وقال عطاء: هم مَنْ شهد بدراً «3» . وقال الشَّعْبيُّ: من أدرك بَيْعَة الرِّضْوان «4» ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ: يريد: سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظِ: التابِعُونَ وسائرُ الأمة، لكن بشريطة الإِحسان، وقرأ عمر بن الخطَّاب وجماعة: و «الأَنْصَارُ» «5» - بالرفع- عطفاً على «والسابقون» ، وقرأ ابن كثير: «مِنْ تَحْتِهَا الأنهار» ، وقرأ الباقون «6» : «تحتها» ، بإسقاط «من» . [سورة التوبة (9) : آية 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وقوله سبحانه: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ: الإِشارة ب «مَنْ حولكم» إِلى جُهَيْنة، ومُزَيْنة، وأَسْلَم، وغِفَار، وعُصَيَّة، ولِحيان، وغيرهم مِنَ القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر اللَّه سبحانه عن منافقيهم، وتقدير الآية: ومن أهْل المدينة قومٌ أو منافقُون، هذا أحسن ما حمل اللفظ، ومَرَدُوا: قال أبو عبيدة معناه:

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الطبري (6/ 454) برقم: (17123) ، وذكره ابن عطية (3/ 75) ، والبغوي (2/ 321) برقم: (100) ، وذكره ابن كثير (2/ 383) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 483) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في «المعرفة» . (3) ذكره ابن عطية (3/ 453) برقم: (17116، 17118، 17120، 17121) ، وذكر ابن عطية (3/ 75) ، والبغوي (2/ 321) برقم: (100) . (4) أخرجه الطبري (6/ 453) برقم: (17116) ، 17118، 17120، 17121) ، وذكره ابن عطية (3/ 75) ، والبغوي (2/ 321) برقم: (100) ، وابن كثير (2/ 383) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 484) ، وزاد نسبته الى ابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي الشيخ. (5) وقرأ بها الحسن وقتادة، وسلام بن سليمان الطويل، وسعيد بن أسعد، ويعقوب بن طلحة، وعيسى الكوفي. ينظر: «الشواذ» (59) ، و «المحتسب» (1/ 300) ، و «الكشاف» (2/ 304) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 75) ، و «البحر المحيط» (5/ 96) ، و «الدر المصون» (3/ 497) . [.....] (6) وهي كذلك في مصاحف أهل مكة خاصة. ينظر: «معاني القراءات» (1/ 463) ، و «حجة القراءات» (322) ، و «العنوان» (103) ، و «شرح الطيبة» (4/ 340) ، و «شرح شعلة» (414) ، و «إتحاف» (2/ 97) .

[سورة التوبة (9) : آية 102]

مَرَنُوا عَلَيْه، ولَجُّوا فيه «1» ، وقيل غير هذا ممَّا هو قريبٌ منه. وقال ابن زَيْد: قاموا عليه، لَمْ يَتُوبوا كما تاب الآخَرُون، والظاهر مِنَ اللفظة أنَّ التمرُّد في الشيء أو المُرُود عليه إِنما هو اللَّجَاج والاشتهار به، والعتوُّ على الزاجر، ورُكُوبُ الرأسِ في ذلك، وهو مستعملٌ في الشر لا في الخَيْر ومنه: شَيْطَانٌ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» «2» : مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ: أي: استمروا عليه، وتحقَّقوا به. انتهى، ذكَره بعد قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التوبة: 107] . ثم نفى عزَّ وجلَّ عِلْمَ نبيِّه لهم على التعْيين. وقوله سبحانه: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ: لفظ الآية يقتضي ثَلاَثَ مواطِنَ مِنَ العَذَابِ، ولا خلافَ بين المتأوِّلين أن العذاب العظيم الذي يُرَدُّون إِليه هو عذابُ الآخرةِ، وأكثرُ النَّاس أن العذاب المتوسِّط/ هو عذاب «3» القبْر، واختُلِفَ في عذاب المَرَّة الأولَى: فقال ابنُ عبَّاس: عذابهم بإِقامة حدود الشَّرْع عليهم، مع كراهيتهم فيه «4» . وقال إسحاق: عذابُهم: هو هَمُّهم بظهورِ الإِسْلاَمِ، وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ «5» . وقال ابْنُ عباسٍ أيضاً- وهو الأشهر عنه-: عذابُهم هو فَضِيحَتُهُمْ وَوَصْمُهُمْ بالنِّفَاقِ «6» . وقيل غير هذا. وقوله عزّ وجلّ: [سورة التوبة (9) : آية 102] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية. قال ابْنُ عَبَّاسٍ، وأبو عثمان: هذه الآية في

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 75) . (2) ينظر: «الأحكام» (2/ 1012) . (3) استدل على عذاب القبر من القرآن بقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ عطف عذاب يوم القيامة على عرض النار صباحا ومساء، فعلم أنه غيره، وما هو إلا عذاب القبر، لأن الآية وردت في حق الموتى، والأحاديث الصحيحة الدالة على عذاب القبر أكثر من أن تحصى بحيث تواتر القدر المشترك بينها في إثباته. ينظر: «نشر الطوالع» (371) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 76) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 458) برقم: (17150) ، وذكره ابن عطية (3/ 76) . (6) ذكره ابن عطية (3/ 76) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 103 إلى 104]

الأَعْرَابِ، وهي عامَّة في الأُمة إلى يَوْمِ القِيَامَةِ «1» . قال أبو عثمان: ما في القرآن آيةٌ أرجى عندي لهذه الأمة منْها «2» . وقال مجاهد: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبي لُبَابَةَ الأنصاريِّ خاصَّةً في شأنه مع بني قُرَيْظَةَ لَمَّا أَشَارَ لَهُمْ إلى حَلْقِهِ، ثُمَّ نَدِمَ وَرَبَطَ نفسه في ساريَةٍ من سَوَارِي المَسْجِد «3» ، وقالتْ فرقة عظيمةٌ: بل نزلَتْ هذه الآيةُ في شَأن المخلَّفين عن غزوة تَبُوك. ت: وخَرَّجَ «البخاريُّ» بسنده عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَتَاني اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، فابتعثاني فانتهينا إلى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ ولَبِنٍ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَن مَا أَنْتَ رَاءٍ. وَشَطْرٌ كَأَقْبَح مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالاَ لَهُمْ: اذهبوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُم رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا في أَحْسَن صُورَةٍ، قَالاَ لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالاَ: أَمَّا القَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً، فتجاوز الله عنهم» . انتهى «4» . [سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 104] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ... الآية: رُوي أن الجماعة التائبة لَمَّا تِيبَ عليهَا، قالوا: يا رسُولَ اللَّه إِنَّا نُرِيدُ أن نتصدَّق بأموالنا زيادةً في تَوْبَتِنا، فقال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «إِنِّي لاَ أَعْرِضُ لأَمْوَالِكُمْ إِلاَّ بَأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ» «5» ، فَتَرَكَهُمْ حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية، فَهُمُ المراد بها، فروي أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ ثلث أموالِهِمْ، مراعاةً لقوله تعالى: مِنْ أَمْوالِهِمْ،

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 462) برقم: (17165) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 77) . (2) أخرجه الطبري (6/ 462) برقم: (17166) ، وذكره ابن عطية (3/ 77) . (3) أخرجه الطبري (6/ 461) برقم: (17156، 17157، 17159) ، وذكره ابن عطية (3/ 77) ، وابن كثير (2/ 385) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 488) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي. (4) أخرجه البخاري (8/ 192) كتاب «التفسير» باب: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، حديث (4674) ، ومسلم (4/ 1781) كتاب «الرؤيا» باب: رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، حديث (23/ 2275) ، والترمذي (4/ 543) كتاب «الرؤيا» باب: ما جاء في رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم الميزان والدلو، حديث (2294) ، وأحمد (5/ 8، 9، 14) ، وابن حبان (2/ 427، 431) برقم: (655) ، والطبراني في «الكبير» (6986، 6987، 6988، 6989) ، والبيهقي (2/ 187- 188) ، والبغوي في «شرح السنة» (4/ 237 بتحقيقنا) كلهم من طريق أبي رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (5) ينظر: حديث توبة كعب بن مالك، وأصحابه، وقد تقدم تخريجه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 105 إلى 110]

فهذا هو الذي تظاهَرَتْ به أقوال المتأوِّلين، وقالتْ جماعة من الفقهاء: المرادُ بهذهِ الآية الزكَاةُ المفروضَةُ، وقوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها: أحسن ما يحتمل أنْ تكون هذه الأفعالُ مسندة إلى ضمير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله سبحانه: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: معناه: ادع لهم، فإِن في دعائك لهم سكوناً لأنفسهم وطمأنينة ووقاراً، فهي عبارةٌ عن صلاح المعتَقَد، والضميرُ في قولِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا قال ابنُ زَيْدٍ: يُرادُ به الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين «1» ، ويحتملُ أنْ يُرَادِ به الذين تابوا، وقوله: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قال الزَّجَّاج «2» : معناه: ويقبل الصدقات «3» ، وقد جاءَتْ أحاديثُ صحاحٌ في معنى الآية منها حديثُ أبي هريرة: «إِنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ تَكُونُ قَدْرَ اللُّقْمَةِ يَأْخُذُهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا لأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» «4» ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارةٌ عن القبول والتحفِّي بصدقة العبد. وقوله: عَنْ عِبادِهِ: هي بمعنى «من» . [سورة التوبة (9) : الآيات 105 الى 110] وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 466) برقم: (17177) ، وذكره ابن عطية (3/ 79) . (2) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 467) . [.....] (3) ذكره ابن عطية (3/ 79) . (4) أخرجه البخاري (3/ 326) كتاب «الزكاة» باب: الصدقة من كسب طيب، حديث (1410) ، ومسلم (2/ 702) كتاب «الزكاة» باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (63، 64/ 1014) ، والترمذي (3/ 40- 41) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء في فضل الصدقة، حديث (661- 662) ، والنسائي (5/ 57) كتاب «الزكاة» باب: الصدقة من غلول، وابن ماجه (1/ 590) كتاب «الزكاة» باب: فضل الصدقة، حديث (1842) ، وأحمد (2/ 331، 382، 418، 419، 431) ، والدارمي (1/ 395) كتاب «الزكاة» باب: فضل الصدقة، وابن خزيمة (4/ 93) برقم: (2426) ، وابن حبان (3318) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وللحديث شاهد من حديث عائشة. أخرجه أحمد (6/ 251) ، وابن حبان (819- «موارد» ) ، والبزار (1/ 441- «كشف» ) ، حديث (931) . والهيثمي في «المجمع» (3/ 115) وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات.

وقوله سبحانه: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ... الآية: هذه الآية صيغتُها صيغةُ أمْرٍ مضمَّنها الوعيدُ. وقال الطبري «1» : المراد بها الذين اعتذروا من المتخلِّفين وتابوا. قال ع «2» : والظاهر أن المراد بها الذين اعتَذَروا، ولم يتوبوا وهم المتوعَّدون، وهم الذين في ضمير أَلَمْ يَعْلَمُوا، ومعنى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ، أي: موجوداً معرَّضاً للجزاء عليه بخَيْرٍ أو بِشَرٍّ. وقال ابنُ العرَبِيِّ «3» في «أحكامه» : قوله سبحانه: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ هذه الآية نزلَتْ بعد ذكر المؤمنين، ومعناها: الأمر، أي: اعملوا بما يُرْضِي اللَّه سبحانه، وأمَّا الآية المتقدِّمة، وهي قوله تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: 94] فإنها نزلت بعد ذكْر المنافقين، ومعناها: التهديد وذلك لأن/ النفاق موضِعُ ترهيبٍ، والإيمانُ موضعُ ترغيبٍ، فقوبل أهْلُ كلِّ محلٍّ من الخطاب بما يليقُ بهم. انتهى. وقوله سبحانه: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ: عَطْفٌ على قوله أولاً: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا: ومعنى الإِرجاء: التأخير، والمراد بهذه الآية فيما قال ابنُ عباس وجماعةٌ: الثلاثةُ الذين خُلِّفوا، وهم كَعْبُ بْنُ مالكٍ، وصاحباه «4» على ما سيأتي إن شاء اللَّه، وقيل: إِنما نَزلَتْ في غيرهم من المنافقين الذين كانوا مُعَرَّضين للتوبة مع بنائهم مَسْجِدَ الضِّرارِ، وعَلَى هذا: يكون الَّذِينَ اتَّخَذُوا بإسقاط واو العطف بدلاً من آخَرُونَ، أو خبر مبتدأ، تقديره: هم الذين، وقرأ عاصم «5» وعوامُّ القُرَّاء، والنَّاسُ في كل قطر إلّا ب «المدينة» :

_ (1) ينظر: «الطبري» (6/ 467) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 80) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 996) . (4) سيأتي إن شاء الله تعالى. (5) وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. ينظر: «معاني القراءات» (1/ 464) ، و «إعراب القراءات» (1/ 256) ، و «العنوان» (103) ، و «شرح الطيبة» (4/ 341) ، و «شرح شعلة» (415) ، و «إتحاف» (2/ 98) .

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا، وقرأ أهلُ المدينة، نافع وغيرُهُ الَّذِينَ اتخذوا- بإسقاط الواو- على أنه مبتدأ، والخبر: لاَ يَزالُ بُنْيانُهُمُ وأما الجماعة المرادة ب الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً، فهم منافقو بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عوف، وأسند الطبريُّ «1» ، عن ابن إِسحاق، عن الزُّهْرِيِّ وغيره، أنه قال: أقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تَبُوكَ، حتى نَزَلَ بذي أَوَانَ- بلدٌ بينه وبين المدينةِ ساعةٌ من نهار- وكان أصحاب مسجد الضّرار، قد أتوه صلّى الله عليه وسلّم وهو يتجهَّز إِلى تبوكِ، فقالوا: يا رسُولَ اللَّهِ إنا قد بَنَيْنَا مسَجِداً لِذِي العِلَّة والحاجة واللَّيْلَة المَطِيرة، وإِنا نُحِبُّ أَن تأتينا فتصلِّي لنا فيه، فقال: «إِنِّي على جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ، فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ» ، فَلَمَّا قَفَلَ، وَنَزَلَ بِذِي أوَان، نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ في شأن مسجد الضّرار، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُنِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ، أو أخاهُ عاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ، فَقالَ: «انطلقا إِلَى هَذَا المَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فاهدماه، وَحَرِّقَاهُ» فانطلقا مُسْرِعَيْنِ فَفَعَلاَ وَحَرَقَاهُ «2» ، وذكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بعث لِهَدْمِهِ وتحريقه عَمَّار بن ياسر وَوَحْشِيًّا مَوْلَى المُطْعم بن عَدِيِّ، وكان بَانُوهُ اثني عَشَرَ رَجُلاً، منهم ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، ومُعْتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، ونَبْتَلُ بْنُ الحَارِثِ وغيرهم، وروي أنه لما بنى صلّى الله عليه وسلّم مَسْجداً في بني عمرو بن عوف وقْتَ الهِجْرَة، وهو مَسْجِدُ «قُبَاءٍ» وتشرَّفَ القومُ بذلك، حَسَدَهم حينئذٍ رجالٌ من بني عَمِّهم من بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عَوْفٍ، وكان فيهم نفاقٌ، وكان موضعُ مَسْجِدِ «قُبَاءٍ» مربطاً لحمارِ امرأة من الأنصار، اسمها: لَيَّةُ، فكان المنافقُونَ يقولُونَ: واللَّه لا نَصْبِرُ على الصَّلاة في مَرْبَطِ حمارِ لَيَّةَ، ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامرٍ المعروفُ بِالرَّاهِبِ منهم، وهو أبو حنظلة غسيلِ الملائكةِ، وكان سيِّداً من نظراء عبدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ، فلما جاء اللَّهُ بالإِسلام، نافق، ولم يَزَلْ مجاهراً بذلك، فسمَّاه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الفاسِق، ثم خرج في جماعة من المنافقينَ، فحزّب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأحزاب، فلما ردَّهم اللَّه بغَيْظهم، أقام أبو عامر ب «مكة» مظهراً لعداوته، فلما فتح اللَّه «مكة» ، هَرَبَ إِلى «الطائف» ، فلما أسلم أهْلُ الطائف، خرج هارباً إِلى الشام، يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إلى المنافقين من قومه أَن ابنوا مسجداً، مقاومةً لمسجد «قُبَاء» ، وتحقيراً له، فإِني سآتي بِجَيْشٍ من الرومِ، أُخْرِجُ به محمَّداً، وأصحابه من «المدينة» ، فبَنُوهُ وقالوا: سيأتي أبو عامرٍ ويصلي فيه، فذلك قوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني: أبا عامر، وَقَوْلَهُمْ: سيأتي أبو عامر، وقوله: ضِراراً أي: داعيةً للتضارر من/ جماعتين.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 469) برقم: (17200) ، وذكره ابن عطية (3/ 81) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 469- 470) برقم: (17200) من طريق ابن إسحاق به.

وقوله: تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ: يريدُ: تفريقاً بين الجماعة التي كانَتْ تصلِّي في مسجد «قباء» ، فإن مَنْ جاور مَسْجدهم كانوا يَصْرِفُونه إليه، وذلك داعيةٌ إلى صرفه عن الإِيمان، وقيل: أراد بقوله: بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ جماعة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروي: أنَّ مسجد الضِّرار، لَمَّا هدم وأُحرِق، اتخذ مزبَلَةً ترمى فيه الأقذار والقِمَامَات، وروي: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما نزلَتْ: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً كَانَ لا يمرُّ بالطريق التي هو فيها. وقوله: لَمَسْجِدٌ: قيل: إن اللام لام قسمٍ، وقيل: هي لام ابتداء، كما تقول: لَزَيدٌ أَحْسَنُ النَّاسِ فِعْلاً وهي مقتضية تأكيداً، وذهب ابن عباس وفرقةٌ من الصحابة والتَّابعين إلى أنَّ المراد ب «مسجد أسس على التقوى» : مسجد «قباء» «1» وروي عن ابن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «2» ويليق القولُ الأول بالقصَّة إِلاَّ أن القولَ الثاني مرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا نَظَرَ مع الحديثِ، قال ابنُ العَرَبي «3» في «أحكامِه» : وقَدْ رَوَى ابْنُ وهْبٍ وأشهبُ، عن مالكٍ أن المراد ب «مسجد أُسس على التقوى» : مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيث قال اللَّه تباركَ وتعالَى: وَتَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: 11] وكذلك روى عنه ابن القاسم، وقد روى الترمذيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: تمارى رَجُلاَن في المَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ «قُبَاء» ، وَقَالَ الآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» . قَالَ أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيحٌ، وخرَّجه مسلم «4» انتهى. ومعنى: أَنْ تَقُومَ فِيهِ: أي: بصلاتك وعبادتك.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 474) برقم: (17226- 17227) ، وذكره ابن عطية (3/ 82) . (2) أخرجه الطبري (6/ 473) برقم: (17216- 17217) ، وذكره ابن عطية (3/ 82) ، والبغوي: (2/ 327) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 1014) . (4) أخرجه مسلم (2/ 1015) كتاب «الحج» باب: بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، حديث (514/ 1398) ، والترمذي (2/ 144- 145) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في المسجد الذي أسس على التقوى، حديث (323) ، وفي (5/ 280) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة التوبة، حديث (3099) ، وأحمد (3/ 8، 23، 24، 91) ، وابن أبي شيبة (2/ 372- 273) ، وأبو يعلى (2/ 272- 373) برقم: (985) ، وابن حبان (1606) ، والحاكم (2/ 334) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 544- 545) من طرق عن أبي سعيد الخدري به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 277) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

وقوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا اختلف في الضمير أيضاً، هل يعودُ على مسجدِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو على مسجد «قُبَاءَ» ؟ روي أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيْكُمْ بالطُّهُورِ، فَمَاذَا تَفْعَلُونَ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا رَأَيْنَا جِيرَانَنَا مِنَ اليَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالمَاءِ يُرِيدُونَ الاستنجاء، فَفَعَلْنَا نَحْنُ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ، لَمْ نَدَعْهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «فَلاَ تَدَعُوهُ إِذَنْ» «1» . والبنيانُ الذي أُسِّس على شفا جُرُفٍ: هو مسجدُ الضِّرار بإِجماع، و «الشّفا» : الحاشية والشّفير، وهارٍ: معناه مُتهدِّمٌ بالٍ، وهو من: هَارَ يَهُورُ «2» البخاريُّ: هَارَ هَائِرٌ تَهَوَّرَتِ البِئْرُ، إِذا تهدَّمت وانهارت مثله. انتهى. وتأسيسُ البناء علَى تقوى إِنما هو بحُسْن النية فيه وقَصْدِ وجه اللَّه تعالى، وإِظهارِ شرعه كما صنع في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفي مسجدِ «قُبَاء» ، والتأسيسُ على شفا جُرُفٍ هَارٍ إِنما هو بفسَاد النيَّة وقصدِ الرياءِ، والتفريقِ بَيْنَ المؤمنين، فهذه تشبيهاتٌ صحيحةٌ بارعةٌ. وقوله سبحانه: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ: الظاهر منه أَنَّه خارجٌ مَخْرَجَ المَثَلِ، وقيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المَسْجِدَ بعينه انهار في نَارِ جَهَنَّم قاله قتادةُ وابْنُ جُرَيْج «3» ، وروي عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وغيره أنه قال: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ منه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «4» ، وروي في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم رَآهُ حين انهار بَلَغَ الأَرض السابعة، فَفَزِعَ لذلك صلّى الله عليه وسلّم، وروي أنهم لم يُصلُّوا فيه أكْثَرَ من ثلاثةِ/ أيامٍ، وهذا كلُّه بإِسناد لَيِّنٍ، واللَّه أعلم، وأسند الطبريُّ عن خلفِ بْنِ ياسِين، أنه قَالَ: رَأَيْتُ مسْجِدَ المنافقينَ الذي ذَكَرَه اللَّه في القرآن، فَرَأَيْتُ فيه مكاناً يخرجُ منه الدُّخَان «5» وذلك في زَمَن أبي جَعْفَرٍ المنصورِ، وروي شبيه بهذا أو نحوه عَن ابن جريج «6» : أسنده الطبري.

_ (1) تقدم تخريجه. [.....] (2) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 164) كتاب «التفسير» باب: سورة التوبة. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 479) برقم: (17260- 17261) ، وذكره ابن عطية (3/ 85) ، والبغوي (3/ 328) ، وابن كثير (2/ 391) ، و «الدر المنثور» للسيوطي (3/ 499) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس بنحوه. (4) أخرجه الطبري (6/ 479) برقم: (17262) ، وذكره ابن عطية (3/ 85) ، والبغوي (2/ 328) ، وابن كثير (2/ 391) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 499) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه. (5) ذكره ابن عطية (3/ 86) . (6) أخرجه الطبري (6/ 479) برقم: (17261) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 111 إلى 112]

قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» وفي قوله تعالَى: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ، مع قوله: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة: 9] إِشَارَةٌ إِلَى أَن النار تَحْتُ كما أن الجَنَّةَ فَوْقُ. انتهى. والرِّيبة: الشَّكُّ، وقد يسمى ريبةً فسادُ المعتقدِ، ومعنى الرِّيبةِ، في هذه الآية: أمرٌ يعمُّ الغيظَ والحَنَقَ، ويعمُّ اعتقاد صَوَابِ فعْلهم ونحو هذا ممَّا يُؤدِّي كلُّه إِلى الارتياب في الإِسلامِ، فمقصدُ الكلام: لا يَزَالُ هذا البنيانُ الذي هُدِّم لهم، يُبْقِي في قلوبهم حَزَازَةً وأَثَرَ سُوءٍ، وبالشكِّ فسَّر ابن عباس الريبةَ هنا «2» . وبالجملة إِن الريبة هنا تعمُّ معانيَ كثيرةً يأخذ كلُّ منافق منها بحَسَب قَدْره من النِّفاق. وقوله: «أَلا أَنْ تُقطَّع قلوبهم» - بضم التاء- يعني: بالموت، قاله ابن عباس وغيره «3» وفي مُصْحَف «4» أُبَيٍّ: «حَتَّى المَمَاتِ» ، وفيه: «حتّى تقطّع» . [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) وقوله عزَّ وجلَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في البَيْعة الثالثة، وهي بيعةُ العَقَبة الكُبْرَى، وهي التي أَنَافَ فيها رجالُ الأنصار على السبعين وذلك أنهم اجتمعوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك، وَلَرَبِّكَ، والمتكلِّمُ بذلك عبدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَة «5» فاشترط نبيُّ الله

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 1018) . (2) أخرجه الطبري (6/ 480) برقم: (17265) ، وذكره ابن عطية (3/ 86) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 329) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 500) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «دلائل النبوة» . (3) أخرجه الطبري (6/ 480) برقم: (17265) ، وذكره ابن عطية (3/ 86) ، وابن كثير (2/ 391) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 500) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «دلائل النبوة» . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 86) ، و «البحر المحيط» (5/ 105) . (5) هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر ... أبو محمد الأنصاري، الخزرجي. كان ممن شهد العقبة، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج، وشهد بدرا، وأحدا، والخندق،

حمايته ممَّا يحمُونَ منه أنفسهم، واشترط لربِّهِ التزام الشريعةِ، وقِتَالَ الأَحمَرِ والأَسْوَدِ في الدَّفْع عن الحَوْزَة، فقالوا: مَا لَنَا عَلَى ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الجَنَّةُ، فَقَالُوا: نَعَمْ، رَبحَ البَيْعُ، لاَ تَقِيلُ وَلاَ تُقَالُ، وفي بعض الرواياتِ: «وَلاَ نَسْتَقِيلُ» فنزلَتِ الآية في ذلك. وهكذا نقله ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» ، عن عبد اللَّه بن رَوَاحَة، ثم ذكر من طريق الشعبيِّ، عن أبي أمامة أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ نحو كلام ابنِ رَوَاحَةَ. قال ابن العربيِّ «2» : وهذا وإن كان سنده مقطوعاً، فإن معناه ثابتٌ مِنْ طرق. انتهى. ثم الآية بَعْدَ ذلك عامَّة في كلِّ من جَاهَدَ في سبيلِ اللَّهِ مِنْ أمة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، قال بعضُ العلماء: مَا مِنْ مُسْلِم إلا وللَّه في عُنُقِهِ هذه البَيْعَةُ، وفى بِهَا أو لم يَفِ، وفي الحديث: «إِنَّ فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بِرًّا حَتَّى يَبْذُلَ العَبْدُ دَمَهُ، فَإِذَا فَعَلَ، فَلاَ بِرَّ فَوْقَ ذَلِكَ» . وأسند الطبريُّ عن كثير من أهْلِ العِلْم أنهم قالوا: ثَامَنَ اللَّه تَعَالَى في هذه الآية عِبَادَهُ، فَأَغْلَى لهم وقاله ابن عباس وغيره «3» ، وهذا تأويلُ الجمهور. وقال ابن عُيَيْنَة: معنى الآية: اشترى منهم أنفسهم ألاَّ يُعْمِلُوهَا إلا في طاعته، وأموالَهُمْ أَلاَّ يُنْفِقُوها إِلاَّ في سبيله، فالآية علَى هذا: أعمُّ من القَتْلِ في سبيل اللَّه. وقوله: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ على تأويل ابْنِ عُيَيْنة: مقطوعٌ، ومستأنفٌ، وأما على تأويل الجمهور مِنْ أَنَّ الشراء والبَيْع إِنما هو مع المجاهدين، فهو في موضع الحال. وقوله سبحانه: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ: قال المفسِّرون: يظهر من قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أن كلَّ أُمَّة أُمِرَتْ بالجهاد، ووُعِدَتْ عليه. قال ع «4» : ويحتملُ أَنَّ ميعاد أمّة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، تقدَّم ذكره في هذهِ الكُتُب، واللَّه أعلم.

_ والحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء، والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الفتح وما بعده، فإنه كان قد قتل قبله، وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة. ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 234) ، «الإصابة» (4/ 66) ، «الثقات» (3/ 221) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 310) ، «الاستبصار» (53، 56) ، «الاستيعاب» (3/ 298) ، «بقي بن مخلد» (885) ، «تقريب التهذيب» (1/ 415) ، «تهذيب التهذيب» (5/ 212) ، «تهذيب الكمال» (2/ 681) . (1) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 1018) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 1019) . (3) أخرجه الطبري (6/ 482) برقم: (17281) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 87) . [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 87) .

قال ص: وقوله: فَاسْتَبْشِرُوا: ليس للطلب، بل بمعنى: أَبْشِرُوا كاستوقد، قال أبو عُمَرَ بْنُ عبد البر في كتابه المسمى ب «بهجة المجالس» : وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له» «1» . وعن ابن عباس مثله. انتهى. وباقي الآية بَيِّن. قال الفَخْر: واعلم أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على أنواع من التأكيدات: فأولها: قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ، فكون المشتَرِي هو اللَّه المقدَّس عن الكَذِبِ والحِيلَة مِنْ أَدَلِّ الدلائل على تأكيد هذا العَهْد. والثاني: أنه عبر عن إِيصال هذا الثواب بالبَيْعِ والشراءِ، وذلك حَقٌّ مُؤَكَد. وثالثها: قوله: وَعْداً، ووعد اللَّه حقٌّ. ورابعها: قوله: عَلَيْهِ، وكلمةُ «عَلى» للوجوب. وخامسها: قوله: حَقًّا، وهو تأكيد للتحقيق. وسادسها: قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وذلك يجري مَجْرَى إِشهاد جميع الكُتُب الإِلهية، وجمِيعِ الأَنبياء والمُرْسلين عَلى هذه المبايعة. وسابعها: قوله: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، وهو غايةُ التأكيد. وثامنها: قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وهو أيضاً مبالغةٌ في التأكيد. وتاسعها: قوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ. وعاشرها: قوله: الْعَظِيمُ. فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوهِ العَشَرةِ في التأكيدِ والتقريرِ والتحقيق. انتهى. وقوله عزَّ وجلَّ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ، إلى قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، هذه الأوصافُ هي مِنْ صفات المؤمنين الذين ذكر اللَّه أنَّه اشترى منهم أنفُسَهُمْ وأموالهم، ومعنى الآية، على ما تقتضيه أقوالُ العلماء والشَّرْعُ: أنها أوصافُ الكَمَلَةِ من المؤمنين، ذكرها سبحانه، لِيَسْتَبِقَ إِليها أهْلُ التوحيد حتى يكُونوا في أعْلَى رتبةٍ، والآية الأولى مستقلّة

_ (1) تقدم تخريجه من حديث عبادة بن الصامت.

بنفسها، يقع تَحْتَ تلك المبايعة كلُّ موحِّد قاتَلَ في سبيل اللَّهِ، لتكونَ كلمة اللَّه هي العليا، وإِنْ لم يتَّصفْ بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها، وقالَتْ فرقةٌ: بل هذه الصفاتُ جاءت علَى جهة الشَّرْط، والآيتان مرتبطتان، فلا يَدْخُلُ في المبايعة إِلا المؤْمِنُونَ الذين هُمْ عَلى هذه الأوصاف، وهذا تحريجٌ وتضييقٌ، والأول أصوبُ، واللَّه أعلم. والشهادة ماحيةٌ لكلِّ ذنب إلا لمظالِمِ العِبَادِ، وقد روي أن اللَّه عِزَّ وجلَّ يحمل على الشَّهِيدِ مَظَالِمَ العبادِ، ويجازِيهِمْ عنه، ختم الله لنا بالحسنى. والسَّائِحُونَ: معناه: الصائمون، وروي عن عائشة، أَنها قالَتْ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ الصِّيَام «1» أسنده الطبريُّ «2» ، وروي أنه من كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» . قَالَ الفَخْر: ولما كان أصل السياحة الاستمرار على الذَّهاب في الأرض، سُمِّي الصائم سائحاً لاستمراره على فِعْل الطاعة وترك المَنْهِيِّ عنه مِنْ المفطِّرات. قال الفَخْر «4» : عندي فيه وجْهٌ آخر، وهو أن الإِنسان إذا امتنع مِنَ الأَكل والشُّرب والوِقاع، وسَدَّ عَلَى نفسه بَابَ الشهواتِ، انفتحت له أبوابُ الحكمةُ وتجَلَّتْ له أنوار عالم الجلال ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أَخْلَصَ للَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ «5» فَيَصير من السائحين في عالَمِ جلالِ اللَّه المنتقلينِ مِنْ مقام إلى مقام، ومن

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 486) برقم: (17327) ، وذكره ابن عطية (3/ 89) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 484) برقم: (17300- 17301) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 484) برقم: (17300) عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السائحين؟ فقال: هم الصائمون. وأخرجه برقم: (17301) عن أبي هارون قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: السائحون هم: الصائمون. (4) ينظر: «مفاتيح الغيب» (16/ 161) . (5) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 189) من طريق محمد بن إسماعيل، ثنا أبو خالد يزيد الواسطي أنبأنا الحجاج عن مكحول عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا. وقال أبو نعيم: كذا رواه يزيد الواسطي متصلا، ورواه أبو معاوية عن الحجاج فأرسله. ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 144) . وقال: هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففيه يزيد الواسطي وهو يزيد بن عبد الرحمن. قال ابن حبان: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، خالف الثقات في الروايات لا يجوز الاحتجاج به، وحجاج مجروح، ومحمد بن إسماعيل مجهول، ولا يصحّ لقاء مكحول لأبي أيوب، وقد ذكر محمد بن سعد أن العلماء قدحوا في رواية مكحول وقالوا: هو ضعيف في الحديث اه. والحديث قد روي عن مكحول مرسلا كما أشار إلى ذلك الحافظ أبو نعيم.

درجةٍ إلى درجةٍ» . انتهى. قال ع «1» : وقال بعضُ النَّاس، وهو في كتاب النَّقَّاش: السَّائِحُونَ: هم الجائلون بأفكارهم في قُدْرة اللَّه ومَلَكُوتهُ وهذا قولٌ حَسَن، وهو من أفضل العباداتِ، والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ: هم المصلُّون الصَّلوات كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أنَّ من يكثر النَّوافلَ هو أَدْخَلُ في الاسم، وأَعْرَقُ في الاتصاف. وقوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لفظٌ عامٌّ تحته/ التزام الشريعة. ت: قال البخاريُّ: قال ابن عباس: الحدود: الطاعة «2» . قال ابن العربيُّ «3» في «أحكامه» ، وقوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ خَاتمةُ البيان، وعمومُ الاشتمال لكلِّ أمْر ونهْي. انتهى.

_ والمرسل أخرجه هنّاد بن السري في «الزهد» برقم: (678) ، وابن أبي شيبة (13/ 231) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 189) من طريق الحجاج عن مكحول مرسلا. وسنده ضعيف لضعف الحجاج مع إرساله. وللحديث شواهد من حديث أبي موسى وابن عباس. حديث أبي موسى: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (5/ 1945) ، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 144) من طريق عبد الملك بن مهران الرفاعي، حدثنا معن بن عبد الرحمن، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها لله أخرج الله على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه» . وقال ابن عدي: هو منكر، وعبد الملك مجهول وأقره ابن الجوزي في «الموضوعات» . حديث ابن عباس: أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (466) ، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 144- 145) من طريق سوار بن مصعب، عن ثابت، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: «من أخلص لله تعالى أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه» . وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أحمد ويحيى والنسائي: سوار بن مصعب متروك الحديث، وقال يحيى: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال أيضا: وقد عمل جماعة من المتصوفة، والمتزهدين على هذا الحديث الذي لا يثبت، وانفردوا في بيت الخلوة أربعين يوما، وامتنعوا عن أكل الخبز، وكان بعضهم يأكل الفواكه، ويتناول الأشياء التي تتضاعف قيمتها على قيمة الخبز، ثم يخرج بعد الأربعين فيهذي ويتخيل إليه أنه يتكلم بالحكمة، ولو كان الحديث صحيحا فإن الإخلاص يتعلق بقصد القلب لا بفعل البدن فلله درّ العلم اه. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 89) . (2) أخرجه البخاري (6/ 5) كتاب «الجهاد والسّير» باب: فضل الجهاد والسّير عن ابن عباس موقوفا. وقال الحافظ في «الفتح» (6/ 6) : وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، قلت: وعلي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، وفي ذلك رد على من يجزم أن تعليقات البخاري المجزومة كلها صحيحة. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 1020) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 113 إلى 116]

وقوله سبحانه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: قِيل: هو لفظ عامّ، أمر صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يبشِّر أمته جميعاً بالخير من اللَّه، وقيل: بل هذه الألفاظ خاصَّة لمن لم يَغْزُ، أي: لما تقدَّم في الآية وعْدُ المجاهدين وفضلهم، أمر صلّى الله عليه وسلّم، أنْ يبشِّر سائر المؤمنين ممَّن لم يَغْزُ بأنَّ الإيمان مُخَلِّص من النَّار، والحمد للَّه رب العالمين. [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116] مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) وقوله سبحانه: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ... الآية: جمهورُ المفسِّرين أنَّ هذه الآية نزلَتْ في شَأْن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ عَلَيْهِ حين احتضر، فَوَعَظَهُ، وقَالَ: «أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» ، وَكَانَ بالحَضْرة أَبو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّه بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقالا لَهُ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَترغَبُ عن ملَّة عَبْدِ المطَّلِبِ؟ فَقالَ أبو طَالِبٍ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ، لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَيَّرَ بِهَا وَلَدِي مِنْ بَعْدِي، لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ إذ لم يسمع منه صلّى الله عليه وسلّم ما قال العبَّاس، فنزلَتْ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَاللَّهِ، لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» ، فَكَانَ يستغفر له حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية «1» ، فترك نبيُّ اللَّه الاستغفار لأَبي طالب، وروي أنَّ المؤمنين لما رأَوْا نبيَّ اللَّه يستغفرُ لأبي طالب، جعلوا يَسْتَغْفِرُونَ لموتاهم، فلذلك دَخَلُوا في النّهي، والآية على هذا ناسخة

_ (1) أخرجه البخاري (3/ 263) كتاب «الجنائز» باب: إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلّا الله، حديث (1360) ، وفي (7/ 232) كتاب «مناقب الأنصار» باب: قصة أبي طالب، حديث (3884) ، وفي (8/ 192) كتاب «التفسير» باب: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، حديث (4675) وفي (8/ 365) كتاب «التفسير» باب: إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، حديث (4772) وفي (11/ 575) كتاب «الأيمان والنذور» ، حديث (6681) ، ومسلم (1/ 244- 245) - شرح النووي، كتاب «الإيمان» باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، حديث (39/ 24) ، والنسائي (4/ 90- 91) كتاب «الجنائز» باب: النهي عن الاستغفار للمشركين، حديث (2035) ، وأحمد (5/ 433) ، والطبري (6/ 488) رقم: (17339) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 342- 343) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبيه به، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 505) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وابن مردويه.

لفعله صلّى الله عليه وسلّم إِذ أفعاله في حُكْم الشرعِ المستقِرِّ، وقال ابن عبَّاس وقتادة «1» وغيرهما: إِنما نزلَتِ الآية بسببِ جماعةٍ من المؤمنين قالوا: نَسْتَغْفِرُ لموتانا كما استغفر إِبراهيمُ عليه السلام، فنزلَتِ الآية في ذلك، وقوله سبحانه: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ... الآية: المعنى: لا حجَّة أَيُّها المؤمنون في استغفار إِبراهيم عليه السلام، فإِن ذلك لم يكُنْ إِلا عن موعدةٍ، واختلف في ذلك، فقيلَ: عن مَوْعِدَةٍ من إِبراهيم، وذلك قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47] وقيل: عن موعِدَةٍ من أبيه له في أنَّهُ سيؤمن، فَقَوِيَ طمعه، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نُهِيَ عنه، ومَوْعِدَة مِنَ الوَعْدِ، وأما تبيُّنه أنه عَدُوٌّ للَّه، قيل: ذلك بموت آزر على الكُفْر، وقيل: ذلك بأنه نُهِيَ عنه، وهو حيٌّ، وقوله سبحانه: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ثَنَاءٌ مِنَ اللَّه تعالَى على إِبراهيم، و «الأَوَّاهُ» معناهُ الخَائِفُ الذي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ مِنْ خَوفِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والتَّأَوُّهُ: التوجُّع الذي يَكْثُرُ حَتَّى ينطق الإِنسان معه ب «أَوَّهْ» ومن هذا المعنَى قولُ المُثَقِّب العَبْدِي: [الوافر] إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحُلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ أَهَّةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ «2» ويروى: آهَة. وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يُسْمَعُ وَجِيبُ قَلْبِهِ «3» من الخشية، كما تُسْمَعُ أَجنحة النُّسُور، وللمفسِّرين في «الأَوَّاه» عباراتٌ كلُّها ترجعُ إِلى ما ذكرتُه. ت: روى ابن المبارك في «رقائقه» ، قال: أخبرنا عبدُ الحميدِ بْنُ بَهْرَام، قال: حدَّثنا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّاد، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الأَوَّاهُ؟ قالَ: «الأَوَّاهُ الخَاشِعُ الدَّعَّاءُ المُتَضَرِّعُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «4» انتهى. وحَلِيمٌ مَعناه: صابرٌ، محتملٌ، عظيمُ العَقْل، والحِلْمُ: العقل. وقوله سبحانَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ... الآية: معناه التأنيسُ للمؤمنين، وقيل: إن

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» عن قتادة، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 506) ، وعزاه أيضا لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 91) . [.....] (3) وجب القلب يجب: وجبا ووجيبا ووجوبا، ووجبانا: خفق واضطرب. ينظر: «لسان العرب» (4767) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 498) برقم: (17431) من حديث عبد الله بن شداد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 509) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 117 إلى 118]

بعضهم خَافَ عَلَى نَفْسِه مِنَ الاستغفار للمشْركين، فنزلت الآيةُ مُؤْنسة، أيْ: ما كان اللَّه بَعْدَ/ أَنْ هدَى إِلى الإِسْلاَمِ، وأنقذ مِنَ النار لِيُحْبِطَ ذلك، ويضلَّ أهله لمواقعتهم ذَنْباً لم يتقدَّم من اللَّه عنه نَهْيٌ، فأما إِذا بيَّن لهم ما يتَّقون من الأمورِ، ويتجنَّبون من الأشياء، فحينئذٍ مَنْ واقع شيئاً من ذلك بعد النَّهْيِ، استوجب العقوبة، وباقي الآية بيّن. [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 118] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) وقوله سبحانه: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... الآية: التوبةُ مِنَ اللَّه تعالَى هو رُجُوعه بعبده مِنْ حالة إِلى أَرفَعَ منها، فقد تكونُ في الأكثَرِ رُجُوعاً من حالة طاعةٍ إِلى أَكْمَلَ منها، وهذه توبته سبحانه في هذه الآيةِ عَلَى نبيِّه عليه السلام، وأما توبته على المهاجرين والأنصار، فمعرَّضةً لأنْ تكونَ مِنْ تقصير إلى طاعة وجِدٍّ في الغزو ونُصْرَةِ الدِّين، وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ، فَرُجُوعٌ من حالة محطوطةٍ إلى حال غفران ورضاً وقال الشيخ أبو الحَسَن الشَّاذِلِيُّ رحمه اللَّه: في هذه الآية ذَكَر اللَّه سبحانه تَوْبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَئِلاَ يستوحِشَ مَنْ أذنب لأنه ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا، ثم قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فذكر مَنْ لم يُذْنِبْ لِيُؤْنَسَ من قد أذنب، انتهى من «لطائف المنن» . وساعَةِ الْعُسْرَةِ يريد: وقْت العسرة، والعُسْرة الشِّدَّةُ، وضيقُ الحَالِ، والعُدْمُ، وهذا هو جيشُ العُسْرة الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَلَهُ الجنة» «1» ، فجهزه عثمانُ بْنُ عفَّان رضي اللَّه عنه بألْفِ جَمَلٍ، وألْف دينارٍ، وجاء أيضاً رجلٌ من الأنصار بِسَبْعِمَائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْر، وهذه غزوةُ تبوكَ. ت: وعن ابن عَبَّاس أنَّه قيل لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّاب: حدِّثنا عن شأنِ سَاعَةِ العُسْرَة، فقال عمر: خَرَجْنَا إلى تبوكَ في قَيْظٍ شديدٍ، فنزلْنا منزلاً أصابنا فيه عَطَشٌ، حتى ظَنَنَّا أَنَّ رقابنا سَتَنْقَطِعُ حتى إنَّ الرجُلَ لَيَنْحَرُ بعيره، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ «2» فيشربه، ثم يجعل ما بقي

_ (1) أخرجه البخاري (5/ 477) كتاب «الوصايا» باب: إذا وقف أرضا أو بئرا، حديث (2778) عن عثمان بن عفان به، وأخرجه معلقا (7/ 65) كتاب «فضائل الصحابة» باب: مناقب عثمان بن عفان. (2) الفرث: السّرجين ما دام في الكرش. ينظر: «لسان العرب» ص: (3369) .

عَلَى كَبِدِهِ، فقال أبو بكر: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّه قد عَوَّدَكَ في الدعاءِ خيراً، فادع اللَّهَ، فَقَالَ: «أَتُحِبُّ ذلكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فلم يَرْجِعْهما حتَّى مالَتِ السماء، فَأَظلَّتْ، ثم سَكَبَتْ فملؤوا ما معهم، ثم ذهبْنا ننظر، فلم نجدْها جاوَزَتِ العَسْكَر، رواه الحاكم في «مستدركه على الصحيحين» ، وقال: صحيحٌ على شرط الشَّيْخَيْن، يعني: مسلماً والبخاريَّ «1» انتهى في «السلاح» ، ووصل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تَبُوكَ إِلى أوائلِ بلد العَدُوِّ فصالحه أَهْلُ أذرح وأَيْلَةَ وغيرهما على الجِزْية ونحوها، وانصرف، والزيغ المذْكُور هو ما هَمَّت به طائفةٌ من الانصراف لِمَا لَقُوا من المشقَّة والعُسْرة. قاله الحسن «2» . وقيل: زيغها إِنما كان بظُنُونٍ لها ساءَتْ في معنى عزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على تلك الغزوة، لما رأته من شدَّة الحال وقوَّة العدوِّ والمقصود، ثم أخبر عزَّ وجلَّ أنه تاب أيضاً على هذا الفريقِ، وراجَعَ به، وأنس بإِعلامه للأمَّة بأنه رؤوفٌ رحيمٌ، والثلاثة الذين خُلِّفوا هم كعْبُ بن مالِكٍ وهلال بن أمية الوَاقفيُّ ومُرَارَةُ بنُ الرَّبيع العامريُّ، وقد خرَّج حديثهم بكماله البخاريُّ ومسلم «3» ، وهو في السِّير فلذلك اختصرنا سَوْقَهُ، وهم الذين تقدَّم فيهم: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [التوبة: 106] ، ومعنى خُلِّفُوا أُخِّروا، وتُرِكَ النظرُ في أمرهم، قال كَعْب: وليس بتخلُّفنا عَنِ الغَزْوِ، وهو بَيِّنٌ من لفظ الآية. وقوله: وَظَنُّوا أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ظَنُّوا هنا بمعنى: أيقنوا، قال

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 502) برقم: (17443) والبزار (2/ 354- 355- كشف) ، والحاكم (1/ 159) ، وابن حبان (1383) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 231) من حديث عمر بن الخطاب، وقال البزار: لا نعلمه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد عن عمر بهذا اللفظ. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 198) وقال: رواه البزار والطبراني في «الأوسط» ورجال البزار ثقات. (2) ذكره ابن عطية (3/ 93) . (3) أخرجه البخاري (7/ 717، 719) كتاب «المغازي» باب: حديث كعب بن مالك، حديث (4418) ، ومسلم (4/ 2120، 2128) كتاب «التوبة» باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، حديث (53/ 2769) ، والترمذي (5/ 281- 282) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة التوبة، حديث (3102) ، وابن حبان (3370) والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 273، 279) من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك به مطولا. وقد أخرجه جزءا من هذا الحديث البخاري برقم: (2757، 2947، 2948، 2949، 2950، 3088، 3556، 3889، 3951، 4673، 4676، 4677، 4678، 6255، 6690، 7225) ، وأيضا أبو داود (3320) ، والنسائي (2/ 53- 54) ، وابن ماجه (1393) ، وأحمد (6/ 390) ، وابن أبي شيبة (14/ 539) كلهم من طريق الزهري بهذا الإسناد مختصرا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 119 إلى 121]

الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرة رحمه اللَّه: قال بعضُ أهْل التوفيق: إِذا نزلَتْ بي نازلةٌ مَا مِنْ أي نوع كانَتْ، فَأُلْهِمْتُ فيها اللَّجَأَ، فلا أبالي بها، / واللَّجَأُ على وجوه منها: الاشتغال بالذِّكْرِ والتعبُّدِ وتفويض الأمر له عزَّ وجلَّ، لقوله تعالى على لسان نبيه: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلتي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائلين» «1» ، ومنها: الصَّدَقة، ومنها: الدعاء، فكيفَ بالمَجْمُوع. انتهى. وقوله سبحانه: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا لما كان هذا القولُ في تعديد النعم، بدأ في ترتيبه بالجهَة الَّتي هي عن الله عز وجلّ ليكون ذلك مِنْها على تلقِّي النعمة مِنْ عنده لا رَبَّ غيره، ولو كان هذا القولُ في تعديد ذَنْبٍ، لكان الابتداء بالجهة التي هي على المذنب، كما قال عز وجل: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ليكون ذلك أشدَّ تقريراً للذنْب عليهم، وهذا مِنْ فصاحة القُرآن وبديعِ نظمِهِ ومُعْجِزِ اتساقه. وبيانُ هذه الآيةِ ومواقعِ ألفاظها إِنما يَكْمُلُ مع مطالعة حديثِ الثلاثة الذين خُلِّفوا في الكُتُب المذكورة، فَانظره، وإِنما عَظُم ذنبهم، واستحقوا عليه ذلك، لأن الشرع يطلبهم مِنَ الجِدِّ فيه بحَسَب منازلهم منه، وتقدُّمهم فيه إِذ هم أُسْوة وحُجَّة للمنافقين، والطاعنين، إِذ كان كعْبٌ من أهْل العقبة، وصاحباه من أهْل بدر، وفي هذا ما يقتضي أَنَّ الرجُلَ العَالِمَ والمُقْتَدَى به أَقلُّ عذراً في السقوطِ مِنْ سواه، وكَتَب الأوزاعيُّ رحمه اللَّه إلى أبي جَعْفَرِ المنصورِ في آخر رسالةٍ: واعلم أَنَّ قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَنْ تَزِيدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكَ إِلاَّ عَظِماً، ولا طاعَتَهُ إِلا وجُوباً، ولا النَّاسَ فيما خالف ذلك منك إلّا إنكارا، والسلام. [سورة التوبة (9) : الآيات 119 الى 121] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هذا الأمر بالكوْن مع الصَّادقين حَسَنٌ بعد قصَّة الثلاثة حين نَفَعَهم الصِّدْق، وذَهَبَ بهم عن منازل المنافقين،

_ (1) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.

وكان ابنُ مسعودٍ يتأوَّل الآية في صِدْق الحديث «1» ، وإِليه نحا كَعْبُ بنُ مالك. وقوله سبحانه: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ... الآية هذه الآية معاتبةٌ للمؤمنين من أهل يَثْرِبَ وقبائل العرب المُجَاورة لها، على التخلُّف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوةٍ، وقُوَّةُ الكلام تعطي الأمر بِصُحْبَتِهِ أَيْنَ ما توجَّه غازياً وبَذْلِ النفوس دونه، و «المخُمَصَة» مَفْعَلَةٌ من خُمُوص البَطْنِ، وهو ضُمُوره واستعير ذلك لحالة الجُوع، إِذ الخُمُوص ملازمٌ له، ومن ذلك قولُ الأَعْشَى: [الطويل] تَبِيتُونَ في المَشْتى مِلاَءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى «2» يَبِتْنَ خَمَائِصَا «3» وقوله: وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا: لفظٌ عامٌّ لقليلِ ما يصنعه المؤمنون بالكَفَرةِ- من أخْذ مالٍ، أو إِيراد هوانٍ- وكثيره ونَيْلًا: مصدر نَالَ يَنَالُ وفي الحديث: «مَا ازداد قومٌ مِنْ أَهْلِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بُعْداً إِلاَّ ازدادوا مِنَ اللَّهِ قُرْباً» . ت: وروى أَبو داود في «سننه» ، عن أبي مالكٍ الأشعريّ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَاتَ، أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ» ، انتهى «4» . قال ابنُ العربي «5» في «أحكامه» : قَوْلُه عزَّ وجلَّ: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ: يعني إِلاَّ كُتِبَ لهم ثوابُهُ، وكذلك قال في المجاهد: «إِنَّ أَرْوَاثَ دَوَابِّهِ وأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٌ له» وَكَذَلِكَ أَعطَى سبحانه لأَهْل العُذْر من الأجر ما أعطى للقويّ العامل بفضله،

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 509- 510) برقم: (17470- 17471) ، وذكره ابن عطية (3/ 95) ، والبغوي (2/ 337) نحوه، وابن كثير (2/ 399) نحوه. (2) جمع غرثى وغرثانة، والغرث: أيسر الجوع. ينظر: «لسان العرب» (3231) . (3) البيت للأعشى ينظر: «ديوانه» (149) ، «الدر المصون» (2/ 87) . (4) أخرجه أبو داود (2/ 12) كتاب «الجهاد» باب: فيمن مات غازيا، حديث (2499) ، والحاكم (2/ 78) ، والبيهقي (9/ 166) كتاب «السير» باب: فضل من مات في سبيل الله، والطبراني في «الكبير» (3/ 320) رقم: (3418) كلهم من طريق ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري به. وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرِّجاه، وتعقبه الذهبي فقال: ابن ثوبان: لم يحتج به مسلم وليس بذاك، وعبد الرحمن بن غنم لم يدركه مكحول فيما أظن. (5) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 1029) .

[سورة التوبة (9) : آية 122]

ففي الصحيح، بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الغزوة بعينها: «إِنَّ بِالمَدِينَةِ قَوْماً مَا سَلَكْتُمْ وَادِياً وَلاَ قَطَعْتُمْ شِعْباً إلّا وهم معكم حبسهم العذر» «1» انتهى. [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) وقوله سبحانه: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... الآية: قالتْ فرقة: إِن المؤمنين الذين/ كانوا بالبادية سكَّاناً ومبعوثين لتعليم الشَّرْع، لما سمعوا قولَ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ ... الآية [التوبة: 120] ، أهمّهم ذلك، فنفروا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خشية أنْ يكونُوا عُصَاةً في التخلُّف عن الغَزْوِ، فنزلَتْ هذه الآية في نَفْرِهِمْ ذلك. وقالتْ فرقة: سَبَبُ هذه الآية أن المنافقين، لما نزلَتِ الآيات في المتخلِّفين، قالوا: هَلَكَ أَهْلُ البوادِي، فنزلَتْ هذه الآية مقيمةً لعُذْرِ أهل البوادي. قال ع «2» : فيجيء قوله: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ: عمومٌ في اللفظ، والمراد به في المَعنَى الجمهورُ والأكْثَرُ، وتجيءُ هذه الآية مبيِّنة لذلك. وقالتْ فرقةٌ: هذه الآية ناسِخَةٌ لكُلِّ ما ورد من إِلزام الكافَّة النَّفير والقِتَال، وقال ابنُ عبَّاس ما معناه: أَنَّ هذه الآية مختصَّة بالبعوثِ والسَّرايا «3» والآية المتقدِّمة ثابتةُ الحُكْم مع خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغَزْو، وقَالَتْ فرقةٌ: يشبه أنْ يكون التفقّه في الغزو وفي

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1518) كتاب «الإمارة» باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر، حديث (159/ 1911) ، وابن ماجه (2/ 923) كتاب «الجهاد» ، باب: من حبسه العذر عن الجهاد حديث (2765) ، وأحمد (3/ 300) وأبو يعلى (4/ 193) رقم (2291) كلهم من طريق الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعا. وله شاهد من حديث أنس بن مالك. أخرجه البخاري (7/ 732) كتاب «المغازي» باب: نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث (4423) ، ومسلم (3/ 1518) كتاب «الإمارة» باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض، حديث (59/ 1911) ، وأحمد (3/ 103) ، وابن ماجه (2/ 923) ، كتاب «الجهاد» ، باب: من حبسه العذر عن الجهاد حديث (2764) ، وأبو يعلى (6/ 450- 451) رقم: (3839) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 524- بتحقيقنا) . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 96) . (3) أخرجه الطبري (6/ 514) برقم: (17485) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 96- 97) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 339) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 521) نحوه، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «المدخل» .

السرايا، لِمَا يَرَوْنَ من نُصْرَةِ اللَّه لدينِهِ، وإِظهارِهِ العَدَد القليلَ من المؤمنين على الكثير من الكافرين، وعِلْمِهم بذلك صحَّة دِينِ الإِسلام ومكانَتِهِ. ع «1» : والجمهور على أن التفقُّه إِنما هو بمشاهدة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصُحْبَته، وقيل غير هذا. ت: وَصحَّ عنه صلّى الله عليه وسلّم، أنه قَالَ: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذا استنفرتم فانفروا» «2» ، وقد استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس في غزوة تَبُوكَ، وأعلن بها حَسَبَ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 97) . (2) ورد ذلك من حديث ابن عباس، وعائشة، ومجاشع بن مسعود، وصفوان بن أمية، ويعلى بن أمية التيمي، وقول ابن عمر، وقول عمر، وحديث أبي سعيد الخدري. فأما حديث ابن عباس: فأخرجه البخاري (6/ 45) في «الجهاد» باب: وجوب النفير (2825) ، (6/ 219) باب: لا هجرة بعد الفتح (3077) ، ومسلم (3/ 1487) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، والجهاد، والخير، وبيان معنى: لا هجرة بعد الفتح (85/ 1353) ، وأبو داود (2/ 6) في «الجهاد» باب: في الهجرة، هل انقطعت؟ (2480) ، والنسائي (7/ 146) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، والترمذي (1590) ، وأحمد (1/ 266، 315، 316، 344) ، وعبد الرزاق (5/ 309) برقم: (9713) ، والدارمي (2/ 239) في «السير» باب: لا هجرة بعد الفتح، وابن حبان (7/ 4845) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 30- 31) برقم: (10944) ، وابن الجارود في «المنتقى» (1030) ، والبيهقي (5/ 195) ، (9/ 16) ، وفي «دلائل النبوة» (5/ 108) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (4/ 179) برقم: (1996) ، و (5/ 520) برقم: (2630) من طريق منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس مرفوعا به. وتابعه إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، أخرجه الطبراني (11/ 18) برقم: (10898) . وأخرجه الطبراني (10/ 413) برقم: (10844) عن شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأما حديث عائشة: فأخرجه البخاري (6/ 220) في «الجهاد» باب: لا هجرة بعد الفتح (3080) ، (7/ 267) في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (3900) ، وفي (7/ 620) في «المغازي» باب: (53) برقم: (4312) ، ومسلم (3/ 1488) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، والجهاد، والخير ... (86- 1864) ، وأبو يعلى (4952) ، واللفظ لمسلم، ولأبي يعلى من طريق عطاء، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الهجرة؟ فقال: «لا هجرة بعد الفتح ... » الحديث، وفي لفظ البخاري عن عطاء قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألتها عن الهجرة؟ فقالت: «لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية» . وهكذا أخرجه البيهقي (9/ 17) . وأما حديث مجاشع بن مسعود فأخرجه البخاري (6/ 137) في «الجهاد» باب: البيعة في الحرب ألا

ما هو مصرَّح به في حديث كَعْب بن مالِكٍ في «الصِّحَاح» ، فكان العَتَبُ متوجِّهاً على من

_ يفروا ... (2962، 2963) ، و (6/ 219) باب: لا هجرة بعد الفتح (3078- 3079) ، و (7/ 619) في «المغازي» باب: (53) (4305- 4308) ، ومسلم (3/ 1487) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، والجهاد والخير، (83- 84/ 1863) ، وأحمد (3/ 468- 469) ، و (5/ 71) ، والحاكم (3/ 316) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 252) ، والبيهقي (9/ 16) ، وفي «الدلائل» (5/ 109) من طريق أبي عثمان النهدي: حدثني مجاشع قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأخي بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: «ذهب أهل الهجرة بما فيها» ، فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: «أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» ، فلقيت معبدا بعد- وكان أكبرهما- فسألته، فقال: صدق مجاشع.. وأما حديث صفوان بن أمية: فأخرجه النسائي (7/ 145) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (3/ 401) عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن صفوان بن أمية قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يقولون إن الجنة لا يدخلها إلا مهاجر، قال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، فإذا استنفرتم فانفروا» . وأخرجه أحمد (3/ 401) ، (6/ 465) عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن أبيه أن صفوان بن أمية بن خلف قيل له: هلك من لم يهاجر، قال: فقلت: لا أصل إلى أهلي حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركبت راحلتي، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله زعموا أنه هلك من لم يهاجر، قال: «كلا أبا وهب، فارجع إلى أباطح مكة» . وأما حديث يعلى بن أمية: فأخرجه النسائي (7/ 141) في «البيعة» باب: البيعة على الجهاد، (7/ 145) في ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (4/ 323- 324) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 257) رقم: (664- 665) ، والبيهقي (9/ 16) من طريق ابن شهاب، عن عمرو بن عبد الرحمن بن أمية أن أباه أخبره أن يعلى قال: جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبي يوم الفتح، فقلت: يا رسول الله: بايع أبي على الهجرة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبايعه على الجهاد، وقد انقطعت الهجرة» . وأما حديث أبي سعيد الخدري: فأخرجه أحمد (3/ 22) (5/ 187) ، والطيالسي (601، 967، 2205) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 109) عن أبي البختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ ... قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ختمها وقال: «الناس حيز، وأنا وأصحابي حيز» ، وقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» ، فحدثت به مروان بن الحكم وكان على المدينة، فقال له مروان: كذبت، وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت، وهما قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه من عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فسكتا، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك، قالا: صدق. أما قول ابن عمر: فأخرجه البخاري (7/ 267) في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (3899) ، و (7/ 620) في «المغازي» باب: (53) ، و (4309، 4311) من طريق عطاء، عن ابن عمر كان يقول: لا هجرة بعد الفتح. وفي لفظ آخر: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إني أريد أن أهاجر إلى الشام، قال: لا هجرة، ولكن جهاد، فانطلق فاعرض نفسك، فإن وجدت شيئا وإلا رجعت. وأما قول عمر: فأخرجه النسائي (7/ 146) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأبو يعلى

[سورة التوبة (9) : الآيات 123 إلى 127]

تأخَّر عنه بعد العِلْمِ، فيظهر واللَّه أعلم، أنَّ الآية الأولَى باقٍ حكمها كما قال ابن عباس، وتكون الثانية ليستْ في معنى الغَزْو، بل في شأن التفقُّه في الدِّين على الإِطلاق «1» وهذا هو الذي يُفْهَمُ من استدلالهم بالآية علَى فَضْلِ العلْم، وقد قالت فرقة: إِن هذه الآية لَيْسَتْ في معنى الغَزْو، وإِنما سببها قبائلٌ مِنَ العرب أصابتهم مجاعةٌ، فنفزوا إلى المدينة لِمَعْنَى المعاشِ، فكادوا يُفْسِدونها، وكان أكثرهم غَيْرَ صحيحِ الإِيمانِ، وإِنما أَضْرَعَه الجُوع، فنزلَتِ الآية في ذلك، والإِنذارُ في الآية عامٌّ للكفر والمعاصي، والحذرِ منها أيضاً كذلك قال ابن المبارك في «رقائقه» أخبرنا موسَى بْنُ عُبَيْدَة، عن محمد بن كَعْب القُرَظِيِّ، قال: إِذا أراد اللَّه تبارك وتعالَى بِعَبْدٍ خيراً، جعل فيه ثلاثَ خصالٍ: فقْهاً في الدِّينِ، وزَهَادةً في الدنيا، وبَصَّرَهُ بعيوبه «2» . انتهى. [سورة التوبة (9) : الآيات 123 الى 127] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (127) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قيل: إِنَّ هذه الآية نزَلَتْ قبل الأمر بقتال الكُفَّار كافَّة، فهي من التدريجِ الذي كان في أوَّل الإِسلام. قال ع «3» : وهذا ضعيفٌ فإِن هذه السورة من آخر ما نَزَلَ. وقالتْ فرقة: معنى الآية أنَّ اللَّه تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أنْ يقاتل كُلُّ فريقٍ منهم الجنْسَ الذي يليه من الكَفَرة. وقوله سبحانه: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً: أي: خشونةً وبأساً، ثم وعَدَ سبحانه في آخر الآية وحَضَّ على التقوَى التي هي مِلاَكُ الدِّينِ والدنيا، وبها يُلْقَى العَدُوُّ، وقد قال

_ في «مسنده» (186) ، عن شعبة، عن يحيى بن هانىء، عن نعيم بن دجاجة قال: سمعت عمر يقول: لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (1) أخرجه الطبري (6/ 514) برقم: (17488) ، وابن كثير (2/ 401) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 522) . (2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (95- 96) رقم: (282) ومن طريقه أبي نعيم في «حلية الأولياء» (3/ 213) . (3) ينظر: «المحرر» (3/ 97) .

بعضُ الصحابة: إِنما تُقَاتِلُونَ النَّاس بأَعمالكم، وَوَعَد سبحانه أنه مع المتَّقِينَ، وَمَنْ كان اللَّه مَعِهُ، فَلَنْ يُغْلَبَ. وقوله تعالى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ... الآية: هذه الآية نزلَتْ في شأن المنافقين، وقولهم: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً يحتمل أنْ يكون لمنافقينَ مِثْلِهِمْ، أو لقومٍ من قراباتهم علَى جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السُّورة، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ الردَّ عليهم بقوله: فَأَمَّا/ الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وذلك أنه إذا نزلَتْ سورةٌ، حَدَثَ للمؤمنين بها تصديقٌ خاصٌّ، لم يكنْ قبلُ، فتصديقهم بما تضمَّنته السورةُ مِنْ أخبار وأمرٍ ونَهْيٍ أمرٌ زائد على الذي كان عِنْدهم قبلُ، وهذا وجْهٌ من زيادة الإِيمان. ووجه آخر أنَّ السورة ربَّما تضمَّنت دليلاً أو تنبيهاً على دليل، فيكون المؤمن قد عَرَفَ اللَّه بعدَّة أدلَّة، فإِذا نزلت السورةُ، زادَتْ في أدلَّته، وَوَجْهٌ آخر من وجوه الزيادة أنَّ الإِنسان ربَّما عرضه شكٌ يسيرٌ، أو لاحَتْ له شبهة مشغِّبة، فإِذا نزلَتِ السورة، ارتَفَعَتْ تلك الشبهة، وقَوِيَ إِيمانه وارتقى اعتقاده عن معارَضَة الشبهات، والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: هم المنافقون، و «الرجْسُ» في اللغة: يجيء بمعنى القَذَرِ، ويجيء بمعنى العذاب، وحالُ هؤلاء المنافقين هي قَذَرٌ، وهي عذابٌ عاجلٌ، كفيلٌ بآجِلٍ، وإِذا تَجدَّد كفْرُهم بسورةٍ، فقد زاد كُفْرهم، فذلك زيادةُ رجْسٍ إِلى رِجْسهم. وقوله سبحانه: أَوَلا يَرَوْنَ يعني: المنافقين، وقرأ حَمزة: «أَوَلاَ تَرَوْنَ» - بالتاء من فوق- على معنى: أو لا تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ، أي: يُخْتَبرُونَ، وقرأ مجاهدٌ: «مَرْضَةً أَوْ مَرْضَتَيْنِ» ، والذي يظهر مما قبل الآية، ومما بعدها أَنَّ الفتنة والاختبار إِنما هي بكَشْفِ اللَّه أَسرارهم وإِفشائه عقائدهم إِذ يعلمون أنَّ ذلك مِنْ عند اللَّه، وبهذا تقومُ الحُجَّة عليهم، وأما الاختبار بالمَرَضِ فهو في المؤمنين. وقوله سبحانه: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ: المعنى: وإِذا ما أنزلَتْ سورةٌ فيها فضيحةُ أسرار المنافقين، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ: أي: هلْ معكم مَنْ يَنْقُلُ عَنْكم، هَلْ يراكم من أحدٍ حين تدبِّرون أموركم، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ طريق الاهتداء وذلك أنهم وقْتَ كشْف أسرارهم والإِعلام بمغيِّبات أمورهم، يقع لهم لا مَحَالة تَعَجُّب وتوقُّف ونَظَر، فلو أريد بهم خَيْرٌ، لكان ذلك الوَقْتُ مَظِنَّةَ الاهتداء، وقد تقدَّم بيانُ قوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.

[سورة التوبة (9) : الآيات 128 إلى 129]

[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) وقوله عز وجل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... الآية مخاطبةٌ للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديدِ النعمة عَلَيْهِمْ إِذْ جاءَهم بلسانِهِمْ، وبما يفهمونه منَ الأَغراض والفصاحةِ، وشُرِّفوا به غَابِرَ الدهْرِ. وقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ: يقتضي مدْحاً لنسبه صلّى الله عليه وسلّم، وأنه من صميمِ العَرَبِ، وشَرَفِها، وقرأ عبد اللَّه بن قُسَيْطٍ المَكِّيُّ: «مِنْ أَنْفَسِكُمْ» - بفتح الفاء- من النّفاسة، ورويت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: مَا عَنِتُّمْ: معناه عَنَتُكُمْ ف «ما» مصدريةٌ، والعَنَت: المشقَّة، وهي هنا لفظةٌ عامَّة، أي: عزيز عليه مَا شَقَّ عليكم: مِنْ قتلٍ وإِسارٍ وامتحان بحسب الحَقِّ واعتقادكم أيضاً معه، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي: على إيمانكم وهداكم. وقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ أي: مبالغٌ في الشفقة عليهم، قال أبو عبيدة: الرّأفة أرقّ الرحمة. ثم خاطب سبحانه نبيَّه بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا، أي: أعرضوا، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: هذه الآية من آخر مَا نَزَلَ، وصلى اللَّه علَى سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العظيم.

تفسير سورة يونس

تفسير سورة يونس / بعضها نزل بمكة، وبعضها بالمدينة [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) قوله عز وجل: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ المراد ب الْكِتابِ: القرآن، والْحَكِيمِ: بمعنى مُحْكَم، ويمكن أنْ يكون: «حكيم» بمعنى ذي حكمة، فهو على النّسب. وقوله عز وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً ... الآية: قال ابن عباس وغيره: سبب هذه الآية استبعاد قُرَيْش أَنْ يبعث اللَّه بشراً رسولاً «1» ، والقَدَمُ هنا مَا قُدِّم، واختلف في المراد بها هاهنا، فقال ابنُ عبَّاس ومجاهد والضحاك وغيرهم: هي الأعمال الصَّالحات من العبادات «2» . وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هي شفاعة محمّد صلّى الله عليه وسلّم «3» ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره: هي السعادةُ السَّابقة لهم في اللَّوْح المحفوظ «4» ، وهذا أليق الأقوال

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 527) برقم: (17542) وبرقم: (17543) عن ابن جريج، وذكره ابن عطية (3/ 102) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 406) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 535) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (2) أخرجه الطبري (6/ 527- 528) برقم: (17544، 17547) ، وذكره ابن عطية (3/ 103) ، والبغوي (2/ 343) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 406) كلهم بنحوه. (3) أخرجه الطبري (6/ 528) برقم: (17555) ، وذكره ابن عطية (3/ 103) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 406) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 536) ، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ. (4) أخرجه الطبري (6/ 528) برقم: (17554) ، وذكره ابن عطية (3/ 103) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 343) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 406) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 535) ، وزاد نسبته إل ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة يونس (10) : الآيات 3 إلى 4]

بالآية ومن هذه اللفظة قَوْلُ حَسَّان رضي اللَّه عنه «1» : [الطويل] لَنَا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفَنَا ... لأَوَّلِنَا في طَاعَةِ اللَّهِ تَابعُ «2» ومن هذه اللفظة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ» «3» أيْ ما قَدَّمَ لها، هذا على أن الجبَّار اسم اللَّه تعالى، و «الصِّدْق» هنا بمعنى الصَّلاح، وقال البخاريُّ: قال زَيْدُ بن أسْلَمَ: قَدَمَ صِدْقٍ محمّد صلّى الله عليه وسلّم «4» . انتهى. وقولهم: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ: إِنما هو بسبب أَنَّه فَرَّق بذلك كلمتهم، وحَالَ بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله السّاحر في ظنّهم القاصر فسمّوه ساحرا. [سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 4] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... الآية: هذا ابتداء دعاءٍ إِلَى عبادة اللَّه عزَّ وجلَّ وتوحيدِهِ، وذَكَرَ بعضُ الناس أَنَّ الحكمة في خَلْقِ اللَّه تعالَى هذه الأشياءَ في مُدَّة محدودةٍ ممتدَّة، وفي القُدْرة أنْ يقول لها: كُنْ فَتَكُون، إِنما هي لِيُعَلِّمَ عباده التُّؤَدة والتماهُلَ في الأمور، قال ع «5» : وهذا مما لا يُوصَلُ إِلى تعليله، وعلى هذا هي الأجْنَةُ في البُطُون، وخَلْقُ الثمار، وغير ذلك، واللَّه عزَّ وجلَّ قد جَعَلَ لكلِّ شيء قَدْراً، وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك.

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 103) . [.....] (2) البيت في «ديوانه» (241) ، والطبري (13/ 209) ، و «البحر» (5/ 124) ، و «الدر المصون» (3/ 366) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 103) . (3) أخرجه البخاري (8/ 460) كتاب «التفسير» باب: وتقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حديث (4848) ، ومسلم (4/ 2187) كتاب «الجنة» باب: النار يدخلها الجبارون، حديث (37/ 2848) ، والترمذي (5/ 390) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة ق، حديث (3272) ، وأحمد (3/ 134، 141، 234) ، وأبو يعلى (5/ 438- 439) ، رقم: (3140) ، وابن حبان (268) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص: (349) من حديث أنس. (4) أخرجه البخاري (8/ 196) كتاب «التفسير» باب: «سورة يونس» ، وذكر معلقا بصيغة الجزم، ووصله ابن جرير من طريق ابن عيينة، عنه بهذا الحديث. كما قال ابن حجر، والطبري (6/ 529) برقم: (17557) ، وذكره ابن عطية (3/ 103) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 536) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 104) .

[سورة يونس (10) : الآيات 5 إلى 9]

وقوله سبحانه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يصحُّ أن يريد بالأمر اسم الجنْس من الأمور، ويصحُّ أن يريد الأمر الذي هو مصْدَر أَمر يأْمُرُ، وتدبيره لا إله إلا هو إِنما هو الإِنفاذ لأنه قد أحاط بكلِّ شيء عِلْماً، قال مجاهدٌ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ: معناه: يَقْضيه وحْده «1» . وقوله سبحانه: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ردٌّ على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها عند اللَّه. ذلِكُمُ اللَّهُ أي: الذي هذه صفاتُهُ فاعبدوه، ثم قَرَّرهم على هذه الآيات والعبر، فقال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ... الاية إِنباءٌ بالبعث. وقوله: يَبْدَؤُا الْخَلْقَ يريد: النشأة الأولى، والإِعادةُ: هي البَعْثُ من القبور. لِيَجْزِيَ: هي لام كَيْ، والمعنى: أنَّ الإِعادة إِنما هي ليقع الجزاءُ على الأعمال. وقوله: بِالْقِسْطِ: أي: بالعدل. وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا: ابتداء، والحَمِيمُ الحارُّ المسخَّن، وحميمُ النار فيما ذكر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا أَدْنَاهُ الكَافِرُ مِنْ فِيهِ، تَسَاقَطَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ» «2» وهو كما وصفه سبحانه: يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: 29] . [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 9] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 530) برقم: (17559، 17562) ، وذكره ابن عطية (3/ 104) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 536) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) أخرجه الترمذي (4/ 706) كتاب «صفة جهنم» باب: ما جاء في صفة شراب أهل النار، حديث (2584) ، وفي (5/ 426) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة سأل سائل، حديث (3322) ، وأحمد (3/ 70- 71) ، وأبو يعلى (2/ 520) رقم: (1375) ، والحاكم (4/ 602) من حديث أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ... الآية: هذا استمرارٌ على وَصْف/ آياته سبحانه، والتنْبيه على صنعته الدَّالة علَى وحدانيته، وعظيم قُدْرته. وقوله: قَدَّرَهُ مَنازِلَ: يحتمل أنْ يعود الضمير على «القمر» وحده لأنه المراعَى في معرفة عَدَدِ السِّنينَ والحِسَابِ عنْد العرب، ويحتمل أنْ يريدَ الشَّمْسَ والقَمَرَ معاً، لكنه اجتزأ بذكْر أَحدهما كما قال: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] . وقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أيْ: رفقاً بكم، ورَفعاً للالتباس في معايشِكُم وغير ذلك مما يُضْطَرُّ فيه إلى معرفة التواريخ. وقوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: إِنما خصهم، لأن نَفْعَ هذا فيهم ظَهَرَ. وقوله سبحانه: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية: آية اعتبار وتنبيهٍ، والآياتُ: العلامات، وخصَّص القوم المتَّقين تشريفاً لهم إِذ الاعتبار فيهم يقع، ونسبتهم إِلَى هذه الأشياء المَنْظُور فيها أَفْضَلُ مِنْ نسبة مَنْ لم يَهْتَدِ ولا اتقى. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا ... الآية: قال أبو عُبَيْدة «1» وغيره: يَرْجُونَ، في هذه الآية: بمعنى يخافُون «2» واحتجوا ببَيْتِ أَبي ذُؤَيْبٍ: [الطويل] إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ «3» وقال ابن سِيدَه والفرّاء: لفظة الرَّجاءِ، إِذا جاءَتْ منفيَّةً، فإِنها تكونُ بمعنى الخَوْفِ، فعَلَى هذا التأويل معنى الآية: إِنَّ الذين لا يخافون لقاءنا، وقال بعض أهل العلم: الرجاءُ، في هذه الآية: على بابه وذلك أن الكافر المكذِّب بالبعث لا يُحْسِنُ ظَنًّا بأنه يَلْقَى اللَّه، ولا له في الآخرة أمَلٌ إِذ لو كان له فيها أَمَلٌ لقارنه لا محالة خَوْفٌ، وهذه الحالُ من الخَوْفِ المقارِنِ هي القائِدَةُ إِلى النجاة. قال ع «4» : والذي أقُولُ به: إنَّ الرجاء في كلِّ موضع هو علَى بابه، وأنَّ بيت

_ (1) ينظر: «مجاز القرآن» لأبي عبيدة (1/ 275) . (2) ذكره ابن عطية (3/ 106) . (3) البيت لأبي ذؤيب كما ذكر المصنف، ينظر: «ديوان الهذليين» (1/ 143) ، «الكشاف» (4/ 499) ، و «الدر المصون» (1/ 534) و «جمهرة الشعراء» (9) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 107) .

[سورة يونس (10) : آية 10]

الهُذَلِيِّ معناه: لَمْ يَرْجُ فَقَدْ لَسْعِهَا، قال ابن زَيْد: هذه الآية في الكُفَّار «1» . وقوله سبحانه: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا: يريد: كَانَتْ مُنتَهى غرضهم، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: إِذا شئْتَ رأَيْت هذا الموصُوفَ صاحِبَ دنيا، لها يغضبُ، ولها يرضَى، ولها يفرح، ولها يهتَمُّ ويحزن، فكأَنَّ قتادةَ صَوَّرها في العصاةِ «2» ، ولا يترتب ذلك إِلا مع تأوُّل الرَّجَاءِ على بابه لأن المؤمِنَ العاصِيَ مستَوْحِشٌ من آخرته، فأما على التأويلِ الأول، فمن لا يخافُ اللَّه، فهو كَافِرٌ. وقوله: وَاطْمَأَنُّوا بِها: تكميلٌ في معنى القناعةِ بها، والرفْضِ لغيرها. وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ: يحتمل أنْ يكون ابتداء إِشارةٍ إِلى فرقةٍ أُخرَى، ثم عقَّب سبحانه بذكْر الفرقة الناجيَةِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ... الآية، الهدايةُ في هذه الآية تحتملُ وجْهين: أحدهما: أن يريد أنَّه يديمهم ويثبِّتهم. الثَّانِي: أنْ يريد أنه يرشدُهم إِلى طريق الجِنانِ في الآخرة. وقوله: بِإِيمانِهِمْ يحتملُ أَنْ يريد: بسبب إِيمانهم، ويحتمل أن يكونَ الإِيمانُ هو نَفْس الهُدَى، أيْ، يهديهم إِلى طريق الجنة بنور إِيمانهم. قال مجاهد: يكون لهم إِيمانُهم نوراً يمشُونَ به، ويتركَّب هذا التأويل، على ما رُوِيَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ، إِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ لِلْحَشْرِ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلٌ جَمِيلُ الوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُودُهُ إِلَى الجَنَّةِ، وبعَكْسِ هذا في الكَافِرِ، ونحو هذا مما أسنده الطبري «3» وغيره. [سورة يونس (10) : آية 10] دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وقوله سبحانه: دَعْواهُمْ: أي: دعاؤهم فيها وسُبْحانَكَ اللَّهُمَّ: تَقْدِيسٌ وتسبيحٌ وتنزيهٌ لجلاله سبحانه عن كلِّ ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي كلماتٌ رَضِيَهَا اللَّه تعالى لنفْسه «4» ، وقال طلحة بن عبيد اللَّه/: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 106) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 537) ، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ. (2) ذكره ابن عطية (3/ 107) . (3) تقدم تخريجه. (4) أخرجه الطبري (6/ 536) برقم: (17583) ، وذكره ابن عطية (3/ 107) . [.....]

مَعْنَى سُبْحَانَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَعْنَاهَا: «تَنْزِيهاً للَّهِ مِنَ السُّوءِ» ، وَحُكِيَ عن بعض المفسِّرين أَنهم رَوَوْا أَنَّ هذه الكلمةَ إِنَّما يقولها المؤمنُ عِنْدَ ما يشتهي الطَّعَام، فإِنه إِذا رأَى طائِراً أَو غير ذلك، قال: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، فنزلتْ تلك الإِرادة بَيْنَ يديه فَوْقَ ما اشتهى. رواه ابنُ جُرَيْج وسفيانُ بن عُيَيْنة، وعبارة الداوديّ عن ابنِ جُرَيْج: «دَعْواهُمْ فيها» : قال: إِذا مَرَّ بهم الطائرُ يَشْتَهُونه، كان دعواهم به سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، فيأكلون منه ما يَشْتَهُونَ، ثم يطيرُ، وإِذا جاءتهم الملائكةُ بما يَشْتَهُونَ، سَلَّمُوا عَلَيْهم، فذلك قولُهُ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وإِذا أَكلوا حاجتهم، قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فذلك قوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وقوله سبحانه: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ: يريدُ تسليمَ بعضهم على بعض، والتحيَّة: مأخوذة مِنْ تَمَنِّي الحياةِ للإِنسان والدُّعاءِ بها، يقالُ: حَيَّاهُ ويُحيِّيه ومنه قَوْلُ زُهَيْرِ بن جنَابٍ: [الكامل] مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إِلاَّ التَّحِيَّهْ «1» يريد: دعاء الناس للمُلُوكِ بالحياةِ، وقال بعضُ العلماء: وَتَحِيَّتُهُمْ يريد: تسليم اللَّه تعالَى عليهم، والسَّلام: مأخوذً من السَّلامة، وَآخِرُ دَعْواهُمْ: أي: خاتمةُ دعائهِم وكلامِهِمْ في كلِّ موطِنٍ حَمْدُ اللَّه وشُكْرُهُ، عَلَى ما أسبغ عليهم من نعمه، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» «2» . في تفسير هذه الآية قولان: الأول: أَنَّ المَلَكَ يأتيهم بما يشتهون، فيقول: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، أي: سَلِمْتُم، فَيَرُدُّون عليه، فإِذا أكلوا، قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الثاني: أنَّ معنى «تَحِيَّتُهُمْ» : أي: تحيَّة بعضهم بعضاً، فقد ثبت في الخبر: «أن اللَّه تعالى خلق آدَمَ، ثم قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلى أُولَئِكَ النَّفَر مِنَ المَلاَئِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ، وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتَكَ مِنْ بَعْدِكَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» «3» ، وبَيَّنَ في القرآن هاهنا أنها تحيتهم في الجنّة،

_ (1) البيت لزهير بن جناب في «إصلاح المنطق» ص: (316) ، و «الأغاني» (18/ 307) ، و «الشعر والشعراء» (1/ 386) ، و «لسان العرب» (11/ 46) (بجل) ، (14/ 216) (حيا) ، و «المؤتلف والمختلف» ص: (130) ، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (5/ 299) ، و «شرح التصريح» (1/ 326) ، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي: ص (100) ، و «لسان العرب» (14/ 217) (حيا) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1050) . (3) تقدم تخريجه.

[سورة يونس (10) : الآيات 11 إلى 14]

فهي تحيَّة موضوعةٌ من أول الخلقة إلى غير نهاية، وقد رَوَى ابنُ القاسِمُ، عن مالكٍ في قوله تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي: هذا السَّلام الذي بين أظهركم، وهذا أظهر الأقوال، واللَّه أعلم. انتهى. وقرأ الجمهور «1» : «أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ» ، وهي عند سَيْبَوَيْهِ «2» «أن» المخفَّفَةُ من الثقيلة قال أبو الفتح: فهي بمنزلة قول الأعْشَى: [البسيط] : فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يحفى وينتعل «3» [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 14] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وقوله سبحانه: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ... الآية: هذه الآيةُ نزلَت، في دعاء الرَّجُل على نَفْسه أو ولده، أو ماله، فأخبر سبحانه أنَّه لو فعل مع النَّاس في إِجابته إِلى المَكْروه مثْلَ ما يريدُ فعله معهم في إِجابته إِلى الخَيْر، لأهلكهم، وحُذِفَ بعد ذلك جملة يتضمَّنها الظاهرُ، تقديرها: فلا يفعلْ ذلك، ولكنْ يَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا ... الآية، وقيل: إِن هذه الآية نزلَتْ في قولهم: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] ، وقيل: نزلت في قولهم: ائْتِنا بِما تَعِدُنا [هود: 32] ، وما جرى مجراه، والعَمَهُ: الخبط في ضلال. وقوله سبحانه: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ ... الآية: هذه الآية أيضا

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 108) ، و «البحر المحيط» (5/ 132) . (2) ينظر: «الكتاب» (1/ 480) . (3) ينظر: «ديوانه» ص: (109) ، و «الأزهية» ص: (64) ، و «الإنصاف» ص: (199) ، و «تلخيص الشواهد» ص: (382) ، و «خزانة الأدب» (5/ 426) ، (8/ 390) ، (10/ 393) ، (11/ 353- 354) ، و «الدرر» (2/ 194) ، و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 76) ، و «الكتاب» (2/ 137) ، (3/ 74، 164، 454) ، و «المحتسب» (1/ 308) ، و «مغني اللبيب» (1/ 314) ، و «المقاصد النحويّة» (2/ 287) ، و «المنصف» (3/ 129) ، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (10/ 391) و «رصف المباني» ص: (115) ، و «شرح المفصل» (8/ 71) ، و «المقتضب» (3/ 9) ، و «همع الهوامع» (1/ 142) .

[سورة يونس (10) : الآيات 15 إلى 18]

عتاب على سوء الخُلُقِ من بعض الناس، ومضمَّنه النهْيُ عن مثل هذا، والأَمرُ بالتسليم إِلى اللَّه والضَّراعة إِليه في كلِّ حال، والعلْمُ بأنَّ الخير والشر منه، لا رَبَّ غيره، وقوله: لِجَنْبِهِ، في موضع الحال كأنه قال: مُضْطَجِعاً، والضُّرُّ عامٌ لجميع الأمراض والرزايا. وقوله: مَرَّ يقتضي أن نزولها في الكفَّار، ثم هي بعد تتناوَلُ كلَّ من دَخَلَ تحْتَ معناها مِنْ كافرٍ وعاصٍ. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ/ قَبْلِكُمْ ... الآية: آيةُ وعيد للكفّار، وضرب أمثال لهم، وخَلائِفَ: جمع خليفة. وقوله: لِنَنْظُرَ: معناه: لنبيِّن في الوجود ما عَلِمْناه أزلاً، لكنْ جرى القول على طريق الإِيجاز والفصاحةِ والمجازِ، وقال عمر رضي اللَّه عنه: إِنَّ اللَّه تعالَى إِنما جَعَلَنَا خلفاءَ لينظر كَيْفَ عَمَلُنَا فَأَرُوا اللَّه حسن أعمالكم في السر والعلانية «1» . [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 18] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني: بعْضَ كفار قريش: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، ثم أمر سبحانه نبيه أَنْ يردَّ عليهم بالحق الواضح، فقال: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولا أعلمكم به، وأَدْراكُمْ بمعنى: أعلمكم، تقول: دَرَيْتُ بالأَمْرِ، وأَدْرَيْتُ بِهِ غيري، ثم قال: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ يعني: الأربعين سنةً قبل بعثته عليه السلام، أي: فلم تجرِّبوني في كَذِبٍ، ولا تكلَّمتُ في شيءٍ مِنْ هذا أَفَلا تَعْقِلُونَ أنَّ من كان على هذه الصفة لا يصحُّ منه كذب بعد أَنْ ولَّى عمره، وتقاصَرَ أملُهُ، واشتدَّت حِنْكَته وخوفُه لربِّه.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 539) برقم: (17594) ، وذكره ابن عطية (3/ 110) ، والسيوطي (3/ 540) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن قتادة.

[سورة يونس (10) : الآيات 19 إلى 21]

وقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ: استفهام وتقريرٌ، أي: لا أحد أظلم ممَّن افترى على اللَّه كذباً، أو ممَّن كذَّب بآياته بَعْد بيانها، والضمير في يَعْبُدُونَ لكفَّار قريش، وقولهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ: هذا قول النبلاء منهم، ثم أمر سبحانه نبيَّه أن يقرِّرهم ويوبِّخهم بقوله: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وذكر السموات لأن من العرب من يعبد الملائكَةَ والشِّعْرَى، وبحسب هذا حَسُنَ أن يقول: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا، وقيل: ذلك على تجوُّز في الأصنام التي لا تَعْقِلُ. [سورة يونس (10) : الآيات 19 الى 21] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) وقوله سبحانه: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قالت فرقة: المراد آدم كان أُمة وحده، ثم اختلف الناس بعده، وقالت فرقة: المراد آدم وبنوه مِنْ لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخَرَ، ويحتمل أن يريد: كان الناس صِنْفاً واحداً بالفِطْرة معدًّا للاهتداء، وقد تقدَّم الكلام علَى هذا في قوله سبحانه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [البقرة: 213] . وقوله سبحانه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يريد: قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال المؤقَّتة، ويحتمل أنْ يريد: الكَلِمَةَ في أمر القيامة، وأنَّ العقابَ والثوابَ إِنما يكونُ حينئذٍ. وقوله: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي: إِنْ شاء فَعَلَ، وإِن شاء لَمْ يَفْعَلْ. وقوله: فَانْتَظِرُوا: وعيدٌ. وقوله سبحانه: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ... الآية: هذه الآية في الكفَّار، وهي بعْدُ تتناول من العُصَاةِ مَنْ لا يؤدي شكر اللَّه عند زوال المَكْروه عنه، ولا يرتدعُ بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثيرٌ، والرحمة هنا بعد الضرَّاء كالمطر بعد القَحْط، والأمن بعد الخَوْف ونحو هذا ممَّا لا ينحصر، والمَكْر: الاستهزاء والطَّعْن عليها مِن الكُفَّار واطراح الشكر والخوف من العصاة. وقال أبو عليٍّ: أَسْرَعُ من «سَرُعَ» لا من «أَسْرَعَ يُسْرِعُ» ، إِذ لو كان من «أَسْرَعَ» ، لكان شاذًّا.

[سورة يونس (10) : الآيات 22 إلى 25]

قال ع «1» وفي الحديث في نار جهنم: «لَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ القَارِ» «2» وما حفظ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فليس بشَاذٍ. ص: وَرُدَّ بأَنْ «أَسْوَدُ» مِنْ «فَعِلَ» لا من «افعل» : تقولُ: سَوِدَ فَهُوَ أَسْوَدُ، وإِنما امتنع من «سَوِدَ» ونحوِه عِنْد البصريّين لأنه لون. انتهى. [سورة يونس (10) : الآيات 22 الى 25] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... الآية: تعديدُ نِعَمٍ منه سبحانه على عباده. وقوله سبحانه: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: أي: نسوا الأصنام والشركاء، وأفردوا الدعاء للَّه سبحانه، وذكَر الطبريُّ في ذلك، عَنْ بعض العلماء حكايةَ قَوْلِ العَجَمِ: «هيا شرا هيا» ، ومعناه: يا حيّ يا قيّوم، ويَبْغُونَ: معناه: يُفسدون. وقوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا متاع: خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو متاع، أو ذلك مَتَاعٌ، ومعنى الآية: إِنما بغيكم وإِفسادكم/ مُضِرٌّ لكم، وهو في حالة الدنيا، ثم تَلْقَوْنَ عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عُيَيْنة: إِنما بغيكم علَى أنفسِكُمْ متاع الحياة الدنيا: أي تُعَجَّلُ لكم عقوبته وعلى هذا قالوا: البَغْيُ يَصْرَعُ أهله. قال ع «3» : وقالوا: البَاغِي مصروعٌ: قال تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج: 60] ، وقال النبيُّ عليه السلام: «ما ذَنْبٌ أَسْرَعُ عُقُوبَةً مِنْ بَغْيٍ» . وقوله سبحانه: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: تفاخُرُ الحياة الدنيا وزينتها بالمال

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 112) . (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 994) برقم: (2) عن أبي هريرة موقوفا. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 114) .

[سورة يونس (10) : الآيات 26 إلى 31]

والبَنِينَ، إِذ مصيرُ ذلك إِلى الفَناءِ كمطرٍ نَزَلَ من السماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، أي: اختلط النباتُ بعْضُهُ ببعض بسَبَبِ الماء، ولفظ البخاريِّ: قال ابن عباس: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ: فنبت بالماء مِنْ كلِّ لونٍ «1» انتهى. وأَخَذَتِ الْأَرْضُ لَفْظَةٌ كثُرت في مثل هذا، كقوله: خُذُوا زِينَتَكُمْ [الأعراف: 31] والزُّخْرُف: التزيينُ بالألوان، وقرأ ابن مسعود «2» وغيره: «وتَزَيَّنَتْ» ، وهذه أصل قراءة الجمهور. وقوله: وَظَنَّ أَهْلُها: على بابها، وهذا الكلامُ فيه تشبيهُ جملة أمْرِ الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها، وحَتَّى غايةٌ، وهي حرفُ ابتداء لدخولها على «إِذا» ، ومعناهما متَّصِلٌ إِلى قوله: قادِرُونَ عَلَيْها، ومن بعد ذلك بدأ الجوابُ، والأمْرُ الآتي: واحدُ الأمور كالرِّيحِ، والصِّرِّ، والسَّمُومِ، ونحوِ ذلك، وتقسيمُهُ لَيْلًا أَوْ نَهاراً، تنبيهٌ على الخَوْف وارتفاع الأمن في كلّ وقت، وحَصِيداً، بمعنى محصود، أي: تالفاً مستهلكاً، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ: أي: لم تنضر، ولم تنعم، ولم تعمر بغَضَارتها، ومعنى الآية: التحذير من الاغترار بالدنيا إِذ هي معرَّضة للتلف كنبات هذه الأرض وخَصَّ المتفكِّرين بالذكْر تشريفاً للمنزلة وليقَعَ التسابُقُ إِلى هذه الرتبة. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ... الآية: نصٌّ أن الدعاء إِلى الشرْع عامٌّ في كل بَشَرٍ، والهداية التي هي الإِرشادُ مختصّة بمن قدّر إيمانه، والسَّلامِ هنا: قيل: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، والمعنَى: يدعو إِلى داره التي هي الجنّة، وقيل: السَّلامِ بمعنى السّلامة. [سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 31] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31)

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 196) كتاب «التفسير» باب: «سورة يونس» وذكره معلقا بصيغة الجزم، ووصله ابن جرير من طريق آخر عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا ... ، قال الحافظ: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض، وأخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 546) برقم: (3/ 176) . (2) ينظر: «الكشاف» (2/ 341) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 114) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش وأبي بن كعب، وينظر: «البحر المحيط» (5/ 145) ، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (4/ 21) .

وقوله سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ: قال الجمهور: الْحُسْنى: الجنةُ، وال زِيادَةٌ: النَّظَر إِلَى وجهِ اللَّه عزَّ وجلَّ وفي «صحيح مسلمٍ» من حديثِ صُهَيْبٍ: «فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» ، وفي رواية: ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وأخرج هذه الزيادةَ النَّسَائِيُّ عن صُهَيْبٍ، وأَخْرَجَهَا عن صُهَيْبٍ أَيضاً أَبو دَاوُدَ الطَّيَالِسي «1» انتهى من «التذكرة» «2» . وقوله سبحانه: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ... الآية. ويَرْهَقُ معناه: يَغْشَى مع غلبةٍ وتضييقٍ، وال قَتَرٌ: الغُبَار المُسْوَدُّ. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها قالت فِرْقَةٌ: التقديرُ لهم جزاءُ سيئةٍ بمثلها، وقالت فرقة: التقديرِ جزاءُ سيِّئة مثلها، والباء زائدةٌ، وتعم السيئاتُ هاهنا الكفر والمعاصي، وال عاصِمٍ: المنجّي والمجير، وأُغْشِيَتْ: كسبت، و «القَطْع» : جمع قِطْعة، وقرأ ابن كثيرٍ والكِسَائِيُّ: «قَطْعاً مِنَ اللَّيْلِ» - بسكون الطاء- «3» ، وهو الجُزْء من الليل، والمراد: الجُزْء من سواده، وباقي الآية بيّن. ومَكانَكُمْ: اسم فعلِ الأَمْرِ، ومعناه: قِفُوا واسكنوا، ت: قال ص: وقدِّر ب «اثبتوا» وأما من قدَّره ب «الزموا مكانَكُمْ» ، فمردودٌ، لأن «الزموا» متعدّ، ومَكانَكُمْ: لا يتعدَّى، فلا يقدَّر به، وإلا لكان متعدياً، واسم الفعل عَلَى حَسَب الفعلِ إِنْ متعدياً فمتعدٍّ، وإِنْ لازماً فلازِمٌ، ثم اعتذر بأنه يمكن أن يكون تقديره ب «الزموا» تقديرَ معنًى، لا تقديرَ إِعرابٍ، فلا اعتراض، انتهى. قال ع «4» : فأخبر سبحانَهُ عن حالةٍ تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون

_ (1) أخرجه مسلم (1/ 554- 555) -، كتاب «الإيمان» باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم، حديث (297- 298/ 181) ، والنسائي في «التفسير» (254) ، وابن ماجه (187) ، والترمذي (2552) . (2) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (2/ 653) . [.....] (3) وتحتمل هذه القراءة أن تكون مفردا من الجمع، أو تخفيفا من قطع مثل نطع، ونطع. ينظر: «الدر المصون» (4/ 25) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 117) .

[سورة يونس (10) : الآيات 32 إلى 33]

بالإِقامة في موقف الخِزْيِ مع أصنامهم، ثم يُنْطِقُ اللَّه شركاءهم بالتبريِّ منهم. وقوله: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ: معناه: فرَّقنا في الحُجَّةِ، والمذهب/ روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أَنَّ الكُفَّار، إِذَا رَأَوا العَذَابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ هَؤُلاَءِ، فَتَقُولُ الأَصْنَامُ: وَاللَّهِ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ، وَلاَ نَعْقِلُ، وَمَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: واللَّهِ، لإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُد، فَتَقُولُ الآلِهَةُ: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ... «1» الآية، وظاهر الآية أنَّ محاورتهم إِنما هي مَعَ الأصنام دون المَلاَئِكَةِ وَعِيسَى بدليل القوْلِ لهم: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، ودون فِرْعَونَ ومَنْ عُبِدَ من الجنِّ بدليل قولهم: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ، و «إنْ» هذه عند سيبَوَيْه «2» المخَفَّفَةُ من الثقيلة موجبَةٌ، ولزمتها اللام، فرقاً بينها وبين «إِنِ» النافيةِ، وعندَ الفَرَّاء: «إِنْ» نافيةٌ بمعنَى «مَا» ، واللامُ بمعنى «إِلاَّ» ، وقرأ نافعٌ «3» وغيره: «تَبْلُوا» - بالباء الموحَّدة- بمعنى: تختبر، وقرأ حمزة والكسائي: «تَتْلُوا» - بتاءين- بمعنى تَتْبَعُ وتطلب ما أَسْلَفَتْ من أعمالها ت: قال ص: كقوله: [الرجز] إِنَّ المُرِيبَ يَتْبَعُ المُرِيبَا ... كَمَا رَأَيْتَ الذِّيَبِ يَتْلُو الذِّيَبَا «4» أي: يتبعه. انتهى. ويصحُّ أَن يكون بمعنى تَقْرَأُ كُتُبَهَا التي تُدْفَع إِليها. وقوله: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ... الآية: تدبيرُ الأمْرِ عامٌّ في جميع الأشياءِ، وذلك استقامة الأمور كلِّها على إِرادته عزَّ وجلَّ، وليس تدبيره سبحانه بفكْرٍ ورويَّةٍ وتغييراتٍ- تعالَى عن ذلك- بل علمه سبحانه محيطٌ كاملٌ دائمٌ. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ: أي: لا مَنْدُوحَةَ لهم عن ذلك، ولا تُمْكِنهم المباهَتَةُ بسواه، فإِذا أقرُّوا بذلك، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ في افترائكم، وجعلكم الأصنام آلهة. [سورة يونس (10) : الآيات 32 الى 33] فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 550) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه. (2) ينظر: «الكتاب» (1/ 480) . (3) ينظر: «السبعة» ص: (325) ، و «الحجة» (4/ 271) ، «حجة القراءات» ص: (331) ، «إعراب القراءات» (1/ 267) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 108- 109) ، و «معاني القراءات» (2/ 43) ، و «العنوان» (105) ، و «شرح الطيبة» (4/ 350) ، و «شرح شعلة» (421) . (4) البيت من شواهد «البحر» (5/ 155) ، والقرطبي (8/ 334) ، و «الدر المصون» (4/ 28) .

[سورة يونس (10) : الآيات 34 إلى 36]

وقوله: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ ... الآية: يقول: فهذا الذي هذه صفاته ربُّكم الحَقُّ، أي: المستوجِبُ للعبادةِ والألوهيَّة، وإِذا كان كذلك، فتشريكُ غيره ضَلاَلٌ وغيرُ حقٍّ. قال ع «1» : وعبارة القُرآن في سوق هذه المَعاني تفُوتُ كلَّ تفسيرٍ براعةً وإِيجازاً ووضوحاً، وحَكَمَتْ هذه الآيةُ بأنه ليس بَيْنَ الحَقِّ والضلال منزلةٌ ثالثةٌ في هذه المسألة التي هي توحيدُ اللَّه تعالَى، وكذلك هو الأمر في نظائرها مِنْ مسائل الأصول التي الحَقُّ فيها في طَرَفٍ واحدٍ لأن الكلام فيها إِنما في تقرير وجودِ ذاتٍ كَيْفَ هِيَ، وذلك بخلافِ مسائِلِ الفُرُوع التي قال اللَّه تعالَى فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] . وقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ: تقرير كما قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: 26] ثم قال: كَذلِكَ حَقَّتْ أي: كما كانَتْ صفاتُ اللَّه كما وَصَفَ، وعبادته واجبة كما تقرَّر، وانصراف هؤلاء كما قَدَّرَ عليهم، كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ... الآية، وقرأ أبو عَمْرٍو «2» وغيره: «كَلِمَةُ» على الإِفراد الذي يُرَادُ به الجَمْع كما يقال للقصيدة «كَلِمَةٌ» فَعَبَّر عن وعيدِ اللَّه تعالى ب «كلمة» . [سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 36] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ... الآية توقيفٌ على قصور الأصنامِ وعَجْزِها، وتنبيهٌ على قدرة اللَّه عزَّ وجلّ، وتُؤْفَكُونَ: معناه: تُصْرَفُونَ وتُحْرَمُونَ، وأرضٌ مَأْفُوكَةٌ إِذا لم يصبها مطر، فهي بمعنى الخيبة.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 118) . (2) وحجة من جمع أنها والتي بعدها كتبتا في المصاحف بالتاء. وحجة الباقين: إجماع الكل على التوحيد في قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] ، فردوا ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه. ينظر: «السبعة» ص: (326) ، «الحجة» (4/ 272- 273) ، «حجة القراءات» ص: (331) ، «إعراب القراءات» (1/ 267) ، «إتحاف» (2/ 109) ، «العنوان» (105) . وينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 118) ، و «البحر المحيط» (5/ 156) ، و «الدر المصون» (4/ 30) .

[سورة يونس (10) : الآيات 37 إلى 40]

وقوله تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ: أي: يبيِّن طرق الصواب، ثم وصف الأصنام بأنها لا تَهْدِي إِلا أنْ تُهْدَى. وقوله: إِلَّا أَنْ يُهْدى: فيه تَجوُّز، لأنا نجدها لا تُهْدَى وإِنْ هُدِيَتْ، وقال بعضهم: هي عبارة عن أنها لا تنتقلُ إِلا أنْ تُنْقَلَ، ويحتمل أنْ يكون ما ذَكَرَ اللَّه مِنْ تسبيح الجمادَاتِ هو اهتداؤها، وقرأ نافع وأبو عمرو: «يَهْدِّي» «1» - بسكون الهاء، وتشديد الدَّال-، وقرأ ابن كثير وابنُ عامر: يَهَدِّي- بفتح الياء/ والهاء، وتشديد الدَّال «2» - وهذه رواية وَرْشٍ عن نافعٍ، وقرأ حمزة والكسائي: «يَهْدِي» - بفتح الياءِ، وسكون الهاء «3» - ومعنى هذه القراءة: أَمَّنْ لا يَهْدِي أَحداً إِلا أَن يُهْدى ذلك الأَحْدُ، ووقف القُرَّاء: فَما لَكُمْ، ثم يبدأ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وقوله سبحانه: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ... الآية: أخبر اللَّه سبحانه عن فساد طريقتهم، وضَعْفِ نَظَرِهم، وأنه ظَنٌّ، ثم بيَّن منزلة الظنِّ من المعارف، وبعده عن الحقّ. [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 40] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وقوله سبحانه: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هذا ردٌّ لقول من يقول: إنّ محمدا يفتري القرآن، والَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: التوراةُ والإِنجيل، وهم يقطعون أنَّه لم يطالِعْ تلك الكُتُب، ولا هي في بلده، ولا في قومه، وتَفْصِيلَ الْكِتابِ هو تبيينه. وقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ... الاية: «أم» هذه ليست بالمعادلة لهمزة الاستفهام،

_ (1) ينظر: «السبعة» ص: (326) ، «الحجة» (4/ 274- 275) ، «حجة القراءات» ص: (331- 332) ، «إعراب القراءات» (1/ 268) ، و «إتحاف» (2/ 109) ، و «معاني القراءات» (2/ 44) ، و «شرح الطيبة» (4/ 351) ، و «العنوان» (105) ، «شرح شعلة» (422) : ينظر السابق. وذكره ابن عطية (3/ 119) ، وذكر أنها قراءة شيبة والأعرج، وأبي جعفر. (2) ذكره ابن عطية (3/ 119) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 119) .

في قوله: أزيْدٌ قام أمْ عمرو؟ ومذهَبُ سِيبَوَيْهِ: أنها بمنزلة «بَلْ» ثم عجَّزهم سبحانه بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ... الآية: والتحدِّي في هذه الآية عند الجُمْهُور وقَعَ بجهتَي الإِعجاز اللَّتَيْنِ في القرآنِ: إِحْداهما: النَّظْم والرَّصْف والإِيجازُ وَالجَزَالَة، كلُّ ذلك في التعريف. والأُخرَى: المعاني مِنَ الغَيْبِ لِمَا مَضَى، ولما يُسْتَقْبَلُ. وحين تحدَّاهم ب «عَشْرٍ مفترياتٍ» إِنما تحدَّاهم بالنَّظْم وحْده، ثم قال ع «1» : هذا قول جماعة المتكلِّمين، ثم اختار أنَّ الإِعجاز في الآيتين إِنما وقع في النَّظْمِ لا في الإِخبارِ بالغُيُوبِ. ت: والصوابُ ما تَقَدَّم للجمهور، وإليه رَجَعَ في «سورة هود» وأوجُهُ إِعجاز القرآن أَكْثَرُ من هذا وانظر «الشِّفَا» . وقوله: مَنِ اسْتَطَعْتُمْ: إِحالةٌ على شركائهم. وقوله سبحانه: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ... الآية: المعنى: ليس الأمر كما قالوا مِنْ أنه مفترًى، بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، أي: تفسيره، وبيانُهُ، ويحتمل أنْ يريد بما لم يأتهم تأويله، أي: ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف: 53] وعَلَى هذا، فالآيةُ تتضمَّن وعيداً، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: مَنْ سلف من أمم الأنبياء. وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ... الآية: أيْ: ومِنْ قريشٍ مَنْ يؤمن بهذا الرسُولِ، ولهذا الكلام معنيان: قالتْ فرقة: معناه: مِنْ هؤلاء القومِ مَنْ سيؤمن في المستقبل، ومِنْهُم من حَتَمَ اللَّه عَلَيْهِ أنَّه لا يؤمن به أبداً. وقالتْ فرقة: معناه: ومنهم مَنْ يؤمن بهذا الرسُولِ إِلاَّ أنَّه يَكْتُم إِيمانه حفظا لرياسته، أو خوفاً مِنْ قومه، كالفِتْية الذين قُتِلُوا مع الكُفَّار بِبَدْرٍ. قال ع «2» : وفائدة الآية على هذا التأويل: التفريقُ لكلمة الكُفَّار، وإِضعافُ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 120) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 122) .

[سورة يونس (10) : الآيات 41 إلى 45]

نفوسهم، وفي قوله: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ تهديدٌ ووعيد. [سورة يونس (10) : الآيات 41 الى 45] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وقوله سبحانه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ الآية فيها منابذةٌ ومتارَكَةٌ، قال كثير من المفسِّرين، منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخةٌ بالقتال، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ... الآية: وعيدٌ بالحشر وخِزْيِهِم فيه، وتعارُفُهُمْ على جهة التلاؤمِ والخزْيِ من بَعْضِهِم لبعضٍ، حيث لا ينفع ذلك. وقوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ ... إلى آخرها: حُكْمٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ على المكذِّبين بالخُسْران، وفي اللفظ إِغلاظٌ، وقيل: إِن هذا الكلام من كلام المحشُورِينَ، عَلى جهة التوبيخ لأنفسهم. ت: والأول أبين. [سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 47] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وقوله: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ... الآية: «إما» شرطٌ، وجوابه: فَإِلَيْنا، والرؤية في نُرِيَنَّكَ بصريةٌ، ومعنى هذه الآية: الوعيدُ بالرجوعِ إلى اللَّه تعالى، أي: إِنْ أَرَيْنَاكَ عقوبتهم، أو لم نُرِكَهَا، فهم عَلى كلِّ حال راجعُونَ إِلينا إلى الحسَابِ والعذابِ، ثم مع ذلك، فاللَّهُ شَهيدٌ من أوَّل تكليفهم عَلى جميعِ أَعمالهم، وَ «ثُمَّ» لترتيب الأَخبار/ لا لترتيب القصص في أنفسها، و «إِما» هي «إِنْ» ، زيدَتْ عليها «ما» ، ولأجلها جازَ دخُولُ النون الثقيلة، ولو كانت «إِنْ» وحدها، لم يجز. ص: واعترض بأنَّ مذهب سيبَوَيْهِ «1» جوازُ دخولها، وإِن لم تَكُنْ «ما» انتهى.

_ (1) ينظر: «الكتاب» (2/ 152) . [.....]

[سورة يونس (10) : الآيات 48 إلى 53]

وقوله سبحانه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ: قال مجاهد وغيره: المعنَى: فإِذا جاء رسولهم يوم القيامة للشَّهادة عليهم، صُيِّرَ قومٌ للجنَّة، وقومٌ للنار، فذلك القضاء بينهم بالقسط «1» . [سورة يونس (10) : الآيات 48 الى 53] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ... الآية: الضميرُ في يَقُولُونَ لكفَّار قريش، وسؤالهم عن الوعدِ تحريرٌ منهم- بزعمهم- للحجَّة أي: هذا العذابُ الذي تُوُعِّدْنا به، حَدِّدْ لنا وقته لِنَعْلَمَ الصِّدْق في ذلك من الكَذِب، ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ أَنْ يقول على جهة الردِّ عليهم: قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ، ولكن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ انفرد اللَّه بعلْمِ حدِّه ووقتِهِ، وباقي الآية بَيِّن. وقوله: مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ: أي: فمَا تستعجلون منه، وأنتم لا قِبَلَ لكم بِهِ، والضمير في «مِنْهُ» يحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يعود على العَذَابِ. وقوله: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ المعنى: إِذا وقع العذابُ وعاينتموه، آمنتم حينئذٍ، وذلك غَيْر نافعكم، بل جوابُكُمْ: الآن وقَدْ كُنْتُمْ تستعجلونَهُ مكذِّبين به، وَيَسْتَنْبِئُونَكَ: معناه: يستخبرُونَك، وهي عَلَى هذا تتعدَّى إِلى مفعولَيْنِ أَحدُهما: الكافُ، والآخرُ: الجملة، وقيل: هي بمعنى يَسْتَعلِمُونَكَ فعلى هذا تحتاجُ إِلَى ثَلاَثةِ مَفَاعِيلَ. ص: ورُدَّ بأن الاستنباء لا يُحْفَظُ تعديه إِلى ثلاثةٍ، ولاَ اسْتَعْلَمَ الذي هو بِمَعْنَاه. انتهى. وأَ حَقٌّ هُوَ قيل: الإِشارة إِلى الشرعِ والقُرآن، وقيل: إِلى الوعيدِ وهو أَظْهر. وقوله: إِي وَرَبِّي: أي: بمعنى «نَعَمْ» ، وهي لفظة تتقدَّم القَسَم، ويجيء بعدها

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 565) برقم: (17681- 17682) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 123) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 356) .

[سورة يونس (10) : الآيات 54 إلى 56]

حَرْفُ القسم، وقد لا يجيء تقُولُ: إِي وربّي، وإي ربّي، وبِمُعْجِزِينَ: معناه مفلتين. [سورة يونس (10) : الآيات 54 الى 56] وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ ... الآية، وأَسَرُّوا: لفظة تجيءُ بمعنى «أَخْفَوا» ، وهي حينئذٍ من السِّرِّ، وتجيء بمعنى «أظْهَرُوا» ، وهي حينئذٍ من أسارِيرِ الوَجْهِ. ص: قال أبو البقاء: وهو مستأنَفٌ، وهو حكاية ما يكون في الآخرة. وقوله تعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية، «أَلاَ» استفتاح وتنبيهٌ، وباقي الآية بيّن. [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 59] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: هذه آية خُوطِبَ بها جميعُ العَالَم، وال مَوْعِظَةٌ: القرآن لأن الوعظ إِنما هو بقولٍ يأْمُرُ بالمعروف ويزجُرُ، ويرقِّق القلوب، ويَعِدُ ويُوعِدُ، وهذه صفة «الكتاب العزيز» ، وقوله: مِنْ رَبِّكُمْ يريد: لم يختلقها محمّد ولا غيره، ولِما فِي الصُّدُورِ: يريد به الجَهْلَ ونحوَهُ، وجَعْلُهُ موعظةً بحَسَب النَّاسِ أَجْمَعَ، وجعْلُه هدىً ورحمةً بحسب المؤمنين فَقَطْ، وهذا تفسيرٌ صحيحُ المعنَى، إِذا تُؤُمِّلَ، بان وجْهُه. وقوله سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، قال ابن عباس «1» وغيره: الفضل: الإِسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ: الفَضْل: القرآن، والرحمة: أن جعلهم مِنْ أهله. وقال زيْدُ بن أسلم والضّحّاك: الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 569) برقم: (17695) ، وذكره ابن عطية (3/ 126) ، والسيوطي (3/ 554) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.

[سورة يونس (10) : الآيات 60 إلى 61]

قال ع «1» : ولا وجْه عندي لشيْءٍ من هذا التخْصيصِ إِلاَّ أن يستند شيءٌ منْه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإِنما الذي يقتضيه اللفظُ، ويلزم منْه أنَّ الفضْلَ: هو هدايةُ اللَّه تعالى إِلَى دِينِهِ، والتوفيقُ إِلى اتباع شرعه، والرحمةُ هي عفوه وسُكْنَى جنَّته التي جَعَلَها جزاءً على التشرُّع بالإِسلام والإِيمان به، ومعنى/ الآية: قل، يا محمَّد، لجميع النَّاس: بفضلِ اللَّه ورحمته فَلْيَقَعِ الفَرِحُ منكم، لا بأمور الدنيا وما يُجْمَعُ من حُطَامها، فإِن قيل: كيف أمر اللَّه بالفَرَحِ في هذه الآية، وقد وَرَدَ ذمُّه في قوله: لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] وفي قوله: لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] . قيل: إِن الفرح إِذا ورد مقيَّداً في خيرٍ، فليس بمذمومٍ، وكذلك هو في هذه الآية، وإِذا ورد مقيَّداً في شرٍّ، أو مطلقاً لَحِقَهُ ذمٌّ، إِذ ليس من أفعال الآخرة، بل ينبغي أنْ يغلب على الإِنسان حُزْنُهُ على دينه، وخوفُه لربِّه. وقوله: مِمَّا يَجْمَعُونَ: يريد: مالَ الدنيا وحُطَامَها الفانِيَ المردي في الآخرة. وقوله سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا ... الآية. قال ص: أَرَأَيْتُمْ: مضمَّن معنى: أَخْبِروني، و «ما» موصولة. قال ع «2» : هذه المخاطبة لكفَّار العرب الذين جعلوا البحائِرَ والسَّوائب وغَيْرَ ذلك، وقوله: أَنْزَلَ: لفظةً فيها تجوّز. [سورة يونس (10) : الآيات 60 الى 61] وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) وقوله: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ آية وعيدٍ- لمَّا تحقَّقَ عليهم بتقسيمِ الآية التي قبلها أنهم مفترون على اللَّه- عَظَّمَ في هذه الآية جُرْمَ الافتراء، أي: ظَنُّهم في غايَةِ الرداءة بحسب سُوء أفعالهم، ثم ثَنَّى بذكْرِ الفَضْل على النَّاس في الإِمهال لهم مع الافتراء والعصيان إِذ الإِمهال لهم داعيَةٌ إِلى التوبةِ والإِنابةِ، ثم الآية تعمّ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 126) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 127) .

[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 64]

جميعَ فَضْل اللَّه سبحانَهُ، وجميعَ تَقْصير الخَلْقِ. وقوله سبحانه: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ... الآية: مَقْصِدُ هذه الآية وصْفُ إِحاطة اللَّه عزَّ وجلَّ بكلِّ شيء، لا ربَّ غيره، ومعنى اللفْظِ: وما تكُونُ يا محمَّد، والمرادُ هو وَغَيْرُهُ في شأن من جميع الشؤون، وَما تَتْلُوا مِنْهُ: الضمير عائدٌ على شَأْن أي: فيه وبسببه «مِن قُرْآنٍ» ، ويحتمل أنْ يعود الضميرُ على جميع القرآن. وقال ص: ضمير «منه» عائد على «شأن» ومِنْ قُرْآنٍ: تفسيرٌ للضمير. انتهى. وهو حَسَن، ثم عمَّ سبحانه بقوله: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، وفي قوله سبحانه: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً تحذيرٌ وتنبيهٌ. ت وهذه الآية عظيمةُ المَوْقِعِ لأَهْل المراقبة تثيرُ من قلوبهم أسراراً، ويغترفون من بحر فيضها أنوارا، وتُفِيضُونَ معناه: تأخذون وتَنْهَضُون بِجِدٍّ، وَما يَعْزُبُ: معناه: وما يَغِيبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ والكتابُ المُبينُ هو اللوحُ المحفوظُ، ويحتملُ ما كتبته الحفظة. [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وقوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ ... الآيةُ: «ألا» استفتاح وتنبيه، وأَوْلِياءَ اللَّهِ: هم المؤمنون الذينَ وَالوهُ بالطاعةِ والعبادةِ، وهذه الآية يُعْطِي ظاهرُها أَنَّ مَنْ آمَنَ واتقَى اللَّه، فَهُوَ داخلٌ في أولياء اللَّه، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعةُ في الوَلِيِّ، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ سُئِلَ، مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «الَّذِينَ إذا رأيتهم ذكرت الله» «1» . قال: ع «2» : وهذا وصفٌ لازِمٌ للمتَّقِين لأنهم يَخْشَعُونَ ويُخْشِّعُونَ، وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أيضاً أَنَّهُ قَالَ: «أَوْلِيَاءُ اللَّه قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وَاجْتَمَعُوا في ذَاتِهِ، لَمْ تَجْمَعْهُمْ قَرَابَةٌ وَلاَ مَالٌ يَتَعَاطَوْنَهُ» . وروى الدارقطنيُّ في «سننه» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «خيار عباد

_ (1) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 81) وقال: رواه البزار عن شيخه علي بن حرب الرازي ولم أعرفه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 556) ، وزاد في نسبته إلى ابن المبارك، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 128) .

اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ، وَشَرُّ عباد الله المشّاءون بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ للْبُرَآءِ العَيْبَ» «1» . انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ» . وقوله: لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني: في الآخرةِ، ويحتملُ في الدنيا لا يخافُونَ أَحداً من أَهل الدنيا، ولا من أعراضها، ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأولُ أظهر، والعمومُ في ذلك صحيحٌ: لاَ يَخَافُونَ في الآخرة جملةً، ولا في الدنيا الخَوْفَ الدُّنْيَوِيَّ. وذكر الطبريُّ عن جماعة/ من العلماء مثْلَ ما في الحديثِ في الأولياء أنهم هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَآهُمُ أَحَدٌ، ذَكَرَ اللَّهَ، وروي فيهم حديث «أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ قَوْمٌ يَتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ وَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَتُنِيرُ وُجُوهُهُمْ، فَهُمْ في عَرَصَاتِ القِيَامَةِ لاَ يَخَافُونَ وَلاَ يَحْزَنُون» «2» وروى عمر بن الخطاب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَاداً مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغبُطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ لَمَكَانَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا: وَمَنْ هُمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ، وَلا أَمْوَالٍ ... » الحديثَ، ثم قرأَ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «3» . ت وقد خرَّج هذا الحديثَ أبو داود والنسائيُّ، قال أبو داود في هذا الحديث: فو الله، إِنَّ وجوههم لَنُورٌ، وإِنهم لَعَلَى نُورٍ، ذكره بإِسنادٍ آخر. انتهى. ورواه أيضاً ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي مالك الأشعريِّ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل على النّاس، فقال: «يا أيّها النَّاسُ اسمعوا واعقلوا، واعلموا أَنَّ لِلَّهِ عِبَاداً لَيْسُوا بَأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبُطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: انْعَتْهُمْ لَنَا، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ النَّاسِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وتَصَافَوْا فيهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً وَثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وهم لا يفزعون، وهم

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 227) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 96) ، وقال: رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب، وقد وثقه غير واحد وبقية رجال أحمد أسانيده رجال الصحيح. (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه أبو داود (2/ 310- 311) كتاب «البيوع» باب: في الرهن، حديث (3527) ، وهنّاد بن السري في «الزهد» رقم: (475) ، والطبري في «تفسيره» (11/ 92) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 5) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (8998- 8999) ، من حديث عمر بن الخطاب، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 557) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه.

أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون» . انتهى «1» . وقوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى ... الآية: أَمَّا بشرَى الآخرة، فهي بالجنَّةِ بلا خلاف قولاً واحداً، وذلك هو الفَضْل الكبير، وأَمَّا بُشْرَى الدنيا، فَتَظاهَرَت الأَحاديث من طرق، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهَا «الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» «2» ، وقال قتادة والضَّحَّاك: البُشْرَى في الدنيا: هِيَ ما يُبَشَّرُ به المؤمنُ عِنْد موته، وهو حَيٌّ عند المعاينة، ويصح أنْ تكون بُشْرَى الدنيا ما في القرآن من الآيات المبشّرات ويقوّى ذلك بقوله: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ، ويؤوّل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هِيَ الرُّؤْيَا» أنه أعطَى مثالاً يعمُّ جميع الناس. وقوله سبحانه: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ : يريد: لا خُلْفَ لمواعيده، ولا رَدَّ في أمره، وقد أخذ ذلك ابنُ عُمَرَ علَى نحو غَيْرِ هذا، وجَعَلَ التبديلَ المنفيَّ في الألفاظ، وذلك أنَّه روي أَنَّ الحجاج خَطَبَ، فَقَالَ: أَلاَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْر قَدْ بَدَّلَ كِتَابَ اللَّهِ، فقال له

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 341- 342- 343) ، وأبو يعلى (12/ 233- 234) رقم: (6842) ، والطبري (11/ 92) ، وابن المبارك في «الزهد» ص: (248- 249) رقم: (714) ، وابن أبي الدنيا في «الإخوان» (6) ، والطبراني في «الكبير» (3433- 3434- 3435) من طريق شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري به، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 279- 280) وقال: رواه أحمد، والطبراني، ورجاله وثقوا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 558) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) أخرجه الترمذي (4/ 534- 535) كتاب «الرؤيا» باب: قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، حديث (2275) ، وابن ماجه (2/ 1283) كتاب «تعبير الرؤيا» باب: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، حديث (3898) ، والدارمي (2/ 123) كتاب «الرؤيا» باب: في قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وأحمد (5/ 315) والطبري في «تفسيره» (6/ 577) رقم: (17733- 17734) ، والحاكم (2/ 340) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 185- 186) رقم: (4753) ، والطيالسي (2/ 19- منحة) رقم: (1955) ، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» رقم: (238) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت به، وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 559) ، وزاد نسبته إلى الهيثم بن كليب، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وأخرجه الترمذي (4/ 534) كتاب «الرؤيا» باب: قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، حديث (2273) ، وأحمد (6/ 452) ، وابن أبي شيبة (11/ 51) ، والطبري في «تفسيره» (6/ 577- 578) رقم: (17737) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 185) رقم (4752) كلهم من طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 559) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

[سورة يونس (10) : الآيات 65 إلى 66]

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ أَنْتَ، وَلاَ ابن الزُّبَيْرِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وقد رُوِيَ هذا النظرُ عن ابن عباس في غيرِ مُقَاوَلَةِ الحَجَّاجِ، ذكره البخاريّ «1» . [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 66] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) وقوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ: أي: قولُ قريش، فهذه الآية تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولفظة القول تعمّ جحودهم واستهزاءهم وخِدَاعهم وغَيْرَ ذلك، ثم ابتدأ تعالى، فقال إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي: لا يقدرون لَكَ عَلَى شيء، ولا يؤذُونَكَ، إِلاَّ بما شاء اللَّه، ففي الآية وعيدٌ لهم، ثم استفتح بقوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: بالمُلْك والإِحاطة. وقوله تعالى: وَما يَتَّبِعُ: يصح أنْ تكونَ «ما» استفهاما، ويصحُّ أَنْ تكون نافيةً. ت: ورجح هذا الثاني. وقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «إن» : نافية، ويَخْرُصُونَ: معناه: يحدسون ويخمّنون. [سورة يونس (10) : الآيات 67 الى 69] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) وقوله عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ... الآية: في هذه الألفاظ إِيجازٌ وإِحالةٌ على ذِهْنِ السَّامع لأن العبرة في أنَّ الليل مُظْلِمٌ يُسكن فيه، والنَّهار مُبْصِر يُتصرَّف فيه، فذكر طرفاً من هذا وطرفاً من الجهة الثانية، ودلَّ المذكوران على المتروكين. وقوله: يَسْمَعُونَ/ يريد: يوعون، والضمير في قالُوا لكفّار العرب، ثم الآية

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 129) .

[سورة يونس (10) : الآيات 70 إلى 72]

بعدُ تعمُّ كلَّ من قال نحو هذا القول كالنّصارى، وسُبْحانَهُ معناه: «تنزيهاً له، وبراءةً من ذلك» فسَّره بهذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا «إِنْ» نافيةٌ، والسلطانُ: الحُجَّة، وكذلك معناه حيث تكرَّر في القرآن، ثم وبَّخهم تعالى بقوله: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ ... الآية: توعُّد لهم بأنهم لا يظفرون ببُغْيَة، ولا يَبْقَوْن في نعمة، إِذ هذه حالُ مَنْ يصير إِلى العذاب، وإن نعّم في دنياه يسيرا. [سورة يونس (10) : الآيات 70 الى 72] مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) وقوله تعالى: مَتاعٌ مرفوعٌ على خبر ابتداء أي: ذلك متاعٌ. قال ص: مَتاعٌ جوابُ سؤالٍ مقدَّر، كأنه قيل: كيف لا يُفْلِحون، وهُمْ في الدنيا مفلحون بأنواعِ التلذُّذات؟! فقيل: ذَلِكَ مَتَاعٌ، فهو خبر مبتدإٍ محذوف. انتهى، وهذا الذي قدَّره ص: يُفْهَمُ من كلام ع «1» . وقول نوح عليه السلام: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي ... الآية: المَقَامُ: وقوف الرجل لكلامٍ أو خُطْبَةٍ أَو نحوه، والمُقَام- بضم الميم-: إِقامته ساكناً في موضعٍ أو بلدٍ، ولم يقرأ هنا بضَمِّ الميم فيما علمتُ، وتذكيره: وعظُه وزَجْره، وقوله: فَأَجْمِعُوا: من أَجْمَعَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ، إِذا عزم عليه ومنه الحديثُ: ما لم يجمعْ مكثاً، وأَمْرَكُمْ: يريد به: قُدْرَتكُم وحِيَلكُمْ، ونصب «الشركاء» بفعل مضمر كأنه قال: وادعوا شَركَاءَكُمْ فهو مِنْ باب: [الرجز] عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِدَا ... حَتَّى شتت همّالة عيناها «2»

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 131) . (2) ينظر: البيت بلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (2/ 108) ، (7/ 233) و «أمالي المرتضى» (2/ 259) ، و «الإنصاف» (2/ 612) ، و «أوضح المسالك» (2/ 245) ، و «الخصائص» (2/ 431) ، و «الدرر» (6/ 79) ، و «شرح الأشموني» (1/ 226) ، و «شرح التصريح» (1/ 346) ، و «شرح ديوان الحماسة للمرزوقي» ص: (1147) ، و «شرح شذور الذهب» ص: (312) ، و «شرح شواهد المغني» (1/ 58) ، (2/ 929) ، [.....]

[سورة يونس (10) : الآيات 73 إلى 75]

وفي مصحفِ أبيٍّ: «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ، وادعوا شُرَكَاءَكُمْ» قال الفارسيُّ «1» : وقد ينتصب «الشركاء» ب «واو مع» كما قالوا: جَاءَ البَرْدُ وَالطَّيَالِسَةَ «2» . وقوله: ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً: أيْ: ملتبساً مشكلاً ومنه قوله عليه السلام في الهلال: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم» . وقوله: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ: أي: أنفذوا قضاءكُمْ نَحْوِي، ولا تؤخّروني، والنّظرة: التأخير. [سورة يونس (10) : الآيات 73 الى 75] فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) وقوله سبحانه: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ: مضَى شرح هذه المعاني. وقوله سبحانه: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ: مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يشاركُه في معناها جميعُ الخَلْق. وقوله سبحانه: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ: الضمير في مِنْ بَعْدِهِ عائدٌ عَلى نوحٍ عليه السلام. وقوله تعالى: فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ: معنى هذه الآية ضرب المثل لحاظري نبِيِّنا محمَّد عليه السلام ليعتبروا بمَنْ سلف، والبينات المعجزات، والضمائر في فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا وفي كَذَّبُوا تعود الثلاثةُ على قوم الرسل، وقيل: الضمير في كذَّبوا يعود على «قوم نوح» وقد تقدَّم تفسير نظيرها «في الأعراف» .

_ و «شرح ابن عقيل» ص: (305) ، و «لسان العرب» (2/ 287) (زجج) ، (3/ 367) (قلد) ، (9/ 255) (علف) ، و «مغني اللبيب» (2/ 632) ، و «المقاصد النحويّة» (3/ 101) ، و «همع الهوامع» (2/ 130) . (1) «الحجة للقراء السبعة» (4/ 289) . (2) الطّيلسان: ضرب من الأكسية. ينظر: «لسان العرب» (2689) (طلس) .

[سورة يونس (10) : الآيات 76 إلى 82]

[سورة يونس (10) : الآيات 76 الى 82] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) وقوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ الآية: يريد ب الْحَقُّ آيَتَيِ العَصَا واليد. وقوله: أَسِحْرٌ هذا: قالت فرقة: هو حكايةٌ عن موسَى عنهم، ثم أخبرهم موسَى عن اللَّه أَنَّ الساحِرِينَ لا يُفلحون، ثم اختلفوا في معنى قول قَوْمِ فرعونَ، فقال بعضهم: قالها منهم كلُّ مستفهِمٍ جاهلٍ بالأمر، فهو يسأل عنه، وهذا ضعيفٌ، وقال بعضهم: بل قالوا ذلك عَلَى معنى التعظيم للسحْرِ الذي رأَوْهُ، وقالت فرقة: ليس ذلك حكايةً عن موسَى عنهم، وإِنما هو من كلام موسَى، وتقدير الكلامِ: أَتقولون للحَقِّ لما جاءكم سِحْرٌ، ثم ابتدأ يوقِّفهم بقوله: أَسِحْرٌ/ هذا على جهة التوبيخ. وقولهم: لِتَلْفِتَنا: أي: لتصرفنا وتلوينا وتَرُدَّنا عن دين آبائنا، يقال: لفتَ الرَّجُلُ عُنُقَ الآخَرِ إِذا أَلواه، ومنه قولهم: التفت فَإِنَّهُ افتعل من لفت عنقه إذا ألواه، والْكِبْرِياءُ: مصْدَر من الكِبْرِ، والمراد به في هذا الموضع المُلْك قاله أكثر المتأوِّلين لأنه أعظم تَكَبُّرِ الدنيا، وقرأ أبو عَمْرٍو وحده: «به السّحر» - بهمزة استفهام ممدودةٍ-، وفي قراءة «1» أُبيٍّ: «مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ» ، والتعريف هنا في السِّحْرِ أَرْتَبُ لأنه تقدَّم منكَّراً في قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ، فجاء هنا بلامِ العَهْدِ. قال ص: قال الفَّرَّاء: إِنما قال: «السِّحْر» ب «أَلْ» ، لأن النكرة إِذا أُعيدَتْ، أُعيدَتْ ب «أَلْ» ، وتبعه ابن عطية «2» ، ورُدَّ بأن شرط ما ذكراه اتحاد مدلول النكرةِ المُعَادة كقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 15، 16] وهنا السِّحْر المنكَّر هو ما أتَى به موسَى، والمعروفُ ما أتَوْا به هُمْ، فاختلف

_ (1) ينظر: «السبعة» ص: (328) ، «الحجة» (4/ 289- 290) ، «حجة القراءات» ص: (335) ، «إعراب القراءات» (1/ 272) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 118) ، و «شرح شعلة» (423) ، و «إتحاف» (2/ 118) ، و «العنوان» (105) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 135) .

[سورة يونس (10) : الآيات 83 إلى 86]

مدلولُهما، والاستفهام هنا: على سبيل التحقِيرِ. انتهى. وهو حَسَن. وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ: إِيجاب عن عِدَّةٍ من اللَّه تعالى. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ: يحتمل أنْ يكون ابتداءَ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويحتملُ أَنْ يكون من كلام موسَى عليه السلام، وكذلك قوله: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ... الآية، محتملٌ للوجهين، وكون ذلك كلُّه من كلام موسَى أقربُ، وهو الذي ذكر «1» الطبريُّ، وأما قوله: بِكَلِماتِهِ: فمعناه بكلماته السابقةِ الأزليَّة في الوعد بذلك. [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 86] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وقوله عز وجل: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ اختلف المتأوِّلون في عود الضمير الذي في قَوْمِهِ، فقالتْ فرقة: هو عائدٌ على موسَى، وذلك في أول مبعثه، وَمَلأُ الذُّرِّيَّةِ، هم أشرافُ بني إِسرائيل. قال ص: وهذا هو الظاهر، وقالت فرقةٌ: الضميرُ في قَوْمِهِ عائدٌ على فِرْعَوْنَ، وضمير مَلَائِهِمْ عائدٌ على الذريَّة. قال ع: ومما يضعِّف عوْدَ الضميرِ علَى موسَى: أَنَّ المعروفَ مِنْ أخبار بني إِسرائيل أنهم كانوا قوماً تقدَّمت فيهم النبوَّاتِ، ولم يُحفَظْ قطُّ أَنَّ طائفة من بَني إِسرائيل كَفَرَتْ به، فدَلَّ على أن الذريَّة مِنْ قوم فِرعون. وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ... الآية: هذا ابتداءُ حكايةِ قوْلِ موسَى لجماعةِ بني إِسرائيل مُؤَنِّساً لهم، ونادباً إِلى التوكُّل على اللَّه عزَّ وجلَّ الذي بيده النصْرُ قال المُحَاسِبيُّ: قُلْتُ لأبي جعفرٍ محمَّدِ بنِ موسَى: إِنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23] فما السَّبِيلُ إِلى هذا التوكُّل الذي نَدَبَ اللَّه إِلَيْهِ، وكيف دُخُولُ الناس فيه؟ قال: إِن الناس متفاوِتُون في التوكُّل، وتوكُّلُهم علَى قَدْرِ إِيمانهم وقوَّةِ عُلُومهم، قُلْتُ: فما معنى إِيمانهم؟ قال: تصديقُهُم بمواعيدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وثِقَتُهُم بضَمَانِ اللَّه تبارَكَ وتعالَى، قلْتُ: مِنْ أَيْنَ فَضَلَتِ الخاصّة

_ (1) ذكره الطبري (6/ 590) .

[سورة يونس (10) : الآيات 87 إلى 91]

منهم على العامَّة، والتوكُّل في عَقْد الإِيمان مع كلِّ من آمن باللَّه عزَّ وجلَّ؟ قال: إِنَّ الذي فَضَلَتْ به الخاصَّة على العامَّة دَوَامُ سكونِ القَلْب عن الاضطراب والهُدُوِّ عن الحرَكَة، فعندها، يا فَتَى، استراحوا من عذاب الحِرْصِ، وفُكُّوا مِنْ أُسْرِ الطمع، وأُعْتِقُوا من عُبُودِيَّة الدنيا، وأبنائِها، وحَظُوا بالرَّوْحِ في الدَّارَيْنِ جميعاً، فطوبَى لهم وحُسْنُ مَآب، قلْتُ: فما الذي يولِّدُ هذا؟ قال: حَالَتَانِ: دَوَامُ لُزُومِ المعرفة، والاعتماد على اللَّه عزَّ وجلَّ، وتَرْكُ الحِيل. والثانية: الممارسَةُ حتى يَأْلَفَهَا إِلْفاً، ويختارها اختيارا، فيصير التوكُّل والهُدُوُّ والسكونُ والرضا والصبْرُ له شعاراً ودثاراً. انتهى من «كتاب القَصْدِ إِلى اللَّه سبحانه» . وقولهم: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: المعنى: لا تُنْزِلْ بنا بلاءً بأيديهم أو بغير ذلك/ مدَّةَ محاربتنا لهم فَيُفْتَنُونَ لذلك، ويعتقدون صلاَحَ دينهم، وفَسَاد ديننا قاله مجاهد وغيره، فهذا الدعاءُ على هذا التأويل يتضمَّن دفْعَ فصلين: أحدُهما: القَتْل والبلاء الذي توقَّعه المؤمنون. والآخر: ظُهُورُ الشَّرك باعتقاد أهله أنَّهم أَهْلُ الحَقِّ. ونحو هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس الميّت أبو أمامة ليهود وَالمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ» «1» . ورَجَّحَ ع «2» في «سورة الممتحنة: 5» قولَ ابْنِ عباس: إِن معنى: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: لا تسلِّطهم علينا فيفتنونا انظره هناك. [سورة يونس (10) : الآيات 87 الى 91] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 138) ، والحاكم (4/ 214) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 296) .

وقوله سبحانه: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً رُوي: أَن فرعون أَخَافَ بني إِسرائيل، وهدَّم لهم مواضعَ كانوا اتخذوها للصلاة، ونَحْو هذا، فأوحَى اللَّه إِلَى موسَى وهارون، أنْ تَبَّوءا أي: اتخذا وتَخَيَّرا لبني إِسرائيل بمصْر بيوتاً، قال مجاهد: مِصْر في هذه الآية: الإِسْكَنْدَرِيَّة «1» ، ومصْرُ ما بين أَسْوَان «2» والإِسكندرية «3» . وقوله سبحانه: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً: قيل: معناه: مساجدُ، قاله ابنُ عباس وجماعة «4» ، قالوا: خافوا، فأُمِرُوا بالصَّلاة في بيوتهم، وقيل: معناه مُوجَّهة إِلى القبلة قاله ابن عباس «5» ، ومن هذا حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قَالَ: «خَيْرُ بُيُوتِكُمْ مَا استقبل بِهِ القِبْلة» «6» . وقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: خطابٌ لبني إِسرائيل، وهذا قبل نزول التوراة لأَنها لم تَنْزِلْ إِلا بعد إِجازة البَحْر. وقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: أَمرٌ لموسَى عليه السلام، وقال الطبريُّ ومكيٌّ: هو أَمرٌ لنبينا محمَّد عليه السلام، وهذا غير متمكِّن. وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ... الآية: هذا

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 597) برقم: (17829) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 138) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 365) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 428) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 566) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة، وابن المنذر. (2) بالضم، ثم السكون، وواو وألف ونون. ويقال: بغير همزة: مدينة كبيرة، وكورة في آخر الصعيد. وأول بلاد النّوبة، على النيل في شرقيّة، في جبالها مقطع العمد التي بالإسكندرية، ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 78) . (3) بنى الإسكندر ثلاث عشرة مدينة وسمّاها كلّها باسمه، ثم تغيرت أساميها بعده، والمشهور بهذا الاسم الاسكندرية العظمى في بلاد مصر. ينظر: «مراصد الاطلاع» (1/ 76) . (4) أخرجه الطبري (6/ 596) برقم: (17808- 17809- 17810) ، وذكره ابن عطية (6/ 138) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 566) ، وزاد نسبته إلى الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (5) أخرجه الطبري (6/ 597) برقم: (17824) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 138) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 566) بنحوه، وزاد نسبته إلى ابن مردويه. (6) تقدم تخريجه بلفظ: خير مجالسكم ما استقبل به القبلة. [.....]

غضَبٌ من موسَى على القِبْطِ، ودعاءٌ عليهم، لمَّا عَتَوْا وعانَدوا، وقدَّم للدعاءِ تقريرَ نعِم الله عليهم وكفرهم بها، وآتَيْتَ معناه: أَعْطَيْتَ، واللام في لِيُضِلُّوا لام كَيْ، ويحتملُ أن تكون لامَ الصَّيْرورة والعَاقِبَةِ، المعنى: آتيتهم ذَلكَ، فصار أمرهم إِلى كذا، وقرأ حمزة وغيره: «لِيُضِلُّوا» (بضم الياء) على معنى: لِيُضِلُّوا غيرهم. وقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ: هو من طُمُوسِ الأَثْر والعين وَطَمْسُ الوجوه منه، وتكْرير قوله: رَبَّنا استغاثة كما يقول الداعي: يا اللَّه، يا اللَّه، روي أنهم حين دعا موسَى بهذه الدعوة، رَجَعَ سُكَّرُهُمْ حجارةً، ودراهِمُهم ودنانيرهم وحُبُوبُ أطعمتهم، رَجَعَتْ حجارةً قاله قتادة وغيره «1» ، وقال مجاهد وغيره: معناه: أهْلِكْها ودَمِّرها «2» . وقوله: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ: بمعنى: اطبع واختم عليهم بالكفر قاله مجاهدٌ والضَّحَّاك «3» . وقوله: فَلا يُؤْمِنُوا: مذهب الأخفش وغيره: أنَّ الفعل منصوب عطفاً على قوله: لِيُضِلُّوا، وقيل: منصوبٌ في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزومٌ على الدعاء، وجعل رؤية العذاب نهايةً وغايةً وذلك لِعِلْمه من اللَّه أنَّ المؤمن عند رؤية العَذَاب لا ينفعه إِيمانه في ذلك الوَقْت، ولا يُخْرِجُهُ من كُفْره، ثم أجاب اللَّه دعوتهما، قال ابن عباس: العَذَاب هنا: الغَرَقُ «4» ، وروي أن هارون كان يُؤْمِّنُ على دعاء موسَى فلذلك نَسَب الدعوة إليهما قاله محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ «5» ، قال البخاري: وَعَدْواً: من العدوان. انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 600) برقم: (17838، 17840) نحوه، وبرقم: (17834، 17835) ، عن محمد بن كعب القرظي (17836) عن أبي العالية بنحوه، وبرقم: (17840) ، عن سفيان، برقم: (17841) ، عن أبي صالح، نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 139) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 365- 366) ، عن قتادة، ومحمد بن كعب، وابن عباس نحوه، وابن كثير (2/ 429) نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 567) . (2) أخرجه الطبري (6/ 600- 601) برقم: (17845- 17846، 17847، 17848) ، عن ابن عباس نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 139) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 365) ، عن مجاهد نحوه، وابن كثير (2/ 429) ، عن ابن عباس، ومجاهد، نحوه، والسيوطي في (3/ 567) . (3) أخرجه الطبري (6/ 601) برقم: (17851، 17854) ، وذكره ابن عطية (3/ 139) . (4) أخرجه الطبري (6/ 601) برقم: (17849، 17850) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 139) . (5) أخرجه الطبري (6/ 603) برقم: (17863- 17864) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 140) ، وابن كثير (2/ 429) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 567) نحوه.

[سورة يونس (10) : الآيات 92 إلى 93]

وقول فرعون: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ... الآية: روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: مَا أَبْغَضْتُ أَحَداً قَطُّ بُغْضِي لِفِرْعَوْنَ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: آمَنْتُ ... الآيَةَ، فَأَخَذْتُ مِنْ حَالِ البَحْرِ، فَمَلأْتُ فَمَهُ مَخَافَةَ أَنْ تَلْحَقُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ» ، وفي بعض الطرق: «مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، فَتَلْحَقُهُ الرَّحْمَة» «1» . قال ع «2» : فانظر إِلى كلام فرعون، ففيه مَجْهَلَةٌ وَتَلَعْثُمٌ، ولاَ عُذْرَ لأحد فِي جَهْلِ هذا، وإِنما العذر فيما لا سبيلَ/ إِلى علمه، كقول عليٍّ رضي الله عنه: أهللت بإهلال كإهلال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والحَالُ: الطِّينُ، والآثار بهذا كثيرةٌ مختلفة الألفاظِ، والمعنَى واحدٌ. وقوله سبحانه: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وهذا عَلى جهة التوبيخ له، والإِعلان بالنقمةِ منه، وهذا الكلامُ يحتملُ أن يكونَ مِنْ مَلَكٍ مُوَصِّلٍ عن اللَّه، أَو كيف شاء اللَّه، ويحتملُ أَنْ يكون هذا الكلامُ معنَى حاله وصورةَ خِزْيه، وهذه الآيةُ نصٌّ في ردّ توبة المعاين. [سورة يونس (10) : الآيات 92 الى 93] فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) وقوله سبحانه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ... الآية: يقوِّي أنه صورةُ حاله لأن هذه الألفاظ إِنما يظهر أنها قِيلَتْ بعد غَرَقِهِ، وسببُ هذه المقالة على ما روي: أن بني إِسرائيل بَعُدَ عِنْدَهم غَرَقُ فِرْعَوْنَ وهلاكُه، لِعِظَمِهِ في نفوسهم، وكذّب بعضهم أن يكون فرعون

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 287) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة يونس، حديث (3107) من طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس به. وقال الترمذي: حديث حسن. ومن طريق علي أخرجه الطبري (6/ 605) رقم: (17875) . وأخرجه الترمذي (5/ 287- 288) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة يونس، حديث (3108) ، والحاكم (2/ 340) ، والطبري (6/ 605) رقم: (17872- 17873) ، من طريق شعبة، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس ووافقه الذهبي. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 141) .

[سورة يونس (10) : الآيات 94 إلى 97]

يموتُ، فَنُجِّيَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الأَرض، حتى رآه جميعهم ميتاً كأَنه ثَوْرٌ أَحمر، وتحقَّقوا غَرَقَه. والجمهور «1» على تشديدِ نُنَجِّيكَ فقالت فرقة: معناه: من النَّجَاةِ، أي: من غمراتِ البَحْرِ والماءِ، وقال جماعة: معناه: نُلْقِيكَ على نَجْوة من الأرض، وهي: ما ارتفع منها، وقرأ يعقوب «2» بسكون النونِ وتخفيف الجيم، وقوله: بِبَدَنِكَ قالت فرقة: معناه: بشَخْصِكَ، وقالتْ فرقة: معناه: بِدِرْعِكَ، وقرأ الجمهورُ «3» : «خَلْفَكَ» ، أي: من أَتَى بعدك، وقرىء شاذًّا: «لِمَنْ خَلَفَكَ» «4» - بفتح اللام-، والمعنى: ليجعلك اللَّه آيَةً له في عبادِهِ، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ: المعنى: ولقد اخترنا لبني إِسرائيل أَحْسَنَ اختيار، وأحللناهم مِنَ الأماكن أحْسَنَ محلّ، ومُبَوَّأَ صِدْقٍ: أي: يصدُقُ فيه ظنُّ قاصده وساكنه، ويعني بهذه الآية إِحلاَلُهُمْ بلادَ الشَّامِ وبَيْتَ المَقْدِسِ قاله قتادة وابن زَيْد، وقيل: بلاد الشام ومصر، والأول أصحُّ، وقوله سبحانه: فَمَا اخْتَلَفُوا أيْ: في نبوَّة نبينا محمَّد عليه السلام، وهذا التخصيصُ هو الذي وقع في كُتُب المتأوِّلين كلِّهم، وهو تأويلٌ يحتاج إِلى سند، والتأويل الثاني الذي يحتمله اللفظُ: أنَّ بني إِسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسَى في أول حاله، فلما جاءَهُم العلْمُ والأوامرُ، وغَرَقُ فرعَوْنَ، اختلفوا، فالآية ذامَّة لهم. ت: فَرَّ رحمه اللَّه من التخصيص، فوقع فيه، فلو عمَّم اختلافهم على أنبيائهم موسَى وغيرِهِ، وعلَى نبيِّنا، لكان أَحْسَنَ، وما ذهب إِليه المتأوِّلون من التخصيص أَحْسَنُ لقرينةِ قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ، فالربطُ بين الآيتين واضح، والله أعلم. [سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 142) ، و «البحر المحيط» (5/ 189) ، و «الدر المصون» (4/ 67) . (2) ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 120) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 142) ، و «البحر المحيط» (5/ 189) ، و «الدر المصون» (4/ 67) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 142) . (4) وقرأ بها إسماعيل المكي، كما في «الشواذ» ص: (63) وينظر: «البحر المحيط» (5/ 189) .

وقوله عز وجل: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ... الآية: الصوابُ في معنى الآية: أنها مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بها سِوَاهُ مِنْ كُلِّ من يمكِنُ أن يشُكَّ أو يعارِض. ت: ورُوينَا عن أبي داود سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ، قال: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بن هَارُونَ، قال: حدَّثنا محمَّد بنِ عَمْرٍو، عن أَبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «المِرَاءُ في القُرْآنِ كُفْرٌ» «1» ، قال عِيَاض في «الشفا» : تأول بمعنى «الشك» ، وبمعنى «الجِدَال» . انتهى. والَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ: من أسلم من أهْلِ الكتاب، كابن سَلاَمٍ وغيره، وروي عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لَمَّا نزَلَتْ هذه الآية: «أَنَا لاَ أَشُكُّ وَلاَ أَسْأَلُ» «2» ، ثم جزم سبحانه الخَبَر بقوله: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، واللام في «لَقَدْ» لامُ قَسَم. وقوله: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يريد به: من أَن بني إِسرائيل لم يختلفوا في أمْره إِلا مِنْ بعد مجيئهِ عَلَيْه السلام هذا قول أهل التأويل قاطبة. قال ع «3» : وهذا هو الذي يشبه أنْ تُرْجَى إِزالةُ الشَّكِّ فيه مِنْ قبل أهل الكتاب،

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 610) كتاب «السنة» باب: النهي عن الجدال في القرآن، حديث (4603) ، وأحمد (2/ 286، 424، 475، 503، 528) ، وابن حبان (59- موارد) ، والحاكم (2/ 223) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 213) ، وفي «أخبار أصبهان» (2/ 123) كلهم من طريق محمَّد بنِ عَمْرٍو، عن أَبي سَلَمَةَ، عن أبي هريرة به، وأخرجه أحمد (2/ 258) ، وابن أبي شيبة (10/ 529) ، وأبو يعلى (10/ 303) رقم: (5897) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 81) ، من طريق سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. وأخرجه أحمد (2/ 478، 494) ، والحاكم (2/ 223) كلاهما من طريق سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 574) من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 74) رقم: (1714) ، عن أبيه: هذا حديث مضطرب، ليس هو صحيح الإسناد اه. وفي الباب عن عمرو بن العاص: أخرجه أحمد (4/ 204- 205) ، وعن عبد الله بن عمرو: أخرجه الطيالسي (2/ 6- منحة) رقم: (1902) . وعن زيد بن ثابت: أخرجه الطبراني في «الكبير» (5/ 152) رقم: (4916) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 610) برقم: (17907) عن قتادة مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 571) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 143) . [.....]

[سورة يونس (10) : الآيات 98 إلى 100]

ويحتمل اللفظ أن يريد ب مِمَّا أَنْزَلْنا/ جميعَ الشرع. ت: وهذا التأويلُ عندي أُبَيْنُ إِذَا لُخِّص، وإِن كان قد استبعده ع «1» : ويكون المراد ب مِمَّا أَنْزَلْنا: مَا ذكره سبحانه من قصصهم، وذِكْرِ صفته عليه السلام، وذكْرِ أنبيائهم وصِفَتِهم وسيرهم وسائِرِ أخبارهم الموافِقَةِ لِمَا في كتبهم المنزَّلة على أنبيائهم كالتوراة والإِنجيل والزَّبُور والصُّحُف، وتكون هذه الآية تَنْظُر إِلى قوله سبحانه: مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ... [يوسف: 111] ، فتأمَّله، واللَّه أعلم. وأما قوله: هذا قولُ أهْل التأويل قاطبةً، فليس كذلكَ، وقد تكلَّم صاحب «الشفا» على الآية، فأحْسَنَ، ولفظهُ: واختلف في معنى الآية، فقيلَ: المرادُ: قل يا محمّد للشاكّ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ... الآية، قالوا: وفي السورة نَفْسِهَا ما دلَّ على هذا التأويل، وهو قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ... الآية [يونس: 104] ، ثم قال عياضٌ: وقيل: إِن هذا الشكّ: الذي أمر غير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسؤالِ الذين يقرؤون الكتاب عنه، إِنما هو في ما قصَّهُ اللَّه تعالى من أخبار الأمم، لا فيما دعا إِلَيْه من التوحيد والشريعة. انتهى. وقوله سبحانه: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ ... الآية: مما خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد سواه. قال ع «2» : ولهذا فائِدةٌ ليست في مخاطبة الناس به، وذلك شدَّة التخويفِ لأنه إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُحَذَّرُ مِنْ مثل هذا، فغيره من النَّاسِ أَوْلَى أَن يحذَّر ويتقى على نفسه. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ: أي: حقَّ عليهم في الأزل وخلقهم لعذابه لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ إِلا في الوقت الذي لا يَنْفَعهم فيه الإِيمان كما صنع فرعون وأشباهه، وذلك وقتُ المُعَايَنَةِ. [سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 143) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 143) .

وقوله سبحانه: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ... الآية: وفي مصحف أُبيٍّ وابنِ «1» مسعودٍ: «فَهَلاَّ» ، والمعنى فيهما واحدٌ، وأصل «لولا» التحضيضُ، أو الدلالةُ علَى مَنْعِ أَمرٍ لوجودِ غيرِهِ، ومعنى الآية: فَهَلاَّ آمَنَ أهْلُ قريةٍ، وهم على مَهَلٍ لم يتلبَّس العذابُ بهم، فيكون الإِيمان نافعاً لهم في هذا الحال، ثم استثنى قومَ يُونُسَ، فهو بحَسَب اللفظ استثناء منقطعٌ، وهو بحسب المعنَى متَّصلٌ لأن تقديره: ما آمن أهْلُ قريةٍ إِلا قَوْمَ يُونُسَ، وروي في قصَّة قوم يونُسَ: أن القوم لَمَّا كَفَروا، أي: تمادَوْا على كفرهم، أوحَى اللَّه تعالى إِليه أَنْ أَنذِرْهم بالعذاب لثالثة، فَفَعَلَ، فقالوا: هو رَجُلٌ لا يَكْذِب، فارقبوه فَإِن أَقام بَيْنَ أَظْهُرِكم، فلا عليكم، وإِن ارتحل عنكم، فهو نزولُ العَذَابِ لا شَكَّ فيه، فلَمَّا كان الليلُ، تزوَّد يُونُسُ، وخَرَجَ عنهم، فأصبحوا فَلَمْ يجدُوهُ، فتابوا ودَعُوا اللَّه، وآمنُوا، ولَبِسُوا المُسُوحَ، وفَرَّقوا بين الأُمَّهات والأولادِ من النَّاسِ والبهائمِ، وكان العذَابُ فيما رُوِيَ عن ابن عباس: علَى ثُلُثَيْ مِيلٍ منهم «2» ، وروي: على مِيلٍ «3» ، وقال ابن جبير «4» : غشيهمُ العذابُ كما يَغْشَى الثوبُ القَبْرَ، فرفَع اللَّه عنهم العذابَ، فلمَا مضَتِ الثالثة، وعَلِمَ يونُسُ أن العذاب لم يَنْزِلْ بهم، قال: كَيْفَ أنصَرِفُ، وقد وجَدُوني في كَذِبٍ، فذهب مغاضباً كما ذكر اللَّه سبحانه في غير هذه الآية، وذهب «5» الطبريُّ إِلى أَنَّ قوم يونُسَ خُصُّوا من بين الأُمَمِ بِأَنْ تِيبَ عليهم مِنْ بَعْد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسِّرين، وليس كذلك، والمعاينةُ التي لا تَنْفَعُ التوبةُ معها هي تلبُّس العذاب أو الموتِ بشَخْصِ الإِنسانِ، كقصَّة فرعون، وأمَّا قوم يونس فلم يَصِلُوا هذا الحَدِّ. ت: وما قاله الطبريُّ عندي أبْيَنُ، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ: يريد: إِلى آجالهم المقدَّرة في الأزل، وروي أن قوم يونس/ كانوا ب «نِينَوَى» من أرض المَوْصِلِ. وقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ: المعنى: أفأنت تكره

_ (1) ينظر: «الكشاف» (2/ 371) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 143) ، و «البحر المحيط» (5/ 192) ، و «الدر المصون» (4/ 69) . (2) أخرجه الطبري (6/ 613) برقم: (17915) ، وذكره ابن عطية (3/ 144) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 573) ، وعزاه لأحمد، وابن جرير. (3) ذكره ابن عطية (3/ 144) . (4) أخرجه الطبري (6/ 613) برقم: (17914) ، وذكره ابن عطية (3/ 144) والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 573) ، وعزاه لأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (5) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 614) بنحوه.

[سورة يونس (10) : الآيات 101 إلى 103]

الناس بإِدخالِ الإِيمَانِ في قُلُوبهم، واللَّه عَزَّ وجلّ قد شاء غير ذلك، والرِّجْسَ هنا بمعنى العذاب. [سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) وقوله سبحانه: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية: هذه الآية أمْر للكفَّار بالاعتبار والنَّظَرِ في المصْنُوعات الدالَّة على الصَّانع من آيات السموات وأفلاكِها وكواكِبِها وسحابِها ونَحْوِ ذلك، والأرْضِ ونباتِهَا ومعادِنِها وغيرِ ذلك، المعنى: انظروا في ذلك بالواجب، فهو يُنْهِيكُمْ إِلى المعرفة باللَّه وبوَحْدَانيته، ثم أخبر سبحانه أنَّ الآيات والنُّذُرَ- وهم الأنبياء- لا تُغْنِي إِلا بمشيئته ف «مَا» على هذا: نافيةٌ، ويجوز أن تكون استفهاما في ضمنه نَفْيُ وقوعِ الغِنَى، وفي الآية على هذا: توبيخٌ لحاضِرِي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ص: والنُّذُرُ: جمع نذيرٍ، إِما مصدرٌ بمعنى الإِنذارات، وإِما بمعنى مُنْذِرٍ. انتهى. وقوله سبحانه: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ... الآية: وعيدٌ إِذَا لَجُّوا في الكُفْرِ، حل بهم العذاب. وقوله سبحانه: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا: أي: عادةُ اللَّه سَلَفَتْ بإِنجاء رسله ومتَّبعيهم عند نزولِ العذاب بالكَفَرَةِ كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ. قال ص: أي: مثلَ ذلك الإِنجاء الذي نجينا الرسُلَ ومؤمنيهم نُنْجِي من آمن بك. انتهى، وخط المُصْحف في هذه اللفظة «نُنْجٍ» بجيم مطلقة دون ياء، وكلهم قرأ «نُنجِّ» - مشددة الجيم- إِلا الكسائيَّ وحفصاً عن عاصم فإِنهما قرآ بسكون النون وتخفيف الجيم «1» . [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

_ (1) ينظر: «السبعة» ص: (330) ، «الحجة للقراء السبعة» (4/ 305) ، «حجة القراءات» ص: (337) ، و «إعراب القراءات» (1/ 275- 276) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 120) ، و «شرح شعلة» (425) ، و «العنوان» (106) .

[سورة يونس (10) : الآيات 108 إلى 109]

وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ... الآية، مخاطبةٌ عامَّة للناس أجمعين إِلى يوم القيامة. وقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ... الآية: الوجْهُ في هذه الآية بمعنى المَنْحَى والمَقْصِد، أي: اجعل طريقك واعتمالك للدِّين والشرْعِ. وقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ... الآية، قد تقدَّم أن ما كان من هذا النوع، فالخطاب فيه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمرادُ غيره. وقوله سبحانه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ... الآية: مقصودُ هذه الآية أن الحَوْل والقُوَّة للَّهِ، والضر لفظ جامعٌ لكلِّ ما يكرهه الإِنسان. وقوله: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ لفظ تامّ العموم. [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ: هذه مخاطبةٌ لجميع الكفّار ومستمرّة مدى الدهر، والْحَقُّ: هو القرآن والشرْعُ الذي جاء به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ: منسوخَةٌ بالقتَالِ. وقوله سبحانه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. قوله: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ: وعد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنْ يغلبهم، كما وقع، وهذا الصبرُ منْسُوخٌ أيضاً بالقتالِ، وصلَّى اللَّه على سيدنا ومولاَنَا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.

تفسير سورة هود

تفسير سورة هود مكية إلا نحو ثلاث آيات قال الداوديّ: وعن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، قلت: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشّيب؟! قال: «شيّبتني «هود» و «الواقعة» و «المرسلات» و «عمّ يتساءلون» و «إذا الشّمس كوّرت» «1» ، وفي رواية عن ابن عباس: «هود وأخواتها» . انتهى «2» . [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 402) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الواقعة، حديث (3297) ، والحاكم (2/ 344) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 350) ، كلهم من طريق شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. وذكره من هذا الوجه السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 577) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث والنشور» . وأخرجه أبو يعلى (1/ 102- 103) رقم: (107- 108) من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن أبي بكر به، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 40) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى إلا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر. قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 110) رقم: (1826) : سئل أبي عن حديث أبي إسحاق عن عكرمة، عن ابن عباس، قال أبو بكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما شيبك؟ قال: «شيبتني هود» . والحديث متصل أصحّ، كما رواه شيبان، أو مرسلا كما رواه أبو الأحوص مرسل قال: مرسل أصحّ، قلت لأبي: روى بقية عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبي بكر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: هذا خطأ ليس فيه ابن عباس اه. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 576) من وجه آخر عن أبي بكر، وعزاه إلى ابن المنذر، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وابن عساكر من طريق مسروق عن أبي بكر وعزاه أيضا إلى البزار، وابن مردويه، من طريق أنس، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 577) ، وعزاه إلى ابن عساكر من طريق عطاء، عن ابن عباس.

[سورة هود (11) : الآيات 5 إلى 8]

قوله عز وجل: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي: أتْقِنَتْ وأجيدَتْ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزَل، ثم فُصِّل بتقطيعه، وتَبْيين أحكامه وأوامره علَى محمَّد نبيه عليه السلام في أزمنةٍ مختلفةٍ ف «ثُمَّ» على بابها، / فالإِحْكَامُ صفةٌ ذاتية، والتفصيلُ إِنما هو بحسب من يفصَّل له، والكتابُ بأَجمعه محكَمٌ ومفَصَّل، والإِحْكَام الذي هو ضدُّ النَّسْخ، والتفصيلُ الذي هو خلافُ الإِجمال، إِنما يقالان مع ما ذَكَرناه باشتراك. قال ص: ثُمَّ فُصِّلَتْ: «ثُمَّ» لترتيب الأخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، ولَدُنْ بمعنى: «عند» . انتهى. قال الداوديّ: وعن الحسن: أُحْكِمَتْ آياتُهُ: قَالَ: أحكمت بالأَمْرِ والنهْي، ثم فُصِّلَتْ بالوعْدِ والوعيدِ، وعنه: فُصِّلَتْ بالثوابِ والعقابِ. انتهى. وقدَّم النذير لأن التَّحذيرَ من النَّار هو الأهمُّ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، أي: اطلبوا مغفرتَهُ وذلك بطلب دُخُولكم في الإِسلام، ثُمَّ تُوبُوا من الكُفْرِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً، ووصف المَتَاع بالحُسْنِ لطيب عيش المؤمن برجائِهِ في ثوابِ ربِّه، وفَرَحِهِ بالتقرُّب إِليه بأَداء مفتَرَضَاته، والسرورِ بمواعيِدِه سُبْحانه، والكافِرُ ليس في شيء مِنْ هذا، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ، أي: كلَّ ذي إِحسان فَضْلَهُ، فيحتملُ أنْ يعود الضميرُ من «فَضْلِهِ» على «ذي فضل» أي: ثوابَ فَضْلِهِ، ويحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، أي: يؤتى اللَّه فضله كلَّ ذي فضلٍ وعملٍ صالحٍ من المؤمنين، ونَحْو هذا المعنى ما وعد به سبحانَهُ مِنْ تضعيف الحسنَاتِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ، أي: فقُلْ: إِني أخافُ عليكم عذابَ يوم كبيرٍ، وهو يومُ القيامة. [سورة هود (11) : الآيات 5 الى 8] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وقوله سبحانه: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ... الآية: قيل: إِن هذه الآية نزلَتْ في الكفَّار الذين كانوا إذا لقيهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تَطَامَنُوا وَثَنَوْا صُدُورهم كالمتستِّر، ورَدُّوا إِليه ظهورَهُم، وغَشُوا وجوهَهُمْ بثيابهم، تباعداً منهم، وكراهيةً للقائه، وهم يَظُنُّون أنَّ ذلك يخفَى عليه، أوْ عن اللَّه عزَّ وجلَّ، وقيل: هي استعارة للْغِلِّ والحِقْدِ الذي كانوا يَنْطَوُونَ

عليه، فمعنى الآية: أَلاَ إِنهم يُسِرُّون العداوةَ، ويَتَكَتَّمون بها، لِتَخْفى في ظَنِّهِم عن اللَّه وهو سبحانه حينَ تغشِّيهم بثيابهم، وإِبلاغِهِم في التستّر، يعلم ما يسرّون، ويَسْتَغْشُونَ : معناه يجعلونها أغشيةً وأغطيةً. قال ص: قرأ «1» الجمهور: «يَثْنُونَ» - بفتح الياء- مضارع ثَنَى الشَّيْءَ ثَنْياً: طَوَاهُ. انتهى، وقرأ ابن عبَّاس «2» وجماعة: «تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ» - بالرفْعِ- على وزن «تَفْعَوْعِلُ» ، وهي تحتملُ المعنيين المتقدِّمين، وحكى الطبريُّ عن ابن عبَّاس على هذه القراءة. أنَّ هذه الآية نزَلَتْ في قومٍ كانوا لا يأتون النساءَ والحَدَثَ إِلاَّ ويستَغْشُونَ ثيابهم كراهيةَ أنْ يُفْضُوا بفروجهم إِلى السماء «3» . وقوله عزَّ وجلَّ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ... الآية، المرادُ جميعُ الحيوانِ المحتاجِ إِلى رزْقٍ، والمستقر: صُلْب الأبِ، و «المستودَعُ» : بَطْن الأُمِّ، وقيل غير هذا، وقد تقدَّم. وقوله: فِي كِتابٍ: إِشارةٌ إِلى اللوح المحفوظ. قال ص: لِيَبْلُوَكُمْ اللام متعلِّقة ب «خَلَقَ» وقيل: بفعلٍ محذوفٍ، أي: أَعْلَمَ بذلك لَيَبْلُوَكُمْ، انتهى. وَلَئِنْ قُلْتَ: اللام في «لَئِنْ» : مُؤذنةٌ بأَنَّ اللام في لَيَقُولَنَّ لامُ قسم، لا جوابِ شرطٍ، وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تناقُضٌ منهم لأنهم مقرُّونَ بأن اللَّه خلق السموات والأرض، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيْسَرُ من ذلك، وهو البَعْثُ مِنَ القبورِ، وإِذْ خَلْقُ السموات والأرضِ، أكْبَرُ من خلق الناس.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (5/ 203) و «الدر المصون» (4/ 78) . (2) وممن قرأ بها مجاهد، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وعبد الرحمن بن أبزي، والجحدري، وابن أبي إسحاق، وأبو رزين، وأبو جعفر محمد بن علي، وعلي بن حسين، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، والضحاك، وأبو الأسود الدؤلي. ينظر: «الشواذ» ص: (64) ، و «المحتسب» (1/ 318) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 150) ، و «البحر المحيط» (5/ 203) ، و «الدر المصون» (4/ 78) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 626) برقم: (17965) بنحوه، وللحديث طريق آخر عن ابن عباس، وأخرجه البخاري (8/ 626) برقم: (4681- 4682) ، وذكره ابن عطية (3/ 151) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 374) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 436) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 579) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، كلهم بنحوه.

[سورة هود (11) : الآيات 9 إلى 13]

وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ، أي: المتوعَّد به إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ، أي مدَّةٍ معدودة لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ، أي: ما هذا الحابسُ لهذا العذاب على جهة التكذيب، وَحاقَ: معناه: حَلَّ وأحاط. البخاريّ: حاق: نزل. [سورة هود (11) : الآيات 9 الى 13] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ... الآية: «الرحمة» هنا: تَعمُّ جميع ما ينتفُعُ به مِنْ مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك، والْإِنْسانَ هنا اسمُ جنْسٍ، والمعنَى: إِن هذا الخُلُقَ في سجيَّة الإِنسان، ثم استثنى منهم الذين ردَّتهم الشرائعُ والإِيمانُ/ إِلى الصبْرِ والعملِ الصالحِ، وكَفُورٌ هنا: مِنْ كُفْر النعمة، وال نَعْماءَ: تَشْمَلُ الصحَّة والمَال، وال ضَرَّاءَ: من الضُّرِّ، وهو أيضاً شاملٌ ولفظة ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي: يقتضي بطَراً وجهلاً أَنَّ ذلك بإِنعامٍ من اللَّه تعالى، والسَّيِّئاتُ هنا: كلّ ما يسوء في الدنيا، والفرح هنا: مطلق فلذلك ذُمَّ، إِذ الفرحُ انهمال النفْسِ، ولا يأتي الفرحُ في القرآن ممدوحاً إِلا إِذا قيد بأنه في خَيْرٍ. وقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا: استثناء متصلٌ على ما قدَّمنا مِنْ أَنَّ الإِنسان عامٌ يراد به الجنْسُ وهو الصواب، ومَنْ قال: إِنه مخصوصٌ بالكافر قال: هاهنا الاستثناء منقطعٌ، وهو قول ضعيفٌ من جهة المعنَى، لا من جهة اللفظ لأن صفة الكُفْر لا تطلق على جميعِ الناسِ كما تقتضي لفظةُ الإِنسان واستثنى اللَّه تعالى من الماشِينَ على سجيَّة الإِنسان هؤلاءِ الذين حملَتْهم الأديان على الصبْرِ على المكارِهِ، والمثابرةِ على عبادةِ اللَّهِ، وليس شَيْءٌ من ذلك في سجيَّة البَشَر، وإِنما حمل على ذلك خَوْفُ اللَّه وحبُّ الدَّارِ الآخرة، والصبْرُ على العملِ الصالحِ لا يَنْفَعُ إِلاَّ مع هداية وإِيمانٍ، ثم وعد تعالَى أهْلَ هذه الصفة بالمَغْفِرةِ للذُّنُوبِ والتفضُّلِ بالأجرِ والنَّعِيمِ. وقوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ: سَببُ هذه الآية: أَنَّ كفَّار قريش قالوا: يا محمَّد، لو تركْتَ سبَّ آلهتنا، وتسفيه آبائنا، لَجَالَسْناك واتبعناك، وقالوا له: ائت بِقُرآن غيرِ هذا أو بدِّله، ونحو هذا من

[سورة هود (11) : الآيات 14 إلى 21]

الأقوال، فخاطب اللَّه تعالَى نبيَّه عليه السلام على هذه الصورة من المخاطَبَة، ووقَّفَهُ بها توقيفاً رَادًّا علَى أقوالهم ومبطلاً لها، وليس المعنَى أنَّه عليه السلام هَمَّ بشيء من ذلك، فَزُجِرَ عنه، فإِنه لم يُرِدْ قطُّ تَرْكَ شيء مما أوحِيَ إِليه، ولا ضَاقَ صدْرُهُ به، وإِنما كان يَضِيقُ صدره بأقوالهم وأفعالهم وبُعْدِهِم عن الإِيمان. قال ص، وع «1» : وعبَّر ب ضائِقٌ وإِن كان أقلَّ استعمالا من «ضَيِّقٍ» لمناسبة تارِكٌ ولأن ضائِقٌ وصفٌ عارضٌ بخلاف «ضيق» فإِنه يدل على الثبوت، والصّالح هنا الأول بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم، والضمير في «به» عائدٌ على البعْضِ، ويحتمل أن يعود على «ما» وأَنْ يَقُولُوا أي: كراهةَ أنْ يقولوا، أو لئلاَّ يقولوا، ثم آنسه تعالَى بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، أي: هذا القدْرُ هو الذي فُوِّضَ إِليك، واللَّه تعالَى بَعْدَ ذلك هو الوكيلُ الممضي لإِيمان من شاء، وكُفْرِ من شاء أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ: «أم» بمعنى: «بل» ، والافتراء أَخصُّ من الكذبِ، ولا يستعملُ إِلا فيما بَهَتَ به المرءُ وكَابَر. وقوله سبحانه: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تقدَّم تفسير نظيرها، وقال بعضُ الناس: هذه الآية متقدِّمة على التي في يُونُسَ إِذْ لا يصحُّ أَنْ يعجزوا في واحدةٍ، ثم يكلَّفوا عشراً. قال ع «2» : وقائلُ هذا القولِ لم يَلْحَظْ ما ذكَرْناه مِنَ الفَرْقِ بين التكْليفين، في كمال المماثَلَةِ مرةً كما هو في «سورة يونس» ، ووقوفها على النظْمِ مرَّة كما هو هنا، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: يريد في أنّ القرآن مفترى. [سورة هود (11) : الآيات 14 الى 21] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 154) . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 155) .

وقوله سبحانه: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ، لهذه الآية تأويلان: أحدهما: أنْ تكون المخاطبةُ من النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم للكفَّار، أي: ويكون ضميرُ يَسْتَجِيبُوا على هذا التأويل عائداً على معبوداتهم. والثاني: أن تكون المخاطبةُ من اللَّه تعالَى للمُؤمنين، ويكون قوله على هذا فَاعْلَمُوا بمعنى: دُومُوا علَى عِلْمِكُم قال مجاهد: قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: هو لأصحابِ محمَّد عليه السلام «1» . وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ... الآية: قالت قتادةُ وغيره: هي في الكَفَرة «2» ، وقال مجاهد: هي في الكفرة وأهْلِ الرياءِ من المؤمنين «3» . وإليه ذهب معاويَةُ، والتأويل الأول أَرْجَحُ بحسب تقدُّمِ ذكْرِ الكفَّار، وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامِه» : بل الآية عامَّة في كلِّ من ينوي غيْرَ اللَّهِ بِعَمَلِه، كان معه إيمان أو لم يكُنْ، وفي هذه الآية بيان لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ مَا نَوَى» «4» ، وذلك أنَّ العبد لا يُعْطَى إِلا عَلَى وَجْهٍ قَصدَهُ، وبحُكْم ما ينعقدُ في ضَمِيرِهِ، وهذا أمرٌ مُتَّفَقٌ عليه. وقوله: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها: قيل: ذلك في صحَّة أبدانهم وإِدرَارِ أرزَاقهم، وقيل: إِن هذه الآية مطْلَقةٌ، وكذلك التي في «حم عسق» : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الآية [الشورى: 20] إِلى آخرها، قيَّدتْهما وفسَّرتْهما الآيةُ التي في «سورة سُبْحانَ» ، وهي قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ... الآية [الإِسراء: 18] ، فأخبر سبحانه أَنَّ العبدِ ينوي ويريدُ، واللَّه يحكُمُ ما يريدُ، ثم ذكر ابنُ العربيِّ الحديثَ الصحيحَ في النَّفَرِ الثلاثة الذين كَانَتْ أعمالهم رياءً، وهم رَجُلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قُتِلَ في سبيل اللَّه، ورَجُلٌ كثيرُ المالِ، وقولَ اللَّهِ لكلِّ واحدٍ منهم: «مَاذَا عَمِلْتَ؟» ثم قال في آخر الحديث: ثمّ ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركبتيّ، وقال: يا أبا هريرة،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 12) برقم: (18022، 18024، 18025) ، وذكره ابن عطية (3/ 156) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 583) ، وعزاه إلى أبي الشيخ. (2) ذكره ابن عطية (3/ 156) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 156) . (4) تقدم تخريجه.

أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ، ثُمَّ قرأ قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها» «1» ، أي: في الدنيا وهذا نصٌّ في مراد الآية، واللَّه أعلم. انتهى. وحَبِطَ: معناه: بَطَلَ وسَقَط، وهي مستعملةٌ في فَسَاد الأعمال. قال ص: قوله: مَا صَنَعُوا: «ما» بمعنى: «الَّذِي» ، أو مصدريةٌ، و «فيها» : متعلِّقٌ ب «حَبِطَ» ، والضمير في «فيها» عائدً على الآخرة، أي: ظهر حبوطُ ما صَنَعُوا في الآخرة، أَو متعلِّق ب «صَنَعُوا» فيكون عائداً على الدنيا. انتهى. و «الباطل: كُلُّ ما تقتضي ذاتُه أَلاَّ تُنَال به غايةٌ في ثوابٍ ونحوه، وقوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: في الآية تأويلات. قال ع «2» : والراجحُ عندِي مِنَ الأقوال في هذه الآية: أَنْ يكون «أَفَمَن» للمؤمنين، أو لهم وللنبيّ صلّى الله عليه وسلّم معهم، والبينة: القرآن وما تضمّن، والشاهد: الإِنجيلُ، يريد: أَو إِعجاز القرآن في قولٍ، والضميرُ في «يتلوه» للبيِّنة، وفي «منه» للربِّ، والضميرُ في «قبله» للبينة أيضاً، وغير هذا مما ذُكِرَ محتملٌ، فإِن قيل: إِذا كان الضمير في «قَبْله» عائداً على القُرْآنِ، فَلِمَ لَمْ يذْكَر الإِنجيل، وهوَ قبله، وبَيْنَه وبَيْن كتاب موسَى؟، فالجوابُ: أنه خَصَّ التوراة بالذكْرِ لأنه مجمَعٌ عليه، والإِنجيل ليس كذلك لأن اليهود تخالِفُ فيه، فكان الاستشهاد بما تقُومُ به الحجَّةُ على الجميع أولَى، وهذا يجري مَعَ قولِ الجنِّ: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الأحقاف: 30] والْأَحْزابِ هاهنا يُراد بهم جميعُ الأُمَمِ، وروى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن أبي موسى الأشعريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنه قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ وَلاَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ثُمَّ لاَ يُؤْمِنُ بي إِلاَّ دَخَلَ النَّار» «3» ، قال سعيدٌ: فقلْتُ: أَيْنَ مِصْدَاقُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ حَتَّى وَجَدتُّهُ فِي هَذِهِ الآيةِ، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طَلَبْتُ مِصْدَاقَهُ في كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «4» ، وقرأ

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 591، 593) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في الرياء والسمعة، حديث (2382) من حديث أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 157) . (3) تقدم تخريجه. (4) ذكره من هذا الوجه السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 587) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه.

[سورة هود (11) : الآيات 22 إلى 24]

الجمهورُ: «فِي مِرْيَةٍ» «1» - بكسر الميم-، وهو الشكُّ، والضمير في «منه» عائدٌ على كون الكَفَرة موعدُهُم النَّارُ، وسائر الآية بيِّن. وقوله تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: قالت فرقة: يُريدُ الشهداءَ مِنَ الأنبياء والملائكةِ، وقالت فرقة: الأشهادُ: بمعنى المشاهِدِينَ، ويريد جميعَ الخلائق، وفي ذلك إِشادةٌ بهم وتشهيرٌ لخزيهم، وروي في نحو هذا حديثٌ: «أَنَّهُ لاَ يُخْزَى أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ/ إلاَّ وَيَعْلَمُ ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ المَحْشَرَ» ، وباقي الآية بيِّن مِمَّا تقدَّم في غيرها. قال ص: وقوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يحتملُ أنْ يكون داخلاً في مفعولِ القولِ، وإِليه نحا بعضُهم. انتهى. وقوله سبحانَهُ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ: يَحْتَمِلُ وجوهاً: أَحدُها: أَنه وصف سبحانه هؤلاء الكُفَّار بهذه الصفة في الدنيا علَى معنى أَنَّهم لا يسمعون سماعاً ينتفعُونَ به، ولا يبصُرونَ كذلك. والثاني: أنْ يكون وصفهم بذلك مِنْ أجل بغضتهم في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهم لا يستطيعُونَ أَنْ يحملوا نفُوسَهم على السّمع منه، والنّظر إليه. و «ما» في هذين الوجهين: نافيةٌ. الثالث: أنْ يكون التقديرُ: يضاعَفُ لهم العذابُ بما كانوا، أيْ: بسبب ما كانوا ف «مَا» مصدريةٌ، وباقي الآية بيّن. [سورة هود (11) : الآيات 22 الى 24] لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وقوله سبحانه: لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ... الآية: لاَ جَرَمَ تقدم بيانها، وَأَخْبَتُوا: قال قتادة: معناه: خشعوا «2» ، وقيل: معناه أنابوا قاله ابن عباس «3» ،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 159) و «البحر المحيط» (5/ 212) ، و «الدر المصون» (4/ 86) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 26) برقم: (18115) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (3/ 161) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 379) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 590) ، وعزاه إلى عبد الرزاق وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 25) برقم: (18109) ، وذكره ابن عطية في تفسيره (3/ 161) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 379) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 590) .

[سورة هود (11) : الآيات 25 إلى 27]

وقيل: اطمأنوا قاله مجاهد «1» وقيل: خافوا قاله ابن عباس «2» أيضاً، وهذه أقوالٌ بعضها قريبٌ من بعض. وقوله سبحانه: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ... الآية، «الفريقان» الكافرون والمؤمنون، شبه الكافِرَ بالأعمَى والأصمِّ، وشبه المؤمنَ بالبصيرِ والسميعِ، فهو تمثيلٌ بمثالين. [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ... الآية: فيها تمثيلٌ لقريشٍ وكفَّار العرب، وإِعلامٌ بأَن محمَّداً عليه السلام ليس بِبِدْعٍ من الرسل، و «الأراذل» جَمْعُ الجمعِ، فقيل: جمع أَرْذُلٍ، وقيل: جَمْعُ أَرْذَالٍ، وهم سِفْلَة النَّاسِ، ومَنْ لا خَلاَقَ له ولا يبالِي ما يَقُولُ، ولا ما يُقَالُ له، وقرأ الجمهور «3» : «بَادِيَ الرَّأْي» - بياء دون همز- من بَدَا يَبْدُو، فيحتمل أنْ يتعلَّق «بَادِيَ الرَّأْي» ب «نَرَاكَ» ، أي: وما نراك بأولِ نَظَرٍ وأقلِّ فكرة، وذلك هو بَادِي الرأيِ إِلاَّ ومتَّبِعُوكَ أراذلُنا، ويحتمل أنْ يتعلق بقوله: اتَّبَعَكَ، أيْ: وما نَرَاكَ اتبعك بَادِيَ الرَّأي إِلا الأراذلُ، ثم يحتملُ علَى هذا قوله: بادِيَ الرَّأْيِ معنيين: أحدهما: أَنْ يريدوا: اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسَى أنَّ بواطنهم ليستْ معك. والثاني: أن يريدوا: اتبعوك بأول نَظَرٍ، وبالرأْيِ البادِي، دون تثبُّت. ويحتملُ أنْ يكون قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ وصْفاً منهم لنوحٍ، أي: تدَّعِي عظيماً وأَنْتَ مكشوفُ الرأْي، لا حَصَافَة لك، ونصبُهُ على الحالِ، أو على الصفة ل «بشر» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 25) برقم: (18112- 18113- 18114) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (3/ 161) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 379) ، والسيوطي (3/ 590) ، وعزاه إلى أبي الشيخ. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 25) برقم: (18111) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (3/ 161) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 379) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 589) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 163) و «البحر المحيط» (5/ 215) ، و «الدر المنثور» (4/ 91) .

[سورة هود (11) : الآيات 28 إلى 34]

[سورة هود (11) : الآيات 28 الى 34] قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) وقوله سبحانه: قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ... الآية: كأنه قال: أرأيتم إِن هدانِي اللَّهُ وأضلَّكم أَأُجبرُكُمْ على الهدَى، وأنتم له كارِهُونَ، وعبارة نوحٍ عليه السلام كانَتْ بلغته دالَّة على المعنى القائِم بنَفْسه، وهو هذا المفهومُ مِنْ هذه العبارة العربيَّة، فبهذا استقام أنْ يقال: قال كذا وكذا إِذ القوم ما أفاد المعنى القائِمَ في النَّفْس، وقوله: عَلى بَيِّنَةٍ أي: على أمْرٍ بيِّن جَلِيٍّ، وقرأ الجمهور: «فَعَمِيَتْ» «1» ولذلك وجهان من المعنَى: أحدهما: خَفِيَتْ. والثاني: أَنْ يكون المعنَى: فَعُمِّيتُمْ أنتم عنها. وقوله: أَنُلْزِمُكُمُوها: يريد: إِلزامَ جبر كالقتال ونحوه، وأما إِلزامُ الإِيجاب، فهو حاصلٌ. وقوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا: يقتضي أَنَّ قومه طلبوا طَرْدَ الضعفاءِ الذين بادَرُوا إِلى الإِيمان به نَظِيرَ ما اقترحت قريش، وتَزْدَرِي: أصله: تَزْتَرِي تَفْتَعِلُ مِنْ زَرَى يَزْرِي، ومعنى: تَزْدَرِي: تحتقر، و «الخير» هنا: يظهر فيه أَنَّهُ خيرُ الآخرة، اللَّهم إِلا أَنْ يكونَ ازدراؤهم من جهة الفَقْر، فيكون الخَيْرُ المال وقد قال بعضُ المفسِّرين: حيثُ ما ذَكَرَ الله الخير/ في القرآن، فهو المال.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 164) ، و «البحر المحيط» (5/ 217) ، و «الدر المصون» (4/ 93) . وقد قرأ الأخوان، وحفص بالتشديد، هكذا «فعمّيت» ، وحجتهم في حرف عبد الله: «فعمّاها عليكم» . ينظر: «حجة القراءات» (338) ، و «السبعة» (332) ، و «الحجة» (4/ 322) و «إعراب القراءات» (1/ 279) ، و «شرح شعلة» (426) ، و «العنوان» (107) ، و «إتحاف» (2/ 124) .

[سورة هود (11) : الآيات 35 إلى 40]

قال ع «1» : وفي هذا الكلام تحامُلٌ، والذي يشبه أنْ يقال: إِنه حيثُ ما ذُكِرَ الخير، فإِنَّ المَالَ يدْخُل فيه. ت: وهذا أيضاً غير ملخَّص، والصواب: أَنَّ الخيرَ أَعمُّ من ذلك كلِّه، وانظر قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] فإِنه يشملُ المال وغيرَهُ، ونحْوُه: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77] ، وانظر قوله عليه السلام: «اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَةِ» «2» ، وقَوْلُهُ تعالَى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور: 33] ، فههنا لا مدْخَل للمالِ إِلا علَى تجوُّز، وقد يكون الخير المرادُ به المَالُ فَقَطْ وذلك بحَسَب القرائن، كقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً ... الآية [البقرة: 180] . وقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ: تسليمٌ للَّه تعالَى، وقال بعضُ المتأوِّلين: هي ردٌّ على قولهم: اتبعك أراذِلُنا في ظاهر أمرِهم حَسَبَ ما تقدَّمَ في بعض التأويلات، ثم قال: إِنِّي إِذاً لو فعلت ذلك، لَمِنَ الظَّالِمِينَ، وقولهم: قَدْ جادَلْتَنا: معناه: قد طال منْكَ هذا الجِدَالُ، والمرادُ بقولهم: بِما تَعِدُنا العذابَ والهلاكَ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، أي: بمفلتين. [سورة هود (11) : الآيات 35 الى 40] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وقوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ... الآية: قال الطبريُّ «3» وغيرُه: هذه الآيةُ اعترضت في قِصَّة نوح، وهي في شأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع قُرَيْشٍ. قال ع «4» : ولو صحَّ هذا بسندٍ، لوجب الوقوفُ عنده، وإِلا فهو يَحْتملُ أن

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 166) . (2) أخرجه البخاري (1/ 624) كتاب «الصلاة» باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، حديث (428) ، ومسلم (3/ 1431) كتاب «الجهاد» باب: غزوة الأحزاب، حديث (127/ 1805) من حديث أنس بن مالك. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 33) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 167) .

يكون في شأن نوح عليه السلام، وتَتَّسِقُ الآية، ويكونُ الضمير في «افتراه» عائداً علي ما توعَّدهم به، أو عَلى جميعِ ما أخبرهم به، و «أم» بمعنى «بل» . وقوله سبحانه: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ... الآية، قيل لنوح هذا بَعْدَ أَنْ طال عليه كُفْر القَرْن بعد القَرْن به، وكان يأتيه الرجُلُ بابنه، فيقول: يا بُنَيَّ، لا تُصَدِّقْ هذا الشيخَ، فهكذا عَهِدَهُ أَبي وَجَدِّي كَذَّاباً مَجْنُوناً، رَوَاهُ عُبَيْدُ بن عُمَير وغيره، فروي أنه لما أوحِيَ إِليه ذَلك، دَعَا، فقَالَ: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، وتَبْتَئِسْ من البُؤْس، ومعناه: لا تَحْزَنْ. وقوله: بِأَعْيُنِنا: يمكنُ أَنْ يريد بمرأًى منا، فيكون عبارةً عن الإِدراك والرعاية والحفْظ، ويكونُ جَمَعَ الأَعْيُنِ، للعظمةِ لا للتكثير كما قال عزَّ مِنْ قائل: فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات: 23] ، والعقيدةُ أنه تعالَى منزهُ عن الحواسِّ، والتشبيهِ، والتكييفِ، لا ربَّ غيره، ويحتملُ قوله: بِأَعْيُنِنا أيُّ: بملائكتنا الذين جعلْناهم عيوناً على مواضع حِفْظِكَ وَمَعُونَتِك، فيكون الجَمْعُ على هذا التأويلِ: للتكْثير. وقوله: وَوَحْيِنا معناه: وتعليمنا له صُورَةَ العَمَل بالوحْيِ، ورُوِيَ في ذلك: «أَنَّ نوحاً عليه السلام لَمَّا جَهِلَ كَيْفِيَّة صُنْعِ السَّفِينَةِ، أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ، أَن اصنعها على مثال جُؤْجُؤِ «1» الطَّائِرِ» إِلى غير ذلك ممَّا علِّمَهُ نوحٌ من عملها. وقوله: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ... الآية، قال ابْنُ جُرَيْج في هذه الآية: تقدَّم اللَّه إِلَى نوحٍ أَلاَّ يَشْفَعَ فيهم «2» . وقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ: التقديرُ: فشَرَعَ يصْنَعُ، فحكيتْ حالُ الاستقبال، والملأ هنا: الجماعة. وقوله: سَخِرُوا مِنْهُ ... الآية: السُّخْر: الاستجهال مع استهزاء، وإِنما سخروا منه في أنْ صنعها في بَرِّيَّةٍ. وقوله: فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ قال «3» الطبريُّ: يريد في الآخرة. قال ع «4» : ويحتمل الكلام- وهو الأرجح- أن يريد: إنا نسخر منكم الآن،

_ (1) الجؤجؤ: عظام صدر الطائر. ينظر: «لسان العرب» (528) (جأجأ) . (2) أخرجه الطبري (7/ 35) برقم: (18147) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 169) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (7/ 592) ، وعزاه إلى أبي الشيخ. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 35) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 170) .

[سورة هود (11) : الآيات 41 إلى 43]

والعذاب المخزي: هو الغرق، والمقيم: هو عذاب الآخرة، و «الأمر» : وَاحدُ الأمور، ويحتملُ أنْ يكون مصدر «أمَرَ» ، فمعناه: أَمْرُنَا للمَاءِ بالفَوَرَانِ، وَفارَ معناه: انبعث بقُوَّة، واختلف النَّاس في التَّنُّور، والذي عليه الأكثَرُ، منهم ابنُ عباس وغيره: أنه هو تَنُّور الخُبْز الذي يُوقَدُ فيه «1» ، وقالوا: كانَتْ هذه أمارَةً، جعلها اللَّه لنُوحٍ، أي: إِذا فار التنُّور، فاركب في السفينة. وقوله سبحانه: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ... الآية، الزَّوْج: يقال في مشهورِ كلامِ العرب: للواحد مما له ازدواجٌ، فيقال: هذا زَوْجُ/ هذا، وهما زَوْجَان، والزوج أيضاً في كلام العرب: النَّوْع، وقوله: وَأَهْلَكَ: عطْفٌ علَى ما عَمِلَ فيه احْمِلْ والأهل، هنا: القرابةُ، وبشَرْط مَنْ آمن منهم، خُصِّصُوا تشريفاً، ثم ذكر مَنْ آمَنَ، وليس من الأهْل، واختلف في الذي سبق عليه القوْلُ بالعَذَابِ، فقيل: ابنُهُ يَام، أوْ كنعان، وقيل: امرأته وَالِعَةُ- بالعين المهملة-، وقيل: هو عمومٌ فيمن لم يؤمن مِنْ أهْل نوحٍ، ثم قال سبحانه إِخباراً عن حالهم: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. [سورة هود (11) : الآيات 41 الى 43] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لاَ عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وقوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها: أي: وقال نوحٌ لمن معه: اركبوا فيها، وقوله: بِسْمِ اللَّهِ يصحُّ أنْ يكون في موضع الحال في ضمير ارْكَبُوا، أي: اركبوا متبرِّكين باسم اللَّه، أو قائلين: باسم اللَّه، ويجوزُ أن يكون: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها جملةً ثانيةً من مبتدإٍ وخبرٍ، لا تعلُّق لها بالأولَى كأنه أمرهم أولاً بالركوب، ثم أخبر أن مجراها ومرساها باسم اللَّه. قال الضَّحَّاك: كان نوحٌ إِذا أراد جَرْيَ السفينة، جَرَتْ، وإِذا أَراد وقوفَها، قال: باسم اللَّه، فتقف «2» ، وقرأ الجمهور «3» بضم الميم من «مجراها ومرساها»

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 35) برقم: (18169- 18170) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (3/ 170) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 383) . (2) أخرجه الطبري (7/ 45) برقم: (18201) ، وذكره ابن عطية (3/ 172) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 385) برقم: (41) . (3) وحجة من فتح الميم قوله سبحانه بعدها: «وهي تجري بهم في موج كالجبال» ، ولم يقل: تجرى.

على معنى إِجرائها وإِرسائها، وقر الأَخَوَان حَمْزَةُ والكِسَائيُّ وحفصٌ بفتح ميمٌ «مَجْريهَا» وكسر الراء، وكلُّهم ضمَّ الميم في «مُرْسَاهَا» . ت: قوله: «وكسر الراء» : يريد إِمالتها، وفي كلامِهِ تسامُحٌ، ولفظُ البخاريِّ: مُجْرَاها: مَسِيرُها، ومُرْسَاها: مَوْقِفُها، وهو مصدرُ: أُجْرَيْتُ وأَرْسَيْتُ. انتهى. قال النوويُّ: ورُوِّيَنا في «كتاب ابن السُّنِّيِّ» بسنده، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَمَانٌ لأُمَّتي مِنَ الغَرَقِ، إِذَا رَكِبُوا أَنْ يَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... الآية [الأنعام: 91] » «1» ، هكذا هو في النُّسَخ: «إِذَا رَكِبُوا» ، ولم يقلْ: «في السفينة» انتهى. وقوله: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي: في ناحيةٍ، أي: في بُعْدٍ عن السفينة، أوْ عن الدِّين، واللفظ يعمُّهما. وقوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ: يحتمل أنْ يكون نهياً محضاً مع علمه بأَنَّه كافرٌ، ويحتمل أنْ يكون خَفِيَ عليه كُفْره والأول أبْيَنُ. وقوله: لاَ عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ: الظاهر أنّ لا عاصِمَ اسم

_ وحجة الجمهور في الضم إجماع الجميع على ضم الميم في «مرساها» ، فردوا ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه. ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 173) ، و «البحر المحيط» (5/ 225) ، و «الدر المصون» (4/ 99) ، و «السبعة» (333) ، و «الحجة» (4/ 329) ، و «إعراب القراءات» (1/ 281) ، و «شرح الطيبة» (4/ 363) ، و «العنوان» (107) ، و «شرح شعلة» (427) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 125) . [.....] (1) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (501) من حديث الحسين بن علي. وفي سنده جبارة بن المغلس، ويحيى بن العلاء، ومروان بن سالم، والأول: ضعيف، والثاني والثالث: متهمان بالوضع. وأخرجه أبو يعلى (12/ 152) رقم: (6781) : حدثنا جبارة، ثنا يحيى بن العلاء، عن مروان بن سالم، عن طلحة بن عبيد الله، عن الحسين بن علي به. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 135) وقال: رواه أبو يعلى عن شيخه جبارة بن المغلس، وهو ضعيف اه. وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (3/ 237) رقم: (3365) ، وعزاه لأبي يعلى، وقال: فيه ضعف. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 602) ، وزاد نسبته إلى الطبراني، وابن عدي، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس بلفظ حديث الحسين بن علي، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 602- 603) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.

[سورة هود (11) : الآيات 44 إلى 48]

فاعِلٍ على بابه، وقوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ: يريد: إِلا اللَّهَ الرَّاحِمَ، ف «مَنْ» كنايةٌ عن اللَّه، المعنى: لا عاصِمَ اليَوْم إِلا الذي رحمنا. [سورة هود (11) : الآيات 44 الى 48] وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) وقوله سبحانه: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ... الآية: البَلْع: تجرُّع الشيء وازدراده، والإقلاع عن الشيء: تركه، وغِيضَ معناهُ: نَقَصَ، وأكْثَرُ ما يجيء فيما هو بمعنى الجُفُوف، وقوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ: إِشارة إِلى جميع القصَّة: بعثِ الماء، وإِهلاكِ الأُممِ، وإِنجاءِ أَهْلِ السفينة. قال ع «1» : وتظاهرت الرواياتُ وكُتُبُ التفسير بأَنَّ الغرق نَالَ جميعَ أَهْلِ الأَرْضِ، وعَمَّ الماءُ جَمِيعَهَا قاله ابن عباس وغيره، وذلك بَيِّن من أمْرِ نوحٍ بحمل الأزواجِ مِنْ كلِّ الحيوانِ، ولولا خَوْفُ فنائها مِنْ جميعِ الأرضِ، ما كان ذلك، وروي أنَّ نوحاً عليه السلام رَكِبَ في السفينةِ مِنْ عَيْنِ الوَرْدَةِ بالشامِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، واستوت [السفينة] على الجودِيِّ في ذي الحِجَّة، وأقامَتْ عليه شهراً، وقيل له: اهْبِطْ في يوم عاشُورَاءَ، فصامه هو ومَنْ معه، وروي أنَّ اللَّه تعالى أَوحى إِلى الجبالِ أَنَّ السفينة تَرْسِي على واحد منها، فتطاوَلَتْ كلُّها، وبقي الجُودِيُّ، وهو جبلٌ بالمَوْصِل في ناحيةِ الجزيرةِ، لم يتطاوَلْ تواضعاً للَّه فاستوت السفينةُ بأمْر اللَّهِ عليه، وقال «2» الزَّجَّاجُ: الجُودِيُّ: هو بناحية «آمد» ، وقال قوم: هو عند باقردي، وأكْثَرَ النَّاسُ في قصص هذه الآية، واللَّه أعلم بما صَحَّ من ذلك. وقوله: وَقِيلَ بُعْداً: يحتمل أنْ يكون من قول اللَّه عزَّ وجلَّ عطفاً على قوله: وَقِيلَ الأولِ، ويحتملُ أن يكون من قول نوحٍ والمؤمنين، والأول أظهر. وقوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ... الآية: احتجاج من نوحٍ عليه السلام أَنَّ الله أمره

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 175) . (2) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (3/ 55) .

بحَمْلِ أهله، وابنه من أهله، فينبغي أن يُحْمَلَ، فأظهر اللَّه له أنَّ المراد مَنْ آمَنَ من الأهْلِ، وهذه الآية تقتضي أن نوحاً عليه السلام ظَنَّ أنَّ ابنه مؤمنٌ/. وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي: الذين عَمَّهم الوعْد لأنه ليس على دينِك، وإِن كان ابنك بالولادة. وقوله: عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ: جعله وصفاً له بالمصدر على جهة المبالغة في وصفه بذلك كما قالت الخَنْسَاءُ تصفُ ناقَةً ذَهَبَ عنْها ولَدُها: [البسيط] تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادكرت ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ «1» أي: ذاتُ إِقبالٍ وإِدبارٍ ويبيِّن هذا قراءةُ الكسَائِيِّ «إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالحٍ» فعلاً ماضياً، ونصب «غير» على المفعول ل «عَمِلَ» ، وقولُ من قال: «إِن الولد كان لِغِيَّةٍ» خطأ محضٌ، وهذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ «2» والجمهور قالوا: وأما قوله تعالى: فَخانَتاهُما [التحريم: 10] فإِن الواحدة كانَتْ تقول للناس: هو مجنونٌ، والأخرَى كانت تنبِّه على الأضيافِ، وأما خيانة غَيْرُ هذا، فلا ويَعْضُدُه المعنَى، لشرف النبوَّة، وجوَّز المَهْدَوِيُّ أَنْ يعود الضمير في «إِنَّهُ» على السؤال، أي: إِن سؤالك إِيَّايَ ما ليس لَكَ به علْم عملٌ غَيْرُ صالحٍ قاله النَّخَعِيُّ وغيره. انتهى. والأولُ أبينُ وعليه الجمهورُ، وبه صدّر المهدويّ، ومعنى قوله: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: إِذَا وَعَدتكَ، فاعلم يقيناً أَنه لا خُلْفَ في الوعد، فإِذا رأيتَ ولدك لم يُحْمَلْ، فكان الواجبُ عليك أنْ تقف، وتَعْلَم أَنَّ ذلك بحقٍّ واجبٍ عند اللَّه. قال ع «3» : ولكنَّ نوحاً عليه السلام حملته شفقةُ الأُبوَّة وسجيَّة البَشَر على التعرُّض لنفَحَاتِ الرحْمة، وعَلَى هذا القَدْر وقَع عتابُهُ ولذلك جاء بتلطُّف وترفيع في قوله سبحانه: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، ويحتمل قوله: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: لا تطلُبْ منِّي أمراً لا تعلم المصلحة فيه عِلْمَ يقينٍ، ونحا إِلى هذا أبو عليٍّ

_ (1) ينظر: «ديوانها» ص: (383) ، و «الأشباه والنظائر» (1/ 198) ، و «خزانة الأدب» (1/ 431) ، (2/ 34) ، و «شرح أبيات سيبويه» (1/ 282) ، و «الشعر والشعراء» (1/ 354) و «الكتاب» (1/ 337) و «لسان العرب» (7/ 305) (رهط) (11/ 538) (قبل) ، (14/ 410) (سوا) ، و «المقتضب» (4/ 305) ، و «المنصف» (1/ 197) ، بلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (2/ 387) ، (4/ 68) و «شرح الأشموني» (1/ 213) ، و «شرح المفصّل» (1/ 115) ، و «المحتسب» (2/ 43) . (2) ذكره البغوي (2/ 387) ، وابن عطية (3/ 177) بنحوه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 177- 178) .

[سورة هود (11) : الآيات 49 إلى 51]

الفارسيُّ، وهذا والأول في المعنَى واحدٌ. وقوله: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ: إِنابة منه عليه السلام، وتسليمٌ لأمر ربه، والسؤالُ الذي وقع النهْيُ عنه، إِنما هو سؤالُ العَزْمِ الذي معه محاجَّة وطَلِبَةٌ مُلِحَّةٌ فيما قد حُجِبَ وجْهُ الحكمة فيه، وأما السؤال علَى جهة الاسترشاد والتعلُّم، فغير داخل في هذا، ثم قيل له: اهْبِطْ بِسَلامٍ، وذلك عند نزوله من السفينة، والسلام هنا: السلامة والأمن، والبركات الخيرُ والنموُّ في كلِّ الجهات، وهذه العِدَةُ، تعمُّ جميع المؤمنين إِلى يوم القيامة، قاله محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ، ثم قطع قَوْلُهُ: وَأُمَمٌ عَلَى وجْه الابتداء، وهؤلاء هم الكُفَّار إلى يوم القيامة «1» . [سورة هود (11) : الآيات 49 الى 51] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وقوله سبحانه: تِلْكَ إِشارة إِلى القصة، وباقي الآية بيّن. وقوله عز وجل: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ... الآية: عَطْفٌ على قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: 25] . [سورة هود (11) : الآيات 52 الى 59] وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وقوله: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... الآية: الاستغفار: طَلَبُ المغفرة، فقَدْ يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإِنابة القَلْب وطَلَب الاسترشاد. وقوله: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، أي: بالإِيمان من كُفْركم، والتوبَةُ: عقْدٌ في ترك متوب

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 179) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 387) برقم: (48) بلا نسبة.

[سورة هود (11) : الآيات 60 إلى 66]

منه، يتقدَّمها علْمٌ بفساد المَتُوب مِنْه، وصلاحٍ ما يَرْجِعُ إِليه، ويقترن بها نَدَمٌ على فَارِطِ المَتُوبِ منه، لا يَنْفَكُّ منه، وهو من شروطها ومِدْراراً بناءُ تكثير، وهو مِنْ دَرَّ يَدُرُّ، وقد تقدَّمت قصة «عاد» . وقوله سبحانه: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ظاهره العمومُ في جميع ما يُحْسِنُ اللَّه تعالى فيه إِلى العباد، ويحتملُ أن خصّ القوة بالذكر، إذ كانوا أَقْوَى العَوَالِمِ، فوُعِدُوا بالزيادَةِ فيما بَهَرُوا فيه، ثم نهاهُمْ عن التولِّي عن الحقِّ، وقولهم: عَنْ قَوْلِكَ، أي: لا يكونُ قولُكَ سَبَبَ ترْكِنا، وقال ص: عَنْ قَوْلِكَ: حالٌ من الضمير في «تاركي» ، أي: صادِرِينَ عن قولك، وقيل: «عن» : للتعليل، كقولهِ: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة: 114] وقولهم: إِنْ نَقُولُ ... الآية: معناه: ما نَقُولُ إِلا أَن بعض آلهتنا التي ضَلَّلْتَ عَبَدَتَهَا أَصابَكَ بجُنُونٍ، يقال: / عَرَّ يَعُرُّ، واعترى يَعْتَرِي إِذا أَلمَّ بالشيء. وقوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً: أي: أنتم وأصنامكم، ويذكر أن هذه كَانَتْ له عليه السلام معجزةً، وذلك أنَّه حرَّض جماعتهم عَلَيْه مع انفراده وقوَّتهم وكُفْرهم، فلم يقدروا على نيله بسوء، وتُنْظِرُونِ: معناه: تؤخِّروني، أيْ: عاجلوني بما قَدَرْتم عليه. وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يريد: إِن أفعالَ اللَّه عزَّ وجلَّ في غاية الإحكام، وقوله الصّدق ووعده الحقّ، وعَنِيدٍ: من «عند» إذا عتا. [سورة هود (11) : الآيات 60 الى 66] وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وقوله سبحانه: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ... الآية: حَكَمَ عليهم سبحانه بهذا لموافاتهم على الكُفْر، ولا يُلْعَنُ معيَّنٌ حُيٌّ: لا مِنْ كافرٍ، ولا من فاسقٍ، ولا من بهيمةٍ،

كلُّ ذلك مكروهٌ بالأحاديث «1» . ت: وتعبيره بالكراهَةِ، لعلَّه يريد التحريمَ، وَيَوْمَ: ظَرفٌ، ومعناه: إِن اللعنة علَيْهم في الدُّنيا، وفي يوم القيامة، ثم ذكَر العلَّة الموجِبَةَ لذلك، وهي كُفْرهم بربهم، وباقي الآية بيّن. وقوله عز وجل: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ... الآية: التقديرُ: وأرسلنا إلى ثمود وأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ: أي: اخترعكم، وأوْجَدكم، وذلك باختراع آدم عليه السلام. وقال ص: مِنَ الْأَرْضِ: لابتداءِ الغاية باعتبار الأصلِ المتولَّدِ منه النباتُ المتولَّدُ منه الغذاءُ المتولَّدُ منه المَنِيُّ ودَمُ الطَّمْثِ المتولَّدُ عنه الإِنسان. انتهى. وقد نقل ع «2» : في غير هذا الموضع نَحْوَ هذا، ثم أشار إِلى مرجوحيَّته، وأَنَّه داعٍ إِلى القول بالتولُّد، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «3» : قوله تعالى: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها: أي: خَلَقَكم لعمارتها، ولا يصحُّ أنْ يقال: هو طَلَبٌ من اللَّه لعمارتها كما زعم بعضُ الشَّافعيَّة. ت: والمفهومُ من الآية أنَّها سيقَتْ مساق الامتنان عليهم. انتهى. وقولهم: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا، قال جمهور المفسِّرين: معناه: مسوَّداً نؤمِّل فيك أنْ تكون سيِّداً سادًّا مسدَّ الأكابِرِ، وقولهم: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، معنى: مُرِيبٍ: ملبس متهم، وقوله: أَرَأَيْتُمْ: أي: أتدبرتم، فالرؤية قلبيّة، وآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً، يريد: النبوَّة وما انضاف إِليها.

_ (1) قد ورد في تحريم اللعن عدة أحاديث منها، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من لعن مؤمنا فهو كقتله» . أخرجه البخاري (10/ 479) كتاب «الأدب» باب: ما ينهى من السباب واللعن، حديث (6047) . ومنها حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعانا» . أخرجه مسلم (4/ 2005) كتاب «البر والصلة» باب: النهي عن لعن الدواب وغيرها، حديث (84/ 2597) ، وأحمد (2/ 337) ، والبيهقي (10/ 193) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 315- بتحقيقنا) . ومنها أيضا حديث عبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس المؤمن بالطّعان ولا باللّعان ولا الفاحش ولا البذيء» . أخرجه الترمذي (4/ 308) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في اللعنة، حديث (1977) ، وأحمد (1/ 405) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (117) ، والحاكم (1/ 12) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 183) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1059) .

[سورة هود (11) : الآيات 67 إلى 74]

وقال ص: قد تقرّر في أَرَأَيْتُمْ أنها بمعنى أخبروني. انتهى. وال تَخْسِيرٍ هو من الخسَارَةِ، وليس التخْسِيرُ في هذه الآية إِلا لهم، وفي حَيِّزِهم، وهذا كما تقولُ لمن تُوصِيهِ: أَنا أريدُ بكَ خَيْراً، وأَنْتَ تريدُ بي شَرًّا. وقال ص: غَيْرَ تَخْسِيرٍ: من خَسِرَ، وهو هنا للنسبيَّةِ ك «فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ» إِذا نسبتَهُ إِليهما. ت: ونقل الثعلبيّ عن الحسيْنِ بْنِ الفَضْل، قال: لم يكُنْ صَالِحٌ في خسارةٍ، حين قال: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وإِنما المعنى: ما تزيدُونَني بما تقولُونَ إِلاَّ نسبتي إِياكم للخَسَارة، وهو مِنْ قول العرب: فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ إِذا نسبته إِلى الفسوق والْفُجور. انتهى. وهو حسنٌ. وباقي الآية بيّن قد تقدّم الكلام في قصصها. [سورة هود (11) : الآيات 67 الى 74] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ: قال أبو البقاء: في حَذْف التاءِ من «أخذ» ثلاثةُ أَوْجُهٍ: أحدها: أنه فَصَلَ بين الفعل والفاعل. والثاني: أن التأنيثَ غير حقيقيٍّ. والثالث: أن الصيْحَة بمعنى الصِّيَاحِ، فحُمِلَ على المعنى، انتهى. وقد أشار ع» : إِلى الثلاثَة، واختار الأخير. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى: الرسُلُ: الملائكة، قال المَهْدوِيُّ: بِالْبُشْرى يعني: بالولدِ، وقيل: البشرى بهلاك قوم لوط انتهى.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 186) .

قالُوا سَلاماً: أي: سلَّمنا عليك سلاماً، وقرأ حمزة «1» والكسائي: «قَالُوا سَلاَماً قالَ سِلْمٌ» ، فيحتمل أنْ يريد ب «السِّلْمِ» السلامَ، ويحتمل أن يريد ب «السّلم» ضدّ الحرب، وحَنِيذٍ: بمعنى: محنوذ، ومعناه: بعجْلٍ مشويٍّ نَضِجٍ، يقْطُر ماؤه، وهذا القَطْر يفصلُ الحَنيذَ من جملة المشويَّات، وهيئة المحنُوذِ في اللغة: / الذي يُغَطَّى بحجارةٍ أو رَمْلٍ مُحَمًّى أو حائل بينه وبيْن النَّار يغطى به، والمُعَرَّض: من الشِّواء الذي يُصَفَّف على الجَمْر، والمُضَهَّبِ: الشِّوَاءُ الذي بينه وبين النَّار حائلٌ، ويكون الشِّواء عليه، لا مَدْفُوناً به، والتَّحُنِيذُ في تضمير الخَيْل: هو أنْ يغطَّى الفَرَس بِجِلٍّ على جُلٍّ ليتصبّب عرقه، ونَكِرَهُمْ على ما ذكر كثيرٌ من النَّاس، معناه: أَنْكَرهم وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً من أجْل امتناعهم من الأكل إِذ عُرْفُ مَنْ جاء بِشَرٍّ أَلاَّ يأْكل طعامَ المنْزُولِ به، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «2» : ذهب الليثُ بْنُ سَعْدٍ إلى أنّ الضّيافة واجبة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ومَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ» «3» ، وفي رواية: «ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يثوي «4» عنْدَهُ حتَّى يُحْرِجَهُ» «5» وهذا حديثٌ صحيحٌ، خرَّجه الأئمةِ، واللفظ للترمذيِّ، وذهب علماء الفقْه إِلى: أن الضيافة لا تجبُ، وحملوا الحديثَ على النَّدْب. قال ابنُ العربيِّ: والذي أقولُ به أن الضيافَةَ فَرْضٌ على الكفَايَةِ، ومِنَ الناسِ مَنْ قال: إِنها واجبةٌ في القُرَى حيثُ لا مَأْوَى ولا طَعَام بخلاف الحواضر لتيسّر ذلك فيها.

_ (1) ينظر: «السبعة» (337- 338) ، و «الحجة» (4/ 359) ، و «إعراب القراءات السبع» (1/ 288) و «حجة القراءات» (346) ، و «الإتحاف» (2/ 130) و «المحرر الوجيز» (3/ 187) ، و «البحر المحيط» (5/ 242) ، و «الدر المصون» (4/ 112) ، و «العنوان» (108) ، و «شرح شعلة» (431) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1061) . (3) ينظر: الحديث الآتي. [.....] (4) الثّواء: طول المقام. ينظر: «لسان العرب» (524) . (5) أخرجه البخاري (10/ 460) كتاب «الأدب» باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6019) ، وباب: إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه (6135) ، و (11/ 314) الرقاق باب: حفظ اللسان (6476) ، ومسلم (3/ 1353) في اللقطة، باب: الضيافة ونحوها (14، 16/ 48) ، وأبو داود (2/ 369) كتاب «الأطعمة» باب: ما جاء في الضيافة (3748) ، والترمذي في «البر والصلة» باب: ما جاء في الضيافة، وغاية الضيافة كم هو؟ (1967) ، وابن ماجه (2/ 1212) في «الأدب» باب: حق الضيف (3675) ، وأحمد (4/ 31) (6/ 385) ، ومالك (2/ 929) في كتاب «صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم» باب: جامع ما جاء في الطعام، والشراب (22) ، والبيهقي (9/ 197) ، والدارمي (2/ 98) ، والحميدي (2/ 262) برقم: (576) ، والبغوي في شرح السنة (6/ 104) برقم: (2896) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي به مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

[سورة هود (11) : الآيات 75 إلى 76]

قال ابنُ العربيِّ: ولا شكَّ أن الضيْفَ كريمٌ، والضِّيافة كرامَةٌ، فإِن كان عديماً، فهي فريضة انتهى، وأَوْجَسَ معناه: أحس والتوجيس: ما يعتري النفْسَ عنْد الحَذَرِ، وأوائلِ الفَزَعِ. وقوله سبحانه: فَضَحِكَتْ قال الجمهور: هو الضَّحِكُ المعروفُ، وذكر الطبري «1» أن إِبراهيم عليه السلام لَمَّا قَدَّم العجْل، قالوا له: إِنَّا لا نأكل طعاماً إِلاَّ بثمنٍ، فقال لهم: ثمنُهُ: أنْ تذْكُروا اللَّه تعالَى عليه في أَوَّله، وتَحْمَدوه في آخره، فقال جبريلُ لأصحابه: بحَقٍّ اتخذ اللَّهُ هَذَا خَلِيلاً، ثم بَشَّر الملائكةُ سَارَّة بإِسحاق، وبأَنَّ إِسحاقَ سَيَلِدُ يعقُوبَ، ويسمَّى ولَدُ الوَلَد وراء، وهو قريبٌ من معنى «وراء» في الظرف، إِذ هو ما يكونُ خَلْف الشيء وبَعْده. وقال ص: «وراء» هنا: استعمل غَيْرَ ظرفٍ، لدخولِ «مِنْ» عليه، أي: ومن بعد إسحاق. انتهى. وقولها: يا وَيْلَتى: الألفُ بَدَلٌ من ياء الإِضافة، أصلها: يَا وَيْلَتِي، ومعنى: «يَا وَيْلَتَا» في هذا الموضع: العبارةُ عَمَّا دَهَمَ النَّفْسَ من العَجَبِ في ولادة عجوز، ومِنْ أَمْرِ اللَّهِ: واحدُ الأمور. وقوله سبحانه: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ: يحتمل أنْ يكون دعاءً، وأنْ يكون خبراً. ص: ونصبُ أَهْلَ الْبَيْتِ على النداءِ أو على الاختصاص، أو على المَدْحِ، انتهى. وهذه الآية تعطي أَنَّ زوجة الرجل مِنْ أَهْلِ بيتِهِ. ت: وهي هُنَا منْ أهْل البيت على كلِّ حال، لأنها من قرابَتِهِ، وابنة عَمِّه، و «الْبَيْتُ» ، في هذه الآية، وفي «سورة الأحزاب» بيتُ السكْنَى. وقوله: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا: أي: أخذ يُجادِلُنا «في قوم لوط» . [سورة هود (11) : الآيات 75 الى 76] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

_ (1) ذكره الطبري (7/ 70- 71) بنحوه برقم: (18328) .

وقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وُصِفَ عليه السلام بالحِلْمِ، لأنه لم يغضَبْ قطُّ لنفسه إِلاَّ أَنْ يغضب للَّه، وأمْرُهُ بالإِعراض عن المُجَادلة يقتضي أنها إِنَّما كانَتْ في الكفرة، حرصا على إسلامهم، وأَمْرُ رَبِّكَ واحدُ الأمور، أي: نفذ فيهم قضاؤُهُ سبحانه، وهذه الآية مقتضيةٌ أنَّ الدعاء إِنما هو أنْ يوفِّق اللَّه الداعِيَ إِلى طَلَب المَقْدور، فأما الدُّعاء في طَلَبِ غير المقدورِ، فغير مُجْدٍ ولا نافع. ت: والكلام في هذه المسألة متَّسعٌ رَحْبٌ، ومن أحسن ما قيل فيها قولُ الغَزَّالِيِّ في «الإِحياء» : فإِنْ قلت: فما فائدة الدعاء، والقضاء لا يرد؟ فالجوابُ: أَنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاءِ بالدعاءِ، فالدعاءُ سَبَبٌ لردِّ البلاء، واستجلاب الرحمة كما أن التُّرْسَ سبَبٌ لردِّ السهم، والماء سبَبٌ لخروجِ النباتِ، انتهى. وقد أطال في المسألة، ولولا الإِطالة لأَتَيْتُ بِنُبَذٍ يثلج لها الصِدْرُ، وخرَّجَ الترمذيُّ في «جامعه» عن أبي خزامة، واسمه رفاعة، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول/ الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر اللَّهُ» «1» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وفي بعض نُسَخِهِ: حسنٌ صحيحٌ، انتهى. فليس وراء هذا الكلام من السيِّد المعصوم مرمًى لأَحدٍ، وتأمَّل جواب الفارُوق لأبِي عُبَيْدة، حِينَ هَمَّ بالرجوعِ مِنْ أجْلِ الدخول علَى أرض بها الطاعون، وهي الشام «2» .

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 399- 400) كتاب «الطب» باب: ما جاء في الرقى والأدوية، حديث (2065) ، وابن ماجه (2/ 1137) كتاب «الطب» باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث (3437) ، كلاهما من طريق الزهري، عن أبي خزامة عن أبيه، به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولا نعرف لأبي خزامة عن أبيه غير هذا الحديث. وأخرجه الحاكم (4/ 402) ، والطبراني في «الكبير» (3/ 214- 215) رقم: (3090) من طريق صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، عن حكيم بن حزام به، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 88) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه صالح بن أبي الأخضر، وهو ضعيف، يعتبر حديثه. (2) هذا القول ورد في حديث صحيح، أخرجه البخاري (10/ 189) كتاب «الطب» باب: «ما يذكر في الطاعون» رقم: (5729) . من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان يسرع لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام- قال ابن عباس: فقال عمر: «ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، فأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا عليه. قال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. -

[سورة هود (11) : الآيات 77 إلى 83]

[سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وقوله سبحانه: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً: الرسُل هنا: الملائكة أضيافُ إِبراهيم. قال المهدويُّ: والرسُلُ هنا: جبريلُ وميكائيلُ وإِسرافيلُ، ذكره جماعة من المفسِّرين. انتهى، واللَّه أعلم بتعيينهم، فإِن صحَّ في ذلك حديثٌ، صِيَر إِليه، وإِلا فالواجبُ الوقف، وسِيءَ بِهِمْ أي: أصابهُ سُوءٌ، و «الذَّرْع» : مصدرٌ مأخوذٌ من الذِّراع، ولما كان الذراعُ موضعَ قُوَّةِ الإِنسان، قيل في الأمر الذي لا طَاقَةَ له به: ضَاقَ بِهَذَا الأمْرِ ذِرَاعُ فُلاَنٍ، وذَرْعُ فلانٍ، أيْ: حيلته بذراعِهِ، وتوسَّعوا في هذا حتَّى قلبوه، فقالوا: فلانٌ رَحْبُ الذّراع، إذا وصفوه باتساع القدرة، وعَصِيبٌ: بناء اسم فاعل، معناه: يعصب

_ - وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوهم له فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوهم فلم يختلف عليه منهم رجلان. قالوا: نرى أن نرجع بالناس ولا نقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: «إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه» . قال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عُبَيْدة، نَعَمْ نَفِرُّ من قدر اللَّه إِلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه» ، قال: فحمد الله ثم انصرف. وأخرجه مسلم (4/ 1740) كتاب «السلام» باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (98/ 2219) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 217- 218) كتاب «النكاح» باب: ولا يورد ممرض على مصح فقد يجعل الله تعالى بمشيئته مخالطته إياه سببا لمرضه، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 303- 304) كتاب «الكراهية» باب: الرجل يكون به الداء هل يجتنب أم لا؟، وعبد الرزاق (11/ 147) كتاب «الجامع» باب: الوباء والطاعون، رقم: (20159) نحوه

النَّاسَ بالشرِّ، فهو من العِصَابة، ثم كَثُر وصفهم لليَوْمِ بعصيبٍ ومنه: [الوافر] وَقَدْ سَلَكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ «1» وبالجملة ف «عصيب» : في موضع شديد وصعب الوطأة، ويُهْرَعُونَ معناه: يُسْرِعون، وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ: أيْ: كَانت عادتهم إِتيان الفاحشة في الرجال. وقوله: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ: يعني: بالتزويجِ، وقولهم: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ: إِشارة إِلى الأضيافِ، فلما رأَى لوطٌ استمرارهم في غَيِّهم، قال: على جهة التفجُّع والاستكانة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً. قال ع «2» : «لَوْ أنَّ» : جوابها محذوفٌ، أي: لَفَعَلْتُ كذا وكذا، ويروَى أنَّ الملائكةَ وَجَدَتْ عليه حين قال هذه الكلماتِ، وقالوا: إِنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطاً لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ «3» فَالْعَجَبُ مِنْهُ لما استكان» . قال ع «4» : وإِنما خشي لوطٌ عليه السلام أنْ يمهل اللَّهُ أولئك العِصَابَةَ حتى يَعْصُوهُ في الأضيافِ، كما أمهلهم فيما قَبْلَ ذلك، ثم إِن جبريل عليه السلام ضَرَبَ القوم بجَنَاحِهِ، فطمس أعينهم، ثم أمروا لوطاً بالسُّرَى، وأعلموه بأنَّ العذاب نازلٌ بالقوم، فقال لهم لوطٌ: فَعَذِّبوهم السَّاعة، فقالوا له: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أي: بهذا أمَرَ اللَّه، ثم آنسُوه في قَلَقِهِ بقولهم: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، و «القِطْع» : القطعة من الليل. قال ص: إِلَّا امْرَأَتَكَ: ابن كثيرٍ وأبو عمرٍو بالرفع، والباقون بالنَّصْبِ «5» ، فقيل: كلاهما استثناءٌ من أَحَدٌ، وقيل: النصب على الاستثناء من بِأَهْلِكَ انتهى.

_ (1) عجز بيت وصدره: وكنت لزاز خصمك أم أعرّد ... ....... ينظر: «مجاز القرآن» (1/ 294) ، «تفسير الطبري» (12/ 47) «الدر المصون» (4/ 117) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 195) . (3) تقدم تخريجه وهو حديث: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ، الحديث. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 195) . (5) ينظر: «الحجة» (4/ 369) ، و «إعراب القراءات السبع» (1/ 292) ، و «حجة القراءات» (347) ، و «الإتحاف» (2/ 133) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 196) ، و «البحر المحيط» (5/ 248) ، و «الدر المصون» (4/ 119) ، و «السبعة» (338) ، و «إعراب القراءات» (1/ 292) ، و «شرح الطيبة» (4/ 370) ، و «شرح شعلة» (431) .

[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 85]

وقوله سبحانه: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ذهبت فرقةٌ، منهم ابن عباس إِلى أَن الحجارة التي رُمُوا بها كَانَتْ كالآجُرِّ المطبوخِ «1» ، كانَتْ من طينٍ قد تحجَّر، وأَن سِجِّيلاً معناها: ماءٌ وطينٌ، وهذا القول هو الذي عليه الجمهورُ، وقالت فرقة: «من سِجِّيلٍ» : معناه: مِنْ جهنَّم لأنه يقالُ: سِجّيل وسِجِّين، حَفِظَ فيها بَدَلَ النُّون لاماً، وقيل غير هذا ومَنْضُودٍ: معناه: بعضه فوق بعض، متتابع، ومُسَوَّمَةً: أي: مُعْلَمةٌ بعلامة. وقوله تعالى: وَما هِيَ: إِشارةٌ إِلى الحِجَارة، والظالمون: قيل: يعني قريشاً، وقيل: يريد عمومَ كلِّ مَن اتصف بالظُّلْمِ، وهذا هو الأصَحُّ، وقيل: يعني بهذا الإِعلامَ بأَنَّ هذه البلادَ قريبةٌ من مكَّة، وما تقدّم أبين. [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 85] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) وقوله عز وجل: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ... الآية: قوله: بِخَيْرٍ: قال ابن عباس: معناه: في رُخْصٍ من الأسعار «2» ، وقيل: قوله: بِخَيْرٍ: عامّ في جميع نعم الله تعالى، وتَعْثَوْا: معناهُ تَسْعُوْنَ في فسادٍ، يقال: عَثَا يَعْثُو، وعثى يعثي إذا أفسد. [سورة هود (11) : الآيات 86 الى 94] بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94)

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 198) . (2) أخرجه الطبري (7/ 97) برقم: (18481) ، وابن عطية (3/ 199) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 626) ، وعزاه إلى أبي الشيخ.

وقوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ: قال ابن عباس: معناه: الذي يُبْقِي اللَّه لكُمْ من أموالكم بَعْد توفيتكم/ الكَيْلَ والوَزْن خيرٌ لكم مما تستكثرونَ به على غير وجْهه «1» ، وهذا تفسيرٌ يليق بلفظ الآية، وقال مجاهد: معناه: طاعةُ اللَّه «2» ، وهذا لا يعطيه لفْظُ الآية. قال ص: وقرأ الحسنُ «3» : «تَقِيَّةُ اللَّهِ» ، أي: تقواه. قال ع «4» : وإِنما المعنى عندي: إِبقاءُ الله عليكم إن أطعتم، وقولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا: قالت فرقة: أرادوا الصلواتِ المعروفةَ، وروي أن شعيباً عليه السلام كان أكْثَرَ الأنبياءِ صلاةً، وقال الحسنُ: لم يَبْعَث اللَّهُ نبيًّا إِلا فرض عَلَيْه الصَّلاة والزَّكَاة «5» ، وقيل: أرادوا: أدعواتُكَ، وذلك أنَّ من حَصَّل في رتبةٍ مِنْ خيرٍ أَو شَرٍّ، ففي الأكثر تَدْعُوه رتبته إِلى التزيُّد من ذلك النوْعِ، فمعنى هذا: لما كنْتَ مصلِّياً، تجاوزْتَ إِلى ذمِّ شرعنا وحالِنا، فكأن حاله من الصلاة جَسَّرته علَى ذلك، فقيل: أَمَرَتْه كما قال تعالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] . قال ص، وع «6» : أَوْ أَنْ نَفْعَلَ: معطوفٌ على مَا يَعْبُدُ، و «أو» للتنويعِ، انتهى. وظاهر حالِهِمُ الذي أشاروا إِليه هو بَخْسُ الكيل والوَزْنِ الذي تقدَّم ذكره، وروي أن الإِشارة إِلى قَرْضِهِمْ الدِّينار والدِّرْهم، وإِجراء ذلك مع الصَّحِيح على جهة التدْلِيسِ قاله محمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيِّ «7» ، وتؤوّل أيضا بمعنى تبديل السّكك التي يقصد بها أكْلُ أموالِ الناس، قال ابنُ العربيِّ «8» : قال ابن المسيَّب: قطع الدنانير والدَّرَاهم مِنَ الفساد في

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 199) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 398) . [.....] (2) أخرجه الطبري (7/ 99) برقم: (18491، 18496) ، وذكره ابن عطية (3/ 199) ، والبغوي (2/ 861) بنحوه، وابن كثير (2/ 456) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 626) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) ينظر: «البحر المحيط» (5/ 253) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 199) . (5) ذكره ابن عطية (3/ 200) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 200) . (7) أخرجه الطبري (7/ 100) برقم: (18502- 18503) ، وذكره ابن عطية (3/ 201) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 627) ، وعزاه إلى ابن المنذر. (8) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1064) .

الأرْضِ وكذلك قال زيد بن أسْلَمَ في «1» هذه الآية، وفَسَّرها به، ومثله عن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ من رواية مالكٍ، قال ابنُ العَرَبِيِّ: وإِذا كان قَطْعُ الدنانير والدَّراهمِ وقَرْضُها من الفسَادِ، عُوقِبَ مَنْ فَعَلَ ذلك، وقَرْضُ الدراهم غَيْرُ كَسْرها فإِن الكسر: فسادُ الوصفُ، والقَرْض: تنقيصٌ للقَدْر، وهو أَشَدُّ من كَسْرها، فهو كالسرقة. انتهى من «الأحكام» مختصراً، وبعضه بالمعنَى، وقولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ: قيل: إِنهم قالوه على جهة الحقيقة، أي: أنت حليم رشيدٌ، فلا ينبغي لك أنْ تَنْهَانا عن هذه الأحوالِ، وقيل: إِنما قالوا هذا على جهة الاستهزاء. وقوله: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً: أي: سالماً من الفَسَادِ الذي أدْخَلْتُم في أمْوالكم، وجوابُ الشَّرْط الذي في قوله: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي محذوفٌ، تقديره: أَأَضِلُّ كما ضَلَلْتُمْ، أو أتركُ تبليغَ رِسَالَةِ ربِّي، ونحو هذا. وقوله: لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ: معناه: لا يكسبنّكم، وشِقاقِي: معناه: مُشَاقتي، وَعَدَاوَتِي و «أَنْ» : مفعولةٌ ب يَجْرِمَنَّكُمْ. قال ص، وع «2» : وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ: أي: بزمانٍ بعيدٍ، أو بمكانٍ. قال ص: وَدُودٌ بناءُ مبالغةٍ مِنْ وَدَّ الشَّيْءَ، إِذا أَحَبَّه، وآثره. ع «3» : ومعناه: أن أفعاله سُبْحَانَهُ وَلُطْفه بعباده لَمَّا كَانَتْ في غاية الإِحْسَان إِليهمْ، كانَتْ كَفِعْلِ مَنْ يتودَّد وَيَوَدُّ المصنوعَ له، وقولُهم: مَا نَفْقَهُ: كقولِ قريشٍ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] ، والظاهر من قولهم: إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً: أنهم أرادوا ضَعْفَ الانتصار والقُدْرة، وأنَّ رهطه الكَفَرة يُرَاعَوْنَ فيه، والرَّهْط: جماعةُ الرجُلِ، وقولهم: لَرَجَمْناكَ أي: بالحجارة قاله ابن زَيْد، وقيل «4» : بالسَّبِّ باللسان، وقولهم: بِعَزِيزٍ: أي: بذي منعةٍ وعزةٍ، ومنزلةٍ، و «الظِّهْرِيُّ» : الشيءُ الذي يكونُ وراءَ الظهر، وذلك يكون في الكَلاَم على وجهين: إِما بمعنى الاطراح كما تقولُ: جَعَلْتَ كلامِي وَرَاءَ

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 100) برقم: (18501) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 627) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 201- 202) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 202) . (4) أخرجه الطبري (7/ 104) برقم: (18527) ، وذكره ابن عطية (3/ 202) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 630) ، وعزاه لأبي الشيخ.

[سورة هود (11) : الآيات 95 إلى 99]

ظَهْرِكَ، ودَبْرَ أُذْنِكَ، وعلى هذا المعنَى حمل الجمهورُ الآية، أي: اتخذتم أمْرَ اللَّه وشَرْعَه وراء ظُهُوركم، أي: غَيْرَ مراعًى، وإِما بأَنْ يستند إِليه ويلجأ كما قال عليه السلام: «وألجأتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ» «1» وعلى هذا المعنَى حمل الآية قَوْمٌ: أي: وأنتم تتَّخذون اللَّه سَنَدَ ظُهُورِكُمْ وعِمَادَ آمالكم. وقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ معناه: على حالاتكم، وفيه تهديدٌ. وقوله: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ: والصحيحُ: أَن الوقْفَ في قوله: إِنِّي عامِلٌ. وقوله سبحانه: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ... الآية: الصَّيْحَةُ: هي صيحة/ جبريل عليه السلام. [سورة هود (11) : الآيات 95 الى 99] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) وقوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ... الآية: يَغْنَوْا: معناه: يقيمون بِنَعْمَةٍ وخَفْضِ عيشٍ ومنه المَغَانِي، وهي المنازلُ المعمورةِ بالأهْل، وضمير «فيها» عائد على الديار. وقوله: بُعْداً: مصدرٌ دعا به كقولك: سُحْقاً للكافرين، وفارَقَتْ هذه قولَهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل: 32] لأن بُعْداً إِخبارٌ عن شيء قد وَجَب وتحصَّل، وتلك إِنما هي دعاء مرتجى، ومعنى البُعْد في قراءة: «بَعِدَتْ» - بكسر العين-: الهلاكُ، وهي قراءة الجمهور» ومنه قول خِرْنِقَ بِنْتِ هَفَّانَ: [الكامل] لاَ يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وآفَةُ الجُزْرِ «3»

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 204) ، و «البحر المحيط» (5/ 257) ، و «الدر المصون» (4/ 127) . (3) البيت في «ديوانها» ص: (43) ، و «الأشباه والنظائر» (6/ 231) ، و «أمالي المرتضى» (1/ 205) ، و «الإنصاف» (2/ 468) ، و «أوضح المسالك» (3/ 314) ، «الحماسة البصريّة» (1/ 227) ، و «خزانة الأدب» (5/ 41- 42، 44) ، و «الدر» (6/ 14) ، و «سمط اللآلي» ص: (548) ، و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 16) ، و «شرح التصريح» (2/ 116) ، و «الكتاب» (1/ 202) ، (2/ 57- 58، 64) ، -[.....]

ومنه قولُ مالكِ بْنِ الرَّبيعِ: [الطويل] يَقُولُونَ لاَ تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُوننِي ... وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيَا «1» وأما من قرأ: «بَعُدَتْ» ، وهو السُّلَمِيُّ وأبو حَيْوَةَ «2» فهو من البُعْدِ الذي هو ضدُّ القُرْب، ولا يُدْعَى به إِلا على مبغوضٍ. قال ص: وقال ابْنُ الأنباريِّ: من العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ الَّذي هو ضِدُّ القُرْب، فيقولون فيهما: بَعُدَ يَبْعُدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ. انتهى. وقوله سبحانه: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ: أي: وخالفوا أمْرَ موسَى، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، أي: بمرشِدٍ إِلى خير. وقال ع «3» : بِرَشِيدٍ: أي: بمصيب في مَذْهَبِهِ يَقْدُمُ قَوْمَهُ: أي: يقدمهم إلى النار، والْوِرْدُ، في هذه الآية: هو ورودُ دُخُولٍ. قال ص: والْوِرْدُ: فاعل «بئس» ، والْمَوْرُودُ: المخصُوصُ بالذَّمِّ، وفي الأول حذْف، أيْ: مَكانُ الورْد، ليطابق المخصُوصَ بالذَّمِّ. وجوَّز ع «4» : وأبو البقاءِ أنْ يكونُ «المَوْرُود» صفةً لمكان الوِرْدِ، والمخصوص محذوفٌ، أي: بِئسٍ مكانُ الوِرْدِ المورودُ النارُ، و «الوِرْد» : يجوز أنْ يكون مصْدراً بمعنى الوُرُود، أو بمعنى الوَارِدَة من الإِبل، وقيل: الوِرْد: بمعنى الجَمْعِ للوَارِدِ، والمَوْرُود: صفةٌ لهم، والمخصُوصُ بالذمِّ ضميرٌ محذوف، أي: بئس القوم المَوْرُود بهم هُمْ، انتهى. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً: يريد: دارَ الدنيا. وقوله: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي: بِئسَ العطاءُ المعطَى لهم، وهو العذاب، والرّفد

_ و «لسان العرب» (5/ 214) (نضر) ، و «المحتسب» (2/ 198) ، و «المقاصد النحويّة» (3/ 602) ، (4/ 72) ، وبلا نسبة في «رصف المباني» ص: (416) ، و «شرح الأشموني» (2/ 399) . (1) البيت من الطويل، وهو لمالك بن الريب في «ديوانه» ص: (46) ، و «خزانة الأدب» (2/ 338) ، (5/ 46) ، و «شرح شواهد المغني» (2/ 630) ، و «لسان العرب» (3/ 91) (بعد) ، وبلا نسبة في «مغني اللبيب» (1/ 247) . (2) ينظر: «مصادر القراءة السابقة» ، و «الشواذ» ص: (65) ، و «المحتسب» (1/ 327) ، و «الكشاف» (2/ 425) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 204) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 205) .

[سورة هود (11) : الآيات 100 إلى 106]

في كلام العرب: العطيّة. [سورة هود (11) : الآيات 100 الى 106] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) وقوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى ... الآية: ذلِكَ: إِشارة إِلى ما تقدَّم من ذكْر العُقُوبات النَّازلة بالأُمَمِ المذكُورة، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ: أي: منها قائمُ الجُدُرَاتِ، ومتهدِّمٌ دائر، والآيةَ بجملتها متضمِّنة التخويفَ وضَرْبَ المثلِ للحاضرين مِنْ أَهْل مكَّة وغيرهم، وال تَتْبِيبٍ: الخُسْرَانُ ومنه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] . وقوله: وَكَذلِكَ: الإِشارةُ إِلى ما ذكر من الأخذات في الأمَم، وهذه اية وعيدٍ يعمُّ قرى المُؤمنين والكافرينَ، فإِنَّ «ظالمة» : أعمُّ من «كافرة» ، وقد يمهل اللَّه تعالَى بعْضَ الكَفَرَة، وأما الظَّلَمَةُ، فمعاجَلُون في الغَالِبِ، وقد يُمْلي لَبَعْضِهِمْ، وفي الحديث، من رواية أبي موسَى أن رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ، لَمْ يُفْلِتْه» ، ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ... الآية «1» ، وهذه قراءة الجماعة، وهي تعطي بقاءَ الوَعِيدِ، واستمراره في الزمان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً: أي: لعبرةً وعلامةَ اهتداءٍ، لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ثم عَظَّمَ اللَّه أمْرَ الآخرة، فقالَ: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وهو يومُ الحَشْر، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يَشْهَدُهُ الأوَّلون والآخِرُون من الملائِكَةِ، والإِنس، والجنِّ والحيوانِ في قول الجمهور، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر.

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 205) كتاب «التفسير» باب: وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظالمة، حديث (4686) ، ومسلم (4/ 1997- 1998) كتاب «البر والصلة» باب: تحريم الظلم، حديث (61/ 2583) ، والترمذي (5/ 288) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة هود، حديث (3110) ، وابن ماجه (2/ 1332) كتاب «الفتن» باب: العقوبات، حديث (4018) ، والنسائي في «التفسير» رقم: (265) ، من حديث أبي موسى الأشعري. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 632) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» .

[سورة هود (11) : الآيات 107 إلى 112]

قال ص: والظاهر أنَّ ضمير فاعل: «يأت» : يعودُ على ما عاد عَلَيْه ضَميرُ «نُؤَخِّره» ، والناصبُ ل «يَوْم» «لا تَكَلَّمُ» ، والمعنى: لا تكَلَّمُ نَفْسٌ يوم يأتي ذلك اليَوْمُ إِلا بإِذنه سبحانه. انتهى. وقوله تعالى: فَمِنْهُمْ: عائدٌ على الجمعِ الذي يتضمَّنه قوله: نَفْسٌ، إِذ هو اسمُ جِنْسٍ يراد به الجَمْعُ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وهي أصواتُ المكْروبين والمَحْزُونين والمعذَّبين، ونحو ذلك، قال قتادةُ: الزَّفير: أول صَوْتِ الحِمارِ، والشهيقُ: آخره «1» ، فصياحُ أهْل النَّار كذلك، وقال أبو العالية: «الزفير» : من الصدر، و «الشهيق» : من الحَلْق «2» ، والظاهر ما قال أبو العالية. [سورة هود (11) : الآيات 107 الى 112] خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ: يُرْوَى عن ابن عباس: أَنَّ اللَّه خلق السموات والأرْضَ مِنْ نُورِ العَرْشِ، ثم يردهما إلى هنالك/ في الآخرة «3» ، فلهما ثَمَّ بَقَاءٌ دائمٌ، وقيل: معنى: ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ: العبارة عن التأبيدِ بما تَعْهَدُهُ العرب، وذلك أنَّ من فصيح كلامِهَا، إِذا أرادَتْ أَن تخبر عَنْ تأبيد شيء أنْ تقول: لاَ أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا أَمَدَ الدهْرِ، وما نَاحَ الحَمَامُ، وما دامت السموات والأرْضُ، وقيل غير هذا. قال ص: وقيل: المراد سموات الآخرةِ، وأَرْضها يدلُّ عليه قوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم: 48] انتهى. وأما قوله: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ: في الاستثناء ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها: أنه متَّصل، أي: إِلا ما شاء ربُّكَ من إِخراج الموحِّدين وعلَى هذا يكونُ قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا عاماً في الكَفَرَةِ والعُصَاةِ، ويكون الاستثناء من خالِدِينَ،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 114) برقم: (18582) ، وابن عطية (3/ 207) . (2) أخرجه الطبري (7/ 114) برقم) (18580، 18581) ، وذكره ابن عطية (3/ 207) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 208) .

وهذا قولُ قتادة وجماعةٍ «1» . الثَّاني: أنَّ هذا الاستثناء ليس بمتَّصل ولا منقطعٍ، وإِنما هو على طريق الاستثناء الذي نَدَبَ إِليه الشَّرْعُ في كلِّ كلام فهو على نحو قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ [الفتح: 27] . الثالث: أَنَّ «إِلا» في هذه الآية بمعنى «سوى» ، والاستثناء منقطعٌ، وهذا قول الفَرَّاء، فإِنه يقدِّر الاستثناء المنقطع ب «سِوَى» وسيبَوَيْهِ يقدِّره ب «لكن» ، أيْ: سوَى ما شاء اللَّه زائداً على ذلك ويؤيِّد هذا التأويلَ قوله بَعْدُ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وقيل: سِوَى ما أعد اللَّه لهم من أنواعِ العَذَاب، وأشدُّ من ذلك كلِّه سَخَطُهُ سبحانه عليهم، وقيل: الاستثناء في الآيتين من الكَوْنِ في النار والجنَّة، وهو زمانُ المَوْقِفِ، وقيل: الاستثناء في الآية الأولى: من طُول المُدَّة، وذلك على ما روي أَنَّ جهنم تَخْرَبُ، ويُعْدَمُ أهلُها، وتخفقْ أبوابُهَا، فهم على هذا يَخْلُدون حتَّى يصير أمرهم إِلى هذا. قال ع «2» : وهذا قولٌ محتملٌ، والذي رُوِيَ ونُقِل عن ابن مسعود وغيرهِ أنَّ ما يخلى من النَّار إِنما هو الدَّرْكُ الأَعلى المختصُّ بعصاة المؤمنين «3» ، وهذا الذي يسمَّى جَهَنَّمَ، وسُمِّي الكلُّ به تجوُّزاً. ت: وهذا هو الصوابُ- إِن شاء اللَّه- وهو تأويل صاحب «العاقبة» أنَّ الذي يَخْرَبُ ما يَخُصُّ عصاةَ المُؤْمِنِين، وتقدَّم الكلام على نظير هذه الآية، وهو قوله في «الأنعام» : خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 128] . قال ع «4» : والأقوال المترتِّبة في الاستثناء الأوَّلِ مرتبةٌ في الاستثناء الثاني في الذين سعدوا إِلاَّ تأويلَ مَنْ قال: هو استثناء المدة التي تخرَبُ فيها جهنَّم فإِنه لا يترتَّب هنا، وال مَجْذُوذٍ: المقْطُوع، والإِشارة بقوله: مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ إِلى كفَّار العرب، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ معناه: من العقوبةِ، وقال الداوديُّ عن ابن عباس: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ: قال: ما قُدِّر لهم من خَيْرٍ وشرٍّ انتهى «5» .

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 115) برقم: (18585- 18586) نحوه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 208) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 208) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 208) . (5) أخرجه الطبري (7/ 120) برقم: (18609) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 636) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ. [.....]

[سورة هود (11) : الآيات 113 إلى 115]

وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ: أي: اختلف الناسُ عَلَيْه، فلا يَعْظُم عليك، يا محمَّد، أمْرُ مَنْ كذَّبك. وقال ص: «فيه» : الظاهرُ عودُهُ على الكتاب، ويجوزُ أنْ يعود على موسَى، وقيل: «في» بمعنى «على» ، أي: عليه، انتهى. والكلمة هنا عبارةٌ عن الحُكْم والقضاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ: أي: لَفُصِلَ بين المُؤمن والكافر بنعيم هذا وعذاب هذا، ووَصَفَ الشَّك بالريب تقويةً لمعنى الشك، فهذه الآية يحتملُ أنْ يكونَ المراد بها أمة موسَى، ويحتمل أن يراد بها معاصرو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنْ يعمهم اللفظ أحْسَن، ويؤيِّده قوله: وَإِنَّ كُلًّا، وقرأ نافع «1» وابن كثير: «وإِنْ كُلاًّ لَمَا» وقرأ أبو عمرو، والكسائِيُّ بتشديد «إِنَّ» ، وقرأ حمزة وحَفْص بتشديد «إِنَّ» ، وتشديد «لَمَّا» ، فالقراءتان المتقدِّمتان بمعنًى ف «إِنَّ» فيهما على بابها، و «كُلاًّ» ، اسمها، وعُرْفُها أنْ تدخل على خبرها لامٌ، وفي الكلام قَسَمٌ تدخُلُ لامه أيضاً على خبر «إِنَّ» ، فلما اجتمع لامَانِ، فُصِلَ بينهما ب «ما» هذا قول أبي عليٍّ، والخبر في قوله: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وهذه الآية وعيدٌ، ومعنى الآية: أنَّ كل الخَلْقِ موفّى في عمله. وقوله عز وجل: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستقامة، / وهو عليها إِنما هو أمر بالدَّوَام والثبوت، وهو أمر لسائر الأمَّة، وروي أنَّ بعض العلماء رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النوْمِ، فقال: يَا رَسُولَ اللَّه، بَلَغَنَا عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» ، فَمَا الَّذِي شَيَّبَكَ مِنْ هُودٍ؟ فَقالَ لَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «2» . قال ع «3» : والتأويل المشهور في قوله عليه السلام: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» أَنه إِشارة إِلى ما فيها مما حَلَّ بالأُممِ السالفةِ، فكأَنَّ حَذَرَهُ على هذه مثل ذلك شيّبه عليه السلام. [سورة هود (11) : الآيات 113 الى 115] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)

_ (1) ينظر: «السبعة» (339) ، و «الحجة» (4/ 381) ، و «إعراب القراءات» (1/ 294) ، و «شرح الطيبة» (4/ 373) ، و «العنوان» (108) ، و «شرح شعلة» (432- 433) ، و «الإتحاف» (2/ 135) . (2) تقدم تخريجه في سورة «هود» دون قول: «فاستقم كما أمرت» . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 209) .

وقوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ... الآية: الرُّكُون: السُّكون إِلى الشيْء، والرضا به، قال أبو العالية: الركُونُ: الرِّضَا. قال ابنُ زَيْد: الرُّكُون: الادهان «1» . قال ع «2» : فالركون يقع على قليلِ هذا المعنَى وكثيرِهِ، والنهْيُ هنا يترتَّب من معنى الركُونِ على المَيْلِ إِلَيهم بالشِّرْك معهم إِلى أقلِّ الرُّتَبِ مِنْ ترك التّغيير عليهم مع القدرة، والَّذِينَ ظَلَمُوا هنا: هم الكَفَرَة، ويدخُلُ بالمعنى أَهْلُ المعاصي. وقوله سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ... الآية: لا خلاف أنَّ الصَّلاةَ في هذه الآية يرادُ بها الصلواتُ المفروضةُ، واختلفَ في طرفَيِ النَّهار وزُلَفِ اللَّيْل، فقيل: الطَّرَف الأوَّل: الصُّبْح، والثَّاني: الظُّهْر والعَصْر، والزُّلَف: المغرب والعشاء قاله مجاهد وغيره «3» ، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أَنَّهُ قَالَ فِي المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ: «هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ» «4» وقيل: الطَرَفُ الأوَّل: الصبحُ، والثاني: العصر قاله الحسن وقتادة «5» ، والزُّلَف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول، بل هي في غيرها. قال ع «6» : والأول أحسن الأقوالِ عِنْدِي، ورجَّح الطبريُّ «7» القوْلَ بأن الطرفين الصُّبْح والمغرب، وهو قول ابن عبَّاس وغيره، وإِنه لظاهر، إِلا أن عموم الصلوات الخمْسِ بالآية أَولَى، والزّلَف: الساعاتُ القريبُ بعضُها من بَعْضٍ. وقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذهب جمهورُ المتأوِّلين من صَحَابَةٍ وتابعينَ إِلى أن الحسناتِ يرادُ بها الصَلواتُ الخَمْسُ، وإِلى هذه الآية ذهَبَ عثْمانُ رضي اللَّه عنه في وضوئه على المَقَاعِدِ، وهو تأويلُ مالك، وقال مجاهد: الْحَسَناتِ:

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 124) برقم: (18620) ، وذكره ابن عطية (3/ 212) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 212) . (3) أخرجه الطبري (7/ 124) برقم: (18621- 18622- 18623) ، عن مجاهد برقم: (18624) ، عن محمد بن كعب القرظي، وبرقم: (18626) ، عن الضحاك، وذكر طرفا منه، وأخرج طرفه الآخر (7/ 127) برقم: (18649- 18650- 18651) ، عن مجاهد وبرقم: (18646- 18647- 18648) ، عن الحسن، وذكره ابن عطية (3/ 212) ، والبغوي (2/ 404) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 637) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 128) برقم: (18652) عن الحسن مرسلا، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 637) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (5) أخرجه الطبري (7/ 125) برقم: (18632- 18633- 18634- 18635) ، وذكره ابن عطية (3/ 212) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 404- 405) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 637) بنحوه. (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 212) . (7) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 124- 125) .

قول الرجُلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، وَلاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ «1» . قال ع «2» : وهذا كلُّه إِنما هو على جهة المِثَالِ في الحسنات، ومِنْ أجل أنَّ الصلواتِ الخمْسَ هي معظَمُ الأعمال، والذي يظهر أنَّ لفظ الآية عامٌّ في الحسنات، خاصٌّ في السيئات بقوله عليه السلام: «مَا اجتنبت الكَبَائِرُ» ، وروي أنَّ هذه الآية نزلَتْ في رجلٍ من الأنصار، وهو أبو اليُسْرِ بْنُ عَمْرو، وقيل: اسمه عَبَّاد، خَلاَ بامرأةٍ، فقَبَّلها، وتلذَّذ بها فيما دُونَ الجِمَاع، ثم جاء إِلى عُمَر، فشكا إِليه، فقال له: قَدْ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فاستر عَلَى نَفْسِكَ، فَقَلِقَ الرجُلُ، فجاء أبا بَكْر، فشكا إِليه، فقال له مثْلَ مقالة عمر، فقلق الرجل، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَصَلَّى معه، ثم أخبره، وقال: اقض فيَّ ما شئت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَعَلَّهَا زَوْجَةُ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟!» قَالَ: نعم، فوبّخه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَالَ: «مَا أَدْرِي» ، فنزلَتْ هذه الآية، فَدَعَاهُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَتَلاَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَهَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ فَقَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً» «3» . قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «4» : وهذا الحديثُ صحيحٌ، رواه الأئمةِ كلُّهم، انتهى. قال ع «5» : ورُوِيَ: أن الآية قدْ كَانَتْ نزلت قبل ذلك، واستعملها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الرَّجُل، وروي أنَّ عمر قال مَا حُكِيَ عن معاذٍ، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «الجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَالصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا إِنِ اجتنبت الكبائر» «6» .

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 131) برقم: (1868) ، وذكره ابن عطية (3/ 313) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 213) . (3) أخرجه البخاري (2/ 12) كتاب «مواقيت الصلاة» باب: «وأقم الصلاة طرفي النهار» ، حديث (526) ، وفي (8/ 206) كتاب «التفسير» باب: «وأقم الصلاة طرفي النهار» ، حديث (4687) ، ومسلم (4/ 2115، 2117) وكتاب «التوبة» باب: قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، حديث (39، 41/ 2763) ، والترمذي (5/ 291) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة هود، حديث (3114) ، والنسائي في «التفسير» (267) ، وابن ماجه (1/ 447) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في أن الصلاة كفارة، حديث (1398) ، وفي (2/ 1421) كتاب «الزهد» باب: ذكر التوبة، حديث (4254) ، وأحمد (1/ 445) ، وابن خزيمة (313) ، وابن حبان (1729- 1730) ، والطبري في «تفسيره» (18676) ، والبيهقي (8/ 241) من طرق عن عبد الله بن مسعود. (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1073) . [.....] (5) أخرجه الطبري (7/ 125- 126) برقم: (18632- 18633- 18634) ، وذكره البغوي (2/ 405) ، وذكره ابن عطية (3/ 212) بنحوه. (6) تقدم تخريجه.

[سورة هود (11) : الآيات 116 إلى 119]

وقوله: ذلِكَ ذِكْرى: إِشارة إِلى الصلوات، أي: هي سببُ الذكْرَى، وهي العظَةُ، ويحتملُ أنْ تكونَ إِشارةً إِلى الإِخبار بأن الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئَاتِ. / ويحتملُ أنْ تكون إِشارةً إِلى جميعِ ما تقدَّم من الأوامر والنواهِي والقَصَص في هذه السّورة، وهو تفسير الطبريّ. [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ... الآية، فَلَوْلا: هي التي للتحضيض، لكن، يقترن بها هنا مَعْنَى التفجُّع والتأسُّف الذي ينبغي أنْ يقع من البَشَر عَلَى هذه الأُمَمِ التي لم تهتد، وهذا نحو قوله سبحانه: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] ، والقرون من قبلنا قومُ نوحٍ وعادٍ وثمود، ومَنْ تقدم ذكْرُهُ. وقوله: أُولُوا بَقِيَّةٍ: أي: أولو بقيةٍ مِنْ عقْلٍ وتمييزٍ ودينٍ، يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ وإِنما قيل: بَقِيَّةٍ لأن الشرائِعَ والدوَل ونَحْوَها، قوَّتُها في أولها، ثم لا تزال تَضْعُفُ، فمن ثَبَتَ في وقْتِ الضعْفِ، فهو بقيَّة الصدْرِ الأول. والْفَسادِ فِي الْأَرْضِ: هو الكُفْر وما اقترن به من المعاصي، وهذه الآيةُ فيها تنبيهٌ لهذه الأُمَّةِ وحضٌّ على تغيير المُنْكَر، ثم استثنى عزَّ وجلَّ القوم الذين نَجَّاهم معَ أنبيائهم، وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، وقَلِيلًا استثناء مُنْقطعٌ، أيْ: لكن قليلاً ممن أنجينا منهم، نَهَوْا عن الفساد، و «المُتْرَف» : المنعَّم الذي شغلَتْهُ تُرْفَتُهُ عن الحَقِّ حتى هلك وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ منه سبحانه وتعالى عن ذلك، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً: أي مؤمنة لا يَقَعُ منهم كُفْر قاله قتادة «1» ، ولكنه عزَّ وجلَّ لم يشأْ ذلك، فهم لا يزالُونَ مختلفين في الأديان والآراءِ والمِلَلِ، هذا تأويل الجُمهورِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، أي: بأن هداه إِلى الإِيمان وقوله تعالى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ: قال الحسن: أي: وللاختلاف خلقهم «2» .

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 137) برقم: (18712) نحوه، وذكره ابن عطية (3/ 215) . (2) أخرجه الطبري (7/ 139) برقم: (18733) ، وذكره ابن عطية (3/ 215) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» ((3/ 645) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة هود (11) : الآيات 120 إلى 123]

قال ع «1» : وذلك أن اللَّه تعالى خلق خَلْقاً للسعادة، وخَلْقاً للشقاوةِ، ثم يَسَّر كُلاًّ لما خلق له، وهذا نصٌّ في الحديث الصحيحِ، وجعل بَعْدُ ذلك الاختلاف في الدِّين على الحَقِّ هو أمارةَ الشقاوةِ، وبه علَّق العقابَ، فيصحُّ أَنْ يُحْمَلَ قولُ الحَسَن هنا: وللاختلافِ خَلَقُهُمْ، أي: لثمرة الاختلافِ، وما يكونُ عنه مِنْ شقاوةٍ أو سعادةٍ، وقال أشْهَبُ: سألتُ مالكاً عن هذه الآية، فقال: خَلَقَهُمْ ليكونَ فريقٌ في الجنةِ، وفريقٌ في السعيرِ، وقيل غير هذا. وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: نفذ قضاؤه، وحَقَّ أمره، واللام في لَأَمْلَأَنَّ: لام قسم. [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) وقوله سبحانه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، و «كُلاًّ» مفعولٌ مقدَّم ب «نَقُصُّ» ، و «ما» بدلٌ من قوله: وَكُلًّا، ونُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي: نؤنِّسك فيما تلْقَاه، ونجعل لك الإِسْوَة. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ قال الحسنُ: هذِهِ إِشارة إِلى دار الدنيا «2» ، وقال ابن عباس: هذِهِ، إِشارة إِلى السورة «3» ، وهو قولُ الجمهور. قال ع «4» : ووجه تخصيص هذه السُّورة بوَصْفها بحقٍّ، والقرآن كلُّه حق أنَّ ذلك يتضمَّن معنى الوعيد للكفَرَة، والتنبيهِ للنَّاظر، أي: جاءك في هذه السورة الحَقُّ الذي أصَابَ الأُمَم الماضيةَ، وهذا كما يقالُ عند الشدائدِ: جَاءَ الحَقُّ، وإِن كان الحَقُّ يأتي في غَيْر الشدائدِ، ثم وصَف سبحانَه أنَّ ما تضمَّنته السورةُ هو موعظةٌ وذكْرَى للمؤمنينَ.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 215) . (2) أخرجه الطبري (7/ 142- 143) برقم: (18757، 18761) ، وذكره ابن عطية (3/ 216) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 407) ، وابن كثير (2/ 456) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 646) . (3) أخرجه الطبري (7/ 144) برقم: (18777) ، وذكره ابن عطية (3/ 216) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 646) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 216) .

وقوله سبحانه: وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ... الآية: آية وعيد. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية: أية تعظيمٍ وانفراد بما لا حَظَّ لمخلوقِ فيهِ، ثم أمر سبحانه العَبْدَ بِعِبَادَتِهِ، والتوكُّلِ عليه، وفيهما زوالُ هَمِّهِ وصَلاَحُهُ، ووصُولُهُ إِلى رضوان اللَّه تعالى، فقال: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، اللَّهم اجعلنا مِمَّن توكَّل عليك، ووفَّقْتَهُ لِعَبَادَتِكَ كما ترضَى، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً، والحمد لله على جزيل ما به أنعم.

تفسير سورة يوسف

تفسير سورة يوسف هذه السورة مكّيّة، والسبب في نزولها أنّ اليهود أمروا كفّار مكّة أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن السبب الذي أحلّ بني إسرائيل بمصر، فنزلت السورة. وقيل: سبب نزولها تسلية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عمّا/ يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف بيوسف، وسورة يوسف لم يتكرّر من معانيها في القرآن شيء كما تكرّرت قصص الأنبياء، ففيها حجّة على من اعترض بأن الفصاحة تمكّنت بترداد القول، وفي تلك القصص حجّة على من قال في هذه: لو كرّرت، لفترت فصاحتها. [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) وقولهُ عزَّ وجلَّ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الْكِتابِ هنا القرآن، ووصفه ب الْمُبِينِ من جهة بيان أحكامه وحَلاَله وحرامِهِ ومَواعِظِهِ وهُدَاهُ ونُوره، ومِنْ جهة بيانِ اللسانِ العربيِّ وجودته، والضمير في أَنْزَلْناهُ: للكتاب، وقُرْآناً حال، وعَرَبِيًّا: صفة له، وقيل: قُرْآناً: توطئة للحال، وعَرَبِيًّا حالٌ. وقوله سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... الآية: روى ابن مسعودٍ، أنَّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مَلُّوا مَلَّةً، فقالوا: لَوْ قَصَصْتَ علينا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ، ثم مَلُّوا ملَّةً أخْرَى، فقالوا: لَوْ حَدَّثْتَنَا، يَا رَسُولَ اللَّه، فنزلَتِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «1» ... الآية [الزمر: 23] والْقَصَصِ: الإخبار بما جَرَى من الأمور.

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 5) ، وعزاه لابن جرير عن عون بن عبد الله.

[سورة يوسف (12) : الآيات 4 إلى 6]

وقوله: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: أي: بوحينا إِليك هذا، والْقُرْآنَ: نعت ل «هذا» ويجوز فيه البَدَلُ، والضمير في «قبله» : للقصص العامِّ لما في جميع القرآن منه، ولَمِنَ الْغافِلِينَ، أي: عن معرفة هذا القصص، وعبارةُ المَهْدَوِيِّ: قال قتادة: أي: نقصُّ عليك من الكُتُب الماضيةِ، وأخبارِ الأممِ السالفةِ أحْسَنَ القصص بوحينا إِليك هذا القرآن، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ عنْ أخبار الأمم، انتهى. [سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) وقوله سبحانه: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ: قيل: إِنه رأَى كواكِبَ حقيقةً، والشمْسَ والقَمَرَ، فتأوَّلها يعقوبُ إِخْوَتَهُ وأَبَوَيْهِ، وهذا هو قولُ الجمهور، وقيل: الإِخوةُ والأَبُ والخالةُ لأَنَّ أُمَّه كانتْ ميِّتة، وروي أن رُؤْيَا يوسُفَ خَرَجَتْ بَعْدَ أربعينَ سَنَةً، وقيل: بعد ثمانين سنة. وقوله: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً مِنْ هنا ومِنْ فعْل إِخوة يوسُفَ بيوسُفَ: يظهر أنَّهم لم يكُونوا أَنبياءَ في ذلك الوقْتِ، وما وَقَعَ في «كتاب الطَّبريِّ» لابْنِ زَيْد أنهم كانُوا أنبياءَ يردُّه القطْعُ بعصمة الأنبياءِ عن الحَسَدِ الدنيوي، وعن عقوقِ الآباءِ، وتعريض مؤمنٍ للهلاكِ، والتآمرِ في قتله. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ: أي: يختارُكَ ويصطفيك. وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قال مجاهد وغيره: هي عبارةُ الرؤيا «1» وقال الحسن: هي عواقِبُ الأمور «2» وقيل: هي عامَّة لذلك وغيره من المغيَّبات. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... الآية: يريد بالنبوَّة وما انضاف إِلَيْها من سائر النِّعَم، ويروَى: أَنَّ يعقُوبَ عَلِمَ هَذا مِنْ دَعْوَة إِسْحَاقَ لَهُ حِينَ تشبَّه ب «عيصو» ، وباقي الآية بيّن. [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 10] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 151) برقم (18803) ، وذكره ابن عطية (3/ 220) ، وابن كثير (3/ 469) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 7) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) ذكره ابن عطية (3/ 220) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 إلى 15]

وقوله سبحانه: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذ كلُّ أحد ينبغي أنْ يسأل عن مثْلِ هذا القصص، إِذ هي مَقَرُّ العبر والاتعاظ وقولهم: وَأَخُوهُ: يريدون به «يَامينَ» ، وهو أصغر من يوسُفَ، ويقال له: «بِنْيَامِينُ» قيلَ: وهو شقيقه، أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا: أي: لصغرهما ومَوْتِ أُمهما، وهذا مِنْ حُبِّ الصغير هي فطرةُ البَشَر، وقولهم: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ: أي: جماعة تضرُّ وتنفعُ، وتحمِي وتخذل، أي: لنا كَانَتْ تنبغي المحبَّة والمراعاةُ، والعُصْبَة في اللغة: الجماعةُ، وقولهم: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أي: لفي انتلافٍ وخطإٍ في محبَّة يوسُفَ وأخيه، وهذا هو معنى الضَّلال، وإِنما يصغر قَدْرُهُ، ويعظُم بحَسَبِ الشَّيء الذي فيه يَقَعُ الانتلاف، ومُبِينٍ: معناه: ظاهر للمتأمِّل، وقولهم: أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً: أي: بأرضٍ بعيدةٍ ف «أَرْضاً» مفعولٌ ثانٍ بإِسقاط حرف الجرِّ، والضمير في «بعده» عائدٌ على يوسُفَ، أو قتلِه، أو طرحِهِ، وصالِحِينَ: قال مقاتل وغيره: إِنهم أرادوا صلاَحَ الحالِ عنْد أبيهم «1» ، والقَائِلُ منهم: «لا تقتلوه» هو: «رُوبِيلُ» أسنُّهم قاله قتادة «2» وابنُ إِسحاق، وقيل: هو شَمْعُونٌ قاله مجاهد «3» ، وهذا عطْفٌ منه على أخيه لا محالَةَ لما أراد اللَّه من إِنفاذ قضائه، و «الغيابة» : ما غاب عنك، والْجُبِّ البئر التي لم تُطْوَ لأنها جُبَّتْ من الأرض فقَطْ، قال المَهْدَوِيُّ: والجُبُّ في اللغة: البئر المقطوعة التي لم تطو، انتهى. والسيارة: جمعُ سَيَّارٍ، وروي أن جماعةً من الأَعرابِ التقطت يوسف عليه السلام. [سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 15] قالُوا يا أَبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وقوله سبحانه: قالُوا يا أَبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ... الآية المتقدِّمة تقتضي أن أباهم قد كان عَلِمَ منهم إِرادتهم السُّوءَ في جهة يوسف، وهذه

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 222) (2) أخرجه الطبري (7/ 153) برقم: (18811) ، وبرقم: (18812) ، وذكره ابن عطية (3/ 222) ، والبغوي (2/ 412) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 222) . [.....]

الآية تقتضِي أنهم علموا هُمْ منه بعلمه ذلك، وقرأ أبو عامر «1» وابنُ عمرو: «نَرْتَعْ ونَلْعَبْ» - بالنون فيهما وإِسكانِ العينِ والباءِ-، و «نَرْتَع» على هذا: من الرُّتُوعِ، وهي الإِقامة في الخِصْب والمَرعَى في أكْلٍ وشربٍ، وقرأ ابن كثير: «نَرْتَعِ ونَلْعَبْ» - بالنونِ فيهما وكَسْرِ العين وإسكان الباء-، وقد رُوِيَ عنه «ويَلْعَبْ» - بالياء- و «نَرْتَعَ» على هذا: من رِعَاية الإِبَل. وقال مجاهد: من المُرَاعاة، أي: يرعَى بعضُنا بعضاً، ويحرسُه «2» ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «يرتَع وَيَلْعَبْ» بإِسناد ذلك كلِّه إِلى يوسف، وقرأ نافع «يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ» ، ف «يَرْتَعِ» على هذا: من رعاية الإِبل، قال أبو علي: وقراءة ابنِ كثيرٍ «نَرْتَعَ» - بالنون- و «يَلْعَبْ» - بالياء-: منزعها حَسَنٌ لإِسناد النظر في المال، والرعايةِ إِليهم، واللعب إِلى يوسف لصباه، ولعبُهُمْ هذا داخلٌ في اللعبِ المباحِ والمندوبِ كاللعب بالخيلِ والرمْي وعلَّلوا طلبه والخروجَ به بما يمكنُ أنْ يَستَهوِيَ يوسُفَ لصبَاه مِنَ الرتوعِ واللعِبِ والنَّشَاطِ، وإِنما خافَ يعقُوبُ عليه السلام الذئبَ دون سواه، وخصَّصه لأنه كَانَ الحيوانَ العادي المنبثّ في القطر، ولصغر يوسف، وأَجْمَعُوا: معناه: عَزَموا. وقوله سبحانه: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ يحتمل أن يكون الوحْيُ إِلى يوسُفُ حينئذٍ برسولٍ، ويحتملُ أنْ يكون بإِلهامٍ أو بنومٍ، وكلُّ ذلك قد قيل، وقرأ الجمهور «3» : «لَتُنَبِّئَنَّهُمُ» بالتاء من فوق. وقوله: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ: قال ابن جُرَيْج: معناه: لا يشعُرُونَ وقْتَ التنبئةِ أنَّكَ يوسف «4» ، وقال قتادة: لا يشعرُونَ بوَحْينا إليك «5» .

_ (1) الصواب فيهما أبو عمرو، وابن عامر، ولعله سبق قلم من المصنف أو الناسخ. وقد قرأ بقراءتهما ابن كثير، وحجتهم هي قولهم بعد: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ، فكأنهم أسندوا جميع ذلك إلى جماعتهم إذا أسندوا الاستباق، فقيل لأبي عمرو: فكيف يلعبون وهم أنبياء الله؟ فقال: إذ ذاك لم يكونوا أنبياء الله. ينظر: «السبعة» (345- 346) ، و «الحجة» (4/ 402- 403) ، و «إعراب القراءات» (1/ 303) ، و «شرح الطيبة» (4/ 377- 378) ، و «العنوان» (110) ، و «إتحاف» (2/ 141) . (2) أخرجه الطبري (7/ 156) برقم: (18838) ، وذكره ابن عطية (3/ 244) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 225) ، و «البحر المحيط» (5/ 228) ، و «الدر المصون» (4/ 162) . (4) أخرجه الطبري (7/ 159) برقم: (18850) ، وذكره ابن عطية (3/ 226) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 15) . (5) أخرجه الطبري (7/ 158) برقم: (18848) ، وذكره ابن عطية (3/ 226) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 471) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 14) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة يوسف (12) : الآيات 16 إلى 18]

[سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 18] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وقوله: وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ: أي: وقْتَ العشاءِ، وقرأ الحسن: «عُشى» «1» على مثال «دُجىً» ، جمع «عاشٍ» ، ومعنى ذلك: أصابهم عشى من البكاء أو شبه العَشَى، إذ كذلك هي عَيْنُ الباكي لأنه يتعاشَى، ومثَّل شُرَيْحَ امرأة بكَتْ، وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية، ونَسْتَبِقُ: معناه: على الأقدام، وقيل: بالرمْي، أي: ننْتَضِلُ، وهو نوعٌ من المسابقة قاله الزَّجَّاج، وقولهم: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا: أي بمصَدِّق لنا، وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، أي: ولو كنا موصوفين بالصِّدْقِ، ويحتمل أنْ يكون قولهم: وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ: بمعنى: وإن كنا صادقِينَ في معتَقَدِنا. وقوله سبحانه: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ: روي أنهم أَخَذُوا سَخْلَةً أَوْ جَدْياً، فذبحوه، ولَطَّخُوا به قميصَ يُوسُفَ، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه وبكَى ثم تأمَّله، فلم يَرَ خِرَقاً، ولا أثر نابٍ فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئْبُ حليماً يأكُلُ يوسُفَ، ولا يخرق قميصَهُ قصَّ هذا القَصَصَ ابن عباس وغيره «2» ، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم بصحَّة القميصِ، واستند الفقهاءُ إِلى هذا في إِعْمَالِ الأماراتِ في مسائِل كالقَسَامة «3» بها في قول مالكٍ إِلى غير ذلك. قال الشعبيُّ: كان في القميص ثلاث

_ (1) قال أبو الفتح: وكان قياسه عشاة كماش ومشاة، إلا أنه حذف الهاء تخفيفا وهو يريدها، كقوله: أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار أراد مألكة، فحذف الهاء. ينظر: «المحتسب» (1/ 335) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 226) ، و «البحر المحيط» (5/ 288) ، و «الدر المصون» (4/ 162) . وهي من «شواذ ابن خالويه» ص: (67) ، «عشاء» بالمد منسوبة للحسن والأعمش. (2) أخرجه الطبري (7/ 161) برقم: (18871) ، ورقم: (18865- 18866- 18867) ، وبرقم: (18868) ، وذكره ابن عطية (3/ 227) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 16) ، وعزاه إلى الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) القسامة: في اللغة مأخوذة من القسم، وهو اليمين، والقسامة الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم، يقال: قتل فلان بالقسامة إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل، فادّعوا على رجل أنه قتل صاحبهم، ومعهم دليل دون البيّنة فكلفوا خمسين يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم. وفي اصطلاح الفقهاء هي الأيمان المكررة في دعوى القتل. ذهب جمهور الفقهاء إلى أن القسامة مشروعة، وقد استدلّوا على ذلك بأحاديث منها: ما روي عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى «خيبر» وهي يومئذ صلح،

[سورة يوسف (12) : الآيات 19 إلى 22]

آيات: دلالتُهُ على كذبهم، وشهادَتُهُ في قَدِّه، ورَدُّ بَصَرِ يَعقُوبَ به، ووصف الدَّم بالكَذِبِ الَّذي هو مَصْدَرٌ على/ جهة المبالغةِ، ثم قال لهم يعقوب: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ، أي: رَضيَتْ وجَعَلَتْ سؤلاً ومراداً أَمْراً، أي: صنعاً قبيحاً بيوسف «1» . وقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ: إِما على حذف المبتدأ، أي: فشأني صبرٌ جميلٌ، وإِما على حَذْفِ الخبر، تقديره: فصبرٌ جميلٌ أَمْثَلُ، وجميل الصّبر: ألّا تقع شكوى إلى البشر، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ بَثَّ، لَمْ يَصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً» «2» . وقوله: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ: تسليم لأمر الله تعالى، وتوكّل عليه. [سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 22] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وقوله سبحانه: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ: قيل: إِن السيارة جاءَتْ في اليومِ الثاني من طرحه، و «السيارةُ» : بتاءُ مبالغةٍ للذين يردِّدون السيْرَ في الطُرق. قال ص: و «السَّيَّارَة» : جمع سَيَّار، وهو الكثيرُ السَّيْر في الأرض. انتهى. و «الوَارد» : هو الذي يأتي الماءَ يستَقي منه لجماعته، وهو يَقَعُ على الواحدِ وعلى الجماعة.

_ فتفرقا، فأتى محيّصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحّط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم «المدينة» فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيّصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذهب عبد الرحمن يتكلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كبر كبر» وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما، فقال: «أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم» ، فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر، قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» ، فقالوا له: كيف نأخذ بأيمان قوم كفّار، فعقله النبي صلّى الله عليه وسلّم من عنده. وفي رواية متفق عليها قال صلّى الله عليه وسلّم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» ، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟، قال: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» ، قالوا: يا رسول الله قوم كفار، الحديث. فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» دليل على مشروعية القسامة، وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة والتابعين، والعلماء، من «الحجاز» و «الكوفة» و «الشام» ، كما حكى ذلك القاضي عياض، ولم يختلفوا في الجملة، ولكن اختلفوا في التفاصيل. (1) أخرجه الطبري (7/ 161- 162) ، برقم: (18872- 18873- 18874) ، وذكره ابن عطية (3/ 227) ، وعزاه للشافعي. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 284) برقم: (19738) ، عن مسلم بن يسار به وذكره السيوطي في

وروي أنَّ مُدْلِيَ الدَّلْو كان يسمَّى مَالِكَ بْنَ دعر، ويروَى أَنَّ هذا الجُبَّ كان بالأُرْدُنِّ على ثلاثةِ فراسِخَ من منزل يَعْقُوبَ، ويقال: أدلَى دلْوَهُ إِذا ألقاه ليستقِيَ الماءَ، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: فتعلَّق يوسُفُ بالحَبْل، فلما بصر به المدلي، قال: يا بُشْرى، وروي أنَّ يوسُفَ كان يومئِذٍ ابنَ سَبْعَ سِنينَ ويرجِّح هذا لفظةُ غُلامٌ فإِنها لِمَا بَيْنَ الحولَيْن إِلى البلوغِ، فإِن قيلتْ فيما فَوْقَ ذلك، فعلى استصحاب حالٍ، وتجوُّزٍ، وقرأَ نافعٌ «1» وغيره: «يا بُشْرَايَ» بإِضافةِ البُشْرَى إِلى المتكلِّم، وبفتح الياء على ندائها كأنه يقولُ: احضري، فهذا وَقْتُكِ، وقرأ حمزة والكسائي: «يَا بُشْرى» ، ويميلاَنِ ولا يضيفَانِ، وقرأ عاصمٌ كذلك إِلاَّ أَنه يفتح الراءَ ولا يُمِيلُ، واختلف في تأويل هذه القراءة، فقال السدي: كان في أصحاب هذا الوارد رَجُلٌ اسمه «بُشْرَى» فناداه، وأعلمه بالغلامِ «2» ، وقيل: هو على نداءِ البُشْرَى كما قدَّمنا. وقوله سبحانه: وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً قال مجاهد: وذلك أنَّ الوُرَّاد خَشُوا من تُجَّار الرفْقة، إِنْ قالوا وجدْنَاه أنْ يشاركوهم في الغُلاَمِ الموجُودِ، يعني: أو يمنعوهم من تملُّكه «3» ، إِن كانوا أخياراً، فأسروا بينهم أنْ يقولُوا: أَبْضَعَهُ مَعَنَا بعْضُ أهْلِ المِصْرِ، و «بِضَاعة» : حالٌ، والبضاعة: القطعةُ من المالِ يُتْجَرُ فيها بغير نصيب من الرّبح مأخوذ من قولهم: «بَضْعَة» أي: قطعة، وقيل: الضمير في «أَسَرُّوه» يعود على إِخوة يوسف. وقوله سبحانه: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ: «شروه» هنا: بمعنى بَاعُوه، قال الداوديُّ: وعن أبي عُبَيْدة: وَشَرَوْهُ أي: باعوه، فإِذا ابتعت أَنْتَ، قُلْتَ: اشتريت

_ «الدر المنثور» (4/ 59) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق. وله شاهد من حديث ابن عمر، بلفظ: «من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان المصائب والأمراض ومن بث لم يصبر» ، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه إلى ابن عدي، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (1) وقراءة الباقين فيها وجهان: أحدهما: أنهم جعلوه اسم رجل، فيكون دعا إنسانا اسمه بشرى. وحجتهم ما قد روي عن جماعة من المفسرين أنهم قالوا: كان اسمه «بشرى» ، فدعاه المستقي باسمه. والثاني: أن يكون أضاف البشرى إلى نفسه، ثم حذف الياء، كما تقول: يا غلام لا تفعل، يكون مفردا بمعنى الإضافة. ينظر: «حجة القراءات» (357) ، و «السبعة» (348) ، و «الحجة» (4/ 410) ، و «إعراب القراءات» (1/ 306) ، و «شرح الطيبة» (4/ 380) ، و «العنوان» (110) ، و «شرح شعلة» (437) ، و «إتحاف» (2/ 143) . (2) أخرجه الطبري (7/ 164) برقم: (18891) ، وذكره ابن عطية (3/ 229) . [.....] (3) أخرجه الطبري (7/ 165- 166) برقم: (18899، 18902) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 415) ، وذكره ابن عطية (3/ 229) .

انتهى، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» : قوله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ: يقال: اشتريت بمعنى بِعْتُ، وَشَرَيْتُ بمعنى اشتريت لغة انتهى، وعلى هذا، فلا مانِعَ مِنْ حمل اللفظ على ظاهره، ويكون «شَرَوْهُ» بمعنى: «اشتروه» . قال ع «2» : روي أن إِخوة يُوسُفَ لمَّا علموا أن الوُرَّاد قد أخذوه جاؤوهم، فقالوا: هذا عَبْدٌ قد أَبَقَ منا، ونحنُ نبيعُهُ منكم، فقارَّهم يوسُفُ على هذه المقالة خوفاً منهم، ولينفذ الله أمره، والبخس: مصدر وُصِفَ به الثمن، وهو بمعنى النَّقْصِ. وقوله: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ: عبارةٌ عن قلة الثمن لأنها دراهم، لم تبلغْ أنْ توزَنَ لقلَّتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنُونَ ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهماً. وقوله سبحانه: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ: وصفٌ يترتب في إِخوة يوسف، وفي الوُرَّاد، ولكنَّه في إِخوة يوسف أرتَبُ إِذ حقيقة الزهْدِ في الشيء إِخراجُ حُبِّه من القَلْبِ ورَفْضُهُ من اليدِ، وهذه كانَتْ حالَ إِخوة يوسُفٌ في يوسُفَ، وأمَّا الورَّاد، فإِنَّ تمسُّكَهم به وتَجْرَهُمْ يمانِعُ زُهْدَهم إِلا على تجوُّزٍ، قال ابْن العربيِّ في «أحكامه» «3» : وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ : أي: إِخوته والواردة، أَما إِخوته فلأنَّ مقصودهم زوالُ عَيْنِه، وأما الواردة، فلأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم. انتهى. وقوله سبحانه: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا: روي أنَّ مبتاع يوسُفَ وَرَدَ به مصْرَ البلدِ المعروفِ ولذلك لا ينصرفُ، فَعَرَضَهُ في السُّوقِ، وكان أجْمَلَ الناس، فوقَعَتْ فيه مزايدةٌ/ حتى بلغ ثمناً عظيماً، فقيل: وزنه من ذهبٍ، ومن فضةٍ، ومن حريرٍ، فاشتراه العزيزُ، وهو كان حَاجِبَ المَلِكِ وخازِنَة، واسم المَلِك الرَّيَّانُ بْنُ الوَلِيدِ، وقيل: مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، وهو أحد الفراعِنَةِ، واسمُ العزيزِ المذْكُورِ: «قطيفين» قاله ابن عباس، وقيل: «أظفير» ، وقيل: «قنطور» ، واسم امرأته: «رَاعيل» ، قاله ابنُ إِسحاق، وقيل: «زليخا» ، قال البخاريّ: ومَثْواهُ: مَقَامُهُ. وقوله: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي: نتبنَّاه، وكان فيما يُقَالُ: لا ولد له، ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ، أي: وكما وصفْنا مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ فعلنا ذلك، والْأَحادِيثِ: الرؤيا في النوْمِ قاله مجاهد، وقيل: أحاديث الأنبياء والأمم، والضمير

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1079) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 229) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1079) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 23 إلى 24]

في «أمره» يحتمل أنْ يعودَ على يوسف قاله الطبري «1» ، ويحتملُ أن يعود على اللَّهِ عزَّ وجلَّ قاله ابن جُبَيْر، فيكون إِخباراً منبِّهاً على قدرة اللَّه عزَّ وجلَّ ليس في شأن يوسُفَ خاصَّة، بل عامًّا في كل أمر، و «الأَشُدَّ» : استكمال القوة وتناهِي بِنْيَةِ الإِنسان، وهما أَشُدَّان: أولهما، البلوغ، والثاني: الذي يستعمله العرب. وقوله سبحانه: وآتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً: يحتمل أن يريد بالحُكْم: الحكمة والنبوَّة، وهذا على الأشُدِّ الأعلَى، ويحتملُ أن يريد بالحُكْمِ: السلطانَ في الدنيا وحكماً بين الناس، وتدخُلُ النبوَّة وتأويلُ الأحاديث وغير ذلك في قوله: وَعِلْماً، وقال ابن «2» العربيِّ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً: الحُكْم: هو العَمَلُ بالعلْمِ. انتهى. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: عبارةٌ فيها وعد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أي: فلا يهولَنَّكَ فعل الكَفَرة وعتوّهم عليك، فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع. [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 24] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وقوله سبحانه: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ: المراودة: الملاطفةُ في السُّوق إِلى غرض، والَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها هي زُلَيْخَا امرأةُ العزيز، وقوله: عَنْ نَفْسِهِ: كنايةٌ عن غرض المواقعة، وظاهرُ هذه النازِلة أنها كانَتْ قبل أنْ ينبَّأ عليه السلام، وقولها: هَيْتَ لَكَ: معناه: الدُّعاء، أيْ: تعالَ وأقْبِلْ عَلَى هَذا الأمْرِ، قال الحَسن: معناها: هَلُمَّ، قال البخاريُّ: قال عكرمةُ: هَيْتَ لَكَ بالحُورَانِيَّةِ: هَلُمَّ. وقال ابن جُبير: تَعَالَهْ، انتهى. وقرأ هشام عن ابن عامرٍ «3» : «هِئْتُ لَكَ» - بكسر الهاءِ والهمزِ وضمِّ التاء-، ورويت عن أبي عَمْرو، وهذا يحتملُ أنْ يكون من هَاءَ الرجُلُ يَهِيءُ، إِذا حَسُن هيئته، ويحتمل أنْ يكون بمعنى: تَهَيَّأَتُ، ومَعاذَ: نصب على المصدر، ومعنى الكلام: أعوذ باللَّهِ، ثم

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 174) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1082) . (3) ينظر: «السبعة» (347) ، و «الحجة» (4/ 23) ، و «إعراب القراءات» (1/ 307) ، و «شرح الطيبة» (4/ 380) ، و «العنوان» (110) ، و «شرح شعلة» (438) ، و «إتحاف» (2/ 143) ، و «حجة القراءات» (358) .

قال: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، فيحتمل أن يعود الضمير في «إِنه» على اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويحتمل أنْ يريد العزيزَ سيِّدَهُ، أي: فلا يصلح لي أنْ أخونه، وقد أكْرَمَ مثواي، وائتمنني، قال مجاهد وغيره: «رَبِّي» معناه سَيِّدي «1» وإِذا حفظ الآدميّ لإِحسانه فهو عمل زَاكٍ، وأحرى أن يحفظ ربه، والضمير في قوله: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ مرادٌ به الأمر والشأن فقطْ، وحكى بعض المفسِّرين أنَّ يوسُفَ عليه السلام لمَّا قال: مَعَاذَ اللَّهِ، ثم دافَعَ الأمْرَ باحتجاج وملاينةٍ، امتحنه اللَّه تعالى بالهَمِّ بما هَمَّ به، ولو قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ، ودافَعَ بِعُنْفٍ وتغييرٍ، لم يَهمَّ بشيء من المَكْروه. وقوله سبحانه: وَهَمَّ بِها: اختلف في هَمِّ يوسُفُ. قال ع «2» : والذي أقولُ به في هذه الآية: أَنَّ كَوْنَ يوسُفَ عليه السلام نبيًّا في وقت هذه النازلة لم يصحَّ، ولا تظاهَرَتْ به روايةٌ، فإِذا كان ذلك، فهو مؤمنٌ قد أوتِيَ حكماً وعلماً، ويجوز عَلَيْه الهَمُّ الذي هو إِرادةُ الشيْءِ دون مواقَعَتِهِ، وأنْ يستصحب الخَاطِرَ الرديءَ علَى ما في ذلك من الخطيئة، وإِن فرضْنَاه نبيًّا في ذلك الوقْتِ، فلا يجوز عليه عندي إِلاَّ الهَمُّ الذي هو الخاطرُ، ولا يصحُّ عندي شيْءٌ مما ذكر من حَلِّ تِكَّةٍ، ونحوِ ذلك لأنَّ العِصْمة مع النبوَّة، وللَهمِّ بالشيْءِ مرتبتانِ، فالخاطرُ المجرَّد دون استصحاب يجوزُ عليه، ومع استصحابِ لا يَجُوزُ عليه إِذ الإِجماع منعقدٌ أَنَّ الهمَّ بالمعصية واستصحابَ التلذُّذ بها غير جائزٍ، / ولا داخِلٍ في التجاوُزِ. ت: قال عياضٌ: والصحيحُ إِن شاء اللَّه تنزيهُهُمْ أيضاً قبل النبوَّة مِنْ كُلِّ عيْبٍ، وعصمتُهُم مِنْ كُلِّ ما يوجبُ الرَّيْب، ثم قال عياضٌ بعد هذا: وأما قولُ اللَّه سبحانه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، فعلى طريق كثيرٍ من الفقَهَاء والمحدِّثين أنَّ همَّ النفْس لا يؤاخذ به، وليس بسيِّئة، لقوله عليه السلام عن ربِّه: «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» «3» فَلاَ مَعْصِيَةَ في همه إِذَنْ، وأما علَى مذهب المحقِّقين من الفقهاء والمتكلِّمين، فإِن الهمَّ إِذا وُطِّنَتْ عليه النفْسُ سيئةٌ، وأَما ما لم توطَّن عليه النفس مِنْ همومها وخواطرها، فهو المعفوُّ عنه، وهذا هو الحقُّ، فيكون إِن شاء اللَّه هَمُّ يوسُفَ من هذا، ويكونُ قوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ... الآية [يوسف: 53] : أي:

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 180) برقم: (19014- 19015- 19016) ، وذكره ابن عطية (3/ 233) ، والسيوطي (4/ 22) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 234) . (3) تقدم تخريجه.

مِن هذا الهَمِّ، أو يكون ذلك مِنْهُ على طريق التواضُع. انتهى. واختلف في البُرْهَان الذي رآه يوسُفُ، فقيل: ناداه جبريلُ: يا يوسُفُ، تَكُونُ في ديوانِ الأنبياءِ، وتفعلُ فِعْلَ السفهاءِ، وقيل: رأَى يعقوبَ عَاضًّا علَى إِبهامه، وقيل غير هذا، وقيل: بل كان البرهَانُ فِكْرَتَهُ في عذابِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ على المعصية، والبرهانُ في كلام العرب: الشيء الذي يُعْطِي القطْعِ واليَقِينَ، كان مما يَعلَمُ ضرورةً أو بخبرٍ قطعيٍّ أو بقياسٍ نظريٍّ «وأنْ» في قوله: لَوْلا أَنْ رَأى في موضع رفعٍ، تقديره: لولا رؤيته برهانَ رَبِّه، لَفَعَلَ، وذَهَبَ قومٌ إِلى أَنَّ الكلامَ تَمَّ في قوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وأن جواب «لولا» في قوله: وَهَمَّ بِها، وأن المعنى: لولا أنْ رأَى البرهان لَهَمَّ، أي: فلم يهمَّ عليه السلام، وهذا قولٌ يردُّه لسانُ العربِ، وأقوالُ السلَفِ ت: وقد ساقَ عيَاضٌ هذا القولَ مساق الاحتجاج به متَّصلاً بما نقَلْناه عنْه آنفاً، ولفظه: فكيف، وقَدْ حكَى أبو حاتمٍ عن أبي عُبَيْدة، أن يوسف لم يَهِمَّ، وأنَّ الكلام فيه تقديمٌ وتأخير، أي: ولقد همَّتْ به، ولولا أنْ رأَى برهانَ ربه لَهَمَّ بها، وقد قال اللَّه تعالى عن المرأة: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، [يوسف: 23] وقال تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، وقال: مَعاذَ اللَّهِ ... الآية. انتهى. وكذا نقله الداودي ولفظه: وقد قال سعيدُ بْنَ الحَدَّاد: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، ومعناه: أنه لولا أنْ رأَى برهان ربِّه لَهَمَّ بها، فلمَّا رأى البرهان لم يَهِمَّ، انتهى. قال ابن العربيِّ في «أَحكامه» «1» : وقد أخبر اللَّه سبحانه عن حالِ يوسُفَ من حين بلوغه بأنه آتاه حكماً وعلماً، والحُكْم: هو العمل بالعلم، وكلامُ اللَّه صادِقٌ، وخبره صحيحٌ، ووصفه حَقٌّ، فقد عَمِلَ يوسُفُ بما عَلَّمه اللَّه من تحريم الزنا، وتحريم خيانةِ السيِّد في أهْله، فما تعرَّض لامرأةِ العزيز، ولا أناب إِلى المُرَاودة، بل أَدْبَرَ عنها، وَفَّر منها حِكْمَةٌ خُصَّ بها، وعملٌ بما علَّمه اللَّه تعالى، وهذا يطمس وُجُوهَ الجَهَلَةِ مِنَ النَّاس والغَفَلَةِ من العلماءِ في نسْبتهم إِلى الصِّدِّيقِ ما لا يليقُ، وأقلُّ ما اقتحموا مِنْ ذلك هَتْكُ السراويلِ، والهَمُّ بالفَتْكِ فيما رَأَوْهُ من تأويلٍ، وحاشاه من ذلك، فما لهؤلاء المفسِّرين لا يكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يقولون: فَعَلَ فَعَلَ، واللَّه تعالى إِنما قال هَمَّ بها، قال علماء الصوفيَّة: إِن فائدة قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ... [يوسف: 22] أن اللَّه عزَّ وجلَّ أعطاه العلْمَ والحكْمة بأن غلب الشهوة ليكون ذلك سبباً للعصْمَة، انتهى. والكافُ من قوله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ: متعلِّقةٌ بمضمرٍ، تقديره: جَرَتْ أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرفَ، ويصحُّ أن تكون الكافُ في موضع رفع بتقدير

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1082) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 25 إلى 29]

عصمَتَنا له كَذَلك، وقرأ ابن كثير وغيره: «المُخْلِصِينَ» - بكسر اللام «1» - في سائر القرآن، ونافع وغيره بفتحها. [سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 29] وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وقوله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ ... الآية: معناه: سَابَقَ كُلُّ واحدٍ منهما صاحبه إِلى البابِ، هي لتردَّه إِلى نفسها، وهو ليهرُبَ عنها، فقبضَتْ في أعلى قميصِهِ، فتخرَّق القميصُ عند طَوْقِهِ، ونَزَلَ التخريقُ إِلى أسفلِ القميصِ، قال البخاريُّ: وَأَلْفَيا: أي: وَجَدَا أَلْفَوْا آباءَهُمْ [الصافات: 69] : وجدوهم. انتهى، و «القَدُّ» : القطْع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طُولاً، والقَطُّ: يستعمل فيما كان/ عرضا، وأَلْفَيا: وجَدَا، والسيِّد: الزوْج قاله زيد بن ثابتٍ ومجاهدٌ «2» . وقوله سبحانه: قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ... الآية: قال نَوْفٌ الشاميُّ: كان يوسُفُ عليه السلام لم يُبِنْ على كشف القصَّة، فلما بَغَتْ عليه، غَضِبَ، فقال الحقَّ، فأخبر أنها هي راوَدَتْه عَنْ نفسه، فرُوِيَ أن الشاهد كان ابن عَمِّها، قال: انظروا إِلى القميص، وقال ابن عباس: كان رجلاً من خاصَّة الملك «3» وقاله مجاهد «4» وغيره، والضمير في «رأَى» هو للعزيز، وهو القائلُ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ قال الطبريّ «5» ، وقيل: بل

_ (1) وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر، وجعلوها اسم فاعل لقوله تعالى: مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر: 14] . ينظر: «السبعة» (348) ، و «الحجة» (4/ 421) ، و «إعراب القراءات» (1/ 309) ، و «حجة القراءات» (358) ، و «العنوان» (110) ، و «شرح الطيبة» (4/ 382) ، و «شرح شعلة» (439) ، و «إتحاف» (2/ 145) . (2) أخرجه الطبري (7/ 190) برقم: (19103) وبرقم: (19104) ، وذكره ابن عطية (3/ 235) ، والسيوطي (4/ 25) . وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (7/ 192) برقم: (19122) ، وذكره ابن عطية (3/ 236) ، وابن كثير (2/ 475) ، والسيوطي (4/ 26) ، وعزاه للفريابي، وابن جرير، وأبي الشيخ. [.....] (4) أخرجه الطبري (7/ 192) برقم: (19125- 19126- 19127) ، وذكره البغوي (2/ 422) ، وابن عطية (3/ 236) ، وابن كثير (2/ 475) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 194) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 30 إلى 34]

الشاهدُ، قال ذلك، ونَزَعَ بهذه الآية مَنْ يرى الحُكْم بالإِمارة من العلماء فإِنها معتمدهم، و «يوسُفُ» في قوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا: منادًى، قال ابن عباس: ناداه الشاهدُ، وهو الرجل الذي كان مع العزيز «1» ، وأَعْرِضْ عَنْ هذا: معناه: عن الكلامِ بِهِ، أي: اكتمه، ولا تتحدَّث به، ثم رَجَعَ إِليها، فقال: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، أي: استغفري زَوْجَكَ وسيِّدَكَ، وقال: مِنَ الْخاطِئِينَ، ولم يقل «من الخاطئات» لأن الخاطئين أعمّ. [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 34] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) وقوله سبحانه: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ: نِسْوَةٌ: جمع قلَّة، وجمعُ التكثير نساءٌ، ويروَى أنَّ هؤلاء النسوة كُنَّ أربعاً: امرأة خبَّازَة، وامرأة ساقية، وامرأة بَوَّابة، وامرأة سَجَّانة، والعزيزُ: المَلِك، والفَتَى: الغلام، وعُرْفُه في المملوك، ولكنَّه قد قيل في غير المملوك ومنه: إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف: 60] ، وأصل الفتى، في اللغة: الشَّابُّ، ولكن لما كان جُلُّ الخَدَمَةِ شبابا، استعير لهم اسم الفتى، وشَغَفَها: معناه بَلَغَ حتَّى صار مِنْ قلبها موضِعَ الشِّغافِ، وهو على أكثر القولِ: غِلاَفٌ من أغشية القَلْبِ. وقيل: الشِّغاف: سويداءُ القَلْبِ. وقيل: الشِّغَافُ: داءٌ يصلُ إِلى القلب. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ليحضُرْن. وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً: أي: أعَدَّتْ ويَسَّرت ما يُتَّكَأُ عليه من فُرُشٍ ووسَائِد وغَيْرِ ذلك، وقرأ ابن عباس «2» وغيره: «مُتْكاً» - بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف-،

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 237) . (2) وقرأ بها ابن عمر، والجحدري، وقتادة، والضحاك، والكلبي، وأبان بن تغلب، ورويت عن الأعمش. وأما معنى هذه القراءة- كما حكى المصنف-: هو الأترجّ، وقيل: أيضا: هو الزّماورد، وهو طعام من اللحم والبيض.

واختلف في معناها، فقيل: هو الأُتْرُنْجَ «1» ، وقيل: هو اسمٌ يعمُّ جميع ما يُقْطَعُ بالسِّكِّين، وقولها: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ: أمر ليوسف، وأطاعها بحسب المُلْك. وقوله: أَكْبَرْنَهُ: معناه: أعظمنْهُ واستهولن جَمَاله، هذا قولُ الجمهور. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ: أي: كَثَّرْنَ الحَزَّ فيها بالسَّكَاكين، وقرأ أبو عمرو «2» وحده: «حاشَى للَّهِ» ، وقرأ سائر السبعة: حاشَ لِلَّهِ، فمعنى «حَاشَ للَّهِ» : أي: حاشَى يوسُفَ لطاعته للَّه، أو لمكانه من اللَّهِ أنْ يرمَى بِمَا رَمَيْتِهِ به، أوْ يدعَى إِلى مثله، لأَنَّ تلْكَ أفعال البشر، وهو لَيْسَ منهم، إِنما هو مَلَكٌ، هكذا رتَّب بعضهم معنَى هذا الكلامِ على القراءَتَيْنِ، وقرأ الحسنُ «3» وغيره: «مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلِكٌ كَرِيمٌ» - بكسر اللام من «مَلِك» وعلى هذه القراءة، فالكلامُ فصيحٌ: لَمَّا استعظمن حُسْنَ صورته، قُلْنَ ما هذا مما يَصْلُح أنْ يكون عبداً بشَراً، إِنْ هذا إِلا مما يَصْلُح أنْ يكون مَلِكاً كريماً. ت: وفي «صحيح مسلم» من حديث الإِسراء: «ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا بِيُوسُفَ صلّى الله عليه وسلّم، وإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ» «4» انتهى. وقولها: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ: المعنى: فهذا الذي لُمْتُنَّنِي فيه، وقطعتُنَّ أيديَكُنَّ بسببه: هو الذي جَعَلَنِي ضالَّةً في هواه، ثم أقرَّت امرأة العزيزِ للنّسوة بالمراودة،

_ ينظر: «المحتسب» (1/ 339- 340) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 238) ، و «البحر المحيط» (5/ 202) ، و «الدر المصون» (4/ 174) . (1) هو شجر يعلو، ناعم الأغصان والورق والثمر، وثمره كالليمون الكبار، وهو ذهبي اللون، ذكي الرائحة، حامض الماء. قال في «اللسان» : الأترجّ: معروف ... والعامة تقول: أترنج، وترنج، والأول كلام الفصحاء. ينظر: «المعجم الوسيط» (4) ، و «لسان العرب» (425) (ترج) . (2) وحجته أنه ليس أحد من العرب يقول: حاشك، ولا حاش لك. وإنما يقال: حاشاك، وحاشا لك. وحجة الباقين: أنها هكذا في المصحف. ينظر: «السبعة» (342) ، و «الحجة» (4/ 422) ، و «إعراب القراءات» (1/ 309) ، و «شرح الطيبة» (4/ 383) ، و «العنوان» (110) ، و «شرح شعلة» (439) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 146) ، و «حجة القراءات» (359) . (3) وهي قراءة أبي الحويرث الحنفي، وعبد الوارث عن أبي عمرو. ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 240) ، و «البحر المحيط» (5/ 304) ، و «الدر المصون» (4/ 179) . (4) سيأتي تخريجه في سورة الإسراء.

واستأمنت إِليهن في ذلك إِذْ عَلِمَتْ أَنهنَّ قد عذرنها. وفَاسْتَعْصَمَ معناه طلب العِصْمة، وتمسَّك بها، وعَصَاني، ثم جعلَتْ تتوعَّده، وهو يسمع بقولها. وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ... إِلى آخر الآية. ت: واعترض ص: بأنَّ تفسيرُ «استعصم» ب «اعتصم» أولى من جعله للطَّلبِ، إِذ لا يلزم من طلب الشيء حصُولُه. انتهى، واللام في «لَيُسْجَنَنَّ» : لام قَسَمٍ، واللام الأولَى هي المؤذنَةُ بالمجيء بالقَسَمِ، و «الصاغرون» : الأذلاَّء، وقَوْلُ يوسُفَ عليه السلام: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ إِلى قوله: مِنَ الْجاهِلِينَ، كلامٌ يتضمَّن التشكِّيَ إِلى اللَّه تعالى من حاله معهن، / وأَصْبُ: مأخوذ من الصَّبْوَة، وهي أفعالُ الصِّبا، ومن ذلك قولُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: [الطويل] صَبَا مَا صَبَا حَتَّى عَلاَ الشَّيْبُ رَأْسَه ... فَلَمَّا عَلاَهُ قَالَ لِلْبَاطِلِ ابعد «1» قال ص: «أصْبُ» معناه: أَمِلْ، وهو جوابُ الشرطِ، والصَّبابة: إِفراط الشوْقِ. انتهى. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أي: أجابه إِلى إِرادته، وصَرَفَ عنه كَيْدُهِنَّ في أنْ حال بينه وبين المعصية.

_ (1) البيت في «ديوانه» (69) ، و «التعازي والمراثي» (5/ 22) ، و «نور القبس» (53) . معنى: صبا ما صبا: قال المرزوقي (2/ 821) قوله: «صبا ما صبا» يجوز أن يكون صبا الأول من الصّبا واللهو، وصبا الثاني من الصّباء بمعنى الفتاء فيكون المعنى: تعاطى اللهو والصبا ما دام صبيا، فلما اكتمل وظهر في رأسه الشيب، فاشتعل، نحى الباطل عن نفسه زاهدا فيه، ورجوعا إلى الحق ورغبة فيما يكسبه الأحدوثة الجميلة من أبواب الصلاح، ويجوز أن يكون المعنى: تعاطى الصبا ما تعاطاه إلى أن علاه المشيب فيسقط التجنيس من البيت وهو يحسن به. وقال العلوي في الطراز (2/ 84) : «فقوله: صبا ما صبا فيه من الإبهام البالغ ما لو تناهيت في تفسيره فإنك لا تجد له من البيان مثل ما تجده في إبهامه» . ابعد: قال المرزوقي قوله: (ابعد) (2/ 821) قوله (ابعد) من بعد يبعد إذا هلك ولو أراد البعد لقال أبعد بضم العين» . وقال في «جمهرة اللغة» (1/ 245) (ب ع د) «بعد يبعد بعدا من النأي فإذا أمرت قلت: أبعد، قال دريد: «البيت» . ويشتد إعجاب يونس بن حبيب بالبيت، ويراه أشعر بيت قالته العرب انظر: «نور القبس» (53) ، ينظر: «ديوان دريد بن الصمة» (69) ، تحقيق الدكتور عمر.

[سورة يوسف (12) : آية 35]

[سورة يوسف (12) : آية 35] ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وقوله سبحانه: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ: بَدا معناه: ظهر، ولما أبَى يوسُفُ عليه السلام من المعصية، وَيَئِسَتْ منه امرأة العزيزِ، طالبته بأَنْ قالتْ لزوجها: إِنَّ هذا الغُلاَمَ العِبْرَانِيَّ قد فَضَحَنِي في النَّاس، وهو يَعْتَذِرُ إِليهم، ويَصِفُ الأَمْرَ بحَسَب اختياره، وأنا محبوسَةٌ محجوبَةٌ، فإِما أَذنْتَ لي، فخرجْتُ إِلى الناس، فاعتذرت وكذَّبته، وإِما حَبَسْتَه كما أنا محبوسةٌ، فحينئذٍ بدا لهم سجنه. ع «1» : ولَيَسْجُنُنَّهُ: جملة دخلت عليها لام قسم، والْآياتِ: ذكر فيها أهْلُ التفسير أنها قَدُّ القميص، وخَمْشُ الوجهِ، وحَزُّ النساءِ أيديَهُنَّ، وكلامُ الصبيِّ على ما رُوِيَ. قال ع «2» : ومَقْصِدُ الكلامِ إِنما هو أنهم رَأَوْا سَجْنه بعد ظهورِ الآياتِ المُبَرِّئة له مِنَ التهْمة، فهكذا يَبِينُ ظلمهم له والحين في كلام العرب، وفي هذه الآية الوَقْت من الزمان غَير محدودٍ يقع للقليلِ والكثيرِ، وذلك بيّن من موارده في القرآن. [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 38] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لاَ يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) وقوله سبحانه: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ ... الآية: المعنى: فسجَنُوهُ، فَدَخَلَ معه السجْنَ، غلامانِ سُجِنَا أيضاً، ورُوِيَ أنهما كانا للمَلِكِ الأعظَمِ الوَلِيدِ بْنِ الرَّيَّانِ أحدهما: خَبَّازه، واسمه مجلث، والآخر: ساقيه، واسمه نبو، ورُوِيَ أَنَّ المَلِكَ اتهمهما بأن الخَبَّاز منهما أرادَ سَمَّه، ووافَقَهُ على ذلك السَّاقِي، فسجنهما، قاله السديُّ «3» ، فلما دخل يوسُفُ السجْنَ، استمال الناسَ فيه بحُسْن حديثه وفَضْله ونبله، وكان يُسَلِّي حزينهم، ويعودُ مريضَهُمْ، ويسأل لفقيرِهِمْ، ويندُبُهُمْ إِلى الخيرِ، فأَحبه الفَتَيَانِ، ولزماه، وأحبه صاحِبُ السجْنِ، والقَيِّم عليه، وكان يوسُفُ عليه السلام قد قال لأَهْلِ السجْنِ: إني أعبر

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 242) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 242- 243) . (3) أخرجه الطبري (7/ 212) برقم: (19275) ، وذكره ابن عطية (3/ 243) ، وابن كثير (2/ 477) .

الرؤيا، وأَجيدُ، فرُوِيَ عن ابن مسعودٍ: أن الفتَيَيْنِ استعملا هاتَيْنِ المنَامَتَيْنِ ليجرِّباه «1» . وروي عن مجاهد: أنهما رأيا ذلك حقيقة «2» ، فقال أحدهما: إِني أراني أعصرُ خَمْراً: قيل فيه: إنه سمّى العنب خمرا، بالمئال، وقيل: هي لغةُ أزدِ عُمَان يسمُّون العِنَبَ خَمْراً، وفي قراءة أُبيٍّ وابن مسعودٍ: «أَعْصِرُ عِنَباً» «3» . وقوله: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ: قال الجمهور: يريدان في العِلْم، وقال الضَّحَّاك وقتادة: المعنى: من المحسنين في جَرْيه مع أهْل السِّجْنِ وإِجماله معهم «4» . وقوله عزَّ وجلَّ: قالَ لاَ يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما: رُويَ عن السُّدِّيِّ وابن إِسحاق: أن يوسُفَ عليه السلام لما عَلِمَ شدَّة تعبيرِ مَنَامَةِ الرائي الخُبْزَ، وأنها تُؤْذِنَ بقتله، ذهب إِلى غير ذلك من الحديثِ عَسَى أَلاَّ يطالباه بالتعْبير، فقال لهما مُعْلِماً بعظيمِ عِلْمِهِ للتعبيرِ: إِنه لا يجيئُكما طعَامٌ في نومكما تَرَيَانِ أَنكما رُزِقْتُمَاهُ إِلاَّ أعلمتكما بتأويلِ ذلك الطَّعَامِ، أي: بما يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمره في اليقظة قَبْلَ أن يظهر ذلك التأويلُ الذي أُعْلِمُكُما به «5» ، فرُوِيَ أنهما قالا: ومِنْ أينَ لَكَ ما تَدَّعيه مِنَ العِلْمِ، وأنْتَ لَسْتَ بِكَاهِنٍ ولا منجِّم؟! فقالَ لهما: ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، ثم نهض يُنْحِي لهما على الكُفْر ويقبِّحه، ويحسِّن الإِيمان باللَّه، فرُوِيَ أنه قصد بذلك وجْهَيْنِ أَحدهما: تنسيَتُهما أمْرَ تعبيرِ ما سألا عنْه إِذ في ذلك النِّذَارةُ بقَتْل أحدهما، والآخر: الطماعيَةُ في إِيمانهما ليأخذ المَقْتُولُ بحظِّه من الإِيمان، وتسلم له آخرته، وقال ابنُ جُرَيْج: أراد يوسُفُ عليه السلام لا يأتيكما طعامٌ في/ اليقظة «6» .

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 212) برقم: (19277) ، وذكره البغوي (2/ 425) ، وابن عطية (3/ 243) ، وابن كثير (2/ 478) . [.....] (2) أخرجه الطبري (7/ 212) برقم: (19279) ، وذكره البغوي (2/ 425) . (3) ينظر: «المحتسب» (1/ 243) ، و «الكشاف» (2/ 468) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 244) ، و «البحر المحيط» (5/ 308) ، و «الدر المصون» (4/ 183) . (4) أخرجه الطبري (7/ 214) برقم: (19286- 19287) وبرقم: (19288) ، وذكره البغوي (2/ 425- 426) ، وابن عطية (3/ 244) ، والسيوطي (4/ 34) ، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ، عن قتادة، وعزاه أيضا لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (5) أخرجه الطبري (7/ 215) برقم: (19291- 19292) ، وذكره ابن عطية (3/ 244) ، وابن كثير (2/ 478) . (6) أخرجه الطبري (7/ 216) برقم: (19293) ، وذكره ابن عطية (3/ 244) ، والسيوطي (4/ 34) ، وعزاه لأبي عبيدة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 39 إلى 42]

قال ع «1» : فعلى هذا إِنما أعلمهم بأنه يعلم مغيَّباتٍ لا تعلُّق لها برؤْيَا، وقصد بذلك أحَدَ الوجهَيْنِ المتقدِّمين، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن فإِخباره كإِخبار عيسَى عليه السلام. وقوله: تَرَكْتُ، مع أنه لم يتشبَّثْ بها جائزٌ صحيحٌ وذلك أنه أخبر عن تجنّبه من أول بالترك، وساق لفظ التَّرْك استجلابا لهما عسَى أن يتركا الترْكَ الحقيقيَّ الذي هو بَعْد الأخْذ في الشيء، والقَوْمُ المتروكُ ملتهم: المَلِكَ وأتباعه. وقوله: وَاتَّبَعْتُ ... الآية: تمَادٍ من يوسُفَ عليه السلام في دعائهما إِلى الملَّة الحنيفيَّة. وقوله: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، «مِنْ» : هي الزائدةُ المؤكِّدة التي تكونُ مع الجُحُودِ. وقوله: لاَ يَشْكُرُونَ: يريد: الشكْرَ التَّامَّ الذي فيه الإيمان بالله عزّ وجلّ. [سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 42] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وقوله: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ: وصْفُه لهما ب صاحِبَيِ السِّجْنِ من حيثُ سُكْنَاه كما قال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ وأَصْحابُ النَّارِ ونحو ذلك، ويحتمل أن يريد صُحْبَتَهُما له في السِّجْنِ، كأنه قال: يا صَاحِبَايَ في السجْنِ، وعرْضُه عليهما بطلاَن أمْرِ الأوثان بأنْ وصَفَها بالتفرُّق، ووَصْفُ اللَّه تعالى بالوَحْدة والقَهْر تلطُّفٌ حَسَنٌ، وأخْذٌ بيسيرِ الحُجَّة قبل كثيرها الذي ربَّما نَفَرَتْ منه طباعُ الجَاهِلِ وعانَدَتْه، وهكذا الوجْهُ في محاجَّة الجاهِلِ: أَنْ يؤخَذَ بدَرَجَةٍ يسيرةٍ من الاحتجاج يقبلها، فإِذا قبلها، لزمته عَنْها درجةٌ أخرى فوقها، ثم كذلك أبداً حتى يصلَ إِلى الحقِّ، وإِن أُخِذَ الجاهلُ بجميعِ المَذْهَبِ الذي يُسَاقُ إِليه دفعةً أباه للحين وعانَدَهُ، ولقد ابتلي بأربابٍ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 244) .

متفرِّقين مَنْ يَخْدُم أبناء الدنيا ويؤمِّلهم. وقوله: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً: أي: مسمَّيات، ويحتملُ- وهو الراجحُ المختار- أن يريد: ما تَعْبُدُون من دونه ألوهيَّة، ولا لكُمْ تعلُّق بإله إِلا بحَسَبِ أنْ سمَّيْتُمْ أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لا للَّه إِلا بالاسم فقطْ لا بالحقيقة، وأما الحقيقة: فَهِيَ وسائرُ الحجارة والخَشَب سواءٌ، وإِنما تعلّقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم، فذلك هو معبودكم، ومفعولُ «سميتم» الثاني محذوفٌ، تقديره: آلهة هذا على أن الأسماء يراد بها ذواتُ الأصنام، وأما على المعنى المُخْتارِ من أنَّ عبادتهم إِنما هي لمعانٍ تعطيها الأسماءُ، وليسَتْ موجودةً في الأصنام، فقوله: سَمَّيْتُمُوها بمنزلةِ وضَعْتُمُوهَا، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ: أي ليس لأصنامكم، والْقَيِّمُ: معناه المستقيم، وأَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لجهالتهم وكُفْرهم، ثم نادَى: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ثانيةً لتجتمع أنفسهما، لسماعِ الجواب، فروي أنه قال لنبو: أمَّا أنْتَ، فتعودُ إِلى مرتبتك وسقايةِ ربِّك، وقال لمجلث: أما أنْتَ، فتُصْلَب، وذلك كلَّه بعد ثلاثٍ، فروي أنهما قالا له: ما رَأَيْنَا شيئاً، وإِنما تحالمنا لنجرِّبك، وروي أنه لم يَقُلْ ذلك إِلا الذي حدَّثه بالصَّلْبِ، وقيل: كانا رَأَيَا، ثم أنْكَرا، ثم أخبرهما/ يوسُفُ عَنْ غَيْبِ عِلمَهُ من اللَّه تعالى، أَن الأمر قد قُضِيَ ووافَقَ القدر. وقوله: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا ... الآية: الظَّنُّ هنا: بمعنى اليقين لأن ما تقدَّم من قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ يلزم ذلك، وقال قتادة: الظنُّ هنا على بابه لأن عبارة الرؤْيا «1» ظنٌّ. قال ع «2» : وقول يوسف عليه السلام: قُضِيَ الْأَمْرُ: دالٌّ على وحْيٍ، ولا يترتَّب قول قتادة إِلا بأَن يكون معنى قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ: أيْ: قُضِيَ كلامِي، وقلْتُ ما عِنْدي، وَتَمَّ، واللَّه أعلم بما يكُونُ بَعْدُ، وفي الآية تأويلٌ آخر: وهو أن يكون «ظَنَّ» مسنداً إِلى الذي قيل له: إِنه يسقي ربه خمراً لأنه داخَلَه السرور بما بُشِّر به، وغلَبَ على ظنّه ومعتقده أنه ناج. وقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ: يحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل: أن يذكره بمظلمته، وما امتحن به بغير حقّ، أو يذكره بجملة ذلك، والضمير في فَأَنْساهُ

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 220) برقم: (19317) ، وذكره ابن عطية (3/ 246) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 246) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 43 إلى 45]

قيل: هو عائد إلى يوسف، أي: نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله، فروي أنّ جبريل جاءه، فعاتبه عن الله عزّ وجلّ في ذلك، قيل: أوحي إليه: يا يوسف، اتّخذت من دوني وكيلا، لأطيلنّ سجنك، والله أعلم بصحّته، وقيل: الضمير في فَأَنْساهُ عائد على السّاقي، قاله ابن إسحاق، أي: نسي ذكر يوسف عند ربّه، وهو الملك «1» ، والبضع: اختلف فيه، والأكثر أنّه من الثلاثة إلى العشرة قاله ابن عباس «2» : وعلى هذا فقه مذهب مالك في الدعاوي والأيمان، وقال قتادة: البضع: من الثلاثة إلى التسعة «3» ، ويقوي هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر الصّديق في قصة خطره مع قريش في غلبة الرّوم لفارس: «أما علمت أنّ البضع من الثّلاث إلى التّسع «4» . [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 45] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ: روي أنه قال: رَأَيْتُهَا خَارجةً من نَهْرٍ، وخرجَتْ وراءَها سَبْعٌ عِجاف، فأكلَتْ تلك السِّمان، وحَصَلَتْ في بطونها، ورأى السنابلَ أيضاً كما ذكر، و «ال عِجافٌ: التي بَلَغَتْ غايةَ الهُزَال، ثم قال لحاضريه: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ، وعبارة الرؤية: مأخوذة منْ عَبْرِ النَّهْرِ، وهو تجاوزه مِنْ شَطٍّ إِلى شَطِّ، فكأنَّ عابر الرؤيا يَنْتَهِي إِلى آخر تأويلها. قال ص: وإِنما لم يضفْ «سبع» إِلى عِجَافٍ لأنَّ اسم العدد لا يضاف إِلى الصفة إِلا في الشِّعْرِ، انتهى. وقولهُ سبحانه: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ... الآية: «الضِّغْثِ» في كلام العرب: أقَلُّ من الحُزْمة، وأكثَرُ من القَبْضة من النباتِ والعُشْبِ ونحوه، وربَّما كان ذلك مِنْ جنس

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 222) برقم: (19329) ، وذكره ابن عطية (3/ 247) ، والسيوطي (4/ 37) . (2) أخرجه الطبري (7/ 222) برقم: (19336) ، والسيوطي (4/ 38) . (3) أخرجه الطبري (7/ 222) برقم: (19334) ، وذكره ابن عطية (3/ 247) ، وابن كثير (2/ 479) ، والسيوطي (4/ 38) . (4) أخرجه الترمذي (5/ 342- 343) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الروم، حديث (3191) من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عتبة، عن ابن عباس به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس.

واحدٍ، وربما كان من أخْلاَط النباتِ، والمعنى: أنَّ هذا الذي رأَيْتَ أيها الملكُ اختلاط من الأحلامِ بسَبَبِ النوم، ولسنا من أهْلِ العلم بما هو مختلط ورديء، والْأَحْلامِ: جمع حُلْم، وهو ما يخيَّل إِلى الإِنسان في منامه، والأحلام والرؤيا ممَّا أثبتَتْه الشريعةُ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ مِنَ المُبَشِّرَةِ وَالحُلْمُ المُحْزِنُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ/ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْتُ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ» «1» . وما كان عن حديث النفْسِ في اليقظة، فإِنه لا يلتفت إِليه، ولما سمع الساقي الذي نجا هذه المقالَةَ من المَلِكِ، ومُرَاجَعَةَ أصحابه، تذكَّر يوسُف، وعلْمَهُ بالتأويل، فقال مقالَتَه في هذه الآية، وَادَّكَرَ: أصله: «اذتكر» من الذِّكْرِ، فقلبتِ التاء دالاً، وأدغم الأول في الثاني، وقرأ جمهور الناس «2» : «بَعْدَ أُمَّةٍ» ، وهي المدَّة من الدهر، وقرأ ابن عباس «3» وجماعة: «بَعْدَ أَمَةٍ» ، وهو النسيانُ، وقرأ مجاهد «4» وشبل: «بَعْدَ أَمْةٍ» - بسكون الميم-، وهو مصْدَرٌ من «أَمِهَ» إِذا نَسِيَ، وبقوله: ادَّكَرَ يقوِّي قول من قال: إِن الضمير في «أنساه» عائدٌ على الساقي، والأمر محتمل، وقرأ الجمهور «5» : «أنا أنبّئكم» ، وقرأ

_ (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 957) كتاب «الرؤيا» باب: ما جاء في الرؤيا، حديث (2) ، والبخاري (6/ 338) كتاب «بدء الخلق» (باب: صفة إبليس وجنوده، حديث (3292) ، ومسلم (4/ 1772) ، كتاب «الرؤيا» ، حديث (2/ 2261) ، وأبو داود (2/ 724) كتاب «الأدب» باب: ما جاء في الرؤيا، حديث (5021) ، والترمذي (4/ 535- 536) كتاب «الرؤيا» باب: إذا رأى في المنام ما يكره ما يصنع، حديث (2277) ، وابن ماجه (2/ 1286) كتاب «تعبير الرؤيا» باب: من رأى رؤيا يكرهها، حديث (3909) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (897، 900- 901) ، وأحمد (5/ 310) ، وابن أبي شيبة (11/ 70) ، والدارمي (2/ 124) ، وابن حبان (13/ 423- 424) برقم: (6059) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 294- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي قتادة به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 249) . [.....] (3) وقرأ بها ابن عمر، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وأبو رجاء، وقتادة، وشبيل بن عزرة الضّبعي، وربيعة بن عمرو، وزيد بن علي. ينظر: «الشواذ» (68) ، و «المحتسب» (3448) ، و «البحر المحيط» (5/ 313) ، و «الدر المصون» (4/ 188) . (4) قال الزمخشري: ومن قرأ بسكون الميم فقد خطىء. (يعني: أثم) وقال مثله أبو عبيد كما في «اللسان» (أمه) . ينظر: «الكشاف» (2/ 476) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 249) ، و «البحر المحيط» (5/ 313) ، و «الدر المصون» (4/ 188) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 249) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 46 إلى 49]

الحسن بْنُ أَبي الحسن «1» : «أَنَا آتِيكُمْ» ، وكذلك في مُصْحَف أُبيٍّ. وقوله: فَأَرْسِلُونِ: استئذان في المضيّ. [سورة يوسف (12) : الآيات 46 الى 49] يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وقوله: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا: المعنى: فجاء الرسُولُ، وهو الساقِي، إِلى يوسُفَ، فقال له: يوسُفُ أيها الصديق، وسمَّاه صِدِّيقاً من حيث كانَ جَرَّب صَدقه في غَيْرِ ما شَيْءٍ، وهو بناء مبالغة مِنَ الصِّدْق، ثم قال له: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ، أي: فيمَنْ رأَى في المنامِ سَبْعَ بقراتٍ. وقوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، أي: تأويل هذه الرؤيا، فيزولَ هَمُّ المَلِكِ لذلك، وهَمُّ الناس، وقيل: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مكانَتَك من العلْمِ، وكُنُهَ فضلك فيكونَ ذلك سببا لتخلّصك ودَأَباً: معناه: ملازمةً لعادَتِكم في الزِّراعة. وقوله: فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ: إِشارة برَأْي نافعٍ بحسب طعامِ مِصْرَ وحِنْطَتِهَا التي لا تبقَى عامين بوجْهٍ إِلا بحيلةِ إِبقائها في السُّنْبُلِ، والمعنَى: اتركوا الزرْعَ في السُّنبُلِ إِلا ما لا غِنَى عنه للأكْلِ فيجتمع الطَّعام هكذا، ويتركَّب ويؤكَل الأَقْدَمُ فالأقدم، وروي أنَّ يوسُفَ عليه السلام لَمَّا خَرَجَ وَوَصَفَ هذا الترتيبَ للمَلِكِ، وأعجبه أمره، قال له المَلِكُ: قَدْ أسْنَدتُّ إِليك تولِّيَ هذا الأمْرِ في الأطْعِمَةِ هذه السنينَ المُقْبِلَة، فكان هذا أوَّلَ ما ولي يوسف، وتُحْصِنُونَ معناه: تحرزون وتحزنون قاله ابن عباس «2» ، وهو مأخوذٌ من الحِصْنِ، وهو الحِرْز والمَلْجَأُ ومنه: تحصُّن النساءِ لأنه بمعنى التحرُّز. وقوله: يُغاثُ النَّاسُ: جائز أنْ يكون من الغَيث، وهو قول ابن عبَّاس «3» ،

_ (1) وقرأ بها الحجاج، والحسن، ويحيى بن يعمر. ينظر: «الشواذ» (68) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 249) ، و «الكشاف» (2/ 476) ، و «البحر المحيط» (5/ 314) ، و «الدر المصون» (4/ 189) . (2) أخرجه الطبري (7/ 229) برقم: (19381) ، وذكره البغوي (2/ 429) ، وابن عطية (3/ 251) ، والسيوطي (4/ 41) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (7/ 230) برقم: (19387) ، وذكره البغوي (2/ 430) ، بلا نسبة، وابن عطية (3/ 251) ، والسيوطي (4/ 41) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 50 إلى 53]

وجمهور المفسِّرين، أي: يُمْطَرُون، وجائزٌ أنْ يكون من أغاثهم اللَّهُ: إِذا فَرَّجَ عنهم ومنه الغَوْث، وهو الفَرَجُ، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ: قال جمهور المفسِّرين: هي من عَصْر النباتاتِ، كالزيتون، والعَنَبِ، والقَصَبِ، والسِّمْسِمِ، والفِجْلِ، ومِصْرُ بَلَدُ عَصْرٍ لأشياء كثيرة. [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 53] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ... الآية: لمَّا رأى المَلِكُ وحاضروه نُبْلَ التَّعْبِير وحُسْنَ الرأْيِ، وتضمَّن الغيب في أمْر العامِ الثامِنِ، مع ما وُصِفَ به من الصِّدْق عَظُمَ يوسُفُ في نَفْس الملك، وقال: ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ: يعني: الملك، فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وقصْدُه عَلَيْه السلام بيانُ براءته، وتحقُّق منزلته من العِفَّة والخَيْرِ، فرسَمَ القصَّة بطَرَف منها، إِذا وقع النظَرُ عَلَيْه، بان الأمْرُ كله، وَنَكَبَ عن ذِكْرِ امرأة العزيز حُسْنَ عِشْرةٍ ورعايةٍ لذِمَامِ مُلْك العزيز له، وفي «صحيح البخاري» ، عن عبد الرحمن/ بن القاسِمِ صاحبِ مَالِكٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ولَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ لُبْثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» «1» : المعنى: لو كُنْتَ أنا، لَبَادَرْتُ بالخروج، ثم حاوَلْتُ بيان عُذْرِي بَعْدَ ذلك وذلك أَنَّ هذه القصص والنوازل، إِنما هي معرَّضة ليقتدي النَّاسُ بها إِلى يوم القيامة، فأراد صلّى الله عليه وسلّم حَمْلَ الناسِ على الأحزمِ من الأمورِ وذلك أن التارِكَ لمِثْلِ هذه الفُرْصَة ربَّما نَتَجَ له بسَبَبِ التأخير خلاَفُ مقصوده، وإِن كان يوسف قد أَمِنَ ذلك بِعِلْمِهِ من اللَّه، فغيْرهُ من الناس لا يأمَنُ ذلك، فالحالة التي ذهب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنفسه إِلَيْها حالَةُ حَزْمٍ ومدحٍ ليقتدى به، وما فعله يوسَفُ عليه السلام حالةُ صَبْرٍ وتجلُّد، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «2» : وانظر إِلى عظيمِ حلْمِ يوسُف عليه السلام وَوُفُورِ أدبه، كيف قال: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، فذكر النساءَ جملةً لتدخُلَ فيهنَّ امرأة العزيزِ مدْخَلَ العمومِ بالتلويحِ دون التصريح. انتهى. وهذه كانت أخلاق نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، لا يقابل أحداً بمكروهٍ، وإِنما يقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا» ، من غير تعيينٍ، وبالجملة فكلُّ خَصْلة حميدةٍ مذكُورَةٍ في القُرآنَ اتّصف بها الأنبياء والأصفياء، فقد

_ (1) تقدم تخريجه وهو حديث: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1091) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 54 إلى 57]

اتصف بها نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، إِذ كان خلقه القرآن، كما روته عائشةُ في الصحيحِ، وكما ذكر اللَّه سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] انتهى. وقوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، فيه وعيدٌ، وقوله: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ: المعنى: فَجَمَعَ المَلِكُ النِّسوة، وامرأة العزيزِ معَهُنَّ، وقال لهنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ ... الآية: أي: أيُّ شيء كانَتْ قصَّتَكُن، فجاوب النساءُ بجوابٍ جيدٍ، تظهر منه براءَةُ أَنفُسِهِنَّ، وأعطَيْنَ يوسُفَ بعْضَ براءةٍ، فقلْنَ: حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، فلما سمعت امرأة العزيزِ مقالَتَهُنَّ وَحَيْدَتَهُنَّ، حضَرَتْها نيَّةٌ وتحقيقٌ، فقالتِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أي: تبيَّنَ الحقُّ بعد خفائِهِ قاله الخليل وغيره، قال البخاريُّ: حَاشَ وحَاشَى: تنزيهٌ واستثناء، وحَصْحَصَ: وَضَح. انتهى. ثم أقرَّتْ على نفسها بالمراودةِ، والتزمت الذنْبَ، وأبرأَتْ يوسُفَ البراءةَ التامَّة. وقوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ إِلى قوله: إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ: اختلف فيه أَهْلُ التأويل، هل هو مِنْ قولِ يوسُفَ أَو من قول امرأة العزيز. [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 57] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي: المعنى: أن الملك، لَمَّا تَبَيَّنَتْ له براءة يُوسُفُ وتحقَّق في القصَّة أمانته، وفَهِمَ أيضاً صبره وعُلُوَّ همته، عظُمَتْ عنده منزلتُهُ، وتيقَّن حُسْنَ خلاله، فقال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فلما جاءه وكلَّمه قال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ: قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «1» : قوله: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ: أي: متمكِّن مما أردتَّ، أمين على ما ائتمنت عليه من شيء أمَّا أمانته فلظهورِ برائته، وأمَّا مكانته، فلثبوت عفَّته: ونَزَاهَتِهِ/ انتهى، وَلَمَّا فهم يوسُفُ عليه السلام من المَلِكِ أنَّه عزم على تصريفه والاستعانة بِنَظَرِهِ، قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، لما في ذلك من مصالح العباد. قال ع «2» : وطِلبَةُ يوسُفَ للعملِ إِنما هي حِسْبَةٌ منه عليه السلام في رغبته في أن

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1091) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 255- 256) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 58 إلى 67]

يقع العدلُ، وجائزٌ أيضاً للمرء أنْ يُثْنِيَ على نفسه بالحقّ، إذا جهل أمره، والخزائن: لفظٌ عامٌّ لجميع ما تختزنه المَمْلَكَة من طعامٍ ومالٍ وغيره. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ: الإِشارة ب «ذلك» إِلى جميع ما تقدَّم من جميلِ صنعِ اللَّه به، فروي أن العزيز ماتَ في تلك الليالي، وقال ابنُ إِسحاق: بل عَزَلَه المَلِكُ «1» ، ثم مات أظفير، فولاه المَلِكُ مكانَهُ، وَزَوَّجَه زوجَتَهُ، فلما دخَلَتْ علَيْه عَرُوساً، قال لها: أَلَيْسَ هذا خيراً مما كُنْتِ أردتِّ، فدخَلَ يوسُفُ بها، فَوَجَدَهَا بكْراً، وولَدَتْ له ولدَيْنِ، ورُوِيَ أيضاً أَنَّ الملك عزَلَ العزيزَ، وولَّى يوسُفَ موضعَهُ، ثم عظُمَ مُلْكُ يوسُفَ وتغلَّب على حالِ المَلِكِ أجمع، قال مجاهدٌ: وأسْلَمَ المَلِكِ آخِرَ أمْره «2» ، ودَرَسَ أمر العزيز، وذهبتْ دنياه، وماتَ، وافتقرت زوجته، وشاخَتْ، فلما كان في بعض الأيامِ، لَقِيَتْ يوسُفَ في طريقٍ، والجنودُ حوله ووراءه، وعلى رأسه بُنُودٌ عليها مكتوبٌ: هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108] فَصَاحَتْ به، وقالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ أَعَزَّ العبيدَ بالطَّاعةَ، وأذَلَّ الأربابَ بالمَعْصِيةِ، فعرفَهَا، وقالَتْ له: تَعَطَّفَ عَلَيَّ وارزقني شيئاً، فدعا لها، وكلَّمها، وأشفَقَ لحالها، ودعا اللَّه تعالى فرَدَّ عليها جمالَهَا، وتزوَّجها، ورُوِيَ في نحو هذا مِنَ القصص ما لا يُوقَفُ على صحَّته، ويطولُ الكلامُ بسَوْقه، وباقي الآية بيِّن واضحٌ للمستبصرين، ونورٌ وشفاءٌ لقلوب العارفين. وقوله: «لِيُوسُفَ» : أبو البقاء: اللام زائدةٌ، أي: مَكَّنّا يُوسُفَ، ويجوز ألا تكون زائدة، فالمفعول محذوفٌ، أي: مكنا ليوسف الأمورَ. انتهى. [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 67] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 242) برقم: (19466) ، وذكره البغوي (2/ 433) ، وابن عطية (3/ 256) ، وابن كثير (2/ 482) ، والسيوطي (4/ 46) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (7/ 242) برقم: (19469) ، وذكره البغوي (2/ 433) ، وابن عطية (3/ 256) ، والسيوطي (4/ 44) ، وعزاه لابن جرير.

وقوله عز وجل: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، قال السدِّيُّ «1» وغيره: سبب مجيئهم أنَّ المجاعة اتصلت ببلادِهِمْ، وكان النَّاس يمتارُونَ مِنْ عنْد يوسُف، وهو في رتبة العزيز المتقدِّم، وكان لا يعطي الوارد أكثر مِنْ حِملٍ بَعِيرٍ يُسَوِّي بين الناس، فلما ورد إِخوته، عَرَفَهم، ولم يَعْرفُوه لِبُعْدِ العهد وتغيُّر سنِّه، ولم يقعْ لهم بَسَبِب مُلْكه ولسانِهِ القبْطِيِّ ظنٌّ عليه، ورُوِيَ في بعض القصص، أنه لما عرفهم أراد أنْ يخبروه بجميعِ أمرهم، فباحَثَهُمْ بأنْ قال لهم بتَرْجُمَانٍ: «أُظنُّكُمْ جواسِيسَ» ، فاحتاجوا حينئذٍ إِلى التعريفِ بأنفسهم، فقالوا: نَحْنُ أبناءُ رجُلٍ صِدِّيقٍ، وكنا اثْنَيْ عَشَرَ ذهب منَّا واحدٌ في البَرِّيَّة، وبقي أصغرنا عنْدَ أبينا، وجئْنَا نَحْن للميرة، وسقنا بعير الباقي منَّا، وكنا عَشَرَةً، ولهم أحدَ عَشَرَ بعيراً، فقال لهم يوسف: ولِمَ تخلَّفَ أحدكم؟ قالوا: لمحبَّة أبينا فيه، قال: فأتوا بهذا الأخِ حتى/ أعلم حقيقة قَوْلِكم، وأرَى لِمَ أحَبُّهُ أبوكم أَكْثَرَ منكم إِن كنتم صادقين، وروي في القصص أنهم وَرَدُوا مصْرَ واستأذنوا على العزيز، وانتسبوا في الاستئذان، فعرفَهُمْ، وأمر بإِنزالهم وأدخَلَهم في ثاني يومٍ على هيئة عظيمةٍ لمُلْكِه، وروي أنه كان متلثِّماً أبداً سَتْراً لجماله، وأنه كان يأخذ الصُّوَاع، فينقره، ويَفْهم منْ طنينه صدْقَ الحديثِ منْ كذبه، فَسُئِلوا عن أخبارهم، فكلَّما صدقوا، قال لهم يوسف: صَدَقْتم، فلما قالوا: وكَانَ لَنَا أخٌ أكله الذِّئب، أطنَّ يوسُفُ الصُّواع، وقال: كَذَبْتم، ثم تغيَّر لهم، وقال: أراكُمْ جواسيسَ، وكلَّفهم سَوْقَ الأخ الباقي ليظهر صدْقُهم في ذلك في قصصٍ طويلٍ، جاءت الإِشارة إِليه في القرآن، «والجهاز» ما يحتاج إِليه المسافر من زَادٍ ومتاعٍ. وقوله: بِأَخٍ لَكُمْ ص: نَكَّرَهُ، ليريهم أنه لا يعرفُهُ، وفَرْقٌ بين غلامٍ لك، وبين غلامِكَ، ففي الأول أنت جاهلٌ به، وفي الثاني أنْتَ عالمٌ، لأن التعريف به يفيدُ نَوْعَ عهدٍ في الغلامِ بَيْنَكَ وبين المخاطَب، انتهى. وقول يوسف: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ ... الآية: يرغِّبهم في نفسه آخرا

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 243) برقم: (19471) ، وذكره ابن عطية (3/ 257- 258) .

ويؤنّسهم ويستميلهم، والْمُنْزِلِينَ: يعني: المُضِيفين، ثم توعَّدهم بقوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ، أي: في المستأنف، وروي عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كَانَ يُوسُفُ يُلْقِي حَصَاةً في إِنَاءِ فِضَّةٍ مَخُوصٍ بالذَّهَبِ فَيَطِنُّ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الإِنَاءَ يُخْبِرُنِي أَنَّ لَكُمْ أَباً شَيْخاً» ، ورُوِيَ أنَّ ذلك الإِناء به كان يَكِيلُ الطعامَ، إِظهاراً لِعزَّته بحسب غَلاَئِهِ، وروي أن يوسُفَ استوفى في تلك السنين أمْوَالَ الناسِ، ثم أملاكَهم، وظاهر كُلِّ ما فعله يوسُفُ معهم أنَّه بوحْيٍ وأمْرٍ، وإِلا فَكَانَ بِرُّ يعقوب يقتضي أن يبادِرَ إِلَيْهِ ويستَدْعيه، لكنَّ اللَّه تَعَالى أَعلمه بما يَصْنَعُ ليكمل أجْرَ يعقوب ومِحْنته، وتتفسَّر الرؤيا الأُولى. وقوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها: يريد: لعلَّهم يعرفون لها يداً وتكرمةً يَرَوْنَ حقَّها فيرغبون في الرجوعِ إِلينا، وأما مَيْزُ البِضَاعة، فلا يُقَالُ فيه: «لَعَلَّ» وقيل: قصد يوسف بِرَدِّ البضاعة أنْ يتحرَّجوا مِنْ أخْذِ الطعامِ بِلا ثَمنٍ، فيرجعوا لدَفْعِ الثمنِ، وهذا ضعيفٌ من وجوهٍ، وسرُورُهُم بالبضَاعةِ، وقولهم: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا يكشف أنَّ يوسف لم يَقْصِدْ هذا، وإِنما قصد أنْ يستميلهم، ويصلهم، ويُظْهِر أَنَّ ما فعله يوسف من صلتهم وجَبْرهم في تِلْكَ الشِّدَّة كان واجباً عليه، وقيلَ: عَلِمَ عَدَمَ البضاعةِ والدَّراهمِ عند أبيه فرَدَّ البضاعة إِليهم لئِلاَّ يمنعهم العُدْمُ من الرجوعِ إِليه، وقيل: جعلها توطئةً لجعل السقاية في رَحْلِ أخيه بعد ذلك، ليبيِّن أنه لم يَسْرِقْ لمن يتأمَّل القصَّة، والظاهر منَ القصَّة أنه إِنما أَراد الاستئلاف وصِلَةَ الرحِمِ، وأصْلُ «نَكْتَلْ» : «نَكْتَئِل» ، وقولهم: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ: ظاهره أنهم أشاروا إِلى قوله: فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي، فهو خوفٌ في المستأنفِ، وقيل: أشاروا إِلى بعيرِ يَامِينَ، والأولْ أرجَحُ، ثم تضمَّنوا له حِفْظَه وحَيْطَته، وقول يعقوبَ عليه السلام: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ... الآية: «هَلْ» توقيفٌ وتقريرٌ/ ولم يصرِّح بمنعهم مِنْ حمله لما رأَى في ذلك مِنَ المصلحة، لكنَّه أعلمهم بقلَّة طَمَأْنينَتِهِ إِليهم، ولكنْ ظاهر أمرهم أنهم قد أنابُوا إِلى اللَّه سُبْحانه، وانتقلَتْ حالهم، فلم يَخَفْ على يَامِينَ، كخوفه علَى يوسُفَ، وقرأ نافعٌ وغيره «1» : «خَيْرٌ حِفْظاً» ، وقرأ حمزة وغيره: «خَيْرٌ حَافِظاً» ، ونصب ذلك في القراءتين على التمييز والمعنى: أنَّ حفظ اللَّه خَيْرٌ من حفْظِكم، فاستسلم يعقوبُ عليه

_ (1) وحجتهم في ذلك قولهم قيل: وَنَحْفَظُ أَخانا، فلما أضافوا إلى أنفسهم، قال يعقوب: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً أي من حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم. وحجة الباقين: قولهم قبل: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ، فقال يعقوب رادّا عليهم: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً. ينظر: «العنوان» (111) ، و «شرح الطيبة» (4/ 386) ، و «شرح شعلة» (440) ، و «إعراب القراءات» (1/ 314) . [.....]

السلام للَّهِ، وتوكَّل علَيْه، وقولهم: مَا نَبْغِي: يحتمل أنْ تكون «ما» استفهاما قاله قتادة: ونَبْغِي: من البُغْية، أي: ماذا نَطْلُبُ بَعْدَ هذه التَّكْرِمَة هذا مَالُنَا رُدَّ إِلينا مع مِيرَتِنا، قال الزَّجَّاج «1» : ويحتمل أنْ تكون «ما» نافية، أي: ما بقي لنا ما نَطْلُبُ، ويحتمل أن تكون أيضا نافية، ونَبْغِي من البَغْيِ، أي: ما تَعَدَّيْنا فَكَذَبْنا على هذا المَلِكِ، ولا في وَصْف إِجماله وإِكرامه، هذه البضاعةُ رُدَّت إِلينا، وقرأ أبو حَيْوة «2» : «ما تَبْغِي» على مخاطبة يعقوبَ، وهي بمعنى ما تُرِيدُ، وما تطلب وقولهم: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يريدون بَعِيرَ أخيهم إِذ كان يوسُفُ إِنما حمل لهم عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ، ولم يحملِ الحادِيَ عشر لغيب صاحبه، وقولهم: ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ: قيل: معناه: يسيرٌ على يوسف أنْ يعطيه. وقال السدِّيَّ: يَسِيرٌ، أي: سريع لاَ نُحْبَسُ فيه ولا نُمْطَلُ «3» . وقوله تعالى: فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ الآية: أي لمَّا عاهدوه، أشْهَدَ اللَّه بينه وبينهم بقوله: اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، و «الوكيلُ» : القيِّم الحافظُ الضَّامن. وقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ: لفظٌ عامٌّ لجميع وجوه الغَلَبة، وانظر أنَّ يعقوبَ عليه السلام قد توثَّق في هذه القصَّة، وأشْهَدَ اللَّه تعالى، ووصَّى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكُّله، فهذا توكُّل مع سبب، وهو توكُّل جميعِ المؤمنين إِلا مَنْ شَذَّ في رَفْض السعْي بالكليَّة، وقَنِعَ بالماء وبَقْلِ البَرِّيَّة، فتلك غايَةُ التوكُّل، وعليها بعضُ الأنبياء عليهم السلام، والشارعُونَ منهم مثبتون سُنَنَ التسبُّب الجائز، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جَمْرَةَ رضي اللَّه عنه: وقد اشتمل القُرْآنَ على أَحكامٍ عديدةٍ، فمنها: التعلُّق باللَّه تعالَى، وتركُ الأسبابِ، ومنها: عمل الأسبابِ في الظاهِرِ، وخُلُوُّ الباطن من التعلُّق بها، وهو أجلُّها وأزكاها لأن ذلك جَمْعٌ بينَ الحكمَةِ وحقيقة التَّوْحيد، وذلك لا يكُونُ إِلا للأفذاذِ الذين مَنَّ اللَّه عليهم بالتوْفِيق ولذلك مَدَحَ اللَّه تعالى يعقوب عليه الصلاة والسلام في كتابه، فقال: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 68] لأنه عمل الأسباب، واجتهد/ في توفيتها، وهو مقتضَى الحكمةِ، ثم رَدَّ الأمر كلَّه للَّه تعالى، واستسلم إِليه، وهو حقيقةُ التَّوحيد، فقال: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ... الآية، فأثنى

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (3/ 118) . (2) وهي قراءة ابن مسعود كما في «الكشاف» (2/ 486) ، وينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 260) ، و «البحر المحيط» (5/ 321) ، و «الدر المصون» (4/ 195) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 261) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 68 إلى 69]

اللَّه تعالَى عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ جمعه بَيْن هاتين الحَالَتَيْنِ العظيمتين. وقوله: لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ: قيل: خَشِيَ عليهم العَيْنَ، لكونهم أحَدَ عَشَر لرجلٍ واحدٍ، وكانوا أهْلَ جمالٍ وبسطة قاله ابن عباس وغيره «1» . [سورة يوسف (12) : الآيات 68 الى 69] وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَّا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) وقوله سبحانه: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ، روي أنه لَمَّا ودَّعوا أباهم، قال لهم: بَلِّغوا مَلِكَ مِصْر سَلاَمِي، وقولُوا له: إِنَّ أَبانا يصلِّي عليك، ويَدْعُو لك، ويَشْكُر صنيعك مَعَنَا، وفي كتاب أبي مَنْصُورٍ المهرانيِّ أنه خاطَبَه بكتابٍ قُرِىءَ على يوسف، فبكَى. وقوله سبحانه: مَّا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها: بمثابة قولهم: لم يكُنْ في ذلك دَفْعُ قَدَرِ اللَّه، بل كان أرَباً ليعقُوبَ قضاه، فالاستثناء ليس من الأولِ، والحاجةُ هي أنْ يكون طَيِّب النفْس بدخولهم من أبواب متفرِّقة خَوْفَ العين، ونظير هذا الفعْلِ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سَدَّ كُوَّةً في قَبْرٍ بِحَجَرٍ، وقال: «إِنَّ هَذَا لاَ يُغْنِي شَيْئاً، ولكِنَّهُ تَطْيِيبٌ لِنَفْسِ الحَيِّ» ، ثم أثنى اللَّه عزَّ وجلَّ على يعقوب بأنه لُقِّنَ ما علَّمه اللَّه من هذا المَعْنى، وأن أكثر الناس لَيْسَ كذلك، وقال قتادة: معناه: لَعَامِلٌ بما علَّمناه «2» ، وقال سفيان: من لا يعمل لاَ يَكُونُ عالماً «3» . قال ع «4» : وهذا لا يعطيه اللفْظُ، أمَّا أنَّه صحيحٌ في نفسه يرجِّحه المعنى وما تقتضيه منزلةُ يعقُوبَ عليه السلام. وقوله: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قال ابنُ إِسحاق وغيره: أخبره بأنه أخوهُ حقيقةً، واستكتمه، وقال له: لا تبال بكلِّ ما تراه من المَكْروه في تحيّلي في أخذك منهم، وكان

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 249) برقم: (19496) ، وذكره ابن عطية (3/ 261) ، وابن كثير (2/ 484) ، والسيوطي (4/ 49) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (7/ 250) برقم: (19506) ، وذكره ابن عطية (3/ 262) ، وابن كثير (2/ 284) ، والسيوطي (4/ 49) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (7/ 250) برقم: (19508) ، وذكره ابن عطية (3/ 262) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 262) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 70 إلى 72]

يَامِينُ شقيقَ يُوسُفَ. وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ: يحتمل أنْ يشير إِلى ما عمله الإِخوة، ويحتمل الإِشارة إِلى ما يعمله فتيانُ يُوسُفَ من أمْرِ السقاية، ونحو ذلك، وتَبْتَئِسْ: من البُؤْس، أي: لا تَحْزَنْ، ولا تَهْتَمَّ، وهكذا عبّر المفسّرون. [سورة يوسف (12) : الآيات 70 الى 72] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) وقوله سبحانه: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ: هذا من الكَيْد الذي يَسَّره اللَّه ليوسُفَ عليه السلام، وذلك أنه كان في دين يَعْقُوبَ أنْ يُسْتَبْعَدَ السارقُ، وكان في دِينِ مِصْرَ أن يُضْرَبَ، ويُضَعَّف عليه الغُرْم، فعلم يوسُفُ أَنَّ إِخوته لثقتهم ببراءة سَاحَتِهِمْ سَيَدْعُونَ في السَّرقة إِلى حكمهم، فتحيَّل لذلك، واستسهل الأَمرَ على ما فيه مِنْ رَمْي أبرياء وإِدخالِ الهَمِّ على يَعْقُوب وعَلَيْهِم لِمَا علم في ذلك من الصَّلاح في الآجِلِ، وبوَحْيِ لا محالة، وإِرادةٍ مِنَ الله محنتهم بذلك، والسِّقايَةَ: الإِناء الذي به يَشْرَبُ المَلِكُ وبه كان يَكِيلُ الطعام للنَّاس هكذا نصَّ جمهور المفسِّرين ابنُ عباس وغيره، وروي أنه كان مِنْ فضَّة «1» ، وهذا قولُ الجمهور، وكان هذا الجعل بغَيْرِ عِلْم من «يَامين» / قاله السُّدِّيُّ «2» وهو الظاهر، «فلما فَصَلَتِ العير» بأوقارها، وخرجَتْ من مصر فيما رُوِيَ أمر بهم فَحُبِسُوا، وأذن مؤذن أيتها العير إِنكم لسارقُونَ، ومخاطبةُ العِير مجازٌ، والمراد أربابها. ت: قال الهَرَوِيُّ: قوله تعالى: أَيَّتُهَا الْعِيرُ: «العير» : الإِبلُ والحمير التي يحمل عليها الأحمال، وأراد أصحاب العير وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا خَيْلَ اللَّهِ، اركبي» » أراد: يا أَصْحَابَ خَيْلِ اللَّهِ اركبي، وأنَّث «أَيًّا» لأَنه للعيرِ، وهي جماعة، انتهى. فلما

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 255) برقم: (19532) ، وذكره ابن كثير (2/ 485) ، والسيوطي (4/ 50) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وأبي الشيخ، وابن منده في «غرائب شعبة» ، وابن مردويه، والضياء. (2) أخرجه الطبري (7/ 253) برقم: (19527) ، وذكره البغوي (2/ 438) . (3) قال السخاوي في «المقاصد» ص: (473- 474) : أخرجه أبو الشيخ في الناسخ والمنسوخ من طريق أبي حمزة السكري عن عبد الكريم حدثني سعيد بن جبير عن قصة المحاربين، قال: كان ناس أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على الإسلام، فذكر القصة وفيها فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فنودي في الناس: يا خيل الله اركبي، فركبوا لا ينتظر فارس فارسا، وللعسكري من حديث عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس

سمع إِخْوَةُ يوسُفَ هذه المقالة، أقبَلوا عليهم، وساءهم أَنْ يُرْمَوْا بهذه المَثْلَبَة، وقالوا: ماذا تَفْقِدُونَ، ليقع التفْتِيشُ، فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإِنكار من أوَّل، بل سألوا إِكمال الدعوَى عسى أنْ يكون فيها ما تبطل به، فلا يَحْتَاج إِلى خصامٍ، قالوا: نفقدُ صُوَاعَ المَلِكِ، وهو المِكْيَالُ، وهو السِّقَايَةُ، قال أبو عُبَيْدة: يؤنَّث الصُّوَاع مِنْ حيْثُ سمي سِقَايَةً، ويذكَّر من حيث هو صَاعٌ. ت: ولفظ أبي عُبَيْدة الهَرَوِيُّ قال الأَخفش: الصَّاع: يذكَّر ويؤنَّث، قال اللَّه تعالى: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فأنَّثَ، وقَالَ: لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ فذكَّرَ لأنه عنى به الصُّوَاع. انتهى. وقوله: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ: أي: لمن دَلَّ على سارقه، وجَبَرَ الصَّواع، وهذا جُعْل. وقوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ: حَمَّالَةٌ، قال مجاهد: «الزَّعيم» : هو المُؤَذِّن الذي قال أيَّتُهَا العِير «1» و «الزعيم» : الضامنُ في كلام العرب.

_ في حديث ذكره، قال: فنادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا خيل الله اركبي، ومن حديث يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لحارثة بن النعمان؟ كيف أصبحت: الحديث وفيه أنه قال: يا نبي الله ادع الله لي بالشهادة فدعا له قال: فنودي يوما بالخيل: يا خيل الله اركبي، قال: فكان أول فارس ركب وأول فارس استشهد، ولابن عائذ في «المغازي» ، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ يعني: يوم قريظة يوم الأحزاب مناديا ينادي: يا خيل الله اركبي وعزى السهيلي في غزوة حنين من «الروض» هذه اللفظة «لصحيح مسلم» فيحرر، نعم عند ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيرهما قالوا: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني لحيان، فذكر حديث إغارة بني فزارة على لقاح النبي صلّى الله عليه وسلّم صرخ في المدينة: يا خيل الله اركبوا، وجاءت أحاديث عن علي وخالد بن الوليد، ففي «المستدرك» للحاكم في قصة أويس من حديث أبي نضرة، عن أسير بن جابر، فذكر القصة وقال في آخرها: فنادى علي: يا خيل الله اركبي، وفي الردة للواقدي من رواية عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد أن خالد بن الوليد قال لأصحابه يوم اليمامة: يا خيل الله اركبي، فركبوا وساروا إلى بني حنيفة، وقال أبو داود في «السنن» : باب: النداء عند النفير: يا خيل الله اركبي، وساق في الباب حديث سمرة بن جندب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمّى خيلنا خيل الله، وللعسكري من حديث موسى بن نفيع الحارثي عن مشيخة من قومه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الأناة في كل شيء خير إلا في ثلاث: إذا صيح في خيل لله فكونوا أول من يشخص. وذكر حديثا، قال العسكري قوله: يا خيل الله اركبي، هذا على المجاز والتوسع، أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، فاختصر لعلم المخاطب بما أراد. (1) أخرجه الطبري (7/ 256) برقم: (19550- 19551) ، وذكره البغوي (2/ 439) ، وابن عطية (3/ 264) ، والسيوطي (4/ 51) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 73 إلى 76]

[سورة يوسف (12) : الآيات 73 الى 76] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) وقوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ: روي أن إِخوة يوسُفَ كانُوا رَدُّوا البِضَاعة المَوْجُودة في الرِّحَال، وتحرَّجوا مِنْ أخْذ الطعام بلا ثَمَنٍ فلذلك قالوا: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أي: لقد علمْتُمْ منا التحرِّي، وروي أنهم كانوا قَدِ اشتهروا بِمِصْرَ بصَلاَحٍ وتعفُّفٍ، وكانوا يجعلُونَ الأَكِمَّةَ في أفواه إِبلهم، لَئَلاَّ تنَالَ زروعَ الناسِ فلذلك قالوا: لَقَدْ عَلِمْتُمْ، والتاء في «تَاللَّهِ» بدلٌ من الواو، ولا تدخُلُ التَّاء في القَسَمِ إِلاَّ في هذا الاسم. قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» : قال الطبري «2» : قوله تعالى: قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ على حذف مضافٍ، تقديره: جزاؤه استعباد أو استرقاق مَنْ وَجَدَ في رَحْله. انتهى. وقولهم: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ: أي: هذه سُنَّتنا ودِينُنا في أهْل السَّرقة أنْ يتملَّك السارق كما تَمَلَّكَ هو الشيءَ المَسْرُوق. وقوله سبحانه: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ... الآية: بدؤه أيضاً من أوعيتهم تمكينٌ للحِيلَةِ، وإِبعادٌ لظُهُور أنها حيلةٌ، وأضافَ اللَّه سبحانَهُ الكَيْدَ إِلى ضميره لَمَّا خَرَجَ القَدْرُ الذي أباح به ليُوسُفَ أَخْذَ أخِيهِ مَخْرَجَ ما هو في اعتقاد النَّاس كَيْدٌ، وقال السّدّيّ والضّحّاك: كِدْنا: معناه: صنعنا «3» ، ودِينِ الْمَلِكِ: فسَّرَه ابن عباس بسُلْطَانِهِ «4» ، وفسَّره قتادة بالقضاءِ والحُكُم «5» ، وهذا متقاربٌ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «6» : قوله تعالى:

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1098) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 258) . [.....] (3) أخرجه الطبري (7/ 261) برقم: (19573) ، وبرقم: (19574) ، والبغوي (2/ 440) ، وابن عطية (3/ 265) ، والسيوطي (4/ 51) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (7/ 261) برقم: (19575) ، وذكره البغوي (2/ 440) ، وابن عطية (3/ 266) ، والسيوطي (4/ 51) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (5) أخرجه الطبري (7/ 261) برقم: (19577- 19578) ، وذكره ابن عطية (3/ 266) ، والسيوطي (4/ 52) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (6) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1099) .

كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ، إذ كان المَلِكُ لا يَرَى استرقاق السَّارق، وإِنما كان دِينُهُ أنْ يأخذ المجنيُّ/ عليه من السارق مِثْلَي السَّرقَةِ. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: التزام الإِخوة لدين يعقوبَ بالاسترقاق، فَقَضَى عليهم به، انتهى. قال ع «1» : والاستثناء في هذه الآيةِ حكايةُ حال التقديرِ، إِلا أنْ يشاء اللَّه مَا وَقَعَ من هذه الحيلةِ، وروَى أبو عمر بْنُ عَبْدِ البَرِّ بسنده، عن مالك، عن زيد بن أسلم أنه قال في قَوْلِهِ عَزَّ وجلَّ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ: قال: بالعلْمِ، انتهى من «كتاب العلم» . وقوله سبحانه: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، المعنى: أنَّ البَشَرَ في العلْمِ درجاتٌ، فكلُّ عالمٍ فلا بُدَّ مِنْ أعْلَمَ منه، فَإِما من البَشَرِ، وإِما اللَّه عزَّ وجلَّ، فهذَا تأويلُ الحَسَن وقتادة وابن عباس «2» وروي أيضاً عن ابن عبَّاس: إِنما العليمُ اللَّهُ، وهو فوقَ كل «3» ذي علم. قال ابن عطاء في «التنوير» : اعلم أنَّ العلْمَ حيثُ ما تكرَّر في الكتابِ العزيز، أو في السُّنَّة، فإِنما المرادُ به العِلْمُ النافِعُ الذي تقارنُهُ الخشية، وتكتنفه المَخَافة. انتهى. قال الشيخ العارفُ أبو القاسم عبْدُ الرحمن بْنُ يوسُفَ اللَّجَائيُّ رحمه اللَّه: إِذا كَمُلَتْ للعبدِ ثلاَثُ خِصَالٍ، وصَدَقَ فيها، تفجَّرَ العْلْمُ مِنْ قَلْبِهِ على لسانه، وهي الزُّهْد، والإِخلاص، والتقوى، قال: ولا مَطْمَعَ في هذَا العلْمِ المذكور إِلا بَعْدَ معالجة القَلْبِ مِنْ علله التي تشينه، كالكِبْر، والحَسَد، والغَضَبِ، والرياء، والسُّمْعة، والمَحْمَدَة والجاه، والشَّرَف، وعُلُوِّ المنزلة، والطمَعِ، والحِرْصِ، والقَسْوة، والمُدَاهَنة، والحِقْد، والعَدَاوة، وكلِّ ما عَدَدْنَاهُ من العلل، وما لم نَعُدَّهُ راجعٌ إِلى أصل واحدٍ، وهو حبُّ الدنيا، لأنَّ حبها عنه يتفرَّعُ كلُّ شر، وعنه يتشعَّب كلُّ قبيح، فإِذا زالَتْ هذه العِلَلُ ظهر الصِّدْق، والإِخلاص، والتواضُعُ، والحِلْم، والوَرَعِ، والقَنَاعة، والزُّهْد، والصَّبْر، والرِّضا، والأُنْسُ، والمَحَبَّة، والشَّوْق، والتوكُّل، والخَشْية، والحُزْن، وقِصَر الأَمَلِ، وَمِزَاجُ النية بالعمل، فينبُعُ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 265- 266) . (2) أخرجه الطبري (7/ 263- 264) برقم: (19597- 19598- 19599- 19600) وبرقم: (19590) ، وذكره ابن عطية (3/ 266) ، وابن كثير (2/ 486) ، والسيوطي (4/ 53) ، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (7/ 263) برقم: (19587- 19588) ، وذكره ابن عطية (3/ 266) ، وابن كثير (2/ 486) ، والسيوطي (4/ 52) ، وعزاه للفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» .

[سورة يوسف (12) : الآيات 77 إلى 79]

العلم، وينتفي الجهل، ويضيء القلب بنور إلا هيّ، ويتلألأ الإِيمان، وتوضح المعرفةُ، ويتَّسِعُ اليقينُ، ويتقوَّى الإِلهام، وتبدو الفراسَاتُ، ويصفى السرُّ، وتتجلَّى الأسرار، وتوجد الفوائدُ. قال رحمه اللَّه: وليس بَيْنَ العبدِ والترقِّي مِنْ سُفْلٍ إِلى عُلْوٍ إِلاَّ حُبُّ الدنيا فإِن الترقِّي يتعذَّر مِنْ أجْل حبِّها لأنها جاذبة إِلى العالَمِ الظلمانيِّ، وطباعُ النفوس لذلك مائلةٌ، فإِنْ أردتَّ أنْ تقتفي أثَرَ الذاهِبينَ إِلى اللَّه تعالى، فاستخف بدنياك، وانظرها بعَيْن الزَّوال، وأَنْزِلْ نَفْسَكَ عندَ أخْذِ القُوتِ منها منزلَةَ المُضْطَرِّ إِلى الميتة، والسَّلام. انتهى. وروي أن المفتِّش كان إِذا فَرَغَ من رَحْلِ رَجُلٍ، فلم يجدْ فيه شيئاً، استغفر اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فعله ذلك، وظاهر كلام قتادة وغيره أنَّ المستغفِرَ هو يُوسُفُ حتى انْتَهَى إِلى رَحْلِ بِنْيَامِينَ، فقال: ما أظَنُّ هذا الفتى رضي بهذا، ولا أخذ شيئاً، فقال له إِخوته: واللَّهِ، لاَ تَبْرَحْ حَتَّى تُفَتِّشَهُ، فهو أطْيَبُ/ لنفسك ونفوسِنَا، فَفَتَّشَ حينئِذٍ، فأخْرَجَ السِّقاية، وروي أنَّ أُخوة يوسُفَ لما رأَوْا ذلك، عَنَّفُوا بِنْيَامِينَ، وقالوا له: كَيْفَ سَرَقْتَ هذه السِّقَايَةَ؟ فقال لهم: واللَّهِ، ما فَعَلْتُ، فَقَالُوا له: فَمَنْ وَضَعَهَا في رَحْلِكَ؟ قالَ: الذي وَضَعَ البِضَاعَةَ في رِحَالِكُمْ، والضمير في قوله: اسْتَخْرَجَها: عائدٌ على السّقاية، ويحتمل على السّرقة. [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 79] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) وقوله سبحانه: قالُوا إِنْ يَسْرِقْ أي: قالوا إِخوةُ يوسُفَ: إِن كان هذا قَدْ سَرَقَ، فغير بِدْعٍ من ابني رَاحِيلَ لأَن أخاه يوسُفَ قد كان سَرَقَ، فهذا من الإِخوة إِنحاءٌ على ابني رَاحِيلَ يُوسُفَ وَيَامِينَ، وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إِنما كَانَتْ بحسب الظاهِرِ، ومُوجِبِ الحُكْم في النازلتين، فلم يَعْنُوا في غِيبَةٍ ليُوسُفَ، وإِنما قصدوا الإِخبار بأمر جَرَى ليزولَ بعضُ المَعرَّة عنهم، ويختصَّ بها هذان الشقيقَان، وأما ما رُوِيَ في سَرِقَةِ يوسُفَ، فالجمهورُ عَلَى أنَّ عمَّته كانَتْ رَبَّتْهُ، فلما شَبَّ، أَراد يعقوبُ أخْذَهُ منها، فَوَلِعَتْ به، وأشفقَتْ من فِرَاقِهِ، فأخَذَتْ مِنْطَقَةَ إِسحاق، وكانت متوارثةً عندهم، فنطَّقته بها مِنْ تَحْتِ ثيابه، ثم صاحَتْ، وقالتْ: إِني قَد فَقَدتُّ المِنْطَقَةَ، ويوسُفُ قد خَرَجَ بها، ففتَّشَتْ، فَوُجِدَتْ عنده، فاسترقته، حَسَبَ ما كان في شَرْعِهم، وبقي عنْدَها حَتَّى ماتَتْ، فصار عِنْدَ أبيه. وقوله: فَأَسَرَّها يُوسُفُ: يعني: أسرَّ الحزَّة التي حَدَثَتْ في نفسه من قول الإِخوة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 80 إلى 84]

وقوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ... الآية: الظاهر منه أنه قالها إِفصاحاً كأنه أسَرَّ لهم كراهيةَ مقالتهم، ثم نجَهَهُمْ بقوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً: أي: لسوءِ أفعالكم، واللَّه أعلم أنْ كان ما وصفتموه حقًّا، وفي اللفظ إِشارةٌ إِلى تكذيبهم وممَّا يُقَوِّي هذا عِنْدِي أنهم تركُوا الشَّفاعة بأنفسهم، وعدَلُوا إِلى الشفاعة بأبيهم عليه السلام، وقالتْ فرقة: لم يقُلْ هذا الكلامَ إِلا في نَفْسه، وإِنه تفسيرٌ للذي أسَرَّ في نفسه، فكأَنَّ المراد: قال في نَفْسِهِ: أنتم شرُّ مكاناً، وذكر الطبريُّ هنا قصصاً اختصاره أنَّه لما استخرجت السقايةُ مِنْ رَحْلِ يامين، قال إخوته: يا بَنِي رَاحِيلَ، لاَ يَزَالُ البلاءُ يَنَالُنَا مِنْ جِهَتِكُمْ، فقال يَامِينُ: بل بَنُو رَاحِيلَ ينالُهُمُ البلاءُ منكم، ذهبتم بأخِي، فَأَهْلَكْتُمُوهُ، ووضع هذا الصُّواعَ في رَحْلِي الذي وَضَعَ الدراهمَ في رحالِكُمْ، فقالوا: لا تَذْكُر الدراهم، لَئَلاَّ نؤْخَذَ بها، ثم دَخَلُوا على يوسُفَ، فأخذ الصُّواع، فَنَقَرَهُ، فَطَنَّ، فقال: إِنه يخبر أنَّكم ذهبتم بأخٍ لكم، فَبِعْتُمُوهُ، فَسَجَدَ يامين، وقال: أيها العزيزُ، سَلْ صُوَاعَكَ هذا يُخْبِرُكَ بالحقِّ، في قصص يَطولُ آثرنا اختصاره. وروي أن رُوبِيلَ غَضِبَ، وقَفَّ شَعْرَه، حتى خرج من ثيابِهِ، فأمر يوسُفُ بنيًّا له، فمسَّه فسكَنَ غضبه، فقال رُوبيلُ: لقد مسَّني أحدٌ من ولد يعقُوبَ، ثم إِنهم تشاوَرُوا في محارَبَةِ يُوسُفَ، وكانوا أَهْلَ قُوَّةٍ، لا/ يُدَانَوْنَ في ذلك، فلما أحَسَّ يوسُفُ بذلك، قام إِلى رُوبِيلَ، فلبَّبه وصَرَعَهُ، فرأَوا من قوّته ما استعظموه، وقالوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ... الآية، وخاطبوه باسم العزيز، إِذ كان في تِلْكَ الخُطَّةَ بعَزْلِ الأول أو موته، على ما رُوِيَ في ذلك، وقولهم: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ يحتمل أنْ يكونَ ذلك منْهم مجازاً، ويحتمل أنْ يكون حقيقةً علَى طريقِ الحَمَالَةِ حتى يَصِلَ يَامِينُ إِلى أَبيه، ويعرف يعقوبُ جليَّة الأمر، فمَنَع يوسُفُ من ذلك، وقال: مَعاذَ اللَّهِ ... الآية. [سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 84] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) وقوله سبحانه: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ... الآية: يقال: يَئِسَ واستيأس بمعنًى واحدٍ، قال البخاريُّ: خَلَصُوا نَجِيًّا: اعتزلوا، والجَمْع أَنْجِيَةٌ، وللاثنين والجمع نَجِيٌّ

وأَنْجِيَة انتهى. وقال الهَرَوِيُّ: خَلَصُوا نَجِيًّا: أي تميّزوا عن الناس متناجين انتهى. وكَبِيرُهُمْ: قال مجاهدٌ هو شَمْعُونُ، كان كبيرهم رَأْياً وعِلْماً، وإِن كان رُوبِيلُ أَسنَّهم «1» ، وقال قتادة: هو روبيلُ، لأَنه أسنُّهم «2» ، وهذا أظهرُ ورجَّحه الطبريُّ «3» ، وذكرهم أخوهم ميثاقَ أبيهم: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يوسف: 66] . وقوله: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ: قال: ص: «بَرَحَ» التامَّةُ بمعنى ذَهَبَ وظَهَرَ ومنه: برح الخَفَاء، أي: ظهر، والمتوجَّه هنا: معنى «ذهب» ، لكنَّه لا ينصب الظرف المكانيَّ المختصَّ إِلا بواسطة، فاحتيج إِلى تضمينه معنى «فارق» ، والأرض مفعولٌ به، ولا يجوزُ أنْ تكون «أبرح» : ناقصةٌ انتهى. وقوله: ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ: الأمر بالرجُوعِ قيلَ: هُوَ مِنْ قولِ كبيرهم، وقيل: من قَوْلِ يوسُفَ، والأول أظهرُ، وذكر الطبرِيُّ أَنَّ يوسُفَ قال لهم: إِذا أتيتم أباكم فاقرؤوا علَيْه السَّلام، وقولوا له: إِنَّ مَلِكَ مِصْرَ يدْعُو لك أَلاَّ تمُوتَ حَتَّى تَرَى ولدك يوسُفَ، ليعلم أَنَّ في أرض مِصْرَ صِدِّيقين مثله، وقرأ الجمهور: «سَرَقَ» ، وروي عن الكسائي «4» وغيره: «سُرِقَ» - ببنائه للمفعول-. وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا: أي: باعتبار الظَّاهر، والعِلْمُ في الغَيْبِ إِلى اللَّه، ليْسَ ذلك في حِفْظنا، هذا تأويل ابْن إِسحاق، ثم استشهدوا بالقرية التي كانوا فيهَا، وهي مِصْر قاله ابن عباس «5» ، والمراد أهْلُها، قال البُخَارِيُّ: سَوَّلَتْ: أي: زَيَّنَتْ، وقولُ يعقُوبَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعنى بيوسُفَ ويَامِينَ ورُوبِيلَ الذي لَمْ يَبْرَحِ الأرض،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 269) برقم: (19627) ، وذكره البغوي (2/ 442) ، وابن عطية (3/ 269) ، والسيوطي (4/ 54- 55) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) أخرجه الطبري (7/ 270) برقم: (19630) ، وذكره البغوي (2/ 442) ، وابن عطية (3/ 269) ، والسيوطي (4/ 55) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 270) برقم: (19630- 19631) . (4) وقرأ بها أبو ذر وابن عباس، كما في «الشواذ» ص: (69) ، وقرأها مبنية للمفعول مشددة الكسائي في رواية ابن أبي شريح عنه، وقرأ بها أحمد بن جبير المكي، والوليد بن حسان، عن يعقوب، وغيرهم. ينظر: «البحر المحيط» (5/ 329) ، و «الدر المصون» (4/ 203) . (5) أخرجه الطبري (7/ 273) برقم: (19647) ، وذكره ابن عطية (3/ 271) .

ورجاؤه هذا مِنْ جهاتٍ، منها: حُسْن ظَنِّه باللَّه سبحانه في كلِّ حالٍ، ومنها: رؤيا يوسُفَ المتقدِّمة فإِنه كان ينتظرُها، ومنها: ما أخبروهُ عَنْ مَلِكِ مِصْر أنه يدعو له برؤْية ابنه. وقوله سبحانه: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ: أي: زال بوجْهه عنْهم مُلْتَجِئاً إِلى اللَّه: وَقالَ: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ. قال الحسن: خُصَّت هذه الأمَّة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب: يا أَسَفى «1» . قال ع «2» : والمراد يا أسفَي، لكنْ هذه لُغَةُ مَنْ يردُّ ياء الإِضافة ألفاً نحو: يا غُلاَما، ويَا أَبَتَا، ولا يبعد أَنْ يجتمع الاسترجاع، ويَا أَسْفَى لهذه الأُمَّة، وليعقوب عليه السلام، وروي أن يعقوبَ عليه السلام/ حَزِنَ حُزْنَ سبعين ثَكْلَى، وأُعطِيَ أَجْرَ مَائَةِ شهيدٍ، وما ساءَ ظَنَّهُ باللَّه قطُّ، رواه الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» ، فَهُوَ كَظِيمٌ بمعنى: كاظِمٍ، كما قال: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: 134] ووصف يعقوب بذلك، لأنه لم يَشْكُ إِلى أحَدٍ، وإِنما كان يكْمد في نَفْسه، ويُمْسِك همَّه في صَدْره، فكان يكظمه، أي: يردُّه إِلى قلبه. ت وهذا ينظر إلى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «القَلْبُ يَحْزَنُ وَالعَيْنُ تَدْمَعُ وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يرضي الرّبّ ... » الحديث، ذكر هذا صلّى الله عليه وسلّم عنْدَ مَوْتِ ولده إِبراهيم «4» ، قال ابن المبارِك في «رقائقه» : أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادة في قوله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، قَالَ: كَظم على الحُزْنِ، فلم يقُلْ إِلا خَيْراً «5» انتهى، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّه قال في ابنه إِبراهيم: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالَقْلَبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» ، وقال أيضا في الصحيح صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، وَلاَ بِحُزْنِ القَلْبِ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ» «6» انتهى. خرَّجه البخاريُّ وغيره.

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 272) بنحوه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 272) . [.....] (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 281) برقم: (19725) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 58) ، وعزاه لابن جرير. (4) تقدم تخريجه. (5) أخرجه الطبري (7/ 276) برقم: (19677) ، وذكره البغوي (2/ 444) نحوه. (6) أخرجه البخاري (3/ 209) كتاب «الجنائز» باب: البكاء عند المريض، حديث (1304) ، ومسلم (2/

[سورة يوسف (12) : الآيات 85 إلى 88]

[سورة يوسف (12) : الآيات 85 الى 88] قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) وقوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا الآية: المعنى: تالله لا تفتأ فتحذف «لا» في هذا الموضع من القَسمِ لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل] فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي «1» ومنه قول الآخر: [البسيط] تَاللَّهِ يبقى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حيد............... ......... «2»

_ (636) كتاب «الجنائز» باب: البكاء، حديث (12/ 924) ، والبيهقي (4/ 69) من حديث عبد الله بن عمر به، والحديث أخرجه البغوي في «شرح السنة» (3/ 285- بتحقيقنا) ، وقال: هذا حديث متفق على صحته. (1) ينظر البيت في: «ديوانه» ص: (32) ، و «خزانة الأدب» (9/ 238- 239) ، (10/ 43- 44- 45) ، و «الخصائص» (2/ 284) ، و «الدر» (4/ 212) ، و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 220) ، و «شرح التصريح» (1/ 185) ، و «شرح شواهد المغني» (1/ 341) ، و «شرح المفصّل» (7/ 110) ، (8/ 37) ، (9/ 104) ، و «الكتاب» (3/ 504) ، و «لسان العرب» (13/ 463) (يمن) ، و «اللمع» ص: (259) ، و «المقاصد النحويّة» (2/ 13) ، وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (1/ 232) ، و «خزانة الأدب» (10/ 93- 94) ، و «شرح الأشموني» (1/ 110) ، و «مغني اللبيب» (2/ 637) ، و «المقتضب» (2/ 362) ، و «همع الهوامع» (2/ 38) . (2) صدر بيت وعجزه: ............... .......... بمشمخرّ به الظّيّان والآس وهو لأبي ذؤيب الهذلي في «شرح شواهد الإيضاح» ص: (544) ، و «شرح شواهد المغني» (2/ 574) ، و «لسان العرب» (13/ 275) (ظين) ولأمية بن أبي عائذ في «الكتاب» (3/ 497) ، ولمالك بن خالد الخناعي في «جمهرة اللغة» ص: (57) ، و «شرح أبيات سيبويه» (1/ 499) ، و «شرح أشعار الهذليين» (1/ 439) ، و «شرح شواهد الإيضاح» ص: (304) ، و «لسان العرب» (حيد) ، (قرنس) ، (ظيا) ، ولعبد مناة الهذلي في «شرح المفصّل» (9/ 98) ولأبي ذؤيب أو لمالك في «شرح أشعار الهذليين» (1/ 228) ، ولأبي ذؤيب أو لمالك أو لأمية في «خزانة الأدب» (10/ 95) ، ولأبي ذؤيب أو لمالك أو لأمية أو لعبد مناف الهذليّ أو للفضل بن عباس أو لأبي زبيد الطائي في «خزانة الأدب» (5/ 176- 177- 178) ، ولأبي ذؤيب أو لمالك أو لأميّة أو لعبد مناف في «الدرر» (4/ 162، 165) ، ولأميّة أو لأبي ذؤيب أو للفضل بن العباس في «شرح المفصّل» (9/ 99) ، وللهذليّ في «جمهرة اللغة» ص: (238) ، وبلا نسبة

أراد: لا أبْرَحُ، ولاَ يَبْقَى، و «فَتِىءَ» : بمنزلة زَالَ وبَرَحَ في المعنَى والعملِ تقول: واللَّهِ، لا فَتِئْتَ قَاعِداً كما تقول: لاَ زلت ولا برحت، وعبارة الداوديّ: وعن ابن عباس: تَفْتَأُ أي: لا تزالُ تَذْكُرُ يوسُفَ، حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً «1» . انتهى، والحَرَضُ: الذي قد نهاه الهَرَمُ أو الحُبُّ أو الحُزْنُ إِلى حالِ فَسادِ الأَعضاء وَالبَدَنِ والحسِّ، يقال: رجلٌ حَارِضٌ، أي: ذو همٍّ وحزنٍ ومنه قول الشاعر: [البسيط] إِنِّي امرؤ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي ... حَتَّى بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ «2» والحَرِضُ بالجملة الذي فَسَدَ ودنا موته، قال مجاهد: الحَرَضُ: ما دون الموت «3» وفي حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمْرَضُ حَتَّى يُحْرِضَهُ المَرَضُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ» «4» انتهى من «رقائق ابن المبارك» . ثم أجابهم يعقوبُ عليه السلام بقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ : أي: إِني لست ممَّن يَجْزَعُ ويَضْجَرُ، وإِنما أَشكو إِلى اللَّه، والبَثُّ: ما في صَدْرِ الإِنسان مما هو مُعْتَزِمٌ أَنْ يبثه وينشره. وقال أبو عبيدة وغيره: البثّ: أشدّ الحزن «5» قال الداوديّ عن ابن جُبَيْر، قال: مَنْ بَثَّ، فلم يصبر، ثم قرأ: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ . انتهى. وقوله: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ... الآية: «الرَّوْحُ» : الرحمة، ثم جعل اليأْسَ مِنْ رحمة اللَّه وتفريجه مِنْ صفة الكافرين إِذ فيه إِما التكذيبُ بالرُّبوبية، وإما الجهل بصفات الله تعالى، / والبضاعة: القِطْعة من المال يُقْصَدُ بها شراءُ شَيْءٍ، ولزمها عُرْفُ الفقْهِ فيما لا حَظَّ لحاملها من الربْحِ، وال مُزْجاةٍ: معناها: المدفوعَةُ المتحيَّل لها،

_ في «الأشباه والنظائر» (6/ 23) ، و «الجنى الدانيّ» ص: (98) ، و «جواهر الأدب» ص: (72) ، و «الدرر» (4/ 215) ، و «رصف المباني» ص: (118، 171) ، و «شرح الأشموني» (2/ 290) ، والصاحبي في «فقه اللغة» ص: (114) ، و «اللامات» ص: (81) ، و «مغني اللبيب» (1/ 214) ، و «المقتضب» (2/ 324) ، و «همع الهوامع» (2/ 32، 39) . (1) أخرجه الطبري (7/ 277) برقم: (19686) ، وذكره السيوطي (4/ 59) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) البيت للعرجي ينظر: «أمالي ابن الشجري» (1/ 369) ، و «الطبري» (16/ 222) ، و «مجاز القرآن» (1/ 317) ، و «الصحاح» و «التاج» و «اللسان» (حرض) ، «روح المعاني» (5/ 19) ، «القرطبي» (9/ 250) . (3) أخرجه الطبري (7/ 278) برقم: (19690) ، وذكره ابن عطية (3/ 273) . (4) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1/ 30) . (5) ذكره ابن عطية (3/ 273) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 89 إلى 92]

وبالجملة فمَنْ يسوق شيئاً، ويتلطَّف في تسييره، فقد أزجاه، فإِذا كانَتِ الدراهمُ مدفوعةً نازلةَ القَدْر، تحتاج أنْ يُعْتَذَرَ معها، ويُشْفَعَ لها، فهي مزجاةٌ، فقيل: كان ذلك لأنها كانَتْ زيوفاً، قاله ابن عباس «1» . وقيل: كانَتْ بضاعتهم عروضاً، وقولهم: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا: معناه ما بَيْنَ الدراهم الجيادَ وبَيْنَ هذه المُزْجَاة، قاله السُّدِّيُّ وغيره «2» وقال الداوديّ عن ابن جريجٍ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا: قال: اردد علينا أخانا، انتهى «3» ، وهو حسن. [سورة يوسف (12) : الآيات 89 الى 92] قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) وقوله تعالى: هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ، روي أنَّ يوسُف عليه السلام لما قال له إخوته: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف: 88] ، واستعطفوه رَقَّ ورحمهم، قال ابنُ إِسحاق: وارفض دمعه باكياً، فَشَرَعَ في كَشْفِ أمره إِليهم، فروي أنه حَسَرَ قناعه، وقال لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ ... «4» الآية، وما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ: أي: التَّفْريق بينَهُما في الصِّغَر وما نالهما بسَبَبِكُم من المِحَن إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ، نسبهم إِمَّا إِلى جَهْلِ المعصيةِ، وإِما إِلى جَهْلِ الشَبَابِ وقلَّةِ الحُنْكَة، فلمَّا خاطبهم هذه المخاطبة، تنبَّهوا، ووقَعَ لهم من الظَّنِّ القويِّ وقرائنِ الحال أنه يوسُفُ فقالوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ مستفهمين، فأجابهم يوسف كاشفاً عن أمره، قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ: هذا منهم استنزال ليوسُفَ، وإِقرار بالذنْبِ في ضِمْنه استغفار منه، وآثَرَكَ: لفظ يعمّ جميع التفضيل.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 286) برقم: (19748) نحوه، وذكره البغوي (2/ 446) ، وابن عطية (3/ 275) ، وابن كثير (2/ 488) ، والسيوطي (4/ 62) ، وعزاه لأبي عبيد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. [.....] (2) أخرجه الطبري (7/ 289) برقم: (19789) ، وذكره ابن عطية (3/ 276) . (3) أخرجه الطبري (7/ 289) برقم: (19793) ، وذكره البغوي (2/ 446) ، وابن عطية (3/ 276) ، والسيوطي (4/ 63) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ. (4) أخرجه الطبري (7/ 291) برقم: (19797) ، وذكره البغوي (2/ 446) ، وابن عطية (3/ 276) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 93 إلى 96]

وقوله: لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ عفوٌ جميلٌ، وقال عكرمة: أوحى اللَّه إِلى يوسف بِعَفْوِكَ عَنْ إِخوتك، رَفَعْتُ لك ذكْرَك «1» ، و «التثريب» : اللوْمُ والعقوبةُ وما جَرَى معهما من سوءِ مُعْتَقَدٍ ونحوه، وعبَّر بعضُ الناس عن التثْرِيب بالتعيير، ووقف بعض القراءة عَلَيْكُمُ، وابتدأ «2» : الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ووقف أكثرهم: الْيَوْمَ وابتدأ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ على جهة الدعاء وهو تأويلُ ابن إِسحاق «3» والطبريِّ، وهو الصحيحُ الراجح في المعنَى لأن الوقْفَ الآخِرَ فيه حُكْم على مغفرة اللَّه، اللَّهُمَّ إلا أن يكون ذلك بوحي. [سورة يوسف (12) : الآيات 93 الى 96] اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) وقوله: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي: قال النَّقَّاش: روي أن هذا القميصَ كَانَ مِنْ ثياب الجَنَّة، كساه اللَّه إِبراهيم، ثم توارَثَهُ «4» بنوه. قال ع «5» : هذا يحتاجُ إِلى سندٍ والظاهرُ أنه قميصُ يوسُفَ كسائر القُمُصِ، وقولُ يوسف: يَأْتِ بَصِيراً فيه دليلٌ على أنَّ هذا كلَّه بوحْيٍ وإِعلامٍ مِنَ اللَّه تعالى، وروي أنَّ يعقوب وجد ريحَ يوسُفَ وبَيْنَهُ وبَيْنَ القَميصِ مسيرةُ ثمانيةِ أيامٍ قاله ابن عباس «6» ، وقال: هاجَتْ ريحٌ، فحملَتْ عَرْفَه، وقول يعقوب: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ: مخاطبةٌ لحاضريه، فروي أنهم كانوا حَفَدَتَهُ، وقيل: كانوا بعض بنيه، وقيل: كانوا/ قرابته وتُفَنِّدُونِ معناه: تردُّون رأْيي، وتدْفَعُون في صَدْره، وهذا هو التفنيد لغة، قال مُنْذِرُ بن سَعِيدٍ: يقال: شَيْخٌ مُفَند، أيْ: قد فسد رأيه «7» والذي يشبه أنَّ تفنيدهم ليعقوبَ إِنما كان لأَنهم كانوا يعتقدون أنَّ هواه قد غَلَبَهُ في جانب يوسف.

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 277) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 278) ، و «البحر المحيط» (5/ 338) ، و «الدر المصون» (4/ 214) . (3) ينظر: «الطبري» (7/ 291) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 278) . (5) ينظر: «المحرر» (3/ 278) . (6) أخرجه الطبري (7/ 293) برقم: (19813) ، وذكره البغوي (2/ 448) ، وابن عطية (3/ 278) ، والسيوطي (4/ 66) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (7) ذكره ابن عطية (3/ 278) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 97 إلى 100]

وقال [ص] : معنى تُفَنِّدُونِ: تسفِّهون، انتهى، وقولهم: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ: يريدون: لَفِي انتلافك في مَحَبَّة يوسف، وليس بالضَّلال الذي هو في العُرْف ضدُّ الرشادِ لأن ذلك من الجَفَاءِ الذي لا يَسُوغُ لهم مواجَهَتِه به. وقوله سبحانه: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً: روي عن ابنَ عَبَّاسٍ أن البشير كان يَهُوذَا لأنه كان جاء بقميص الدّم «1» وبَصِيراً: معناه: مُبْصراً، وروي أنه قال للبشير: على أيِّ دِينٍ تركْتَ يوسُفَ؟ قال: على الإِسلام قال: الحمد لله الآن كملت النعمة. [سورة يوسف (12) : الآيات 97 الى 100] قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) وقوله تعالى: قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ... الآية: روي أنَّ يوسُفَ عليه السلام لما غَفَر لإِخوته، وتحقَّقوا أَنَّ أباهم يغفر لهم، قال بعضُهم لبعض: ما يُغْنِي عنا هذا إِنْ لم يغفر اللَّه لَنَا، فطلبوا حينئذٍ من يعقُوبَ عليه السلام أنْ يطلب لهم المغفرَةَ مِنَ اللَّه تعالى، واعترفوا بالخَطَإِ، فقال لهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. [ت] : وعن ابن عباس أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعليٍّ رضي اللَّه عنه: «إِذَا كَانَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَإِنِ استطعت أَنْ تَقُومَ في ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنَّها سَاعَةٌ مَشْهُودَةٌ وَالدُّعَاءُ فِيهَا مُسْتَجَابٌ، وقد قال أخي يعقوبُ لبنيه: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، يقول: حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ الجُمُعَةِ ... » «2» وذكر الحديث، رواه الترمذيُّ، وقال: حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث الوليد بن مُسْلم، ورواه الحاكم في «المستدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وقال: صحيح

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 280) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 563، 565) كتاب «الدعوات» باب: دعاء الحفظ، حديث (3570) ، والحاكم (1/ 316) من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، وعكرمة، عن ابن عباس به. وقال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث الوليد بن مسلم. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: هذا حديث منكر شاذ، أخاف ألا يكون موضوعا، وقد حيرني والله جودة إسناده.

على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً انتهى من «السلاح» . وقوله سبحانه: آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قال ابنُ إِسحاق، والحسن: أراد بالأبوين: أباه وأمَّه «1» ، وقيل: أراد أباه وخالته. قال ع «2» : والأول أظهر بحسب اللفْظِ، إِلا أَنْ يثبت بِسنَدٍ أنَّ أمه قد كانَتْ ماتت. وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ هذا الاستثناءُ هو الذي نَدَبَ القرآن إِليه أَن يقوله الإِنسانُ في جميع ما ينفذه في المستقبل، والْعَرْشِ: سرير الملك، وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً: أي: سجودَ تَحِيَّةٍ، فقيل: كان كالسُّجُود المعهودِ عندنا من وَضْعِ الوجْهِ بالأرض. وقيل: بل دون ذلك كالرُّكوعِ البالغ ونحوه ممَّا كان سيرةَ تحيَّاتهم للملوكِ في ذلك الزمَانِ، وأجمع المفسِّرون أنه كان سجُودَ تحيَّة لا سُجُودَ عبادةٍ، وقال الحسنُ: الضمير في «له» للَّه عزَّ وجلَّ، ورُدَّ هذا القولُ على الحسن. وقوله عزّ وجلّ: وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا: المعنى: قال يوسُفُ ليعقوبَ، هذا السجودُ الذي كانَ منْكُم هو ما آلَتْ إِليه رؤياي قديماً في الأحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمْس والقمر، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ثم أخذ عليه السلام يعدِّد نعم اللَّه عَلَيْه، وقال: وقد أخرجني من السجن، وترك ذكر إِخراجه من الجُبِّ لأنَّ في ذكره تجْدِيدَ فعْلِ/ إِخوته وخِزْيِهِم، وتَحْرِيكَ تِلْكَ الغوائِلِ، وتخبيثَ النفوسِ، ووجْه آخر أنه خَرَجَ مِنَ الجُبِّ إِلى الرِّقِّ، ومن السِّجْنِ إِلى المُلْكِ، فالنعمةَ هنا أَوضَحُ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، أي: من الأمور أنْ يفعله إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قال ع «3» : ولا وَجْه في ترك تعريفِ يُوسُفَ أباه بحاله مُنْذُ خَرَجَ من السِّجْنِ إِلى العِزِّ إِلا الوَحْيُ مِنَ اللَّه تعالَى لَمَّا أَراد أَن يمتحن به يَعْقُوب وبنيه، وأراد من صورة جمعهم، لا إله إِلا هو. وقال النَّقَّاش: كان ذلك الوحْيُ في الجُبِّ، وهو قوله سبحانه: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [يوسف: 15] ، وهذا محتمل.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 302) برقم: (19888) ، عن ابن إسحاق. (2) ينظر: «المحرر» (3/ 281) . [.....] (3) ينظر: «المحرر» (3/ 282- 283) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 101 إلى 104]

[سورة يوسف (12) : الآيات 101 الى 104] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وقوله: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ... الآية: ذكر كثيرٌ من المفسِّرين أنَّ يوسُفَ عليه السلام لما عَدَّد في هذه الآية نِعَمَ اللَّه عنده، تشوَّق إِلى لقاء ربِّه ولقاءِ الجِلَّة وصالحي سَلَفِهِ وغيرهم مِنَ المؤمنين، ورأَى أَن الدنيا قليلةٌ فتمنَّى المَوْت في قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وقال ابن عبَّاس: لم يتمنَّ المَوْتَ نبيٌّ غَيْرُ يُوسُفَ «1» ، وذكر المهدويُّ تأويلاً آخر، وهو الأقْوَى عندي: أنه ليس في الآية تمنِّي موتٍ، وإِنما تمنى عليه السلام الموافَاةَ على الإِسلام لا المَوْتَ، وكذا قال القرطبيُّ «2» في «التذكرة» أَنَّ معنى الآية: إِذا جاء أَجَلِي، توفَّني مسلماً، قال: وهذا القول هو المختارُ عنْدَ أهل التأويل، واللَّه أعلم، انتهى، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ» «3» إِنَّمَا يريد ضَرَر الدنيا كالفَقْر، والمَرَضِ ونحو ذلك، ويبقَى تمنِّي الموت مخافةَ فسادِ الدِّين مباحا، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في بَعْضِ أدعيته: «وَإِذَا أَرَدَتَّ بِالنَّاسِ فِتْنَةً، فاقبضني إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» «4» . وقوله: أَنْتَ وَلِيِّي: أي القائِمُ بأمري، الكفيلُ بنُصْرتي ورَحْمتي. وقوله عز وجل: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ: ذلِكَ: إِشارة إِلى ما تقدَّم من قصَّة يوسُفَ، وهذه الآية تعريضٌ لقريشٌ، وتنبيهٌ على آية صدق نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفي

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 308) برقم: (19942) ، وذكره ابن عطية (3/ 283) ، وابن كثير (2/ 492) ، والسيوطي (4/ 73) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 18) . (3) أخرجه البخاري (10/ 132) كتاب «المرض» باب: تمني المريض الموت، حديث (5671) ، ومسلم (4/ 2064) كتاب «الدعاء والذكر» باب: كراهة تمني الموت لضر نزل به، حديث (10/ 2680) ، وأبو داود (2/ 205) كتاب «الجنائز» باب: في كراهية تمني الموت برقم: (3108- 3109) ، والنسائي (4/ 453) كتاب «الجنائز» باب: تمني الموت، والترمذي (3/ 293) كتاب «الجنائز» ، باب: ما جاء في النهي عن التمني للموت، حديث (971) ، وابن ماجه (2/ 1425) كتاب «الزهد» باب: ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4265) ، وأحمد (3/ 101) ، وابن حبان (968) ، والبيهقي (3/ 377) . (4) هو جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي (5/ 342) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة ص، حديث (3233) ، وأحمد (4/ 66) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 105 إلى 107]

ضمن ذلك الطعْنُ على مكذِّبيه، والضمير في لَدَيْهِمْ: عائد على إخوة يوسف، وأَجْمَعُوا: معناه: عزموا، و «الأمر» ، هنا: هو إِلقاء يوسُفَ في الجُبِّ، وحكى الطبري «1» عن أبي عمران الجَوْنِيِّ أَنه قال: واللَّه ما قَصَّ اللَّه نبأهم ليُعَيِّرَهُمْ إِنهم الأَنبياءُ مِنْ أَهْلَ الجَنَّة، ولكنَّ اللَّه قَصَّ علينا نبأهم لئلاَّ يَقْنَطَ عَبْدُهُ. وقوله سبحانه: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ... الآية خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... الآية توبيخٌ للكفَرة، وإِقامةٌ للحُجَّةِ عليهم، ثم ابتدأ الإِخبَارَ عن كتابه العزيز أنه ذكْرٌ وموعظةٌ لجميعِ العالَمِ، نفعنا الله به، ووفّر حظنا منه. [سورة يوسف (12) : الآيات 105 الى 107] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) وقوله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: يعني ب الْآيَةَ هنا: المخلوقاتُ المنصوبةُ للاعتبار الدالَّة على توحيد خالقها سبحانه، وفي مُصْحَفِ عبد اللَّه «2» : «يَمْشُونَ/ عَلَيْهَا» . وقوله سبحانه: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ: قال ابنُ عبَّاس: هي في أهْل الكتاب «3» ، وقال مجاهد وغيره: هي في العَرَب «4» ، وقيل: نزلَتْ بسبب قَوْل قُرَيْشٍ في الطَّوَافَ، والتلبيةِ: «لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ إِلاَّ شَرِيكاً هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» ، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذا سَمِعَ أَحدَهُمْ يَقُولُ: لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، يَقُولُ له: قطْ قطْ، أي: قفْ هنا، ولا تَزِدْ: إِلا شريكاً هو لك، والغاشية: ما يغشى ويغطّي ويغمّ، وبَغْتَةً: أيْ: فجأة، وهذه الآية من قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ، وإِن كانَتْ في الكفَّار، فإِن العصاة يأخُذُونَ من ألفاظها بحظٍّ ويكون الإِيمانُ حقيقة، والشّرك لغويّا، كالرياء، فقد قال

_ (1) ينظر: «الطبري» (7/ 310- 311) . (2) ينظر: «المحتسب» (1/ 350) ، و «الكشاف» (2/ 508) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 285) ، و «البحر المحيط» (5/ 345) . (3) أخرجه الطبري (7/ 313) برقم: (19970) بلفظ: يعني النصارى، وذكره ابن عطية (3/ 285) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 285) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 108 إلى 111]

عليه السلام: «الرّياء الشّرك الأصغر» «1» . [سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 111] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) وقوله سبحانه: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ... الآية: إِشارةٌ إِلى دَعْوة الإِسلام والشريعة بأسرها، قال ابن زَيْد: المعنى هذا أمري وسُنَّتي ومِنْهاجي «2» وال بَصِيرَةٍ: اسم لمعتقد الإِنسان في الأمْر من الحقِّ واليقين. وقوله: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي: يحتمل أنْ يكون «أَنا» تأكيداً للضمير المستكنّ في «أدعو» و «مَنْ» معطوفٌ عليه وذلك بأنْ تكون الأمَّة كلُّها أُمَرَتْ بالمعروف داعية إِلى اللَّه الكَفَرَةَ والعُصَاة. قال ص: ويجوزُ أنْ يكون «أَنا» مبتدأ، و «على بصيرة» خَبرٌ مقدَّم، و «مَنْ» معطوفٌ عليه انتهى، وَسُبْحانَ اللَّهِ تنزيهٌ للَّه، أي: وقل: سبحانَ اللَّهِ متبرِّياً من الشِّرْك. وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... الآية: تتضمَّن الردَّ على من استغرب إِرسَالَ الرُّسُل من البشر، والْقُرى: المُدُن. قال الحسن: لم يَبْعَثِ اللَّه رسولاً قطُّ من أهْل البادية «3» . قال ع «4» : والتَّبَدِّي مَكْرُوه إِلا في الفتْنَة، وحين يُفَرُّ بالدين، ولا يعترضُ هذا بِبُدُوِّ يعقوب لأن ذلك البُدُوَّ لم يكُنْ في أهْل عمودٍ، بل هو بتَقَرٍّ، وفي منازلَ ورَبوع وأيضاً إِنما جعله بُدُواً بالإِضافة إِلى مصْر كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 428) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 343- بتحقيقنا) ، من حديث محمود بن لبيد، والحديث ذكره العراقي في «تخريج الإحياء» (3/ 294) ، وعزاه لأحمد، والبيهقي، وقال: ورجاله ثقات. (2) أخرجه الطبري (7/ 315) برقم: (19983) ، وذكره ابن عطية (3/ 285) ، والسيوطي (4/ 76) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) ذكره ابن عطية (3/ 286) . (4) ينظر: «المحرر» (3/ 286) .

الحواضر، ثم أحال سبحانه على الاعتبار في الأمم السالفة، ثم حَضَّ سبحانه على الآخرة، والاستعداد لها بقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ... الآية. قال ص: وَلَدارُ الْآخِرَةِ: خرَّجه الكوفيُّون على أنَّه من إِضافة الموصُوفِ لصفته، وأصله: «ولَلدَّارُ الآخرة» ، والبصريّون على أنه عن حَذْف الموصوف، وإِقامة صفته مُقَامَهُ، وأصله: «ولَدَارُ المُدَّةِ الآخِرَةِ أو النَّشْأَةِ الآخِرَةِ» . انتهى. ويتضمَّن قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أن الرسلَ الذين بعثهم اللَّهُ مِنْ أهْل القُرَى، دَعَوْا أممهم، فلم يؤمنوا بهم، حتى نزلَتْ بهم المَثُلاَتُ، فصاروا في حَيِّز مَنْ يُعْتَبَرُ بعاقبته، فلهذا المضمَّن حَسُنَ أَنْ تدخل «حتى» في قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. وقرأ نافع وابن كثير «1» وأبو عمرو وابن عامر: «وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا» /- بتشديد الذال-، وقرأ الباقون: «كُذِبُوا» - بضم الكاف، وكسْر الذال المخفَّفة، فأما الأولى، فمعناها أنَّ الرسل ظَنُّوا أن أممهم قَدْ كَذَّبتهم، و «الظَّنُّ» هنا: يحتملُ أنْ يكون بمعنى اليَقِينِ، ويحتمل أنْ يكون الظَّنُّ على بابه، ومعنى القراءة الثانية على المشهور من قول ابن عباس وابنِ جُبَيْر: أي: حتَّى إِذا استيأس الرسُلُ من إِيمان قومِهِم «2» ، وظَنَّ المُرْسَلُ إِليهم أَنَّ الرسُلَ قد كَذَبُوهُمْ فيما ادعوه من النبوَّة، أو فيما توعَّدوهم به من العذاب، لما طال الإِمهال، واتصلت العافيةُ، جاءهم نَصْرنا. وأسند الطبريُّ «3» أنَّ مسلم بن يَسَارٍ، قال لسعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه، آيةٌ بلغت منّي كلّ مبلغ: «حتّى إذا استيأس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ» فهذا هو الموت أَنْ تظنَّ الرسُلُ أنهم قد كُذِبوا- مخفَّفة-، فقال له ابن جُبَيْر: يا أبا عبد الرحمن، إِنما يَئِسَ الرسُلُ مِنْ قومِهِم أنْ يجيبوهم، وظَنَ قومهم أن الرسل قد كذبتهم، فقام مسلم إلى سعيد،

_ (1) ينظر: «السبعة» (351) ، و «الحجة» (4/ 441) ، و «إعراب القراءات السبعة» (1/ 317) ، و «حجة القراءات» (366- 367) ، و «الإتحاف» (2/ 156) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 287) ، و «البحر المحيط» (5/ 347) ، و «الدر المصون» (4/ 218) . وينظر: «معاني القراءات» (2/ 52) ، و «شرح الطيبة» (4/ 388) ، و «العنوان» (111) ، و «شرح شعلة» (442) . [.....] (2) أخرجه الطبري (7/ 316، 318) برقم: (19988) وبرقم: (20008) ، وذكره ابن عطية (3/ 288) ، والسيوطي (4/ 77) ، وعزاه لأبي عبيد، وسعيد بن منصور، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (3) أخرجه الطبري (7/ 319) برقم: (20010) .

فاعتنقه، وقال: فَرَّجْتَ عني، فَرَّجَ اللَّهُ عنك «1» . قال ع «2» : فرضِيَ اللَّهَ عَنْهم، كيف كَانَ خُلُقُهُمْ في العِلْمِ، وقال بهذا التأويل جماعةٌ، وهو الصَّواب، وأما تأويلُ مَنْ قال: إِن المعنى: وظَنُّوا أنهم قد كَذَبَهُمْ مَنْ أخبرهم عن اللَّه، فغير صحيحٍ، ولا يجوزُ هذا على الرسُلِ، وأين العَصْمة والعِلْم. ت: قال عِيَاضٌ: فإِن قيل: فما معنَى قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا على قراءة التخفيف؟ قُلْنَا: المعنى في ذلك ما قَالَتْهُ عائشةُ رضي اللَّه عنها مَعَاذَ اللَّهِ أنْ تَظُنَّ الرُّسُلُ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ، لَمَّا استيأسُوا، ظَنُّوا أَنَّ مَنْ وعدهم النصْرَ مِنْ أتباعهم، كَذَبُوهم «3» وعلى هذا أكثرُ المفسِّرين، وقيل: الضمير في «ظَنُّوا» عائدٌ على الأتباع والأممِ، لا على الأنبياء والرسل وهو قول ابن عباس والنَّخَعِيِّ وابنِ جُبَيْر «4» وجماعةٍ، وبهذا المعنى قرأ مجاهدٌ: «كَذَبُوا» بالفَتْح، فلا تَشْغَلْ بالك مِنْ شَاذِّ التفسير بسواه ممَّا لا يليقُ بمَنْصِب العلماء، فكَيْفَ بالأنبياء، انتهى من «الشفا» . وقوله سبحانه: جاءَهُمْ نَصْرُنا: أي: بتعذيب أممهم الكافرة. فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ: أي: من أتباع الرسلِ. وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ: أي: الكافرين، و «البَأْسُ» : العذاب. وقوله سبحانه: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ: أي: في قصص يوسُفَ وإِخوته وسائِرِ الرسلِ الذين ذُكِرُوا على الجملة، ولَمَّا كان ذلك كلُّه في القرآن، قال عنه: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، والَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ التوراةُ والإِنجيلُ، وباقي الآية بيِّن واضحٌ. ت: كنت في وَقْتٍ أَنْظُرُ في «السيرة» لابْنِ هِشامٍ، وأتأمَّل في خُطْبة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وهي أوَّلُ خُطْبة خَطَبَها بالمَدِينَةِ، فإِذا هاتف يقولُ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وقد كانَ حصل في القلب عبرة في أمره صلّى الله عليه وسلّم وأفاضِل أصحابه، رضي اللَّه عنهم أجمعين، وسلك بنا مَنَاهِجَهُمُ المَرْضيَّة، والحمد للَّه، وسَلاَمٌ على عباده الذين اصطفى/ وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 288) ، وابن كثير (2/ 497) ، والسيوطي (4/ 77) ، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ. (2) ينظر: «المحرر» (3/ 288) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 288) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 288) .

تفسير سورة الرعد

تفسير سورة الرعد قيل: مكّيّة إلّا بعض آيات، وقيل: مدنية، والظاهر أنّ المدنيّ فيها كثير. [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) قوله عز وجل: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ: قال ابن عباس: هذه الحروفُ هي مِنْ قوله: «أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وأرى» «1» . وقوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ... الاية: قال جمهور النَّاس: لاَ عَمَدَ للسموات ألبتَّة، وهذا هو الحَق و «العمدُ» : اسم جَمْعٍ. قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: «ثم» هنا: لعطفِ الجُمَلِ، لا للترتيبِ لأن الاستواء على العَرْش قبل رَفْعِ السموات، ففي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السموات وَالأَرْضَ» «2» وقد تقدَّم القول في هذا، وفي معنى الاستواء. ت: والمعتَقَدُ في هذا: أنه سبحانَهُ مستو على العرشِ على الوَجْهِ الذي قاله، وبالمعنَى الذي أراده استواء منزَّهاً عن المماسَّة والاستقرار والتمكُّن والحلولِ والانتقال، لا

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 290) . (2) أخرجه البخاري (6/ 330- 331) كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، حديث (3191) ، وفي (13/ 414- 415) كتاب «التوحيد» باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، حديث (7418) ، وأحمد (4/ 426، 431، 433، 436) ، والترمذي مختصرا (5/ 732- 733) كتاب «المناقب» باب: مناقب في ثقيف وبني حنيفة، حديث (3951) ، وابن حبان (14/ 11) برقم: (6142) ، والدارمي في «الرد على الجهمية» ص: (14) ، والبيهقي (9/ 2- 3) ، وفي «الأسماء والصفات» ص: (231) كلهم من طريق الأعمش عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين به.

[سورة الرعد (13) : الآيات 3 إلى 4]

يحملُهُ العَرْش، بل العرشُ وَحَمَلَتُهُ محمُولُون بلُطْفِ قُدْرته، ومَقْهُورون في قَبْضته، كان اللَّه ولا شيءَ معه، كان سبَحَانه قَبْلَ أَنْ يخلق المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان. وقوله سبحانه: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: تنبيهٌ على القُدْرة، وفي ضِمْن الشمسِ والقَمَر الكواكِبُ، ولذلك قال: كُلٌّ يَجْرِي أي: كلُّ ما هو في معنى الشَّمْسِ والقَمَرِ، و «الأجلُ المسمَّى» : هو انقضاء الدنيا، وفسادُ هذه البنْيَةِ. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ: معناه: يُبْرمه وينفذه، وعبَّر بالتدبير، تقريباً للأفهام، وقال مجاهد: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ: معناه يقضيه وحده. ولَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ: أي: توقنون بالبعث. [سورة الرعد (13) : الآيات 3 الى 4] وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ: لما فرغَتْ آيات السماء، ذُكِرَتْ آيات الأرض، وال رَواسِيَ: الجبالُ الثابتة. وقوله سبحانه: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ: «الزَوْجِ» في هذه الآية: الصِّنْف والنَّوْع، وليس بالزوْجِ المعروفِ في المتلازمين الفَرْدَيْن من الحيوان وغيره ومنه قوله سبحانه: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ... الآية [يس: 36] ، ومنه: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] ، وهذه الآية تقتضِي أنَّ كلَّ ثمرةٍ، فموجودٌ منها نوعانِ، فإِن اتفق أنْ يوجد من ثمرةٍ أكْثَرُ من نوعَيْنِ، فغير ضارّ في معنى الآية، وقِطَعٌ: جَمْعُ قِطْعَة، وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جَاوَرَ وقَرُبَ بعضه من بعض لأن اختلاف ذلك في الأكْلِ أَغربُ، وقرأ الجمهور «1» : «وَجَنَّاتٌ» - بالرفع- عطفاً على «قِطَعٌ» ، وقرأ نافع «2» وغيره: «وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ صِنْوَانٌ وَغَيْرِ صنوان»

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 293) ، و «البحر المحيط» (5/ 356) ، و «الدر المصون» (4/ 225) . (2) ينظر: «الحجة» (5/ 5- 6) ، و «إعراب القراءات السبع» (1/ 320) ، و «حجة القراءات» (369) ، و «الإتحاف» (2/ 160) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 293) ، و «البحر المحيط» (5/ 356) ، و «الدر المصون» (4/ 225) ، و «شرح الطيبة» (4/ 391) ، و «العنوان» (113) ، و «شرح شعلة» (444) ، و «معاني القراءات» (55) .

بالخفض في الكل- عطفاً على «أعناب» ، وقرأ ابن كثير وغيره: / «وزرعٌ» - بالرفع في الكل- عطفا على «قطع» ، وصِنْوانٌ: جمع صنْو، وهو الفرع يكونُ مع الآخَرِ في أصْلٍ واحدٍ، قال البراءُ بْنُ عازبٍ: «الصِّنْوَان» : المجتمع، وغَيْرُ الصِّنوان: المفترق فرداً فرداً «1» وفي «الصحيحِ» : «العَمُّ صِنْوُ الأَبِ» ، وإِنما نص على الصِّنْوان في هذه الآية لأنها بمثابة التجاوز في القطع تظهر فيها غرابةُ اختلاف الأَكْلِ، والْأُكُلِ- بضم الهمزة-: اسم ما يؤكل، والأكل المَصْدَر، وحكى الطبري «2» عن ابن عبَّاس وغيره: قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ: أي: واحدة سبخة، وأخرى عَذْبَة، ونحو هذا من القولِ «3» ، وقال قتادة: المعنى: قُرًى مُتَجَاوِرَاتٌ «4» . قال ع «5» : وهذا وجْهٌ من العبرة، كأنه قال: وفي الأرض قِطَعٌ مختلفاتٌ بتخصيصِ اللَّه لها بمعانٍ فهي تُسْقَى بماءٍ واحدٍ، ولكن تختلف فيما تُخْرِجُه، والذي يظهر من وصفه لها بالتجاوز أنها من تُرْبةٍ واحدةٍ، ونوعٍ واحدٍ، وموضِعُ العِبْرة في هذا أَبْيَنُ، وعلى المَعْنَى الأول قال الحَسَنُ: هذا مَثَلٌ ضربه اللَّه لقلوبِ بَني آدم: الأرضُ واحدةٌ، وينزل عليها ماءٌ واحدٌ من السَّماء، فتخرجُ هذه زهرةً وثمرةً، وتخرجُ هذه سبخةً وملحاً وخبثاً، وكذلك النَّاس خُلِقُوا من آدم، فنزلَتْ عليهم من السماء تذكرةٌ، فَرَقَّتْ قلوبٌ وَخَشَعَتْ، وقَسَتْ قلوبٌ ولَهَتْ. قال الحسن: فو الله، ما جالَسَ أحدٌ القُرْآن إِلاَّ قَامَ عَنْه بزيادةٍ أو نقصانٍ، قال اللَّه تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «6» [الإسراء: 82] .

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 334) برقم: (20087) ، وذكره ابن عطية (3/ 294) ، والسيوطي (4/ 83) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (2) ينظر: «الطبري» (7/ 332) . (3) أخرجه الطبري (7/ 332) برقم: (20071- 20072) ، وذكره ابن عطية (3/ 294) ، والسيوطي (4/ 83) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (4) أخرجه الطبري (7/ 332) برقم: (20078) ، وذكره ابن عطية (3/ 294) ، والسيوطي (4/ 83) ، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ. [.....] (5) ينظر: «المحرر» (3/ 294) . (6) أخرجه الطبري (7/ 336) برقم: (20113) ، وذكره ابن عطية (3/ 295) ، والسيوطي (4/ 84) ، وعزاه لابن جرير.

[سورة الرعد (13) : الآيات 5 إلى 7]

[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) وقوله سبحانه: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، المعنى: وإِن تعجبْ، يا محمَّد، مِنْ جهالتهم وإِعراضِهِمْ عَنِ الحَقِّ، فهم أهْلٌ لذلك، وَعَجَبٌ غريبٌ قولُهم: أنعود بعد كوننا تراباً، خلقاً جديداً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لتصميمهم على الجُحُود وإِنكارهم للبَعْث، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ: أي: في الآخرة، ويحتملُ أنْ يكون خبراً عن كونهم مغلَّلين عن الإِيمان كقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [يس: 8] . وقوله سبحانه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ... الآية: تبيينٌ لِخَطَئِهِمْ كطلبهم سقوطَ كِسَفٍ من السماء، وقولِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] ونحو هذا مع نزول ذلك بأناسٍ كثيرٍ، وقرأ الجمهور «1» : الْمَثُلاتُ- بفتح الميم وضم الثاء-، وقرأ مجاهد «2» «المثلات» - بفتح الميم والثاء- أي: الأخذة الفَذَّة بالعقوبة، ثم رجَّى سبحانه بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، ثم خوَّف بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ: قال ابن المسيِّب: لما نَزِلَتْ هذه الآية، قال رسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْلاَ عَفْوُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ مَا تَهَنَّأَ أَحَدٌ عَيْشاً، وَلَوْلاَ عِقَابُهُ لاتَّكَلَ كُلَّ أَحَدٍ» «3» ، وقال ابن عبَّاس: ليس في القرآن أَرجَى من هذه الآية «4» : والْمَثُلاتُ: هي العقوباتُ المنكِّلات التي تجعل الإِنسان مثلاً يُتَمَثَّلُ به ومنه التمثيلُ بالقَتْلى ومنه: المُثْلَةُ بالعبيد. ويقولون: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ: هذه من اقتراحاتهم، / والآية هنا يرادُ بها الأشياءُ التي سمَّتها قريشٌ كالمُلْكِ، والكَنْزِ، وغيرِ ذلك، ثم أخبر تعالى بأنه منذر وهاد، قال عكرمةُ، وأبو الضُّحَى: المرادُ ب «الهادي» محمّد صلّى الله عليه وسلّم «5» ف «هاد» عطف على «منذر»

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 296) ، و «الدر المصون» (4/ 228) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 296) ، و «البحر المحيط» (5/ 359) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش، وهي في «الدر المصون» (4/ 228) . (3) ذكره العراقي في «تخريج الإحياء» (4/ 147) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والثعلبي. (4) ذكره ابن عطية (3/ 296) . (5) أخرجه الطبري (7/ 342) برقم: (20139) ، وذكره البغوي (3/ 8) ، وابن عطية (3/ 297) .

[سورة الرعد (13) : الآيات 8 إلى 11]

كأنه قال: إِنما أَنْتَ مُنْذِرٌ وهادٍ لكلِّ قومٍ، و «هاد» على هذا التأويل: بمعنى داعٍ إِلى طريق الهُدَى، وقال مجاهدٌ وابنُ زَيْد: المعنى: إِنما أَنْتَ منذِرٌ، ولكلِّ أُمَّة سَلَفَتْ هادٍ، أي: نبيٌّ يَدْعُوهم «1» ، أي: فليس أمرُكَ يا محمَّد ببدْعٍ، ولا مُنْكَر، وهذا يشبه غرَضَ الآية، وقالَتْ فرقة: «الهَادِي» في هذه الآية: اللَّه عزَّ وجلَّ، والألفاظ تَقْلَقُ بهذا المعنَى، ويعرف أنَّ اللَّه تعالَى هو الهادِي من غير هذا المَوْضِعِ، والقولانِ الأولان أرجح ما تؤوّل في الآية. [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11] اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) وقوله سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ: هذه الآيات أمثالٌ منبِّهات على قدرة اللَّه تعالَى القاضِيَةِ بتجويزِ البَعْثِ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ: معناه: ما تنقُصُ، ثم اختلف المتأوِّلون في صُورَةِ الزِّيادة والنُّقْصَان، وجمهورُ المتأوِّلين على أنَّ غَيْضَ الرحم هو نقْصُ الدمِ على الحَمْل، وقال الضَّحَّاك: غَيْضُ الرَّحِمِ: أنْ تسقط المرأة الوَلَدَ، والزيادة أنْ تضعه لمدَّةٍ كاملةٍ، ونحوُه لقتادة «2» . وقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ: عامٌّ في كل ما يدخله التقدير، والْغَيْبِ: ما غاب عن الإدراكات، والشَّهادَةِ: ما شُوهِدَ من الأمور. وقوله: الْكَبِيرُ: صفةُ تعظيم، والْمُتَعالِ: من العلو. وقوله سبحانه: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ... الآية: أيْ: لا يخفى على اللَّه شيءٌ، وال سارِبٌ في اللغة: المتصرِّف كيف شاء. وقوله سبحانه: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ: المعنى: جعل اللَّه للعبد معقِّباتٍ يحفظونه في كلِّ حالٍ من كلِّ ما جرى القدر باندفاعه،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 343) برقم: (20149، 20154) وبرقم: (20156) ، وذكره ابن عطية (3/ 297) ، وابن كثير (2/ 501) . (2) أخرجه الطبري (7/ 347) برقم: (20194) وبرقم: (20188) بلفظ مختلف فقال: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ما تنقص من التسعة (وما تزداد) أي: ما فوق التسعة، وذكره ابن عطية (3/ 298) ، وابن كثير (2/ 502) ، والسيوطي (4/ 87- 88) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة الرعد (13) : الآيات 12 إلى 14]

فإِذا جاء المَقْدُور الواقعُ، أسلم المَرْءُ إِليه، وال مُعَقِّباتٌ على هذا التأويل: الحَفَظَةُ على العِبَادِ أَعمالهم، والحَفَظَةُ لهم أيضاً قاله الحسن «1» ، وروى فيه عن عثمانَ بْنِ عَفَّان حديثاً عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أقوى التأويلات في الآية، وعبارةُ البخاريِّ: مُعَقِّباتٌ: ملائكةٌ حَفَظَةٌ يَعْقُبُ الأَوَّلُ منها الآخِرَ. انتهى. وقالَتْ فرقةٌ: الضمير في «له» عائدٌ على اسم اللَّه المتقدِّم ذكره، أي: للَّه معقِّبات يحفظون عَبْده، والضمير في قوله: يَدَيْهِ وما بعده من الضمائر عائدٌ على العَبْد، ثم ذكر سبحانه أنه لا يغيِّر هذه الحالة مِنَ الحفْظِ للعبدِ حتَّى يغير العبد ما بنَفْسِهِ، وال مُعَقِّباتٌ: الجماعاتُ التي يَعْقَب بعضُها بعضاً، وهي الملائكة، وينظر هذا إلى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَتَعَاقَبُ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بالنَّهَارِ ... » «2» الحديث، وفي قراءة أُبيِّ بْنِ كَعْب: «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ/ وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ» ، وقرأ ابن «3» عباس: «وَرُقَبَاءُ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ» ، وقوله: يَحْفَظُونَهُ: أي: يحرسونه ويذبُّون عنه، ويحفظونَ أيضاً أعماله، ثم أخبر تعالى أَنه إِذا أَراد بقومٍ سوءاً، فلا مردَّ له، ولا حِفْظَ منه. [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 14] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ... الآية: قد تقدَّم في أول البَقَرة تفسيرُهُ، والظاهر أنَّ الخوف إِنما هو من صَوَاعِقِ البَرْق، والطَّمَع في الماء الذي يكونُ معه، وهو قول الحسن «4» ، والسَّحابَ: جمع سحابة ولذلك جمع الصفة، والثِّقالَ: معناه: بحملِ الماءِ، قاله قتادة ومجاهد «5» ، والعربُ تصفها بذلك، وروى أبو هريرة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ، قَالَ: «سُبْحَانَ مَنْ يسبّح الرّعد بحمده» «6» ، وقال ابن أبي

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 300) ، والسيوطي (4/ 90) ، وعزاه لابن جرير. (2) تقدم تخريجه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 302) ، و «البحر المحيط» (5/ 364) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 303) . (5) أخرجه الطبري (7/ 359) برقم: (20253) وبرقم: (20254، 20258) ، وذكره ابن عطية (3/ 303) ، وابن كثير (2/ 505) ، والسيوطي (4/ 95) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. [.....] (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 360) برقم: (20260) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 97) ،

زكرياء: مَنْ قَالَ إِذا سَمِعَ الرعْدَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وبِحَمْدِهِ، لَمْ تُصِبْهُ صَاعِقَةٌ. ت: وعن عبد اللَّه بن عُمَرَ، قال: كان رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّواعِقَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ، لاَ تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِك» «1» ، رواه الترمذيُّ والنسائيُّ والحَاكِمُ في «المستدرك» ، ولفظهم واحد انتهى من «السلاح» ، قال الداوديّ: وعن ابن عَبَّاس، قال: مَنْ سمع الرعْدَ، فقال: «سُبْحَانَ الذي يُسَبِّح الرعْد بحَمْده، والملائِكَةُ مِنْ خيفته، وهو على كلِّ شيء قدير» ، فإِن أصابته صاعقةٌ، فعليَّ ديته، انتهى. وقوله سبحانه: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ ... الآية: قال ابن جُرَيْج: كان سبَبُ نزولها قصَّةَ أَرْبَدَ، وعَامِرِ بن الطّفيل، سألا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يجعلَ الأمْرَ بَعْده لعامِرِ بْنِ الطُّفَيْل، ويدخلا في دِينِهِ، فأبَى عليه السلام ثم تآمرا في قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: أَنا أَشْغَلُه لَكَ بالحديثِ، واضربه أَنْتَ بالسَّيْف، فجعل عامرٌ يحدِّثه، وأَرْبَدُ لاَ يَصْنَعُ شيئاً، فلما انصرفا، قَالَ له عَامِرٌ: وَاللَّهِ، يَا أَرْبَدُ، لاَ خِفْتُكَ أبداً، وَلَقَدْ كُنْتُ أخافُكَ قبل هذا، فقال له أَرْبَدُ: واللَّهِ، لَقَدْ أردتُّ إِخراج السَّيْفِ، فَمَا قَدَرْتُ على ذلك، ولَقَدْ كُنْتُ أَراك بَيْنِي وبينه، أفأضربك، فمضيا للحشد على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأصابت أربد صاعقة، فقتلته، والْمِحالِ: القوَّة والإِهلاك. ت: وفي «صحيح البخاري» : الْمِحالِ: العقوبة. وقوله عز وجل: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ: الضمير في «له» عائدٌ على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ. قال ابنُ عبّاس: ودَعْوَةُ الْحَقِّ: «لا إله إِلا اللَّه» «2» ، يريد: وما كان من الشريعة في معناها.

_ وزاد نسبته إلى ابن مردويه. (1) أخرجه الترمذي (50/ 469) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا سمع الرعد، حديث (3450) ، وأحمد (2/ 100) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 230) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا سمع الرعد والصواعق، حديث (10763- 10764) ، والحاكم (4/ 286) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» برقم: (298) من حديث ابن عمر، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 97) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» . (2) أخرجه الطبري (7/ 363- 364) برقم: (20280- 20281) ، وذكره البغوي (3/ 12) ، وابن عطية (3/ 305) ، وابن كثير (2/ 507) ، والسيوطي (4/ 101) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

[سورة الرعد (13) : الآيات 15 إلى 18]

وقوله: وَالَّذِينَ: يراد به ما عُبِدَ من دون اللَّه، والضَّمير في يَدْعُونَ لكفَّار قريشٍ وغيرهم، ومعنى الكَلاَمِ: والذين يدعونهم الكفَّارُ في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبونهم بِشَيْءٍ إِلاَّ، ثُمَّ مَثَّلَ سبحانه مثالاً لإِجابتهم بالذي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ نحو الماء، ويشير إِليه بالإِقبال إِلى فيه، فلا/ يبلغ فَمَهُ أَبداً، فكذلك إِجابة هؤلاء والانتفاعُ بهم لا يَقَعُ. وقوله: هُوَ: يريد به الماءَ، وهو البالغُ، والضمير في بِبالِغِهِ للفم، ويصحُّ أنْ يكون هو يراد به الفم، وهو البالغ أيضا، والضمير في بِبالِغِهِ للماء لأن الفم لا يَبْلُغ الماء أبداً على تلك الحال، ثم أخبر سبحانه عن دعاءِ الكافرين أنه في انتلاف وضلالٍ لا يفيد. [سورة الرعد (13) : الآيات 15 الى 18] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) وقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية: تنبيهٌ على قدرته وعظمته سبحانه، وتسخيرِ الأشياءِ له، والطَّعْنِ على الكفَّار التارِكِينَ للسّجود، ومَنْ: تَقَعُ على الملائكةِ عموماً، و «سُجُودُهُمْ» : طوع، وأما أهْلُ الأرض، فالمؤمنون داخلُونَ في مَنْ، وسجودُهم أيضاً طَوْع، وأما سجودُ الكَفَرة، فهو الكَرْه، وذلك على معنيين، فإِن جعلنا السجُودَ هذه الهيئة المعهودَةَ، فالمراد من الكَفَرَة مَنْ أسلم، خَوْفَ سيفِ الإِسلام كما قاله قتادة «1» ، وإِن جعلنا السُّجود الخضُوعَ والتذلُّل، حَسَب ما هو في اللغة، فيدخلُ الكفَّار أجمعون في مَنْ لأنه ليس من كافرٍ إِلا ويلحقه من التذلُّل والاستكانة لقدرة اللَّه تعالى أنواعٌ أكثر من أنْ تحصَى بحسب رَزَايَاهُ، واعتباراته. وقوله سبحانه: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ: إِخبار عن أنّ الظّلال لها سجود لله

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 306) ، والسيوطي (4/ 101) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

تعالى كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ... الآية [النحل: 48] ، وقال مجاهد: ظلُّ الكافر يسجُدُ طوعاً، وهو كاره «1» ورُوِيَ أن الكافر إِذا سَجَد لصنمه، فإِن ظلَّه يسجُدُ للَّهِ حينئذٍ، وباقي الآية بيِّن، ثم مَثَّل الكفَّار والمؤمنين بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وشبه الكافر بالأعمى، والكُفْرَ بالظلماتِ، وشبه المؤمنَ بالبصيرِ، والإِيمان بالنور. وقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: لفظ عامٌّ يراد به الخصوصُ كما تقدم ذكره في غير هذا الموضع. وقوله سبحانه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَآءً: يريد به المَطَرَ، فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها: «الأودية» : ما بين الجبالِ مِنَ الانخفاض والخَنَادِقِ، وقوله: بِقَدَرِها: يحتمل أنْ يريد بما قُدِّرَ لها من الماءِ، ويحتمل أنْ يريد بقَدْر ما تحمله على قَدْر صغرها وكِبَرها. ت: وقوله: فَاحْتَمَلَ بمعنى: حمل، كاقتدر وقدر قاله [ص] . والزَّبَدُ ما يحمله السيْلُ من غُثَاء ونحوه، و «الرابِي» : المنتفخ الذي قَدْ ربا، ومنه الرَّبْوَة. وقوله سبحانه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ: المعنَى: ومن الأشياء التي توقِدُونَ عليها ابتغاءَ الحُلِيِّ، وهي الذَهَبُ والفضَّة، أو ابتغاء الاستمتاع بها في المرافِقِ، وهي الحديدُ والرَّصَاصُ والنُّحَاسُ ونحوها من الأشياء التي تُوقِدُونَ عليها، فأخبر تعالَى أنَّ من هذه أَيضاً إِذا أحمي علَيْها يكونُ لها زَبَدَ مماثِلٌ للزَّبَد الذي يحملُه السَّيْل، ثم ضرب سبحانه ذلك مثَلاً للحقِّ والباطِلِ، أي: إِن الماء الذي/ تشربه الأرْضُ من السيل، فيقَعُ النفْعُ به هو كالحَقِّ، والزَّبَد الذي يخمد وينفش ويَذْهَب هو كالبَاطِلِ، وكذلك ما يخلص من الذَّهَبَ والفضَّة والحديد ونحوه هو كالحَقِّ، وما يذهَبُ في الدُّخَان هو كالبَاطِلِ. وقوله: جُفاءً: مصدر من قولهم: «أَجْفَأَتِ القدْرُ» إِذا غلَتْ حتى خَرَجَ زَبَدُها وذهب. وقال ص: جُفاءً: حال، أي: مضمحلاًّ متلاشيا، أبو البقاء: وهمزته منقلبة

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 367) برقم: (20302) ، وذكره البغوي (3/ 12) ، وابن عطية (3/ 306) ، والسيوطي (4/ 102) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ بنحوه.

[سورة الرعد (13) : الآيات 19 إلى 25]

عن واوٍ، وقيل: أصل. انتهى. وقوله: مَا يَنْفَعُ النَّاسَ: يريد الخالِصَ من الماء ومِنْ تلك الأحجار. وقوله سبحانه: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى: ابتداء كلام، والْحُسْنى: الجنة. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا: هم الكفرة، وسُوءُ الْحِسابِ: هو التقصِّي على المحاسَب، وأَلاَّ يقع في حسابِهِ من التجاوُزِ شَيْءٌ قاله شَهْرُ بن حوشب والنّخعيّ وفرقد السبخيّ وغيرهم «1» . [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 25] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) وقوله سبحانه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ... المعنى: أسواءٌ مَنْ هداه اللَّه، فَعَلِمَ صدْقَ نبوَّتك، وآمن بك كمن هو أعمَى البصيرةِ باقٍ على كُفْره روي أنَّ هذه الآية نزلَتْ في حمزةَ بْنِ عَبْدِ المطَّلب، وأَبِي جَهْل، وهي بَعْدَ هذا مثَالٌ في جميع العالم، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ: «إِنما» في هذه الآية: حاصرة، أي: إِنما يتذكَّر، فيؤمن ويراقب اللَّه مَنْ له لُبٌّ، ثم أخذ في وصفهم، فقال: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ... الآية: قال الثعلبيُّ: قال عبد اللَّهِ بنُ المبارَكِ: هذه ثمانِ خِلاَلٍ مسيِّرةٌ إِلى ثمانيةِ أبوابِ الجنةِ «2» ، وقال أبو بَكْرٍ الوَرَّاقُ: هذه ثمانِ جُسُورٍ، فمن أراد القربة مِنَ اللَّه عَبَرَهَا. انتهى. وباقي الآية ألفاظها واضحَة، وأنوارها لِذَوِي البصائر لائحة. وَيَدْرَؤُنَ: يدفعون. قال الغَزَالِيُّ: لما ذَكَرَ هذه الآيةَ: والذي آثر غُرُورَ الدنيا على نعيمِ الآخرةِ، فليس من

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 373) برقم: (20326) ، وذكره البغوي (3/ 14) ، وابن عطية (3/ 308) ، والسيوطي (4/ 105) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ولسعيد بن منصور، وابن جرير، وأبي الشيخ. (2) ذكره البغوي (3/ 16) .

[سورة الرعد (13) : الآيات 26 إلى 29]

ذوي الأَلْبَابِ، ولذلك لا تَنْكَشِفُ له أَسْرارُ الكتاب، انتهى. وجَنَّاتُ: بدل من عُقْبَى وتفسير لها، وعَدْنٍ: هي مدينةُ الجَنَّة ووَسَطُها، ومعناها: جنَّات الإِقامة مِنْ عَدَنَ في المَكَانِ، إِذا أقام فيه طويلا، ومنه المعادن، وجَنَّاتُ عَدْنٍ: يقال: هي مَسْكن الأنبياءِ والشُّهَداء والعُلَماء فَقَطْ قاله عبد اللَّه بن عمرو بن العاص «1» ، ويروَى أَنَّ لها خَمْسَةَ آلافِ باب، وقوله: وَمَنْ صَلَحَ: أي: عمل صالحاً، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ: أي: يقولون: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، والمعنى: هذا بما صَبَرْتُم، وباقي الآية واضحٌ. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ... الآية: هذه صفةُ حالٍ مضادَّةٍ للمتقدّمة- نعوذ بالله من سخطه-. [سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) وقوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ... الآية: لما أخبر عَمَّن تقدَّم وصفه بأنَّ لهم اللعنةَ وسُوءَ الدار، أنْحَى بعد ذلك على أغنيائهم، / وحقَّر شأنهم وشَأْنَ أموالهم، المعنى: إِنَّ هذا كلَّه بمشيئة اللَّه يَهَبُ الكافرَ المال لهلكه بِهِ، ويَقْدِرُ على المؤمِنِ ليُعْظِمَ ذلك أَجْرَهُ وذُخْرَهُ. وقوله: وَيَقْدِرُ: من التَّقْدِيرِ المناقِضِ للبَسْط والاتساع. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ... الآية: رد على مقترحي الآيات من كفَّار قريشٍ كما تقدَّم. وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ: «الذين» : بدلٌ مِنْ «مَنْ» في قوله: مَنْ أَنابَ، وطمأنينة القلوبِ هي الاستكانة والسرورُ بذكْر اللَّه، والسكونُ به، كمالاً به، ورضاً بالثواب عليه، وجودة اليقين، ثم قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ: أي: لا بالآياتِ المُقْتَرحةِ التي ربّما كفر بعدها فنزل العذاب، و «الذين» الثاني:

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 376) برقم: (20341) ، وذكره ابن عطية (3/ 310) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 150) .

[سورة الرعد (13) : الآيات 30 إلى 32]

مبتدأ، وخبره طُوبى لَهُمْ. واختلف في معنى طُوبى، فقال ابن عباس: طُوبى: اسمُ الجنَّةِ بالحَبَشِيَّةِ «1» ، وقيل: طُوبى: اسم الجنَّة بالهِنْدِيَّة، وقيل: طُوبى: اسم شجرة في الجنَّة، وبهذا تواترتِ الأحاديث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طُوبَى اسم شَجَرَةٍ في الجَنَّةِ يَسِيرُ الرَّاكِبُ المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها ... » «2» الحديث. قال ص: طُوبى: «فُعْلَى» من الطِّيب، والجمهور أنها مفرد مصدر ك «سُقْيَا وبُشْرَى» . قال الضَّحَّاك: ومعناها: غِبْطَةً لهم «3» ، قال القُرطُبيُّ «4» : والصحيحُ أنها شجرةٌ للحديث المرفوع. انتهى. ت: وروى الشيخُ الحافظ أبو بكْرٍ أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ ثابتِ بنِ الخَطِيبِ البَغْدَادِيُّ في «تاريخه» ، عن شيخه أبي نُعَيْمٍ الأَصبهانيِّ بسنده عن أبي سَعِيدٍ الخدريِّ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِك! قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، ثُمَّ طُوبَى، ثُم طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي» ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا طُوبَى؟ قَالَ: «شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا» «5» . انتهى من ترجمة «أحمد بن الحَسَن» . [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 32] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 381) برقم: (20373) ، وذكره البغوي (3/ 18) ، وابن عطية (3/ 312) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 512) . (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه الطبري (7/ 381) برقم: (20365) ، وابن عطية (3/ 312) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 512) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 111) ، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ. (4) انظر: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (9/ 208) . (5) تقدم تخريجه. [.....]

وقوله تعالى: «كذلك أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ» : أي: كما أجرينا عادَتَنا، كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ ... الآية. وقوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ: قال قتادة: نزلَتْ في قريش: لما كُتِبَ في الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في قصَّة الحُدَيْبِيَة، فقال قائلهم: نَحْنُ لاَ نَعْرِفُ الرحمن «1» . قال ع «2» : وذلك منهم إِباءةُ اسم فقطْ، وهروبٌ عن هذه العبارة التي لم يَعْرِفُوها إِلا مِنْ قِبَل النبيِّ عليه السلام، وال مَتابِ: المرجعُ ك «المآب» لأن التوبة هي الرجُوعُ. وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ... الآية: قال ابن عباس وغيره: إِن الكفّار قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أزِحْ عَنَّا وَسَيِّرِ جَبَلِيْ مَكَّةَ، فَقَدْ ضَيَّقَا عَلَيْنَا، واجعل لَنَا أَرْضَنَا قِطَعَ غِرَاسَةٍ وَحَرْثٍ، وأوحي لَنَا آبَاءَنَا وَأَجْدَادَنَا، / وَفُلاَناً وفُلاَناً، فنزلَتِ الآيةُ في ذلك معلمةً أنهم لا يُؤْمِنُونَ، ولو كان ذلك كله «3» . وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية: «يَيْئَس» : معناه: يعلم، وهي لغة هَوَازِنَ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة: «أَفَلَمْ يَتَبَيَّن» ، ثم أخبر سبحانه عن كُفَّار قريشٍ والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وغزواته، ثم قال: «أَوْ تُحَلُّ أَنْتَ يَا محمَّد قريباً من دارهم» . [هذا تأويلُ ابنُ عَبَّاس وغيره «4» . وقال الحسنُ بن أبي الحَسَن: المعنى: أو تَحُلُّ القارعةُ قريباً من دارهم] «5» ، ووَعْدُ اللَّهِ على قول ابن عباس وغيره: هو فَتْحُ مَكَّة، وقال الحسن: الآيةُ عامَّة في الكفّار إلى

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 385) برقم: (20396) ، وذكره البغوي (3/ 19) بنحوه، وابن عطية (3/ 312) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 515) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 116) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (2) ينظر: «المحرر» (3/ 312) . (3) أخرجه الطبري (7/ 386) برقم: (20399) ، وذكره ابن عطية (5/ 313) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 515) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 116) ، وعزاه للطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (4) أخرجه الطبري (7/ 389) برقم: (20417) ، وذكره البغوي (3/ 20) بنحوه، وابن عطية (3/ 313) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 516) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 119) ، وعزاه للطيالسي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» . (5) أخرجه الطبري (7/ 391) برقم: (20436) ، وذكره ابن عطية (3/ 313) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 516) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 119) ، وعزاه لابن جرير.

[سورة الرعد (13) : الآيات 33 إلى 35]

يوم القيامة، وإِنَّ حال الكَفَرة هَكَذَا هي إلى يوم القيامة، ووَعْدُ اللَّهِ: قيامُ الساعة، وال قارِعَةٌ: الرزيَّة التي تقرع قلْبَ صاحبها «1» . وقوله سبحانه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ ... الآية: تأنيسٌ وتسليةٌ له عليه السلام، قال البخاري: فَأَمْلَيْتُ: أي: أطلت من المليي والملاوة «2» ومنه: مَلِيًّا، ويقال للواسِعِ الطويلِ من الأرض: ملى من الأرض. انتهى. [سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 35] أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وقوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ: أي: أهو أحقُّ بالعبادة أم الجمادات. وقوله: قُلْ سَمُّوهُمْ: أي: سَمُّوا من له صفات يستحقّ بها الألوهية، ومَكْرُهُمْ: يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانَتْ بسبيل مناقَضَةِ الشرع، ولَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا : أي: بالقتل والأسْر والجدوب وغير ذلك، وأَشَقُ : من المشقَّة، أي: أصعب، والواقي الساتِرُ علَى جهة الحمايَةِ من الوقاية. وقوله سبحانه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها: قد تقدم تفسير نظيره، وقوله: أُكُلُها: معناه: ما يؤكَلُ فيها. [سورة الرعد (13) : الآيات 36 الى 38] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ ... الآية: قال ابن زيد: المراد

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 391) برقم: (20438) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 313) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 516) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 119) ، وعزاه لابن جرير. (2) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 221) ، كتاب «التفسير» باب: سورة الرعد.

[سورة الرعد (13) : الآيات 39 إلى 43]

بالآية: مَنْ آمَنَ مِنْ أهْل الكتاب كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ «1» وغيره. قال ع «2» : والمعنى مدحهم، وباقي الآية بيّن. [سورة الرعد (13) : الآيات 39 الى 43] يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) وقوله سبحانه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ: المعنى أنَّ اللَّه سبحانه يمحو من الأمور ما يشاء، ويغيِّرها عن أحوالها مما سَبَقَ في علْمه مَحْوُهُ وتغييرُهُ، ويثبتها في الحَالةِ التي يَنْقُلُها إِليها حَسَبَ ما سَبَقَ في علْمه. قال ع «3» : وأصوَبُ ما يفسَّر به أُمُّ الْكِتابِ: أنه كتاب الأمورِ المجزومَةِ التي قدْ سَبَقَ القضاء فيها بمَا هو كائنٌ، وسبق ألاَّ تبدَّل ويبقَى المحْوُ والتثبيت في الأمور التي قد سَبَقَ في القضاء أنْ تبدَّل وتمحَى وتُثْبَتَ قال نحوه قتادة «4» ، وقوله سبحانه: وَإِنْ مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ: «إِن» : شرطٌ دخلَتْ عليها «ما» ، وقوله: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، «أو» عاطفةٌ، وقوله: فَإِنَّما: جوابُ الشرط، ومعنى الآية: إِنْ نُبَقْكَ يا محمَّد، لترَى بعض الذي نَعِدُهم، أو نتوفينَّك قبل ذلك، فعلى كلا الوجْهَيْن، فإِنما يلزمُكَ البلاغَ فقَطْ، والضمير في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا: عائد على كفَّار قريش كالذي في نَعِدُهُمْ. وقوله: نَأْتِي: معناه: بالقُدْرة والأمر. والْأَرْضَ: يريد بها اسم الجنس، وقيل: يريد أرض الكفَّار المذكورين، المعنى: أو لم يروا أنا نأتي أرْضَ هؤلاء بالفَتْح/ عليك، فننقصها بمَا يَدْخُلُ في دِينِكَ من القبائلِ والبلادِ المجاورَة لهم، فما يؤمنهم أنْ نمكِّنك منْهم أيضاً قاله ابن عباس، وهذا على أن الآية مدنيّة «5» ، ومن قال: إن الأرض

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 397) برقم: (20458) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 315) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (7/ 121) ، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ. (2) ينظر: «المحرر» (3/ 315) . (3) ينظر: «المحرر» (3/ 318) . (4) أخرجه الطبري (7/ 404) برقم: (20507) بنحوه، وابن عطية (3/ 318) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 520) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 125) ، وعزاه لابن جرير. (5) أخرجه الطبري (7/ 406) برقم (20514) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 24) ، وابن عطية (3/ 319) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 922) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 127) ، وعزاه لابن جرير.

اسم جنسٍ، جعل انتقاص الأرض بتخريبِ العُمْران الذي يُحِلُّه اللَّه بالكُفَّار، وقيل: الانتقاص بمَوْت البشر، ونقص الثمرات والبَرَكَةِ، وقيل: بموتِ العلماءِ والأخيارِ قاله ابن عباس أيضاً «1» ، وكلُّ ما ذكر يدخل في لفظ الآية، وجملةُ معنَى هذه الآية: الموعظَةُ وضَرْبُ المثل، وقال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ في كتاب العلم بسنده عن عطاء بن أبي رَبَاح في معنَى نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قال: بذَهَابِ فقهائها، وخيار أهلها وعن وكيع «2» نحوه. وقال الحسن: نقصانُهَا: هو بظهور المسلمين على المُشْركين «3» . قال أبو عمر: وقول عطاء في تأويل الآية حَسَنٌ جِدًّا، تلَقَّاه أهل العلْمِ بالقبول، وقولُ الحسن أيضاً حسن. انتهى. وقوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً: أي: العقوبات التي أحلَّها بهم، وسمَّاها مكراً على عُرْفِ تسمية العقوبة باسم الذنب، وباقي الآية تحذيرٌ ووعيدٌ. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا: المعنى: ويكذِّبك يا محمَّد هؤلاءِ الكفرةُ ويقولون: لستَ مرسلاً. قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً: أي: شاهداً بيني وبينكم، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ: قال قتادة: يريدُ مَنْ آمَنَ منهم كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وغيره «4» ، كَمُلَ تفسيرُ السُّورة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 406) برقم: (20519) ، (7/ 407) برقم: (20523) ، وذكره ابن عطية (3/ 319) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 522) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 127) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (7/ 408) برقم: (20533) ، وذكره البغوي (3/ 24) ، وابن عطية (3/ 319) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 522) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 126) وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في «الفتن» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه. [.....] (3) أخرجه الطبري (7/ 406) برقم: (20517) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 522) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 126) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (7/ 410) برقم: (20542) ، وذكره البغوي (3/ 25) بنحوه، وابن عطية (3/ 320) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 521) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 128) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

تفسير سورة إبراهيم

تفسير سورة إبراهيم هذه السورة مكّيّة إلا آيتين، وهما قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً ... [إبراهيم: 28] إلى آخر الآيتين، ذكره مكّيّ والنّقّاش. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) قوله عزَّ وجلَّ: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ قال القاضِي ابنُ الطَّيب، وأبو المعالى وغيرهما: إِن الإِنزال لم يتعلَّق بالكلامِ القَدِيمِ الذي هو صفةُ الذاتِ، لكَنْ بالمعاني التي أفْهَمَهَا اللَّهُ تعالَى جِبْرِيلِ عليه السلام من الكَلاَم. وقوله: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ: في هذه اللفظة تشريف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعَمَّ الناس إِذ هو مبعوثٌ إِلى جميعِ الخَلْق، وقرأ نافعٌ وابن عامرٍ «1» : «اللَّهُ الَّذِي له ما في السموات وما في الأرض» برفع اسم اللَّه على القطْعِ والابتداءِ، وقرأ الباقون بخَفْضِ الهَاء، وَوَيْلٌ: معناه: وشدَّةٌ وبَلاَءٌ، وباقي الآية بيّن. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 4 الى 6] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

_ (1) ينظر: «الحجة» (5/ 25) ، و «إعراب القراءات السبع» (1/ 334) ، و «حجة القراءات» (376) ، و «الإتحاف» (2/ 166) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 322) ، و «البحر المحيط» (5/ 393) ، و «الدر المصون» (4/ 250) ، و «السبعة» (362) ، و «معاني القراءات» (2/ 61) ، و «شرح الطيبة» (4/ 396) ، و «العنوان» (115) ، و «شرح شعلة» (449- 450) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 7 إلى 9]

وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... الآية، هذه الآيةُ طعن وردّ على المستغربين أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه لموسَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ: أي: عظْهم بالتهديدِ بِنِقَمِ اللَّهِ التي/ أحلَّها بالأمم الكَافرة قَبْلهم، وبالتَّعْديدِ لنعمه علَيْهم، وعَبَّرَ عن النعم وَالنِّقَمِ ب «الأَيَّامِ» إِذ هي في أيامٍ، وفي هذه العبارةِ تعظيمُ هذه الكوائنِ المذكَّر بها، وفي الحديثِ الصحيحِ: «بَيْنَمَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ أيَّامَ اللَّهِ ... » الحديث، في قصة موسَى مع الخَضِرِ. قال عياضٌ في «الإِكمال» : «أَيَّامِ الله» : نَعْمَاؤه وبلاؤه، انتهى. وقال الداوديّ: وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ: قال: بِنِعَمِ اللَّهِ» وعن قتادة: لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ: قال: نعْمَ، واللَّهِ، العبدُ إِذا ابتلي صَبَرَ، وإِذا أُعْطِيَ شَكَرَ. انتهى «1» . وقال ابنُ العربيِّ في «أَحكامه» : وفي بِأَيَّامِ اللَّهِ قولان: أحدهما: نعمه. والثاني: نقمه. انتهى. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 7 الى 9] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) وقوله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ... الآية: «تأَذَّن» : بمعنى آذَنَ، أي: أعلم. قال بعضُ العلماء: الزيادةُ على الشُّكر ليستْ في الدنيا، وإِنما هي مِنْ نعم الآخرةِ، والدنيا أهْوَنُ من ذلك. قال ع «2» : وجائزٌ أن يزيدَ اللَّه المؤمِنَ علَى شُكْره من نعمِ الدنيا والآخرةِ، «والكُفْرِ» هنا: يحتمل أن يكون على بابه، ويحتملُ أنْ يكون كفرَ النِّعَمِ، لا كفر الجحد،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 418) برقم: (20581) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 523) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 132) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 325) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 10 إلى 14]

وفي الآية ترجيةٌ وتخويفٌ، وحكى الطبريُّ «1» عن سفيان وعن الحسن أنهما قَالاَ: معنى الآية: لَئِنْ شكرتم لأَزيدنكم مِنْ طاعتي. قال ع «2» : وضعَّفه الطبريُّ، وليس كما قال، بل هو قويٌّ حَسَنٌ، فتأمَّلَهُ. ت: وتضعيفُ الطبريِّ بيِّن من حيثُ التخصيصُ، والأصلُ التعميمُ «3» . وقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ: هذا أيضاً من التذْكير بأيام اللَّه، وقوله سبحانه: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ: قيل: معناه: رَدُّوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إِشارةً على الأنبياء بالسُّكوت، وقال الحسن: رَدُّوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسُل تسكيتاً لهم، وهذا أشنع في الرّدّ «4» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 10 الى 14] قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وقوله عز وجل: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ: التقدير: أفي إِلاهية اللَّه شَكٌّ أو: أفي وحدانيَّة اللَّهِ شكّ، و «ما» في قوله ما آذَيْتُمُونا مصدريَّة، ويحتملُ أنْ تَكُونَ موصولةً بمعنى «الذي» ، قال الداودي: عن أبي عُبَيْدةً لِمَنْ خافَ مَقامِي: مجازه حيثُ أَقيمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ للحسابِ انتهى «5» . قال عبد الحقِّ في «العاقبة» قال الربيع بن خَيْثَمٍ: مَنْ خافَ الوعيدَ، قَرُبَ عليه البعيد، ومَنْ طال أمله، ساء عمله. انتهى، وباقي الآية بيّن.

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 420) برقم: (20585- 20586) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 325) . (3) أخرجه الطبري (7/ 420) برقم: (20587- 20588) ، وذكره ابن عطية (3/ 325) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 133) ، وعزاه لابن جرير. (4) ذكره البغوي (3/ 27) ، وابن عطية (3/ 326) . (5) ذكره ابن عطية (3/ 330) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 15 إلى 16]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 15 الى 16] وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) وقوله سبحانه: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ: اسْتَفْتَحُوا: أي: طلبوا الحُكْم، و «الفَتَّاح» الحاكم، والمعنَى: أنَّ الرسل استفتحوا، أيْ: سألوا اللَّه تبارَكَ وتعالَى إِنفاذَ الحُكْمِ بنصرهم. وقيل: بلِ استفتح الكفَّارُ على نحو قولِ قريشٍ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ... [ص: 16] وعلى نحو قول أبي جَهْل يوم بَدْرٍ: اللَّهم، أقطعنا للرَّحِمِ، وأتيانا بمَا لاَ نَعْرِفُ، فاحنه الغَدَاةَ، وهذا قولُ ابنِ زيدٍ «1» ، وقرأَتْ فرقةٌ: «واستفتحوا» «2» - بكسر التاء- على معنى الأمر للرسُلِ، وهي قراءَة ابن عبَّاس ومجاهدٍ وابن مُحَيْصِنٍ: وَخابَ: معناه: خسر ولم ينجح، والجبار: المتعظّم في نفسه، والعنيد: الذي يعاند ولا يناقد. وقوله: مِنْ وَرائِهِ: قال الطبري «3» وغيره: مِنْ أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: 79] ، وليس الأمر كما ذكروا، بل الوَرَاءُ هنا وهنَاكَ على بابه، أي: هو/ ما يأتي بَعْدُ في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحَوَادِثِ بالأَمَامِ والوراءِ، إِنما هو بالزَّمَانِ، وما تقدَّم فهو أمام، وهو بَيْن اليد كما نقول في التوراة والإِنجيل: إنهما بيْنَ يدَي القرآن، والقرآنُ وراءهم، وعلَى هذا فما تأخَّر في الزمَانِ فهو وراء المتقدِّم، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ: «الصديد» : القَيْح والدمُ، وهو ما يسيلُ من أجْسَادِ أهْلِ النَّار قاله مجاهد «4» والضّحّاك. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 17 الى 21] يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 428) برقم: (20626) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 330) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 526) بنحوه. (2) وقرأ بها ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن. قال أبو الفتح: هو معطوف على ما سبق من قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، أي: قال لهم: استفتحوا. ينظر: «المحتسب» (1/ 360) ، و «الشواذ» ص: (72) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 330) ، و «البحر المحيط» (5/ 410) ، و «الدر المصون» (4/ 256) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 428- 429) . (4) أخرجه الطبري (7/ 429) برقم: (20627) ، وبرقم: (20631) بنحوه، وذكر ابن عطية (3/ 331) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 526) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 138) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث والنشور» . [.....]

وقوله: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ: عبارةٌ عن صعوبة أمره عليهم، وروي أنَّ الكافر يؤتَى بالشَّرْبة من شراب أهْل النَّار، فيتكَّرهها، فإِذا أدنيَتْ منه، شَوَتْ وجهه، وسقَطَتْ فيها فروة رأسِهِ، فإِذا شربها، قَطَّعت أمعاءه، وهذا الخبر مفرَّق في آيات من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، أي: مِنْ كل شعرة في بَدَنِهِ قاله إِبراهيمُ التَّيْمِيُّ «1» ، وقيل: مِنْ جميع جهاته السِّتِّ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ: لا يراحُ بالموت، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ قال الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: العذابُ الغليظ: حَبْسُ الأنفاسِ في الأجسادِ، وفي الحديث: «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ تَكَلَّمُ بِلَسَانٍ طَلِقٍ ذَلِقٍ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرُ بِهِمَا، وَلَهَا لِسَانٌ تَكَلَّمُ بِهِ، فَتَقُولُ: إِنِّي أُمِرْتُ بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلها آخَرَ، وبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وبِمَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَتَنْطَلِقُ بِهِمْ قَبْلَ سَائِرِ النَّاسِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فتنطوي علَيْهم، فتقذفُهُمْ في جهنَّم» ، خرَّجه البزَّار «2» ، انتهى من «الكوكب الدري» . وقوله: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ وصف اليوم بالعُصُوفِ، وهي من صفات الريحِ بالحقيقة لما كانت في اليوم، كقول الشاعر: [الطويل] ............... .......... ... وَنِمْت وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ «3» وباقي الآية بيّن.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 430) برقم (20636) ، وذكره البغوي (3/ 29) ، وابن عطية (3/ 331) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 526) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 139) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الترمذي (4/ 701) كتاب «صفة جهنم» باب: ما جاء في صفة النار، حديث (2574) بنحوه، وقال الترمذي: حسن غريب صحيح. (3) عجز بيت وصدره: لقد لمتنا يا أم عيلان في السرى............... ............ والبيت لجرير في «ديوانه» ص: (993) ، و «خزانة الأدب» (1/ 465) ، (8/ 202) ، و «الكتاب» (1/ 160) ، و «لسان العرب» (2/ 442) (ربح) ، وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (8/ 60) ، و «الإنصاف» (1/ 243) ، و «تخليص الشواهد» ص: (439) ، والصاحبي في «فقه اللغة» (222) ، و «المحتسب» (2/ 184) ، و «المقتضب» (3/ 105) ، (4/ 331) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 22 إلى 23]

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً: معناه: صاروا في البِرَازِ، وهي الأرضُ المتَّسِعَة، فَقالَ الضُّعَفاءُ، وهم الأتْبَاعُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وهم القادة وأهْلُ الرأْي، وقولهم: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ: «المحيصُ» : المفرُّ وَالمَلْجَأَ مأخوذٌ منِ حَاصَ يَحيصُ إِذا نفر وفر ومنه في حديث هِرَقْلَ: «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلى الأَبْوَابِ» وروي عن ابن زيدٍ، وعن محمد بن كَعْب أن أهْلَ النار يقولُونَ: إِنما نال أَهْلُ الجَنَّةِ الرحْمَةَ بالصبر على طاعة اللَّه، فتعالَوْا فَلْنَصْبِرْ، فَيَصْبِرُونَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، فلا ينتفعونَ، فيقولُون: هلمَّ فَلْنَجْزَعْ، فَيَضِجُّونَ ويَصِيحُونَ ويَبْكُونَ خَمْسَمِائَةِ سنة أُخرَى، فحينئذٍ يقولُونَ هذه المقَالَةَ سَواءٌ عَلَيْنا ... الآية، وظاهر الآية أنهم إِنما يقولونها في مَوْقِفِ العرْض وقْتَ البروز بين يدي الله عزّ وجلّ «1» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 22 الى 23] وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) وقوله عزَّ وجلَّ: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: المراد هنا ب «الشَّيْطَان» إِبليسُ الأَقْدَمُ، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طريق عُقْبَة بنِ عَامِرٍ، أَنه قال: يقوم يومَ القيَامَةِ خَطيبَان أَحدهما: إِبليسْ يقوم في الكَفَرة بهذه الأَلْفَاظِ، والثاني: عيسَى ابنُ مَرْيَمَ يقومُ بقوله: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ... الآية [المائدة: 117] ، وروي في حديث أنَّ إِبليس إِنما يقوم بهذه الألفاظ في النَّار علَى أهلها عند قولهم: مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم: 21] في الآية المتقدِّمة فعلى هذه الرواية، يكون معنى قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ، أي: حصل أهْلُ/ النار في النَّار، وأهْلُ الجنة في الجنة، وهو تأويلُ الطبريِّ «2» . وقوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ: أي: من حجة بيّنة، وإِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ استثناء منقطعٌ، ويحتملُ أنْ يريد ب «السُّلْطان» في هذه الآية: الغلبة والقُدْرة والمُلْك، أي: ما اضطررتكم، ولا خوَّفتكم بقُوَّة منِّي، بلْ عرضْتُ عليكم شيئاً فأَتَى رأْيُكُمْ عليه.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 433) برقم: (20640) ، وبرقم: (20641) ، وذكره البغوي (3/ 30) ، وابن عطية (3/ 333) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 140) ، وعزاه لابن جرير. (2) ينظر: «الطبري» (7/ 433) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 إلى 26]

وقوله: فَلا تَلُومُونِي: يريد: بزعمه إِذ لا ذَنْبَ لي، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، أي: في سوء نَظَركم في اتباعي، وقلَّةِ تثبُّتكم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ: «المُصْرِخُ» : المغيث، والصَّارِخُ: المستغيث، وأما الصَّريخ، فهو مصدَرٌ بمنزلة البَريح، وقوله: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ: «ما» مصدريةٌ، وكأنه يقول: إِني الآن كافرٌ بإِشراككم إِيَّايَ مع اللَّه قَبْلَ هذا الوَقْتِ، فهذا تَبَرٍّ منه، وقد قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 14] . وقوله عزَّ وجلَّ: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ: «الإِذن» هنا: عبارةٌ عن القضاء والإمضاء. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 26] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً: أَلَمْ تَرَ: بمعنى: ألم تعلَمْ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمة الطَّيِّبة: هي لا إله إِلا اللَّه «1» ، مَثَّلها اللَّه سبحانه بالشَّجَرة الطَّيِّبة، وهي النَّخْلة في قول أكثر المتأوِّلين، فكأنَّ هذه الكلمة أصلها ثابتٌ في قلوبِ المؤمنين، وفَضْلُها وما يَصْدُرُ عنها من الأفعال الزكيَّة وأنواعِ الحسناتِ هو فَرْعُها يَصْعُد إِلى السماء مِنْ قِبَلِ العبدِ، والحِين: القطعةُ من الزمان غيرُ مَحْدُودةٍ كقوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] ، وقد تقتضي لفظة «الحِينِ» بقرينتها تحديداً كهذه الآية، و «الكلمةُ الخبيثةُ» : هي كلمة الكفر، وما قاربها مِنْ كلامِ السوءِ في الظلمِ ونحوه، و «الشجرة الخبيثة» : قال أكثر المفسِّرين: هي شجرة الحنظل ورواه أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «2» وهذا عندي عَلَى جهة المَثَلِ، «اجتثت» : أي: اقتلعت جثتها بنزع الأصولِ، وبقيَتْ في غاية الوهَنِ والضَّعْفِ، فتقلبها أقلُّ ريحٍ، فالكافر يَرَى أنَّ بيده شيئاً، وهو لا يستقرُّ ولا يُغْنِي عنه كهذه الشجرة الذي يُظَنُّ بها عَلَى بُعْدِ أو للجَهْلِ بها أنها شيءٌ نافع، وهي خبيثة الجني غير باقية.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 437) برقم: (20659) ، وذكره ابن عطية (3/ 335) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 530) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 142) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (2) أخرجه الترمذي (5/ 295) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة إبراهيم عليه السلام، حديث (3119) ، والطبري (13/ 205) ، وأبو يعلى (7/ 182- 183) برقم: (4165) ، والحاكم (3/ 352) ، وابن حبان (468) من حديث أنس مرفوعا به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 27 إلى 30]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 27 الى 30] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) وقوله سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ: بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: كلمةُ الإِخلاصِ والنجاةِ من النَّار: «لا إله إِلا اللَّه» ، والإِقرارُ بالنبوَّة، وهذه الآية تعمُّ العالَمَ مِنْ لدنْ آدم عليه السلام إِلى يوم القيامةِ. قال طَاوُسٌ، وقتادة، وجمهور من العلماء: الْحَياةِ الدُّنْيا هي مدَّة حياةِ الإِنسان، وَفِي الْآخِرَةِ وَقْتُ سؤاله في قَبْرِهِ «1» ، وقال البَرَاء بنَ عَازِبٍ وجماعة: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: هي وقتُ سؤاله في قبره، ورواه البراء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في لفظ متأوَّلٍ، وفي الآخرة: هو يوم القيامة عندَ العَرْض، والأولُ أحسن، ورجَّحه الطبريُّ. ت «2» : ولفظ البخاريِّ عن البراءِ بْنِ عازِبٍ/ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «المُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي القَبْرِ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» . انتهى، وحديثُ البَرَاءِ خَرَّجه البخاريُّ ومسلم وأبو داود والنسائيُّ وابنُ ماجه «3» ، قال صاحب «التذكرة» «4» : وقد رَوَى هذا الحديثَ أبو هريرة وابن مسعود وابنُ عباس وأبو سَعِيدٍ الخدريُّ قال أبو سعيد

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 451) برقم: (20776) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 337) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 535) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (7/ 449) برقم: (20763) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 34) ، وذكره ابن عطية (3/ 337) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 532) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 148) ، وعزاه لابن أبي شيبة. (3) أخرجه البخاري (3/ 274) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في عذاب القبر، حديث (1369) ، وفي (8/ 229) كتاب «التفسير» باب: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، حديث (4699) ، ومسلم (4/ 2201) كتاب «الجنة» باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، حديث (73/ 2871) ، وأبو داود (2/ 651) كتاب «السنة» باب: في المسألة في القبر وعذاب القبر، حديث (4750) ، والترمذي (5/ 295- 296) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة إبراهيم، حديث (3120) ، والنسائي (4/ 101) كتاب «الجنائز» باب: عذاب القبر، حديث (2057) ، وابن ماجه (2/ 1427) كتاب «الزهد» باب: ذكر القبر والبلى برقم: (4269) ، والطيالسي (2/ 20- منحة) برقم: (1959) . كلهم من طريق سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب به، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 146) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (4) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 166) .

الخدريّ: كنّا في جنازة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيّها النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى في قُبُورِهَا فإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ، فَأَقْعَدَهُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ ... » الحديثَ، وفيه: فَقَالَ بَعْضُ أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مطراق إلّا هبل، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ «1» انتهى. قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البِرِّ: وُروِّينا من طرق أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لِعُمَرَ: كَيْفَ بِكَ يَا عُمَرُ، إِذَا جَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، إِذَا مُتَّ، وانطلق بِكَ قَوْمُكَ، فَقَاسُوا ثَلاَثَةَ أَذْرُعٍ وشِبْراً في ذِرَاعٍ وَشِبْرٍ، ثُمَّ غَسَّلُوكَ، وَكَفَّنُوكَ، وَحَنَّطُوكَ، ثُمَّ احتملوك، فَوَضَعُوكَ فِيهِ، ثُمَّ أَهَالُوا عَلَيْكَ التُّرَابَ، فَإِذَا انصرفوا عَنْكَ أَتَاكَ فَتَّانَا الْقَبْرِ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، أَصْواتُهُمَا كَالرَّعْدِ القَاصِفِ، وَأَبْصَارُهُمَا كَالبَرْقِ الخَاطِفِ يَجُرَّانِ شُعُورَهُمَا، مَعَهُمَا مِرْزَبَةٌ، لَوْ اجتمع عَلَيْهَا أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يَقْلِبُوهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِن فَرِقْنَا فَحَقٌّ لَنَا أَنْ نَفْرَقَ أَنُبْعَثُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: إِذَنْ أَكْفِيَكَهُمَا» ، انتهى «2» ، و «الظالمون» في هذه الآية: الكافرون، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ، أي: بحقِّ الملك فلا رادَّ لأَمره، ولا معقِّب لِحُكْمه، وجاءتْ أحاديثٌ صحيحةٌ في مُسَاءلة العبد في قبره، وجماعة السُّنَّة تقولُ: إِنَّ اللَّه سبْحَانه يَخْلُقُ للعَبْدِ في قَبْرِهِ إِدراكاتٍ وتحصيلاً: إِما بحياةٍ كالمتعارفة، وإِما بحضورِ النَّفْس، وإِن لم تتلبَّس بالجَسَدِ كالعُرْف، كلُّ هذا جائزٌ في قُدْرة اللَّه تَبَارَكَ وتعالى غير أنَّ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ «أَنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ» ، ومنها: أنه يرى الضوء كَأَنَّ الشمْسَ دَنَتْ للغروب، وفيها أنه يُرَاجَعُ، وفيها: «فَيُعَادُ رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ» ، وهذا كلُّه يتضمَّن الحياةَ، فسُبْحَانَ مَنْ له هذه القدرة العظيمة، وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً: المراد ب الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ: كَفَرَةُ قُريشٍ، وقد خرَّجه البخاريُّ وغيره مسنداً عن ابن عباس «3» انتهى، والتقديرُ: بدَّلوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْراً، ونِعْمَةُ اللَّه تعالى في

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 233) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 417- 418) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 51) ، وقال: رواه أحمد، والبزار، ورجاله رجال الصحيح، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 149) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وابن مردويه، والبيهقي في «عذاب القبر» ، وقال السيوطي: سنده صحيح. (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 153) ، وعزاه إلى ابن أبي داود في «البعث» ، والحاكم في «التاريخ» ، والبيهقي في «عذاب القبر» . (3) أخرجه البخاري (4700) ، والطبري (7/ 454) برقم: (20796) ، وذكره البغوي (3/ 35) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 538) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 156) ، وعزاه لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» . [.....]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 31 إلى 34]

هذه الآية: هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم ودِينُهُ، وَأَحَلُّوا/ قَوْمَهُمْ، أي: مَنْ أطاعهم، وكأنَّ الإشارة والتعنيف إنما هو للرؤوس والأعلام، والْبَوارِ: الهلاك، قال عطاءُ بنُ يَسَارٍ: نَزَلَتْ هذه الآيةُ في قَتْلَى «1» بدْر، و «الأنداد» : جمع نِدٍّ، وهو المثيلُ، والمرادُ: الأصنام، واللام في قوله: لِيُضِلُّوا- بضم الياء-: لام كَيْ، وبفتحها: لام عاقبة وصيرورة، والقراءتان «2» سبعيّتان. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 31 الى 34] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وقوله سبحانه: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ... الآية: «العباد» : جمع عبدٍ، وعُرْفُه في التكرمة بخلاف العبيد، و «السر» : صدقة التنفّل، و «العلانية» : المفروضةُ هذا هو مقتضى الأحاديثِ، وفسر ابن عباس هذه الآية بزكَاةِ الأَموالِ مجملاً، وكذلك فسَّر الصلاة بأَنها الخَمْسُ وهذا عندي منه تقريبٌ للمخاطَب «3» . و «الخلال» : مصدرٌ من «خَالَلَ» ، إِذا وادَّ وصافَى ومنه الخُلَّة والخَلِيلَ، والمراد بهذا اليومِ يَوْمُ القيامة. وقوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ: هذه الآيةُ تذكيرٌ بآلائه سُبْحانه، وتنبيهٌ على قدرته التي فيها إِحْسَان إِلى البَشَر لتقوم الحُجَّة عليهم، وقوله: بِأَمْرِهِ: مصدر أَمَرَ يَأْمُرُ، وهذا راجعٌ إِلى الكلام القديم القائم بالذات، ودائِبَيْنِ: معناه: متماديين، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم لصاحب الجمل

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 455) برقم: (20813) ، وذكره ابن عطية (3/ 338) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 157) ، وعزاه لابن جرير. (2) وتفصيل هذه القراءة على ما يلي: قرأ أبو كثير وأبو عمرو: «ليضلوا» بفتح الياء، أي: ليصيروا هم ضلّالا. وحجتهما: قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النحل: 30] . وقرأ الباقون: «ليضلوا» بضم الياء، أي: ليضلوا غيرهم، وحجتهم: أن الله سبحانه وصفهم قبل بأنهم ضالون في أنفسهم، فقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، فكان الحال يقتضي زيادة معنى، وهو: أنهم لم يتوقفوا عن ضلالهم هم، بل عدوه إلى غيرهم. ينظر: «شرح الطيبة» (4/ 396) ، و «العنوان» (115) ، و «حجة القراءات» (378) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 169) . (3) أخرجه الطبري (7/ 457) برقم: (20823) ، وذكره ابن عطية (3/ 339) .

الذي بَكَى وأَجْهَش «1» إِليه: «إِنَّ هَذَا الجمَلَ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبَه» «2» ، أي: تديمه في الخِدْمَة والعَمَل، وظاهرُ الآية أنَّ معناه: دائبَيْن في الطلوع والغروبِ وما بينهما من المَنَافِعِ للناسِ التي لا تحصَى كثرةً، وعن ابن عباس أَنَّه قال: معناه: دائِبَيْنِ في طاعة اللَّه «3» ، وقوله سبحانه: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ المعنى: أنَّ جنس الإِنسان بجملته قد أوتي من كلِّ ما شأنه أنْ يسأل وينتفع به، وقرأ ابن عباس «4» وغيره: «مِنْ كُلٍّ مَّا سَأَلْتُمُوهُ» - بتنوين كُلٍّ-، وروِيت عن نافع، وقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها، أي: لكثرتها وعِظَمها في الحَوَاس والقُوَى، والإِيجادِ بعد العَدَمِ والهدايةِ للإِيمان وغيرِ ذلك، وقال طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: إِنَّ حقَّ اللَّه تعالى: أَثْقَلُ من أَنْ يَقُومَ به العُبَّادُ، ونِعْمَهُ أَكثر مِنْ أَنْ يحصيها العبَادُ، ولكنْ أصْبِحُوا توَّابين، وأمْسُوا تَوَّابِين. ت «5» : وَمِنْ «الكَلِمِ الفارقيَّة» : أيها الحَرِيصُ على نيلِ عَاجِلِ حظِّه ومراده الغافلُ عن الاستعداد لمعاده تنبَّه لعظمة مَنْ وجودُكَ بإِيجادِهِ وبقاؤك بإِرْفاده ودوامك بإِمداده، وأنْتَ طفلٌ في حَجْر لُطْفه ومهد عَطْفه وحضانة حفظه، يغذِّك بلِبَانِ بِرِّهِ ويقلِّبك بأيدي أياديه وفضله وأنتَ غافلٌ عن تعظيم أمره جاهلٌ بما أولاَكَ من لَطِيف سِرِّه وفضَّلك به على كثيرٍ من خَلْقه، واذكر عهد الإِيجاد، ودوام الإِمْدَاد والإِرفاد وحالَتَيِ الإِصْدَار والإِيراد وفاتحة المبدأ وخاتمةَ المَعَاد. انتهى. وقوله سبحانه: إِنَّ الْإِنْسانَ: يُريدُ به النوَعَ والجنس، المعنى: توجد فيه هذه

_ (1) الجهش والإجهاش: أن يفزع الإنسان إلى غيره، وهو مع ذلك كأنه يريد البكاء، كالصبي يفزع إلى أمه وأبيه وقد تهيأ للبكاء. ينظر: «النهاية» (1/ 322) و «لسان العرب» (713) . (2) ذكره السيوطي في «الخصائص الكبرى» (2/ 95) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وأبي نعيم، والبيهقي كلاهما في «الدلائل» . (3) أخرجه الطبري (7/ 458) برقم: (20826) ، وذكره البغوي (4/ 36) ، وابن عطية (3/ 339) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير. (4) وقرأ بها الحسن، وجعفر بن محمد، وسلام بن منذر، والضحاك، ومحمد بن علي، وعمرو بن فائد، ويعقوب، قال أبو الفتح: أما على هذه القراءة فالمفعول ملفوظ به، أي: وآتاكم ما سألتموه أن يؤتيكم منه، وأما قراءة الجماعة ... على الإضافة، فالمفعول محذوف: أي: وآتاكم سؤلكم من كل شيء. ينظر: «المحتسب» (1/ 363) ، و «الشواذ» ص: (73) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 340) ، و «البحر المحيط» (5/ 416) ، و «الدر المصون» (4/ 272) . (5) أخرجه الطبري (7/ 459) برقم: (20835) ، وذكره ابن عطية (3/ 340) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 540) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 158) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي في «الشعب» .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 39]

الخِلاَلُ، وهي الظُّلْم والكُفْر، فإِن كانَتْ هذه الخِلاَلُ من جاحِدٍ، فهي بصفةٍ، / وإِن كانَتْ من عاص فهي بصفة أخرى. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 39] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً تقدَّم تفسيره. وقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ: واجْنُبْنِي: معناه: امنعني، يقال: جَنَبَهُ كَذَا، وأَجْنَبَهُ إِذا مَنَعَهُ من الأمْر وحَمَاهُ منْه. ت: وكذا قال ص: و «اجنبني» : معناه: امنعني، أصله من الجَانِبِ، وعبارةُ المَهْدَوِيِّ: أي: اجعلني جانباً من عبادتها. وقال الثعلبيُّ: وَاجْنُبْنِي، أي: بعّدني واجعلني منْها على جانِبٍ بعيدٍ. انتهى، وهذه الألفاظ كلُّها متقاربة المعاني، وأراد إبراهيم عليه السلام بَنِيَّ صُلْبه، وأما باقي نَسْله، فمنهم مَنْ عبد الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إِفراطَ خَوْفه علَى نفسه ومَنْ حصل في رتبته، فكيف يَخَافُ أنْ يعبد صَنَماً، لكن هذه الآية ينبغي أنْ يُقْتَدَى بها في الخَوْفِ، وطَلَبِ حُسْنِ الخاتمة، والْأَصْنامَ: هي المنحوتةُ على خَلْقَة البَشَر، وما كان منحوتاً على غَيْرِ خلْقَة البَشَرِ، فهي أوثانٌ، قاله الطبريُّ عن مجاهد «1» ، ونسب إِلى الأصنام أنها أضَلَّتْ كثيراً من الناس تجوُّزاً، وحقيقةُ الإِضلال إِنما هي لمخترعها سبحانه، وقيل: أراد ب الْأَصْنامَ هنا: الدنانيرُ والدَّرَاهم. وقوله: وَمَنْ عَصانِي: ظاهره بالكُفْر لمعادلة قوله: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وإِذا كان ذلك كذلك، فقوله: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: معناه: بتوبَتِكَ على الكَفَرَةِ حتى يؤمنوا لا أنَّه أراد أنَّ اللَّه يغفر لكَافِرٍ، وحمله على هذه العبارة ما كَانَ يأخذ نَفْسَهُ به من القَوْلِ الجميلِ، والنّطق الحسن، وجميل الأدب صلّى الله عليه وسلّم، قال قتادة: اسمعوا قول الخليل صلّى الله عليه وسلّم: واللَّه ما كانُوا طَعَّانين ولا لَعَّانِينِ، وكذلك قول نبيّ الله عيسى عليه السلام:

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 460) برقم: (20836) ، وذكره ابن عطية (3/ 341) .

وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» [المائدة: 118] ، وأسند الطبريُّ «2» عن عبد اللَّهِ بْن عمرو حديثا: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، تلا هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، ثم دعا لأمته فبَشَّرَ فيهم «3» ، وكان إِبراهيمُ التَّيْمِيُّ يقول: مَنْ يأمن على نفْسه بَعْدَ خوف إِبراهيمَ الخليل على نفسه من عبادة الأصنام. وقوله: ومِنْ ذُرِّيَّتِي: يريد: إِسماعيل عليه السلام، وذلك أَنَّ سارَّة لمَّا غارَتْ بهاجَرَ بَعْدَ أَنْ ولدَتْ إِسماعيل، تشوَّش قلبُ إِبراهيم مِنْهُما، فروي أنَّه رَكِبَ البُرَاقَ هو وهَاجَر، والطفلُ، فجاء في يَوْمٍ واحدٍ من الشامِ إِلى بَطْنِ مَكَّة، فتركَهُما هناك، ورَكِبَ منصرفاً من يومه ذلك، وكان ذلك كلُّه بوحْيٍ من اللَّه تعالى، فلمَّا ولى، دعا بمضمَّن هذه الآية، وأمَّا كيفيَّة بقاء هَاجَرَ، وما صَنَعَتْ، وسائرُ خَبَر إِسماعيل، ففي كتابِ البخاريِّ وغيره، وفي السير، ذُكِرَ ذلك كلُّه مستَوْعَباً. ت: وفي «صحيح البخاري» من حديثه الطويل في قصَّة إِبراهِيمَ مع هَاجَرَ وولدِهَا، لما حَمَلَهُما إِلى مكَّة، قال: ولَيْسَ/ بمكَّة يَومَئِذٍ أَحَدٌ، وليس فيها ماءٌ، فوضعهما هنالِكَ، ووضَعَ عندهما جراباً فيه تمْر، وسقاءً فيه ماءٌ، ثم قَفَّى إِبراهيم منطلقاً، فتبعْتهُ أمُّ إِسماعيل، فقالَتْ: يا إِبراهيم، أيْنَ تَذْهَبُ، وتَتْرُكُنَا بهذا الوادِي الذي لَيْسَ فيهِ أَنِيسٌ، ولا شَيْء، فقالَتْ له ذلك مِرَاراً، وجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِليها، فقالَتْ لَهُ: آللَّه أمَرَكَ بهذا، قال: نعمْ، قالتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثم رَجَعَتْ، فانطلق إِبراهيمُ حتى إِذا كان عند الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، استقبل بوجهه الْبَيْتَ، ثم دعا بهؤلاءِ الدعَواتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فقال: «رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، حتى بَلَغَ: يَشْكُرُونَ ... » الحديثَ بطوله «4» وفي طريق: «قالت: يا إبراهيم إِلى مَنْ تَتْرُكُنَا، قال: إِلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ: رَضِيتُ. انتهى. وفي هذا الحديثِ مِنَ الفوائِدِ لأرباب القلوبِ والمتوكِّلين وأهْلِ الثقة باللَّه سُبْحَانه ما يَطُولُ بنا سرْدُهَا، فإِليك استخراجها، ولما انقطعَتْ هاجَرُ وابنها إِلى اللَّه تعالى، آواهما اللَّه، وأنْبَعَ لهما ماءَ زَمْزَمَ المبارَكَ الذي جَعَله غذاءً، قال ابنُ العربي: وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» «5» . قال ابن العربيِّ: ولقد كُنْتُ مقيماً بمكَّة سنَةَ سَبْعٍ وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 461) برقم: (20840) ، وذكره ابن عطية (3/ 341) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 160) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «الطبري» (7/ 461) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 461) برقم: (20841) . (4) أخرجه البخاري (6/ 456، 458) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: يزفون، حديث (3364) . (5) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1124) . [.....]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 40 إلى 41]

مَاءَ زَمْزَمَ كثيراً، وكلَّما شرِبْتُ، نَوَيْتُ بِهِ العِلْمَ والإِيمانَ، ونَسِيتُ أنْ أشربه للعَمَلِ، ففتح لي في العِلْمِ، ويا لَيْتَنِي شربْتُه لهما معاً حتى يُفْتَحَ لي فيهما، ولم يُقَدَّر، فكان صَغْوِي إِلى العلْمِ أَكْثَرَ منه إِلى العمل، انتهى من «الأحكام» . و «من» في قوله: ومِنْ ذُرِّيَّتِي للتبعيضِ لأن إِسحاق كان بالشَّام، و «الوادِي» : ما بين الجبَلَيْن، وليس مِنْ شرطه أَنْ يكون فيه ماءٌ، وجَمْعُه الضميرَ في قوله: لِيُقِيمُوا: يدلُّ على أن اللَّه قد أعلمه أنَّ ذلك الطِّفْلَ سَيُعْقِبُ هناك، ويكونُ له نسلٌ، واللام في لِيُقِيمُوا: لامُ كي هذا هو الظاهر، ويصحُّ أَنْ تكون لام الأمر كأنه رَغِبَ إِلى اللَّه سبحانه أَنْ يوفِّقهم لإِقامة الصلاة، و «الأفئدة» القلوبُ جمْع فؤادٍ، سمِّي بذلك، لاتِّقَادِهِ، مأخوذ من «فَأَد» ، ومنه: «المُفْتَأَدُ» ، وهو مستوقَدُ النَّار حيث يُشْوَى اللحْمُ. وقوله: مِنَ النَّاسِ: تبعيضٌ، ومراده المؤمنون، وباقي الآية بيّن. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 40 الى 41] رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وقوله: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ: دعاء إِبراهيمُ عليه السلام في أمْر كان مثابراً عليه، متمسكاً به، ومتى دعا الإِنسان في مثْل هذا، فإِنما المَقْصِدُ إِدامةُ ذلك الأمْر، واستمراره، قال السُّهَيْلِيُّ: قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي بحرف التبعيض، ولذلك أسلم بَعْضُ ذريته دُونَ بعضٍ، انتهى، وفاقاً لما تقدَّم الآن. وقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ: اختلف في تأويل ذلكَ، فقالَتْ فرقة: كان ذلك قَبْل يأسه من إِيمان أبيه، وتبيُّنه أنه عدُوٌّ للَّه، فأراد أباه وأُمَّه لأنَّها كانت مؤمنة، وقيل: أراد آدم/ ونوحاً عليهما السلام، وقرأ الزُّهْرِيُّ «1» وغيره: «وَلِوَلَدَيَّ» على أنه دعاءٌ لإِسماعيل وإِسحاق، وأنكرها عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وقال: «إِن في مُصْحَفِ أَبيِّ بنِ كَعْبٍ وَلأَبَوَيَّ» «2» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 44] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)

_ (1) وقرأ بها الحسين بن علي، وإبراهيم النخعي، وأبو جعفر محمد بن علي. ينظر: «المحتسب» (1/ 365) ، و «الكشاف» (2/ 562) ، وفيه الحسن بن علي بدلا من الحسين، وينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 343) ، و «البحر المحيط» (5/ 423) ، و «الدر المصون» (4/ 276) . (2) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (73) ، و «الكشاف» (2/ 562) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 343) ، و «البحر المحيط» (5/ 423) ، و «الدر المصون» (4/ 276) .

وقوله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ... الآية: هذه الآية بجملتها فيها وعيدٌ للظالمين، وتسليةٌ للمظلومين، والخطابُ بقوله: تَحْسَبَنَّ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، معناه: تُحِدُّ النظرَ، لفرط الفَزَعِ ولفرط ذلك يشخص المحتضر، و «المُهْطِع» المسرع في مَشْيه قاله ابنُ جُبَيْر وغيره «1» ، وذلك بِذِلَّة واستكانة، كإِسراع الأسير ونحوه، وهذا أرجحُ الأقوال، وقال ابن عباس وغيره: الإِهطاع شدَّة النظر من غير أنْ يَطْرِفَ «2» ، وقال ابنُ زَيْدٍ: «المُهْطِع» : الذي لا يرفع رأسَهُ «3» ، قال أبو عُبَيْدة: قد يكون: الإِهْطَاعُ للوجْهَيْنِ جميعاً: الإِسراع، وإِدَامَةُ النَّظَر «4» ، و «المُقْنِعُ» : هو الذي يَرْفَعُ رأْسَه قدُماً بوَجْهِهِ نحو الشيْءِ، ومِنْ ذلك قولُ الشاعر: [الوافر] يُبَاكِرْنَ الْعِضَاهَ بِمُقْنَعَاتٍ ... نَوَاجِذُهُنَّ كَالْحَدَإِ الوَقِيعِ «5» يصفُ الإِبلَ عند رعْيها أَعاليَ الشَّجَر، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوهُ الناسِ يوم القيامَةِ إِلى السماء لا يَنْظُرُ أَحدٌ إِلى أحد «6» ، وذكر المبرِّد فيما حَكَى عنه مكِّيٌّ: أن الإِقناع يوجَدُ في كلامِ العَرب بمعنَى: خَفْضِ الرأسِ من الذِّلَّة. قال ع «7» : والأول أشهر. وقوله سبحانه: لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي: لا يَطْرِفُونَ من الحَذَرِ والجزعِ وشدَّة الحال. وقوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ: تشبيه محضٌ، وَجِهَةُ التشبيه يحتملُ أنْ تكون في فراغِ الأَفئدة من الخَيْرِ والرَّجاء والطمعِ في الرحمة، فهي متخرِّقة مُشَبِهَةٌ الهواءَ في تَفرُّغه من الأشياء،

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 344) . (2) أخرجه الطبري (7/ 468) برقم: (20871) ، وذكره ابن عطية (3/ 344) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 163) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (7/ 469) برقم: (20879) ، وذكره ابن عطية (3/ 344) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 344) . (5) البيت للشماخ ينظر: «ديوانه» ص: (220) ، و «اللسان» [قنع] ، و «المخصص» (1/ 146) ، و «التاج» حدأ، نجذ، قنع. والحدأة: بفتح الحاء: الفأس لها رأسان، و «مجاز القرآن» (1/ 343) ، والطبري (13/ 142) . (6) ذكره البغوي (3/ 39) ، وابن عطية (3/ 344) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 344) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 45 إلى 47]

وانخراقه، ويحتمل أنْ تكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صُدُورهم، وأنها تذهب وتجيءُ وتبلُغُ علَى ما رُوِيَ حناجرهم، فهي في ذلك كالهَوَاءِ الذي هو أبداً في اضطراب. وقوله سبحانه: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ: المراد باليَوْمِ: يومُ القيامةِ، ونصبُهُ على أنه مفعولٌ ب «أَنْذِر» ، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً، لأن القيامة ليْسَتْ بموطنِ إِنذار، قال الشيخُ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة: يجبُ التصْدِيقُ بكُلِّ ما أخبر اللَّه ورسُولُهُ به، ولا يتعرَّض إِلى الكيفيَّة في كلِّ ما جاء من أمْرِ الساعة وأَحْوَالِ يومِ القيامةِ، فإِنه أمْرٌ لا تسعه العُقُولُ، وطَلَبُ الكيفيَّة فيه ضعْفٌ في الإِيمانِ، وإِنما يجبُ الجَزْم بالتصديقِ بجميعِ مَا أخبر اللَّه بهِ، انتهى. قال الغَزَّالِيُّ: فَأَعلمُ العلماءِ وأعْرَفُ الحكماءِ ينكشفُ له عَقِيبَ المَوْت مِنَ العجائبِ والآياتِ ما لَمْ يَخْطُرْ قَطُّ بباله، ولا اختلج به ضميره، فلو لم يكُنْ للعاقلَ هَمٌّ ولا غَمٌّ، إِلا التفكُّر في خَطَر تلك الأحوال، وما الذي ينكشفُ عَنْه الغِطَاء من شقاوةٍ لازمةٍ، أو سعادة دائمةٍ/ لكان ذلك كافياً في استغراق جميع العُمُر، والعَجَبُ من غَفْلتنا، وهذه العظائِمُ بَيْنَ أيدينا. انتهى من «الإِحياء» . وقوله: أَوَلَمْ تَكُونُوا ... الآية: معناه: يقال لهم، وقوله: مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ: هو المُقْسَمُ عليه، وهذه الآية ناظرةٌ إِلى ما حَكَى اللَّه سبحانه عنهم في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 45 الى 47] وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) وقوله سبحانه: وَسَكَنْتُمْ ... الآية: المعنَى: بقول اللَّه عزَّ وجلَّ: وسكَنْتُم أيها المُعْرِضُون عَنْ آيات اللَّه مِنْ جميعِ العالمِ في مَسَاكِن الذين ظَلَمُوا أنفسهم بالكُفْر من الأمم السَّالفة، فنزلَتْ بهم المثلات، فكان حَقُّكُم الاعتبار والاتعاظ. وقوله: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ: أي: جزاء مكرهم، وقرأ السبعة سوى الكسائي «1» : «وإن كان مكرهم لتزول»

_ (1) ومعنى قراءة الكسائي حينئذ: وقد كان مكرهم يبلغ في المكيدة إلى إزالة الجبال، غير أن الله ناصر دينه، ومزيل مكر الكفار وماحقه، وحجته قراءة علي وابن مسعود: «وإن كاد مكرهم لتزول» ، بالدال، واللام في قراءة الجمهور لام الجحود، والمعنى: ما كان مكرهم ليزول به أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمر دين الإسلام. وحجتهم ما روي عن الحسن: «كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال» . ينظر: «السبعة» (363) ، و «الحجة» (5/ 31) ، و «معاني القراءات» (2/ 65) ، و «إعراب القراءات» (1/

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 48 إلى 52]

- بكسر اللام من «لِتَزُولَ» وفتح الأخيرة- وهذا على أن تكون «إِنْ» نافيةً بمعنى «مَا» ، ومعنى الآية تحقيرُ مَكْرِهم، وأنه مَا كَانَ لِتَزُولَ منه الشرائعُ والنبوَّاتُ وإِقدارُ اللَّه بها التي هي كالْجِبَالِ في ثبوتها وقوَّتها، هذا تأويلُ الحَسَن وجماعة المفسِّرين «1» وتحتملُ عندي هذه القراءةُ أنْ تكونَ بمعنى تَعْظِيمِ مَكْرهم، أي: وإِن كان شديداً، وقرأ الكسائيّ: «وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ» - بفتح اللام الأولَى من لَتَزُولُ، وضمِّ الأخيرة-، وهي قراءة ابن عبَّاس «2» وغيره، ومعنى الآية: تعظيمُ مكرِهِمْ وشدَّتُه، أي: أنه مما يشقى به، ويزيلُ الجبالَ عن مستقرَّاتها، لقوَّته، ولكنَّ اللَّه تعالى أبطله ونَصَرَ أولياءه، وهذا أشَدُّ في العبرة، وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبيٌّ: «وإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ» ، وذكر أبو حاتم أنَّ في قراءة أبيٍّ: «وَلَوْلاَ كَلِمَةُ اللَّهِ لَزَالَ مِنْ مَكْرِهِمُ الجِبَالُ» . وقوله سبحان: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ... الآية: تثبيت للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ولغيره من أمَّته، ولم يكُنِ النبيُّ عليه السلام ممَّن يَحْسَبَنَّ مثْلَ هذا، ولكنْ خَرجَتِ العبارةُ هكذا، والمراد بما فيها من الزجْرِ غَيْرُهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: لا يمتنعُ منْه شيء، ذُو انتِقامٍ: من الكفرة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 48 الى 52] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) وقوله سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ... ، الآية: يَوْمَ ظِرفٌ للانتقامِ المذْكُورِ قبله، وروي في تَبْدِيلِ الأرض أَخْبَارٌ منها في الصَّحِيحِ: «يُبَدِّلُ اللَّهُ هَذِهِ الأَرْضَ بأَرْضٍ عَفْرَاءَ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قرصة نَقي» ، وفي الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُهَا خُبْزَةً يأكل المؤمن منها من

_ 336) ، و «شرح الطيبة» (4/ 402) ، و «العنوان» (115) ، و «حجة القراءات» (379) ، و «شرح شعلة» (452) ، و «النشر» (2/ 300) ، و «الشواذ» (69) ، و «إتحاف» (2/ 171) . (1) أخرجه الطبري (7/ 477) برقم: (20937) ، وذكره البغوي (3/ 40) ، وابن عطية (3/ 346) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 165) ، وعزاه لابن جرير. (2) نعم، قرأها هكذا ابن عباس، وابن مسعود، وعلي، وعمر، وأبيّ، وأبو إسحاق السبيعي، ولكن بإبدال «كاد» مكان «كان» . ينظر: «الشواذ» ص: (74) ، و «المحتسب» (1/ 365) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 346) ، و «البحر المحيط» (5/ 426) ، و «الدر المصون» (4/ 280) .

تَحْتِ قَدَمَيْهِ» «1» وروي أنها تبدَّلُ أَرضاً من فِضَّةٍ، وروي أنها أرض كالفضَّة مِنْ بياضها، وروي أنها تبدَّل من نارٍ. قال ع «2» : وسمعتُ من أبي رحمه اللَّه أنه روي أنَّ التبديل يَقَعُ في الأرضِ، ولكنْ يبدَّل لكلِّ فريقٍ بما يقتضيه حالُهُ، فالمُؤْمِنُ يكُونُ على خُبْزٍ يأكُلُ منه بحَسَبِ حاجته إِليه، وفريقٌ يكونُ على فضَّة، إِن صحَّ السند بها، وفريقُ الكَفَرَةِ يَكُونُونَ على نارٍ، ونحو هذا ممَّا كله واقِعٌ تحْتَ قدرةِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، وأكثر المفسِّرين على أنَّ التبديلَ يكونُ بأرضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فيها، ولا سُفِكَ فِيهَا دَمٌ، وَلَيْسَ فِيهَا معلم لأحد، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «المؤمنون وقْتَ التبديل في ظلِّ العرش» ، وروي عنه أنه قال: «النَّاسُ وقْتَ التبديل/ على الصِّراط» ، ورُوِيَ أنه قال: الناسُ حينئذٍ أضْيَافُ اللَّهِ، فلا يُعْجِزُهُم ما لَدَيْهِ» «3» وفي «صحيح مسلم» من حديث ثَوْبَان في سؤال الحَبْرِ، وقوله: يا مُحَمَّدُ، أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسموات؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هُمْ فِي الظُلْمَةِ دُونَ الجسر» «4» الحديثَ بطوله، وخرَّجه مسلمٌ وابنُ مَاجَه جميعاً، قالا: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ، ثم أسنَدَا عن عائشة، قالت: «سئل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسِ؟ قَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ» «5» ، وخرَّجه الترمذيُّ من حديث عائشة، قالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ

_ (1) أخرجه البخاري (11/ 379) كتاب «الرقاق» باب: يقبض الله الأرض يوم القيامة، حديث (6519) من حديث أبي سعيد الخدري. [.....] (2) ينظر: «المحرر» (3/ 347) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 483) برقم: (20976) ، عن أبي أيوب الأنصاري به، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 169) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الدلائل» . (4) أخرجه مسلم (2/ 230- 231- نووي) ، كتاب «الحيض» باب: بيان صفة مني الرجل والمرأة، حديث (34/ 315) ، والبيهقي (1/ 169) من حديث ثوبان به. (5) أخرجه مسلم (4/ 2150) كتاب «صفات المنافقين» باب: في البعث والنشور، حديث (29/ 279) ، والترمذي (5/ 296) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة إبراهيم، حديث (3121) ، وابن ماجه (2/ 1430) كتاب «الزهد» باب: ذكر البعث، حديث (4279) ، وأحمد (6/ 35، 218) ، والدارمي (2/ 328) ، وابن حبان (331) ، والحاكم (2/ 352) من حديث عائشة به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: وقد وهما في ذلك فقد أخرجه مسلم. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 167) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ، فَأَيْنَ يَكُونُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «عَلَى الصِّرَاطِ يَا عَائِشَةُ» «1» ، قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسن صحيح. انتهى من «التذكرة» «2» . وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ: أي الكفّار، ومُقَرَّنِينَ: أي: مربوطين في قَرْنٍ، وهو الحَبْلُ الذي تشدّ به رؤوس الإبل والبقر، والْأَصْفادِ: هي الأغلال، واحِدُها صَفَد، والسَّرابيل: القُمُصُ، وال قَطِرانٍ: هو الذي تهنأ به الإِبل، وللنار فيه اشتعال شديدٌ، فلذلك جعل اللَّهُ قُمُصَ أهْلِ النارِ منه، وقرأ عمر بن الخطاب وعليٌّ وأبو هريرة وابنُ عبَّاس وغيرهم «3» : «مِنْ قِطْرٍ آنٍ» ، والقِطْر: القَصْدِير، وقيل: النُّحَاس، وروي عن عمر أنَّه قال: ليس بالقَطِرَانِ، ولكنَّه النُّحَاس يسر بلونه «4» ، و «آن» : صفة، وهو الذائبُ الحارُّ الذي تناهَى حَرُّه قال الحَسَن: قد سُعِّرَتْ عليه جهنَّم منْذُ خُلِقَتْ، فتناهَى حَرُّه «5» . وقوله سبحانه: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ... الآية: جاء من لفظة الكَسْب بما يعم المُسِيءَ والمُحْسِنَ لينبِّه على أنَّ المحسن أيضاً يجازَى بإِحسانه خيراً. وقوله سبحانه: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ ... الآية: إِشارةٌ إِلى القرآن والوعيدِ الذي تضمنَّه، والمعنى: هذا بلاغٌ للناس، وهو لينذروا به وليذَّكَّر أولو الألباب، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

_ (1) انظر الحديث السابق. (2) ينظر: «التذكرة» (1/ 263) . (3) وقرأ بها عكرمة، وعلقمة، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن، وسنان بن سلمة بن المحبّق، وعمرو بن عبيد، والكلبي، وأبو صالح، وعيسى بن عمر الهمداني، وقتادة، والربيع بن أنس، وعمرو بن فائد. ينظر: «الشواذ» ص: (74) ، و «المحتسب» (1/ 366) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 348) ، و «البحر المحيط» (5/ 428) ، و «الدر المصون» (4/ 283) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 170) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) أخرجه الطبري (7/ 486) برقم: (20993) ، وذكره ابن عطية (3/ 348) .

تفسير سورة الحجر

تفسير سورة الحجر مكية [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) قوله عز وجل: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ: قال مجاهد وقتادة: الْكِتابِ: في الآية: ما نزل من الكُتُب قَبْل القرآن «1» ، ويحتمل أنْ يراد ب الْكِتابِ القرآن: ثم تُعْطَفُ الصفَةُ عليه، و «رُبَّمَا» : للتقليلِ، وقد تجيء شاذَّةً «2» للتكثير. وقال قوم: إِن هذه مِنْ ذلك، وأنكر الزَّجَّاج أنْ تجيءَ «رُبَّ» للتكثيرِ، واختلف المتأوِّلون في الوَقْت الذي يَوَدُّ فيه الكفَّار أنْ يكونوا مسلمين، فقالَتْ فرقة: هو عند معاينة المَوْتِ، حَكَى ذلك الضَّحَّاك «3» ، وقالَتْ فرقة: هو عند معايَنَةِ أهْوَالِ يومِ القيَامَة، وقال ابنُ عبَّاس وغيره: هو عِنْدَ دخولهم النَّار، ومعرفَتِهِم، بدخولِ المؤمنين الجَنَّة «4» ، وروي فيه حديث من طريق أبي موسى.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 488) برقم: (21004) ، وابن عطية (3/ 349) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 171) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) رب: فيها قولان، أحدهما: أنها حرف جرّ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطّراوة أنها اسم، ومعناها التقليل على المشهور. وقيل: تفيد التكثير. وقيل: تفيد التكثير في مواضع الافتخار، وفيها لغات كثيرة أشهرها: «رب» بالضم والتشديد والتخفيف، و «ربّ» بالفتح والتشديد والتخفيف، و «رب» و «رب» بالضم، والفتح مع السكون فيهما، وتتصل تاء التأنيث بكل ذلك. وبالتاء قرأ طلحة بن مصرف، وزيد بن علي «ربّتما» وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإسكان، والفتح ك «ثمّت» ، و «لات» فتكثر الألفاظ، ولها أحكام كثيرة، منها لزوم تصديرها، ومنها تنكير مجرورها. ينظر: «الدر المصون» (4/ 285) . (3) أخرجه الطبري (7/ 491) برقم: (21021) . (4) أخرجه الطبري (7/ 491) برقم: (21025) ، وذكره ابن عطية (3/ 350) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 546) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 2172) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث» .

[سورة الحجر (15) : الآيات 3 إلى 5]

[سورة الحجر (15) : الآيات 3 الى 5] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وقوله سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ... الآية: وعيدٌ وتهديدٌ، وما فيه من المهادنة منسوخٌ بآية السيْف، وروى ابنُ المُبارَك في «رقائقه» ، قال: أخبرنا الأوزاعيُّ عن عُرْوَةَ بن رُوَيْمٍ، قال: قال رسول الله/ صلّى الله عليه وسلّم: «شِرَارُ أُمَّتِي الَّذِينَ وُلِدُوا في النَّعِيم، وغُذُوا به، هِمَّتُهُمْ أَلْوَانُ الطَّعَامِ، وَأَلْوَانُ الثِّيَابِ، يَتَشَدَّقُونَ بِالْكَلاَمِ» . انتهى «1» . وقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ: وعيدٌ ثانٍ، وحكى الطبريُّ «2» عن بعض العلماء أنه قال: الأولُ في الدنيا، والثَّاني في الآخرة، فكيف تَطِيبُ حياةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الوعِيدَيْنِ. وقوله: وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ: أي: يشغلهم أملهم في الدنيا، والتزيُّد منها. قال عبدُ الحَقِّ في «العَاقِبة» : اعلم رحمك اللَّه أنَّ تقصير الأمل مَعَ حُبِّ الدنيا متعذر، وانتظار المَوْتِ مع الإِكباب عَلَيْها غَيْرُ مُتَيَسِّر، ثم قال: واعلم أنَّ كثرة الاشتغال بالدنْيَا والمَيْلَ بالكلِّية إِليها، وَلَذَّةَ أمانيِّها تمنَعُ مرارةَ ذكْرِ المَوْت أَنْ تَرِدَ على القلْب، وأنْ تَلِجَ فيه لأن القَلْبَ إِذا امتلأ بشَيْءٍ، لم يكُنْ لشيءٍ آخر فيه مَدْخَلٌ، فإِذا أَرَادَ صاحبُ هذا القَلْبِ سَمَاعَ الحِكْمَة، والانتفاع بالموعظة، لم يكُنْ لهُ بُدٌّ من تفريقه، لِيَجِدَ الذَكْرُ فيه منزلاً، وتُلْفِيَ الموعظةُ فيه محلاًّ قابلاً، قال ابن السَّماك رحمه اللَّه: إِن الموتَى لَمْ يبْكُوا من الموت لكنهم بَكَوْا مِنْ حَسْرة الفوت، فَاتَتْهُمْ واللَّهِ، دَارٌ لَمْ يتزوَّدوا منها ودخلوا داراً لم يتزوَّدوا لها. انتهى. وإِنما حصل لهم الفَوْتُ بسبب استغراقهم في الدنيا، وطولِ الأمل المُلْهِي عن المعادِ، ألهمنا اللَّه رُشْدَنَا بمَنِّه. وقوله سبحانه: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ... الآية: أي: فلا تستبطئَنَّ هلاكَهُم، فليس مِنْ قريةٍ مُهْلَكَةٍ إِلا بأَجَلٍ، وكتابٍ معلوم محدود. [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 9] وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ... الآية: القائلون هذه المقالة هم كفّار قريش، و «لو ما» بمعنى: لولا، فتكون تحضيضاً كما هي في هذه الآية، وفي البخاريّ:

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (262) رقم: (758) . [.....] (2) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 492) .

[سورة الحجر (15) : الآيات 10 إلى 15]

لَوْ مَا تَأْتِينا: هَلاَّ تأتينا. وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ: قال مجاهدٌ: المعنى: بالرسالةِ والعذاب «1» ، والظاهرُ أنَّ معناه كما ينبغي ويَحِقُّ من الوحْيِ والمنافعِ التي أراها اللَّه لعباده، لا على اقتراح كافرٍ، ثم ذكَر عادَتَهُ سبحانَهُ في الأُمَمِ من أنَّه لم يأتهم بآيَةِ اقتراح، إِلا ومعها العَذَابُ في إِثِرها إِن لم يُؤْمِنوا، والنَّظِرَة: التأخير. وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ: رَدٌّ على المستَخفِّين في قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، وقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ: قال مجاهدٌ وغيره: الضميرُ في «له» عائدٌ على القرآن «2» ، المعنى: وإِنا له لحافِظُونَ من أن يبدّل أو يغيّر. [سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ الآية: تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيْ: لا يضقْ صدْرُكَ، يا محمَّد، بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، وغير ذلك، و «الشيعة» : الفرقة التابعة لرأْسٍ مَّا. ت: قال الفرَّاء فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ إِنَّه من إِضافة الموصوفِ إِلى صفته ك حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: 95] ، و «جَانِبِ الغَرْبِيِّ» [القصص: 44] ، وتأوَّله البصريُّون على حذف الموصوفِ، أي: شيع الأمم الأولين. انتهى من ص. وقوله سبحانه: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: يحتمل أنْ يكون الضَّميرُ في نَسْلُكُهُ يعودُ على الذكْر المحفوظِ المتقدِّم، وهو القرآن، ويكون الضميرُ في «به» عائداً عليه أيضاً، ويحتمل أن يعود الضميران معاً على الاستهزاء والشرك ونحوه، والباء في «به» : باء السبب، أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويحتملُ أنْ يكون الضمير في نَسْلُكُهُ عائداً على الاستهزاء والشركِ، والضمير في «به» عائداً على القرآن، والمعنى، في ذلك كلِّه، ينظر بعضه إلى بعض،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 493) برقم: (21028) ، وذكره ابن عطية (3/ 351) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 547) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 175) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ذكره ابن عطية (3/ 352) .

[سورة الحجر (15) : الآيات 16 إلى 21]

ونَسْلُكُهُ: معناه، ندخله، والْمُجْرِمِينَ هنا: يراد بهم كُفَّار قريش، ومعاصرو النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عمومٌ، معناه الخصوصُ فيمن حُتِمَ عليه، وقوله: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: أي: على هذه الوتيرَةِ، وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ، أي: على قريشٍ وكفَرَةِ العَصْر، والضميرُ في قوله: فَظَلُّوا عائدٌ عليهم، وهو تأويلِ الحسن، ويَعْرُجُونَ: معناه يَصْعَدُون، ويحتملُ أنْ يعود على الملائكةِ، أي: ولو رأوا الملائكة يَصْعَدُون ويتصرَّفون في بابٍ مفتوحٍ في السماء لما آمنوا، وهذا تأويلُ ابنِ عبَّاسٍ «1» ، وقرأ السبْعَةُ سِوَى ابن كثيرٍ: «سُكِّرَتْ» - بضم السِّين وشدِّ الكاف-، وقرأ ابن كثير «2» بتخفيف الكافِ، تقول العربُ: سَكِرَتِ الرِّيحُ تَسْكَرُ سُكُوراً، إِذا ركَدَتْ، ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولاً، وسَكِرَ الرجُلُ من الشَّرابِ، إِذا تغيَّرت حاله وركَدَ، ولم ينفذ لما كان بسبيله أنْ ينفذ فيه، وتقول العرب: سَكَرْتُ البَثْقَ «3» في مجاري المَاءِ سكراً إِذا طَمَسْتَهُ وَصَرَفْتَ الماء عنه، فلم يَنْفذ لوجْهه. قال ع «4» : فهذه اللفظةِ «سُكِّرَتْ» - بشدِّ الكافِ- إِن كانَتْ من سُكْرِ الشراب، أوْ من سُكُور الريحِ، فهي فعلٌ عُدِّيَ بالتضعيفِ، وإِن كانَتْ من سكرِ مجاري الماءِ، فتضعيفُها للمبالغة، لا للتعدِّي، لأن المخفَّف من فعله متعدٍّ، ومعنى هذه المقالةِ منهم: أي: غُيِّرَتْ أبصارنا عما كانَتْ عليه، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء: كما كانت تفعل. [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 21] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 496) برقم: (21043) ، وذكره ابن عطية (3/ 353) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 176) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «السبعة» (366) ، و «الحجة» (5/ 43) ، و «إعراب القراءات» (1/ 343) ، و «معاني القراءات» (2/ 68) ، و «العنوان» (116) ، و «شرح الطيبة» (4/ 406) ، و «شرح شعلة» (453) ، و «حجة القراءات» (381- 382) ، و «إتحاف» (2/ 174) . (3) البثق: موضع انبثاق الماء من نهر ونحوه. ينظر: «لسان العرب» (208) ، و «المعجم الوسيط» (38) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 353) .

[سورة الحجر (15) : الآيات 22 إلى 25]

وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً: «البروج» : المنازلُ، واحدها بُرْج، وسمي بذلك لظهوره ومنه تَبَرُّج المرأة: ظهورُها وبدوُّها، و «حِفْظ السماء» : هو بالرجمِ بالشُّهُب على ما تضمنته الأحاديث الصّحاح، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَقْرُبُ مِنَ السَّمَاءِ أَفْوَاجاً، قَالَ: فَيَنْفَرِدُ المَارِدُ مُنْها، فَيَعْلُو فَيَسْمَعُ، فَيُرْمَى بالشِّهَابِ، فَيَقُولُ لأَصْحَابِه: إِنَّهُ مِنَ الأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، فَيَزِيدُ الشَّيَاطِينُ فِي ذَلِكَ، وَيُلْقُونَ إِلَى الكَهَنَةِ، فَيَزِيدُونَ مَعَ الكَلِمَةِ مِائَةً وَنَحْوَ هَذَا ... » الحديث «1» : و «إلّا» : بمعنى: «لكِنْ» ، ويظهر أن الاستثناء من الحِفْظِ: وقال محمَّد بن يحيى عن أبيه: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فإِنها لم تُحْفَظْ منه. وقوله: / مَوْزُونٍ: قال الجمهور: معناه: مقدَّر محرَّر بقصدٍ وإِرادةٍ، فالوزن على هذا: مستعارٌ. وقال ابنُ زَيْد: المراد ما يُوزَنُ حقيقةً كالذهب والفضة وغير ذلك مما يوزن «2» ، والمعايش: جمع مَعِيشَة، وقوله: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ: يحتمل أن يكون عطْفاً على مَعايِشَ كأن اللَّه تعالى عدَّد النعم في المعايِشِ، وهي ما يؤكل ويُلْبَسُ، ثم عدَّد النعم في الحيوانِ والعَبِيدِ وغيرِ ذلك ممَّا ينتفعُ به النَّاسُ، وليس علَيْهم رِزْقُهُمْ. وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ. قال ابن جُرَيْج: هو المطر خاصَّة «3» . قال ع «4» : وينبغي أنْ يكون أعمَّ من هذا في كثيرٍ من المخلوقات. [سورة الحجر (15) : الآيات 22 الى 25] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وقوله سبحانه: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ: أيْ: ذاتَ لقح يقال: لقحت الناقة والشجَرُ، فهي لاقحةٌ، إِذا حَمَلَتْ، فالوجْهُ في الرِّيحِ مُلْقِحَةٌ، لا لاقحة، قال الداوديّ:

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الطبري (7/ 504) برقم: (21088) ، والبغوي ذكره (3/ 47) ، وابن عطية (3/ 355) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 548) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 177) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (7/ 504) برقم: (21095) ، وذكره ابن عطية (3/ 355) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 178) ، وعزاه لابن جرير. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 355) .

وعن ابن عُمَرَ: الرِّياحُ ثمانٍ، أرْبَعٌ رحْمَةٌ، وأربعٌ عذابٌ فالرحمةُ: المرسلاتُ، والمُبَشِّرات، والنَّاشِرَاتُ، والذَّاريات، وأما العذاب: فالصَّرْصَرُ، والعقيمُ، والقاصِفُ، والعَاصِف، وهما في البَحْر. انتهى. وقوله جلَّت عظمته: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ... الآيات: هذه الآياتُ مع الآيات التي قبلها تضمَّنت العِبْرَةَ والدلالةَ على قدرة اللَّه تعالى، وما يُوجِبُ توحيدَهُ وعبادَتَهُ، المعنى: وإِنا لَنَحْنُ نحيي من نشاء بإِخراجه من العَدَمِ إِلى وجودِ الحياةِ، ونميتُ بإِزالة الحياةِ عَمَّن كان حَيًّا، وَنَحْنُ الْوارِثُونَ، أي: لا يبقَى شيْءٌ سوانا، وكلُّ شيءٍ هالكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ، لا ربَّ غيره. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ: أي: من لَدُنْ آدم إِلى يوم القيامة، قالَ ابن العربي في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ وغيره في سبب نُزُولِ هذه الآية، عن ابن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ امرأة تصلِّي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عبَّاس: وَلاَ، واللَّهِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، قال: فَكَانَ بعْضُ المسلمين، إِذا صَلَّوْا تقدَّموا، وبعضُهم يستأَخر، فإِذا سجدوا نَظَرُوا إِليها مِنْ تَحْت أيديهم، فأنزل اللَّه الآيَةَ «1» ، ثم قال ابنُ العربيِّ: في شَرْحِ المراد بهذه الآية خمسة أقوال: أحدها: هذا. القول الثاني: المتقدِّمين في الخَلْق إِلى اليوم، والمتأخِّرين الذين لم يخلقوا بَعْد، بيانٌ أن اللَّه يَعْلَمُ الموجُودَ والمَعْدُومَ، قاله قتادة وجماعة «2» . الثَّالثُ: مَنْ مات، ومَنْ بقي قاله ابن عبّاس أيضا «3» .

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 296) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الحجر، حديث (3122) ، وأحمد (1/ 305) ، والنسائي (2/ 118) كتاب «الإمامة» باب: المنفرد خلف الصف، حديث (870) ، وابن ماجه (1/ 332) كتاب «الصلاة» باب: الخشوع في الصلاة، حديث (1046) ، والطيالسي (2/ 20- منحة) رقم: (1960) ، وابن خزيمة (1696- 1697) ، وابن حبان (1749- موارد) ، والحاكم (2/ 353) ، والبيهقي (3/ 78) ، والطبراني في «الكبير» (12/ 171) رقم: (12791) ، من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عباس مرفوعا به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وينظر: «الدر المنثور» (4/ 180) . (2) أخرجه الطبري (7/ 507) برقم: (21116) بنحوه، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 549) . (3) أخرجه الطبري (7/ 508) برقم: (21121) ، وذكره البغوي (4813) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 181) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....]

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 إلى 33]

الرابع: المستَقْدِمِين: سائرُ الأمم، والمستأخرِينَ أمَّة سيِّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم قاله مجاهد «1» . الخامس: قال الحَسَنُ: معناه: المتقدِّمين في الطاعة، والمستأخرين في المعصية «2» . انتهى. ت: والحديثُ المتقدِّم، إِنْ صحَّ، فلا بد من تأويله، فإِن الصحابة ينزَّهُونَ عن فعْلِ ما ذُكِرَ فيه، فيؤوَّل بأنَّ ذلك صَدَرَ من بعضِ المنافقين، أوْ بعضِ الأعراب الذين قَرُبَ عهدهم بالإِسلام، ولم يَرْسَخِ الإِيمان في قلوبهم، وأما ابنُ عبَّاس، فإِنه كان يومَئِذٍ/ صغيراً بلا شك، هذا إِن كانت الآيةُ مدنيَّةً، فإِن كانت مكيَّةً، فهو يومئذٍ في سِنِّ الطفوليَّة، وبالجملة فالظاهرُ ضَعْفُ هذا الحديثِ من وجوه. انتهى، وباقي الآية بيّن. [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 33] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ: يعني: آدم، قال ابن عباس: خُلِقَ من ثلاثَةٍ: مِنْ طينٍ لازبٍ، وهو اللازقُ الجَيِّد، ومِنْ صلصالٍ، وهو الأرضُ الطَّيِّبَةُ يقع عليها الماءُ، ثم ينحسرُ فيتشقَّقُ وتصيرُ مثْلَ الخزف، ومِنْ حَمإٍ مسنون، وهو الطينُ فيه الحماة «3» ، وال مَسْنُونٍ: قال مَعمرٌ: هو المُنْتِنُ «4» ، وهو مِنْ أَسِنَ الماءُ إِذا تَغَيَّر، وَرُدَّ من جهة التصريف، وقيل غير هذا، وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَىَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التُّرَابِ: الطَّيِّبِ وَالخَبِيثِ، وَالأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ» «5» . وقوله: وَالْجَانَّ: يراد به: جنسُ الشياطينِ، وسئل وهبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عنهم، فقال هم

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 509) برقم: (21129) ، وذكره البغوي (4813) . (2) أخرجه الطبري (7/ 509) برقم: (21132) ، وذكره ابن عطية (3/ 358) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 181) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (7/ 511) برقم: (21147) ، وذكره ابن عطية (3/ 358) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 182) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» . (4) أخرجه الطبري (7/ 511) برقم: (21160) ، وذكره ابن عطية (3/ 359) . (5) تقدم تخريجه من سورة البقرة.

[سورة الحجر (15) : الآيات 34 إلى 40]

أَجناسٌ «1» . قال ع «2» : والمراد بهذه الخِلْقة إِبليسُ أَبو الجِنِّ، وقوله: مِنْ قَبْلُ لأَن إِبليس خلق قبل آدم بمدّة، والسَّمُومِ في كلام العرب: إِفراطُ الحَرِّ حتى يقتلَ: مِنْ نارٍ، أو شمسٍ، أو ريحٍ، وأمَّا إِضافة «النار» إِلى «السموم» في هذه الآية، فيحتملُ أنْ تكون النار أنواعاً، ويكون السمومُ أمراً يختصُّ بنوعٍ منها، فتصحُّ الإِضافة حينئذٍ، وإِن لم يكن هذا، فيخرج هذا على قولهم: «مَسْجِدُ الجَامِعِ، ودَارُ الآخِرَةِ» على حذف مضافٍ. قوله عزَّ وجلَّ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ: أخبر اللَّه سبحانه الملائكَةَ بعُجْبٍ عندهم، وذلك أنهم كانوا مَخْلُوقين منْ نُورٍ، فهي مخلوقاتٌ لِطَافٌ، فأخبرهم سبحانَه أنه يَخْلُقُ جسْماً حيًّا ذا بَشَرَةٍ، وأنه يخلقه من صلصالٍ، والبَشَرة هي وَجْهُ الجِلْد في الأَشْهَرِ من القَوْل، وقوله: مِنْ رُوحِي: إِضافة خَلْقٍ ومِلْكٍ إِلى خالقٍ ومَالكٍ، وقولُ إِبليس: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ ... الآية: ليس إِباءَتَهُ نفْسَ كفره عنْدَ الحُذَّاق لأَن إِباءَتَهُ إِنما هي معصيةٌ فقَطْ، وإِنما كفره بمقتضى قولِهِ، وتعليلِهِ، إِذ يقتضي أَنَّ اللَّه خَلَقَ خَلْقاً مَفضولاً، وكلَّفَ خَلْقاً أفضلَ منه أَنْ يَذِلَّ له، فكأنه قال: وهذا جَوْرٌ، وقد تقدَّم تفسير أكثر هذه المعاني. [سورة الحجر (15) : الآيات 34 الى 40] قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) وقوله عز وجل: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ... الآية: قوله: بِما أَغْوَيْتَنِي: قال أبو عُبَيْدة وغيره: أَقْسَمَ بالإغواء «3» .

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 514) برقم: (21170) ، وذكره البغوي (4913) بنحوه، وابن عطية (3/ 359) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 359) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 362) .

[سورة الحجر (15) : الآيات 41 إلى 44]

قال ع «1» : كأنه جعله بمنزلة قوله: ربِّ بقدرتِكَ علَيَّ، وقضائِكَ، ويحتملُ أَن تكون بَاءَ السّبب. [سورة الحجر (15) : الآيات 41 الى 44] قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) وقوله سبحانه: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ: المعنى: هذا أمر إِلَيَّ يصيرُ والعربُ تقول: طريقُكَ في هذا/ الأمْرِ علَى فلانٍ، أي: إِليه يصيرُ النظر في أمْرِكَ، والآيةُ تتضمَّن وعيداً، وظاهرُ قوله: عِبادِي: الخصوصُ في أهْل الإِيمانِ والتقوَى، فيكون الاستثناء منقطعاً، وإِن أخذْنا العِبَادَ عموماً، كان الاستثناء متصلاً، ويكون الأقلُّ في القَدْر من حيثُ لا قَدْرَ للكفار والنظَرُ الأولُ أحسنُ، وإِنما الغَرَضُ ألاَّ يَقع في الاستثناء الأَكْثَرُ من الأقل، وإِن كان الفقهاءُ قَدْ جَوَّزُوهُ. وقوله: لَمَوْعِدُهُمْ: أي: موضعُ اجتماعهم، عافانا اللَّهُ من عذابه بمَنِّه، وعامَلَنَا بمَحْضِ جوده وكرمه. [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ ... الآية: السلام هنا: يحتمل أن يكونَ السَّلامة، ويحتمل أن يكون التحيّة، والغل: الحقد، قال الداوديّ: عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ ... الآية، قال: «إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ الصِّرَاطِ، حُبِسُوا عَلَى صِرَاطٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِمَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وَاللَّهِ، لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْ منزله في الدّنيا» «2» . انتهى. وال سُرُرٍ: جمع سرير، ومُتَقابِلِينَ: الظاهر أن معناه: في الوجوه، إِذ الأسرَّة متقابلة، فهي أحسن في الرتبة.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 362) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 521) رقم: (21208) من حديث أبي سعيد الخدري، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 188) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 إلى 56]

قال مجاهد: لاَ يَنْظُرُ أَحَدُهُمْ في قفا صاحبه «1» ، وقيل غير هذا مما لا يعطِيهِ اللفظ، والنصب: التعب، ونَبِّئْ: معناه: أعْلِم. قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في «منهاجه» : «ومن الآيات اللطيفة الجامعةِ بَيْنَ الرجاءِ والخَوْفِ قولُهُ تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ثم قال في عَقِبَهُ: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الرجاءِ بِمَرَّة، وقوله تعالى: شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 3] ، ثم قال في عقبه: ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] ، لَئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الخوف، وأَعْجَبُ من ذلك قَولُهُ تعالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 30] ، ثم قال في عقبه: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران: 30] ، وأعجَبُ منه قولُهُ تعالَى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [ق: 33] ، فعلَّق الخشية باسم الرحمن، دون اسْمِ الجَبَّار أو المنتقِمِ أو المتكبِّر ونحوه، ليكون تخويفاً في تأمينٍ، وتحريكاً في تسكينٍ كما تقولُ: «أَما تخشى الوالدةَ الرحيمة، أمَا تخشى الوالِدَ الشَّفِيقَ» ، والمراد من ذلك أنْ يكونَ الطَّريقُ عدلاً، فلا تذهب إِلى أَمْنٍ وقنوطٍ جعلنا اللَّه وإِيَّاكم من المتدبِّرين لهذا الذكْرِ الحكيمِ، العامِلِينَ بما فيه، إنه الجواد الكريم انتهى. [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 56] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) وقوله سبحانه: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ... الآية: هذا ابتداءُ قصصٍ بعدَ انصرام الغرضِ الأول، و «الضيف» : مصدرٌ وصف به، فهو للواحدِ والاثنين والجمعِ، والمذكَر والمؤنَّث بلفظٍ واحدٍ، وقوله: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، أي: فزعون، وَإِنما وَجِلَ منهم لما قَدَّم إِليهم العجْلَ الحنيذ، فلم يرهم يأكُلُون، وكانَتْ عندهم العلامة المُؤَمِّنة أكْلَ الطعام وكذلك هو في غابِرِ الدهْرِ أمْنَةً للنازلِ، والمنزولِ به. وقوله: أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ، أي: في حالةٍ قد مسَّني فيها الكِبَر، وقول إِبراهيم عليه السلام: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ: / تقرير على جهة التعجُّب والاستبعاد، لكبرهما، أو على جهةَ الاحتقار وقلَّة المبالاة بالمَسَرَّات الدنيويَّة، لمضيِّ العمر، واستيلاء الكبر، وقولهم:

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 521) برقم: (21211) ، وذكره ابن عطية (3/ 364) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 553) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 189) ، وعزاه لهناد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 57 إلى 65]

بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ: فيه شدَّة مَّا، أي: أبشرْ بما بُشِّرْتَ به، ولا تكُنْ من القانِطِينَ، والقنوط: أتمّ اليأس. [سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 65] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وقوله سبحانه: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ: لفظةُ الخَطْب إِنما تستعمل في الأمور الشِّدَاد، وقولهم: إِلَّا آلَ لُوطٍ: استثناء منقطعٌ، و «الآلُ» : القومُ الذي يَؤولُ أمرهم إِلى المضافِ إليه كذا قال سيبويه وهذا نصّ في أن لفظة «آل» ليست لفظة «أهْل» كما قال النّحّاس، وإِلَّا امْرَأَتَهُ: استثناءٌ متصلٌ، والاستثناء بعد الاستثناء يردُّ المستثنى الثاني في حكم الأمر الأول، والْغابِرِينَ هنا: أي: الباقين في العذابِ، و «وغَبَر» : من الأضدادِ، يقال في الماضِي وفي الباقي، وقولُ الرسُل للوط: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ، أي: بما وَعَدَكَ اللَّه من تعذيبهم الذي كانوا يَشْكُونَ فيه، و «الْقَطْعُ» : الجُزْءُ من الليل. وقوله سبحانه: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ، أي: كن خلفهم، وفي ساقتهم، حتى لا يبقَى منهم أحد، وَلا يَلْتَفِتْ: مأخوذٌ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد: المعنى: لا ينظر أحد وراءه، «1» ونُهُوا عن النظر مَخَافَةَ العُلْقَةِ، وتعلُّقِ النفْسِ بِمَنْ خلف، وقيل: لَئِلاَّ تنفطر قلوبُهُمْ من معايَنَة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها. [سورة الحجر (15) : الآيات 66 الى 77] وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وقوله سبحانه: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ، أي: أمضيناه وحتمنا به، ثم أدخل في

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 525) برقم: (21220) ، وذكره ابن عطية (3/ 368) .

الكلام إِلَيْه من حيثُ أوحِيَ ذلك إِليه، وأعلمه اللَّه به، وقوله: يَسْتَبْشِرُونَ، أي: بالأضياف طَمَعاً منهم في الفاحِشَةِ، وقولهم: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ: روي أنهم كانوا تقدَّموا إِليه في ألاَّ يضيفَ أحداً، والعَمْر والعُمْر- بفتح العين وضمِّها- واحدٌ، وهما مدة الحياة، ولا يستعملُ في القَسَم إِلا بالفتحِ، وفي هذه الآية شرف لنبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأن اللَّه عزَّ وجلَّ أقسَمَ بحياته، ولم يفعلْ ذلك مع بَشَرٍ سواه قاله ابن عباس «1» . ت: وقال: ص: اللام في لَعَمْرُكَ للابتداءِ، والكافُ خطابٌ لِلُوطٍ عليه السلام، والتقديرُ: قالتِ الملائكةُ له: لَعَمْرُكَ، واقتصر على هذا. وما ذَكَرَهُ ع «2» : هو الذي عَوَّل عليهِ عِيَاضٌ وغيره. وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : قال المفسِّرون بأجمعهم: أقْسَمَ اللَّهُ في هذه الآية بحياة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولا أدْرِي ما أخرجَهم عن ذكْر لُوطٍ إِلى ذكْرِ محمَّد عليه السلام، وما المانعُ أنْ يُقْسِمَ اللَّه بحياةِ لوطٍ، ويبلغ به من التشريفِ ما شاءَ، وكلُّ ما يُعْطِي اللَّه لِلُوطٍ مِنْ فضلٍ، ويؤتيه مِنْ شَرَفٍ، فلنبيِّنا محمَّد عليه السلام، ضعفاه لأنه أكرمُ على اللَّه منه، وإِذا أقسم اللَّه بحياةِ لوطٍ، فحياة نبينا محمَّد عليه السلام أرْفع، ولا يخرج من كلامٍ إِلى كلامٍ آخر غيره، لم يجْرِ له ذكْرٌ لغير ضرورة. انتهى. ت: وما ذكَرَه الجمهورُ أحْسَنُ لأن الخطاب خطابُ مواجهةٍ ولأنه تفسير صحابيٍّ، وهو مقدّم على غيره. ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردّدون/ في حيرتهم، ومُشْرِقِينَ: معناه: قد دَخَلوا في الإِشراق، وهو سطوعُ ضوء الشمس وظهوره قاله ابن «3» زيد، وهذه الصَّيْحةُ هي صيحة الوجْبَة، وليستْ كصيحةِ ثمود، وأهلكوا بعد الفَجْرِ مُصْبحين، واستوفاهم الهَلاَكُ مُشْرِقين، وباقي قصص الآية تقدّم تفسير.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 526) برقم: (21230) ، وذكره البغوي (3/ 55) ، وابن عطية (3/ 369) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 555) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 192) ، وعزاه لابن أبي شيبة والحرث بن أبي أسامة، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي معا في «الدلائل» . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 369) . [.....] (3) ذكره ابن عطية (3/ 370) .

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 إلى 84]

و «المتوسمين» : قال مجاهد: المتفرِّسون «1» ، وقال أيْضاً: المعتبرون «2» ، وقيل غير هذا، وهذا كلُّه تفسيرٌ بالمعنَى، وأما تفسير اللفظة، فالمتوسِّم هو الذي يَنْظُرُ في وَسْمِ المعنَى، فيستدلُّ به على المعنى، وكأن معصيةَ هؤلاء أبقَتْ من العذابِ والإِهلاكِ وَسْماً، فمَنْ رأَى الوَسْم، استدل على المعصية به واقتاده النظر إِلى تجنُّب المعاصِي لئلا ينزل به ما نَزَلَ بهم ومِنَ الشِّعْرِ في هذه اللفظة قولُ الشاعر: [الطويل] تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ وَقْلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ «3» والضمير في قوله: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ: يحتمل أنْ يعود على المدينةِ المُهْلَكَة، أي: أنها في طريقٍ ظاهر بيِّن للمعتَبِر، وهذا تأويلُ مجاهد وغيره «4» ، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتملُ أنْ يعود على الحِجَارَةِ، ويقوِّيه ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قَالَ: «إِنَّ حِجَارَةَ العَذَابِ مُعَلَّقَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ مُنْذُ أَلْفَيْ سَنَةٍ لِعُصَاةِ أُمَّتِي» . [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 84] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ: الْأَيْكَةِ: الغَيْضة والشجَرُ الملتفُّ المُخْضَرُّ، قال الشاعر: [الطويل] أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةُ أَيْكَةٍ ... إِذا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ «5» وكان هؤلاءِ قوماً يسكنون غَيْضَة، ويرتَفِقُون بها في معايِشِهم، فبعث إِليهم شعيبٌ، فكفروا به، فسَلَّط اللَّه عليهم الحَرَّ، فدام عليهم سبعةَ أيام، ثم رأوا سحابة، فخرجوا،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 527) ، وذكره البغوي (3/ 55) ، وابن عطية (3/ 370) ، والسيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن جرير وابن المنذر. (2) ذكر السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 192) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» . (3) ينظر: «البحر المحيط» (5/ 444) ، والقرطبي (10/ 43) ، و «الدر المصون» (4/ 305) ، و «روح المعاني» (14/ 74) . (4) أخرجه الطبري (7/ 529) برقم: (21256) ، وذكره البغوي (3/ 55) ، وذكره ابن عطية (3/ 370) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 555) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 193) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (3/ 371) .

[سورة الحجر (15) : الآيات 85 إلى 87]

فاستظلوا بها، فأمطرتْ عليهم ناراً، وحكى «1» الطبريُّ قال: بُعِثَ شعيبٌ إِلى أَمَّتَيْنِ، فكفرتا، فعُذِّبتا بعذابَيْنِ مختلفينِ: أهْلِ مَدْيَنَ عَذِّبوا بالصيحة، وأصْحَابِ الأيكة بالظُّلَّة «2» . وقوله: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ: الضميرُ في «إنهما» : يحتملُ أنْ يعود على مدينةِ قومِ لوطٍ، ومدينة أصحابِ الأيْكَة، ويحتملُ أنْ يعود على لُوطٍ وشُعَيْبٍ عليهما السلام، أي: أنهما على طريقٍ من اللَّه وشَرْعٍ مبينٍ، و «الإِمامُ» ، في كلام العرب: الشيء الذي يهتدى به، ويؤتَمُّ به فقد يكون الطريقَ، وقد يكون الكتابَ، وقد يكونُ الرَّجُلَ المقتدَى به، ونَحْوَ هذا، ومَنْ رأى عودَ الضميرِ على المدينتين، قال: «الإِمام» : الطريقُ، وقيل على ذلك الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما، وأَصْحابُ الْحِجْرِ: هم ثمود، وقد تقدَّم قصصهم، و «الحِجْر» : مدينتهم، وهي ما بين المدينةِ وتَبُوك، وقال: الْمُرْسَلِينَ من حيث يلزم من تكذيبِ رسولٍ واحدٍ تكذيبَ الجميع، إِذِ القولُ في المعتَقَدَاتِ واحدٌ. وقوله: يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ: «النحت» : النَّقْر بالمعاوِلِ، و «آمنين» : قيل: معناه: من انهدامها، وقيل: مِنْ حوادِثِ الدنيا، وقيل: من الموتِ لاغترارهم بطول الأعمار، وأصحُّ ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب/ الآخرة، فكانوا لا يعملون بحسبها. [سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 87] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، أي: لم تخلق عبثاً ولا سدًى، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، أي: فلا تهتمَّ يا محمَّد بأعمال الكَفَرة فإِن اللَّه لهم بالمِرْصاد، وقوله عَزَّ وجلَّ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي: ذهب ابنُ مسعودٍ وغيره إِلى أن السبْعَ المثانِيَ هنا هي السبعُ الطِّوال: «البقرةُ» ، و «آل عمران» ، و «النساء» ، و «المائدة» ، و «الأنعام» ، و «المص» ، و «الأنفال» مع «براءة» «3» ، وذهب جماعةٌ من الصحابة ومن بعدهم

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 530) . (2) الظّلّة: سحابة أنشأها الله تعالى كان فيها عذاب مدين قيل: أصابهم ذلك اليوم حرّ عظيم إلى أن كادوا يهلكون، فأرسل الله ظلة كثيفة، أي: سحابة متراكمة، فهرعوا إليها يستجيرون بها من الحر، فلما تكاملوا تحتها أطبقت عليهم بعذابها، فلم ير يوم مثله. ينظر: «عمدة الحفاظ» (3/ 10) . (3) أخرجه الطبري (7/ 533) برقم: (21281) بنحوه وذكره ابن عطية (3/ 373) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 557) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 196) ، وعزاه لابن جرير.

[سورة الحجر (15) : الآيات 88 إلى 91]

إِلى أن السبْعَ هنا: آيات الفاتحةِ، وهو نصُّ حديثِ أبي بن كَعْب وغيره «1» . ت: وهذا هو الصحيحُ، وقد تقدَّم بيان ذلك أوّل الكتاب. [سورة الحجر (15) : الآيات 88 الى 91] لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) وقوله سبحانه: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ: حكى الطبريُّ عن سفيانَ بْنِ عُيَيْنة أَنه قال: هذه الآيةُ آمرة بالاستغناء بكتابِ اللَّهِ عَنْ جميع زينَةِ الدنْيَا «2» . قال ع «3» : فكأنه قال: آتَينَاك عظيماً خطيراً، فلا تَنظر إِلى غيْرِ ذلك من أمورِ الدنيا وزينَتِها التي مَتَّعْنا بها أنواعاً من هؤلاءِ الكَفَرَةِ ومن هذا المعنَى: قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أُوتِيَ القُرْآنَ، فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ، فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيراً وَصَغَّرَ عظيماً» . ت: وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: «لا وَاللَّهِ، مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِلاَّ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا ... » الحديث، وفي رواية: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا» ، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بَرَكَاتُ الأَرْضِ ... » الحديث، وفي روايةٍ: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... » الحديثَ، انتهى. والأحاديثُ في هذه البابِ أكثرُ من أنْ يحصيها كتابٌ، قال الغَزَّالِيُّ في «المنهاج» : وإِذا أنعم اللَّهُ عَلَيْكَ بنعمةَ الدِّينِ، فإِيَّاكَ أَنْ تَلتفتَ إِلى الدنيا وحُطَامها، فإِن ذلك منك لا يكُونُ إِلاَّ بضَرْبٍ من التهاوُنِ بما أولاكَ مَوْلاَكَ مِنْ نعمِ الدارَيْنِ أَمَا تَسمعُ قولَهُ تعالَى لسيِّد المرسلين: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ... الآية، تقديره: إِن من أوتي القرآن العظيمَ حُقَّ له ألاَّ ينظر إِلى الدنيا الحقيرةِ نظرةً باستحلاء، فضلاً عن أنْ يكون له فيها رغبةٌ، فليلتزم الشكْرَ على ذلك، فإِنه الكرامة التي حَرَصَ عليها الخليلُ لأَبيهِ، والمصطفى عليه السلام لعمِّه، فلم يفعلْ، وأما حطامُ الدنيا، فإِن اللَّه سبحانه يصبُّه على كلّ كافر وفرعون وملحد وزنديق

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 537) برقم: (21326) . (2) ذكره الطبري (7/ 542) ، وذكره البغوي (5813) بنحوه، وابن عطية (3/ 373) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 557) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 198) ، وعزاه لابن المنذر. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 374) .

[سورة الحجر (15) : الآيات 92 إلى 99]

وجاهلٍ وفاسقٍ الذين هم أهْوَنُ خَلْقِهِ عليه، ويَصْرِفُه عن كلِّ نبيٍّ وصفيٍّ وصِدِّيقٍ وعالمٍ وعابدٍ الذين هم أَعَزُّ خَلْقِهِ عليه حتى إِنهم لا يكادُونَ يُصِيبُونَ كِسْرةً وخِرْقَةً، ويمنُّ عليهم سبحانه بأَلاَّ يلطخهم بقَذَرها، انتهى. وقال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «1» : قوله تعالى: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ: المعنى: أعطيناكَ الآخِرَةَ، فلا تنظُرْ إِلى الدنيا، وقد أعطيناك العلْم، فلا تتشاغلْ/ بالشهواتِ، وقد مَنَحْنَاكَ لَذَّةَ القَلْب، فلا تنظر إِلى لذة البَدَن، وقد أعطينَاكَ القرآن، فاستغن به، فمَنِ استغنى به، لا يطمَحُ بنظره إِلى زخارف الدنيا، وعنده مَعَارِفُ المولَى، حَيِيَ بالباقِي، وفَنِيَ عن الفاني. انتهى. وقوله سبحانه: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. قال ع «2» : والذي أقولُ به في هذا: أنّ المعنَى: وقل أنا نذيرٌ، كما قال قبلك رُسُلنا، ونزَّلنا عليهم كما أنزلنا عليك، واختلف في الْمُقْتَسِمِينَ، مَنْ هُمْ؟ فقال ابن عباس، وابن جُبَيْر: «المقتسمون» : هم أهْلُ الكتابِ الذينَ فَرَّقوا دينهم، وجَعَلُوا كتابَ اللَّهِ أعضاءً، آمنوا ببعضٍ، وكَفَروا ببعض وقال نحْوَه مجاهدٌ «3» ، وقالت فرقةٌ: «المقتسمون» : هم كفَّار قريشٍ جعلوا القرآن سِحْراً وشِعْراً وَكَهَانة، وجعلوه أعضاءً بهذا التقسيم، وقالت فرقة: «عِضِينَ» : جمعُ عضةَ، وهي اسم للسحْرِ خاصَّة بلغةِ قريشٍ وقالَه عكرمة «4» . ت: وقال الواحديُّ: كما أنزلنا عذاباً على المقتسمين الذينَ اقتسموا طُرُقَ مكَّة يصُدُّون الناسَ عن الإيمان. انتهى من «مختصره» . [سورة الحجر (15) : الآيات 92 الى 99] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1136) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 374) . [.....] (3) أخرجه الطبري (7/ 543) برقم: (21368) ، وبرقم: (21372) ، وذكره ابن عطية (3/ 374) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 558) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 198) ، وعزاه للبخاري، وسعيد بن منصور، والحاكم، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (4) أخرجه الطبري (7/ 547) برقم: (21392) ، وبرقم: (21372) ، وذكره ابن عطية (3/ 374) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 558) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 198) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن جرير.

وقوله سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ... الآية: ضميرٌ عامٌّ، ووعيدٌ محضٌ، يأخذ كلُّ أحد منه بحَسَب جُرْمه وعِصْيانه، فالكافرُ يسأل عن التوحيدِ والرسالةِ، وعن كُفْره وقَصْدِهِ به، والمؤمنُ العاصِي يُسْأل عَنْ تضْييعه، وكلُّ مكلَّف عما كُلِّف القيامَ به وفي هذا المعنى أحاديثُ، قال ابن عباس في هذه الآية يقال لهم: لِمَ عَمِلْتُمْ كذا وكذا، قال: وقوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] : معناه: لا يقال له: مَاذَا أذنَبْتَ، لأَنَّ اللَّه تعالى أعلم بذنبه منه «1» ، وقوله سبحانه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ: «اصدع» : معناه: أنْفِذْ، وصرِّح بما بُعِثْتَ به. وقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: من آيات المهادَنَةِ التي نَسَخَتْها آية السَّيْف «2» قاله ابن عباس، ثم أعلمه اللَّه تعالَى بأنه قد كَفَاه المُسْتهزئين به مِنْ كُفَّار مَكَّة ببوائِقَ أصابَتْهم من اللَّه تعالى. قال ابن إسحاق وغيره: وهُمُ الذين قُذِفُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ كأبِي جَهْل وغيره. انتهى. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ: آية تأنيس للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والْيَقِينُ هنا: الموتُ قاله ابن «3» عمر وجماعةٌ، قال الداوديّ: وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ، وأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، واعبد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِين «4» . انتهى، وباقي الآية بيِّن، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 548) برقم: (21403) ، وذكره البغوي (3/ 58) ، وابن عطية (3/ 375) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 559) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 199) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» . (2) أخرجه الطبري (7/ 550) برقم: (21415) ، وذكره ابن عطية (3/ 375) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 376) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 203) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير. (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 203) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في «التاريخ» ، وابن مردويه، والديلمي.

تفسير سورة النحل

تفسير سورة النحل وهي مكية غير آيات يسيرة يأتي بيانها إن شاء الله [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) قوله سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ: روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قال جِبْريلُ في سرد الوحْيِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، وثب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائماً، فلما قال: / فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، سكَنَ، وقوله: أَمْرُ اللَّهِ: قال فيه جمهور المفسِّرين: إِنه يريدُ القِيَامَةَ، وفيها وعيدٌ للكفَّار، وقيل: المرادُ نصر محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فَمَنْ قال: إِن الأمر القيامَةُ، قال: إِن قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ: ردٌّ على المكذِّبين بالبَعْثِ، القائلين: متَى هذا الوَعْدُ، واختلف المتأوِّلون في قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ، فقال مجاهد: الرّوح: النبوّة «1» ، وقال ابن عباس: الرُّوحُ الوحْيُ «2» ، وقال قتادة: بالرحمةِ والوحْي «3» ، وقال الربيع بنُ أنَسٍ: كلُّ كلام اللَّه رُوحٌ، ومنه قوله تعالى: أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «4» [الشورى: 52] ، وقال الزَّجَّاج «5» : الرُّوح: ما تَحْيَا به القلوبُ من هداية اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا قولٌ حَسَنٌ، قال الداوديّ، عن ابن عباس «6» قال: الرُّوح: خَلْقٌ من خلق الله، وأمر

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 558) برقم: (21454) ، وذكره ابن عطية (3/ 378) . (2) أخرجه الطبري (7/ 558) برقم: (21451) ، وذكره ابن عطية (3/ 378) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (7/ 558) برقم: (21456) ، وذكره ابن عطية (3/ 378) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 205) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (7/ 558) برقم: (21455) ، وذكره ابن عطية (3/ 378) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 206) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. (5) ينظر: «معاني القرآن» (3/ 190) . (6) أخرجه الطبري (7/ 558) برقم: (21451) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 205) ، وعزاه

[سورة النحل (16) : الآيات 5 إلى 12]

من أمر اللَّه عَلى صُوَرِ بني آدم، وما يَنْزِلُ من السماءِ مَلَكٌ إِلا ومعه رُوحٌ كالحفيظ عليه، لا يتكلَّم ولا يراه مَلَك، ولا شيءٌ مما خَلَقَ اللَّه، وعن مجاهدٍ: الرُّوح: خَلْق من خَلْق اللَّه، لهم أيدٍ وأرجلٌ «1» . انتهى، واللَّه أعلم بحقيقةِ ذلك، وهذا أمرٌ لا يقَالُ بالرأْيِ، فإِن صحَّ فيه شيء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وَجَبَ الوقوفُ عنْده انتهى، و «مَنْ» في قوله: مَنْ يَشاءُ هي للأنبياء. وقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ: يريد ب «الإِنسان» الجنْسَ، وقوله: خَصِيمٌ يحتملُ أنْ يريد به الكَفَرة الذين يجادلُونَ في آياتِ اللَّه قاله «2» الحسن البصريُّ، ويحتملُ أنْ يريد أعَمَّ من هذا، على أن الآية تعديدُ نعمةِ الذِّهْنِ والبيان على البشر. [سورة النحل (16) : الآيات 5 الى 12] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وقوله سبحانه: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ: ال دِفْءٌ: السَّخَانة، وذَهَاب البَرْد بالأَكْسِيَة ونحوها، وقيل: ال دِفْءٌ: تناسُلُ الإِبل، وقال ابن عَبَّاس: هو نسْلُ كلِّ شيء «3» ، والمعنى الأول هو الصحيح، والمنافع: ألبانها وما تصرَّف منها، وحَرْثُها والنَّضْح عليها وغَيْر ذلك. وقوله: جَمالٌ، أي: في المَنْظَر، وتُرِيحُونَ: معناه: حين تردُّونها وقْتَ الرَّوِاح إِلى المنازلِ، وتَسْرَحُونَ: معناه: تخرجُونها غُدْوة إِلى السَّرْح، و «الأثْقَالُ» : الأمتعة، وقيل: الأجسام كقوله: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 2] أي: أجسادَ بني آدم، وسمِّيت الخيلُ خيلا لاختيالها في مشيتها.

_ لآدم بن إياس، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي. (1) أخرجه الطبري (7/ 558) برقم: (21454) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 205) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ. [.....] (2) ذكره ابن عطية (3/ 379) . (3) أخرجه الطبري (7/ 560) برقم: (21464) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 379) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

ت: ويجبُ على من مَلَّكَهُ اللَّه شيئاً من هذا الحيوانِ أنْ يَرْفُقَ به، ويشْكُر اللَّه تعالى على هذه النعمة التي خَوَّلها، وقد رَوَى مالك في «الموطَّأ» عن أبي عُبَيْدٍ مولى سليمانَ بْنِ عبدِ المَلِكِ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ يرفعه، قال: «إِن اللَّه رفيقٌ يحبُّ الرِّفْق، ويرضَاهُ، ويعينُ عليه ما لاَ يُعِينُ على العُنْف، فإِذا ركبتم هذه الدوابَّ العُجْمَ، فأنزلوها منازِلَهَا، فإِنْ كانَتِ الأرض جَدْبةً، فانجوا عليها بِنِقْيِهَا «1» ، وَعَلَيْكُمْ بسير اللَّيْلِ فَإِن الأرض تُطْوَى باللَّيْلِ ما لا تُطْوَى بالنهار، وإِياكم والتَّعْرِيسَ على الطريقِ فإِنها طُرُق الدَّوابِّ، ومأوى الحَيَّات» «2» . قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديث يستند عن/ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من وجوهٍ كثيرةٍ، فأمَّا «الرفْقُ» ، فمحمودٌ في كلِّ شيء، وما كان الرفْقُ في شيء إِلاّ زانه، وقد رَوَى مالك بسنده عن عائشة، وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» «3» ، وأُمِرَ المسافرُ في الخِصْبِ بأنْ يمشي رويداً، ويكثر النزول، لترعَى دابته، فأَما الأرْضُ الجَدْبة، فالسُّنَّة للمسافِرِ أَنْ يُسْرُع السيْر ليخرجَ عنها، وبدابَّته شيءٌ من الشَّحْم والقُوَّة، و «النِّقْي» في كلام العرب: الشَّحْم والوَدَك. انتهى. وروَى أبو داود عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بِالغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فَعَلَيْهَا فاقضوا حَاجَاتِكِمْ» انتهى «4» . وقوله سبحانه: وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ: عبرةٌ منصوبةٌ على العمومِ، أي: إِنَّ مخلوقاتِ اللَّهِ مِنَ الحيوانِ وغيره لا يُحيطُ بعلْمها بَشَرٌ، بل ما يخفَى عنه أكْثَرُ مما يعلمه. وقوله سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ... الآية: هذه أيضاً من أجَلِّ نعم اللَّه تعالى، أي: على اللَّه تقويمُ طريقِ الهدَى، وتبيينُهُ بنَصْب الأدلَّة، وبعْثِ الرسل، وإِلى هذا ذهب المتأوِّلون، ويحتمل أنْ يكون المعنى: أَنَّ مَنْ سلك السبيل القاصد، فعلى الله،

_ (1) النّقو: عظم العضد، وقيل: كل عظم فيه مخ. ينظر: «لسان العرب» (4532) . (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 979) كتاب «الاستئذان» باب: ما يؤمر به من العمل في السفر، حديث (38) . (3) تقدم تخريجه. (4) أخرجه أبو داود (2/ 32) كتاب «الجهاد» باب: في الوقوف على الدابة، حديث (2567) ، والبيهقي (5/ 255) من حديث أبي هريرة.

[سورة النحل (16) : الآيات 13 إلى 17]

ورحمته وتنعيمُهُ طريقُهُ، وإِلى ذلك مصيره، و «طريقٌ قَاصِد» : معناه: بيِّنٌ مستقيمٌ قريبٌ، والألف واللام في السَّبِيلِ، للعهد، وهي سبيلُ الشرْعِ. وقوله: وَمِنْها جائِرٌ: يريد طريقَ اليهودِ والنصارَى وغيرِهِم، فالضمير في مِنْها يعود على السُّبُلُ التي يتضمَّنها معنى الآية. وقوله سبحانه: فِيهِ تُسِيمُونَ: يقال: أَسَامَ الرَّجُلُ مَاشِيَتَهُ إِذا أرسلها ترعى. [سورة النحل (16) : الآيات 13 الى 17] وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وقوله سبحانه: وَما ذَرَأَ لَكُمْ: ذرأ: معناه: بثّ ونشر. ومُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه، ويحتمل أنْ يكون التنبيهُ على اختلاف الألوان من حُمْرةٍ وصُفْرةٍ وغير ذلك، والأول أبْيَنُ. وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: البَحْر: الماءُ الكثيرُ، ملْحاً كان أو عَذْباً. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «1» : قولُهُ تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها: يعني به اللؤلُؤَ والمَرْجان، وهذا امتنان عامٌّ للرجال والنساء، فلا يحرم عليهم شيء من ذلك. انتهى. ومَواخِرَ: جمعَ مَاخِرَة، والمَخْر في اللغة: الصَّوْت الذي يكون من هبوبِ الريح علَى شيءٍ يشقُّ أو يصحب في الجملة الماءَ فيترتَّب منه أنْ يكون المَخْر من الريحِ، وأنْ يكون من السفينةِ ونحوها، وهو في هذه الآيةِ من السّفن، وقال بعض النحاة: المخر في كلامِ العرب: الشَّقُّ يقال: مَخَرَ المَاءُ الأَرْضَ، وهذا أيضاً بيِّن أن يقال فيه للفلْكِ مَوَاخِر. وقوله: وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: يحتملُ: تهتدون في مشيكم وتصرّفكم في السّبل،

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1148) .

[سورة النحل (16) : الآيات 18 إلى 21]

ويحتملُ تهتدُونَ بالنَّظَر في دَلاَلة هذه المَصْنُوعات علَى صَانِعِها. / وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ: قال ابن عبَّاسٍ: العلامَاتُ: معالمُ الطُّرُق بالنهار، والنجومُ: هدايةُ «1» الليل، وهذا قولٌ حَسَن فإِنه عمومٌ بالمعنَى، واللفظةُ عامَّة وذلك أَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ على شيْءٍ وأعلَمَ به، فهو علامةٌ، والنجم هنا: اسم جنس، وهذا هو الصّواب. [سورة النحل (16) : الآيات 18 الى 21] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) وقوله سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها ... الآية: وبحسب العَجْز عن عدِّ نعم اللَّه تعالى يلزمُ أنْ يكون الشاكرُ لها مقصِّراً عن بعْضها فلذلك قال عزَّ وجلَّ: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، أي: عن تقصيركُمْ في الشكْر عن جميعها نحا هذا المنحَى الطبريُّ ويَرِدُ عليه أن نعمةَ اللَّهِ في قولِ العبدِ: «الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ» ، مع شرطها من النيَّة والطاعةِ يوازي جميعَ النِّعَمَ، ولكنْ أين قولها بشُرُوطها، والمخاطَبةُ بقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها. عامَّةٌ لجميع الناس. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: تدعونهم آلهةً، وأَمْواتٌ: يراد به الذين يَدْعُونَ مِنْ دونِ اللَّهِ، ورفع أَمْواتٌ على أنه خبر مبتدإٍ مضمرٍ، تقديره: هم أمواتٌ، وقوله: غَيْرُ أَحْياءٍ: أي: لم يقبلوا حياةً قطُّ، ولا اتصفوا بها، وقوله سبحانه: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ: أي: وما يشعر الكُفَّار متَى يبعثون إِلى التعذيب. [سورة النحل (16) : الآيات 22 الى 25] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) وقوله سبحانه: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي: مُنْكِرَةٌ اتحاد الإله. ت: وهذا كما حَكَى عنهم سبحانه في قولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] .

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 571) برقم: (21544) ، وذكره ابن عطية (3/ 384) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

[سورة النحل (16) : الآيات 26 إلى 29]

وقوله: لاَ جَرَمَ عبَّرت فرقةٌ من اللُّغويِّين عن معناها ب «لاَ بُدَّ ولا محالة» ، وقالت فرقة: معناها: حق أن اللَّه، ومذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّ «لا» نفيٌ لما تقدَّم من الكلامِ، و «جرم» : معناه: وَجَبَ أو حَقَّ ونحوه، هذا مذهبُ الزَّجَّاجِ «1» ، ولكنْ مع مذهبهما، «لا» ملازِمَةٌ ل «جَرَمَ» لا تنفَكُّ هذه مِنْ هذه. وقوله سبحانه: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ: عامٌّ في الكافرين والمؤمنين يأخذ كلُّ أحد منهم بِقِسْطه، قال الشيخُ العارفُ باللَّه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي جَمْرَةَ رحمه اللَّه موتُ النفوسِ حياتُهَا، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَحْيَا يَمُوتُ، ببَذْل أَهْل التوفيقِ نفوسَهُم وهوانِهَا عليهم، نالوا ما نالوا، وبِحُبِّ أهْل الدنيا نفوسَهُم هانوا وطَرَأَ عليهم الهوانُ هنا وهناك، وقد ورد في الحديثِ: «أنَّه مَا مِنْ عَبْدٍ إِلا وَفِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِنْ تَعَاظَمَ، وارتفع، ضَرَبَ المَلَكُ فِي رَأْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: اتضع وَضَعَكَ اللَّهُ، وَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ المَلَكُ، وَقَالَ لَهُ: ارتفع، رَفَعَكَ اللَّهُ» ، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بما به يقرِّبنا إِليه بمنِّهِ «2» . انتهى. وقوله سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: يعني: كفَّار قريشٍ: مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ... الآية، يقال: إِن سببها النضْرُ بْنُ الحارِثِ، واللام في قوله: لِيَحْمِلُوا يحتملُ أن تكون لاَم العاقبةِ، ويحتمل أن تكون لامَ كَيْ، ويحتمل أن تكون لام الأمْرِ على معنى الحَتْمِ عليهم والصَّغَارِ الموجِبِ لهم. وقوله/ سبحانه: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ: «من» : للتبعيضِ وذلك أن هذا الرأس المُضِلَّ يحمل وِزْرَ نفسه ووزراً مِنْ وزر كلِّ مَنْ ضلَّ بسببه، ولا ينقُصُ من أوزار أولئك شيْءٌ، والأوزار هي الأثقال. [سورة النحل (16) : الآيات 26 الى 29] قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وقوله سبحانه: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ ... الآية: قال ابن

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (3/ 194) . (2) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 402) ، عن أنس بن مالك، وذكره الهندي في «كنز العمال» (5744) ، وعزاه إلى ابن صصرى في «أماليه» .

عبَّاس وغيره من المفسِّرين «1» : الإِشارة ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلى نَمْرُوذَ الذي بنَى صَرْحاً ليَصْعَدَ فيه إِلى السماء بزعمه، فلما أَفرَطَ في عُلُوِّه، وطَوَّلَهُ في السماء فَرْسَخَيْنِ على ما حكَى النَّقَّاش، بعث اللَّه عليه ريحاً، فهدَمَتْه، وخَرَّ سقفه عليه، وعلى أتباعه، وقيل: إِن جبريلَ هَدَمَهُ بِجَنَاحِهِ، وألقَى أعلاه في البَحْر، وانجعف من أسفله، وقالت فرقة: المراد ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: جميعُ مَنْ كَفَر من الأمم المتقدِّمة، ومكَر، ونزلَتْ به عقوبةٌ، وقوله على هذا: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ... إلى آخر الآية، تمثيلٌ وتشبيهٌ، أي: حالُهم كحَالِ مَنْ فُعِلَ به هذا. وقوله: يُخْزِيهِمْ: لفظٌ يعمُّ جميع المكارِهِ التي تَنْزِلُ بهم وذلك كلُّه راجعٌ إِلى إِدخالهم النَّار، ودخولهم فيها. وتُشَاقُّونَ: معناه: تحاربون، أي: تكُونُونَ في شِقٍّ، والحَقُّ في شقّ، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: هم الملائكةُ فيما قال بعضُ المفسِّرين، وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون. قال ع «2» : والصوابُ أن يعمَّ جميعَ مَنْ آتاه اللَّه عِلْمَ ذلك مِنْ ملائكةٍ وأنبياء وغيرهم، وقد تقدَّم تفسير الخِزْي، وأنه الفضيحةُ المُخْجلة، وفي الحديث: «إِنَّ العَارَ وَالتَّخْزِيَةَ لَتَبْلُغُ مِنَ العَبْدِ فِي المَقَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يُنْطَلَقَ بِهِ إِلَى النَّارِ وَيَنْجُوَ مِنْ ذَلِكَ المَقَامِ» «3» أخرجه البغويُّ في «المسند المنتخب» له. انتهى من «الكوكب الدري» . وقوله سبحانه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ: الَّذِينَ: نعت للكافرين في قول أكثر المتأوّلين، والْمَلائِكَةُ يريد القابضين لأرواحهم، والسَّلَمَ هنا: الاستسلام، واللام في قوله: فَلَبِئْسَ لامُ تأكيد، والمثوى: موضع الإقامة.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 577) برقم: (21567) ، وذكره البغوي (3/ 66) ، وابن عطية (3/ 388) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 566) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 218) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 389) . (3) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2039) .

[سورة النحل (16) : الآيات 30 إلى 32]

[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) وقوله سبحانه: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ... الآية: لما وصف سبحانه مقالَةَ الكفَّار الذين قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ... [النحل: 24] عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأوجب لكلِّ فريقٍ ما يستحقُّ، وقولهم: خَيْراً جوابٌ بحسبِ السؤالِ، واختلف في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ... إلى آخر الآية، هل هو ابتداء كَلاَمٍ أو هو تفسيرٌ ل «الخير» الذي أَنْزَلَ اللَّه في الوَحْي على نبِّينا خبراً أنَّ من أحسَنَ في الدنيا بالطَّاعة، فله حسنةٌ في الدنيا ونعيمٌ في الآخرة، وروى أنَسُ بنُ مالكٍ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أَنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ» «1» . وقوله سبحانه: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ... الآية: تقدّم تفسير نظيرها، وطَيِّبِينَ: عبارةٌ عن صالح حالهم، واستعدادهم للمَوْت، و «الطَّيِّب» الذي لا خُبْثَ معه، وقولُ الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ: بشارةٌ من اللَّه تعالى، / وفي هذا المعنَى أحاديثُ صحاحٌ يطول ذكْرها، وروى ابن المبارك في «رقائقه» عن محمد بن كَعْب القُرَظِيِّ قال: إِذا استنقعت نَفْسُ العَبْدِ المؤمن، جاءه مَلَكٌ، فقال: السَلامُ علَيْكَ، وليَّ اللَّهِ، اللَّهُ يُقْرِىءُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، ثُمَّ نَزَعَ بهذه الآية: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ... انتهى. «2» . وقوله سبحانه: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: علَّق سبحانه دخولَهُمُ الجَنَّة بأعمالهم من حيثُ جعَلَ الأعمالَ أمارةً لإِدخال العَبْدِ الجنَّةِ، ولا معارضة بين الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ!» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِفَضْلٍ مِنْهُ وَرَحْمَةٍ» «3» ، فإِن الآية تردُّ بالتأويل إِلى معنى الحديث.

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2162) كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا، حديث (56/ 2808) ، وأحمد (3/ 125) . [.....] (2) أخرجه الطبري (7/ 580) برقم: (21579) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 219) ، وعزاه لابن أبي مالك، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» ، وأبي القاسم بن منده في كتاب «الأحوال» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (3) تقدم تخريجه.

[سورة النحل (16) : الآيات 33 إلى 35]

قال ع «1» : ومن الرحمة والتغمُّد أنْ يوفِّق اللَّهُ العبْدَ إِلى أعمالٍ بَرَّة، ومقصِدُ الحديثِ نفْيُ وجوبِ ذلك على اللَّه تعالى بالعَقْل كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 35] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وقوله سبحانه: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ : نْظُرُونَ : معناه: ينتظرون، و «نظر» متى كانَتْ من رؤية العين، فإِنما تعدِّيها العربُ ب «إِلَى» ومتَى لم تتعدَّ ب «إِلى» ، فهي بمعنى «انتظر» ومنها: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] ، ومعنى الكلام: أنْ تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم. وقوله: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ : وعيدٌ يتضمَّن قيامَ الساعة، أو عذابَ الدنيا، ثم ذَكر تعالَى أَنَّ هذا كان فعْلَ الأمم قَبْلهم، فَعُوقِبوا. وقوله سبحانه: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا: أي: جزاءُ ذلك في الدنيا والآخرة، وحاقَ: معناه: نَزَلَ وأحَاطَ. وقوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ... الآية: تقدَّم تفسير نظيرها في «الأنعام» ، وقولهم: وَلا حَرَّمْنا: يريد: من البحيرة والسّائبة والوصيلة وغير ذلك. [سورة النحل (16) : الآيات 36 الى 40] وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 391) .

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 47]

وقوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ... الآية: إِلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وقرأ حمزة والكسائِيُّ وعاصم «1» : «لاَ يَهْدِي» - بفتح الياء وكسر الدال-، وذلك على معنيين: أيْ: إِن اللَّه لا يَهْدِي من قضَى بإِضلاله، والمعنى الثاني: أنَّ العربَ تقُولُ: هَدَى الرَّجُلُ، بمعنى اهتدى. وقوله سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ: الضمير في أَقْسَمُوا لكفَّار قريش، ثم رَدَّ اللَّه تعالى عليهم بقوله: بَلى، فأوجب بذلك البعث، وأَكْثَرَ النَّاسِ في هذه الآية: الكفَّار المكذِّبون بالبَعْث. وقوله سبحانه: لِيُبَيِّنَ: التقدير: بلى يبعثه ليبيِّن لهم الذي يَخْتَلِفُونَ فيه. وقوله سبحانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ ... الآية: المَقْصَدُ بهذه الآية إِعلامُ مُنْكِرِي البَعْث بِهَوَانِ أمره على اللَّه تعالى، وقُرْبِهِ في قُدْرته، لا ربِّ غيره. [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 47] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا: هؤلاء هُمُ الذين هاجروا إِلى أرض الحبشةِ، هذا قول الجمهورِ، / وهو الصحيحُ في سبب نزولِ الآية لأن هجرة المدينة لم تكُنْ وقْتَ نزول الآيةِ، والآيةُ تتناوَلُ كلَّ مَنْ هاجر أَولاً وآخراً، وقرأ جماعة «2» خارجَ السبْعِ: «لَنُثْوِيَنَّهُمْ» ، واختلف في معنى الحسنة هنا، فقالتْ فرقة: الحسنةُ عِدَةٌ بَبُقْعةٍ شريفةٍ، وهي المدينةُ، وذهبَتْ فرقةٌ إِلى أن الحسنة عامّة في كلّ أمر

_ (1) وقرأ الباقون: «فإن الله لا يهدى» بضم الياء وفتح الدال، والمعنى أي: من أضله الله لا يهديه أحد» . ينظر: «السبعة» (372) ، و «الحجة» (5/ 64) ، و «معاني القراءات» (2/ 79) ، و «إعراب القراءات» (1/ 353) ، و «حجة القراءات» (388) ، و «العنوان» (117) ، و «شرح الطيبة» (4/ 413) ، و «شرح شعلة» (457) ، و «إتحاف» (2/ 184) . (2) وقد رويت عن علي، وابن مسعود، ونعيم بن ميسرة، والربيع بن خيثم. ينظر: «المحتسب» (2/ 9) ، و «الكشاف» (2/ 607) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 394) ، و «البحر المحيط» (5/ 477) ، و «الدر المصون» (4/ 327) .

مستحسَنٍ يناله ابنُ آدم، وفي هذا القولِ يدخُلُ ما رُوِيَ عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: أنه كَانَ يُعْطِي المَالَ وَقْتَ القِسْمَة الرَّجُلَ مِنَ المُهَاجِرِينَ، ويقُولُ له: خُذْ ما وَعَدَكَ اللَّهُ في الدنيا، وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ، ثم يتلو هذه «1» الآية، ويدخل في هذا القولِ النَّصْرُ على العدوِّ، وفتْحُ البلادِ، وكلُّ أَمَلٍ بلغه المهاجرون، والضمير في يَعْلَمُونَ عائدٌ على كفار قريشٍ. وقوله: الَّذِينَ صَبَرُوا: من صفة المهاجرين. وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ: هذه الآيةُ ردٌّ على كفَّار قريش الذينَ استبعدوا أنْ يبعثَ اللَّه بشراً رَسُولاً، ثم قال تعالى: فَسْئَلُوا، أي: قل لهم: فَسْئَلُوا، وأَهْلَ الذِّكْرِ هنا: أحبارِ اليهودِ والنصارَى قاله ابن عباس وغيره «2» ، وهو أظهر الأقوال، وهم في هذه النازِلَةِ خاصَّة إِنما يخبرون بأنَّ الرسُلَ من البَشَر، وأخبارُهم حجَّة على هؤلاء، وقدْ أرسلَتْ قريشٌ إِلى يهودِ يَثْرِبَ يسألونهم ويُسْنِدُون إِليهم. وقوله: بِالْبَيِّناتِ: متعلِّق بفعلٍ مضمرٍ، تقديره: أرسلناهم بالبيِّنات، وقالتْ فرقة: الباءُ متعلِّقة ب أَرْسَلْنا في أول الآية، والتقدير على هذا: وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزُّبُرِ إِلاَّ رجالا، ففي الآية تقديم وتأخير، والزُّبُرِ: الكُتُبُ المزبورة. وقوله سبحانه: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ... الآية. ت: وقد فعل صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فبيَّن عن اللَّهِ، وأوْضَح، وقد أوتي صلّى الله عليه وسلّم جوامعَ الكَلِم، فأعرب عن دين اللَّهِ، وأفصح، ولنذكُر الآن طَرَفاً من حِكَمِهِ، وفصيحِ كلامِهِ بحذف أسانيده، قال عِياضٌ في «شِفَاهُ» : وأما كلامه صلّى الله عليه وسلّم المعتادُ، وفصاحَتُه المعلومةُ، وجوامُع كَلِمِهِ، وحِكَمُه المأثورةُ، فمنها ما لا يُوَازَى فصاحةً، ولا يبارَى بلاغةً كقوله: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» «3» ، وقوله: «النّاس

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 586) برقم: (21595) ، وذكره البغوي (3/ 69) ، وابن عطية (3/ 395) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 570) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 221) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري (7/ 587) برقم: (21602) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 395) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 222) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطيالسي (2/ 37- منحة) ، وأحمد (2/ 211) ، وأبو داود (3/ 183) كتاب «الجهاد» باب: في السرية ترد على أهل العسكر، حديث (2751) ، وابن ماجه (2/ 895) كتاب «الديات» باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، حديث (2685) ، وابن الجارود في «المنتقى» (771) ، والبيهقي (8/ 29) كتاب

_ «الجنايات» باب: فيمن لا قصاص بينه باختلاف الدينين، وابن أبي شيبة (9/ 432) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (170) من طرق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» ، وللحديث شاهد من حديث علي، وأخرجه أحمد (1/ 122) ، وأبو داود (4/ 667) كتاب «الديات» باب: إيقاد المسلم بالكافر؟، حديث (4530) ، والنسائي (8/ 19) كتاب «القسامة» باب: القود بين الأحرار والمماليك في النفس، وأبو عبيد القاسم بن سلام في «الأموال» ص: (179) برقم: (495) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 192) ، وفي «مشكل الآثار» (2/ 90) ، والدارقطني (3/ 98) كتاب «الحدود والديات» (61) ، والحاكم (2/ 141) ، والبيهقي (8/ 29) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 388- بتحقيقنا) من طريق الحسن عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا لم يعهده للناس عامة؟ قال: «لا إلا ما كان في كتابي هذا» ، فأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ومن أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين» ، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وفي الباب عن ابن عباس، ومعقل بن يسار، وعائشة، وعطاء بن أبي رباح مرسلا. حديث ابن عباس: أخرجه ابن ماجه (2/ 895) كتاب «الديات» باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، حديث (2683) ، من طريق حنش عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد على أقصاهم» ، وذكره الحافظ البوصيري في «الزوائد» (2/ 353) وقال: هذا إسناد ضعيف، لضعف حنش، واسمه: حسين بن قيس. حديث معقل بن يسار: أخرجه ابن ماجه (2/ 895) كتاب «الديات» باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، حديث (2684) ، وابن عدي في «الكامل» (5/ 332) من طريق عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون يد على من سواهم، وتتكافأ دماؤهم» . واللفظ لابن ماجه، أما لفظ ابن عدي: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، والمسلمون يد على من سواهم، تتكافأ دماؤهم» . وقال ابن عدي: وعبد السلام بن أبي الجنوب بعض ما يرويه لا يتابع عليه منكر. وذكره الحافظ البوصيري في «الزوائد» (2/ 353- 354) وقال: هذا إسناد ضعيف عبد السلام ضعفه ابن المديني، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والبزار، وابن حبان. حديث عائشة: أخرجه الدارقطني (3/ 131) كتاب «الحدود والديات» ، حديث (155) من طريق مالك بن محمد بن عبد الرحمن عن عمرة، عن عائشة قالت: وجد في قائم سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابان: إنه أشد الناس عتوّا في الأرض رجل ضرب غير ضاربه، أو رجل قتل غير قاتله، ورجل تولى غير أهل نعجته فمن فعل ذلك فقد كفر بالله وبرسله، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وفي الآخر: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين» . وقال الزيلعي في «نصب الراية» (3/ 395) ، ومالك هذا هو ابن أبي الرجال أخو حارثة، ومحمد، قال

كأسنان المشط» «1» ، «والمرء مَعَ مَنْ أَحَبَّ» «2» ، و «لاَ خَيْرِ فِي صُحْبَةِ مَنْ لاَ يَرَى لَكَ مَا تَرَى لَهُ» «3» ، و «النَّاسُ مَعَادِنٌ» «4» ، و «مَا هَلَكَ امرؤ عَرَفَ قَدْرَهُ» ، و «المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» ، و «هو بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّم» «5» ، و «رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً قَالَ خَيْراً فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ عَنْ شرّ فسلم» ،

_ أبو حاتم: هو أحسن حالا من أخويه اه. مرسل عطاء: أخرجه أبو عبيد في «الأموال» ص: (290) برقم: (803) ، ثنا ابن أبي زائدة، عن معقل بن عبد الله الجزري، عن عطاء بن أبي رباح قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون إخوة يتكافؤن دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، ومشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم» . (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) ذكره الهندي في «كنز العمال» (24824) ، وينظر: تخريج حديث: «الناس كأسنان المشط» . (4) أخرجه البخاري (6/ 481) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: قول الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ، حديث (3383) ، (8/ 212) كتاب «التفسير» باب: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ، حديث (4689) ، ومسلم (4/ 1846) كتاب «الفضائل» باب: من فضائل يوسف، حديث (168/ 2378) ، والدارمي (1/ 73) باب: الاقتداء بالعلماء، وأبو يعلى (11/ 438) رقم: (6562) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 507- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة به. وأخرجه أحمد (2/ 257) ، والحميدي (2/ 451) رقم: (1045) من طريق أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» . وأخرجه مسلم (4/ 1958) كتاب «فضائل الصحابة» باب: خيار الناس، حديث (199/ 2526) ، وأحمد (2/ 524- 525) ، وابن حبان رقم: (636) من طريق يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعا باللفظ السابق، وأخرجه أبو يعلى (10/ 457- 458) رقم: (6070) ، وابن حبان رقم: (92) من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا: «الناس معادن في الخير والشر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» . وأخرجه الحميدي (2/ 451) رقم: (1046) من طريق يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة به. وللحديث شاهد من حديث معاوية بن أبي سفيان، أخرجه أحمد (4/ 101) بلفظ: «الناس تبع لقريش خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» . [.....] (5) أخرجه ابن ماجه (2/ 1233) كتاب «الأدب» باب: المستشار مؤتمن، حديث (3746) ، والدارمي (2/ 219) كتاب «السير» باب: المستشار، وأحمد (5/ 274) ، وابن حبان (1991- موارد) ، والبيهقي (10/ 112) كتاب «آداب القاضي» باب: من يشاور، والطبراني في «الكبير» (17/ 230) رقم: (238) كلهم من طريق أسود بن عامر، حدثنا شريك، عن أبي عمر الشيباني، عن أبي مسعود به مرفوعا. قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 274) رقم: (19/ 23) : سألت أبي عن حديث رواه الأسود بن عامر ... فذكر الحديث وقال: قال أبي: هذا خطأ، إنما أراد: الدال على الخير كفاعله، قلت: الخطأ ممن هو؟ قال: من شريك اه. ومع ذلك فقد صححه ابن حبان.

وقوله: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ» ، و «أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ» ، و «إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ منّي

_ وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 181) : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات اه. وفي الباب عن جماعة من الصحابة وهم أبو هريرة، وجابر بن سمرة، وسمرة بن جندب، وأبو الهيثم بن التيهان، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، وأم سلمة. حديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود (2/ 755) كتاب «الأدب» باب: في المشورة، حديث (5128) ، والترمذي (5/ 115) كتاب «الأدب» باب: إن المستشار مؤتمن، حديث (2822) ، وابن ماجه (2/ 1233) كتاب «الأدب» باب: المستشار مؤتمن، حديث (3745) ، والبخاري في «الأدب المفرد» ، حديث (256) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 195- 196) ، والحاكم (4/ 131) ، والبيهقي (10/ 112) كتاب «آداب القاضي» باب: من يشاور، كلهم من طريق عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، مرفوعا، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. حديث جابر بن سمرة: أخرجه الطبراني في «الكبير» (2/ 214) رقم: (1879) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 97) كلاهما من طريق قيس بن الربيع، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المستشار مؤتمن» . والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 100) وقال: رواه الطبراني في «الكبير والأوسط» ، وفيه من لم أعرفه. حديث سمرة بن جندب: أخرجه الطبراني في «الكبير» (7/ 266) رقم: (6914) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 190) كلاهما من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، ثنا سلام بن أبي مطيع، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المستشار مؤتمن» . قال أبو نعيم: غريب من حديث سلام، لم نكتبه عاليا إلا من هذا الوجه، وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 100) وقال: وفيه عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، وهو متروك. حديث أبي الهيثم بن التيهان: أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 747) رقم: (1247) من طريق محمد بن جامع العطار، حدثنا عبد الحكيم بن منصور، نا عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي الهيثم بن التيهان مرفوعا، وقال ابن الجوزي: وهذا لا يثبت، ولا يصح، أما عبد الحكيم فقال يحيى: كذاب، وقال الرازي: لا يكتب حديثه، وأما محمد بن جامع، فقد ضعفوه. وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 100) ، وقال: رواه الطبراني من طريق جده عبد الرحمن بن محمد بن زيد، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات. حديث عمر بن الخطاب: أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (9/ 60- 61) ، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 746) من طريق محمد بن سليمان قال: حدثني حزام بن هشام قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المستشار مؤتمن» . قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يثبت، كان الحميدي يتكلم في محمد بن سليمان، وضعفه النسائي، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع لا في إسناده ولا في متنه. حديث ابن عباس: أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (1/ 39) رقم: (5) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 99) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك. حديث ابن الزبير: أخرجه البزار (2/ 428- 429) رقم: (2027) من طريق أبي عوانة، عن

مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطّئون أَكْنَافاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ» ، وقوله: «لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ، وَيَبْخَلُ بِمَا لاَ يُغْنِيهِ» ، وقوله: «ذُو الوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» / وَنَهْيُهُ عَنْ قِيلٍ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ، وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ «1» ، وقوله: «اتق اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها،

_ عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن الزبير مرفوعا، وقال البزار: لا نعلم أحدا تابع ابن إسحاق على هذه الرواية، وقد اختلفوا على عبد الملك، فرواه غير واحد عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة مرسلا، وروي عن عبد الملك بن عمير، عن أبي هريرة، ورواه الحكم بن منصور، عن عبد الملك، عن أبي سلمة، عن أبي الهيثم بن التيهان، ورواه شريك، عن عبد الملك، عن أبي سلمة، عن أم سلمة، وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 99) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح اهـ. قلت: أما المرسل الذي أشار إليه البزار عن أبي سلمة فأخرجه أحمد في «الزهد» ص: (32) . حديث أم سلمة: أخرجه الترمذي (5/ 116) كتاب «الأدب» باب: إن المستشار مؤتمن، حديث (2823) ، وأبو يعلى (12/ 333) رقم: (6906) من طريق داود بن أبي عبد الله، عن ابن جدعان، عن جدته، عن أم سلمة مرفوعا به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أم سلمة. وفي الباب عن علي بن أبي طالب أيضا، والنعمان بن بشير أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» (8/ 99) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط» عن شيخه أحمد بن زهير عن عبد الرحمن بن عتبة الطبري، ولم أعرفهما. وحديث النعمان بن بشير: ذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 100) وقال: رواه الطبراني وفيه حفص بن سليمان الأسدي، وهو متروك، وحديث: «المستشار مؤتمن» ، ذكره السيوطي في «الجامع الصغير» (6/ 268- فيض) رقم: (9200- 9201- 9202) ، وقد عده متواترا في «الأزهار المتناثرة» رقم: (52) . وقال المناوي في «الفيض» (6/ 268) : «المستشار مؤتمن» أي: أمين على ما استشير فيه فمن أفضى إلى أخيه بسره، وأمّنه على نفسه، فقد جعله بمحلها، فيجب عليه أنه لا يشير عليه إلا بما يراه صوابا، فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلا ثقة، والسر الذي يكون في إذاعته تلف النفس أولى بألا يجعل إلا عند موثوق به، وفيه حث على ما يحصل به معظم الدين، وهو النصح لله ورسوله وعامة المسلمين وبه يحصل التحابب والائتلاف، وبضده يكون التباغض والاختلاف، قال بعض الكاملين: يحتاج الناصح والمشير إلى علم كبير كثير فإنه يحتاج أولا إلى علم الشريعة، وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس، وعلم الزمان وعلم المكان، وعلم الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان، وهكذا فينظر في الترجيح فيفعل بحسب الأرجح عنده مثاله: أن يضيق الزمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال فيشير بأهمهما، وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضده يشير عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها، فلذلك قالوا: يحتاج المشير والناصح إلى علم، وعقل، وفكر صحيح، ورؤية حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة، وتأنّ، فإن لم تجمع هذه الخصال فخطأه أسرع من إصابته، فلا يشير ولا ينصح، قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة. (1) تقدم تخريجه.

وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حسنٍ» «1» و «خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُها» ، وقوله: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَّا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَّا» ، وقوله: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَة» ، وقولِهِ في بَعْضِ دعائه: «اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي، وَتُلِمُّ بِهَا شَعْثِي «2» ، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي، وتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رَشَدِي، وَتُرَدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ، اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الفَوْزَ فِي القَضَاءِ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ» ، إِلى غَيْرِ ذلكَ مِنْ بيانِهِ، وحُسْنِ كلامه ممَّا روته الكافَّة مما لا يُقَاسُ به غيره، وحاز فيه سبقاً لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ كقوله: «السَّعَيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، والشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ» في أخواتها مما يدرك الناظِرُ العَجَبَ في مضمَّنها، ويذهَبُ به الفكْرُ في أداني حكمها، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ» ، فجمع اللَّه له بذلك قُوَّة عارضَةِ الباديةِ وجزالَتَهَا، وَنَصَاعَةَ ألفاظِ الحاضِرَةِ وَرَوْنَقَ كلامِهَا، إِلى التأييد الإلهي الذي مَدَدُهُ الوَحْي، الذي لا يحيطُ بعلمه بَشَرِيّ. انتهى. وبالجملة فليس بَعْدَ بيان اللَّه ورسُولِهِ بيانٌ لمن عَمَّر اللَّهُ قلْبَه بالإِيمان. وقوله سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ... الآية: تهديدٌ لكفَّار مكَّة ونَصْبُ السيئات ب مَكَرُوا وعُدِّيَ مَكَرُوا لأنه في معنى عملوا، قال البخاريُّ: قال ابن عباس: فِي تَقَلُّبِهِمْ، أي: في اختلافهم «3» انتهى. وقال المهدويُّ: قال قتادة: فِي تَقَلُّبِهِمْ: في أسفارهم «4» ، الضَّحَّاك: فِي تَقَلُّبِهِمْ: باللْيلِ انتهى. وقوله: عَلى تَخَوُّفٍ، على جهة التخُّوف، والتخُّوفُ التنقُّص، وروي أن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه خَفِيَ عليه معنى التخُّوف في هذه الآية، وأراد الكَتْبَ إلى الأمصار يسأل عن ذلك، فيروَى أنه جاءه فَتًى مِن العرب، فقال: يا أمير المؤمِنِين، إِنَّ أَبي يتخَّوفُنِي مَالي، فقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ! أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ «5» ، ومنه قول النابغة: [الطويل]

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أي: تجمع بها ما تفرق من أمري. ينظر: «النهاية» (2/ 478) . (3) أخرجه الطبري (7/ 590) برقم: (21613) ، وذكره البغوي (3/ 70) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 223) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (7/ 590) برقم: (21615) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 571) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 223) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) أخرجه الطبري (7/ 591) برقم: (8/ 216) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 396) ، والسيوطي في «الدر

[سورة النحل (16) : الآيات 48 إلى 53]

تَخَّوَفَهُمْ حَتَّى أَذَلَّ سَرَاتَهُمْ ... بِطَعْنِ ضِرَارٍ بَعْدَ فَتْحِ الصَّفائِحِ «1» وهذا التنقُّص يتَّجه به الوعيدُ على معنيين: أحدهما: أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخَّوف، أي: أفذاذاً يتنقَّصهم بذلك الشيءَ بعد الشيءِ، ويصيِّرهم إِلى ما أعدَّ لهم من العذاب، وفي هذه الرتبةِ الثالثة مِنَ الوعيدِ رأْفَةٌ ورحمةٌ وإِمهال ليتوبَ التائِبُ، ويرجِعَ الرَّاجع، والثاني: ما قاله الضَّحَّاك: أنْ يأخذ بالعذابِ طائفةً أو قريةً، ويترك أخرى، ثم كذلك حتَّى يَهْلِكَ الكُلُّ «2» . وقالت فرقة: «التخُّوف» هنا: من الخْوف، أي: فيأخذهم بعد تخُّوف ينالهم/ يعذّبهم به. [سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 53] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ... الآية: قوله: مِنْ شَيْءٍ لفظٌ عامٌّ في كلِّ شخصٍ وجرْمٍ له ظلٌّ كالجبال والشجر وغير ذلك، وفَاءَ الظِّلُّ رجَعَ، ولا يقالُ: الفيء إلاَّ مِنْ بعد الزوال في مشهور كلام العرب، لكنْ هذه الآية: الاعتبار فيها من أول النَّهار إلى آخره فكأنَّ الآية جاريةٌ في بعْضٍ على تجوُّز كلام العرب واقتضائه، والرؤية، هنا: رؤيةُ القَلْبُ ولكنَّ الاعتبار برؤية القلب هنا إنما تكون في مرئيّات بالعين، وعَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ هنا: فيه تجوُّز وآتساعٌ، وذكَرَ «3» الطبريُّ عن الضَّحِّاك، قال: إذا زالَتِ الشمْسُ، سَجَدَ كلّ شيء قِبَلَ القبْلة من نَبْت أو شجر «4» ولذلك كان الصالحُونَ يستحبُّون الصلاة في ذلك الوقت. قال الداوديّ: وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع

_ المنثور» (4/ 223) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 396) . (2) أخرجه الطبري (7/ 590) برقم: (21626) ، وذكره البغوي (3/ 70) بنحوه، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 571) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 223) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 593) . (4) أخرجه الطبري (7/ 593) برقم: (2134) ، وذكره ابن عطية (3/ 398) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 572) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 224) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم، عن الضحاك. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 54 إلى 56]

قَبْلَ الظُّهْرِ بَعْدَ الزَّوَال تُحْسَبُ بِمِثْلِهِنَّ في صَلاَةِ السَّحَرِ» ، قَالَ: «وَلَيْسَ شَيْءٌ إِلاَّ يُسَبِّحُ لله تلك السّاعة» ، وقرأ: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ... «1» الآية كلُّها. انتهى «2» . و «الدَّاخر» : المتصاغر المتواضع. وقوله سبحانه: يَخافُونَ رَبَّهُمْ: عامٌّ لجميع الحيوان، ومِنْ فَوْقِهِمْ: يريد: فوقية القَدْر والعَظَمة والقَهْر. وقوله سبحانه: وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: السَّماواتِ هنا: كلُّ ما ارتفع مِنَ الخلق من جهة فَوْقُ، فيدخل في ذلك العرشُ والكرسيُّ وغيرهما، والدِّينُ: الطاعة والمُلْك، و «الواصب» : الدائم قاله ابن عباس «3» . ثم ذكَّر سبحانه بِنِعَمِهِ، ثم ذَكَّر بأوقاتِ المَرَضِ، والتجاء العِباد إِليه سبحانه، و «الضُّرُّ» ، وإِن كان يعمُّ كل مكروه، فأكثرُ ما يجيء عن أرزاء البدن، وتَجْئَرُونَ معناه: ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرّع. [سورة النحل (16) : الآيات 54 الى 56] ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ: الفريق، هنا: يراد به المشْرِكُون الذين يَرَوْن أن للأصنام أفعالاً من شفاء المرضَى، وجَلْبِ النفعِ، ودفعِ الضرِّ، فهم إِذا شفاهم اللَّهُ، عظَّموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاءَ إِليها. وقوله سبحانه: لِيَكْفُرُوا: يجوز أنْ تكون اللامُ لامَ الصيرورةِ، ويجوز أن تكونَ لام أمْرٍ على معنى التهديد. وقوله: بِما آتَيْناهُمْ: أي: بما أنعمنا عليهم.

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 299) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة النحل، حديث (3128) من حديث عمر، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. (2) أخرجه الترمذي (5/ 299) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة النحل، حديث (3128) من طريق علي بن عاصم، عن يحيى البكاء، حدثني عبد الله بن عمر، عن عمر بن الخطاب به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 224) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ. (3) أخرجه الطبري (7/ 595) برقم: (21642) ، وذكره ابن عطية (3/ 400) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 572) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 225) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة النحل (16) : الآيات 57 إلى 59]

وقوله سبحانه: وَيَجْعَلُونَ لِما لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ: أي: لما لا يعلمون له حُجَّةً، ولا برهاناً، ويحتمل أن يريد بنفي العِلْم الأصنامَ، أي: لجماداتٍ لا تعلم شيئاً نصيباً، و «النصيب» المشار إِليه هو ما كانت العرب سنّته من الذبحِ لأصنامها، والقَسْمِ من الغَلاَّتِ وغيره. [سورة النحل (16) : الآيات 57 الى 59] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) وقوله سبحانه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ... الآية: تعديدٌ لقبائحِ الكَفَرة في قولهم: «الملائكةُ بناتُ اللَّه» ، تعالَى اللَّه عن قولهم، والمراد بقوله: وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ، الذُّكْرَانُ من الأولاد. وقوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا: عبارة عما/ يعلو وجْهَ المغموم. قال ص: «ظَلَّ» : تكون بمعنى «صَارَ» ، وبمعنى «أقام نهاراً» على الصفة المسنَدَةِ إِلى اسمها، وتحتمل هنا الوجهين. انتهى، وكَظِيمٌ: بمعنى: كاظمٍ، والمعنى: أنه يُخْفي وجْدَه وهمَّه بالأنثى، ومعنى يَتَوارى: يتغيَّب من القومِ، وقرأ «1» الجَحْدَرِيُّ: «أَيُمْسِكُهَا أَمْ يَدُسُّها» ، وقرأ الجمهور «2» : «علَى هُونٍ» ، وقرأ عاصمٌ الجَحْدَرِيُّ «3» : «عَلَى هَوَانٍ» ، ومعنى الآية: يُدْبِرُ، أيمسِكُ هذه الأنثَى على هوانٍ يتحمَّله، وهمٍّ يتجلَّد له، أمْ يَئِدُها فيدفنُها حيّة، وهو الدسّ في التراب. [سورة النحل (16) : الآيات 60 الى 62] لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) وقوله سبحانه: لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ: قالت فرقة: مَثَلُ، في هذه الآية: بمعنى صفة، أي: لهؤلاء صفَةُ السَّوْء وللَّه المثل الأعلى.

_ (1) ينظر: «الشواذ» (77) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 402) ، و «البحر المحيط» (5/ 488) ، و «الدر المصون» (4/ 339) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 402) ، و «البحر المحيط» (5/ 488) ، و «الدر» (4/ 339) . (3) ينظر: مصادر القراءة السابقة.

[سورة النحل (16) : الآيات 63 إلى 66]

قال ع «1» : وهذا لا يضطر إِليه لأنه خروجٌ عن اللَّفْظِ، بل قوله: مَثَلُ على بابه، فلهم على الإِطلاقِ مَثَلُ السوء في كلِّ سوء، ولا غاية أخزى من عذابِ النارِ، وللَّه سبحانه الْمَثَلُ الْأَعْلى على الإِطلاق أيضاً، أي: الكمال المستغْنِي. وقوله سبحانه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ: الضميرُ في «عليها» عائدٌ على الأرض، وتَمَكَّنَ ذلك مع أنه لم يَجْرِ لها ذكر لشهرتها وتمكُّن الإِشارة إِليها، وسمع أبو هريرة رجُلاً يقول: «إِنَّ الظَّالِمَ لاَ يُهْلِكُ إِلاَّ نَفْسَهُ» فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: بَلَى، إِنَّ اللَّهَ لَيُهْلِكُ الحُبَارَى في وَكْرِهَا هزلاً بذنوب الظّلمة «2» . و «الأجل المسمَّى» في هذه الآية: هو بحسبِ شَخْصٍ شخصٍ. وقوله: مَا يَكْرَهُونَ يريد البنات. وقوله سبحانه: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى: قال مجاهد وقتادة الْحُسْنى: الذُّكُور من الأولاد «3» ، وقالت فرقةٌ: يريد الجنة. قال ع «4» : ويؤيِّده قوله: لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ، وقرأ السبعة «5» سوَى نافعٍ: «مُفْرَطُونَ» - بفتح الراءِ وخِفَّتِها- أي: مُقَدَّمون إِلى النار، وقرأَ نافع: «مُفْرِطُونَ» - بكسر الراء المخفَّفة-، أي: متجاوِزُونَ الحدَّ في معاصي الله. [سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 66] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 402) . (2) أخرجه الطبري (7/ 601) برقم: (21669) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 74) ، وابن عطية (3/ 403) ، وابن كثير (2/ 573) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 228) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في «الشعب» . (3) أخرجه الطبري (7/ 602) برقم: (21673) ، (21674) ، (21675) ، وذكره ابن عطية (3/ 403) ، وابن كثير (2/ 574) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 228) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ولعبد الرزاق، وابن المنذر. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 403) . (5) ينظر: «السبعة» (373) ، و «الحجة» (5/ 73) ، و «معاني القراءات» (2/ 80) ، و «إعراب القراءات» (1/ 356) ، و «شرح الطيبة» (4/ 415) ، و «العنوان» (118) ، و «شرح شعلة» (458) ، و «حجة القراءات» (391) ، و «إتحاف» (2/ 185) .

[سورة النحل (16) : الآيات 67 إلى 70]

وقوله سبحانه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ... الآية: هذه آية ضرب مثل لهم بمَنْ سَلَف، في ضِمْنها وعيدٌ لهم، وتأنيس للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ: يحتمل أنْ يريد ب الْيَوْمَ يومَ الإِخبار، ويحتملُ أنْ يريد يَوْمَ القيامةِ، أي: وليهم في اليَوْمِ المشهورِ. وقوله سبحانه: إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ: لِتُبَيِّنَ: في موضع المفعولِ من أجلِهِ، أي: إلا لأجل البيان، والَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ: لَفْظٌ عامٌّ لأنواعِ كُفْر الكفرة، لكن الإِشارة هنا إِلى تشريكهم الأَصْنَامَ في الإلهية. ثم أَخَذَ سبحانه يَنصُّ العِبَرَ المؤدِّية إِلى بيان وحدانيته، وعظيمِ قدرَتِهِ، فبدأ بنعمَةِ المَطَرَ التي هِيَ أَبينُ العبر، وهي مِلاَكُ الحياة، وهي في غاية الظهور، لا يخالف فيها عاقل. وقوله: مِمَّا فِي بُطُونِهِ: الضمير عائد على الجِنْس، وعلى المذكور، وهذا كثيرٌ. وقوله سبحانه: سائِغاً لِلشَّارِبِينَ/ «السائغ» : السَّهْلُ في الشرْبِ اللذيذُ. ت: وعن ابن عبَّاس، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَاماً، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَناً، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وزدنا منه» ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِىءُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» «1» ، رواه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: هذا حديثٌ حسنٌ، انتهى من «السلاح» . [سورة النحل (16) : الآيات 67 الى 70] وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 365) كتاب «الأشربة» باب: ما يقول إذا شرب اللبن، حديث (3730) ، والترمذي (5/ 506- 507) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا أكل طعاما، حديث (3455) ، وفي «الشمائل» برقم: (206) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم: (286- 287) ، وأحمد (1/ 220، 225، 284) ، من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن.

وقوله سبحانه: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ... الآية: «السَّكَر» : ما يُسْكِرُ هذا هو المشهور في اللغة، قال ابن عباس: نزلَتْ هذه الآية قبل تحريمِ الخَمْرِ «1» ، وأراد ب «السَّكَر» : الخمرَ، وب «الرِّزْق الحسن» جميعَ ما يُشْرَبُ ويؤكل حلالاً من هَاتَيْنِ الشجرتَيْن، فالحَسَنُ هنا: الحلال، وقال بهذا القولِ ابنُ جُبَيْر وجماعة «2» وصحَّح ابنُ العربيِّ «3» هذا القولِ، ولفظه: والصحيحُ أَنَّ ذلك كان قبل تحريمِ الخَمْرِ، فإِن هذه الآية مكِّيَّة باتفاق العلماء، وتحريمُ الخَمْر مدنيٌّ انتهى من «أحكام القرآن» ، وقال مجاهد وغيره: السكر المائعُ من هاتَيْنِ الشجرتَيْنِ، كالخَلِّ، والرّبِّ، والنَّبِيذِ، والرزقُ الحَسَنُ: العنبُ والتمرُ «4» . قال الطبريُّ «5» : والسّكَر أيضاً في كلام العرب ما يُطْعَم، ورجَّح الطبريُّ هذا القول، ولا مدخَلَ للخَمْر فيه، ولا نَسْخَ في الآية. وقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ... الآية: الوحْيُ في كلام العرب: إلقاء المعنى من المُوحى إلى الموحى إِليه في خفاءٍ، فمنه الوحْيُ إِلى الأنبياء برسالةِ المَلَكِ، ومنه وَحْيُ الرؤيا، ومنه وَحْيُ الإِلهام، وهو الذي في آيتنا باتفاق من المتأوِّلينِ، والوحْيُ أيضاً بمعنى الأمر كما قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] ، وقد جعل اللَّه بيوتَ النحل في هذه الثلاثة الأنواعِ: إمَّا في الجبالِ وكُوَاها، وإِما في متجوَّفِ الأشجار، وإِما فيما يَعْرِشُ ابنُ آدَمَ من الأَجْبَاحِ والحِيطان، ونحوها، وعرش: معناه: هيّأ، والسبل الطرق، وهي مسالكها في الطيران وغيره، وذُلُلًا: يحتمل أن يكون حالاً من «النحل» ، أي: مطيعةً منقادةً، قاله قتادة «6» . قال ابن زَيْد: فهم يخرجون بالنحل

_ (1) ذكره البغوي (3/ 75) ، وابن عطية (2/ 405) ، وابن كثير (2/ 575) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 228) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وأبي داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، وابن مردويه، والحاكم صححه. (2) أخرجه الطبري (7/ 609) برقم: (21707) ، (21708) ، (21709) ، وذكره البغوي (3/ 75) ، وابن عطية (3/ 415) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 229) ، وعزاه للنسائي. [.....] (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1153) . (4) أخرجه الطبري (7/ 611) برقم: (21737) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 75) ، وابن عطية (3/ 405) ، وابن كثير (2/ 577) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 611) . (6) أخرجه الطبري (7/ 613) برقم: (21748) ، وذكره ابن عطية (3/ 406) ، وابن كثير (2/ 575) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 230) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر.

ينتجعون، وهي تتبعهم «1» وقرأ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً ... [يس: 71] الآية، ويحتملُ أنْ يكون حالاً من «السُّبُل» ، أي: مسَّهلةً مستقيمةً قاله مجاهد «2» ، لا يتوعَّر عليها سبيلٌ تسلُكُه. ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة، والتنبيه على العِبْرة- أمْرَ العَسَل في قوله: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ، وجمهور الناس على أنَّ العسل يخرُجْ من أفواهِ النَّحْلِ، واختلافُ الألوان في العسل بحسب آختلاف النَّحْلِ والمَرَاعِي، أيُّ والفصول. ت: قال الهرويُّ: قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، وذلك أنه يستحيلُ في بطونها، ثم تمجُّه من أفواهها انتهى. وقوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ الضمير للعَسَل قاله الجمهور: / قال ابن «3» العربيِّ في «أحكامه» وقد روى الأئمة، واللفظُ للبخاريّ، عن عائشة، قالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يُحِبُّ الحْلَوَاءَ والعَسَل «4» ، وروى أبو سعيد الخُدْرِيُّ: أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: إنَّ أخِي يَشْتَكى بَطْنَهُ فَقَالَ: «اسقه عَسَلاً» ، ثم أتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «اسقه عَسَلاً» ، ثُمَّ أتاه فَقَالَ: فَعَلْتُ فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلاَّ استطلاقا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «صَدَق اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ، اسقه عَسَلاً» فسَقَاهُ، فَبَرأ «5» ، وروي أنَّ عوف بنَ مالك الأشْجَعِيَّ مَرِضَ، فقيل له: ألا نُعَالِجُكَ؟ فَقَالَ: ائتوني بمَاءِ سَمَاءٍ، فإِنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً [ق: 9]

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 613) برقم: (21749) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 406) ، وابن كثير (2/ 575) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 230) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ذكره البغوي (2/ 76) ، وابن عطية (3/ 406) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1157) . (4) أخرجه البخاري (9/ 557) كتاب «الأطعمة» باب: الحلوى والعسل، حديث (5431) ، ومسلم (2/ 1101) كتاب «الطلاق» باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، حديث (21/ 1474) ، وأبو داود (2/ 361) ، كتاب «الأشربة» باب: في شراب العسل، حديث (3715) ، والترمذي (4/ 273- 274) كتاب «الأطعمة» باب: ما جاء في حب النبي صلّى الله عليه وسلّم الحلواء والعسل، حديث (1831) ، وفي الشمائل (164) ، وابن ماجه (2/ 1104) كتاب «الأطعمة» باب: الحلواء، حديث (3323) ، والدارمي (2/ 107) ، وأحمد (6/ 59) وأبو الشيخ في «أخلاق النبي» ص: (203) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 84- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (5) أخرجه البخاري (10/ 139) كتاب «الطب» باب: الدواء بالعسل، حديث (5684) ، ومسلم (4/ 1736) كتاب «السلام» باب: التداوي بسقي العسل، حديث (91/ 2217) ، وأحمد (3/ 19) ، والبيهقي (9/ 344) ، وفي «دلائل النبوة» (6/ 164) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 249- بتحقيقنا) .

[سورة النحل (16) : الآيات 71 إلى 74]

وائتوني بعَسَلٍ فإن اللَّه تعالى يقول: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وائتوني بزيت فإن اللَّه تعالى يقولُ: مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ [النور: 35] فجاءوه بذلك كلِّه فخَلَطَهُ جميعاً، ثم شَرِبَهُ، فَبّرأَ انتهى. وقوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وأرذلُ العَمَر الذي تَفْسُدُ فيه الحواسُّ، ويختلُّ العَقْل، وخص ذلك بالرذيَلةِ، وإن كانَتْ حالة الطُّفُولة كذَلِكَ مِنْ حيثُ كانَتْ هذه لا رَجَاءَ معها، وقال بعضُ الناس: أول أرذَلِ العُمُرِ خَمْسٌ وسَبْعُونَ سنةً، روي ذلك عن علي «1» رضي الله عنه. قال ع «2» : وهذا في الأغْلَبِ، وهذا لا ينحصرُ إِلى مدَّة معيَّنة، وإِنما هو بحَسَبِ إِنسانٍ إِنسانٍ، ورُبَّ مَنْ يكون ابْنَ خمسينَ سنَةً، وهو في أرذلِ عمره، وربَّ ابن تسعينَ ليس في أرذَلِ عمره، واللامُ في لِكَيْ يشبه أنْ تكون لامَ الصيرورةِ، والمعنى: ليصير أمره بعْدَ العِلْم بالأشياء إلى ألاَّ يعلم شيئاً، وهذه عبارة عن قلَّة علمه، لا أنه لا يعلم شيئا البتّة. [سورة النحل (16) : الآيات 71 الى 74] وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) وقوله سبحانه: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ إِخبار يُرَادُ به العِبْرة وإِنما هي قاعدةٌ بني المثل عليها، والمَثَل هو أن المفضَّلين لا يصحُّ منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أُعْطُوا حتى تستوي أحوالُهم، فإِذا كان هذا في البَشَر، فكيف تنسبون أيها الكَفَرةُ إلى اللَّه أنَّه يسمح بأنْ يشرك في الألوهيَّة الأوثانَ والأصْنَامَ وغيرها ممَّا عُبدَ مِنْ دونه، وهم خَلْقُه ومِلْكُه، هذا تأويلُ الطبريِّ، وحكاه عن ابن عباس «3» قال المفسِّرون: هذه الآية كقوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 615) برقم: (21756) ، وذكره البغوي (3/ 76) ، وابن عطية (3/ 407) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 232) ، وعزاه لابن جرير. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 407) . (3) أخرجه الطبري (7/ 615- 616) برقم: (21757) ، وذكره ابن كثير (2/ 576) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 232- 233) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

[سورة النحل (16) : الآيات 75 إلى 78]

شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ... الآية [الروم: 28] ثم وقفهم سبحانه على جَحْدهم بنعمته في تنبيهه لهم على مِثْلِ هذا مِنْ مواضِع النظرِ المؤدِّية إلى الإِيمان. وقوله سبحانهُ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً هذه أيضاً آيةُ تعديدِ نِعَم، «والأزواجُ» هنا: الزوجاتُ، وقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ: يحتملُ أن يريد خِلْقَةَ حوَّاء من نَفْس آدم، وهذا قول قتادة «1» والأَظهَرُ عندي أنْ يريد بقوله مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أي: مِنْ نوعكم كقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ، وال حَفَدَةً: قال ابن عباس: هم أولاد البنين «2» وقال الحسن: هم بَنُوكَ وبَنُوَ بَنِيكَ «3» ، / وقال مجاهد: ال حَفَدَةً الأنصار والأَعْوان «4» وقيل غير هذا، ولا خلاف أنَّ معنى «الحفْدَ» الخِدْمَةِ والبِرُّ والمشْيُ مسرعاً في الطاعة ومنه في القنوت: «وإِلَيْكَ نَسْعَى ونحْفِدُ» ، والحَفَدَانُ أيضاً: خَبَبٌ فوق المَشْي. وقوله سبحانه: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ... الآية: أي: لا تمثّلوا للَّه الأمثَال، وهو مأخوذٌ من قولك: هذا ضَرِيبُ هَذَا، أي: مثيله، والضّرب: النّوع. [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 78] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) وقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً الآية: الذي هو مثالٌ في هذه الآية هو

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 616) برقم: (21762) ، وذكره ابن عطية (3/ 408) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 233) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (7/ 619) برقم: (21797- 21798) ، وذكره البغوي (3/ 77) ، وذكره ابن عطية (3/ 408) ، وابن كثير (2/ 577) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 233) ، وعزاه لابن أبي حاتم. [.....] (3) أخرجه الطبري (7/ 618) برقم: (21783) ، وذكره ابن عطية (3/ 408) ، وابن كثير (2/ 577) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 234) ، وعزاه لابن جرير. (4) أخرجه الطبري (7/ 618) برقم: (21787) ، وذكره البغوي (3/ 77) ، وابن عطية (3/ 408) ، وابن كثير (2/ 577) .

[سورة النحل (16) : الآيات 79 إلى 83]

عَبْدٌ بهذه الصفةِ، مملوكٌ لا يَقْدِرُ على شيء من المال، ولا أمْر نفسه، وإنما هو مُسَخَّرٌ بإرادة سَيِّده، مَدَبَّرٌ، وبإزاء العبْدِ في المثالِ رجُلٌ موسَّعٌ عليه في المال، فهو يتصرَّف فيه بإِرادته، واختلف النَّاس في الذي له المَثَلُ، فقال ابن عباس وقتادة: هو مَثَلُ الكافر والمؤمِنِ «1» ، وقال مجاهد والضَّحَّاك: هذا المِثَال والمِثَالُ الآخر الذي بَعْدَه، إِنما هو مثَالٌ للَّهِ تعالى، والأصنامِ، فتلك كالعَبْدِ المملوكِ الذي لا يَقْدِرُ على شيء، واللَّه تعالى تتصرَّف قدرته دون معقب «2» ، وكذلك فَسَّر الزَّجَّاج على نحو قول مجاهد، وهذا التأويلُ أصوبُ لأن الآية تكُونُ من معنى ما قَبْلَها، ومدارُها في تبْيِيِن أمْر اللَّه والردِّ على أمْر الأصنام. وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: على ظهور الحجَّة. وقوله سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ... الآية: هذا مثَلٌ للَّه عزَّ وجلَّ والأصنامِ، فهي كالأبكم الذي لا نُطْقَ له ولا يَقْدِرُ على شيء، «والكلّ» الثقيل المئونة، كما الأصنامُ تحتاجُ إِلى أنْ تُنْقَلَ وتَخْدَمَ ويتعذَّب بها، ثم لا يأتي مِنْ جهتها خَيْرٌ أبداً، والذي يأمر بالعدلِ هو اللَّه تعالى. وقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ ... الآية: المعنى، على ما قاله قتادة وغيره: ما تكونُ الساعةُ وإقامتها في قُدْرة اللَّه تعالى «3» إِلا أنْ يقول لها: كُنْ، فلو آتَّفَقَ أنْ يقف على ذلك محصِّلٌ من البشر، لكانَتْ من السرعة بحَيْث يشكُّ، هل هي كَلَمْحِ البَصرِ أو هي أقْرَبُ، «ولمح البصر» هو وقوعه على المرئيّ. [سورة النحل (16) : الآيات 79 الى 83] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 622) برقم: (21806- 21807- 21808) ، وذكره ابن عطية (3/ 410) ، وابن كثير (2/ 578) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 234) ، وعزاه لابن أبي حاتم ولعبد بن حميد. (2) ذكره ابن عطية (3/ 410) ، وابن كثير (2/ 578) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 235) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (7/ 624) برقم: (21816) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 236) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

وقوله سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ... الاية: «الجوُّ مسافةُ ما بين السماءِ والأرض، وقيل: هو ما يلي الأرض منها، والآيةُ عِبْرةٌ بيِّنة المعنى، تفسيرها تكلف محت، ويَوْمَ ظَعْنِكُمْ معناه رَحِيلكم، والأصواف: للضأنِ، والأوبار: للإِبل، والأشعار: للمعز، ولم تكُنْ بلادهم بلادَ قُطْن وَكَّتانٍ، فلذلك اقتصَرَ على هذه، ويحتملُ أنَّ تَرْكَ ذكْر القُطْن والكَتَّانِ والحرير إعراضٌ عن السَّرَف، إذ ملْبَسُ عبادِ اللَّهِ الصالحينَ إِنما هو الصُّوف، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» عند قوله تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [النحل: 5] : في هذه الآية دليلٌ على لبَاسِ الصُّوفِ، فهو أوَّل ذلك وأولاه، لأنه شِعارُ المتقين، ولباسُ الصالحين، وشَارَةُ الصَّحابة والتابعين، واختيار الزُّهَّاد والعارفين، وإِليه نُسِبَ جماعةٌ من النَّاس «الصُّوفِيَّةُ» لأنه لباسُهم في الغالِبَ انتهى. «والأثاث» متاعُ البَيْت، واحِدُها أَثَاثَة هذا قول أبي زَيْد الأنْصَارِيِّ «1» وقال غيره: «الأثَاثُ» : جميع أنواعِ المالِ، ولا واحدَ له من لفظه. قال ع «2» : والاشتقاق «3» يقوي هذا المعنى الأعمَّ لأنَّ حالَ الإِنسان تَكُونُ بالمال أثِيثَةً كما تقول: شَعْرٌ أثيث، ونبات أثيث، إذا كثر والتفّ، والسرابيل: جميعُ ما يُلْبَسُ عَلَى جميع البدنِ، وذكر وقاية الحَرِّ، إِذ هو أمسُّ بتلك البلادِ، والبَرْدُ فيها معدومٌ في الأكثر، وأيضاً: فذكر أحدهما يدلّ على الآخر، وعن عمر رضي اللَّه عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يقوُلُ: مَنْ لَبِسَ ثَوباً جَدِيداً، فَقَالَ: «الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوارِي به عَوْرَتي وأَتَجَمَّلُ بِهِ في حَيَاتي، ثُمَّ عَمَدَ إلى الثَّوْب الَّذِي خَلَقَ، فَتَصَدَّقَ به- كَانَ في كَنَفِ اللَّهِ، وفي حفْظِ اللَّه، وفي سَتْر اللَّهِ حَيًّا ومَيِّتاً «4» » رواه الترمذيُّ، واللفظُ له، وابنُ ماجَه، والحاكمُ في «المستدرك» ، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اشترى عبد ثوبا

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 412) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 412) . (3) الاشتقاق هو: نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنى وتركيبا، ومغايرتهما في الصيغة، وهو يقابل الجمود ويضاده، وقد اختلف النحاة في الأصل الذي يقع فيه الاشتقاق، وهو ينقسم إلى كبير وصغير. ينظر: «التعريفات» للجرجاني ص: (37) و «معجم المصطلحات النحوية والصرفية» ص: (116) . (4) أخرجه الترمذي (5/ 558) كتاب «الدعوات» باب: (108) ، حديث (3560) ، وابن ماجه (2/ 1178) كتاب «اللباس» باب: ما يقول الرجل إذا لبس ثوبا جديدا، حديث (3557) ، والحاكم (1/ 507) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (267) من حديث أبي أمامة.

[سورة النحل (16) : الآيات 84 إلى 88]

بِدِينَارٍ أوْ نِصْفِ دِينَار، فحمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ إِلاَّ لَمْ يَبْلُغْ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يغِفْرَ اللَّهُ لَهُ» «1» رواه الحاكمُ في «المستدرك» وقال: هذا الحديث لا أَعلم في إِسناده أحداً ذكر بجرح. انتهى من «السلاح» . والسرابيل التي تقي البأس: هي الدروعُ ونحوها، ومنه قولُ كَعْبِ بنِ زهيرٍ في المهاجِرِينَ: [البسيط] شُمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لبُوسُهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ في الهَيْجَا سَرَابِيلُ «2» والبأس: مسُّ الحديدِ في الحَرْب، وقرأ الجمهور «3» «تُسْلِمُونَ» وقرأ ابن عباس «4» : «تَسْلَمُونَ» من السَّلاَمة، فتكون اللفظة مخصوصةً في بأْس الحرْب. [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 88] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وقوله سبحانه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي: شاهداً على كُفْرهم وإيمانهم، ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ، أي: لا يُؤْذِن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطن، ويُسْتَعْتَبُونَ بمعنى: يُعْتِبُونَ تقول: أَعْتَبْتُ الرَّجُلَ، إِذَا كَفَيْتَهُ ما عُتِبَ فيه كما تقول: أشْكَيْتُهُ إِذا كَفَيْتَهُ ما شكا. وقال قومٌ: معناه: لا يُسْألونَ أنْ يرجعوا عمَّا كانوا عَلْيه في الدنيا. وقال الطبريُّ «5» : معنى يُسْتَعْتَبُونَ يُعْطَوْن الرجوعَ إلى الدنيا فتقع منهم توبةٌ وعمَلٌ. ت: وهذا هو الراجحُ، وهو الذي تدلُّ عليه الأحاديثُ، وظواهر الآياتِ في غيرِ ما موضع.

_ (1) أخرجه الحاكم (1/ 507) . (2) البيت في ديوانه (23) . والعرانين: الأنوف، وتكون أطراف الأنوف، الواحد منها عرنين. والشم: حدة في طرف الأنف مع تشمير. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 413) ، و «البحر المحيط» (5/ 508) . (4) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (77) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 413) ، و «البحر المحيط» (5/ 508) ، و «الدر المصون» (4/ 353) . (5) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 630) . [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 89 إلى 91]

وقوله سبحانه: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أي: إِذا رأَوْهم بأبصارِهِمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا ... الآية، كأنهم أرادوا بهذه المقالة تذنيبَ المَعْبُودين، وقوله سبحانه: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ... الآية: الضمير في فَأَلْقَوْا للمعبودينَ أنطقهم اللَّه بتكذيب المُشْركين، وقد قال سبحانه في آية أخرى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [يونس: 28] الآية، انظر تفسيرها في سورة يونس وغيرها. وقوله: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الضمير في أَلْقَوْا هنا عائد على «المشركين» ، والسَّلَمَ الاستسلام. وقوله تعالى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ ... الآية: رُوِيَ في ذلك عن ابن مسعود، أنَّ اللَّه سبحانَهُ يسلِّط عليهم عَقَارِبَ وحَيَّاتٍ، لها أنيابٌ، كالنَّخْلِ الطِّوال «1» ، وقال عَبْيدُ بنُ عُمَيْرٍ: حَيَّات لها أنيابٌ كالنخْلِ «2» ونحو/ هذا، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن لجهنَّمَ سواحِلَ، فيها هذه الحياتُ وهذه العقاربُ، فيفر الكافرون إلى السَّواحلِ، فتلقاهم هذه الحيَّاتُ والعقاربُ فيفرُّونَ منها إِلى النار، فتَتْبَعهم حَتَّى تجد حَرَّ النار، فتَرْجِع «3» . قال: وهي في أسراب. [سورة النحل (16) : الآيات 89 الى 91] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وقوله سبحانه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني: رسولَها، ويجوز أن يبعَثَ اللَّه شهوداً من الصَّالحين مع الرسُلِ، وقد قال بعضُ الصحابة: إِذا رأَيْتُ أحداً على معصية،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 632) برقم: (21847- 21848- 21849) ، وذكره البغوي (3/ 81) ، وابن عطية (3/ 415) ، وابن كثير (2/ 581) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 239) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد بن السري، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي. (2) أخرجه الطبري (7/ 632) برقم: (21855) ، وذكره ابن عطية (3/ 415) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 239) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (7/ 633) برقم: (21856) ، وذكره ابن عطية (3/ 415) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 240) ، وعزاه لابن جرير.

[سورة النحل (16) : الآيات 92 إلى 93]

فانهه، فإن أطاعك، وإِلاَّ كُنْتَ شاهداً عليه يَوْمَ القيامة. وقوله سبحانه: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الإشارة ب «هؤلاء» إلى هذه الأمَّة. وقوله عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... الآية: قال ابن مسعود رضي الله عنه: أجمعُ آية في كتاب اللَّهِ هذه الآية «1» ، وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه، أنه قال: لما نزلَتْ هذه الآيةُ، قرأْتُها على أبي طالب، فعجب، وقال: يا آل غالب، اتّبعوه تفلحوا فو الله، إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ ليأَمرَ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ «2» . قال ع «3» : والعدل فعل كلّ مفروض، والْإِحْسانِ فعل كلّ مندوب إليه، وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى: لفظُ يقتضي صلة الرحِمِ، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، والْفَحْشاءِ الزنا قاله ابن عبَّاس «4» ويتناولَ اللفْظُ سائر المعاصِي التي شِنْعَتُهَا ظاهرة، وَالْمُنْكَرِ أعمُّ منه لأنه يعمُّ جميع المعاصى والرذائلِ، والإذاءات على اختلاف أنواعها، والْبَغْيِ هو إنشاء ظُلْم الإِنسان، والسعاية فيه، وكَفِيلًا معناه: متكفّلا بوفائكم، وباقي الآية بيّن. [سورة النحل (16) : الآيات 92 الى 93] وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وقوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ... الآية: شَبَّهت هذه الآيةُ الذي يَحْلِفُ أو يعاهِدُ ويُبْرِمُ عَقْده، بالمرأة تغزِلُ غزْلها وتفتِله مُحْكماً، ثم تنقُضُ قُوَى ذلك الغَزْلِ، فتحلُّه بعد إبرامه، وأَنْكاثاً نصب على الحال، و «النّكث» النقض، والعربُ تقولُ انْتَكَثَ الحَبْلُ، إِذا انتقضَتْ قواه، و «الدَّخَلُ» الدَّغَل بعينه، وهو الذرائِعُ إِلى الخدع والغدر،

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 635) برقم: (21868- 21869) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 82) ، وابن عطية (3/ 415) ، وابن كثير (2/ 582) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 241) ، وعزاه لسعيد بن منصور والبخاري، ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي. (2) ذكره ابن عطية (3/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 241) ، وعزاه لابن النجار من طريق العكلي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 416) . (4) أخرجه الطبري (7/ 634) برقم: (21865) ، وذكره البغوي (3/ 82) ، وابن عطية (3/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 241) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.

[سورة النحل (16) : الآيات 94 إلى 97]

وذلك أن المحلوُفَ له مطمئنٌّ، فيتمكنُ الحالفُ مِنْ ضَرَره بما يريدُ. وقوله سبحانه: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ المعنى: لا تنقضوا الأيمان مِنْ أجْل أنْ تكونَ قبيلةٌ أزَيدَ من قبيلةٍ في العَدَد والعزَّة والقوّة، ويَبْلُوكُمُ أي: يختبركم، والضميرُ في «به» يحتمل أنْ يعود على «الرِّبَا» ، أي: أنَّ اللَّه ابتلى عباده بالربا، وطَلَبِ بعضهم الظُّهُورَ على بعضٍ، واختبرهم بذلك ليرى مَنْ يجاهد بنفسِهِ، ممَّن يتَّبِعُ هواها، وباقي الآية وعيدٌ بيوم القيامة. [سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) وقوله سبحانه: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ... الآية: «الدَّخَل» كما تقدَّم: الغوائلُ والخدائعُ، وكرَّر مبالغةً، قال الثعلبيُّ: قال أبو عُبَيْدة: كلُّ أمْرٍ لم يكنْ صحيحاً فهو دَخَل انتهى. وقوله: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها استعارةٌ للمستقيم الحال يقع في شرٍّ عظيم. وقوله سبحانه: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية: هذه آية نهي عن الرُّشَا «1» ، وأخْذِ الأموال، ثم أخبر تعالى أنَّ ما عنده مِنْ نعيمِ الجنَّة، ومواهب الآخرة خَيْرٌ لمن اتقى وعَلِمَ واهتدى، ثم بيَّن سبحانه/ الفرق بين حال الدنيا، وحال الآخرة، بأنَّ هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، أو ينقضي عَنْها، ومِنَنْ الآخرة باقية دائمة، وصَبَرُوا معناه عن الشهوات وعلى مكاره الطاعاتِ، وهذه إشارةٌ إلى الصبر عن شَهْوَةِ كَسْب المال بالوجوهِ المكْرُوهة. واختلف النَّاسُ في معنى «الحياة الطَّيِّبة» فقال ابن عباس: هو الرزق الحلال «2» وقال

_ (1) «الرشوة» : هي بكسر الراء وضمها والجمع رشا وقد أرشاه من باب عدا و «ارتشى» أخذ الرشوة و «استرشى» في حكم طلب الرشوة عليه، و «أرشاه» أعطاه الرشوة. ينظر: «تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية» بتحقيقنا (5/ 65) . (2) أخرجه الطبري (7/ 641) برقم: (21893- 21894) ، وذكره ابن عطية (3/ 419) ، وذكره ابن كثير (2/ 585) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 244) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

[سورة النحل (16) : الآيات 98 إلى 100]

الحسن وعلي بن أبي طالب: هي القناعة «1» . قال ع «2» : والذي أقولُ به أنَّ طِيبَ الحياةِ اللازمَ للصالحين إِنما هو بنَشَاطِ نفوسهم ونُبْلها وقُوَّةَ رَجَائِهم، والرَّجَاءُ للنَّفْس أمرٌ مُلِذٌّ، فبهذا تطيب حياتهم، وأنهم احتقروا الدنيا، فزالت همومها عَنْهم، فإِن انَضَافَ إِلى هذا مَالٌ حلالٌ، وصِحَّةٌ أو قناعةٌ، فذلك كمالٌ، وإِلا فالطِّيبُ فيما ذكرناه رَاتِبٌ. وقوله سبحانه: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ الآية: وعْدٌ بنعيمِ الجنَّة. قال أبو حَيَّان: وروي عن نافع: «ولَيَجْزِيَنَّهُمْ» بالياء التفاتاً من ضمير المتكَلِّم إِلى ضمير الغَيْبة، وينبغي أنْ يكون على تقدير قسَمٍ ثانٍ لا معطوفاً على «فَلَنُحْيِيَنَّهُ» ، فيكون مِنْ عطف جملةٍ قَسَمِيَّة على جملةٍ قَسَمِيَّة، وكلتاهما محذوفةٌ، وليس من عطف جواب، لتغاير الإسناد. انتهى «3» . [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وقوله سبحانه: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ... الآية: التقدير فإذا أخذُتَ في قراءة القُرآن، والاستعاذةُ ندْب، وعن عطاء أنَّ التعُّوذ واجبٌ «4» ، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة هذه الآية، والرجيم: المرْجُوم باللَّعْنة، وهو إبليس ثم أخبر تعالى أنَّ إبليسَ ليس له مَلَكةٌ ولا رياسة، هذا ظاهرُ السُّلْطان عندي في هذه الآية، وذلك أن السلطان إنْ جعلناه الحجَّةَ، فَلَيْسَ لإبليس حجة في الدنيا على أحد لا على مؤمنٍ ولا على كافر، إلا أنْ يتأول متأوِّل: ليس له سلطانٌ يوم القيامة، فيستقيمُ أنْ يكون بمعنى الحُجَّة لأن إبليس له حُجَّة على الكافرين أنَّه دعاهم بغير دَلِيل، فاستجابوا له من قِبَلِ أنفسهم، ويَتَوَلَّوْنَهُ: معناه يجعلونه وليًّا، والضمير في «به» يحتملُ أن يعود على اسم اللَّه عزَّ وجلَّ، والظاهر أنه يعودُ على اسْمِ العدوِّ الشيطانِ، بمعنى مِنْ أجله، وبسببه، فكأنه قال: والَّذِينَ هم بسببه مشركون

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 642) برقم: (21901- 21902) ، وذكره البغوي (3/ 83) ، وذكره ابن عطية (3/ 419) ، وذكره ابن كثير (2/ 585) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 419) . (3) ينظر: «البحر» لأبي حيان (5/ 517) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 420) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 245) ، وعزاه لعبد الرزاق في «المصنف» ، وابن المنذر.

[سورة النحل (16) : الآيات 101 إلى 104]

باللَّه، وهذا الإخبار بأنْ لا سلطانَ للشيطانِ على المؤمنين بَعقِبِ الأَمر بالاستعاذة- يقتضي أنْ الاستعاذةَ تصرْفُ كيده، كأنها متضمِّنة للتوكُّل على الله، والانقطاع إليه. [سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 104] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) وقوله سبحانه: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ يعني بهذا التبديل النَّسْخَ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ: أي قال كفّار مكّة، ورُوحُ الْقُدُسِ: هو جبريلُ بلا خلاف. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قال ابن عباس: كان بمكَّة غلامٌ أعجميٌّ لبعض قريشٍ يقال له: «بلعام» ، فكان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُعلِّمه الإِسلام، ويرُومُهُ عليه، فقال بعضُ الكفَّار هذا يُعلِّم محمَّداً، وقيل: اسمُ الغلام «جبر» ، وقيل: يَسار، وقيل: يَعيش، والأعجميُّ هو الذي لا يتكلَّم بالعربية، وأما العَجَمِيُّ، فقد يتكلَّم بالعربيَّة، ونسبته قائمة «1» . وقوله: وَهذا إشارة إلى القرآن والتقدير: وهذا سَرْدُ لسانٍ، أو نطقُ لسان. [سورة النحل (16) : الآيات 105 الى 106] إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) وقوله/ سبحانه: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ: بمعنى: إنما يكذب، وهذه مقاومة للذين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل: 101] ، ومَنْ في قوله مَنْ كَفَرَ بدلٌ مِنْ قوله: الْكاذِبُونَ، فروي: أن قوله سبحانه: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ يراد به مِقْيَسُ بنُ ضَبَابَةَ وأشباهه ممَّن كان آمن، ثم ارتد باختياره مِنْ غيرِ إِكراه. وقوله سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ، أي: كبلالٍ وعمّار بن ياسر وأمّه وخبّاب وصهيب

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 648) برقم: (21933) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 85) ، وذكره ابن عطية (3/ 421) ، وذكره ابن كثير (2/ 585) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 347) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه بسند ضعيف. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 107 إلى 109]

وأشباههم ممَّن كان يُؤْذَى في اللَّه سبحانه، فربَّما سامَحَ بعضُهم بما أراد الكَفَّارُ من القَوْل لِمَا أصابه من تَعْذيبِ الكفرة، فيروى: أنَّ عَمَّار بْنَ ياسِرٍ فعَلَ ذلك «1» ، فاستثناه الله في هذه الآية، وبقيَّة الرخْصَةِ عامَّة في الأمرْ بَعْده، ويروى أن عمَّار بنَ ياسر شكا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما صُنعَ به مِنَ العذاب، وما سَامَحَ به من القول، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ» قالَ: أَجدُهُ مُطْمِئَناً بالإِيمَانِ، قَالَ: «فأجِبْهُمْ بِلِسَانِكَ فإِنَّهُ لا يَضُرُّكَ، وإِن عادُوا فَعُدْ» «2» . وقوله سبحانه: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً معناه: انبسط إلى الكفر باختياره. ت: وقد ذكر ع «3» هنا نَبَذاً من مسائل الإكراه، تركت ذلك خشية التطويل، وإذ محلّ بسطها كتب الفقه. [سورة النحل (16) : الآيات 107 الى 109] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ... الآية: ذلِكَ إشارةٌ إِلى الغضب، والعَذَاب الذي تُوُعِّدَ به قبل هذه الآية، والضمير في أنهَمَ لَمِنْ شرح بالكُفَرُ صدْراً. [سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وقوله سبحانه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ... الآية: قال ابنُ

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 651) برقم: (21944- 21945- 21946) ، وذكره البغوي (3/ 86) ، وذكره ابن عطية (3/ 422- 423) بنحوه، وذكره ابن كثير (2/ 587) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 249) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن أبي مالك بنحوه. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 651) برقم: (21946) ، والحاكم (2/ 357) من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار، عن أبيه به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 248) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، وابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 424) .

[سورة النحل (16) : الآيات 112 إلى 115]

إسحاق: نزلَتْ هذه الآية في عَمَّار بنَ ياسِرٍ، وعَيَّاشِ بنِ أبيَ رَبيَعَةَ، والوليدِ بنِ الوليد «1» . قال ع: وذِكْرُ عَمَّارٍ في هذا عنْدي غيْرُ قويمٍ، فإنَهُ أرَفَعُ من طبقة هؤلاءِ، وإِنما هؤلاء مَنْ تَابَ ممَّن شرَحَ بالكُفْرِ صدراً، فتح اللَّه له بابَ التوبة في آخر الآية «2» ، وقال عكرمةُ والحَسَن: نزلَتْ هذه الآية في شَأنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سَرْحٍ وأشباهه «3» فكأنه يقول: مِنْ بَعْدِ ما فَتَنَهم الشَّيطانُ، وهذه الآية مدنية بلا خلافٍ، وإِن وجد، فهو ضعيفٌ، وقرأ «4» الجمهور: «مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا» مبنيًّا للمفعول، وقرأ ابن عامر وحْده: «مَنْ بَعْدِ ما فَتَنُوا» - بفتح الفاء والتاء أي فَتَنُوا أنفسهم، والضمير في بَعْدِها عائدٌ على الفِتْنَةِ، أو على الفَعْلة، أو الهجْرةُ، أو التوبة، والكلامُ يعطيها، وإن لم يَجْر لها ذكْرٌ صريُحُ. وقوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ: المعنى لغفورٌ رحيمٌ يوم، «ونَفْس» الأولى: هي النفْسُ المعروفةُ، والثانية هي بمعنى الذَّاتِ. ت: قال المهدويُّ: يجوز أنْ ينتصب يَوْمَ على تقدير لغَفُورٌ رحيمٌ يَوْمَ، فلا يوقَفُ على رَحِيمٌ. وقال ص: يَوْمَ تأتي ظرفٌ منصوبٌ ب رَحِيمٌ أو مفعولٌ به باذكر انتهى، وهذا الأخير أظهر، والله أعلم. وقوله سبحانه: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ، أي: يجازي كلُّ منْ أحْسَن بإحسانه، وكلُّ من أساء بإساءته. [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 115] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 654) برقم: (21954) ، وذكره ابن عطية (3/ 425) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 251) ، وعزاه لابن جرير، عن ابن إسحاق بنحوه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 425) . (3) أخرجه الطبري (7/ 654) برقم: (21955) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 87) ، وذكره ابن عطية (3/ 425) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 250) ، وعزاه لابن جرير. (4) ويكون المعنى على قراءة ابن عامر: أنهم هجروا أوطانهم وقد عرفوا ما في ذلك من الشدة، فيكونون فتنوا أنفسهم. ينظر: «الحجة» (5/ 79) ، و «معاني القراءات» (2/ 83) ، و «إعراب القراءات» (1/ 361) ، و «العنوان» (118) ، و «شرح الطيبة» (4/ 420) ، و «شرح شعلة» (460) ، و «حجة القراءات» (394) ، و «إتحاف» (2/ 190) .

[سورة النحل (16) : الآيات 116 إلى 118]

وقوله سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ... الآية: قال ابن عبَّاس: القرية هنا مكَّة، والمراد الضمائر كلِّها في الآيةِ أهْلُ القرية «1» ، ويتوجَّه عنْدِي في الآيةُ أنها قُصِدَ بها قريةٌ غير معَّينة جُعِلَتْ مثلاً لمكَّة، على معنى التحذير، لأهلها ولغيرها مِنَ القُرَى إِلى يوم القيامة/ وهو الذي يُفْهَمُ من كلام حَفْصَةَ أمِّ المؤُمنين، و «أَنعَم» جمع نِعْمة. وقوله سبحانه: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ استعاراتٌ، أي: لما باشرهم ذلك، صار كاللِّباس، والضميرُ في جاءَهُمْ لأهل مكَّة، والرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والْعَذابُ: الجوعُ وأَمْرُ بَدْرٍ ونحو ذلك، إن كانت الآية مدنيةً، وإن كانَتْ مكِّية، فهو الجوع فقطْ. وقوله سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً ... الآية: هذا ابتداءُ كلامٍ آخر، أي: وأنتم أيها المؤمنون، لستُمْ كهذه القريةِ فكُلُوا واشْكُروا اللَّه على تباين حَالِكم، من حال الكَفَرة، وقوله: حَلالًا حالٌ، وقوله: طَيِّباً: أي مستَلَذًّا إذ فيه ظهورُ النعمةِ، ويحتمل أن يكون «الطَّيْب» بمعنى الحلالِ، كُرِّر مبالغة وتأكيدا. [سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 118] وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) وقوله سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ... الآية: هذه الآية مخاطَبَةٌ للكفَّار الذينَ حرَّموا البحائر والسَّوائب، قال ابنُ العربيِّ «2» في «أحكامه» ومعنى الآية: لا تصفوا الأعيان بأنها حلالٌ أو حرامٌ مِنْ قِبَلِ أنفسكم، إِنما المحرِّم والمحلِّل هو اللَّه سبحانه، قال ابن وَهْب: قال مالكٌ لم يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أنْ يقال لَهُمْ: هَذَا حَلاَلٌ، وهذا حَرَامٌ، ولكنْ يقول: أَنا أَكْرَهُ هذا، ولَمْ أَكُنْ لأصنَعَ هذا، فكان النّاس

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 655) برقم: (21956) ، وذكره ابن عطية (3/ 426) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 589) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 251) ، وعزاه لابن جرير. (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1183) .

[سورة النحل (16) : الآيات 119 إلى 123]

يطيعون ذلك، ويرضَوْنَه، ومعنى هذا: أنَّ التحليل والتحريمَ إِنما هو للَّه كما تقدم بيانه، فليس لأحدٍ أنْ يصرِّح بهذا في عَيْن من الأعيانِ إلا أنْ يكون الباري تعالى يخبر بذلك عَنْه، وما يؤدِّي إِليه الاجتهادُ أنه حرامٌ يقول فيه: إِني أكْرَهُ كذا، وكذلك كان مَالِكٌ يفعلُ، اقتداء بمن تقدَّم من أهْلِ الفتوى انتهى. وقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ إشارةٌ إلى عيشهم في الدنيا، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بعد ذلك في الآخرة، وقوله: مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِشارةٌ إِلى ما في «سورة الأنعام» من ذي الظُّفَر والشُّحُوم. [سورة النحل (16) : الآيات 119 الى 123] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) وقوله سبحانه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ هذه آية تأنيسٍ لجميعِ العالم فهي تتناوَلُ كلَّ كافرٍ وعاصٍ تَابَ من سوءِ حالِهِ، قالتْ فرقة: «الجهالة» هنا: العَمْد، والجهالة عندي في هذا الموضع: ليست ضد العلْم، بل هي تَعَدِّي الطَّوْر ورُكُوب الرأْس. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَليِّ» «1» وقد تقدَّم بيان هذا، وقلَّما يوجَدُ في العصاة مَنْ لم يتقدَّم له علْم بُحَظْر المعصيةِ التي يُوَاقِع. وقوله سبحانه: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ ... الآية: لما كَشَفَ اللَّه فعْلَ اليهودِ وتحكُّمهم في شرعهم بذكْر ما حرَّم عليهم- أراد أنْ يبيِّن بُعْدَهم عن شرْعِ إِبراهيم عليه السلام، «والأمة» ، في اللغة: لفظةٌ مشتركةٌ تقع لِلْحِينِ، وللجَمْعِ الكثير، وللرَّجُل المنفردِ بطريقةٍ وحده، وعلى هذا الوجه سُمِّي إِبراهيم عليه السلام أمة، قال مجاهد: سُمِّيَ إِبراهيم أمةً لانفراده بالإِيمان في وقته مدَّةً مَّا «2» ، وفي البخاريِّ أنه قال لِسَارَةَ: «لَيْسَ عَلَى الأرْضِ اليَوْمَ مؤمنٌ غيري وغَيْرُكِ» ، وفي البخاريِّ قال ابن مسعود: الأمّة معلّم الخير

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الطبري (7/ 661) برقم: (21980) بنحوه، وذكره البغوي (8913) ، وذكره ابن عطية (3/ 430) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 591) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 253) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة النحل (16) : الآيات 124 إلى 125]

والقانِتُ «1» : المطيعُ الدائِمُ على العبادَةِ، والحَنِيف: المائلُ إلى الخير والصَّلاح. / وقوله سبحانه: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، الآية «الحسنةُ» : لسَانُ الصدق، وإِمامته لجميعِ الخَلْق هذا قول جميع المفسِّرين، وذلك أنَّ كل أمةٍ متشرِّعة، فهي مقرَّة أنَّ إِيمانها إِيمان إِبراهيم، وأنه قُدْوَتُها، وأنه كان على الصواب. ت: وهذا كلامٌ فيه بعض إِجمالٍ، وقد تقدَّم في غير هذا الموضعِ بيانه، فلا نطوِّل بسَرْده. وقوله سبحانه: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ... الآية: الملة: الطريقة في عقائد الشّرع. [سورة النحل (16) : الآيات 124 الى 125] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وقوله سبحانه: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ... الآية: أي: لم يكُنْ من ملَّة إِبراهيم، وإِنما جعل اللَّه فرضاً عاقب به القَوْمَ المُخْتَلِفين فيه قاله ابن زَيْد وذلك أن موسى عليه السلام أَمَرَ بَنِي إسرائيل أنْ يجعلوا من الجمعة يوماً مختصًّا بالعبادة، وأمرهم أنْ يكون الجُمُعَةَ، فقال جمهورهم: بلْ يكونُ يَوْمَ السَّبْتِ لأن اللَّه تعالى فَرَغَ فيه من خَلْق مخلوقاته، وقال غيرهم: بَلْ نقبَلُ ما أمَرَ به موسى، فراجَعَهم الجمهورُ، فتابعهم الآخرون، فألزمهم اللَّهُ يَوْمَ السْبتِ إِلزاماً قويًّا، عقوبةً لهم، ثم لم يكُنْ منهم ثبوتٌ، بل عَصَوْا فيه، وتعدَّوْا فأهلكهم «2» ، وورد في الحديث الصحيح، أنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى اختلفوا في اليوم الذي يختصُّ من الجمعة، فأخذ هؤلاء السبْتَ، وأخَذَ هؤلاء الأحدَ، فهدانا اللَّهَ نحْنُ إلى يوم الجمعة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفوا فِيهِ» «3» فَلَيْسَ الاختلافُ المذكورُ في الآية هو الاختلافَ في هذا الحديث.

_ (1) أخرجه الطبري (7/ 65) برقم: (21971) ، وذكره البغوي (3/ 89) ، وذكره ابن عطية (3/ 430) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 591) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 253) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم صححه. (2) ذكره ابن عطية (3/ 431) . (3) سيأتي تخريجه. [.....]

[سورة النحل (16) : الآيات 126 إلى 128]

ت: يعنى أنَّ الاختلاف المذكورَ في الآيةِ هو بَيْنَ اليهود فيما بينهم، والاختلاف المذكور في الحديثِ الصحيحِ هو فيما بَيْنَ اليهودِ والنصارى. وقوله سبحانه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ هذه الآيةُ نزلَتْ بمكَّة، أمر عليه السلام أنْ يدعو إِلى دينِ اللَّه وشَرْعِهِ بتلطُّف، وهكذا ينبغى أنْ يوعَظَ المسلمون إلى يوم القيامة. [سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) وقوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... الآية: أطبق أهْل التفسير أنَّ هذه الآية مدنيَّة، نزلَتْ في شأن التمثيل بَحْمَزة وغيره في يَوْمِ أحُدِ، ووقع ذلك في «صحيح البخاريّ» وغيره، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لأُمثِّلَنَّ بِثَلاَثِين» «1» كتاب «النْحَّاس» وغيره: «بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ» ، فقال الناس: إِنْ ظفرنا، لنفعلَنَّ ولنفعَلنَّ، فنزلَتْ هذه الآية، ثم عزم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الصَّبْر عن المجازاة بالتمثيل في القتلى، ويروى أنه عليه السلام قَالَ لأصحابه: «أَمَّا أنا فَأصْبِرُ كَمَا أُمِرْتُ، فَمَاذَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: نَصْبِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كما نُدِبْنَا!!!» . وقوله: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بمعونة اللَّهِ وتأييده على ذلك. وقوله سبحانه: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قيل: الضمير في قوله: عَلَيْهِمْ يعودُ على الكفار، أي: لا تتأسّف على أنْ لم يُسْلِمُوا، وقالتْ فرقة: بل يعودُ على القَتْلى حمزة وأصحابه الذين حَزِنَ عليهم صلّى الله عليه وسلّم والأولُ أصوبُ. وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ قرأ الجمهور «2» : «في ضَيْقٍ» - بفتح الضاد-، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، وهما لغتان. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا: أي بالنصْرِ والمعونة، واتَّقَوْا يريد المعاصي، ومُحْسِنُونَ هم الذين يتزيَّدون فيما نُدِبَ إِليه من فِعْلِ الخَيْرِ/ وصلَّى اللَّهُ على سَيِّدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلّم تسليما.

_ (1) بهذا اللفظ ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 255- 256) ، وعزاه لابن أبي إسحاق، وابن جرير. (2) ينظر: «السبعة» (376) ، و «الحجة» (5/ 80) ، و «إعراب القراءات» (1/ 361) ، و «معاني القراءات» (2/ 84) ، و «شرح الطيبة» (4/ 420) ، و «شرح شعلة» (460) ، و «العنوان» (118) ، و «حجة القراءات» (395) و «إتحاف» (2/ 191) .

تفسير سورة الإسراء

تفسير سورة الإسراء هذه السورة مكّيّة إلا ثلاث آيات، قال ابن مسعود: في «بني إسرائيل» ، و «الكهف» : إنها من العتاق الأول، وهنّ من تلادي، يريد أنّهنّ من قديم كسبه «1» . [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) قوله عزَّ وجلَّ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: جل العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلّى الله عليه وسلّم، وأنه ركِب البُرَاق من مكَّة، ووصل إِلى بيت المقدس، وصلَّى فيه، وقالتْ عائشة ومعاوية: إِنما أُسْرِي بِرُوحه «2» ، والصحيحُ ما ذهب إليه الجمهورُ، ولو كانتْ منامةً، ما أمكن قريشاً التشنيعُ، ولا فُضِّل أبو بكر بالتصديق، ولا قالَتْ له أمُّ هانىء: لا تحدِّث الناس بهذا، فيكذِّبوك، إِلى غير هذا من الدلائل، وأما قول عائشة فإنها كانت صغيرة، ولا حدثت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك معاوية. قال ابن «3» العربيِّ: قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا قال علماؤنا: لو كان للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم اسم هو أشرَفُ منه، لسماه اللَّه تعالى به في تلك الحَالةِ العَلِيَّة، وقد قال الأستاذ جمال الإِسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هَوَازِنَ: لما رَفَعه اللَّه إِلى حضرته السَّنِيَّةِ وأرقاه فوق الكواكِب العُلْويَّة الزمه اسم العبوديَّة، تواضُعاً وإِجلالاً للألوهية. انتهى من «الأحكام» . وسُبْحانَ مصدر معناه: تنزيهاً للَّه، وروى طلحة بن عبيد اللَّه الفَيَّاض أحد العَشَرة، أنه قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما معنى سبحان اللَّه؟ قال: تَنْزِيهُ اللَّه من كلّ سوء «4» ، وكان

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 434) . (2) أخرجه الطبري (8/ 16) برقم: (22033) ، وذكره البغوي، وابن عطية (3/ 434) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1192) . (4) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 97- 98) . وقال: رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وهو ضعيف بسبب هذا، وغيره.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 إلى 4]

الإسراء فيما قال مقاتِلٌ وقتادةُ: قبل الهجرة بعامٍ «1» ، وقيل: بعام ونصفٍ، والمتحقِّق أن ذلك كان بَعْدَ شَقِّ الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في «الصحيحين» لشَرِيك بن أبي نَمِرٍ، وَهْمٌ في هذا المعنى فإنه روى حديثَ الإِسراء، فقال فيه: وذلك قبل أنْ يوحى إِليه، ولا خلاف بين المحدِّثين أن هذا وَهْمَ من شريك. قال ص: أَسْرى بِعَبْدِهِ بمعنى: سَرَى، وليست همزتُهُ للتعدية، بل ك «سقى وأسقى» ، والباء للتعدية، ولَيْلًا ظرفٌ للتأكيد لأن السُّرَى لا يكون لغةً إِلا بليلٍ، وقيل: يعنى به في جوف الليل، فلم يكن إِدْلاجاً ولا ادلاجا انتهى. والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: بيت المقدس، «والأقصى» البعيدُ، والبركة حولَهُ منْ وجهين: أحدهما، النبوَّة والشرائعُ والرسُل الذين كانوا في ذَلِكَ القُطْر، وفي نواحيه. والآخر: النِّعَم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة. وقوله سبحانه: لِنُرِيَهُ يريد لنري محمَّداً بعينه آياتنا في السموات والملائكة والجَنَّةَ والسِّدْرةَ وغير ذلك من العجائبِ، مما رآه تلك الليلة، ولا خلاف أنَّ في هذا الإِسراء فُرِضَت الصلواتُ الخمسُ على هذه الأمة. وقوله سبحانه: إِنَّهُ هُوَ/ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد للمكذِّبين بأمر الإِسراء، أي: هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 4] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي: التوراة. وقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ... الآية: التقديرُ: فعلنا ذلك لَئِلاَّ تتخذوا يا ذرية ف ذُرِّيَّةَ: منصوب على النداء، وهذه مخاطبة للعالَم، ويتجه نصبُ (ذرِّيَّة) على أنه مفعول ب «تتخذوا» ، ويكون المعنى أَلاَّ يتخذوا بشراً إِلاها من دون الله، وقرأ أبو عمرو «2»

_ (1) ذكره البغوي (3/ 92) ، وابن عطية (3/ 435) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن مردويه، عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عن أَبِيهِ، عَنْ جده. (2) وحجته أن الفعل قرب من الخبر عن بني إسرائيل، فجعل الفعل مسندا إليهم، والمعنى حينئذ: جعلناه هدى لبني إسرائيل، لئلا يتخذوا من دوني وكيلا.

وحده: «أَلاَّ يَتَّخِذُوا» بالياء، على لفظ الغائب، «والوكيل» هنا من التوكيل، أي: متوكَّلاً عليه في الأمور، فهو ندٌّ للَّه بهذا الوجه، وقال مجاهد: وَكِيلًا: شريكاً «1» ، ووصف نوح بالشُّكْر لأنه كان يحمد اللَّه في كل حالٍ، وعلى كل نعمةٍ من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلّى الله عليه وسلّم، قاله سلمانُ الفارسيُّ وغيره «2» ، وقال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا ابنُ أبي ذئبٍ عن سعيدٍ المُقْبُرِيِّ عن أبيه عن عبد الله بن سَلاَمٍ: أن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، ما الشكْرُ الذي ينبغي لَكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِي «3» ، انتهى، وقد رُوِّيناه مسنداً عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعني قوله: «لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّه» «4» . وقوله سبحانَهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: قالتْ فرقة: قَضَيْنا معناه: في أم الكتاب. قال ع «5» : وإنما يُلْبِسُ في هذا المكان تعديةُ قَضَيْنا ب «إلى» ، وتلخيصُ المعنى عندي: أنَّ هذا الأمر هو مما قضاه اللَّه عزَّ وجلَّ في أمِّ الكتاب على بني إسرائيل،

_ ينظر: «السبعة» (378) ، و «الحجة» (5/ 83) ، و «إعراب القراءات» (1/ 363) ، و «معاني القراءات» (2/ 87) ، و «شرح الطيبة» (4/ 422) ، و «العنوان» (119) ، و «شرح شعلة» (461) ، و «حجة القراءات» (396) ، و «إتحاف» (2/ 193) . (1) أخرجه الطبري (8/ 17) برقم: (22036) ، وذكره ابن عطية (3/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 294) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (8/ 19) برقم: (22044) ، وذكره ابن عطية (3/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 294) ، وعزاه للفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (3) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (330) رقم: (942) . (4) أخرجه الترمذي (5/ 458) كتاب «الدعوات» باب: ما جاء في فضل الذكر حديث (3375) ، وابن ماجه (2/ 1246) كتاب «الأدب» باب: فضل الذكر، حديث (3793) ، وابن أبي شيبة (10/ 301) رقم: (5902) ، وأحمد (4/ 190) ، وفي «الزهد» ص: (35) ، والحاكم (1/ 495) ، وابن حبان (2317- موارد) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 51) ، وابن المبارك في «الزهد» ص: (328) رقم: (935) ، والبيهقي (3/ 371) كتاب «الجنائز» باب: طوبى لحسن طال عمره وحسن عمله، كلهم من طريق عمرو بن قيس الكندي، عن عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله أخبرني بأمر أتشبث به، قال: فذكر الحديث. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 437) . [.....]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 5 إلى 8]

وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التَّوْرَاة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمريْنِ جميعاً في إيجازٍ، جعل قَضَيْنا دالَّة على النفوذ في أم الكتاب، وقَرَن بها «إِلى» دالَّةً على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصودُ مفهومٌ خلالَ هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابنُ عباس مرةً بأن قال: قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، معناه: أعلمناهم «1» ، وقال مرّة: «قضينا عليهم «2» » ، والْكِتابِ هنا التوراةُ لأن القَسَم في قوله: لَتُفْسِدُنَّ غير متوجِّه مع أنْ نجعل الْكِتابِ هو اللوح المحفوظ. وقال ص: وقَضَيْنا: مضمَّنٌ معنى «أوْحَيْنَا» ولذلك تعدَّى ب «إلى» ، وأصله أنْ يتعدَّى بنفسه إِلى مفعولٍ واحدٍ كقوله سبحانه: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص: 29] انتهى، وهو حسنٌ موافق لكلام ع، وقوله «ولتعلُنَّ» أي: لتتجبَّرُنَّ، وتطلبون في الأرض العُلوَّ، ومقتضى الآيات أن اللَّه سبحانه أعْلَمَ بني إسرائيل في التوراة، أنه سيقع منهم عصيانٌ وكفرٌ لِنِعمِ اللَّه، وأنه سيرسل عليهم أمةً تغلبهم وتذلُّهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكَرَّة ويردُّهم إلى حالهم من الظهور، ثم تقع منهم أيضاً تلك المعاصِي والقبائِحَ، فيبعث اللَّه تعالى عليهم أمةً أخرى تخرِّب ديارهم، وتقتلُهم، وتجليهم جلاءً، مبرِّحاً، وأعطى الوجودَ بعد ذلك هذا الأمْرَ كلَّه، قيل: كان بين المرتَيْنِ مِائَتَا سنةٍ، وعَشْرُ سنينَ مُلْكاً مؤيّدا بأنبياء، وقيل: سبعون سنة. [سورة الإسراء (17) : الآيات 5 الى 8] فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) وقوله سبحانه: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما الضمير في قوله: أُولاهُما عائدٌ/ على قوله مَرَّتَيْنِ، وعبَّر عن الشر ب «الوعد» لأنه قد صرَّح بذكْرِ المعاقبة. قال ص: وَعْدُ أُولاهُما، أي: موعود، وهو العقاب، لأن الوعد سبق

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 20) برقم: (22051) ، وذكره ابن عطية (3/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 295) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما. (2) أخرجه الطبري (8/ 20) برقم: (22052) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 296) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

بذلك، وقيلَ: هو على حذف مضاف، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى، وهو معنى ما تقدَّم واختلف الناس في العبيد المبعوثِينَ، وفي صورة الحال اختلافا شديداً متباعِداً، عيونُهُ أنَّ بني إِسرائيل عَصَوْا وقتلوا زكريَّاء عليه السلام، فغزاهُمْ سِنْجارِيبُ مَلِك بابل، قاله ابن إسحاق وابن جَبْير «1» . وقال ابن عباس: غزاهُمْ جالوتُ من أهْل الجزيرة «2» ، وقيل: غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ، وروي أنه دخل قَبْلُ في جيش من الفرس، وهو خامل يسير في مَطْبَخ الملك، فاطلع مِنْ جور بني إِسرائيل على ما لم تعلمه الفُرْسُ، فَلمَّا انصرف الجيشُ، ذكر ذلك للملك الأعظَمِ، فلما كان بعد مدَّة، جعله الملك رئيسَ جيشٍ، وبعثه فخرَّب بيت المقدس، وقتلهم، وأجلاهم، ثم انصرَفَ، فوجد المَلِكَ قد ماتَ، فمَلَكَ موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرْضَ بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ في المرَّة الأخيرة حين عَصَوْا وقتلوا يحيى بن زَكَرِيَّاءَ، وصورة قتله: أن الملك أراد أنْ يتزوج بِنْتَ امرأته، فنهاه يحيى عَنْها، فعزَّ ذلك على امرأته، فزَّينت بنْتَها، وجعَلَتها تسقي المَلِك الخمر، وقالت لها: إِذا راوَدَكَ عن نفسك، فتمنَّعي حَتَّى يعطيَكِ المَلِكُ ما تَتَمَنَّيْنَ، فإِذا قال لك: تَمنِّي عَلَيَّ ما أردتِّ، فقولي: رأسَ يحيى بن زكرياء، ففعلَتِ الجارية ذلك، فردَّها الملك مرَّتَيْنِ، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأْسِ في طَسْتٍ، ولسانُهُ يتكلَّم، وهو يقول: لا تحلُّ لك، وجرى دمُ يحيى، فلم ينقطعْ، فجعل الملك عليه التُرابَ، حتى ساوى سور المدينةِ، والدمُ ينبعث، فلما غزاهم المَلِكُ الذي بُعِثَ عليهم بحسب الخِلاَفِ الذي فيه، قَتَلَ منهم على الدمِ سبعين ألْفاً حتى سكَنَ، هذا مقتضى خبرهم، وفي بعض الروايات زيادة ونقصٌ، وقرأ الناس: «فَجَاسُوا» ، وقرأ أبو السَّمَّال «3» : بالحاء، وهما بمعنى الغلبةِ والدخولِ قهراً، وقال مُؤَرِّجٌ: جاسوا خلال الأزقّة. ت قال ص: فَجاسُوا مضارعه يجوس، ومصدره جوس وجوسان،

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 27) برقم: (22068) ، وذكره البغوي (3/ 106) ، وابن عطية (3/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 25) . (2) أخرجه الطبري (8/ 227) برقم: (22065) ، وذكره ابن عطية (3/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 25) . (3) ينظر: «المحتسب» (2/ 15) ، وقرأ بها طلحة كما في «الكشاف» (2/ 649) ، وينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 439) ، و «البحر المحيط» (6/ 9) ، و «الدر المصون» (4/ 372) ، ووقع في «مختصر الشواذ» ص: (78) ، نسبتها إلى أبي السمال بالحاء والشين «فحاشوا» .

ومعناه: التردّد، وخِلالَ ظرف، أي: وسط الديار انتهى. وقوله سبحانه: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ... الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إِسرائيل في التوراة، وجعل «رددنا» موضع «نَرُدُّ» ، لما كان وعد اللَّه في غاية الثِّقَة، وأنه واقع لا محالة، فعبَّر عن المستقبل بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى، كما وصفْنا، فغَلَبَتْ بنو إِسرائيل على بيت المقدس، وملَكُوا فيه، وحَسُنت حالهم بُرْهةً من الدهْرِ، وأعطاهم اللَّه الأموالَ والأولادَ وجعلَهم إِذا نفروا إِلى أمْرٍ أكثر النَّاس، فلما قال اللَّه: إِني سأفعل بكم هكذا، عقّب بوصيَّتهم في قوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ... الآية، المعنى: إنكم بعملكم تجازون، ووَعْدُ الْآخِرَةِ معناه: من المرّتين. / وقوله: لِيَسُوؤُا اللام لام أمْرِ، وقيل: المعنى: بعثناهم، ليسوؤوا وليدخلوا، فهي لام كْيِ كلّها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، والْمَسْجِدَ مسجد بيت المقدس، «وتَبَّر» معناه: أفسد بغشمٍ وركوب رأْس. وقوله: مَا عَلَوْا، أي: ما علوا عليه من الأقطار، وملكوه من البلاد، وقيل: «ما» ظرفية، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد. وقوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ... الآية: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ لبقية بني إِسرائيل: عسى ربكم إِن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أنْ يرحمكم، وهذه العِدَةُ ليست برجوعِ دولةٍ، وإِنما هي بأنْ يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمَّد عليهما السلام، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقابُ اللَّه عليهم بِضَرْبِ الذَّلة عليهم، وقتلِهمْ وإذلالِهمْ بِيَدِ كلِّ أمة، و «الحصير» : من الحَصْر بمعنى السَّجْن، وبنحو هذا فسَّره مجاهد وغيره «1» ، وقال الحسن: «الحصير» في الآية: أراد به ما يفترشُ ويُبْسَطُ كالحصير المعروف عند الناس «2» . قال ع «3» : وذلك الحصيرُ أيضا هو مأخوذ من الحصر.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 42) برقم: (22106) ، ذكره ابن عطية (3/ 440) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 300) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (8/ 42) برقم: (22109) ، وذكره البغوي (3/ 107) ، وابن عطية (3/ 440) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 300) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 440) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 إلى 10]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وقوله سبحانه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... الآية: يَهْدِي، في هذه الآية بمعنى يرشدُ، ويتوجَّه فيها أن تكون بمعنى «يدعو» و «التي» يريد بها الحالَةَ والطريقةَ، وقالتْ فرقة: «التي هي أقوم» : لا إله إِلا اللَّه، والأول أعمُّ، «والأجر الكبير» الجنة وكذلك حيثُ وقع في كتاب اللَّه فضْلُ كبير، وأجرٌ كبيرٌ، فهو الجنة، قال البَاجِيُّ قال ابنُ وَهْبٍ: سمعتُ مالكاً يقول: إِن استطعت أن تجعل القرآن إِماماً، فافعلْ، فهو الإِمام الذي يهدي إِلى الجَنَّة. قال أبو سليمان الدارانيُّ: ربَّما أقَمْتُ في الآية الواحدةِ خَمْسَ ليالٍ، ولولا أني أدَعُ التفكُّر فيها، ما جزتها، وقال: إنما يُؤتَى على أحدكم من أنه إِذا ابتدأ السورة، أراد آخرها. قال الباجيُّ. وروى ابن لبابة عن العتبي عن سُحْنُون أنه رأى عبد الرحمن بن القاسم في النومِ، فقال له: ما فعلَ اللَّهُ بك؟ قال: وَجَدتُّ عنده ما أَحْبَبْتُ! قال له: فأي أعمالِكَ وجدتَّ أفضلَ؟ قال: تلاوة القرآن، قال: قلتُ له: فالمسائلُ، فكان يشير بأصبعه كأنه يلشيها، فكنت أسأله عن ابن وَهْب، فيقول لي: هو في عِلِّيِّينَ. انتهى من «سنن الصالحين» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 11 الى 12] وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وقوله سبحانه: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا: سقطت الواوُ من يَدْعُ في خطِّ المصحف «1» . قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلَتْ ذامَّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم في وقت الغَضَبَ والضَّجَر، فأخبر سبحانه أنهم يدْعُون بالشرِّ في ذلك الوقتِ، كما يدعون بالخير في وقت التثبُّت، فلو أجاب اللَّه دعاءهم، أهلكهم، لكَّنه سبحانه يصفَحُ ولا يجيبُ دعاء الضَّجر المستعجل «2» ، ثم عَذَرَ سبحانه بعض العُذْرَ في أن الإنسان له عجلة

_ (1) قال الشيخ البنا: «واتفقوا على كتابة «ويدع الإنسان» بحذف الواو» . ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 207) . (2) أخرجه الطبري (8/ 44) برقم: (22112) ، وذكره ابن عطية (3/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 301) ، وعزاه لابن جرير.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 إلى 15]

فطرية، والْإِنْسانُ هنا: يراد به/ الجنْس قاله مجاهد وغيره «1» . وقال ابن عباس وسليمان: الإِشارة إِلى آدم لما نفخ الرَّوح في رأسه، عَطَس وأبصر، فلما مشى الرُّوح في بدنه قبل ساقيه، أعجبته نفسه، فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك «2» ، فلم يقدر، والمعنى على هذا فأنتم ذَوُوا عجَلةٍ موروثةٍ من أبيكم، وقالت فرقة: معنى الآية: معاتبة الناس في دعائهم بالشرِّ مكانَ ما يجبُ أنْ يدعوه بالخير. ت: قول هذه الفرقة نقله ع «3» غير ملخَّص، فأنا لخَّصته. وقوله سبحانه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ... الآية هنا العلامةُ المنْصُوبة للنَّظَر والعبرة. وقوله سبحانه: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قالتْ فيه فرقة: سببُ تعقيب الفاء أن اللَّه تعالى خَلَق الشمْسَ والقَمَر مضيئَيْنِ، فمحا بعد ذلك القَمَرَ، محاه جبريلُ بجناحه ثلاثَ مرَّات، فمِنْ هنالك كَلَفُهُ، وقالت فرقة: إِن قوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ إِنما يريدُ في أصْلِ خلقته، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، أي: يُبْصَرُ بها ومعها، ليبتغي الناس الرزَقَ وَفَضْلَ اللَّهِ، وجعَلَ سبحانه القمَرَ مخالفاً لحالِ الشمْسِ ليعلم به العدَدُ من السنينَ والحسابُ للأشهرِ والأيامِ، ومعرفةُ ذلك في الشرْعِ إِنما هو من جهة القمرِ، لا من جهة الشمس، وحكى عياضٌ في «المدارك» في ترجمة الغازي بن قَيْس قال: روي عن الغازي بن قَيْس أنه كان يقول: ما مِنْ يومٍ يأتي إِلاَّ ويقولُ: أَنَا خَلْقٌ جَدِيد، وعَلَى مَا يُفْعَلُ فيَّ شَهِيد، فَخُذُوا مِنِّي قَبْلَ أنْ أَبِيد، فإِذا أمْسى ذلك اليومُ، خَرَّ للَّهِ ساجِداً، وقال: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلنِي الَيْوَم العَقيم. انتهى. «والتفصيل» البيان. [سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 15] وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وقوله سبحانه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ قال ابن عباس: طائِرَهُ ما قدّر له

_ (1) ذكره الطبري (8/ 45) ، وذكره ابن عطية (3/ 441) . (2) أخرجه الطبري (8/ 45) برقم: (22117) ، وذكره ابن عطية (3/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 301) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وابن عساكر. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 441) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 16 إلى 20]

وعليه «1» ، وخاطب اللَّه العربَ في هذه الآية بما تَعْرِف، وذلك أنه كان مِنْ عادتها التيمُّنُ والتشاؤم بالطَّيْر في كونها سانحةً وبارحةً، وكَثُر ذلك حتَّى فعلته بالظِّباء وحيوانِ الفَلاَ، وسمَّت ذلك كلَّه تَطَيُّراً، وكانتْ تعتقدُ أنَّ تلك الطِّيَرَةَ قاضية بما يلقي الإِنسان من خيرٍ وشرٍّ، فأخبرهم اللَّه تعالى في هذه الآية بأوجز لفظٍ، وأبلغِ إشارةٍ، أن جميع ما يلقى الإنسانُ من خير وشر قد سَبَقَ به القضاء، وألزم حظه وعمله وتكسُّبه في عنقه، وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، فعَّبر عن الحظِّ والعمل إِذ هما متلازمانِ، بالطائر قاله مجاهد وقتادة «2» ، بحسب معتقد العرب في التطيُّرِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً: هذا الكتابُ هو عمل الإِنسان وخطيئاته، اقْرَأْ كِتابَكَ أي: يقال له: اقرأ كتابك، وأسند الطبريُّ عن الحسن، أنه قال: يا ابن آدم بُسِطَتْ لك صحيفةُ، ووُكِلَ بك مَلَكَانِ كريمانِ أحدهما عن يمينِكَ يكتُبُ حسناتِكَ، والآخر عن شمالِكَ يحفظُ سيئاتكَ، فأَمْلِلْ ما شئْتَ وأقلِلْ أو أكِثْر حتَّى إِذا مُتَّ طُوِيَتْ صحيفتُكَ فجعلَتْ في عنقك معَكَ في قَبْرك حتى تَخْرُجَ لك/ يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً قد عَدَلَ واللَّه فيكَ، مَنْ جعلك حسيبَ نَفْسك «3» . قال ع «4» فعلى هذه الألفاظِ التي ذكر الحسنُ يكون الطائرُ ما يتحصَّل مع ابْنِ آدم من عمله في قَبْره، فتأمَّل لفظه، وهذا قول ابن عباس «5» ، وقال قتادة في قوله: اقرأ كتابك: إِنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ «6» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 20] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 47) برقم: (22133) ، وذكره البغوي (3/ 108) ، وذكره ابن عطية (3/ 442) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 303) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....] (2) أخرجه الطبري (8/ 47) برقم: (22133) ، وذكره البغوي (3/ 108) ، وابن عطية (3/ 442) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 303) ، وعزاه لأبي داود في كتاب «القدر» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ذكره البغوي (3/ 108) ، وذكره ابن عطية (3/ 443) ، وذكره ابن كثير (3/ 28) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 304) ، وعزاه لابن جرير. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (443) . (5) أخرجه الطبري (8/ 49) برقم: (22141) ، وذكره البغوي (3/ 108) ، وابن عطية (3/ 443) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 28) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 304) ، وعزاه لابن جرير. (6) أخرجه الطبري (8/ 50) برقم: (22145) ، وذكره البغوي (3/ 108) ، وابن عطية (3/ 443) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 304) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقوله سبحانه: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها قرأ الجمهور «1» : «أَمَرْنَا» على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما رُوِيَ عنهما: «آمَرْنَا» بمد الهمزة بمعنى كَثَّرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: «أَمَّرْنَا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النَّهْديِّ، وأبي العاليةِ وابن عبَّاسِ، ورُوِيَتْ عن علي، قال الطبري «2» القراءة الأولى معناها: أمرناهم بالطَّاعة، فعصَوْا وفَسَقُوا فيها، وهو قولُ ابن عباس «3» وابنِ جبير، والثانية: معناها: كَثَّرناهم، والثالثة: هي من الإِمارَةِ، أي ملَّكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عُبَيْد وأبو حاتمٍ قراءة الجمهور، قال أبو عُبَيْد: وإِنما اخترْتُ هذه القراءة، لأنَّ المعاني الثلاثةَ مجتمعةٌ فيها، وهي معنى الأمْرِ والإِمارة والكثرة انتهى. ت: وعبارة ابن العربي «4» : أَمَرْنا مُتْرَفِيها يعني بالطاعة، ففسقوا بالمخالَفَة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، «والمترف» : الغنيُّ من المالِ المتنعِّم، والتُّرْفَةُ: النِّعمة، وفي مُصْحف أبيِّ بن كعب: «قَرْيَةً بَعَثْنَا أكابِرَ مُجْرِمِيها فَمَكَرُوا فيها» . وقوله سبحانه: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ، أي: وعيدُ اللَّه لها الذي قاله رسولهم، «والتدميرُ» الإِهلاك مع طَمْس الآثار وهَدْمِ البناء. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ... الآية: مثال لقريشٍ ووعيدٌ لهم، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه إِن كذبتم، واختلف في القرن، وقد روى محمَّد بن القاسم في خَتْنِهِ «5» عَبْد اللَّه بن بُسْر، قال: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَدَهُ على رأسه، وقال: «سَيَعِيشُ هَذَا الغُلاَمُ قرنا»

_ (1) ينظر: اختلاف القراء في هذا الحرف في: «السبعة» (379) ، و «الحجة» (5/ 91) ، و «معاني القراءات» (2/ 89) ، و «شرح الطيبة» (4/ 426) ، و «إتحاف» (2/ 195) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 444) ، و «البحر المحيط» (6/ 17) ، و «الدر المصون» (4/ 379) ، و «المحتسب» (2/ 15) . (2) ينظر: «الطبري» (8/ 51) . (3) أخرجه الطبري (8/ 51) برقم: (22150) ، وذكره ابن عطية (3/ 444) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 33) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 307) ، وعزاه لابن جرير. (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1196) . (5) في الحديث: علي ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أي زوج ابنته. ينظر: «لسان العرب» (ختن) .

قُلْتُ: كم القَرْنُ؟ قالَ: مِائَةُ سنة «1» قال محمد بن القاسِمِ: فما زِلْنَا نَعُدُّ له حتى كمل مائة سنة، ثم مات رحمه الله. والباء في قوله: بِرَبِّكَ زائدةٌ، التقديرٌ وكفَى ربُّكَ، وهذه الباء إِنما تجيء في الأغلب في مَدْحٍ أو ذمٍّ، وقد يجيء «كَفَى» دون باء، كقول الشاعر: [الطويل] ... كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلاَمُ لِلمَرْءِ ناهِيَا «2» وكقول الآخر: [الطويل] وَيُخْبرُني عَنْ غَائِبِ المَرْءِ هَدْيُهُ ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرَا «3» وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ... الآية: المعنى فإِن اللَّه يعجِّل لمن يريدُ من هؤلاء ما يشاء سبحانه على قراءة النون «4» ، أو ما يشاء هذا المريد على قراءة الياء، وقوله: لِمَنْ نُرِيدُ شرط كافٍ على القراءتين، وقال أبو إسحاق الفَزَارِيُّ: المعني: لِمَنْ نريدُ هَلَكَتَه «5» ، و «المدحورُ» : المهان المُبْعَدُ المذَّلل المسخُوطُ عليه. وقوله سبحانه: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، أي: إِرادَة يقينِ وإِيمانٍ بها، وباللَّهِ ورسالاتِهِ، ثم شرَطَ/ سبحانه في مريدِ الآخرة أنْ يَسَعى لها سَعْيَها، وهو ملازمة أعمال الخير على

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (15/ 44) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 71) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. (2) عجز بيت وصدره: عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... ينظر: «الإنصاف» (1/ 168) ، و «خزانة الأدب» (1/ 267) ، (2/ 102- 103) ، و «سر صناعة الإعراب» (1/ 141) ، و «شرح التصريح» (2/ 88) ، و «شرح شواهد المغني» (1/ 325) ، و «الكتاب» (2/ 26) ، (4/ 225) ، و «لسان العرب» (15/ 226) (كفى) ، و «مغني اللبيب» (1/ 106) ، و «المقاصد النحويّة» (3/ 665) ، وبلا نسبة في «أسرار العربيّة» ص: (144) ، و «أوضح المسالك» (3/ 253) ، و «شرح الأشموني» (2/ 364) ، و «شرح عمدة الحافظ» ص: (425) ، و «شرح قطر الندى» ص: (323) ، و «شرح المفصل» (2/ 115) ، (7/ 84) ، (148) ، (8/ 24، 93، 138) ، و «لسان العرب» (15/ 344) (نهى) . (3) البيت لزياد بن زيد العدوي، ينظر: في «الغراء» (2/ 119) ، و «التهذيب» ، و «اللسان» (هدى) ، و «البحر» (6/ 14) ، و «الدر» (4/ 377) . (4) قرأ الجمهور بالنون «نشاء» . ونافع «يشاء» بالياء من تحت. ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 446) ، و «البحر المحيط» (6/ 18) . [.....] (5) أخرجه الطبري (8/ 55) برقم: (22171) ، وذكره ابن عطية (3/ 446) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 21 إلى 22]

حُكْم الشرع، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ولا يشكر اللَّه سعياً ولا عملاً إِلا أثابَ عليه، وغفر بسببه ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديثِ الرجُلِ الذي سَقَى الكَلْبَ العاطِشَ: «فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ له «1» » . وقوله سبحانه: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يحتملُ أنْ يريد ب «العطاء» الطاعات لمريد الآخرةِ، والمعاصي لمريد العاجلةِ، وروي هذا التأويل عن ابن «2» عباس، ويحتمل أن يريد بالعطاء رزقَ الدنيا، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن، وقتادة «3» ، المعنى أنه سبحانه يرزقُ في الدنيا من يريد العاجلَة ومريدَ الآخرة، وإِنما يقع التفاضُلُ والتبايُنُ في الآخرةِ، ويتناسَبُ هذا المعنى مع قوله: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً، أي: ممنوعاً، وقَلَّمَا تصلح هذه العبارةُ لمن يمدّ بالمعاصي. [سورة الإسراء (17) : الآيات 21 الى 22] انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وقوله: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ الآية تُدلُّ دلالةً ما على أن العطاء في التي قبلها الرْزُق، وباقي الآية معناه أوضَحُ من أن يبيَّن. وقوله سبحانه: لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا هذه الآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد لجميعِ الخلقِ، قاله الطبري «4» وغيره، ولا مريةَ في ذمِّ مَنْ نحت عوداً أو حجراً، وأشركه في عبادة ربه. قال ص: فَتَقْعُدَ، أي: فتصير بهذا فسره الفراء وغيرهُ اه. «والخذلان» في هذا بإِسلام اللَّه لعبده، ألا يتكفَّل له بنصرٍ، والمخذولُ الذي أسلمه ناصروه، والخاذل من الظباء التي تترك ولدها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 28] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)

_ (1) أخرجه البخاري (10/ 452) كتاب «الأدب» باب: رحمة الناس والبهائم، حديث (6009) من حديث أبي هريرة. (2) ذكره ابن عطية (3/ 446) . (3) أخرجه الطبري (8/ 56) برقم: (22175) وبرقم: (22177) ، وذكره ابن عطية (3/ 446) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ((4/ 308) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية» . (4) ينظر: «الطبري» (8/ 57) .

وقوله سبحانه: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... الآية: قَضى، في هذه الآية: هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس، وأقول: إن المعنى وقَضَى ربك أمره، فالمقضِيُّ هنا هو الأمْرُ، وفي مصحفِ ابن مسعود «1» : «وَوَصَّى رَبُّكَ» ، وهي قراءة ابن عباس وغيره، والضمير في تَعْبُدُوا لجميع الخلق وعلى هذا التأويل مضى السلفُ والجمهور، ويحتمل أنْ يكون قَضى على مشهورها في الكلامِ، ويكون الضمير في تَعْبُدُوا للمؤمنين من الناس إِلى يوم القيامة. وقوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ معنى اللفظة أنها اسمُ فعل كأن الذي يريد أن يقول: أَضْجَرُ أو أتقذَّرُ أو أكْرَه، ونحوَ هذا، يعبِّر إيجازاً بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعْل المذكورِ، وإذا كان النهْيُ عن التأفيفِ فما فوقه من باب أحَرى، وهذا هو مفهومُ الخِطَابِ الذي المسكُوتُ عنه حُكْمُهُ حكْمُ المذكور. قال ص: وقرأ الجمهور الذُّلِّ بضم الذال، وهو ضد العِزِّ، وقرأ ابن عباس «2» وغيره بكسرها، وهو الانقيادُ ضدُّ الصعوبة انتهى، وباقي الآية بيِّن. قال ابن الحاجب في «منتهى الوُصول» ، وهو المختصَرُ الكَبِير: المفهومُ ما دَلَّ عليه اللفظُ في غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْق، وهو: مفهوم موافقة، ومفهومُ مخالفة، فالأول: أنْ يكون حُكْمُ المفهومِ موافقاً للمنطوق في الحُكْم، ويسمَّى فَحْوَى الخطابِ، ولَحْنَ الخِطَابِ، كتحريم الضَّرْبِ من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وكالجَزَاء/ بما فَوْقَ المِثْقالِ من قوله تعالى:

_ (1) وقال ابن عباس: إنما التصقت الواو بالصاد. ينظر: «مختصر شواذ ابن خالويه» ص: (79) ، و «الكشاف» (2/ 657) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 447) ، وزاد نسبتها إلى النخعي، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وأبي بن كعب. وينظر: «البحر المحيط» (6/ 23) . (2) وقرأ بها سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والجحدري، وحماد الأسدي، عن أبي بكر رضي الله عنه، ورويت عن عاصم بن أبي النجود. قال أبو الفتح: الذل في الدابة: ضد الصعوبة، والذّل في الإنسان، وهو ضد العز. ينظر: «المحتسب» (2/ 18) ، و «الشواذ» ص: (79) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 449) ، و «البحر المحيط» (6/ 26) ، و «الدر المصون» (4/ 386) .

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة: 7] ، وكتأديةِ ما دُونَ القْنطار من قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] وعدم تأدية ما فوق الدينار من قوله تعالى: بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] وهو من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، والأعلى على الأدنى، فلذلك كان الحُكم في المسكوتِ أولى، وإِنما يكون ذلك إِذا عُرِفَ المقصودُ من الحُكْم، وأنه أشدُّ مناسبةً في المسكوت كهذه الأمثلة، ومفهومُ المخالفة: أنْ يكونَ المَسْكُوتُ عنه مخالفاً للمنطوقِ به في الحُكْم ويسمَّى دليلَ الخطاب «1» وهو أقسامٌ: مفهومُ الصفة «2» مثل: «في الغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» ، ...

_ (1) تقدم التعريف ب «دليل الخطاب» . (2) مفهوم الصّفة: هو ما يفهم من تعليق الحكم على الذّات بصفة من صفاتها، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سائمة الغنم زكاة» ، فإن الغنم ذات، والسوم والعلف وصفان لها يعتورانها، وقد علق الحكم وهو وجوب الزكاة بأحد وصفيها، وهو السوم، فيفهم منه نفي الوجوب عن المعلوفة لانتفاء الصّفة التي علق الحكم بها، وهي السوم، وكما في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: 25] ، فالفتيات: جمع فتاة، وهي ذات يعتورها الإيمان والشرك، وقد علق الحكم بأحدهما، وهو الإيمان، فيدل على نفيه عن غير المؤمنات. والمراد بالصفة عند الأصوليين: لفظ مقيد لآخر، وليس بشرط، ولا استثناء، ولا غاية، وبعبارة أخرى: هي تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر يختصّ ببعض معانيه ليس بشرط، ولا استثناء، ولا غاية بعد أن كان صالحا لما له تلك الصفة ولغيرها، سواء كان ذلك اللفظ المختص نعتا نحويا مثل: «في الغنم السّائمة زكاة» ، أو مضافا مثل: «في سائمة الغنم زكاة» ، أو مضافا إليه مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مطل الغنيّ ظلم» ، أو ظرف زمان مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من ابتاع نخلا بعد أن تؤبّر فثمرتها للبائع» ، أو ظرف مكان مثل «بع في مكان كذا» ، أو حالا نحو: «أحسن إلى العبد مطيعا» لأن المخصوص بالكون في مكان أو زمان موصوف بالاستقرار فيه، والحال وصف لصاحبها في المعنى، أو كان ذلك اللفظ المختص علة مثل: «أعط السائل لحاجته» ، فالمفهوم في المثال «الأول» ، و «الثاني» : عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة. «وفي الثالث» : أن مطل الفقير ليس ظلما. «وفي الرابع» : أن ثمرة النخلة المؤبّرة بعد البيع ليست للبائع، وإنما تكون للمشتري. «وفي الخامس» : عدم البيع في غير المكان المخصوص. «وفي السادس» : عدم الإحسان إليه إذا كان عاصيا. «وفي السابع» : عدم الإعطاء عند عدم الحاجة لأن المعلول ينتفي بانتفاء علّته، فإن الحكم لما علق في هذه الأمثلة بصفة خاصة صار ثبوته مرتبطا بثبوت تلك الصفة، وعليه فانتفاؤها يدل على انتفائه. «والفرق بين مطلق الصفة، وخصوص العلة» . أن الصّفة قد تكون علّة كالإسكار، وقد لا تكون، بل هي متممة لها، كالسّوم، فإن وجوب الزكاة في الغنم السائمة ليس للسوم فقط، وإلا لوجبت في الوحوش السائمة، وإنما وجبت لنعمة الملك، وهي مع السوم أتم منها مع العلف، فالصفة أعم من العلة. وبذلك يعلم أن الصفة عند الأصوليين أعم منها عند النحويين.

ومفهومُ الشرط «1» ، مثل: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ [الطلاق: 6] ...

_ وقد اختلف في الحكم على المشتقّ نحو: «في السّائمة زكاة» هل ذلك يجري مجرى المقيد بالصفة مثل: «في الغنم السّائمة زكاة» ؟ فقيل: لا يجري مجراه لاختلال الكلام بدونه، فيكون كاللقب. وقيل: إنه يجري مجراه لدلالته على السّوم الزائد على الذات، بخلاف اللقب، فيفيد نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقا، كما يفيد إثباتها للسائمة مطلقا، ويؤخذ من كلام ابن السمعاني، كما قال الجلال المحليّ: إن الجمهور على الثاني حيث قال: «الاسم المشتق، كالمسلم، والكافر والقاتل، والوارث يجري مجرى المقيد بالصفة عند الجمهور، قال شيخ الإسلام: وهو قوي لأن تعريف الوصف صادق عليه. غايته أن الموصوف مقدر، وذكر الموصوف أو تقديره لا تأثير له فيما نحن بصدده، وذلك نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم: الثّيّب أحقّ بنفسها من وليّها» فمنطوقه ثبوت أحقية الثيب في تزويج نفسها من وليها، ومفهومه المخالف عدم أحقّية غير الثيب، وهي البكر في تزويج نفسها لانتفاء الصفة التي علّق بها الحكم، وهي الثيوبة. ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 30) ، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 66) ، و «التمهيد» للأسنوي (345) ، و «نهاية السول» له (2/ 205) ، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (39) ، و «المنخول» للغزالي (213) ، و «حاشية البناني» (1/ 249) ، و «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 370) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (2/ 26) ، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 326) ، و «حاشية التفتازاني» والشريف على «مختصر المنتهى» (2/ 174) ، و «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1/ 143) ، و «ميزان الأصول» للسمرقندي (1/ 579) ، و «نشر البنود» للشنقيطي (1/ 96) ، وينظر: «العدة» (2/ 453) ، و «التبصرة» (218) ، و «المنخول» (208) ، و «المسودة» (351، 360) . (1) مفهوم الشّرط هو: ما يفهم من تعليق الحكم على شيء بأداة شرط ك «إن» ، و «إذا» مما يدل على سببية الأول، ومسبّبيّة الثاني، كما في قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 6] فإنه يفهم منه عند القائلين بمفهوم المخالفة أو غير أولات الأحمال من المطلقات طلاقا بائنا- لا يجب الإنفاق عليهنّ، لأن المشروط ينتفي شرطه، وإنما قيدنا الطلاق ب «البائن» لأن المطلقة طلاقا رجعيّا يجب الإنفاق عليها في العدة، حاملا كانت أو لا بالإجماع، والخلاف إنما هو في المبانة. «والشرط في اللّغة» : هو العلامة، وجاء منه أشراط الساعة، أي: علاماتها، وفي العرف العام: ما يتوقّف عليه وجود الشّيء، وفي اصطلاح المتكلمين: ما يتوقف عليه تحقق الشيء، ولا يكون في ذلك الشيء، ولا مؤثرا فيه. «وفي اصطلاح النحاة» : ما دخل عليه شيء من الأدوات المخصوصة الدالّة على سببية الأول ومسببية الثاني ذهنا أو خارجا، سواء كان علّة للجزاء مثل: «إن كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود» - أو معلولا مثل: «إن كان النهار موجودا، فالشمس طالعة» أو غير ذلك مثل: إن دخلت الدّار، فأنت طالق» . ويسمى شرطا لغويا أيضا لأن المركب من «إن» وأخواتها، ومن مدخولها- لفظ مركب وضع لمعنى يعرف من اللغة، وإن كان النحوي يبحث عنه من وجه آخر، وهو المقصود بالذات، هنا لا الشرعي

_ كالطهارة للصلاة، ولا العقلي كالحياة للعلم، ولا العادي كنصب السّلّم لصعود السطح، وإنما كان المقصود هو النحوي لأن الكلام هنا فيما يفهم من تعليق الحكم على شيء بأداة مخصوصة، كما هو مقتضى تعريف مفهوم الشرط، وهذا إنما يتأتى في خصوص الشرط النحوي على ما لا يخفى. هذا حاصل القول في تعريف مفهوم الشرط. قبل الشروع في بيان مذاهب العلماء في حجية مفهوم الشرط واستدلالهم ينبغي أن نحرر محلّ النزاع في هذا المقام، ومجمل القول في ذلك أنه لا نزاع بين العلماء في انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، وإنما النزاع في الدال على هذا الانتفاء هل هو التعليق بالشرط، أو البراءة الأصلية؟ - وبيان ذلك أن في تعليق الحكم بالشرط مثل: «إن دخلت الدار، فأنت طالق» - أمورا أربعة: «الأمر الأول» : ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط. «الأمر الثاني» : عدم الجزاء عند عدم الشرط. «الأمر الثالث» : دلالة التعليق على الأول. «الأمر الرابع» : دلالته على الثاني. واتفق العلماء على الثلاثة الأول، وإنما النزاع في الأمر الرابع بعد الاتفاق على أن عدم الجزاء ثابت عند عدم الشرط. فعند القائلين بالمفهوم: ثبوته لدلالة التعليق عليه، وعند النفاة ثابت بمقتضى البراءة الأصلية، فالنزاع إنما هو في دلالة حرف الشرط على العدم، لا على أصل العدم عند العدم فإنّ ذلك ثابت قبل أن ينطق الناطق بكلام، وهذا الكلام في سائر المفاهيم. قال أبو زيد الدّبّوسي، وهو من المنكرين له: «انتفاء المعلّق حال عدم الشرط، لا يفهم من التعليق، بل يبقى على ما كان قبل ورود النص» . هذا هو تحرير محل النزاع، وإذا تحقّق هذا، فنقول: اختلف العلماء والأصوليون في حجية مفهوم الشرط على مذهبين: «المذهب الأول» : أنه حجة، أي: أن تعليق الحكم بالشرط يدل على انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء الشرط وإلى هذا ذهب جميع القائلين بمفهوم الصّفة، وبعض من لم يقل به، كالإمام فخر الدين الرّازي، وابن سريج، وأبي الحسن البصري، وأبي الحسن الكرخي، ونقله أبو الحسين السهيلي في «آداب الجدل» عن أكثر الحنفية، وابن القشيري عن معظم أهل العراق، وإمام الحرمين عن أكثر العلماء. «المذهب الثاني» : أنّه ليس بحجة، أي: أن تعليق الحكم بالشرط لا يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط بل يبقى الحكم عند انتفاء الشرط على العدم الأصلي، وهذا مذهب أبي حنيفة والمحققين من أصحاب مذهبه، وأكثر المعتزلة كما نقله عنهم صاحب «المحصول» ، ونقله ابن التلمساني عن الإمام مالك كما اختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، وحجة الإسلام الغزّالي، وسيف الدين الآمدي، والقفال الشاشي، وأبو حامد المروزيّ من الشافعية. ينظر: «حاشية البناني» (1/ 251) ، و «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 380) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (2/ 30) ، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 329) ، و «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (1/ 100) ، و «حاشية التفتازاني» والشريف على «مختصر المنتهى» (2/ 180) ، و «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1/ 155) ، و «ميزان الأصول» للسمرقندي (1/ 580) ،

ومفهوم الغاية «1» ، مثل: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] .

_ و «نشر البنود» للشنقيطي (1/ 98) . (1) «مفهوم الغاية» : هو ما يفهم من تقييد الحكم بأداة غاية ك «إلى» ، و «حتى» ، وغاية الشيء آخره، وذلك كما في قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] ، فمنطوق الآية تحريم قربان النساء مدة زمان الحيض، وقبل الغسل، وتدل بمفهومها المخالف على جواز القربان منهن بعد انقضاء زمان الحيض، والاغتسال- وقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] ، فمنطوقه أن عدم حلّ المطلقة ثلاثا لمطلّقها- مغيا بنكاح الزوج الآخر، ومفهومه المخالف أنها تحل له بعد نكاح الزّوج الآخر لها بشرطه- وقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا زكاة في مال، حتّى يحول عليه الحول» فالمنطوق عدم وجوب الزكاة في المال قبل حولان الحول عليه، والمفهوم المخالف وجوب الزكاة في المال بعد حولان الحول عليه- وقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] فإنه يفهم منه عدم وجوب الصيام في الليل. واختلف الأصوليون في حجية مفهوم الغاية، وبعبارة أخرى في القول به إثباتا، ونفيا- على مذهبين: «المذهب الأول» : أنه حجّة، بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية يدل على انتفاء ذلك الحكم عما بعدها وإليه ذهب جميع القائلين بمفهوم الصفة والشرط، وبعض من لم يقل بهما كحجة الإسلام الغزالي، وعبد الجبار المعتزلي، والإمام أبي الحسين البصري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وبعض الأصوليين من الحنفية. وفي هذا يقول سليم الرازي: لم يختلف أهل العراق في ذلك. وقال القاضي في «التّقريب» : صار معظم نفاة دليل الخطاب إلى أن التقييد بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية. قال: ولهذا أجمعوا على تسميتها غاية. «المذهب الثاني» : أنّه ليس حجّة، بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية لا يدل على انتفاء الحكم عما بعدها، بل هو مسكوت عنه غير متعرّض له بنفي أو إثبات وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، واختاره سيف الدين الآمدي طردا لباب المنع من العمل بالمفاهيم. هذا حاصل في حجية مفهوم الغاية، وقد اتضح لك أنه مفروض فيما وراء الغاية لا في الغاية نفسها وذهب بعضهم إلى أنه مفروض في الغاية نفسها بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية، هل يدلّ على انتفاء ذلك الحكم في الغاية نفسها أو لا يدلّ؟ - فالذي يقول بمفهومها، يقول بانتفاء الحكم فيها، ومن لا فلا، وهو مردود لتصريح أكثر العلماء، لا سيما المحققين منهم أن النزاع هنا إنما هو فيما بعد الغاية لا في الغاية نفسها، نعم في الغاية خلاف أيضا، ولكنه خلاف آخر: وحاصل هذا الخلاف: هل الغاية داخلة في حكم المغيا أو خارجة عنه؟ وهو خلاف لا دخل له في هذا المقام فإن الكلام هنا في دلالة المخالفة وعدمها، والخلاف هناك في الدخول والخروج، وأين أحدهما من الآخر؟! فإنه على التقدير الثاني لا يستلزم المخالفة فإن الخروج أعم من أن يدل على المخالفة، أو يكون مسكوتا عنه بخلاف الأول، وهو ظاهر، على أنا إن قلنا: بخروج الغاية عن المغيّا يأتي خلاف المفهوم فيها أيضا، وبالجملة فهما خلافان متغايران: [.....]

ومفهوم إنَّما «1» مثل: «إنما الرِّبَا في النَّسِيئَةِ» ومفهومُ الاستثناء «2» مِثل: لا إله إلا الله ومفهوم العددِ الخاصِّ «3» ، مثلَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] ، ومفهوم حصر

_ «أحدهما» : أن تقييد الحكم بالغاية، هل يدل على نفي الحكم عما بعدها أو لا؟ «والثاني» : أن هذه الغاية، هل هي داخلة في حكم المغيا أو لا؟ ولا ربط لأحدهما بالآخر، والمبحوث عنه هنا هو الأول دون الثاني، والثاني يجتمع مع القول بالمفهوم وعدمه كما أن النزاع الأول يجتمع مع القول بالدخول والخروج، ولا تنافي بينهما. ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 46) ، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 66) ، و «نهاية السول» للأسنوي (2/ 205) ، و «حاشية البناني» (1/ 251) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (2/ 30) ، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 330) ، و «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (1/ 100) ، و «حاشية التفتازاني» والشريف على «مختصر المنتهى» (2/ 181) ، و «الوجيز» للكراماستي (24) ، وينظر: «المسودة» (351) ، و «الآيات البينات» (2/ 30) . (1) اختلف العلماء في إفادة «إنّما» للحصر على مذهبين: «المذهب الأول» : إنها تفيد الحصر بمعنى قصر الأول على الثاني من مدخوليها بحيث لا يتجاوزه إلى غيره بمعنى أن تقييد الحكم بها يدل على إثباته للمذكور في الكلام آخرا ونفيه عن غيره مثل «إنّما الشّفعة فيما لم يقسم» فإنه يدل على إثبات الشفعة في غير المقسوم، ونفيها عما قسم، وهذا مذهب أكثر العلماء. «المذهب الثاني» : إنها لا تفيد الحصر، بمعنى: أن تقييد الحكم بها لا يدل إلا على تأكيد إثبات الشفعة فيما لم يقسم، ولا دلالة له على نفيها عن غيره، بل هو مسكوت عنه غير متعرض له لا بنفي، ولا بإثبات، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة ممن أنكر دليل الخطاب، واختاره سيف الدين الآمدي، وأبو حيان، ونسبه إلى النّحويّين، غير أن الكمال بن الهمام تعقب نسبة هذا المذهب إلى الحنفية: بأن الحنفية كثر منهم نسبتهم الحصر إلى «إنّما» كما في «كشف الأسرار» ، و «الكافي» ، و «جامع الأسرار» وغيرها. هذا هو حاصل الخلاف في مفهوم الحصر ب «إنّما» . ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 50) ، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 67) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (2/ 43) ، و «حاشية التفتازاني» ، والشريف على «مختصر المنتهى» (2/ 182- 183) ، و «نشر البنود» للشنقيطي (1/ 96) . (2) «المقصود بمفهوم الاستثناء» : هو ما يفهم من تقييد الحكم بأداة الاستثناء، والاستثناء: هو إخراج ما لولاه لوجب دخوله، والمراد بالاستثناء هنا الاستثناء من الكلام التام الموجب، وذلك مثل: «قام القوم إلّا زيدا» فإنّه يفهم منه انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه، وهو القوم عن المستثنى، وهو زيد، وإنما قيدنا الاستثناء بكونه من الإثبات لإخراج الاستثناء من النفي، فإنه نوع من أنواع الحصر. ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (4/ 49) ، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (3/ 67) ، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (2/ 27) ، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 329) . (3) إذا علق حكم بعدد معين، مثل: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] فهل يدلّ ذلك على نفي الحكم عما عدا ذلك العدد أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك على طريقين: «الطريق الأول» : أنه يدل، وإليه ذهب مالك ونقله عن الشافعي أبو حامد، وأبو الطيب الطبري،

المبتدإِ «1» مثل: العِالمُ زَيْد، وشرطُ مفهومِ المخالفة عْند قائله ألاَّ يظهر أن المسكوتَ عنه أولى ولا مساوياً كمفهومِ الموافَقَةِ، ولا خرج مخرج الأعمّ الأغلب، مثل: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء: 23] فأما مفهومُ الصفةِ، فقال به الشافعيُّ، ونفاه الغَزَّاليُّ وغيره. انتهى. وفسَّر الجمهوُرُ الأوَّابين بالرَّجَّاعين إلى الخير، وهي لفظة لزم عُرْفُها أهْلَ الصلاح. ت: قال عَبْدُ الحقِّ الأشَبِيليُّ: وأعَلَمْ أنَّ الميت كالحيِّ فيما يُعْطَاه ويُهْدى إِليه، بل الميت أكثر وأكثر لأن الحي قد يستقلُّ ما يُهْدَى إِليه، ويستحقرُ ما يُتْحَفُ به، والميت لا يستحقر شيئاً من ذلك، ولو كان مقدارَ جناحِ بعوضةٍ، أو وزْنَ مثقالِ ذرةٍ، لأنه يعلم قيمته، وقد كان يقدر عليه، فضيَّعه، وقد قال عليه السلام: «إِذَا مَاتَ الإِنسانُ انقطع عمله إلّا من ثلاث: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةَ جَارِيَةٍ، أَوْ علْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» «2» فهذا دعاء

_ والماوردي وغيرهم، ونقله أبو الخطاب الحنبليّ في «تمهيده» عن أحمد بن حنبل، وإليه ذهب داود الظاهري، وكذا الطحاوي، وصاحب «الهداية» والكرخي، ورضي الدين صاحب «المحيط» من الحنفية. «الطّريق الثّاني» : أنّه لا يدلّ، وإليه ذهب أصحاب الشافعي، وأبو حنيفة وأصحابه، وابن داود، والمعتزلة، والأشعرية، والقاضي أبو بكر الباقلاني، واختاره إمام الحرمين، والإمام البيضاوي في «المنهاج» ، وجرى عليه الإمام الرازي في «المحصول» والآمدي في «الإحكام» . (1) اختلف العلماء في دلالة تعريف المبتدأ باللام أو الإضافة على الحصر بمعنى نفي الحكم عن غير المذكور وعدمه على مذهبين: «المذهب الأول» : إنه يدل على الحصر، وهذا مذهب حجة الإسلام الغزالي، وإمام الحرمين، والإمام الرازي، والجمهور من الفقهاء والمتكلمين. «المذهب الثاني» : إنه لا يدل على الحصر، وإليه ذهب كثير من الحنفية، والقاضي أبو بكر الباقلاني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وهو ما اختاره الآمدي. (2) أخرجه مسلم (3/ 1255) كتاب «الوصية» باب: ما يلحق الإنسان من الثواب، حديث (14/ 1631) ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم: (38) ، وأبو داود (2/ 131) كتاب «الوصايا» باب: ما جاء في فضل الصدقة عن الميت، حديث (2880) ، والترمذي (3/ 660) كتاب «الأحكام» باب: في الوقف، حديث (1376) ، والنسائي (6/ 251) كتاب «الوصايا» باب: فضل الصدقة على الميت، وأحمد (2/ 372) ، وابن خزيمة (4/ 122) رقم: (2494) ، وأبو يعلى (11/ 343) رقم: (6457) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم: (370) ، والدولابي في «الكنى والأسماء» (1/ 190) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 190) ، والبيهقي (6/ 278) كتاب «الوصايا» باب: الدعاء للميت، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 15) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 237- بتحقيقنا) . كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الولدِ يصلُ إِلى والده، وينتفعُ به، وكذلك أمره عليه السلام بالسَّلاَمِ على أهْلِ القُبُورِ والدعاءِ لهمْ «1» ما ذاك إِلا لكونِ ذلك الدعاءِ لهُمْ والسلام عليهمْ، يصلُ إليهم ويأتيهم، والله

_ (1) أخرجه مالك (1/ 28- 29) كتاب «الطهارة» باب: جامع الوضوء، حديث (28) ، ومسلم (1/ 218) كتاب «الطهارة» باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل، حديث (39/ 249) ، وأبو داود (2/ 238) كتاب «الجنائز» باب: ما يقول إذا زار القبور أو مرّ بها، حديث (3237) ، والنسائي (1/ 93- 95) كتاب «الطهارة» باب: حلية الوضوء، وابن ماجه (2/ 1439) كتاب «الزهد» باب: ذكر الحوض، حديث (4306) ، وأحمد (2/ 300، 408) ، وأبو عوانة (1/ 138) ، وأبو يعلى (11/ 387- 388) رقم: (6502) ، وابن حبان (1032، 3168) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» . رقم (189) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 253- بتحقيقنا) . كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا بكم إن شاء الله لاحقون ... » . وفي الباب عن عائشة وبريدة. حديث عائشة: أخرجه مسلم (2/ 669) كتاب «الجنائز» باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (102/ 974) ، والنسائي (4/ 93- 94) ، كتاب «الجنائز» باب: الأمر بالاستغفار للمؤمنين، والبيهقي (4/ 78- 79) كتاب «الجنائز» باب: ما يقول إذا دخل مقبرة (5/ 249) كتاب «الحج» باب: في زيارة القبور التي في بقيع الغرقد، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 306- بتحقيقنا) ، وأبو يعلى (8/ 199) رقم: (4758) كلهم من طريق شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كانت ليلتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا وإياكم متواعدون غدا ومؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» . وأخرجه مسلم (2/ 669) كتاب «الجنائز» باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (103/ 974) وعبد الرزاق (6712) من طريق محمد بن قيس بن مخرمة، عن عائشة. وأخرجه ابن ماجه (1/ 493) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر، حديث (1546) ، وأبو يعلى (8/ 69) رقم (4593) كلاهما من طريق شريك بن عبد الله، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر، عن عائشة به. بلفظ: فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاتبعته فأتى البقيع فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» . وأخرجه أبو يعلى (8/ 85- 86) رقم: (4619) من طريق يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. حديث بريدة: أخرجه مسلم (2/ 671) كتاب «الجنائز» باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (104/ 975) ، والنسائي (4/ 94) كتاب «الجنائز» باب: الأمر بالاستغفار للمؤمنين، وابن ماجه (1/ 494) كتاب «الجنائز» ، باب: ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر، حديث (1547) وابن أبي شيبة (4/ 138) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم: (582) ، وأحمد (5/ 353، 359، 360) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 304- بتحقيقنا) ، عن بريدة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع نسأل الله العافية» .

أعلم، وروي عنه عليه السلام أنه قال: «لكون الميِّتُ في قَبْرِهِ كالغَرِيقِ يَنْتَظرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ من ابْنِهِ أَو أَخِيهِ أو صَدِيقِهِ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ، كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّنْيا وَمَا فِيهَا» والأخبارُ في هذا الباب كثيرةٌ انتهى من «العاقبة» . ت: وروى مالك في «الموطإ» عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيَّب، أنه قال: كان يقال: إِن الرجُلَ ليُرْفَعُ بدعاءِ ولده من بعده وأشارَ بيَدِهِ نحو السماء «1» . قال أبو عمرو: وقد روّيناه بإسناد جيِّدٍ، ثم أسند عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ العَبْدَ الدَّرَجَةَ، فَيقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّى لي هَذِهِ الدَّرَجَةُ؟ فَيقالُ: باسْتِغْفَارَ وَلَدِكَ لَكَ» انتهى من «التمهيد» «2» ، وروِّينا في «سنن أبي داود» أنَّ رجُلاً مِنْ بني سَلَمَةَ قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ، أَبُّرُهُمَا/ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ الصَّلاَةُ عَلَيْهما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما وإِنْفَاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصَلَةُ الرَّحِمِ التي لاَ تُوَصَلُ إِلاَّ بِهمَا، وإِكْرَامُ صَدِيِقِهَما» «3» انتهى. وقوله سبحانه: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ... الآية: قال الجمهورُ: الآية وصيةٌ للنَّاس كلِّهم بصلة قرابتهم، خوطِبَ بذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد الأمة، «والحَقُّ» ، في هذه الآية، ما يتعيَّن له مِنْ صلة الرحم، وسدِّ الخُلْة، والمواساةِ عند الحاجة بالمالِ والمعونةِ بكلِّ وجْه قال بنحو هذا الحسنُ وابن عباس وعكرمة «4» وغيرهم، «والتبذير» إِنفاق المال في فسادٍ أو في سرفٍ في مباحٍ. وقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ، أي: عمَّن تقدَّم ذكره من المساكين وابن السبيل، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً، أي: فيه ترجيةٌ بفضل اللَّه، وتأنيسٌ بالميعاد الحسنِ، ودعاءٌ في توسعة اللَّه وعطائه، وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقولُ بَعْدَ نزولِ هذه الآية، «إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي: يَرْزُقُنا اللَّهُ وإيّاكم من فضله» «5» والرحمة على هذا التأويل: الرزق

_ (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 217) كتاب «القرآن» باب: العمل في الدعاء، حديث (38) . (2) أخرجه أحمد (2/ 509) من حديث أبي هريرة، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 213) ، وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط» ، ورجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة، وقد وثق. (3) أخرجه أبو داود (2/ 758) كتاب «الأدب» باب: في برّ الوالدين، حديث (5142) ، وابن ماجه (2/ 1208- 1209) كتاب «الأدب» باب: «صل من كان أبوك يصل» ، حديث (3664) ، والحاكم (4/ 154- 155) ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (4) أخرجه الطبري (8/ 67) برقم: (22240) ، وذكره ابن عطية (3/ 450) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 319) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن الحسن رضي الله عنه. (5) ينظر: «القرطبي» (10/ 249) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 29 إلى 30]

المنتظر، وهذا قول ابن عباس «1» وغيره، والميسور: من اليسر. [سورة الإسراء (17) : الآيات 29 الى 30] وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وقوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ استعارةٌ لليد المقبوضةِ عن الانفاق جملةً، واستعير لليد التي تستنفِذُ جميعَ ما عنْدها غايةَ البَسْطِ ضِدّ الغُلِّ، وكلُّ هذا في إِنفاق الخير، وأما إِنفاق الفساد، فقليله وكثيره حرامٌ، أو الملامة هنا لاحقةٌ ممن يطلب من المستحقين، فلا يجدُ ما يعطى، «والمحسورُ» الذي قد استنفدَتْ قوته، تقولُ: حَسَرْتُ البَعِيرَ إِذا أتْعَبْتَهُ حتى لم تَبْقَ له قوة ومنه البَصَرِ الحَسِير. قال ابنُ العربيِّ «2» وهذه الآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته، وكثيراً ما جاء هذا المعنى في القرآن، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لمَّا كان سيِّدَهم وواسطَتَهم إِلى ربِّهم، عبِّر به عنهم، على عادة العرب في ذلك. انتهى من «الأحكام» ، و «الحسير» : هو الكالُّ. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ معنى يَقْدِرُ: يضيِّق. وقوله سبحانه: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً، أي: يعلم مصلحة قَوْمٍ في الفقر، ومصلحةَ آخرين في الغنى. وقال بعضُ المفسِّرين: الآية إِشارةٌ إِلى حال العرب التي كانَتْ يصلحها الفَقْرَ، وكانت إِذا شبعتْ، طَغَتْ. ت: وهذا التأويلُ يَعْضُدُهُ قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ... الآية [الشورى: 27] ولا خصوصيَّة لذكْر العرب إِلا مِنْ حيث ضرب المثل. [سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 35] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ... الآية: نهي عن الوأد الذي

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 70) برقم: (22259) ، وذكره ابن عطية (3/ 450) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 321) ، وعزاه لابن جرير. [.....] (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1204) .

كانت العرب تفعله، «والإِملاق» . الفقر وعَدَم المال، وروى أبو داود عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَلمْ يَئِدْهَا، ولَمْ يُهِنْهَا، وَلَمْ يُؤثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا- قال: يَعْني الذُّكُورَ- أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنة» «1» انتهى. والحق الذي تقتل به النفس: قد فسّره النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «لاَ يُحِلُّ دَمَ المُسْلِمِ إلاَّ إحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: كُفْرُ بَعْدَ/ إِيمَانٍ، أو زناً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أوْ قَتْلُ نَفْسٍ» «2» أي: وما في هذا المعنى مِنْ حرابةٍ أو زندقةً ونحو ذلك. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي: بغير الوجوه المذكورة، فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً، ولا مدخل للنساء في ولاية الدَّمِ عند جماعة من العلماءِ، ولهنَّ ذلك عند آخرين، «والسلطان» : الحجة والملك الذي جُعِلَ إِليه من التخيير في قبول الدية أو العفو قاله ابن عبَّاس «3» . قال البخاريُّ: قال ابن عباس: كلُّ سلطانٍ في القرآن فهو حُجَّة «4» . انتهى، وقال قتادة: «السلطان» : القود «5» .

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الشافعي (2/ 96) كتاب «الديات» ، الحديث (318) ، والطيالسي ص: (13) ، الحديث (72) ، وأحمد (1/ 61) ، والدارمي (2/ 218) كتاب «السير» باب: لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، والترمذي (4/ 19) كتاب «الديات» باب: ما جاء، لا يحل دم امرئ مسلم، الحديث (1402) ، والنسائي (7/ 103) كتاب «تحريم الدم» باب: الحكم في المرتد، وابن ماجه (2/ 847) كتاب «الحدود» باب: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث، الحديث (2533) ، والحاكم (4/ 350) كتاب «الحدود» ، وابن الجارود ص: (213) رقم (836) من حديث عثمان. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطيالسي ص: (216) ، الحديث (1543) ، وأحمد (6/ 214) ، وأبو داود (4/ 522) كتاب «الحدود» باب: الحكم فيمن ارتد، الحديث (4353) ، والنسائي (7/ 101- 102) باب: الصلب، والحاكم (4/ 367) من حديث عائشة، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وأخرجه البخاري (12/ 201) كتاب «الديات» باب: قوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، حديث (6878) . ومسلم (3/ 7302) كتاب «القسامة» باب: ما يباح به دم المسلم (25/ 1676) ، والترمذي (1402) ، وأبو داود (4352) ، والنسائي (7/ 92) ، وابن ماجه (2534) ، والدارمي (2/ 218) ، والدارقطني (3/ 82) ، والبيهقي (8/ 19) ، وأحمد (11/ 382، 428، 444، 465) ، عن عبد الله بن مسعود مرفوعا بنحوه. (3) أخرجه الطبري (8/ 75) برقم: (22287) ، وذكره ابن عطية (3/ 453) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 326) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (8/ 75) برقم: (22289) ، وذكره ابن عطية (3/ 453) . (5) أخرجه الطبري (8/ 75) برقم: (22287) ، وذكره ابن عطية (3/ 453) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 326) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

وقوله سبحانه: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ المعنى: فلا يَتَعَدَّ الوليُّ أمْرَ اللَّه بأنْ يقتل غير قاتِلِ وليِّه، أو يقتل اثنين بواحدٍ إلى غير ذلك من وجوه التعدِّي، وقرأ «1» حمزة والكسائيُّ، وابن عامر: «فَلاَ تُسْرِفْ» - بالتاء من فوق-، قال الطبري «2» : على الخطاب للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم والأئمة بعده. قال ع: ويصحَّ «3» أنْ يراد به الوليُّ، أي: فلا تسرفْ أيُّها الولي، والضميرُ في «إِنه» عائدٌ على «الوليِّ» ، وقيل: على المقتول، وفي قراءة أبي بن «4» كعب: «فَلاَ تُسْرُفوا في القِتَال إِنَّ وليَّ المَقْتُول كانَ مَنْصُوراً» ، وباقي الآية تقدَّم بيانه، قال الحسن: بِالْقِسْطاسِ هو «5» القَبَّان «6» ، وهو القرسطون، وقيل: القِسْطَاسِ: هو الميزانُ، صغيراً كان أو كبيراً. قال ع «7» : وسمعت أبي رحمه الله تعالى يَقُولُ: رأيْتُ الواعِظَ أبا الفضْلِ الجَوْهَرِيَّ رحمه الله في جامعِ عمرو بن العاص يعظُ النَّاسَ في الوزْن، فقال في جملة كلامه: إِن في هيئة اليَدِ بالميزانِ عِظَةً، وذلك أنَّ الأصابعَ يجيءُ منها صُوَرةُ المكتوبة ألف ولامَانِ وهاء، فكأنَّ الميزان يقولُ: اللَّه، اللَّه. قال ع «8» : وهذا وعظٌ جميلٌ، «والتأويل» ، في هذه الآية المآل قاله «9» قتادة،

_ (1) وحجتهم: قراءة عبد الله: «فلا تسرفوا في القتل» . وحجة الباقين: أن هذا الكلام أتى عقيب خبر عن غائب، وهو قوله: مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً. ينظر: «السبعة» (380) ، و «الحجة» (5/ 98- 99) ، و «إعراب القراءات» (1/ 372) ، و «معاني القراءات» (2/ 94) ، و «شرح الطيبة» (4/ 430) ، و «العنوان» (119) ، و «حجة القراءات» (402) ، و «شرح شعلة» (463) ، و «إتحاف» (2/ 197) . (2) ينظر: «الطبري» (8/ 76) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 453) . (4) ينظر: «الشواذ» ص: (80) ، و «الكشاف» (2/ 665) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 453) ، و «البحر المحيط» (6/ 31) . (5) أخرجه الطبري (8/ 79) برقم: (22304) ، وذكره البغوي (3/ 114) ، وذكره ابن عطية (3/ 455) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 329) ، وعزاه لابن المنذر، عن الضحاك. (6) هو الميزان ذو الذراع الطويلة المقسمة أقساما، ينقل عليها جسم ثقيل يسمى الرمانة لتعين وزن ما يوزن. ينظر: «المعجم الوسيط» (720) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 455) . (8) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 455) . [.....] (9) أخرجه الطبري (8/ 79) برقم: (22306) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 455) ، وابن كثير في «تفسيره»

[سورة الإسراء (17) : الآيات 36 إلى 38]

ويحتمل أنْ يكون التأويلُ مصدر تأولَّ، أي: يتأول عليكم الخَيْر في جميع أموركم، إِذا أحسنتم الكيلَ والوَزْن. وقال ص: تَأْوِيلًا أي: عاقبة انتهى. [سورة الإسراء (17) : الآيات 36 الى 38] وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) وقوله سبحانه: وَلا تَقْفُ معناه لا تقُلْ ولا تتَّبع، واللفظة تستعملُ في القَذْف ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ لاَ نَقْفُوا أُمَّنَا، وَلاَ نَنْتِفى مِنْ أَبِينَا» ، وأصل «1» هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قَفَوْتُ الأَثَرَ، وحكى الطبريُّ «2» عن فرقةٍ أنها قالَتْ: قَفَا وقَافَ، مثل عَثَا وعَاث، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانَكَ من القول ما لا عِلْمَ لك به، وبالجملة: فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذفِ وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والمُرْدِيَة. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا عبَّر عن هذه الحواسِّ ب أُولئِكَ. لأن لها إدراكاً وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالَةُ مَنْ يعقل. ت: قال ص: وما توهمه ابنُ عطية أُولئِكَ تختصُّ بمن يعقل ليس كذلك إِذ لا خلاف بين النحاة في جواز إطلاق «أولاء» و «أولئك» على مَنْ لا يعقل. ت: وقد نقل ع «3» الجَوَازَ عن الزَّجَّاجِ وفي ألفِيَّةِ ابْنِ مالك: [الرجز] وبأولى أشر لجمع مطلقا «4» ...

_ (3/ 49) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 328) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (1) أخرجه ابن ماجه (2/ 871) كتاب «الحدود» باب: من نفى رجلا من قبيلة، حديث (2612) من طريق عقيل بن طلحة، عن مسلم بن هيضم، عن الأشعث بن قيس قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وفد كندة ولا يروني إلا أفضلهم فقلت: يا رسول الله ألستم منا؟ فقال: فذكره، وقال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات عقيل بن طلحة وثقه ابن معين والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم. (2) ينظر: «الطبري» (8/ 80) بنحوه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 456) . (4) وبعده: ............ ... والمدّ أولى ولدي البعد انطقا

فقال ولده بدر الدين: أي سواءٌ كان مذكَّراً أو مؤنَّثاً، وأكثر ما يستعمل فيمن يعقل، وقد يجيء/ لغيره كقوله: [الكامل] ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بَعْدَ أُوَلئِكَ الأَيَّامِ «1» وقد حكى «2» ع البيْتَ، وقال: الرواية فيه «الأقوامِ» ، واللَّه أعلم انتهى. والضمير في عَنْهُ يعودُ على ما ليس للإِنسان به عِلْم، ويكون المعنى: إِن اللَّه تعالى يَسْأَل سَمْعَ الإِنسان وبَصَره وفُؤَاده عمَّا قال مما لاَ عْلَم له به، فيقع تكذيبه مِنْ جوارحه، وتلك غايةُ الخزْي، ويحتمل أنْ يعود على كُلُّ التي هي السمْعُ والبصر والفؤاد، والمعنى: إن اللَّه تعالى يسأل الإِنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده. قال صاحبُ «الكَلِمِ الفَارِقِيَّة» : لا تَدَعْ جَدْوَلَ سمِعْكَ يجرى فيه أُجَاج الباطل فيلهب باطنك بنار الحِرْص على العاجل، السَّمْعُ قُمْعٌ تغور فيه المعاني المَسْمُوعة إِلى قرار وعاء القَلْب، فإنْ كانَتْ شريفةً لطيفةً، شرَّفَتْه ولطَّفَتْه وهذَّبَتْه وزكَّتْه، وإِن كانَتْ رذيلةً دنيَّةً، رذَّلَتْه وخبَّثَتْه، وكذلك البصَرُ منْفُذٌ مِنْ منافذ القلب، فالحواسّ الخمس كالجداول والرواضع

_ بالكاف حرفا دون لام أو معه ... واللّام إن قدّمت «ها» ممتنعة أي: يشار إلى الجمع- مذكرا كان أو مؤنثا- ب «أولى» ممدودا أو مقصورا، والمد أولى، لأنه لغة الحجاز، وبه جاء التنزيل، قال تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ والقصر لغة تميم. وأشار بقوله: «ولدي البعد انطقا ... » إلخ: إلى أن المشار إليه له رتبتان: قربى، وبعدي: أما المرتبة القربى: فتكون بدون كاف الخطاب ولام البعد، سواء مع «ها» التنبيه أو بدونها، تقول: (ذا- هذا) ، و (ذي- هذي) ، و (ذان- هذان) ، و (تان- هاتان) ، و (أولى- هؤلى) ، و (أولاء- هؤلاء) . والمرتبة البعدى: تكون بكاف الخطاب دون لام البعد أو معها، فإن جاءت معها اللام امتنعت «ها» التنبيه، وكنا إن تقدمت «ها» امتنعت اللام، وهذا ما أشار إليه الناظم بقوله: «واللام إن قدمت «ها» ممتنعه» ، فتقول: (ذاك- هذاك- ذلك) ، و (تيك- هاتيك- تلك) ، وعلى ذلك قس، وعلى هذاك قول طرفة [من الطويل] : رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطّراف الممدّد (1) البيت لجرير في «ديوانه» ص: (990) ، وفيه «الأقوام» مكان «الأيّام» ، و «تخليص الشواهد» ص: (123) ، و «خزانة الأدب» (5/ 430) ، و «شرح التصريح» (1/ 128) ، و «شرح شواهد الشافية» ص: (167) ، و «شرح المفصّل» (9/ 129) ، و «لسان العرب» (15/ 437) (أولي) ، و «المقاصد النحويّة» (1/ 408) ، وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (1/ 134) ، و «شرح الأشموني» (1/ 63) ، و «شرح ابن عقيل» ص: (72) ، و «المقتضب» (1/ 85) . واستشهد فيه بقوله: «أولئك الأيام» حيث أشار ب «أولاء» إلى «الأيّام» ممّا يدلّ على جواز الإشارة ب «أولاء» إلى جمع غير العاقل. ويروى «الأقوام» مكان «الأيّام» ، ولا شاهد فيه حينئذ. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 456) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 39 إلى 40]

تَرْضَعُ من أثداءِ الأشياء التي تُلاَبِسُها، وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها، وتؤدِّيها إلى القَلْب وتنهيها. انتهى. وقوله سبحانه: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً قرأ الجمهور «1» مَرَحاً بفتح الحاء مصدر: مَرِحَ يَمْرَحُ إِذا تسيَّب مسروراً بدنياه، مقبلاً على راحته، فنُهِيَ الإِنسانُ أنْ يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، وقرأت فرقةٌ «2» : «مَرِحاً» بكسر الراء، ثم قيل له: إنك أيها المرح المختال الفخور، لن تَخْرِقَ الأرض، ولن تطاول الجبال بفخْرك وكبْرك، «وخرق الأرض» قَطْعها ومَسْحها واستيفاؤها بالمشْي. وقوله سبحانهُ: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ قرأ نافعٌ وابن كثير «3» وأبو عمرو: «سَيِّئَةً» فالإِشارة بذلك على هذه القراءةِ إلى ما تقدَّم ذكره مما نهي عنه كقوله: أُفٍّ [الإسراء: 23] وقذف الناس، والمَرَحِ، وغيرِ ذلك، وقرأ عاصم وابن عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ «سَيِّئُهُ» على إضافة «سَيِّىء» إلى الضمير، فتكون الإِشارة على هذه القراءة إلى جميع ما ذَكَرَ في هذه الآيات من برّ ومعصية، ثم اختص ذكر السّيّئ منه، بأنه مكروه عند الله تعالى. [سورة الإسراء (17) : الآيات 39 الى 40] ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وقوله سبحانه: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ ... الآية: الإِشارةُ ب ذلِكَ إلى هذه الآداب التي تضّمنتها هذه الآيات المتقدّمة، والْحِكْمَةِ: قوانينُ المعاني المُحِكَمة، والأفْعَالِ الفاضلة. ت: فينبغي للعاقل أنْ يتأدَّب بآداب الشريعة، وأنْ يحسن العشرْة مع عَبادِ اللَّه، قال الإِمام فَخْرُ الدِّين ابْنُ الخَطِيب في «شرح أسماء اللَّه الحسَنى» كان بعضُ المشايِخِ يقولُ: مَجَامِعُ الخَيْرَاتِ محصُورَةٌ في أمرَيْنِ صِدْقٍ مَعَ الحَقِّ، وخُلُقٍ مع الخَلْقِ انتهى، وذكر هشامُ بنُ عبْدِ اللَّهِ القرطبيُّ في تاريخه المسمَّى ب «بهجة النّفس» ، قال: دخل عبد

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 456) ، و «الدر المصون» (4/ 391) . (2) وقرأ بها يحيى بن يعمر. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (80) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 457) ، و «البحر المحيط» (6/ 34) ، و «الدر المصون» (4/ 391) . (3) وحجتهم فيما قال أبو عمرو: «ولا يكون فيما نهى الله عنه شيء حسن، فيكون سيئه مكروها» . وينظر: «السبعة» (380) ، و «الحجة» (5/ 102) ، و «إعراب القراءات» (1/ 373) ، و «معاني القراءات» (2/ 95) ، و «العنوان» (120) ، و «شرح الطيبة» (4/ 431) ، و «حجة القراءات» (403) ، و «شرح شعلة» (463) ، و «إتحاف» (2/ 197) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 41 إلى 44]

الملكِ بْنُ مَرْوَانَ على معاويةَ، وعنده عَمْرُو بن العاص، فلم يَلْبَثْ أنْ نَهَضَ، فقال معاوية/ لعمْرٍو: ما أكْمَلَ مُرُوءَةَ هذا الفتى! فقال له عمرو: إنه أخذ بأخْلاَقٍ أربعةٍ، وترك أخلاقاً ثلاثةً، أخذ بأحْسَنِ البشر إِذا لقي، وبأحْسن الاستماع إِذا حُدِّثَ، وبأحْسَنِ الحديثِ إِذَا حَدَّث، وبأحسنِ الرَّدِّ إِذا خولِفَ، وتركَ مُزَاحَ من لا يُوثَقُ بعقله، وتَرَكَ مخالَطَةَ لِئَامِ النَّاس، وتَرَكَ مِنَ الحديثِ ما يُعْتَذَرُ منْه. انتهى. وقوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره، «والمدحورُ» المهانُ المُبْعَدُ. وقوله سبحانه: أَفَأَصْفاكُمْ ... الآية خطابٌ للعرب، وتشنيعٌ عليهم فَسَادَ قولهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 41 الى 44] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا، أي صرَّفنا فيه الحِكَمَ والمواعظ. وقوله سبحانه: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا قال سعيدُ بن جُبَيْر وغيره: معنى الكلام: لاَبْتَغَوْا إِليه سبيلاً في إِفساد مُلْكِهِ ومُضَاهَاته في قُدْرته «1» ، وعلى هذا: فالآية بيان للتمانُع، وجاريةٌ مع قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] . قال ع «2» : ونقتضب شيئاً من الدليل على أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ مَعَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالى إله غيره على ما قال أبو المَعَالي وغيره: أنا لو فَرَضَناه، لفَرَضْنا أن يريد أحدهما تسكينَ جِسْمٍ والآخرُ تحريكَهُ، ومستحيلٌ أن تنفذ الإِرادتانِ ومستحيلٌ ألاَّ تنفذَا جميعاً، فيكون الجسْمُ لا متحِّركاً، ولا ساكناً، فإِن صحَّت إِرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لم تتمَّ إِرادته ليس بإله، فإِن قيل: نفرضهما لا يختلفانِ، قُلْنا: اختلافُهما جائزٌ غيرُ مُمْتَنعٍ عقلاً، والجائز في حُكْمِ الواقعِ، ودليلٌ آخر: أنَّه لو كان الاثنانِ، لم يمتنعْ أنْ يكونوا ثلاثةً، وكذلك ويتسلسل إِلى ما لا نهاية له، ودليلٌ آخر: أنَّ الجزء الذي لا يتجزَّأُ من المخترعات لا تتعلَّق به إِلا قدرةٌ واحدةٌ لا يصحُّ فيها اشتراك، والآخر كذلك دأبا، فكل جزء إنما يخترعه

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 459) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 331) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (459) . [.....]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 إلى 47]

واحدٌ، وهذه نبذة شرحُهَا بحَسَبِ التقصِّي يطولُ. وقوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ... الآية: اختلف في هذا «التسبيح» ، هل هو حقيقةٌ أو مجاز، ت: والصوابُ أنه حقيقة، ولولا خشية الإطالة، لأتينا من الدلائل على ذلك بما يثلج له الصّدر. [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 47] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) وقوله سبحانه: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني كفَّارَ مكّة وحِجاباً مَسْتُوراً يحتمل أن يريد به حمايةَ نبيِّه منهم وقْتَ قراءته وصلاتِهِ بالمَسْجد الحرام كما هو معلوم مشهورٌ ويحتمل أنه أراد أنه جعل بين فَهْم الكفرة وبَيْنَ فَهْم ما يقرؤه صلّى الله عليه وسلّم حجاباً، فالآية على هذا التأويل: في معنى التي بعدها. وقال الواحديُّ: قوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ... الآية: نزلَتْ في قومٍ كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إِذا قرأ القرآن فحَجَبَه اللَّه عن أعينهم عنْدَ قراءة القرآن، حتى يكونوا يَمُرُّونَ به ولا يَرَوْنَه. وقوله: مَسْتُوراً معناه: ساتراً انتهى. «والأكنَّة» جمع كِنَان، وهو ما غطى الشيء، «والوَقْرُ» : الثِّقَل في الأُذُن، المانِعُ/ من السمعِ، وهذه كلُّها استعاراتٌ للإِضلالِ الذي حَفَّهم اللَّه به. وقوله سبحانُهُ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ... الآية: هذا كما تقولُ: فلان يستمعُ بإِعراضٍ وتغافلٍ واستخفافٍ، «وما» بمعنى «الذي» ، قيل: المراد بقوله: وَإِذْ هُمْ نَجْوى اجتماعُهم في دار الندوة، ثم انتشرت عنهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 48 الى 51] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ... الآية: حكى الطبري «1» أنها

_ (1) ينظر: «الطبري» (8/ 88) .

[سورة الإسراء (17) : آية 52]

نزلَتْ في الوليدِ بْنِ المُغِيرة وأصحابه. وقوله سبحانه: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، أي: إلى إِفساد أمرك وإطفاء نورك، وقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً الآية في إِنكارهم البَعْثَ، وهذا منهم تعجُّب وإنكار واستبعاد و «الرُّفَاتُ» من الأشياء: ما مَرَّ عليه الزمانُ حتى بلغ غايةَ البِلَى، وقربه مِنْ حالة التُّرَابَ. وقال ابن عباس: رُفاتاً غباراً «1» وقال مجاهد: تُرَاباً «2» ، وقوله سبحانه: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ... الآية: المعنى: قل لهم، يا محمَّد، كونوا إِن استطعتم هذه الأشياءَ الصَّعبة الممتَنِعَةَ التأتِّي لا بُدَّ من بعثكم، ثم احتَجَّ عليهم سبحانه في الإعادة بالفِطْرة الأولى من حيثُ خلقُهم واختراعهم من تُرَاب. وقوله سبحانه: فَسَيُنْغِضُونَ معناه يرفعون ويُخْفِضُون، يريد على جهة التكذيب والاستهزاء. قال الزَّجَّاج: وهو «3» تحريك مَنْ يبطل الشيء ويَسْتَبْطِئُهُ ومنه قول الشاعر: [الرجز] أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا ... كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئاً أَطْمَعَا «4» ويقال: أَنْغَضَتِ السِّنُّ إِذا تحرَّكَتْ، قال الطبري «5» وابنُ سَلاَّمٍ: عَسى من اللَّه واجبةٌ، فالمعنى: هو قريبٌ، وفي ضمن اللفْظِ توَّعد. [سورة الإسراء (17) : آية 52] يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وقوله سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ: بدل من قوله: قَرِيباً ويظهر أن يكون المعنى «هو يَوْمَ» جواباً لقولهم: «متى هو» ، ويريد يدعوكم من قبوركم بالنفْخ في الصُّور لقيامِ الساعة. وقوله: فَتَسْتَجِيبُونَ، أي: بالقيامِ، والعودة والنهوض نحو الدعوة.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 89) برقم: (22347) ، وذكره ابن عطية (3/ 462) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 44) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 339) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (8/ 88) برقم: (22345) ، وذكره البغوي (3/ 118) ، وذكره ابن عطية (3/ 462) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 44) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 339) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 245) . (4) البيت من شواهد: «المحرر الوجيز» (3/ 452) . (5) ينظر: «الطبري» (8/ 92) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 إلى 55]

وقوله: بِحَمْدِهِ قال ابن جُبَيْر: إِن جميع العالمين يقومُونَ، وهم يَحْمَدُون اللَّه ويمَجِّدونه، لما يظهر لهم مِنْ قُدْرته «1» ص: أبو البقاء بِحَمْدِهِ أي: حامدين، وقيل: بِحَمْدِهِ من قول الرسول، أي: وذلك بحمد اللَّه على صدْقِ خَبَري، ووقع في لفظ ع حين قرر هذا المعنى: «عَسَى أن الساعة قريبةٌ» وهو تركيبٌ لا يجوزُ لا تقولُ: عَسَى أنَّ زيداً قائمٌ انتهى. وقوله سبحانه: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا يحتملُ معنيين. أحدهما: أنهم لَمَّا رجعوا إلى حالة الحياةِ، وتصرُّف الأجساد، وقع لهم ظَنٌّ أنهم لم ينفصلوا عن حال الدُّنْيا إِلا قليلاً لمغيبِ عِلْم مقدار الزمان عنهم إِذ مَنْ في الآخرة لا يقدِّر زمن الدنيا إِذ هم لا محالة أشدُّ مفارقةً لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عوَّل الطبري «2» . والآخر: أنْ يكون الظنُّ بمعنى اليقينِ، فكأنه قال: يوم يَدْعُوكم فتستجيبون بَحْمِدِه، وتتيقنون أنَّكم إِنما لبثتم قليلاً من حيثُ هو منقضٍ منحصرٌ. وحكى الطبريُّ عن قتادة أنهم لما رأوا هولَ يوم القيامة، احتقروا/ الدُّنْيا، فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلاً «3» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) وقوله سبحانه: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اختلف الناس في الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: فقالت فرقةٌ: هي لا إله إِلا اللَّه وعلى هذا، ف «العباد» : جميعُ الخلق، وقال الجمهور الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: هي المحاورة الحَسَنة، بحسب معنى معنى، قال الحسن يقول: يَغْفِرُ اللَّه لك، يَرْحَمُكَ اللَّه «4» وقوله: لِعِبادِي خاصُّ بالمؤمنين، قالت فرقة: أمر

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 463) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 339) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «الطبري» (8/ 103) . (3) أخرجه الطبري (8/ 93) برقم: (22369) ، وذكره البغوي (3/ 119) ، وابن عطية (3/ 463) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 340) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (8/ 93) برقم: (22370) ، وذكره البغوي (3/ 119) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 340) ، وعزاه لابن جرير.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 إلى 58]

اللَّه المؤمنين فيما بينهم بُحْسن الأدب، وخَفْضِ الجناحِ، وإلانة القَوْلَ، واطِّراحِ نَزَعاتِ الشيطان، ومعنى النَّزْغُ: حركاتُ الشيطانِ بُسْرعة ليوجب فساداً، وعداوةُ الشيطان البيِّنة: هي من قصة آدم عليه السلام، فما بعد، وقالَتْ فرقة: إِنما أمر اللَّه في هذه الآية المؤمنين بإِلانة القوْلِ للمشركين بمكَّة أيام المُهَادنة، ثم نُسِخَتْ بآية السيف. وقوله سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ: يقوِّي هذا التأويل إِذ هو مخاطبةٌ لكفَّار مكَّة بدليل قوله: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا فكأن اللَّه عزَّ وجل أمر المؤمنين ألاَّ يخاشنوا الكُفَّار في الدين، ثم قال للكفَّار إِنه أعلم بهم ورجَّاهم وخوفهم، ومعنى يَرْحَمْكُمْ بالتوبة عليكم من الكُفْر قاله ابن جُرَيْج وغيره «1» . وقوله سبحانه: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قرأ الجمهور «2» : «زَبُوراً» بفتح الزاي، وهو فَعُولٌ بمعنى مَفْعُولٍ، وهو قليلٌ لم يَجِىءْ إلا في قَدُوعِ وَرَكُوبٍ وَحَلُوب، وقرأ حمزة «3» : بَضَمِّ الزاي قال قتادة: زبور دَاوُدَ مَواعظُ ودعاء، وليس فيه حلال ولا حرام «4» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 58] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وقوله سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا هذه الآيةُ ليستُ في عبدة الأصنام، وإِنما هي في عَبَدَةِ مَنْ يعقل، كعيسَى وأمِّه وعُزَيْرٍ وغيرهم. قاله ابن عباس «5» ، فلا يملكُونَ كَشْفَ الضرِّ ولا تحويله، ثم أخبر تعالى،

_ (1) أخرجه الطبري (3/ 93) برقم: (22371) ، وذكره البغوي (3/ 119) ، وابن عطية (3/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 340) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 465) . (3) وقرأ بها يحيى والأعمش. ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 465) ، و «السبعة» (382) ، و «الحجة» (5/ 108) ، و «إعراب القراءات» (1/ 376) ، و «العنوان» (120) ، و «إتحاف» (2/ 200) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 341) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....] (5) أخرجه الطبري (8/ 96) برقم (22385) ، وذكره البغوي (3/ 120) ، وابن عطية (3/ 465) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 47) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 343) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

[سورة الإسراء (17) : آية 59]

أنَّ هؤلاء المعبودين يَطْلُبُون التقرُّب إِلى اللَّه والتزلُّف إِليه، وأنَّ هذه حقيقة حالهِمْ. وقوله سبحانه: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ... الآية: قال عزُّ الدين بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، في اختصاره ل «رِعَايَة المُحَاسِبِيِّ» : الخوفُ والرجاءُ: وسيلَتَانِ إِلى فعْلِ الواجباتِ والمندوباتِ، وتركِ المحرَّمات والمكروهاتِ، ولكنْ لا بدَّ من الإِكباب على استحضار ذلك واستدامته في أكثر الأوقات حتى يصير الثواب والعقاب نُصُبَ عينيه، فَيَحُثَّاه على فعْلِ الطاعات، وتركِ المخالفات، ولَنْ يحصُلَ له ذلك إِلا بتَفْريغ القَلْبِ مِنْ كل شيء سِوَى ما يفكر فيه، أو يعينه على الفِكْرِ، وقد مُثِّلَ القلْبُ المريضُ بالشهوات بالثوْبِ المتَّسِخِ الذي لا تَزُولُ أدرانه إِلا بتَكْرير غَسْله وحَتِّه وقَرْضِهِ، انتهى. وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها ... الآية: أخبر سبحانه في هذه الآية أنَّه ليس مدينَةٌ من المُدُنِ إِلا هي هَالِكَة قبل يوم القيامة بالموتِ والفناءِ، هذا مع السَّلامة وأخْذِها جُزْءاً جُزْءاً، أو هي معذَّبة مأخوذةٌ مرةً واحدةً. / وقوله: فِي الْكِتابِ: يريد في سابقِ القَضَاء، وما خَطَّه القلم في اللوْحِ المحفوظ، «والمسطور» : المكتوب أسطارا. [سورة الإسراء (17) : آية 59] وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وقوله سبحانه: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ... الآية: هذه العبارة في مَنَعَنا هي على ظاهر ما تَفْهَمُ العربُ، فسمى سبحانه سبْقَ قضائِهِ بتَكْذيب مَنْ كذَّب وتعذيبِهِ- مَنْعاً وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَن يجعل لهم الصَّفَا ذَهَباً، ونحو هذا من الاقتراحات، فأوحى اللَّه إِلى نبيه عليه السلام: إِن شئْتَ أفعلُ لهم ذلك، ثم إِن لم يؤمنوا، عاجَلْتُهُمْ بالعقوبة، وإِن شئْتَ، استأْنَيْتُ بهم عسى أن أَجْتَبِيَ منهم مؤمنين، فقال عليه السلام: بل استأذن بِهِمْ يَا رَبِّ «1» ، فأخبر سبحانه في هذه الآية أنه لم يمنعه جلَّ وعلاَ من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستثناء إِذ قد سلفت عادته سبحانه بمعاجلة الأمم الذين

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 258) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 380) كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ، حديث (11290) ، والطبري في «تفسيره» (15/ 74) ، والحاكم (2/ 362) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 271) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 344) ، وزاد نسبته إلى البزار وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 60 إلى 65]

جاءتهم الآيات المقترحة، فلم يؤمنوا كثمودَ وغيرهم. قال الزَّجَّاجِ «1» : أخبر تعالى أنَّ موعد كفار هذه الأمة الساعة بقوله سبحانه: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر: 46] فهذه الآية تنظُرُ إِلى ذلك، ومُبْصِرَةً أي: ذاتُ إِبصار وهي عبارةٌ عن بيان أمْر الناقة، ووضوح إعجازها، وقوله: فَظَلَمُوا بِها، أي: بِعَقْرِها، وبالكُفْر في أمرهَا، ثم أخبر تعالى أنه إِنما يرسل بالآياتِ غيرِ المُقْتَرَحةِ تخويفاً للعباد، وهي آيات معها إِمهال، فمن ذلك الكُسْوفُ والرعْدُ والزلزلةُ وقَوْسُ قُزَحَ، وغَيْرُ ذلك، وآيات اللَّه المعَتَبرُ بها ثلاثَةُ أقْسَامٍ: فقسمٌ عامٌّ في كل شيء، إِذ حيث ما وضَعْتَ نَظَرك، وجدتَّ آيةً، وهنا فِكْرة للعلماء، وقِسْمٌ معتاد غالباً كالكسوف ونحوه، وهنا فِكْرَة الجَهَلَةِ، وقسْمٌ خَارِقٌ للعادة، وقد انقضى بانقضاء النبوَّة، وإِنما يعتبر به، توهُّماً لما سلف منه. [سورة الإسراء (17) : الآيات 60 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) وقوله سبحانه: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ هذه الآية إخبار للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه محفوظٌ من الكَفَرة آمِنٌ، أي: فَلْتُبْلِّغْ رسالةَ ربِّك، ولا تتهَّيب أحداً من المخلوقين قاله الطبريُّ «2» ونحوه للحَسَن «3» والسُّدِّيِّ. وقوله سبحانه: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ... الآية: الجمهورُ أنَّ هذه الرؤيا رؤيا عين ويقظة، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما كان صَبِيحَةَ الإِسراء، وأخبر بما رأى في تلك الليلة من العجائب، قال الكفَّار: إِن هذا لعجب، واستبعدوا ذلك فافتتن بهذا قومٌ من ضَعَفَةِ المسلمين فارتدوا وشقَّ ذلك على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فعلى هذا يحسن

_ (1) ينظر: «تفسير الزجاج» (3/ 247) . (2) ينظر: «الطبري» (8/ 100) . (3) أخرجه الطبري (8/ 100) برقم: (22408) ، وذكره ابن عطية (3/ 467) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 48) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 345) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

أنْ يكون معنى قوله: أَحاطَ بِالنَّاسِ في إِضلالهم وهدايتهم، أي: فلا تهتمَّ/، يا محمَّد، بكُفْر من كفر، وقال ابن عباس: الرؤيا في هذه الآية هي رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه يدخُلُ مكَّة، فعجَّل في سنة الحُدَيْبِيَة، فصدّ فافتنن المسلمون لذلك، يعني بعَضهم، وليس بفتْنَة كُفْر «1» . وقوله: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ معطوفة على قوله: الرُّؤْيَا، أي جعلنا الرؤيا والشَّجرةَ فتنةً وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في قول الجمهورِ: هي شجرةٌ الزَّقُّوم، وذلك أن أمرها لما نَزَلَ في سورة «والصَّافَّات» قال أبو جَهْل وغيره: هذا محمَّد يتوعَّدكم بنَارٍ تَحْرِقُ الحِجَارة، ثم يزعُمُ أنها تُنْبِتُ الشجَرَ، والنار تأكلُ الشجَر، وما نعرفُ الزَّقُّوم إِلا التمر بالزُّبْد، ثم أحضر تمراً وزُبْداً، وقال لأصحابه، تَزقَّمُوا، فافتتن أيضاً بهذه المقالةِ بعْضُ الضعفاء، قال الطبري عن «2» ابن عباس: أن الشجرة الملعونة، يريد الملعون أُكُلُهَا لأنها لم يَجْرِ لها ذكر «3» . قال ع «4» ويصحُّ أَن يريد الملعونَةِ هنا، فأكَّد الأمر بقوله: فِي الْقُرْآنِ، وقالت فرقة: الْمَلْعُونَةَ، أي: المُبْعَدَة المكْروهة، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله، ولا شك أن ما ينبت في أصْل الجحيمِ هو في نهاية البُعْدِ من رحمة الله سبحانه. وقوله سبحانه: وَنُخَوِّفُهُمْ يريد كفّار مكّة. وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ الكافُ في «أَرَأَيْتَكَ» هي كافُ خطابٍ ومبالغةٍ في التنبيه، لا موضعَ لها من الإِعراب، فهي زائدةٌ، ومعنى «أَرأَيْتَ» : أتأملت ونحوه، كأنَّ المخاطِبَ بها ينبِّه المخاطَبَ ليستَجْمِعَ لما ينصُّه بعْدُ. وقوله: لَأَحْتَنِكَنَّ معناه لأُمِيلَنَّ ولأَجُرَّنَّ، وهو مأخوذ من تَحْنِيكِ الدابَّة، وهو أن يشدَّ على حَنَكِها بحَبْل أو غيره، فتقاد، والسَّنةُ تَحْتَنِكُ المالَ، أي: تجتره، وقال الطبري «5» «لأحتنكَنَّ» معناه لأستأصلنَّ، وعن ابن عباس: لأستولين «6» ، وقال ابن زيد «7» : لأضلّنّ.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 103) برقم: (22433) ، وذكره ابن عطية (3/ 468) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 346) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» . (2) ينظر: «الطبري» (8/ 103) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 468) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 468) . (5) ينظر: «الطبري» (8/ 107) . (6) أخرجه الطبري (8/ 107) برقم: (22461) ، وذكره ابن عطية (3/ 470) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 49) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 347) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (7) أخرجه الطبري (8/ 107) برقم: (22462) ، وذكره ابن عطية (3/ 470) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/

قال ع «1» وهذا بدلُ اللفظ، لا تفسير. وقوله: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، وما بعده من الأوامر: هي صيغةُ «افْعَلْ» بمعنى التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] «الموفور» ، المُكْمَل، وَاسْتَفْزِزْ معناه: استخف واخدع، وقوله: بِصَوْتِكَ: قيل: هو الغِنَاء والمزامير والمَلاَهي، لأنها أصواتٌ كلُّها مختصة بالمعاصي، فهي مضافةٌ إِلى الشيطانِ، قاله مجاهد «2» ، وقيل: بدعائك إِياهم إِلى طاعتك. قال ابن عباس: صوته دعاءُ كُلِّ مَنْ دعا إِلى معصيةِ «3» اللَّه، والصوابُ أنْ يكون الصوتُ يعمُّ جميع ذلك. وقوله: وَأَجْلِبْ، أي: هوِّل، و «الجَلَبة» الصوتُ الكثير المختلِطُ الهائل. وقوله: بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قيل: هذا مجازٌ واستعارة بمعنى اسع سعيك، وابلغ جهدك، وقيل: حقيقة وإنَّ له خيلاً ورَجُلاً من الجنِّ، قاله «4» قتادة، وقيل: المراد فرسان الناس، ورجالتهم المتصرِّفون في الباطل، فإِنهم كلهم أعوان لإِبليس على غيرهم «5» قاله مجاهد. وَشارِكْهُمْ/ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ عامٌّ لكل معصية يصنعها الناس بالمال، ولكلِّ ما يصنع في أمر الذرِّية من المعاصي، كالإيلاد بالزنا وكتسميتهم عَبْدَ شَمْس، وأبا الكُوَيْفِر، وعَبْدَ الحارِثِ، وكلَّ اسْمٍ مكروه ومن ذلك: وأد البنات ومن ذلك: صبغهم في أديان الكفر، وغير هذا، وما أدخله النَّقَّاش من وطْء الجنِّ، وأنه يُحْبِلُ المرأة من الإِنسِ، فضعيفٌ كلُّه. ت: أما ما ذكره من الحبل، فلا شك في ضَعْفه، وفسادِ قولِ ناقله، ولم أر في ذلك حديثاً لا صحيحاً ولا سقيماً، ولو أمكن أنْ يكون الحبل من الجنّ، كما زعم ناقله،

_ 49) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 347) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (1) ينظر: «المحرر» (3/ 470) . [.....] (2) أخرجه الطبري (8/ 108) برقم: (22466) ، وذكره البغوي (3/ 123) ، وذكره ابن عطية (3/ 470) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 49) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 348) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (8/ 108) برقم (22468) ، وذكره البغوي (3/ 123) ، وذكره ابن عطية (3/ 470) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 49) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 348) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (8/ 108) برقم: (22471) ، وذكره البغوي (3/ 123) ، وذكره ابن عطية (3/ 470) ، وذكره ابن كثير (3/ 49) . (5) أخرجه الطبري (8/ 109) برقم: (22474) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 470) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 إلى 69]

لكان ذلك شُبْهَةً يدرأُ بها الحَدُّ عمَّن ظهر بها حَبَلٌ من النساء اللواتِي لا أزواج لهنَّ لاحتمال أنْ يكون حَبَلُها من الجنِّ كما زعم هذا القائلُ، وهو باطلٌ، وأما ما ذكره من الوطء، فقد قيل ذلك وظواهر الأحاديث تدلُّ عليه، وقد خرَّج البخاريُّ ومسلم وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائي وابنُ ماجَه، عن ابن عبَّاس، قال: قَالَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إِذَا أرَادَ أنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وجَنّب الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبداً» «1» فظاهر قوله عليه السلام: «اللَّهُمَّ، جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبَ الشَّيْطَانَ مَا رَزقتنا» - يقتضي أنَّ لهذا اللعين مشاركةً مَّا في هذا الشأنِ، وقد سمعتُ من شيخنا أبي الحسن عليِّ بن عِثمانَ الزَّواويِّ المَانْجَلاَتِيِّ سَيِّدِ علماء بِجَايَةَ في وقَتْه، قال: حدَّثني بعضُ الناس ممَّن يوثَقُ به يخبر عن زوجته أنها تجدُ هذا الأمْرَ، قال المخبِرُ: وأصْغَيْتُ إِلى ما أخبرت به الزوجَةُ، فسمعتُ حِسَّ ذلك الشىءِ، والله أعلم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 69] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وقوله سبحانه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ: إِزجاء الفُلْك: سَوْقه بالريحِ الليِّنة والمجاذيف، ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لفظ يعمُّ التَّجْر وغيره، وهذه الآية المباركة

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 291) كتاب «الوضوء» باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، حديث (141) ، وفي (6/ 388) ، كتاب «بدء الخلق» باب: صفة إبليس، وجنوده، حديث (3283) ، وفي (9/ 136) كتاب «النكاح» باب: ما يقول الرجل إذا أتى أهله، حديث (5165) ، وفي (10/ 195) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا أتى أهله، حديث (6388) ، وفي (13/ 390- 391) ، كتاب «التوحيد» باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، حديث (7396) ، ومسلم (2/ 1058) كتاب «النكاح» باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع، حديث (16/ 1434) ، وأبو داود (2/ 655) كتاب «النكاح» باب: في جامع النكاح، حديث (2161) ، والترمذي (3/ 392) كتاب «النكاح» باب: ما يقول إذا دخل على أهله، حديث (1092) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 75) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا واقع أهله، وابن ماجه (1/ 618) كتاب «النكاح» باب: ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله، حديث (1919) ، وأحمد (1/ 217، 220، 243، 283، 286) ، وابن أبي شيبة (10/ 394) ، وعبد الرزاق (6/ 194) رقم: (10466) ، وابن حبان (984- الإحسان) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 123- بتحقيقنا) . كلهم من طريق كريب، عن ابن عباس مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 إلى 73]

توقيفٌ على آلاء اللَّه وفَضْلِهِ ورحمته بعباده، والضُّرُّ، هنا لفظ يعمُّ الغرق وغيره، وأهوال حالات البحر واضطرابه وتموجه، وضَلَّ معناه تلف وفُقِدَ. وقوله: أَعْرَضْتُمْ، أي: فلم تفكِّروا في جميل صنع اللَّه بكم. وقوله: كَفُوراً أي: بالنعم والْإِنْسانُ هنا: الجنس، «والحاصب» : العارض الرامي بالبَرَدِ والحجارةِ ومنه الحاصب الذي أصَابَ قوْمَ لوطٍ، «والحَصْبُ» الرمْيُ بالحَصْبَاء، «والقاصف» : الذي يَكْسِر كلَّ ما يلقى ويقصفه، و «تارة» معناه: مرَّة أخرى، «والتبيع» الذي يطلب ثأْراً أو دينا ومن هذه اللفظة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ على مَلِيٍّ فَلْيُتْبِعْ» فالمعنى: لا تجدون مَنْ يَتَتَبَّع فعلنا بكم، ويطلب نصرتكم وهذه الآيات أنوارها واضحة للمهتدين. [سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 73] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وقوله جلَّت عظمته وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ... الآية: عدَّد اللَّه سبحانه على بني آدم ما خصَّهم به من المزايا مِنْ بين سائر الحيوان، ومن أفضل ما أكْرَم به الآدِميَّ/ العقْلُ الذي به يعرفُ اللَّه تعالى، ويفهم كلامه، ويوصِّل إِلى نعيمه. وقوله سبحانه: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا المراد ب «الكثير المفضولِ» الحيوانُ والجنُّ، وأما الملائكة، فهم الخارجون عن الكثير المفضول، وليس في الآية ما يقتضي أن الملائكة أفضَلُ من الإِنسِ كما زعمت فرقة بل الأمر محتملٌ أنْ يكونوا أفضَلَ من الإِنس، ويحتمل التساوي. وقوله سبحانه: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يحتمل أن يريد باسْمِ إِمامهم، فيقول: يا أمة محمَّد، ويا أتباع فِرْعَوْنَ، ونحو هذا، ويحتمل أن يريد: مع إِمامهم أنْ تجيء كل أمَّة معها إِمامها من هادٍ ومضلٍّ، واختلف في «الإمام» ، فقال ابن عباس والحسن: كتابهم الذي فيه أعمالهم «1» ، وقال قتادة ومجاهد: نبيهم «2» ، وقال ابن زيد: كتابهم الذي

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 116) برقم: (22521) ، وبرقم: (22523) ، وذكره ابن عطية (3/ 473) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 52) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 351) ، وعزاه لابن جرير. (2) أخرجه الطبري (8/ 115) برقم: (22515) ، وبرقم: (22519) ، وذكره البغوي (3/ 125) ،

نَزَلَ عليهم «1» ، وقالت فرقة: متَّبَعُهُمْ مِنْ هادٍ أو مُضِلٍّ، ولفظة «الإِمام» تعمُّ هذا كلَّه. وقوله سبحانه: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ: حقيقةٌ في أن في القيامة صحائفَ تتطاير، وتوضعُ في الأيْمَان لأهل الأَيْمانَ، وفي الشمائل لأهل الكُفْر والخذلان، وتوضع في أيمان المذْنِبِين الذين يَنْفُذُ عليهم الوعيد، فيستفيدون منها أنهم غَيْرُ مخلّدين في النار. وقوله سبحانه: يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ: عبارةٌ عن السرور بها، أي: يردِّدونها ويتأمَّلونها. وقوله سبحانه: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي: ولا أقلَّ، وقوله سبحانه: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الإِشارة ب هذِهِ إلى الدنيا، أي: مَنْ كان في هذه الدارِ أعمى عن النظرِ في آيات اللَّه وعِبَرِه، والإِيمان بأنبيائه «2» ، فهو في الآخرة أعمى على معنى أنه حيرانُ لا يتوجَّه لصوابٍ ولا يلوحُ له نُجْحٌ. قال مجاهد: فهو في الآخرةِ أعمى عن حُجَّته «3» ، ويحتمل أنْ يكون صفةَ تفضيلٍ، أي: أشدُّ عمًى وحيرةً لأنه قد باشر الخَيْبة ورأى مخايل العذاب ويقوِّي هذا التَّأويل قوله، عطفاً عليه: وَأَضَلُّ سَبِيلًا الذي هو «أَفْعَلُ مِنْ كَذَا» والعمى في هذه الآية هو عَمَى القلب، وقولُ سِيَبَوَيْه: لا يقال أعمى مِنْ كَذَا، إِنما هو في عمى العينِ الذي لا تفاضُلَ فيه، وأما في عمى القْلبِ، فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل ت: وكذا قال ص وقوله سبحانه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ... الآية: الضمير في قوله: كادُوا هو لقريشٍ، وقيل: لثقيفٍ، فأما لقريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلَتِ الآية، لأنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لاَ نَدَعُكَ تستلمُ الحَجَرَ الأسْوَدَ حتى تَمَسَّ أيضاً أوثانَنَا على معنى التشرُّع «4» ، وقال ابن إسحاق وغيره: إِنهم اجتمعوا إليه ليلةً، فعظَّموه، وقالوا له: أنْتَ سيِّدنا، ولكنْ أَقْبِلْ على بعض أمْرنا، ونُقْبِلُ على بعض أمرك، فنزلَتِ الآية في ذلك «5» .

_ وابن عطية (3/ 473) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 52) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 351) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (1) أخرجه الطبري (8/ 116) برقم: (22526) ، وذكره ابن عطية (3/ 473) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 52) . (2) أخرجه الطبري (8/ 117) برقم: (22530) ، وذكره ابن عطية (3/ 474) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 52) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 352) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (3) أخرجه الطبري (8/ 118) برقم: (22535) ، وذكره ابن عطية (3/ 474) . (4) أخرجه الطبري (8/ 118) برقم: (22536) ، وذكره البغوي (3/ 126) ، وابن عطية (3/ 475) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 352) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (5) ذكره ابن عطية (3/ 475) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 74 إلى 75]

قال ع «1» : فهي في معنى قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] ، وأما لثقيفٍ، فقال ابن عباس وغيره: لأنهم طلبوا من رسولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم أن يؤخرهم بعد إسلامهم س نة يعبدون فيها اللاَّتَ، وقالوا: إِنما نريد أن نأخذ ما يُهْدَى لها ولكن إنْ خفْتَ أنْ تنكر/ ذلك عليك العربُ، فقل: أَوْحَى اللَّهُ ذلك إِلَيَّ، فنزلَتِ الآية في ذلك «2» . ت: واللَّه أعلم بصحَّة هذه التأويلاتِ، وقد تقدَّم ما يجبُ اعتقاده في حَقِّ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فالتزمه تُفْلِحْ. وقوله: وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا: توقيفٌ على ما نجاه اللَّه منه من مُخَالَّةِ الكفّار، والولاية لهم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 74 الى 75] وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وقوله سبحانه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ... الآية تعديدُ نعمه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وروي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما نزلَتْ هذه الآيةُ، قال: «اللَّهُمَّ، لاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ «3» عينٍ» وقرأ الجمهور «4» (تركن) بفتح الكاف، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يركَنْ، لكنَّه كاد بَحسَب هَمِّه بموافقتهم طمعاً منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباريِّ إِلى أن معنى الآية: لقد كادوا أن يخبروا عنْكَ أنَّك ركَنْتَ ونحو هذا ذهب في ذلك إلى نفْي الهمِّ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فحمَّل اللفظ ما لا يحتملُ وقوله: شَيْئاً قَلِيلًا يبطلُ ذلك. ت: وجزى اللَّه ابنَ الأنباريِّ خيراً، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجبٌ، فكيف بسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وعليهم أجمعين. قال أبو الفَضْل عياضٌ في «الشِّفَا» : قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا: قال بعض المتكلِّمين: عاتب اللَّه تعالى نبيَّنا عليه السلام قبل وقوع ما يوجبُ العتاب ليكون بذلك أشدَّ انتهاءً ومحافظةً لشرائط المحبَّة، وهذه غاية العناية، ثم انظُرْ كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذِكْر ما عاتبه عليه، وخيف أنْ يركن إليه، وفي أثناء عتبه

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 475) . [.....] (2) أخرجه الطبري (8/ 119) برقم: (22540) ، وذكره البغوي (3/ 126) بنحوه، وابن عطية (3/ 475) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 353) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه. (3) تقدم تخريجه. (4) وقرأ ابن مصرف، وقتادة، وعبد الله بن أبي إسحاق «تركن» بضم الكاف. ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 475) ، و «البحر المحيط» (6/ 62) ، و «الدر المصون» (4/ 410) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 76 إلى 77]

بَرَاءَتُه، وفي طَيِّ تخويفه تأمينُه. قال عياضٌ رحمه الله: ويجبُ على المؤمن المجاهِدِ نفسَهُ الرائِضِ بزمامِ الشريعةِ خُلُقَهُ أن يتأدَّب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقة، وروضَةُ الآداب الدينية والدنيوية انتهى. قال ع «1» : وهذا الهمّ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِنما كان خَطْرة مما لا يمكِنُ دفعه، ولذلك قيل: كِدْتَ وهي تعطي أنه لم يقعْ ركونٌ، ثم قيل: شَيْئاً قَلِيلًا إِذ كانت المقاربة التي تضمنتها كِدْتَ قليلةً خطرةً لم تتأكَّد في النفْس. وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ... الآية: يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابنُ الأنباريّ. ت: وما ذكره ع رحمه الله تعالى من البطلان لا يصحُّ، وما قدَّمناه عن عياضٍ حسنٌ فتأمَّله. وقوله: ضِعْفَ الْحَياةِ: قال ابن عباس وغيره: يريد ضِعْفَ عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات «2» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 76 الى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) وقوله سبحانه: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ... الآية: قال الحَضْرَمِيُّ: الضمير في «كادوا» ليهود المدينة وناحيتها، ذهبوا إِلى المَكْرِ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له: إِن هذه الأرضَ ليست بأرض الأنبياء، فإِن كنت نبيًّا، فاخرج إِلى الشام، فإِنها أرض الأنبياء، فنزلَت الآية، وأخبر سبحانه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو خَرَج، / لم يلبثوا بعده إِلا «3» قليلاً، وقالت فرقة: الضمير لقريشٍ، قال ابن عباس: وقد وقع استفزازهم وإِخراجهم له، فلم يلبثوا خلفه إلا قليلا يوم بدر «4» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 475) . (2) أخرجه الطبري (8/ 120) برقم: (22542) ، وذكره ابن عطية (3/ 475) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 353) ، وعزاه لابن جرير. (3) أخرجه الطبري (8/ 121) برقم: (22549) ، وذكره البغوي (3/ 127) ، وابن كثير (3/ 53) عن عبد الرحمن بن غنم، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 353) ، وعزاه لابن جرير. (4) أخرجه الطبري (8/ 121) برقم: (22554) ، وذكره ابن عطية (3/ 476) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 354) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.

[سورة الإسراء (17) : آية 78]

وقال مجاهد: ذهبَتْ قريش إلى هذا، ولكنه لم يقعْ منها لأنه لما أراد اللَّه سبحانه استبقاء قريش، وألّا يستأصلها، أذن لرسوله في الهجْرة، فخرج من الأرض بإِذن اللَّه، لا بَقْهر قريشٍ، واسْتُبْقِيَتْ قريشٌ لِيُسِلمَ منها ومِنْ أعقابها مَنْ أسْلَم «1» . ت: قال ص: قوله لاَّ يَلْبَثُونَ جوابُ قسَمٍ محذوفٍ، أي: واللَّهِ، إِن استُفْزِزْتَ، فخرجْتَ، لا يلبثون خلفك إِلا قليلاً. انتهى. وقوله سبحانه: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا ... الآية: معنى الآية الإِخبار أن سنة اللَّه تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخْرجَتْ نبيَّها من بين أظهرها، نالها العذاب، واستأصلها، فلم تلبث خلفه إلا قليلا. [سورة الإسراء (17) : آية 78] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وقوله سبحانه: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ... الآية: إِجماع المفسِّرين على أنَّ الإِشارة هنا إلى الصلوات المفروضة، والجمهورُ أنَّ دلوك الشمس زوالُها، والإشارة إلى الظهر والعصر، وغَسَقِ اللَّيْلِ: أشير به إلى المغرب والعشاء، وقُرْآنَ الْفَجْرِ: يريد به صلاةَ الصبح، فالآية تعم جميعَ الصلواتِ، «والدلوكُ» في اللغة: هو الميلُ، فأول الدلوكِ هو الزوالُ، وآخره هو الغروبُ، قال أبو حيان «2» : واللام في لِدُلُوكِ الشَّمْسِ: للظرفية بمعنى بعد انتهى، وغَسَقِ اللَّيْلِ: اجتماعه وتكاثُف ظلمته، وعَبَّر عن صلاة الصبْحِ خاصَّة بالقرآن، لأن القرآن هو عظمها إِذ قراءتها طويلةٌ مجهورٌ بها. وقوله سبحانه: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً معناه: يشهده حَفَظَة النهار وحَفَظَة الليل من الملائكة حَسْبما ورد في الحديث الصَّحيح: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلاَئِكَةٌ بالنَّهَارِ فَيَجْتَمِعُونَ في صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلاَةِ العَصْرِ ... » الحديث «3» بطوله، وفي «مسند «4» البَزَّار» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّهُ قال: «إنَّ أَفْضَلَ الصَّلَواتِ صَلاَةُ الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، في جَمَاعَةَ، ومَا أَحْسِبُ شَاهِدَهَا مِنْكُمْ إِلاَّ مَغْفُور له» «5» انتهى من «الكوكب الدري» .

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 121) برقم: (22552) ، وذكره البغوي (3/ 127) ، وذكره ابن عطية (3/ 476) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 68) . (3) تقدم تخريجه. (4) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (7/ 368) برقم: (19307) ، وعزاه للطبراني، عن ابن عمر. (5) أخرجه البزار (1/ 298- كشف) ، برقم: (621) ، من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة به، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 171) ، وقال: رواه البزار والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» كلهم من رواية عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، وهما ضعيفان. اه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 79 إلى 81]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 79 الى 81] وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ «مِنْ» للتبعيض، التقدير: ووقتاً مِنَ الليلِ، أيَّ: قم وقتاً، والضمير في «به» عائدٌ على هذا المقدَّر، ويحتملُ أن يعود على القرآن، و «تهجَّد» معناه: اطرح الهجودَ عَنْك، «والهُجُود» : النوم، المعنى: ووقتاً من الليل اسهر به في صلاةٍ وقراءة، وقال علقمة وغيره: التهجُّد بعد نومة «1» ، وقال الحَجَّاج بن عمرو: إِنما التهجُّد بعد رقدة «2» ، وقال الحسن: التهجُّد ما كان بعد العشاء الآخرة «3» . وقوله: نافِلَةً لَكَ قال ابن عباس: معناه: زيادةً لك في الفَرْضٍ، قال: وكان قيامُ الليل فرضا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «4» ، وقال مجاهد: إنما هي نافلة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنه مغفورٌ له، والناس يحطُّون بمثل ذلك خطاياهم، يعني: ويجبرون بها فرائضهم حَسْبما/ ورد في الحديثِ «5» ، قال صاحب «المدخل» ، وهو أبو عبد الله بن الحَاجِّ وقد قالوا: إِنَّ مَنْ كان يتفلَّت منه القرآن، فليقُمْ به في الليْلَ، فإن ذلك يثبته له ببركة امتثال السُّنَّة سِيَمَا الثُّلُثُ الأخير من الليلِ لما ورد في ذلك من البركَات والخَيْرَات، وفي قيامِ اللَّيْلِ من الفوائد جملةٌ، فلا ينبغي لطالب العلْم أنْ يفوته منْها شَيْءٌ. فمنها: أنه يحطُّ الذنوب كما يحطُّ الريحُ العاصف الورق اليابس من الشجرة.

_ وله شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 207) ، بلفظ: «أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة» . (1) أخرجه الطبري (8/ 129) برقم: (22611) ، وذكره ابن عطية (3/ 478) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 54) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 355) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، ومحمد بن نصر في كتاب «الصلاة» . [.....] (2) أخرجه الطبري (8/ 129) برقم: (22616) ، وذكره ابن عطية (3/ 478) . (3) أخرجه الطبري (8/ 129) برقم: (22615) ، وذكره ابن عطية (3/ 478) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 54) . (4) أخرجه الطبري (8/ 130) برقم: (22617) ، وذكره ابن عطية (3/ 478) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 54) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 355) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (5) أخرجه الطبري (8/ 130) برقم: (22618) ، وذكره البغوي (3/ 129) ، وذكره ابن عطية (3/ 478) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 55) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 356) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، ومحمد بن نصر، والبيهقي في «الدلائل» .

الثاني: أنه ينوِّر القلب. الثالث: أنه يحسِّن الوجه. الرابع: أنه يذهب الكسل، وينشِّط البدن. الخامس: أن موضعه تراه الملائكَة من السماء كما يتراءى الكوكب الدُّرِّيُّ لنا في السماءِ، وقد روى الترمذيُّ عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «عَلْيُكُمْ بِقَيِامِ اللَّيْلِ، فإِنَّهُ مِنْ دأْبِ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلى اللَّهِ تعالى، ومَنْهَاةٌ عَنِ الآثَامِ، وتَكْفِيرٌ للسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ للِدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ» «1» وروى أبو داودَ في «سُنَنِهِ» عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آياتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، ومَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةِ، كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِين» انتهى «2» من «المدخل» . وقوله سبحانه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً: عِدَةٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه، وهو أمر الشَّفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه صلّى الله عليه وسلّم، والحديث بطوله في البخاريِّ ومسلمٍ. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه «3» » : واختلف في وَجْهِ كوْنِ قيامِ الليْلِ سَبَباً للمقامِ المْحُمودِ على قَوْلين للعلماء: أحدهما: أن البارِي تعالى يجعلُ ما يشاء مِنْ فضله سبباً لفضله من غير معرفة لنا

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 552- 553) كتاب «الدعوات» باب: في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، حديث (3549) ، من طريق بكر بن خنيس، عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال به، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه من قبل إسناده، قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد القرشي هو: محمد بن سعيد الشامي وهو ابن أبي قيس، وهو محمد بن حسان، وقد ترك حديثه، وقد روى هذا الحديث معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن ابن إدريس الخولاني، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة للإثم» ، وقال الترمذي: وهذا أصحّ من حديث إدريس عن بلال اه. قلت: ومن الوجه الذي ذكره الترمذي، أخرجه الحاكم (1/ 308) ، والبيهقي (2/ 502) ، والبغوي في «شرح السنة» (2/ 458- بتحقيقنا) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. (2) تقدم تخريجه. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1223) .

بَوْجهِ الحكمة. الثاني: أنَّ قيام الليل فيه الخَلْوَة بالباري تعالى، والمناجاة معه دون الناسِ، فيعطى الخَلْوة به ومناجاتَه في القيامةِ، فيكون مقاماً محموداً، ويتفاضل فيه الخَلْق بحسب درجاتهم، وأجلّهم فيه درجة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيعطى من المحامدِ ما لم يعطَ أحدٌ، ويَشْفَعُ فَيُشَفَّع. انتهى. وقوله سبحانه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ... الآية: ظاهر الآية: والأحْسَنُ أن يكون دعا عليه السلام في أن يحسِّن اللَّه حالته في كلِّ ما يتناول من الأمور ويحاولُ من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرُّف المقادير في المَوْت والحياة، فهي على أتمِّ عمومٍ، معناه: ربِّ، أصْلِحْ لي وِرْدِي في كلِّ الأمور، وَصَدَري. وذهب المفسِّرون إِلى تخصيص اللفْظِ، فقال ابن عبَّاس وغيره: أدْخِلْنِي المدينة، وأخرجني من مكَّة «1» ، وقال ابن عباس أيضاً: الإِدخال بالمَوْت في القبرِ، والإِخراج: البعث «2» ، وقيل غير هذا، وما قدَّمت من العموم التَّامِّ الذي يتناول هذا كلَّه أصوبُ، «والصِّدق» هنا صفة تقتضي رفْعَ المذامِّ واستيعاب المَدْح، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً قال مجاهدٌ: يعني حجَّةً تنصرني بها على الكفَّار «3» . وقوله سبحانه: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ ... الآية: قال قتادة: الْحَقُّ القُرآن، والْباطِلُ الشيطان «4» . وقالت فرقة: الْحَقُّ: الإيمان، والْباطِلُ: الكُفْران، وقيل غير هذا، والصواب تعميمُ اللفظ بالغايةِ المُمْكنة فيكون التفسيرُ: جَاءَ الشرع بجميع ما انطوى فيه، وزَهَق الكُفْر بجميع ما انطوى فيه، وهذه الآية نزَلْت بمكَّة، وكان يستشهد بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ فتحِ مكَّة وقْتَ طعنه الأصنام وسقوطَها لطعنه إياها بالمخصرة.

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 304) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة بني إسرائيل، حديث (3139) ، وقال الترمذي: حسن صحيح. (2) أخرجه الطبري (8/ 136) برقم: (22649) ، وذكره ابن عطية (3/ 479) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 360) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (8/ 137) برقم: (22657) ، وذكره البغوي (3/ 132) ، وذكره ابن عطية (3/ 480) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 59) . (4) أخرجه الطبري (8/ 138) برقم: (22661) ، وذكره ابن عطية (3/ 480) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 360) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 إلى 84]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 84] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ ... الآية: أي شفاءٌ بحسب إِزالته للرَّيْب، وكشفه غطاء القَلْب، وشفاءٌ أيضاً من الأمراض بالرقى والتعويذِ ونحوه. وقوله سبحانه: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ: يحتمل أن يكون الْإِنْسانِ عامَّا للجنْسِ، فالكافرُ يبالغ في الإعراض، والعاصي يأخذ بحظّ منه وَ (نَأَى) أي: بَعُد، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ، أي: على ما يليق به، قال ابن عباس: عَلى شاكِلَتِهِ معناه: على ناحيته «1» ، وقال قتادة: معناه: على ناحيته وعلى ما ينوي «2» . وقوله سبحانه: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا توعّد بيّن. [سورة الإسراء (17) : الآيات 85 الى 87] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) وقوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضُهم لبعْض: سَلُوا محمداً عن الرُّوحِ فإِن أجاب فيه، عرفْتم أنه ليس بنبي. قال ع «3» : وذلك أنه كان عندهم في التوراة أَن الروح ممَّا انفرد اللَّه بعلْمه، ولا يَطَّلع عليه أحَدٌ من عباده، فسألوه، فنزلَتِ الآية. وقيل: إن الآية مكِّية، والسائلون هم قريشٌ، بإِشارة اليهودِ، واختلف الناس في الرّوح المسئول عَنْه، أيُّ رُوحٍ هو؟ فقال الجمهُور: وقع السؤال عن الأرواحِ التي في الأشخاصِ الحيوانيَّة ما هي، فالرُّوح: اسم جنسٍ على هذا، وهذا هو الصوابُ، وهو المُشِكْل الذي لا تفسير له.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 141) برقم (22670) وذكره البغوي (3/ 133) وابن عطية (3/ 481) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 60) والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 361) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (8/ 141) برقم: (22673) ، وذكره البغوي (3/ 133) بنحوه، وابن عطية (3/ 481) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 60) بنحوه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 481) . [.....]

وقوله سبحانه: مِنْ أَمْرِ رَبِّي يحتملُ أن يريد أنَّ الرُّوح مِنْ جملة أمور اللَّه التي استأثر سبحانه بعلْمها، وهي إِضافةُ خَلْقٍ إِلى خَالِقٍ، قال ابنُ رَاشِدٍ في «مرقبته» : أخبرني شيخي شهابُ الدِّينِ القَرِافِيُّ عن ابْنِ دَقِيقِ العِيد أنَهَ رأى كتاباً لبعض الحكماءِ في حقيقة النفْسِ، وفيه ثَلاَثُمِائَةِ قولٍ، قال رحمه اللَّه: وكثرُة الخلافِ تؤذنُ بكثرة الجهالاتِ، ثم علماءُ الإِسلام اختلفوا في جوازِ الخَوْضِ فيها على قولَيْن، ولكلٍّ حُجَجٌ يطُولُ بنا سَرْدُها، ثم القائلون بالجوازِ اختلفوا، هَلْ هي عَرَضٌ أو جوهرٌ، أو ليستْ بجوهرٍ ولا عرضٍ، ولا توصَفُ بأنها داخلُ الجسمِ ولا خارجُه، وإِليه ميل الإِمام أبي حامد وغيره، والذي عليه المحقِّقون من المتأخِّرين أنها جسْمٌ نوارنيٌّ شفَّافٌ سارٍ في الجسْمِ سَرَيانَ النارِ في الفَحْم والدليلُ على أنها في الجسْم قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] فلو لم تكن في الجِسْمِ، لما قال ذلك، وقد أخبرني الفقيهُ الخطيبُ أبو/ محمد البرجيني رحمه الله عن الشيخ الصّالح أبي الطاهر الرّكراكيّ رحمه الله قال: حَضَرْتُ عند وَلِيٍّ من الأولياء حين النَّزْعِ، فشاهدتُّ نَفْسَهُ قد خَرَجَتْ من مواضع من جَسَده، ثم تشكَّلت على رأْسِه بشَكْله وصُورَته، ثم صَعِدت إِلى السماء، وصَعِدت نفْسي معها، فلما انتهينا إلى السماء الدنيا، شاهَدتُّ باباً ورجْلَ مَلَكٍ ممدودةً عليه، فأزال ذلك المَلَكُ رِجْله، وقال لنفْسِ ذلك الوليِّ: اصْعَدِي، فَصَعِدَتْ، فأرادَتْ نفْسي أنْ تَصْعَدَ معها، فقال لها: ارْجِعي، فقد بقي لك وقْتٌ، قال: فرجعت فشاهدت الناسَ دائرين على جسْمي، وقائلٌ يقولُ: ماتَ، وآخر يقول: لم يَمُتْ، فدخلَتْ من أنْفي، أو قال: مِنْ عَيْني، وقَمْتُ. انتهى. ت: وهذه الحكايةُ صحيحةٌ، ورجال إِسنادها ثقاتٌ معروفون بالفَضْل، فابنَ راشِدٍ هو شارِحُ ابنِ الحاجِبِ الفَرْعِيِّ، والبرجينيُّ معروفٌ عند أهْل إفريقيّة وأبو الطاهر من أكابر الأولياء معظّم عند أهل تُونُسَ، مزاره وقبره بالزلاج معروفٌ زرته رحمه الله، وقرأ الجمهور «1» : «وما أوتيتم» ، واختلف فيمَنْ خوطب بذلك، فقالت فرقة: السَّائِلُونَ فقَطْ، وقالت فرقة: العالم كلّه، وقد نص على ذلك صلّى الله عليه وسلّم على ما حكاه الطبريُّ «2» . وقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ ... الآية: المعنى وما أوتيتم أنْت يا محمَّد، وجميعُ الخلائق من العلْم إِلا قليلاً، فاللَّه يُعلِّم مَنْ علَّمه بما شاء، ويَدَعُ ما شاء، ولو شاء لذهب بالوحْيِ الذي آتاك، وقوله إِلَّا رَحْمَةً استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكن رحمة من ربّك تمسك

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 482) . (2) ينظر: «الطبري» (8/ 144) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 88 إلى 89]

عليك قال الداوديّ: وما روي عن ابن مسعود من أنه سَيُنْزَعُ القرآنُ من الصدور، وتُرْفَعُ المصاحف «1» لا يَصِحُّ وإِنما قال سبحانه: وَلَئِنْ شِئْنا فلم يشأ سبحانه، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ» «2» قال البخاريُّ: وهم أهل العِلْم، ولا يكون العلم مع فقد القرآن. انتهى كلام الداوديّ، وهو حَسَن جدًّا، وقد جاء في الصحيح ما هو أبْيَنُ من هذا، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ العِلْمَ انْتِزَاعاً ولَكِنْ يقبض العلم بقبض العلماء ... «3» ، الحديث. [سورة الإسراء (17) : الآيات 88 الى 89] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وقوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ... الآية: سببُ هذه الآية أنَّ جماعة من قريش قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ جِئْتَنَا بآيةٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ هذا القرآن، فإِنا نَقْدِرُ نَحنُ عَلَى المَجِيءِ بمثله، فنزلَتْ هذه الآية المصرِّحة بالتعجيز لجميع الخلائق. قال ص: واللام في لَئِنِ اجْتَمَعَتِ اللام الموطِّئة للقسم، وهي الداخلة على الشرطِ، كقوله: لَئِنْ أُخْرِجُوا [الحشر: 12] وَلَئِنْ قُوتِلُوا [الحشر: 12] والجوابُ بعدُ للقَسَمِ لتقدُّمه، إِذا لم يسبق ذو خبره لا للشرطِ، هذا مذهبُ البصريِّين خلافاً للفراء في إجازته الأَمرين، إِلا أنَّ الأكثر أنْ يجيء جواب قَسَمٍ، «والظهير» المعين. / قال ع «4» : وفهمت العرب الفصحاء بُخُلوصِ فهمها في مَيْزِ الكلامِ وَدُرْبتها به

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 144) برقم: (22690) ، وذكره ابن عطية (3/ 482) ، وذكره ابن كثير (3/ 62) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 363) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه. (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه البخاري (1/ 234) كتاب «العلم» باب: كيف يقبض العلم، حديث (100) ، وفي (13/ 295) كتاب «الاعتصام» باب: ما يذكر من ذم الرأي، حديث (7307) ، ومسلم (4/ 2058) كتاب «العلم» باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن، حديث (13/ 2673) ، والترمذي (5/ 31) ، كتاب «العلم» باب: ما جاء في ذهاب العلم، حديث (2652) ، وابن ماجه (1/ 20) «المقدمة» باب: اجتناب الرأي والقياس، حديث (52) ، والدارمي (1/ 77) ، وأحمد (2/ 162، 190) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 247- بتحقيقنا) ، من حديث عبد الله بن عمرو، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 483) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 إلى 95]

ما لا نفهمه نَحْنُ ولا كُلُّ من خالطته حضارةٌ، ففهموا العَجْزَ عنه ضرورةً ومشاهدةً، وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً، ولكلٍّ حصل عِلْم قطعيٌّ، لكن ليس في مرتبةٍ واحدةٍ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 95] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) وقوله سبحانه: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ... الآية: روي في قول هذه المقالة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حديثٌ طويلٌ، مقتضاه: أنَّ عُتْبَة وشَيْبة ابْنَيْ ربيعَةَ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبي أميَّةَ، والنَّضْرَ بْنَ الحَارِثِ وغيرهم من مَشْيَخَةِ قريشٍ وسادَاتِها، اجتمعوا عليه، فعرَضُوا عليه أنْ يملِّكوه إِن أراد المُلْك، أو يجمعوا له كثيراً من المالِ إِن أراد الغنى ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك إِلى اللَّه، وقال: إِنما جئتُكُمْ بأمرٍ منَ اللَّهِ فيه صَلاحُ دنياكم ودِينِكُم، فإِن أطعتم، فَحَسَن، وإِلا صَبَرْتُ حتَّى يحكم اللَّه بيني وبينكم «1» فقالوا له حينئذٍ: فإِن كان ما تَزْعُمُ حقًّا، ففجِّر لنا من الأرض ينبوعاً ... الحديث بطوله، «واليَنْبُوع» : الماء النابع، وخِلالَها ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها. وقوله: كَما زَعَمْتَ إِشارة إلى ما تلا عليهم قبل ذلك في قوله سبحانه: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ... الآية [سبأ: 9] «والكِسَفُ» الشيء المقطوع، وقال الزجَّاج «2» المعنى: أو تسقط السماء علينا طبقاً، وقوله: قَبِيلًا قيل: معناه مقابلةً وعياناً، وقيل: معناه ضامناً وزعيماً بتصديقك ومنه القبالة «3» وهي الضمان، وقيل: معناه نوعاً وجنساً لا نظير له عندنا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، قال المفسِّرون: الزُّخْرُفُ الذَّهَب في هذا الموضع، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، أي: في الهواء

_ (1) أخرجه الطبري، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن المنذر كما في «الدر المنثور» (4/ 365- 366) ، عن ابن عباس. (2) ينظر: «تفسير الزجاج» (3/ 259) . (3) القبالة: الكفالة، وهي في الأصل: مصدر قبل: إذا كفل، وقبل «بالضم» - إذا صار قبيلا، أي: كفيلا، وتقبّل به: إذا تكفّل. ينظر: «لسان العرب» (352) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 96 إلى 98]

علوًّا، ويحتمل أن يريد السماء المعروفَة، وهو أظهر. ت: وذكر ع «1» هنا كلماتٍ الواجبُ طرحها، ولهذا أعرضت عنها، وتَرْقى معناه تصعد، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبدُ اللَّهِ بْنُ أبي أميَّةِ، ويروى أن جماعتهم طلبَتْ هذه النْحوَ منه، فأمره عزَّ وجلَّ أن يقول: سُبْحانَ رَبِّي، أي: تنزيهاً له من الإِتيان إِليكم مع الملائكةِ قبيلاً، ومن اقتراحِي أنا عليه هذه الأشياءَ، وهل أنا إِلا بشر، إِنما عليَّ البلاغ المبين فقطْ. وقوله: مُطْمَئِنِّينَ، أي: وادعين فيها مقيمين. [سورة الإسراء (17) : الآيات 96 الى 98] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) وقوله سبحانه: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ روي أن من تقدَّم الآن ذكرهم من قريش، قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر قولهم: فَلْتَجِىءْ مَعَكَ بطائفةٍ من الملائكة تَشْهَدُ لك بِصِدْقك في نبوَّتك، وروي أنهم قالوا: فمن يشهدُ لك؟ ففي ذلك نزلَتِ الآية، أي: اللَّه يشهد بيني وبينكم، ثم أخبر سبحانه أنه يحشرهم على الوُجُوه حقيقةً، وفي هذا المعنى حديثٌ، «قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَمْشِي الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قال: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ في الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْنِ قَادِراً عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ/ في الآخِرَةِ عَلَى وَجهِهِ «2» ؟» قال قتادة: بَلَى، وَعِزَّةِ رَبِّنا «3» . ت: وهذا الحديثُ قد خرَّجه الترمذيُّ من طريق أبي هريرة، قال: قال رسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَة عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: ركبانا، ومشاة، وعلى

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 485) . (2) أخرجه البخاري (8/ 350) كتاب «التفسير» باب: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ، حديث (4760) ، ومسلم (4/ 2161) كتاب «صفات المنافقين» باب: يحشر الكافر على وجهه، حديث (2806) ، والطبري (19/ 12) ، وأبو يعلى (5/ 385- 386) برقم (3046) ، وأحمد (3/ 229) ، وابن حبان (7323) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 343) من حديث أنس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 368) ، وزاد نسبته إلى أبي نعيم في «المعرفة» ، وابن مردويه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (3) ذكره ابن عطية (3/ 487) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 99 إلى 100]

وُجُوهِهِم ... » «1» الحديثَ، وقوله: كُلَّما خَبَتْ أي: كلما فرغَتْ من إِحراقهم، فسكن اللهيبُ القائمُ عليهم قَدْرَ ما يعادون، ثم يثورُ، فتلك زيادة السعير، قاله ابن عَبَّاس «2» . قال ع «3» : فالزيادة في حيِّزهم، وأما جهنَّم، فعلى حالها من الشدَّة، لا فتور، وخَبَتِ النارُ، معناه: سَكَن اللهيبُ، والجَمْرُ على حاله، وخَمَدَتْ معناه، سكَن الجَمْر وضَعُف، وهَمَدَتْ معناه: طُفِئت جملةً. وقوله سبحانه: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا ... الآية: الإِشارة ب ذلِكَ إِلى الوعيد المتقدِّم بجهنم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 99 الى 100] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... الآية: الرؤيةُ في هذه الآية هي رؤية القَلْبِ، وهذه الآية احتجاجٌ عليهم فيما استبعدوه من البعث، «والأجل» هاهنا: يحتمل أن يريد به القيامة، ويحتمل أن يريد أَجَلَ الموت. وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ... الآية: ال رَحْمَةِ، في هذه الآية: المال والنِّعم التي تُصْرَفُ في الأرزاق. وقوله: خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ المعنى: خشية عاقبةِ الإِنفاق، وهو الفَقْر، وقال بعض اللُّغويِّين، أنْفَقَ الرجُلُ معناه: افتقَرَ كما تقول أَتْرَبَ وأَقْتَرَ. وقوله: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي: ممسِكاً، يريدُ أنَّ في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائنَ رحمة الله، لأمسك خشيةَ الفَقْر، وكذلك يظنُّ أن قدرة اللَّه تقفُ دون البَعْث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى. [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 305) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الإسراء، حديث (3142) ، من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وأخرجه أحمد (2/ 354) . (2) أخرجه الطبري (8/ 153) برقم: (22726) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 487) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 369) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» . [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 487) .

وقوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ... الآية: اتفق المتأوِّلون والرواةُ أن الآياتِ الخَمْسَ التي في «سورة الأعراف» هي من هذه التسْعِ، وهي: الطُّوفانُ والجَرَادُ والقُمَّل والضَّفادع والَّدمُ، واختلفوا في الأربَعِ. ت: وفي هذا الاتفاق نظَرٌ، وَرَوَى في هذا صفوانُ بنُ عَسَّال أن يهوديًّا من يهودِ المدينةِ، قال لآخَرَ: سِرْ بِنَا إِلى هذا النبيِّ نسأله عن آيات موسى، فقال له الآخر: لا تقل له إنَّه نَبيٌّ، فإِنه لَوْ سَمِعَها، صَارَ له أربعة أعيُنٍ، قال: فَسَارَا إِلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فسألاه، فقال: «هي لا تُشْرِكُوا باللَّه شيئاً، ولا تسرِقُوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إِلا بالحق، ولا تمشوا ببريءٍ إلى السلطان ليقتله، ولا تَسْحَرُوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المُحْصَنَات، ولا تَفِرُّوا يَوْمَ الزَّحْف، وعليْكُمْ- خاصَّةَ معْشَرِ اليهودِ ألاَّ تَعْدُوا في السبت» «1» . انتهى، وقد ذكر ع «2» هذا الحديث. وقوله سبحانه: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ، أي: إِذ جاءهم موسى واختلف في قوله: مَسْحُوراً فقالتْ فرقة: هو مفعولٌ على بابه، وقال الطبري «3» : هو بمعنى ساحرٍ، كما قال/ حِجاباً مَسْتُوراً [الاسراء: 45] وقرأ الجمهور: «لَقَدْ عِلمْتَ» ، وقرأ الكسائيُّ: «لَقَدْ عَلِمْتُ» بتاء المتكلِّم مضمومةً، وهي قراءة علي بن أبي طالب وغيره، وقال: ما علم عَدُوُّ اللَّه قطُّ، وإِنما علم موسى والإِشارة ب هؤُلاءِ إِلى التسع. وقوله: بَصائِرَ: جمعُ بصيرةٍ، وهي الطريقةُ، أي طرائِقَ يُهْتَدَى بها، و «المثبور» المُهْلَكُ قاله مجاهد «4» ، فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، أي: يستخفهم ويقتلهم،

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 305- 306) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة بني إسرائيل، حديث (3144) ، وأحمد (4/ 239- 240) ، والنسائي (7/ 111- 112) ، كتاب «تحريم الدم» باب السحر، حديث (4078) ، والحاكم (1/ 9) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 97- 98) ، والطبري (15/ 172) ، والطبراني في «الكبير» (8/ 83- 84) برقم: (7396) ، وأخرجه ابن ماجه مختصرا برقم: (3705) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 370) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن قانع، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي كلاهما في «الدلائل» . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 488) . (3) ينظر: «الطبري» (8/ 158) . (4) أخرجه الطبري (8/ 159) برقم: (22759) ، وذكره البغوي (3/ 140) ، وابن عطية (3/ 489) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 67) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 إلى 109]

والأرض هنا أرْضُ مِصْر، ومتى ذكرت الأرض عموماً، فإِنما يراد بها ما يناسب القصَّة المتكلَّم فيها، واقتضبَتْ هذه الآيةُ قصص بني إِسرائيل مع فرعون، وإِنما ذكرت عِظَمَ الأمر وخطيره، وذلك طرفاه أراد فرعون غلبتهم وقتلهم، وهذا كان بَدْءَ الأمر فأغرقه اللَّه وجُنُودَهُ، وهذا كان نهايةَ الأمر، ثم ذكر سبحانه أمْرَ بني إسرائيل بعد إِغراق فرَعوْنَ بسُكْنَى أرض الشام ووَعْدُ الْآخِرَةِ هو يوم القيامة، «واللفيفُ» : الجَمْعُ المختلطُ الذي قد لفّ بعضه إلى بعض. [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وقوله سبحانه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن نَزَلَ بالمصالح والسّداد للناس، وبِالْحَقِّ نَزَلَ يريد: بالحقِّ في أوامره ونواهيه وأخباره، وقرأ جمهور «1» الناس: «فَرْقَنَاهُ» بتخفيف الراء، ومعناه: بيَّنَّاه وأوضَحْناه وجَعَلْناه فرقاناً، وقرأ جماعةٌ خارجَ السبْعِ «2» : «فَرَّقْنَاهُ» بتشديد الراء، أي: أنزلناه شيئاً بعد شيء، لا جملةً واحدة، ويتناسق هذا المعنى مع قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وتأوّلت فرقةٌ قوله: عَلى مُكْثٍ أي: على ترسُّل في التلاوةِ، وترتُّل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جُرَيْج وابن زيد «3» ، والتأويلُ الآخر، أي على مُكْثٍ وتطاوُلٍ في المدة شيئاً بعد شيء. وقوله سبحانه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا فيه تحقيرٌ للكفّار، وضرب من التوعّد، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ: قالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب، والْأَذْقانِ: أسافل الوجوه حيث يجتمع اللّحيان.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 490) ، و «البحر المحيط» (6/ 84) ، و «الدر المصون» (4/ 426) . (2) وهي قراءة أبيّ، وابن عباس، ومجاهد، وابن مسعود، وعلي، وأبي رجاء، وقتادة، والشعبي، وحميد، وعمرو بن فائد، وزيد بن علي، وعمرو بن ذر، وعكرمة، والحسين. ينظر: «مختصر الشواذ» (81) ، و «المحتسب» (2/ 23) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 490) ، و «البحر المحيط» (6/ 84) ، و «الدر المصون» (4/ 427) . (3) أخرجه الطبري (8/ 162) برقم: (22783) ، وذكره ابن عطية (3/ 491) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 372) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 إلى 111]

قال الواحِدِيُّ: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا أي: بإِنزال القرآن، وبعَث محمَّد لَمَفْعُولًا. انتهى. وقوله سبحانه: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً هذه مبالغةٌ في صفتهم، ومَدْحٌ لهم وحضٌّ لكل من توسَّم بالعلم، وحصَّلَ منه شيئاً أنْ يجري إلى هذه الرتبة النفيسَةِ وحكَى الطبريُّ عن التميميِّ أن من أوتي من العلْمِ ما لم يُبْكِهِ لخَلِيقِ ألاَّ يكونَ أُوتِيَ عْلماً ينفعه لأَنَّ اللَّه سبحانه نعت العلماء، ثم تَلاَ هذه الآية كلَّها. ت: وإِنه واللَّهِ لكذلكَ، وإِنما يخشَى اللَّهَ مِنْ عباده العلماءُ، اللهمَّ انْفَعْنَا بما عَلَّمتنا، ولا تجعْلُه علينا حجَّةً بفضلك، ونقل الغَزَّاليُّ عن ابن عبَّاس أنه قال: إِذا قرأتم سَجْدَةَ «سُبْحَانَ» ، فلا تعجلوا بالسُّجُود حتى تَبْكُوا، فإِن لم تَبْكِ عينُ أحدِكُمْ، فَلْيبكِ قلبه. قال الغَزَّالِيُّ: فإن لم يحضرْهُ حُزْن وبكاءٌ كما يحضر أرباب القلوب الصافيَةِ فليَبْكِ على فَقْدِ الحُزْن والبكاء، فإِن ذلك من أعظم المصِائبِ. قال الغَزَّالِيُّ: واعلم أنَّ الخشوع ثمرةُ الإِيمان، ونتيجةُ/ اليقينِ الحاصلِ بعظمةِ اللَّه تعالى، ومَنْ رُزِقَ ذلك، فإِنه يكون خاشعاً في الصلاة وغيرها فإِن موجب الخشوع استشعارُ عظمة اللَّه، ومعرفةُ اطلاعه على العَبْد، ومعرفةُ تقصير العَبْد، فمن هذه المعارفِ يتولَّد الخشوعُ، وليْسَتْ مختصَّةً بالصلاة، ثم قال: وقد دلَّت الأخبار على أن الأصل في الصَّلاة الخشوعُ، وحضورُ القَلْب، وأن مجرَّد الحركاتِ مع الغَفْلة قليلُ الجدوى في المعادِ، قال: وأعلم أنَّ المعاني التي بها تتمُّ حياة الصلاة تجمعها ستُّ جُمَلٍ، وهي: حضورُ القَلْبِ، والتفهُّمُ، والتعظيمُ، والهَيْبَة، والرجاءُ، والحياءُ، فحضور القَلْب: أن يفرِّغه من غير ما هو ملابسٌ له، والتفهُّم: أمر زائد على الحُضُور، وأما التعظيم، فهو أمر وراءَ الحضور والفَهْمِ، وأما الهَيْبة، فأمر زائد علي التعظيمِ، وهي عبارة عن خَوْفٍ مَنْشَؤه التعظيم، وأما التعظيم، فهو حالةٌ للقَلْب تتوَّلد من معرفتين: إِحداهما: معرفة جلالِ اللَّه سبحانه وعظمته، والثانية: معرفة حقارة النفْسِ، واعَلَمْ أَنَّ حضور القلب سببه الهِمَّة، فإِن قلبك تَابِعٌ لهمَّتك، فلا يحضر إِلا فيما أهمَّك، ومهما أهمَّك أمر، حَضَر القَلْب، شاء أم أبى، والقلب إذا لم يحضُرْ في الصلاة، لم يَكُنْ متعطِّلاً بل يكون حاضراً فيما الهمة مصروفةٌ إِليه. انتهى من «الإحياء» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

وقوله سبحانه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ... الآية: سبب نزول هذه الآية: أنَّ بعض المشركين سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعو: يا اللَّه يا رَحْمَانَ، فقالوا: كان محمَّدٌ يأمرنا بدعاءِ إله واحدٍ، وهو يدْعو إِلَهْين، قاله ابن عباس «1» ، فنزلَتِ الآية مبيِّنةً، أنها أسماء لمسمًّى واحد، وتقدير الآية: أيُّ الأسماءِ تدعو به، فأنت مصيبٌ، فله الأسماءُ الحسنى، وفي «صحيحِ البخاريِّ» بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قَالَ: نَزَلَتْ ورسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مُخْتَفٍ بمكَّةَ، كان إِذَا صَلَّى بأصحابه، رَفَعَ صَوْتَهُ بالقرآن، فإِذا سمعه المشْرِكُون، سَبُّوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال اللَّه تبارك وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ، أي: بقراءتك، فيسمَعَ المشركونَ فيسبوا القرآن، وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «2» ، وأسند البخاريُّ عن عائشة: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قالتُ: أنزل ذلك في الدعاءِ انتهى «3» . قال الغَزَّاليُّ في «الإِحياء» : وقد جاءت أحاديثُ تقتضي استحبابَ السِّرِّ بالقرآن، وأحاديثُ تقتضي استحبابَ الجَهْر به، والجَمُع بينهما أنْ يقال: إِن التالي إِذا خاف على نفسه الرِّياءَ والتصنُّع أو تشويش مُصَل، / فالسر أفضلُ، وإِن أَمِنَ ذلك، فالجهر أَفَضَلُ لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته أيضاً تتعدَّى إلى غيره والخير المتعدِّي أفضلُ من اللازم ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همَّته إلى الفكْر فيه، ويصرف إِليه سَمْعَه، ويطرد عنه النوْمَ برفْعِ صوته، ولأنه يزيدُ في نشاطه في القراءة، ويقلِّل من كسله ولأنه يرجو بجهره تيقُّظ نائمٍ، فيكون سَبَباً في إِعانته على الخير، ويسمعه بَطَّال غافلٌ، فينشط بسببه، ويشتاقُ لخدمة خالقه، فمهما حَضَرَتْ نيَّةٌ من هذه النيَّات، فالجهر أفضلُ، وإِن اجتمعتْ هذه النيَّاتُ، تضاعَفَ الأجر، وبكثرة النياتِ يزْكُو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم. انتهى. وقوله سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ هذه الآية رادَّة على كَفَرة العرب في

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 165) برقم: (22801) ، وذكره البغوي (3/ 142) ، وابن عطية (3/ 492) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 68) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 373) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه. (2) أخرجه البخاري (. / 257) ، كتاب «التفسير» باب: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، حديث (4722) . (3) أخرجه البخاري (8/ 257) كتاب «التفسير» باب: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، حديث (4723) .

قولهم: لولا أولياءُ اللَّه، لَذَلَّ- تعالى اللَّه عن قولهم- وقَّيد سبحانه نَفْيَ الولاية له بطريقِ الذُّلِّ، وعلى جهة الانتصار إِذ ولايته سبحانه موجُوَدةٌ بفضله ورحمته لمن والى من صَالح عباده. قال مجاهد: المعنى لم يخالِفْ أحداً ولا ابتغى نصْرَ أحد سبحانه، لا إله إِلا هو «1» وصلَّى اللَّه على سيدِّنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 172) برقم: (22850) ، وذكره ابن عطية (3/ 493) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 69) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 376) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

تفسير سورة الكهف

تفسير سورة الكهف بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مكّيّة في قول جميع المفسّرين، وروي عن قتادة أنّ أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: جُرُزاً والأول أصحّ، وهي من أفضل سور القرآن «1» ، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السّموات والأرض، ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا: أيّ سورة هي، يا رسول الله؟ قال: سورة الكهف، من قرأ بها يوم الجمعة، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى، وزيادة ثلاثة أيّام» «2» وفي رواية أنس: «من قرأ بها، أعطي نورا بين السّماء والأرض، ووقي بها فتنة القبر» . ت: وعن البراء بن عازب، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فقال: «تلك السّكينة نزلت بالقرآن» » رواه البخاريّ، واللفظ له، ومسلم والترمذيّ والنسائيّ، والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير، وفي الحديث الصحيح من طريق النّوّاس بن سمعان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فمن أدرك الدّجّال منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ... » وذكر الحديث. رواه مسلم «4» وغيره، زاد أبو داود: «فإنّها جوازكم من فتنته» . وعن أبي الدرداء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ عشر آيات من أوّل سورة الكهف، عصم من الدّجّال» «5» رواه مسلم وأبو داود والترمذيّ/ والنسائي، واللفظ

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 494) . (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 379) ، وعزاه إلى ابن مردويه، عن عائشة. [.....] (3) تقدم تخريجه في أوائل التفسير. (4) تقدم تخريجه في أوائل التفسير. (5) أخرجه مسلم (1/ 555) كتاب «صلاة المسافرين» باب: فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، حديث (257/ 809) ، وأبو داود (2/ 520) كتاب «الملاحم» باب: في ذكر خروج الدجال، حديث (4323) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم: (951) ، وأحمد (5/ 196) ، (6/ 449) ، والحاكم (2/ 368) ، وابن حبان (785- 786) ، والبيهقي (3/ 249) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 25- بتحقيقنا) من حديث أبي الدرداء.

[سورة الكهف (18) : الآيات 1 إلى 5]

لمسلم، وفي رواية لمسلم وأبي داود: «من آخر الكهف» ، وعن أبي سعيد الخدريّ، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، كانت له نورا من مقامه إلى مكّة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها، فخرج الدّجّال، لم يسلّط عليه «1» رواه الترمذيّ والحاكم في «المستدرك» والنسائيّ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وله في رواية: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النّور ما بين الجمعتين» «2» ، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه الدّارميّ في مسنده موقوفا ورواته «3» متّفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم يحيى بن دينار الرّمّاني وقد وثّقه أحمد ويحيى وأبو زرعة وأبو حاتم. انتهى من «السلاح» . [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ كان حفْصٌ عن عاصم «4» يَسْكُتُ عند قوله: عِوَجاً سكتةً خفيفة، وعند مَرْقَدِنا في يس [يس: 52] وسبب هذه البداءة في هذه السورة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما سألته قريشٌ عن المسائِلِ الثَّلاثِ: الرُّوحِ، وأصحابِ الكهف، وذِي القَرْنَيْنِ، حسب ما أمرتهم به يهود- قال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «غَداً أُخْبِرُكُمْ بِجَوَابِ مَا سَأَلْتُمْ» ولم يقلْ: إِن شاء اللَّه، فعاتَبَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمسك عنه الوحْيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً، وأرجف به كُفَّار قريشٍ، وشَقَّ ذلك على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وبلَغَ منه، فلما انقضى الأمَدُ الذي أراد اللَّهُ عِتَابَ نبيِّه، جاءه الوحْيُ بجوابِ ما سألوه، وغير ذلك، فافتتح الوحْي ب الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ، وهو القرآن. وقوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، أي: لم ينزله عن طريق الاستقامة، «والعِوَج» فَقُدُ الاستقامة، ومعنى قَيِّماً، أي: مستقيماً قاله ابن «5» عباس وغيره، وقيل: معناه أنه قيّم

_ (1) أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم: (952، 954) ، والحاكم (2/ 368) ، والبيهقي (3/ 249) ، عن أبي سعيد مرفوعا، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وأخرجه الدارمي (2/ 454) عن أبي سعيد موقوفا. (2) أخرجه الحاكم (2/ 368) . (3) ينظر: «سنن الدارمي» (2/ 454) . (4) ينظر: «العنوان» (122) ، و «شرح الطيبة» (5/ 3) ، و «شرح شعلة» (468) ، و «إتحاف» (2/ 208) . (5) ذكره الطبري (8/ 173- 174) ، وابن عطية (3/ 495) ، والبغوي (3/ 144) ، بلفظ عدلا، والسيوطي

[سورة الكهف (18) : الآيات 6 إلى 8]

على سائر الكتب بتصديقها، ولم يرتضه ع «1» ، قال: ويصح أن يكون معنى «قيِّم» قيامَهُ بأمر اللَّه على العَالَمِ وهذا معنى يؤيِّده ما بعْده من النِّذارة والبشارة اللتَيْن عمتا العالَمَ، «والبأس الشديد» عذاب الآخرة، ويحتملُ أنْ يندرج معه في النِّذارة عذابُ الدنيا ببَدْرٍ وغيرها، «ومِنْ لَدُنْهُ» ، أي: من عنده، والمعنى: لينذر العالَمَ و «الأجر الحسن» نعيمُ الجنة، ويتقدَّمه خير الدنيا. وقوله تعالى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً، أي: ما يقولون، فهي النافية. [سورة الكهف (18) : الآيات 6 الى 8] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) وقوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ هذه الآية تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والباخِعُ نَفْسَه هو مهلكها. قال ص: «لعلَّ» للترجِّي في المحبوب، وللإِشفاق في المحذور، وهي هنا للإِشفاق. انتهى. وقوله: عَلى آثارِهِمْ: استعارة فصيحةٌ من حيثُ لهم إِدبارٌ وتباعُدٌ عن الإِيمان فكأنهم من فرط إِدبارهم قَدْ بَعُدُوا، فهو في آثارهم يحزَنُ عليهم. وقوله: بِهذَا/ الْحَدِيثِ، أي: بالقرآن، «والأسف» المبالغة في حزنٍ أو غضبٍ، وهو في هذا الموضع الحزنُ لأنه على مَنْ لا يملك، ولا هو تحت يدِ الآسِفِ، ولو كان الأَسَفُ من مقتدرٍ على من هو في قبضته ومِلْكه، لكان غضباً، كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: 55] أي: أغضبونا. قال قتادة: أَسَفاً: حُزْناً «2» . وقوله سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ... الآية: بسط في التسلية، أي: لا تهتمَّ بالدنيا وأهلها، فإن أمرها وأمرهم أقلُّ لفناء ذلك وذهابه، فإِنا إِنما جعلنا ما على الأرض زينةً وامتحاناً واختباراً، وفي معنى هذه الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الدّنيا حلوة خضرة،

_ - (4/ 381- 382) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق علي. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 495) . (2) أخرجه الطبري (8/ 177- 178) برقم: (22873) ، وذكره ابن عطية (3/ 496) ، وابن كثير (3/ 72) ، والسيوطي (4/ 382) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 9 إلى 10]

وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيا واتقوا النِّسَاءَ» «1» لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنختبرهم، وفي هذا وعيدٌ مَّا. قال سفيانُ الثَّوْريُّ: أحسنهم عملاً: أزهدهم فيها «2» ، وقال أبو عاصم العَسْقَلاَنِيُّ: أَحْسَنُ عَمَلًا. الترك لها «3» . قال ع «4» : وكان أبي رحمه اللَّه يقولُ: أحسن العَمَلِ: أخْذٌ بحقٍّ، وإِنفاقٌ في حقٍّ، وأداء الفرائض، واجتناب المحارِمِ، والإِكثار من المندوب إِليه. وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي: يرجع ذلك كُّله تراباً، «والجُرُز» : الأرض التي لا شيء فيها مِنْ عمارةٍ وزينةٍ، فهي البَلْقَعُ، وهذه حالة الأرض العَامِرَةِ لا بُدَّ لها من هذا في الدنيا جزءاً جزءاً من الأرض، ثم يعمُّها ذلك بأجمعها عند القيامة، و «الصعيدُ» وجْه الأرض، وقيل: «الصّعيد» : التراب خاصّة. [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 10] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً، أي: ليسوا بعجب من آياتِ اللَّهِ، أي: فلا يَعْظُمْ ذلك عليك بحسب ما عَظَّمه السائلون، فإِن سائر آيات اللَّه أعظَمُ من قصتهم، وهو قول ابن عباس «5» وغيره، واختلف الناس في الرَّقِيمِ ما هو؟ اختلافاً كثيراً، فقيل: «الرقيم» كتابٌ في لوحِ نُحَاسٍ، وقيل: في لوحِ رَصَاصٍ، وقيل: في لوحِ حجارةٍ كتبوا فيه قصَّة أهْل الكهفِ، وقيل غير هذا، وروي عن ابن عباس

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2098) كتاب «الرقائق» باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، حديث (99/ 2742) ، والترمذي (4/ 483) كتاب «الفتن» باب: ما جاء ما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، حديث (2191) ، وابن ماجه (2/ 1325) كتاب «الفتن» باب: فتنة النساء، حديث (4000) ، وأحمد (3/ 19، 22، 46) ، وأبو يعلى (2/ 352- 353) برقم: (1101) ، وابن حبان (3221) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) ذكره ابن عطية (3/ 497) ، والسيوطي (4/ 383) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (8/ 178) برقم: (22878) ، وذكره ابن عطية (3/ 497) . [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 497) . (5) أخرجه الطبري (8/ 180) برقم: (22890) بنحوه، وذكره ابن كثير (3/ 73) ، والسيوطي (4/ 384) بنحوه، وعزاه لابن أبي حاتم.

أنه قال: ما أدْرِي مَا الرَّقِيم «1» ؟ قال ع «2» : ويظهر من هذه الرواياتِ أنهم كانوا قوماً مؤَرِّخين، وذلك مِنْ نُبْل المملكة، وهو أمر مفيدٌ. وقوله سبحانه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ: الْفِتْيَةُ، فيما روي قوم من أبناء أشرافِ مدينةِ دِقْيُوس المَلِكِ الكافِرِ، ويقال فيه «دقيانوس» ، وروي أنهم كانوا مُطَوَّقين مسَوَّرين بالذهب، وهم من الروم، واتبعوا دينَ عيسَى، وقيل: كانوا قبل عيسَى، واختلف الرواةُ في قصصهم، ونذْكُر من الخلافِ عُيُونَه، وما لا تستغني الآية عنه: فروي عن مجاهدٍ عن ابن عباس، أن هؤلاء الفتية كانوا في دينِ مَلِكٍ يعبد الأصنام «3» ، فوقَع للفتيةِ عِلْمٌ من بعض الحواريِّين، حَسْبما ذكره النَّقَّاش، أو من مؤمني الأمم قبلهم، فآمنوا باللَّه، ورأَوا ببصائرهم قَبِيحَ فعْل الناس، فرفع أمرهم إِلى المَلِك، فاستحضَرَهُمْ، وأمرهم بالرجُوعِ إِلى دينه، فقالوا/ له فيما روي: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... [الكهف: 14] الآية، فقال لهم الملك: إِنَّكُمْ شُبَّانٌ أغْمَارٌ، لا عَقْل لكم، وأَنا لا أعْجَلُ عليكم، وضَرَبَ لهم أجلاً ثم سافر خِلاَلَ الأجَلِ، فتشاور الفتْيَةُ في الهروبِ بأديانهم، فقال لهم أحَدُهم: إِني أعْرِفُ كهْفاً في جَبَلِ كذا، فلنذهب إِليه. وروت فرقةٌ إنَّ أمر أصحاب الكهْف إنما كان أنهم من أبناء الأشْرَافِ، فحضر عيدٌ لأهْلِ المدينة، فرأى الفتْيَةُ ما ينتحله الناسُ في ذلك العِيدِ من الكُفْرِ وعبَادة الأصنام، فوقع الإِيمانُ في قلوبهم، وأجمعوا على مفارقة دِينِ الكَفَرة، وروي أنهم خَرَجُوا، وهُمْ يلعبون بالصَّوْلَجَانِ والكَرة، وهم يدحرجونها إِلى نحو طريقهم لئلاَّ يشعر الناس بهم حتى وصلوا إِلى الكهف، وأما الكلب فرِوِيَ أنه كان كَلْبَ صيدٍ لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم رَاعياً له كلْبٌ، فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلْبُ معهم، فدخلوا الغَارَ، فروت فرقة أن اللَّه سبحانه ضَرَبَ على آذانهم عند ذلك، لما أراد مِنْ سَتْرهم وخَفِيَ على أهْل المملكة مكانُهم، وعَجِبَ الناسُ من غَرَابة فَقْدهم، فأرَّخوا ذلك ورقَّموه في لوحَيْنِ من رصاصٍ أو نحاسٍ، وجعلوه على باب المدينةِ، وقيل على الرواية: إن الملك بنى باب

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 182) برقم: (22905) ، وذكره ابن عطية (3/ 498) ، وابن كثير (3/ 73) ، والسيوطي (4/ 384) ، وعزاه لابن جرير من طريق ابن جريج. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 497- 498) . (3) ذكره ابن عطية (3/ 498) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 11 إلى 13]

الغار، وإِنهم دفنوا ذلك في بِنَاءِ الملِك على الغار، وروت فرقة، أن المَلِك لما علم بذَهَاب الفتية، أَمَرَ بقَصِّ آثارهم إِلى باب الغار، وأمر بالدخول عليهم، فهَابَ الرجالُ ذلك، فقال له بعضُ وزرائه: «أَلَسْتَ أيها المَلِكُ إِن أخرجتَهم قتلَتهم؟ قال: نعم، قال: فأيُّ قِتْلة أبلغُ من الجُوع والعَطَش، ابن عليهم باب الغارِ، ودعْهم يموتوا فيه، ففعل، وقد ضَرَبَ اللَّه على آذانهم كما تقدَّم، ثم أخبر اللَّه سبحانه عن الفتْيَة أنهم لما أَوَوْا إِلى الكَهْف، أي: دخلوه وجعلوه مأوًى لهم وموضعَ اعتصام دَعَوُا اللَّه تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمةً، وهي الرْزقُ فيما ذكره المفسِّرون، وأن يهيِّىء لهم من أمرهم رَشَدَاً خلاصاً جميلاً، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظهم تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقةٍ من رَشَدِ الآخرة ورحمتها، وينبغي لكُلِّ مؤمن أنْ يجعَلَ دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقطْ فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة. [سورة الكهف (18) : الآيات 11 الى 13] فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ... الآية: عبارةٌ عن إلقاء اللَّه تعالى النَوْمَ عليهم. وقوله: عَدَداً نعت ل «السنين» والقصد به العبارة عن التكثير. وقوله: لِنَعْلَمَ: عبارة عن خروج ذلك الشيءِ إِلى الوجود، أي: لنعلم ذلك موجوداً وإِلا فقد كان سبحانه علم أيَّ الحزبَيْن أحْصَى الأمَدَ، و «الحْزَبان» : الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إِذ ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهْل المدينة الذين بعث الفتية على/ عَهْدهم حين كان عنْدَهم التاريخُ بأمْر الفتية، وهذا قولُ الجمهور من المفسِّرين، وأما قوله: أَحْصى فالظاهر الجيد فيه أنّه فعل ماض، وأَمَداً منصوبٌ به على المفعول، «والأمد» : الغاية، ويأتي عبارةً عن المدَّة، وقال الزَّجَّاج: أَحْصى هو «أفْعَل» ، ويعترض بأن «أَفْعَل» لا يكون من فعل رباعيّ إلا في «1» الشاذّ،

_ (1) يجوز فيه وجهان: «أحدهما» : أنه أفعل تفضيل، وهو خبر ل «أيّهم» ، و «أيّهم» استفهامية، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها. ولِما لَبِثُوا حال من «أمدا» ، لأنه لو تأخر عنه، لكان نعتا له، ويجوز أن تكون اللام على بابها من العلة، أي: لأجل، قاله أبو البقاء، ويجوز أن تكون زائدة، و «ما» مفعوله إما ب «أحصى» على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإضمار فعل، و «أمدا» مفعول «لبثوا» أو منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.

وأَحْصى: فعلٌ رباعيٌّ ويحتجُّ لقول الزَّجَّاج بأن «أفْعَل» من الرباعيّ قد كثر كقولك: ما

_ «والوجه الثاني» : أن يكون «أحصى» فعلا ماضيا. و «أمدا» مفعوله، و «لما لبثوا» متعلق به، أو حال من «أمدا» واللام فيه مزيدة، وعلى هذا ف «أمدا» منصوب ب «لبثوا» ، و «ما» مصدرية، أو بمعنى الذي، واختار الأول أعني كون «أحصى» للتفضيل الزجاج، والتبريزي، واختار الثاني أبو علي، والزمخشري، وابن عطية، قال الزمخشري: فإن قلت فما تقول فيمن جعله أفعل تفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، نحو: «أعدى من الجرب» . و «أفلس من ابن المذلّق» شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن «أمدا» إما أن ينتصب بأفعل وأفعل لا يعمل، وإما أن ينتصب ب «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بفعل مضمر، كما أضمر في قوله: .......... وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا فقد أبعدت عن المتناول، حيث أردت أن يكون فعلا، ثم رجعت مضطرا إليه، وناقشه الشيخ، فقال: أما دعواه أنه شاذ، فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أن أفعل فيه ثلاثة مذاهب: الجائز مطلقا، ويعزى لسيبويه. والمنع مطلقا، وهو مذهب الفارسي. والتفصيل بين أن تكون همزته للتعدية فيمتنع، وبين أن لا تكون، فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية، وأما قوله: أفعل لا يعمل فليس بصحيح، لأنه لا يعمل في التمييز، و «أمدا» تمييز لا مفعولا به كما تقول: زيدا أقطع النّاس سيفا، وزيدا أقطع للهام سيفا. «قلت: الذي أحوج الزمخشري إلى عدم جعله تمييزا مع ظهوره في بادىء الرّأي عدم صحة معناه، وذلك أنّ التمييز شرطه في هذا الباب أن يصح نسبة ذلك الوصف الذي قبله إليه، ويتصف به، ألا ترى إلى مثاله في قوله: «زيدا أقطع النّاس سيفا» كيف يصح أن يسند إليه، فيقال: «زيد أقطع سيفه، وسيفه قاطع» إلى غير ذلك، وهنا ليس الإحصاء من صفة «الأمد» ولا يصح نسبته إليه، وإنما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق، وكان الشيخ نقل عن أبي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله «أحصى» أفعل تفضيل، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماض قال أبو البقاء: في «أحصى» وجهان: «أحدهما» : هو فعل ماض، و «أمدا» مفعول «لبثوا» . وهو خطأ، وإنما الوجه أن يكون تمييزا، والتقدير: لما لبثوه. «الوجه الثاني» : هو اسم، و «أمدا» منصوب بفعل دلّ عليه الاسم، فهذا تصريح بأن «أمدا» حال جعله «أحصى» اسما ليس تمييزا، بل مفعولا به بفعل مقدّر، وأنه جعله تمييزا عن «لبثوا» . ثم قال الشيخ: «وأما قوله: وأما أن ينصب ب «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديدا، وقد ذهب الطبري إلى أنه منصوب ب «لبثوا» . قال ابن عطية: وهو غير متّجه انتهى، وقد يتجه، وذلك أنّ الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدّة، من حيث إنّ المدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، و «ما» بمعنى الذي و «أمدا» منصوب على إسقاط الحرف، وتقديره: لما لبثوا من أمد، أي: من مدة، ويصير «من أمد» تفسيرا لما أبهم من لفظ «ما» ، كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ- ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، ولمّا سقط الحرف، وصل إليه الفعل. قلت: يكفيه أن مثل ابن عطية جعله غير متجه، وعلى تقدير ذلك، فلا نسلم أنّ الطبري عنى نصبه ب «لبثوا» ، مفعولا به، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزا، كما قاله أبو البقاء، ثم قال: وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره، فتقول: لا نحتاج إلى ذلك، لأن لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين، في أنه ينصب القوانس بنفس «اضرب» ، ولذلك جعل بعض النحاة أنّ «أعلم»

[سورة الكهف (18) : الآيات 14 إلى 16]

أعطاه للمال، وكقوله عليه الصلاة والسلام في صفة جهنَّمِ: «أَسْود مِنَ القَارِ» وفي صفة حوضِهِ «أَبْيَض مِنَ اللَّبَنِ» «1» . ت: وقد تقَّدم أن «أسْوَد» من «سود» ، وما في ذلك من النقْدِ، وقال مجاهدٌ: أَمَداً معناه عدداً «2» ، وهذا تفسيرٌ بالمعنى. وقوله سبحانه: وَزِدْناهُمْ هُدىً، أي: يسَّرناهم للعمل الصالحِ، والانقطاع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، ومباعدةِ الناسِ، والزهْدِ في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان. [سورة الكهف (18) : الآيات 14 الى 16] وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وقوله سبحانه: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ: عبارة عن شدَّةِ عزمٍ، وقوةِ صبرٍ، ولما كان الفَزَعُ وخَوَرُ النفس يشبه بالتناسُب الانحلالَ، حَسُنَ في شدَّة النفْس، وقوَّة التصميمِ أنْ يُشْبِه الربْطُ، ومِنْه يقالُ: فلانٌ رَابِطُ الجأشَ إِذا كان لا تَفْرَقُ نفسه عند الفَزَعَ والحروبِ وغيرها، ومنْه الربْطُ على قَلْب أمِّ موسى. وقوله تعالى: إِذا قامُوا يحتمل أنْ يكون وصف قيامهم بين يَدَيِ الملك الكافِرِ، فإِنَّه مَقَامٌ يحتاج إلى الربْطِ على القَلْب، ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعزم على

_ ناصب ل «من» في قوله: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ، وذلك لأنّ أفعل مضمرة لمعنى المصدر، إذ التقدير: يريد ضربنا القوانس على ضرب غيرنا» . قلت: هذا مرجوح، وأفعل التفضيل ضعيف، وإذا جعلنا «أحصى» اسما فجوّز الشيخ في «أيّ» أن تكون الموصولة، و «أحصى» خبر لمبتدأ محذوف، هو عائدها، وأنّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه، لوجود شرط البناء، وهو إضافتها لفظا، وحذف صدر صلتها. وهذا إنما يكون على جعل العلم، بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلّا مفعول واحد، وتقدير آخر لا حاجة إليه، إلّا أنّ إسناد «علم» بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالا، تقدم تحريره في الأنفال وغيرها. وإذا جعلناه فعلا امتنع أن تكون موصولة، إذ لا حاجة لبنائها حينئذ وهو حسن. ينظر: «الدر المصون» (4/ 437- 438) . (1) أخرجه البخاري (11/ 474) كتاب «الرقاق» باب: الحوض، حديث (6581) ، والترمذي (5/ 419) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الكوثر، حديث (3360) ، من حديث أنس بن مالك. (2) أخرجه الطبري (8/ 188) برقم: (22917) ، وذكره ابن عطية (3/ 500) ، والبغوي (3/ 153) ، والسيوطي (4/ 389) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 17 إلى 18]

الهُرُوب إلى اللَّه ومنابذة النَّاس كما تقول: قَامَ فُلاَنٌ إِلى أمْرِ كذا إذا اعتزم عليه بغايةِ الجِدِّ، وبهذه الألفاظ التي هي: قامُوا فَقالُوا، تعلَّقتِ الصوفيَّة في القيامِ والقَوْل، «والشَّطَط» : الجَوْر وتعدِّي الحدِّ والحقِّ بِحَسَبِ أَمْرٍ أَمْرٍ، و «السلطان» : الحجة، وقال قتادة: المعنى بعذرٍ «1» بيِّن، ثم عظموا جرم الداعين مع اللَّه غيره، وظُلُمَهم بقولهم: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وقولهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ... الآية: المعنى قال بعضهم لبعضٍ، وبهذا يترجَّح أن قوله تعالى: إِذْ قامُوا فَقالُوا إنما المراد به إِذ عزموا ونَفَذُوا لأمْرهم، وفي مصحف ابن مسعود: «ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ، ومضمَّن هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال لبعض: إِذ قد فارَقْنَا الكفَّار، وانفردْنا باللَّه تعالى، فلنجعل الكَهْفَ مأوًى، ونَّتكل على اللَّهِ تعالى، فإنه سيبسُطُ علينا رحمته، وينشرها علينا ويهيِّىءُ لنا من أمرنا مرفقاً، وهذا كله دعاءٌ بحَسَب الدنيا، وهم على ثِقَة من اللَّه في أمر آخرتهم، وقرأ نافع وغيره: «مَرْفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء، وقرأ حمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء، ويقالان معاً في الأمر، وفي الجارحة، حكاه الزَّجَّاج «2» . [سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 18] وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وقوله سبحانه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وتَتَزاوَرُ، أي: تميل، وتَقْرِضُهُمْ معناه/ تتركهم، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمْسٌ البتة، وهو قول ابن عباس «3» ، وحكى الزَّجَّاج «4» وغيره، قال: كان بابُ الكَهْف ينْظُرُ إِلى بناتِ نَعْشٍ، وذهب الزَّجَّاج «5» إِلى أن فعْلَ الشمس كان آيةً من اللَّه تعالى دون أنْ يكون باب الكهْفِ إِلى جهة توجِبُ ذلك، وال فَجْوَةٍ: المتَّسِعَ، قال قتادة: في فضاء منه ومنه الحديث: «فَإِذَا وَجَدَ فجوة نصّ» «6» .

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 190) برقم: (22923) ، وذكره ابن عطية (3/ 501) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 502) . (3) أخرجه الطبري (8/ 192) برقم: (22926- 22927) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 503) ، وابن كثير (3/ 75) بنحوه، والسيوطي (4/ 391) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه ابن عطية (3/ 503) ، والزجاج (3/ 273) ، والبغوي (3/ 154) . [.....] (5) أخرجه ابن عطية (3/ 503) ، والزجاج (3/ 274) . (6) أخرجه الطبري (8/ 193) ، برقم (22939) ، وذكره ابن عطية (3/ 503) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 19 إلى 21]

وقوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإِشارة إلى الأمر بجملته. وقوله سبحانه: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ ... الآية: ذكر بعض المفسِّرين أن تقليبهم إِنما كان حفظاً من الأرض، وروي عن ابن عبَّاس، أنه قال لو مَسَّتهم الشمْسُ، لأحرقتهم، ولولا التقليبُ، لأكلتهم «1» الأرض، وظاهر كلام المفسِّرين أن التقليب كان بأمر اللَّه وفعْلِ ملائكته، ويحتمل أنْ يكون ذلك بإِقدار اللَّه إِياهم على ذلك، وهم في غَمْرة النَّوْم. وقوله: وَكَلْبُهُمْ: أكثر المفسِّرين على أنه كَلْبٌ حقيقة. قال ع «2» : وحدثني أَبِي رحمه الله قال: سَمِعْتُ أبا الفضل بن الجَوْهَرِيِّ في جامِعِ مِصْرَ يقُولُ على منبر وعْظِهِ سنَةَ تسْعٍ وستِّينَ وأربعمائةٍ: مَنْ أحَبَّ أهْلَ الخير، نال مِنْ بركتهم، كَلْبٌ أحبَّ أهْل الفضل، وصَحبهم، فَذَكَره اللَّه في مُحْكَم تنزيله. و «الوَصِيدُ» العَتَبة التي لباب الكهْفِ أو موضعها إِن لم تكنْ، وقال ابن عباس: «الوصيد» » الباب والأول أصحُّ، والباب المُوَصَدُ هو المُغْلَق، ثم ذكر سبحانه ما حفَّهم به من الرُّعْب، واكتنفهم من الهَيْبة، حْفظاً منه سبحانه لهم، فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ... الآية. [سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 21] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ الإِشارة ب «ذلك» إلى الأمر الذي ذكَره اللَّه في جِهَتِهِمْ، والعبرة التي فعلها فيهم، «والبَعْث» : التحريك عن سكونٍ، واللام في قوله: لِيَتَسائَلُوا لام الصيرورة، وقول القائلِ: كَمْ لَبِثْتُمْ يقتضى أنه هجس في خاطره

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 194) برقم: (22944) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 504) ، وابن كثير (3/ 76) بنحوه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 504) . (3) أخرجه الطبري (8/ 195) برقم: (22955) ، وذكره ابن عطية (3/ 504) ، والبغوي (3/ 154) ، وابن كثير (3/ 76) ، والسيوطي (4/ 392) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.

طُولُ نومهم، واستشعر أنَّ أمرهم خَرَجَ عن العادة بعضَ الخروجِ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حالٍ منَ الوَقْت، والهواء الزمانيُّ لا يباين الحالة التي ناموا عليها، وقولهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ يروى أنهم انتبهوا، وهُمْ جيَاعٌ، وأنَّ المبعوثَ هو تَمْلِيخَا، وروي أن باب الكهف انهدَمَ بناءُ الكفَّار منه لطول السنين، ويروى أن راعياً هدمه ليدخل فيه غنمه، فأخذ تمليخا ثياباً رثَّةً منْكَرة ولبسها، وخرَجَ من الكهف، فأنكر ذلك البِنَاءَ المهدُومَ إذ لم يعرفه بالأمْسِ، ثم مَشى، فجعل يُنْكِر الطريق والمعالمَ، ويتحيَّر وهو في ذلك لا يشعر شعوراً تامًّا، بل يكذِّب ظنه فيما تغيَّر عنده حتى بَلَغَ بابَ المدينة، فرأى على بابها أمَارة الإِسلام، فزادَتْ حَيْرَتُه، وقال: كيف هَذَا بِبَلد دقْيُوس، وبالأمْسِ كنا معه تَحْتَ ما كنا، فنهض إلى بابٍ آخر، فرأى نحواً من ذلك حتى مشَى الأبوابَ كلَّها، فزادَتْ حيرته، ولم يميِّز بشراً، وسمع الناس يُقْسِمُون باسم عيسى، فاستراب بنَفْسه، وظنَّ أنه جُنَّ، أو انفسد عقله، فبقي حَيْرَان يدعو اللَّه تعالى، ثم نهض إِلى باب الطعام الذي أراد/ اشتراءه، فقال: يا عبد اللَّه، بِعْنِي من طعامك بهذه الوَرِقِ، فدفع إِليه دَرَاهِمَ، كأخْفَافِ الربع فيما ذُكِرَ، فعجب لها البائعُ ودَفَعَهَا إلى آخر يُعَجِّبُهُ، وتعاطَاهَا النَّاسُ، وقالوا له: هذه دراهِمُ عَهْدِ فلانٍ المَلِكِ، مِنْ أيْن أنْتَ؟ وكَيْفَ وجدتَّ هذا الكَنْزَ، فجعل يبهت ويعجَبُ، وقد كان بالبلد مشهوراً هو وبَيْتُهُ، فقال: ما أعرفُ غير أنِّي وأصْحَابي خَرَجْنا بالأمْس من هذه المدينةِ، فقال النَّاس: هذا مجنونٌ، اذهبوا به إِلى المَلِكِ، ففزِعَ عند ذلك، فَذُهِبَ به حتى جيءَ به إلى المَلِكِ، فلما لم يَرَ دْقيُوس الكافِرَ، تأنَّس، وكان ذلك المَلِكُ مؤمناً فاضلاً يسمَّى تبدوسِيس، فقال له المَلِكُ: أين وجدت هذا الكَنْز؟ فقال له: إِنما خرجْتُ أنا وأصْحَابي أمْس من هذه المدينة، فأوينا إِلى الكَهْف الذي في جَبَل أنجلوس، فلما سمع المَلِكُ ذلك، قال في بعض ما رُوِيَ: لعلَّ اللَّه قَدْ بعث لكُمْ أيُّها الناس آيَةً فَلْنَسِرْ إِلى الكهف، حتى نرى أصحابه، فساروا، وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاءِ هُمُ الفتيةُ الذين ورِّخَ أمرهم على عهد دقْيُوس المَلِك، وكتب على لُوح النُّحَاس بباب المدينةِ، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف، قال تَمْليَخا: أدخُلُ عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمْر، وأن الأمة أمَّة إِسْلام، فروي أنهم سُرُّوا وخَرَجُوا إلى الملك، وعظَّموه، وعظَّمهم، ثم رجَعُوا إلى الكهف، وأكثرُ الروايات على أنهم ماتُوا حين حدَّثهم تملِيخَا، فانتظرهم النَّاسُ، فلما أبطأ خروجُهم، دَخَل الناس إليهم، فرعبَ كلُّ من دخل، ثم أقدموا فوجَدُوهم موتى، فتنازعوا بحَسَب ما يأتى، وفي هذه القصص من الاختلاف ما تَضِيقُ به الصُحفُ فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسَّر ألفاظ الآيةِ، واعتمدتُّ الأصحَّ واللَّه المعينُ برحمته، وفي هذا البعث بالورق جواز الوكالة، وصحّتها.

[سورة الكهف (18) : آية 22]

وأَزْكى معناه: أكثر فيما ذكر عكرمة «1» ، وقال ابن جُبَيْر: المراد أحَلّ «2» ، وقولهم: يَرْجُمُوكُمْ قال الزجاج: بالحجارة، وهو الأصح وقال حَجَّاج: «يرجموكم» معناه: بالقول وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ: الإِشارة في قوله: وَكَذلِكَ إلى بعثهم ليتساءلوا، أي: كما بعثناهم، أعثرنا عليهم، والضمير في قوله: لِيَعْلَمُوا يحتمل أن يعود على الأمَّة المسلمة الذين بُعِثَ أهّل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبريُّ «3» وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذٍ فتنةٌ في أمْرِ الحَشْر وبَعْثِ الأجساد من القبور، فشَكَّ في ذلك بعضُ الناس، واستبعدوه، وقالوا: إِنما تُحْشَر الأرواح، فشَقَّ ذلك على مَلِكهم، وبقي حَيرَان لا يَدْرِي كيف يبيِّن أمره لهم، حتى لَبَس المُسُوح، وقعد على الرَّمَادَّ وتضرَّع إلى اللَّه في حُجَّة وبيانٍ، فأعثرهم اللَّه على أَهْل الكهف، فلما/ بعثهم اللَّه، وتبيَّن الناس أمرهم سُرَّ الملِكُ، ورَجَعَ مَنْ كان شَكَّ في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإِشارة بقوله: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ على هذا التأويل، ويحتمل أن يعود الضميرُ في لِيَعْلَمُوا على أصحاب الكهف، وقوله: إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا التأويل: ابتداءُ خبرٍ عن القوم الذين بُعِثُوا على عهدهم، والتنازع على هذا التأويل إِنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، وقد قيل: والتنازع إِنما هو في أنْ اطلعوا عَليْهم، فقال بعضهم: هم أمواتٌ، وبعضٌ: هم أحياء، وروي أنَّ بعض القومِ ذهبوا إلى طمس الكَهْف عليهم، وترْكِهِم فيه مغيِّبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، فاتخذوه، قال قتادة: الَّذِينَ غَلَبُوا هم الولاة «4» . [سورة الكهف (18) : آية 22] سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وقوله سبحانه: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ... الآية: الضميرُ في سَيَقُولُونَ يراد به أهْل التوراةِ من معاصري نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهْل الكهف.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 203) برقم: (22961) ، وذكره ابن عطية (3/ 506) ، والبغوي (3/ 155) . (2) أخرجه الطبري (8/ 203) برقم: (22963) ، وذكره ابن عطية (3/ 506) . (3) ينظر: «الطبري» (8/ 204) . (4) ذكره ابن عطية (3/ 507) ، والسيوطي (4/ 392) بنحوه، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم.

وقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ: معناه ظَنًّا وهو مستعارٌ من الرجْمِ، كأن الإِنسان يرمي الموضع المُشْكِلَ المجهول عنده بظنه المرةَ بعد المَرَّة يرجُمُه به، عَسَى أن يصيبه، والواو في قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ: طريق النحاة فيها أنها واو عَطْفٍ دخلَتْ في آخر الكلام إخباراً عن عددهم، لتفصِّل أمرهم، وتدلَّ على أن هذا نهايةُ ما قيل، ولو سقطَتْ، لصح الكلام، وتقول فرقةٌ منهم ابنُ خالَوَيْهِ: هي «1» واو الثمَانِيَةِ، وذكر ذلك الثعلبيُّ عن أبي بكر بن عَيِّاشٍ وأن قريشاً كانت تقول في عددها: ستة، سبعة وثمانية تسعةٌ، فتدخل الواو في الثمانية «2» . قال ع «3» : وهي في القرآن في قوله: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] وفي قوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] وأما قوله: وَأَبْكاراً [التحريم: 5] وقوله: وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الحاقة: 7] فليستْ بواو الثمانيةِ بل هي لازمة إِذ لا يستغني الكلامُ عنها، وقد أمر اللَّه سبحانه نبيَّه في هذه الآية، أنْ يرد علْمَ عدَّتهم إِليه، ثم قال: مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ يعني: مِنْ أهل الكتاب، وكان ابن عبَّاس يقولُ: أنا من ذلك القليل «4» ، وكانوا سبعة، وثامنهم كلبهم.

_ (1) في هذه الواو أوجه: «أحدها» : أنها عاطفة، عطفت هذه الجملة على جملة قوله: هم سبعة، فيكونون قد أخبروا بخبرين: «أحدهما» : أنهم سبعة رجال على البت. «والثاني» : أن ثامنهم كلبهم، وهذا يؤذن بأن جملة قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ من المتنازعين فيهم. «والثاني» : أن الواو للاستئناف، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك، قال هذا القائل. وجيء بالواو لتعطي انقطاع هذا مما قبله. «الثالث» : أنها الواو الداخلة على الصفة تأكيدا، ودلالة على لصوق الصفة بالموصوف، وإليه ذهب الزمخشري، ونظره بقوله: مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. وردّ الشيخ عليه «بأنّ أحدا من النّحاة لم يقله» . «الرابع» : أن هذه الواو تسمى واو الثمانية، وأنّ لغة قريش إذا عدوا يقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه، وأبو بكر راوي عاصم. قلت: وقد قال ذلك بعضهم، في قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها في الزمر، فقال: دخلت في أبواب الجنة، لأنها ثمانية، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنم، لأنها سبعة. ينظر: «الدر المصون» (4/ 445- 446) . (2) ذكره ابن عطية (3/ 508) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 508) . (4) أخرجه الطبري (8/ 206) برقم: (22975) ، وذكره ابن عطية (3/ 508) ، والبغوي (3/ 156- 157) ، وابن كثير (3/ 78) ، والسيوطي (4/ 393) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن سعد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 23 إلى 26]

قال ع «1» : ويدلُّ على هذا من الآية أنه سبحانه لَمَّا حكى قول من قال: ثلاثة، وخمسة، قَرَنَ بالقول أنه رَجْم بالغيب، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدَحْ فيها بشيء، وأيضاً فَيَقْوى ذلك على القول بواوِ الثمانية لأنها إِنما تكون حيث عدد الثمانية صحيحٌ. وقوله سبحانه: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً معناه على بعض الأقوال: أي: بظاهر ما أوحينا إِليك، وهو ردُّ علْمِ عدتهم إِلى اللَّه تعالى، وقيل: معنى الظاهر أنْ يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتجّ هو على أمر مقرَّر في ذلك، وقال التِّبْرِيزِيُّ: ظاهِراً معناه: ذاهباً وأنشد: [الطويل] ... وَتلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا «2» ولم يبح له في هذه/ الآية أن يماري، ولكن قوله: إِلَّا مِراءً مجازٌ من حيث يماريه أهْلُ الكتاب، سمِّيت مراجعته لهم مِرَاءً، ثم قيد بأنه ظاهرٌ، ففارَقَ المراءَ الحقيقيَّ المذمومَ، و «المِرَاء» : مشتقٌّ من المِرْية، وهو الشكُّ، فكأنه المُشَاكَكَة. ت: وفي سماع ابن القاسمِ، قال: كان سليمان بن يَسَارٍ، إِذا ارتفع الصوْتُ في مجلسه، أو كانِ مَراءً، أخذ نعليه، ثم قام. قال ابنُ رُشْد: هذا مِنْ وَرَعه وفَضْله، و «المِرَاء» في العِلْم منهيٌّ عنه، فقد جاء أنه لا تُؤْمَنُ فتنته، ولا تفهم حِكْمته انتهى من «البيان» . والضمير في قوله: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ عائد على أهل الكَهْف، وفي قوله: مِنْهُمْ عائدٌ على أهْل الكتاب. وقوله: فَلا تُمارِ فِيهِمْ، أي: في عدّتهم. [سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 26] وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وقوله سبحانه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قد تقدّم

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 508) . [.....] (2) عجز بيت لأبي ذؤيب وصدره: وعيّرها الواشون أني أحبّها ... وهو في ديوانه (1/ 21) ، و «اللسان» (ظهر) .

أن هذه الآية عتاب من اللَّه تعالى لنبيِّه حيث لم يستثْنِ، والتقدير: إِلا أنْ تقولَ إِلاَّ أنْ يشاء اللَّه أو إِلاَّ أنْ تقولَ: إِن شاء اللَّه، والمعنى: إِلا أن تذكُرَ مشيئَةَ اللَّهِ. وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن عباس «1» والحسن «2» معناه: إِلاشارة به إلى الاستثناء، أي: ولتستثْنِ بعد مدّة إذا نسيت، أو لا لِتَخْرُجَ من جُمْلة من لم يعلِّق فعله بمشيئة اللَّه، وقال عكرمة: واذكر ربَّك إِذا غَضِبْتَ «3» ، وعبارة الواحِدِيِّ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، أي: إِذا نسيتَ الاستثناء بمشيئة اللَّه، فاذكره وقله إذا تذكّرت. اه. وقوله سبحانه: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي ... الآية: الجمهورُ أنَّ هذا دعاءٌ مأمورٌ به، والمعنى: عسى أنْ يرشدني ربِّي فيما أستقبل من أمري، والآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهي بعدُ تعمُّ جميع أمته. وقال الواحديُّ: وقل عسى أن يهديني، أي: يعطيني ربي الآياتِ من الدلالاتِ على النبوَّة ما يكون أقرَبَ في الرشد، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف، ثم فعل اللَّه له ذلك حيثُ آتاه علْم غَيْوب المرسَلِينَ وخَبَرَهم. انتهى. وقوله سبحانه: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ... الآية: قال قتادة وغيره: الآية حكايةٌ عن بني إسرائيلُ «4» ، أنهم قالوا ذلك واحتجوا بقراءة «5» ابن مسعود وفي مُصِحفه: «وقَالُوا لَبِثُوا في كَهْفِهِمْ» ، ثم أمر اللَّه نبيَّه بأن يردَّ العلْم إِليه ردَّا على مقالهم وتفنيداً لهم، وقال المحقِّقون: بل قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ... الآية خبرٌ من اللَّه تعالى عن مُدَّة لبثهم، وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، أي: فليزل اختلافكم أيها المخرِّصون، وظاهر قوله سبحانه: وَازْدَادُوا تِسْعاً أنها أعوام.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 208) ، برقم: (22990) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 509) ، والبغوي (3/ 157) ، وابن كثير (3/ 79) ، والسيوطي (4/ 394) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه. (2) أخرجه الطبري (8/ 208) برقم: (22992) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 509) ، والبغوي (3/ 157) . (3) أخرجه الطبري (8/ 209) برقم: (22993) بلفظ: «عصيت» ، وذكره البغوي (3/ 157) ، وابن كثير (3/ 79) ، والسيوطي (4/ 395) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (4) أخرجه الطبري (8/ 210) برقم: (22996) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 510) ، والبغوي (3/ 157- 158) ، وابن كثير (3/ 79) ، والسيوطي (4/ 396) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 510) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 27 إلى 28]

وقوله سبحانه: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ، أي: ما أَسْمَعَهُ سبحانه، وما أبْصَرَهُ، قال قتادة: لا أحَدَ أبْصَرُ مِنَ اللَّه، ولا أسْمَعَ «1» . قال ع «2» وهذه عبارةٌ عن الإِدراك، ويحتملُ أن يكون المعنى: أبْصِرْ به أي: بوحيه وإِرشاده، هُدَاكَ، وحُجَجَكَ، والحَقَّ من الأمور، وأسْمِعْ به العَالَم، فتكون اللفظتان/ أمرين لا على وجْه التعجُّب. وقوله سبحانه: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ: الضمير في لَهُمْ يحتمل أنْ يرجع إِلى أهْلِ الكهْفِ، ويحتمل أنَّ يرجع إلى معاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الكُفَّار، ويكون في الآية تهديدٌ لهم. [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 28] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وقوله سبحانه: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، أي: اتبع، وقيل: اسْرُدْ بتلاوتك ما أوحِيَ إليك من كتاب ربِك، لا نَقْضَ في قوله، ولا مُبَدِّلَ لكلماته، وليس لك سواه جَانِبٌ تميلُ إِليه، وتستند، و «المُلَتَحد» الجانب الذي يَمَالُ إِليه ومنه اللَّحْد. ت قال النوويُّ: يستحبُّ لتالي القرآن إذا كان منفرداً أنْ يكون خَتْمُهُ في الصَّلاة، ويستحبُّ أن يكون ختمه أوَل الليلِ أو أول النهار، ورُوِّينا في مسند الإمام المُجْمَعِ على حْفظِهِ وجلالته وإِتقانه وبَرَاعته أبي محمَّدٍ الدَّارِمِيِّ رحمه اللَّه تعالى، عن سَعْدِ بنِ أبي وقَّاص رَضِيَ اللَّه عنه قَالَ: إِذَا وَافَقَ خَتْمُ القُرْآنِ أوَّلَ اللَّيّلِ، صَلَّتَ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ وَافَقَ خَتْمُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُمْسِي «3» . قال الدارمي: هذا حديثٌ حسنٌ وعن طلحة بن مُطَرِّفٍ، قال: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ أَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ النَّهَار، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ، وأيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاِئَكَةُ حَتَّى يصبح، وعن مجاهد نحوه انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 212) برقم: (23006) ، وذكره ابن عطية (3/ 510) ، وابن كثير (3/ 80) ، والسيوطي (4/ 396) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 510) . (3) أخرجه الدارمي (2/ 470) كتاب «فضائل القرآن» باب: «في ختم القرآن» .

[سورة الكهف (18) : آية 29]

وقوله سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... الآية: تقدَّم تفسيرها. وقوله سبحانه: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، أي: لا تتجاوزْ عنهم إِلى أبناء الدنيا، وقرأ «1» الجمهور: «مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ» بنصب الباء على معنى جَعَلْنَاهُ غافلاً، «والفُرُط» : يحتملُ أن يكون بمعنى التفريط، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، وقد فسَّره المتأوّلون بالعبارتين. [سورة الكهف (18) : آية 29] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) وقوله سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ المعنى: وقل لهم يا محمَّد هذا القرآن هو الحقُّ، ت: وقد ذم اللَّه تعالى الغافلين عَنْ ذكره والمُعْرِضين عن آياته في غيرما آية من كتابه، فيجبُ الحذر مما وقَع فيه أولئك، ولقد أحسن العارفُ في قوله: غفلة ساعة عن ربك مكدرة لمرآة قلبك، فكيف بَغْفلتكَ جميعَ عُمُرك. وقد روي أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قالَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُروا اللَّهَ فِيه ولَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهمْ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ، فإنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وإِنْ شَاءَ غَفَر لَهُمْ» «2» رواه أبو داود والترمذيّ والنسائي والحاكم وابن

_ (1) هذه قراءة الجمهور، وقد قرأ عمرو بن فائد، وموسى الأسواري: «من أغفلنا قلبه» . قال أبو الفتح: يقال أغفلت الرجل: وجدته غافلا ... فإن قيل: فكيف يجوز أن يجد الله غافلا؟ قيل: لما فعل أفعال من لا يرتقب ولا يخاف، صار كأن الله سبحانه غافل عنه. «المحتسب» (2/ 28) ، قلت: يعني أنه ظننا غافلين عنه. والقراءة ذكرها ابن عطية في «المحرر» (3/ 513) ، ثم قال: وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد. وينظر: «البحر المحيط» (6/ 114) ، و «الدر المصون» (4/ 450) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 461) كتاب «الدعاء» باب: في القوم يجلسون ولا يذكرون الله، حديث (3380) ، والحاكم (1/ 496) ، وأحمد (2/ 446، 481، 484، 495) ، وإسماعيل القاضي في «في فضل الصلاة على النبي» (54) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (443) ، من طريق سفيان الثوري، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه، عن أبي هريرة اهـ. وأخرجه أبو داود (2/ 680) كتاب «الأدب» باب: كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله، حديث (4856) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (404) ، وابن حبان (853) من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد (2/ 432) من طريق إسحاق مولى عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة، وذكر هذا الطريق الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 83) وقال: وأبو إسحاق مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل لم يوثقه أحد، ولم يجرحه، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد ثقات.

[سورة الكهف (18) : الآيات 30 إلى 32]

حِبَّان في «صحيحهما» وهذا لفظ الترمذيِّ، وقال: حديثٌ حَسَن، وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرط مسلم، «والتِّرَةُ» - بكسر التاء المُثَنَّاة من فوقُ وتخفيفِ الراء- النقْصُ، وقيل: التبعة، ولفظ ابن حِبَّان: «إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنْ دَخَلَوا الجَنَّةَ» انتهى من «السلاح» . وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ... الآية: توعُّد وتهديد، أي: فليختر كلّ امرئ لنفسه ما يجدُه غداً عند اللَّه عزَّ وجلّ، وقال الداوديّ، عن ابن عباس: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ يقول: من شاء اللَّه له الإِيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر، هو كقوله: وَما تَشاؤُنَ/ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: 29] «1» وقال غيره: هو كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] بمعنى الوعيد، والقولان معاً صحيحان. انتهى وأَعْتَدْنا مأخوذٌ من العَتَاد، وهو الشيءُ المُعَدُّ الحاضر، «والسُّرادق» هو الجدار المحيطُ كالحُجْرة التي تدورُ وتحيطُ بالفسْطَاط، قد تكون من نَوْع الفُسْطَاط أديماً أو ثوباً أو نحوه، وقال الزَّجَّاج «2» : «السُّرَادِق» : كل ما أحاط بشيء، واختلف في سُرَادِقِ النار، فقال ابن عباس: سرادقها حائطٌ من نارٍ «3» ، وقالت فرقة: سرادقها دُخَانٌ يحيطُ بالكُفَّار، وهو قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] وقيل غير هذا، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طريق أبي سعيد الخدريِّ أنه قَالَ سُرَادِقُ النَّارِ أربَعَةُ جُدُر كِثَفُ عَرْض كُلِّ جَدارٍ مَسِيرَةُ أرْبَعيِنَ سَنَةً «4» و «المهل» قال أبو سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هو درديُّ الزيتِ، إِذا انتهى حَرُّه «5» ، وقال أبو سعيد وغيره: هو كلُّ ما أذيَب من ذهبٍ أو فضة، وقالت فرقةٌ: «المُهْل» هو الصديدُ والدمُ إِذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر رضي اللَّه عنه في الكَفَن: إِنما هو للمهلة «6» ، يريدُ لما يسيلُ من المَيِّت في قبره، ويقوى هذا بقوله سبحانه: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم: 16] والمرتفق: الشيء الذي يطلب رفقه. [سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 32] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32)

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 217) برقم: (23030) ، وذكره البغوي (3/ 159) ، والسيوطي (4/ 399) بلفظ: «هذا تهديد ووعيد» ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ينظر: «تفسير الزجاج» (3/ 282) . (3) أخرجه الطبري (8/ 217) برقم: (23034) ، وذكره ابن عطية (3/ 513) ، والبغوي (3/ 160) ، وابن كثير (3/ 81) ، والسيوطي (4/ 399) ، وعزاه لابن جرير. [.....] (4) تقدم تخريجه في سورة هود. (5) تقدم تخريجه. (6) ذكره ابن عطية (3/ 514) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 33 إلى 34]

وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا تقدّم تفسير نظيره، والله الموفّق بفضله، وأَساوِرَ جمع «أسْوَار» ، وهي ما كان من الحُلِيِّ في الذراع، وقيل: «أَسَاور» جَمْعُ أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع أسْوَارٍ، و «السُّنْدس» : رقيق الدِّيباج «والإستبرق» ما غلظ منه، قيل: إِستبرقٌ من البَرِيقِ، والْأَرائِكِ جمع أريكة، وهي السريرُ في الحجالِ، والضمير في قوله: وَحَسُنَتْ للجنَّات، وحكى النَّقَّاش عن أبي عمران الجَوْنيِّ، أنه قالَ: «الإِستبرقُ» : الحريرُ المنسوجُ بالذهب. وقوله سبحانه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ... الآية الضمير في لَهُمْ عائدٌ على الطائفة المتجبِّرة التي أرادت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يطرد فقراء المؤمنين، فالمثل مضروبٌ للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحِبُ الجنتين هو بإزاء متجبِّري قريشٍ، أو بني تميمٍ على الخلاف في ذلك، والرجُلُ المؤمنُ المُقِرُّ بالربوبية هو بإزاء فقراء المؤمنين، «وحففنا» بمعنى جعلنا ذلك لَهُمَا منْ كُلِّ جهة، وظاهر هذا المَثَل أنَّه بأمْرٍ وَقَعَ في الوجودِ، وعلى ذلك فَسَّره أكثر المتأوِّلين، فروي في ذلك أنهما كانا أخَويْنِ من بني إسرائيل، ورثا أربعَةَ آلاف دينارٍ، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيداً، وتزوَّج، وأثْرى، وأنفق الأخَرُ ماله في طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ حتى افتقَرَ، والتقيا، فافتخر الغنيُّ، ووبَّخ المؤمن، فجرَتْ بينهما هذه المحاورَةُ، وروي أنهما كانا شريكَيْن حَدَّادَيْنِ كسبا مالاً كثيراً، وصَنَعَا نحو ما رُوِيَ/ في أمر الأَخَوَيْنِ، فكان من أمرهما ما قَصَّ اللَّه في كتابه. قال السهَيْلِيُّ: وذكر أن هذَيْن الرجلَيْن هما المذكوران في «والصافات» في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ إلى قوله فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وإِلى قوله: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: 5- 55، 61] انتهى. [سورة الكهف (18) : الآيات 33 الى 34] كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وقوله سبحانه: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها الأَكُلُ: ثمرها الذي يؤكل وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص عن العُرُفِ الأتَمِّ الذي يشبه فيها، ومنه قولُ الشاعر: [الطويل]

[سورة الكهف (18) : الآيات 35 إلى 37]

وَيَظْلِمني مَالي كَذَا وَلَوى يَدي ... لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذي هُوَ غَالِبُهْ «1» وقرأ «2» الجمهور: «ثُمُرٌ» و «بِثُمُرِهِ» [الكهف: 42]- بضم الثاء والميم- جمع «ثِمَارٍ» ، وقرأ أبو عمرو- بسكون الميم «3» - فيهما، واختلف المتأوِّلون في «الثُّمُر» - بضم الثاء والميم- فقال ابن عباس وغيره: «الثُّمُر» : جميع المال من الذهَبِ والفَّضة والحيوانِ وغير ذلك «4» ، وقال ابن زيد: هي الأصول «5» ، و «المحاورة» : مراجعةُ القولِ، وهو من «حَارَ يَحُورُ» . وقوله: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً: هذه المقالة بإزاء مقالة متجبِّري قريْشٍ، أو بني تميمٍ، على ما تقدَّم في «سورة الأنعام» . ت وقوله: وَأَعَزُّ نَفَراً يضَعِّف قول من قال: «إِنهما أخوانِ» فتأمَّله، واللَّه أعلم بما صحَّ من ذلك. [سورة الكهف (18) : الآيات 35 الى 37] وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) وقوله سبحانه: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ... الآية: أفْرَد الجنة من حيثُ الوجودُ كذلك إِذ لا يدخلهما معاً في وقت واحدٍ، وظلمه لنفسه هو كُفْره وعقائدُهُ الفاسدة في الشَّكِّ في البعث، وفي شكِّه في حدوث العالم، إن كانت إِشارته ب هذِهِ إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواعِ المخلوقات، وإِن كانت إِشارته إِلى جنته فقط، فإِنما الكلام تساخُفٌ واغترارٌ مفْرِط، وقلَّة تحصيلٍ، كأنه من شدَّة العُجْب بها والسرور، أفرط في وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنْيَا وظنَّ أنه لم يُمْلَ له في دنياه إِلا لكرامةٍ يستوجبها في نَفْسه، فقال: فإن كان ثمّ رجوع، فستكون حالي كذا وكذا.

_ (1) البيت لأبي زبيد الطائي، «اللسان» (ظلم) . (2) ويعني بهم: ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابن عباس، ومجاهد، وجماعة قراء المدينة ومكة، وخالف عاصم، فقرأ بفتح الميم والثاء «ثمره» ، و «بثمره» . ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 516) ، و «السبعة» (390) ، و «الحجة» (5/ 142) ، و «شرح الطيبة» (5/ 8) ، و «العنوان» (123) ، و «حجة القراءات» (416) ، و «إتحاف» (2/ 214) . (3) وهي قراءة الأعمش وأبي رجاء. ينظر: مصادر القراءة السابقة. (4) أخرجه الطبري (8/ 223) برقم: (23058) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 516) ، وابن كثير (3/ 83) بنحوه، والسيوطي (4/ 403) ، وعزاه لابن عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) أخرجه الطبري (8/ 223) برقم: (23063) ، وذكره ابن عطية (3/ 516) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 38 إلى 41]

وقوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ يعني المؤمن. وقوله: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ إِشارةٌ إلى آدم عليه السلام. [سورة الكهف (18) : الآيات 38 الى 41] لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وقوله: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي معناه: لكن أنا أقول هو اللَّه ربِّي، وروى هارون عن أبي عمرو «1» «لَكِنَّهُ هُوَ اللَّهُ رُبِّي» ، وباقي الآية بيِّن. وقوله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ... الآية: وصيَّةٌ من المؤمن للكافر، وَلَوْلا: تحضيض بمعنى «هلا» ، وما تحتمل أن تكون بمعنى «الذي» بتقدير: الذي شاء الله كائنٌ، وفي شاءَ ضميرٌ عائد على «ما» ، ويحتمل أن تكون شرطيةً بتقدير: ما شَاءَ اللَّهُ كَانَ، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هو ما شاء اللَّهُ، أو الأمر ما شاء اللَّه. وقوله: لاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ: تسليمٌ، وضدٌّ لقول الكافِرِ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: 35] ، وفي الحديثِ: «إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، إِذَا قَالَهَا العَبْدُ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: «أَسْلَمَ/ عَبْدِيَ واستسلم» ، قال النوويُّ: ورُوِّينا في «سنن أبي داود والترمذيِّ والنسائي» وغيرهما، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ قَالَ يَعْنِي- إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتهِ- باسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيت، وَوُقِيتَ، وتَنَحَّى عَنْكَ الشِّيْطان» «2» . قال الترمذيُّ: حديث حسن، زاد أبو داود في روايته: «فَيَقُولُ: - يَعْني الشِّيْطَانَ لِشَيْطَانٍ آخَرَ- كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِي» انتهى. وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة، قال: قَالَ لِي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أكْثِرْ مِنْ قَوْلَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ فإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» «3» انتهى. قال المحاسبيُّ في «رعايته» : وإِذا عزم العْبدُ في القيامِ بجميعِ حقوق اللَّه سبحانَهُ،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 517- 518) . (2) أخرجه أبو داود (2/ 746- 747) كتاب «الأدب» باب: ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (5095) ، والترمذي (5/ 490) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (3426) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ، حديث (89) ، وابن السني (178) ، وابن حبان (2375- موارد) من حديث أنس. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان. (3) تقدم تخريجه.

[سورة الكهف (18) : الآيات 42 إلى 44]

فليرغَبْ إِليه في المَعُونَةِ مِنْ عِنْدِه على أداء حقوقه، ورعايتها، وناجاه بقَلْب راغِبٍ راهبٍ أني أَنْسَى إِن لم تذكِّرني، وأعْجِزُ أُنْ لم تُقَوِّني، وأجْزَعُ إِنْ لم تصِّبرني، وعَزَم وتوكَّل، واستغاث واستعان، وتبرَّأ من الحَوْل والقوَّة إِلا بربِّه، وقطع رجاءه مِنْ نفسه، ووَجَّه رجاءه كلَّه إِلى خالقه، فإِنه سيجدُ اللَّه عزَّ وجلَّ قريباً مجيباً متفضِّلاً متحِّنناً. انتهى. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «1» قال مالكٌ: ينبغي لكلِّ مَنْ دَخَل منزله أنْ يقول كما قال اللَّه تعالى: مَا شاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ انتهى. وقوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ هذا الترجِّي ب «عَسَى» يحتملُ أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخِرَةِ، وتمنِّي ذلك في الآخرة أشرَفُ وأذهَبُ مع الخير والصلاح، وأنْ يكونَ ذلك يرادُ به الدنيا- أذْهَبُ في نِكَاية هذا المخاطَب، و «الحُسْبان» العذاب كالبردِ والصِّرِّ ونحوه، و «الصَّعيد» وجه الأرض، «والزَّلَق» : الذي لا تثبت فيه قَدَم، يعني: تذهب منافعها حتى منفعةُ المشْيِ فهي وَحَلٌ لا تثبُتُ فيه قَدَمٌ. [سورة الكهف (18) : الآيات 42 الى 44] وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) وقوله سبحانه: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ... الآية: هذا خبر من اللَّه عزَّ وجل عن إِحاطة العذابِ بحال هذا الممثّل به، ويُقَلِّبُ كَفَّيْهِ: يريد يضَعُ بطْن إِحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهِّف المتأسِّف. وقوله: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يريد أن السقوف وَقَعَتْ، وهي العروش، ثم تهدَّمت الحيطانُ عليها فهي خاوية والحيطان على العُرُوشِ. ت: فسرَّ ع «2» رحمه اللَّه لفظ خاوِيَةٌ في «سورة الحَجِّ والنَّمْل» ب «خالية» ، والأحسن أن تفسَّر هنا وفي الحجِّ ب «ساقطة» ، وأما التي في «النْمل» ، فيتَّجه أن تفسَّر ب «خالية» وب «ساقطة» قال الزبيدِيُّ في «مختصر العَيْن» خَوَتِ الدَّارُ: باد أهلها، وخَوتْ: تهدَّمت انتهى، وقال الْجَوْهَرِيُّ في كتابه المسمَّى ب «تاج اللُّغِة وصِحَاحِ العَرَبِيَّةِ» : خَوَتِ النجومُ خَيًّا: أمحَلَتْ، وذلك إِذا سقطَتْ ولم تُمْطِرْ في نَوْئِهَا، وأَخْوَتْ مثله، وخوت

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1240) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 519) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 45 إلى 48]

الدارُ خُوَاءً ممدوداً: / أقْوَتْ وكذلك إِذا سقطَتْ، ومنه قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: 52] أي: خاليةً، ويقال: ساقطة كما قال: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الحج: 45] أي ساقطة على سقوفها. انتهى وهو تفسيرٌ بارعٌ، وبه أقولُ، وقد تقدَّم إِيضاحُ هذا المعنى في «سورة البقرة» . وقوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً قال بعض المفسِّرين: هي حكايةٌ عن مقالة هذا الكافِرِ في الآخرة، ويحتملُ أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلولِ المُصيبة، ويكون فيها زَجْرٌ لكَفَرة قريشٍ وغيرهم، «والفئة» : الجماعة التي يُلْجأُ إِلى نَصْرها. وقوله سبحانه: هُنالِكَ يحتمل أنْ تكون ظرفاً لقوله: مُنْتَصِراً ويحتمل أن يكون الْوَلايَةُ مبتدأ، وهُنالِكَ: خبره، وقرأ حمزة «1» والكسائيُّ: «الوِلاَيَةُ- بكسر الواو-، وهي بمعنى الرِّيَاسَة ونحوه، وقرأ الباقون: «الوَلاَيَة» - بفتح الواو- وهي بمعنى المُوَالاَة والصِّلة ونحوه، وقرأ أبو عمرو «2» والكَسائيُّ: «الْحَقُّ» بالرفع على النعت ل «الولايةُ» وقرأ الباقون بالخفضِ على النعت لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وقرأ الجمهور: «عُقُباً» - بضم العين والقاف- وقرأ حمزة وعاصم- بسكون «3» القاف- والعقب- والعقب: بمعنى العاقبة. [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 48] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا يريد حياة الإنسان، كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ

_ (1) ينظر: «السبعة» (392) ، و «الحجة» (5/ 149) ، و «إعراب القراءات» (1/ 396) ، و «معاني القراءات» (2/ 111) ، و «حجة القراءات» (418) ، و «العنوان» (123) ، و «إتحاف» (2/ 216) . [.....] (2) ينظر: «السبعة» (392) ، و «الحجة» (5/ 149) ، و «إعراب القراءات» (1/ 296) ، و «معاني القراءات» (2/ 111) ، و «العنوان» (123) ، و «شرح الطيبة» (5/ 10) ، و «شرح شعلة» (473) ، و «حجة القراءات» (419) و «إتحاف» (2/ 216) . (3) ينظر: «السبعة» (392) ، و «الحجة» (5/ 150) ، و «إعراب القراءات» (1/ 397) ، و «معاني القراءات» (2/ 112) ، و «شرح شعلة» (473) ، و «العنوان» (123) ، و «إتحاف» (2/ 216) ، و «حجة القراءات» (419) .

، أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب النماءِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً أصبح عبارة عن صيرورته إِلى ذلك، و «الهَشِيم» المتفتِّت من يابس العُشْب، وتَذْرُوهُ بمعنى تفرِّقه، فمعنى هذا المَثَل تشبيهُ حالِ المَرْء في حياته ومالِهِ وعزَّته وبَطَره، بالنَّبات الذي له خُضْرة ونَضْرة عن الماءِ النازل، ثم يعودُ بعد ذلك هشيماً، ويصير إِلى عُدْم، فمن كان له عَمَلٌ صالح يبقى في الآخرةِ، فهو الفَائِزُ. وقوله سبحانه: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا لفظه الخبر، لكنْ معه قرينة الصِّفة للمال والبنين لأنه في المَثَلِ قَبْلُ حَقَّر أمْرَ الدنيا وبيَّنه فكأنه يقول: المال والبنون زينةُ هذه الحياة الدنيا المحقّرة، فلا تتبعوها نفوسكم، والجمهور أنّ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ. هي الكلماتُ المذكورُ فضْلُها في الأحاديث: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ» ، وقد جاء ذلك مصرّحا به من لفظ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالحَاتُ» . وقوله سبحانه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي: صاحبها ينتظرُ الثَّواب، وينبسطُ أمله، فهو خَيْرٌ من حال ذي المَالِ والبنينَ، دون عَمَلٍ صالحٍ، وعن أبي سعيد الخدريِّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» قيلَ: وَمَا هُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ والتَّسْبِيحُ وَالحَمْدُ للَّهِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّة/ إِلاَّ باللَّه» «1» رواه النسائيُّ وابنُ حِبَّان في «صحيحه» انتهى من «السلاح» . وفي «صحيح مسلم» عن سمرة بن جندب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحَبُّ الكَلاَمِ إِلى اللَّهِ تَعَالى أَرْبَعٌ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبُرُ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» «2» وفي «صحيح مُسْلِم» ، عن أبي مالِكٍ الأشعريِّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «الطُّهوُرُ شَطْرُ الإِيمَانِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن أو تَمُلأُ مَا بَيْنَ السموات والأَرْضِ ... » «3» الحديث انتهى. قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وروى مالكٌ عن سعيد بن المسيَّب، أنَّ الباقيات الصالحات قولُ العبْدِ: اللَّهُ أكْبَرُ، وسبحانَ اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إِله إِلا اللَّه، ولا حَوْلَ

_ (1) أخرجه أبو يعلى (2/ 524) برقم: (1384) ، وابن حبان (2332- موارد) ، والحاكم (1/ 512) ، والطبري (15/ 255) ، وأحمد (3/ 75) . وقال الحاكم: هذا أصح إسناد للمصريين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. (2) أخرجه مسلم (3/ 1685) كتاب «الآداب» باب: كراهية التسمية بالأسماء القبيحة، ونحوه حديث (12/ 2137) ، وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى مسلم. (3) تقدم تخريجه.

[سورة الكهف (18) : الآيات 49 إلى 50]

ولاَ قوَّة إِلا باللَّه» «1» وروي عن ابْنِ عباس وغيره أن الباقياتِ الصَّالحات الصَّلواتُ الخَمْس «2» . انتهى. ت: وما تقدَّم أولى، ومن كلام الشيْخِ الوليِّ العارف أبي الحَسن الشَّاذِليِّ رضي اللَّه عنه قال: عليك بالمطهرِّات الخمس في الأقوال والمطهِّرات الخمس في الأفعال، والتبرِّي من الحول والقَّوة في جميع الأحوال، وغُصْ بعقلك إِلى المعاني القائمة بالقَلْب، واخرج عنها وعنه إِلى الرَّبّ واحفظِ اللَّه يحفظْك، واحفظ اللَّه تجدْهُ أمامك واعبد اللَّه بها، وكُنْ من الشاكرين، فالمطهِّراتُ الخمس في الأقوالِ: سُبْحَانَ اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلا بالله، والمطهِّراتُ الخَمْسُ في الأفعال: الصلواتُ الخمْسُ، والتبرِّي من الحول والقوة: هو قولُكَ: لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. انتهى. وقوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً: يحتمل أن الأرض لِذَهَابِ الجبال، والضِّرابِ والشَّجَرِ- بَرَزَتْ، وانكشفَتْ ويحتملُ أن يريد بُرُوزَ أهلها من بطنها للحِشَرْ، و «المغادرة» : الترك، عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ، أي: صفوفاً وفي الحديث الصحيح: «يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفاً يُسْمِعُهُمُ الدَّاعي، ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ ... » الحديث «3» بطوله، وفي حديثٍ آخَرَ: «أَهْلُ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِائَةٌ وعِشْرُونَ صَفًّا، أنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صفّا» «4» . وقوله سبحانه: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ : يفسِّره قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنكُمْ تُحْشَرُونَ إِلى اللَّه حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ «5» نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] » . [سورة الكهف (18) : الآيات 49 الى 50] وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ... الآية:

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 231) برقم: (23094) ، وذكره ابن كثير (3/ 85) ، والسيوطي (4/ 409) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» . (2) أخرجه الطبري (8/ 229- 230) برقم: (23082) وبرقم: (23085) ، ذكره ابن عطية (3/ 520) ، وابن كثير (3/ 85) ، والسيوطي (4/ 410) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) تقدم تخريجه. (4) تقدم تخريجه. (5) تقدم تخريجه.

[سورة الكهف (18) : الآيات 51 إلى 53]

الْكِتابُ اسم جنس يراد به كُتُب النَّاس التي أحصتها الحَفَظة لواحدٍ واحدٍ، ويحتمل أن يكون الموضوع كتاباً واحداً حاضراً، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ قالت فرقة: إبليسُ لم يكُنْ من الملائكَةِ، بل هو من الجِنِّ، وهم الشياطينُ المخلوقون من مَارِجٍ من نارٍ، وجميعُ الملائكة إنما خلقوا من نورٍ، واختلَفَتْ هذه الفرقةُ، فقال بعضهم: إِبليس من الجنِّ، وهو أولهم وبَدْأَتُهم، كآدمَ من الإِنس، وقالت فرقة: بل كان إِبليس وقبيلُهْ جِنًّا، لكن جميع الشياطين اليَوْمَ من ذريته، فهو كُنوح في الإنس، واحتجُّوا بهذه الآية. وقوله: فَفَسَقَ معناه فخرج عن أمر ربِّه وطاعته. وقوله عزَّ وجلَّ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ يريد: أَفتَتَّخِذُونَ إِبليس. وقوله: وَذُرِّيَّتَهُ: ظاهر اللفظ يقتضي المُوَسْوِسين من الشياطين، الذين يأمْرُون بالمنْكَر، ويحملون على الأباطيل. وقوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي: بدل ولايةِ اللَّه عزَّ وجلَّ بولاية إِبليس وذريته، وذلك هو التعوُّض من الحقّ بالباطل. [سورة الكهف (18) : الآيات 51 الى 53] ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وقوله سبحانه: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية: الضمير في أَشْهَدْتُهُمْ عائدٌ على الكُفَّار، وعلى النَّاس بالجملة/ فتتضمَّن الآية الرَّدَّ على طوائف من المنجِّمِين وأهْل الطبائعِ والمتحكِّمين من الأطبَّاء، وسواهم مِنْ كل من يتخرَّص في هذه الأشياء، وقيل: عائدٌ على ذرية إِبليس، فالآية على هذا تتضمَّن تحقيرَهُم، والقولُ الأول أعظم فائدةً، وأقول: إنَّ الغرض أولاً بالآية هُمْ إِبليس وذريته، وبهذا الوجْه يتَّجه الردُّ على الطوائف المذكورة، وعلى الكُهَّان والعربِ المصدِّقين لهم، والمعظِّمين للجنِّ، حين يقولون: أعُوذُ بِعَزِيز هذا الوَادِي، إِذ الجميع من هذه الفِرَقِ متعلِّقون بإِبليس وذريته، وهم أضلُّ الجميع، فهم المرادُ الأول ب الْمُضِلِّينَ، وتندرج هذه الطوائفُ في معناهم، وقرأ الجمهور «1» : «ومَا كُنْتُ» ، وقرأ أبو جعفر «2» والجحْدَرِيُّ والحسن، بخلافٍ «وَمَا كُنْت» ، «والعَضُد» : استعارة للمعين والمؤازر، وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ أي: على جهة

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 523) ، و «البحر المحيط» (6/ 130) ، و «الدر المصون» (4/ 464) . (2) ينظر: مصادر القراءة السابقة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 54 إلى 59]

الاستغاثة بهم، واختلف في قوله: مَوْبِقاً، فقال ابن عباس: معناه مهلكاً «1» ، وقال عبد اللَّه بن عمر وأنس بن مالك ومجاهد: مَوْبِقاً هو وادٍ في جهنَّم يجري بدَمٍ وصديدٍ «2» . قال أنس: يحجز بين أهل النار وبَيْن المؤمنين «3» . وقوله سبحانه: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، أي: مباشروها، وأطلق الناس أنَّ الظنَّ هنا بمعنى اليقين. قال ع «4» : والعبارة بالظَّنِّ لا تجيء أبداً في موضع يقينٍ تامِّ قد قَالَهُ الحَسَن «5» بل أعظم درجاته أن يجيء، في موضع متحقِّق، لكنه لم يقع ذلك المظْنُونُ، والاَّ فمذْ يقع ويُحَسُّ لا يكادُ توجَدُ في كلامِ العربِ العبارةُ عنه بالظَّنِّ، وتأمَّل هذه الآية، وتأمَّل كلام العرب، وروي أبو سعيد الخدريّ، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الكَافِرَ لَيَرى جَهَنَّمَ، ويَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» «6» ، و «المَصْرِف» : المَعْدِل والمَرَاغ، وهو مأخوذ من الانصرافِ من شيء إلى شيء. [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 239) برقم: (23142) ، وذكره ابن عطية (3/ 524) ، وابن كثير (3/ 90) ، والسيوطي (4/ 414) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (8/ 240) برقم: (23149) ، وذكره الطبري (8/ 241) ، وذكره ابن عطية (3/ 523) ، وذكره البغوي (3/ 168) ، وذكره ابن كثير (3/ 90) نحوه، والسيوطي في «الدر» (4/ 414) . [.....] (3) ذكره ابن عطية (3/ 523) . (4) ينظر: «المحرر» (3/ 524) . (5) ذكره ابن عطية (3/ 524) . (6) أخرجه أحمد (3/ 75) ، وابن حبان (2581- موارد) ، والطبري (15/ 265) ، والحاكم (4/ 597) ، من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.

[سورة الكهف (18) : آية 60]

وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا الْإِنْسانُ هنا يراد به الجنْس، وقد استعمل صلّى الله عليه وسلّم الآية على العمومِ في مروره بِعَلِيٍّ لَيْلاً، وأمْرِه له بالصلاة بالليل، فقال عليٌّ: إنما أنفُسُنَا يا رَسُولِ اللَّهِ بِيَدِ اللَّهِ، أو كما قال، فخرج صلّى الله عليه وسلّم، وهو يضربُ فَخِذَه بيده، ويقول: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا «1» . وقوله سبحانه: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ... الآية: النَّاسَ، هنا يراد بهم كفَّار عصر النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، هي عذاب الأمم المذكورة في القرآن، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا، أي: مقابلةً عياناً، والمعنى: عذاباً غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيمِ، وقد وقَعَ ذلك بهم يَوْمَ بدرٍ، وكأنَّ حالهم تقتضي التأسُّف عليهم، وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إِلى الخُسْران- عافانا اللَّه من ذلك-. ولِيُدْحِضُوا معناه: يُزْهِقوا، «والدَّحَض» : الطين. وقوله: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً: لفظ عامٌّ يراد به الخاصُّ ممن حتم اللَّه عليه أنه لا يِؤمن، ولا يهتدي أبداً، كأبي جهل وغيره. / وقوله: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ قالت فرقة: هو أَجَلُ الموتِ، وقالت فرقة: هو عذاب الآخرة، وقال الطبري «2» هو يَوْمَ بَدْرٍ والحَشْر. وقوله سبحانه: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، أي: لا يجدون عنه منجًى، يقال: وَأَلَ الرَّجُلُ يَئِلُ إِذ نجا، ثم عقَّب سبحانه توعُّدهم بذكْر الأمثلة من القَرى التي نَزَلَ بها ما تُوُعِّدَ هؤلاء بمثله، والْقُرى: المدن، والإِشارة إِلى عادٍ وثمود وغيرهم، وباقي الآية بيِّن. قال ص: وقوله: لَمَّا ظَلَمُوا في لَمَّا ظَلَمُوا: إِشعارٌ بعلَّة الإِهلاك وبهذا استدلَّ ابن عُصْفُور على حرفية «لَمَّا» لأن الظرف لا دلالة فيه على العلّيّة. [سورة الكهف (18) : آية 60] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ ... الآية: مُوسى هو ابنُ عمرانَ، وفتاة هو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أن موسى عليه السلام جَلَسَ يَوْماً في مَجْلِسٍ لَبني إِسْرَائيلَ، وخَطَبَ، فأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ: هل تعلم أحدا أعلم

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 260) كتاب «التفسير» باب: «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» ، حديث (4724) . (2) ينظر: «الطبري» (8/ 243)

مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَى السَّبِيلِ إِلى لقيه، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بطُوِلِ سَيْفِ البَحْرِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَإِذَا فَقَدَ الحُوتَ، فإِنَّهُ هُنَالِكَ، وأُمِرَ أَنْ يَتَزَوَّدَ حُوتاً، وَيَرْتَقِبَ زَوَالَهُ عَنْهُ، فَفَعَلَ مُوسى ذَلِكَ، وَقَالَ لِفَتَاهُ على جِهَةِ إِمْضَاءِ العَزِيمَةِ: لاَ أَبْرَحُ أَسِيرُ، أي: لاَ أَزَالُ، وإِنما قال هذه المقالَةَ، وهو سائرٌ، قال السُّهَيْليُّ: كان موسى عليه السلام أعلَمَ بعلْمِ الظاهر، وكان الخَضِرُ أعلم بعلْم الباطنِ، وأسرارِ المَلَكُوتِ، فكانا بَحْرَيْن اجتمعا بمجْمَعِ البَحْرَيْن، والخضرُ شَرِبَ من عَيْن الحَيَاةِ، فَهوَ حَيٌّ إِلى أن يخرج الدَّجَّال، وأنَّه الرجُلُ الذي يقتله الدَّجَّال، وقال البخاريُّ وطائفة من أهْل الحديث، منهم شيخُنا أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبيِّ رحمه اللَّه: مات الخَضِرُ قبل انقضاء المِائَةِ من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة عَامٍ مِنْهَا لا يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدُ» «1» يعني من كان حيًّا حين قال هذه المقالَةَ، وأما اجتماع الخِضَرِ مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتعزيته لأهْل بيته، فمرويٌّ من طرقٍ صِحَاحٍ، وصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ الخَضِرَ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خضراء» «2» . قال الخطابي: الفروة «3» وجه الأرض، ثم أنشد على ذلك شاهدا انتهى.

_ (1) أخرجه البخاري (2/ 54) كتاب «مواقيت الصلاة» باب: ذكر العشاء والعتمة، حديث (564) ، من حديث عبد الله بن عمر. (2) أخرجه البخاري (6/ 499) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: حديث الخضر مع موسى، حديث (3402) ، والترمذي (5/ 313) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الكهف، حديث (3151) ، وأحمد (2/ 318) ، وابن حبان (14/ 108- 109) برقم: (6222) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (3/ 172) ، كلهم من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 424) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. تنبيه: وهم الحافظ نور الدين الهيثمي فأورد هذا الحديث في كتابه «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» رقم: (2092) ، وشرط كتابه كما هو معروف أنه أورد ما هو زائد على «الصحيحين» من «صحيح ابن حبان» . وللحديث شاهد من حديث ابن عباس، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 424) ، وعزاه إلى ابن عساكر. (3) الفرو الحشيش الأبيض وما أشبهه، وقال الحربي: الفروة من الأرض قطعة يابسة من حشيش. وعن ابن الأعرابي: الفروة أرض بيضاء ليس فيها نبات، وبهذا جزم الخطابي ومن تبعه، وحكي عن مجاهد أنه قيل له الخضر لأنه كان إذا صلّى اخضر ما حوله. والخضر قد اختلف في اسمه قبل ذلك وفي اسم أبيه وفي نسبه وفي نبوته وفي تعميره، فقال وهب بن منبه: هو بليا بفتح الموحدة وسكون اللام وبعدها تحتانية، ووجد بخط الدمياطي في أول الاسم بنقطتين، وقيل: كالأول بزيادة ألف بعد الباء، وقيل:

[سورة الكهف (18) : الآيات 61 إلى 74]

واختلف الناس في «مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ» ، فقال مجاهد وقتادة هو مَجْمَعُ بَحْر فارس وبَحْر الروم «1» ، وقالت فرقة مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: هو عند طَنْجَة، وقيل غير هذا، واختلف في «الحُقُب» ، فقال ابن عباس وغيره: الحُقُب: أزمانٌ غير محدودة «2» ، وقال عبد اللَّه بن عمرو ثمانون «3» سنة، وقال مجاهد: سبعون «4» ، وقيل: سنة. [سورة الكهف (18) : الآيات 61 الى 74] فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لاَ تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) وقوله سبحانه: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما الضمير في بَيْنِهِما: للبحرين، قاله

_ اسمه الياس، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، وقيل: خضرون- والأول أثبت- ابن مكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فعلى هذا فمولده قبل إبراهيم الخليل لأنه يكون ابن عم جد إبراهيم، وقد حكى الثعلبي قولين في أنه كان قبل الخليل أو بعده، وقال وهب وكنيته أبو العباس، وروى الدارقطني في «الأفراد» من طريق مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس قال: هو ابن آدم لصلبه، وهو ضعيف منقطع، وذكر أبو حاتم السجستاني في «المعمرين» أنه ابن قابيل بن آدم رواه عن أبي عبيدة وغيره، وقيل: اسمه ارميا بن طيفاء حكاه ابن إسحاق، عن وهب، وارميا بكسر أوله وقيل: بضمه وأشبعها بعضهم واوا، واختلف في اسم أبيه فقيل: ملكان، وقيل: كليان، وقيل: عاميل وقيل: قابل والأول أشهر، وعن إسماعيل بن أبي أويس: هو العمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد. ينظر: «فتح الباري» (7/ 93- 94) . (1) أخرجه الطبري (8/ 246) برقم: (23170) ، (8/ 245) ، برقم: (23169) ، وذكره ابن عطية (3/ 527) ، وابن كثير (3/ 92) . (2) أخرجه الطبري (8/ 246) برقم: (23176) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 528) ، وابن كثير (3/ 92) . (3) أخرجه الطبري (8/ 246) برقم: (23173) ، وذكره ابن عطية (3/ 528) ، والبغوي (3/ 171) ، وابن كثير (3/ 92) . (4) أخرجه الطبري (8/ 246) برقم: (23174) ، وذكره ابن عطية (3/ 528) ، وابن كثير (3/ 92) بنحوه. [.....]

مجاهد «1» ، وفي الحديث الصحيح: «ثُمَّ انْطَلَقَ، وانْطَلَقَ مَعَهُ/ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حَتَّى أَتيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُؤُوَسَهُما، فَنَامَا، واضْطَربَ الحُوتُ في المكتلِ، فَخَرجَ مِنْهُ فَسَقَط في البَحْرِ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَباً، أي: مسلكاً في جوفِ الماءِ، وأمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جَرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخبَرَهُ بالحُوتِ، فانْطَلَقَا بَقَّيِة يَوْمِهَما، ولَيْلَتِهِما حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الغَدِ قال موسى لِفَتَاهُ: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ويعني ب «النصب» تعب الطريق، قال: ولم يجدْ موسى النَّصَبَ حتَّى جاوَزَ المَكَان الذي أمره اللَّه به، قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، يريد: ذكر ما جرى فيه، وَما أَنْسانِيهُ، أي أن أذكره إِلَّا الشَّيْطانُ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قال: فكان للحوتِ سَرَباً ولموسى وفتاه عَجَباً، فقال موسَى: ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً، قال: فرجعا يَقُصَّان آثارهما حَتَّى انتهيا إلى الصخرة، فإِذا رجُلٌ مُسَجَّى بثوبٍ، فسَلَّم عليه موسى، فقال الخَضِرُ: وأَنَّى بأرضِكَ السَّلاَمَ قال: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسُرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعْم، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَني ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً، قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً يعني: لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي لأن الظواهر التي هي عِلْمُكَ لا تعطيه، وكيف تُصْبِرُ على ما تراه خطأً، ولم تُخْبَرْ بوجه الحكمة فيه؟ يا موسى، إني على علْمٍ من علْمِ اللَّه، علَّمنيه لا تَعْلَمُه، يريد: علْم الباطنِ، وأنْتَ على علْمٍ من علمِ اللَّه علَّمكه اللَّه، لا أعلمه، يريد: علْمَ الظاهرِ، فقال له موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً، فقال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً، أي: حتى أشرح لك ما ينبغي شرْحُه، فانطلقا يمشيَانِ على ساحل البَحْرِ، فمرت بهم سفينةٌ، فكلَّموهم أنْ يحملوهم، فعرفوا الخَضِرَ، فحملوهم بغَيْر نَوْلٍ، يقول: بغير أجْر، فلما ركبا في السفينة، لم يُفْجَأْ موسى إِلاَّ والخَضِرُ قد قلع لَوْحاً من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى قومٌ حملونا بغير نَوْلٍ، عَمِدْتَّ إلى سفينتهم، فخرقْتَها لتغرق أهلها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً، أي شنيعاً من الأمور، وقال مجاهد: الإِمْرُ المُنْكَر «2» ، قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لاَ تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً قال أَبَيُّ بْنُ كعب، قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: فكانَتِ الأُولى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً، قال: وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ على حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نُقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ: ما عِلْمِي وعلْمُكَ مِنْ عِلْم اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نقص هذا العصفور من هذا البحر» ،

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 247) برقم: (23179) ، وذكره ابن عطية (3/ 528) . (2) أخرجه الطبري (8/ 257) برقم: (23218) ، وذكره ابن عطية (3/ 531) ، وابن كثير (3/ 97) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 75 إلى 82]

وفي رواية: «واللَّهِ، مَا عِلْمِي وعِلْمُكَ في جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كما أَخَذَ/ هَذَا الطَّائِرُ بِمنْقَارِهِ من البَحْر» ، وفي رواية: «مَا عِلْمي وعِلْمُكَ وعِلْمُ الخَلاَئِقِ في عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هذا العُصْفُورُ منقاره» «1» . قال «2» ع: وهذا التشبيهُ فيه تجوُّز إِذ لا يوجد في المحْسُوسَات أقوى في القِلَّة من نقطة بالإِضافة إلى البحر، فكأنها لا شَيْءَ، ولم يتعرَّض الخَضِرُ لتحرير موازَنَةٍ بين المِثَال وبَيْنَ عِلْم اللَّه تعالى، إِذ علمه سبحانه غير متناهٍ، ونُقَطُ البحر متناهيةٌ، ثم خَرَجَ من السفينة، فبينما هما يَمْشِيَانِ على السَّاحل، إذ أبصر الخضرُ غُلاَماً يَلْعَبُ مع الغْلمَان، فأخذ الخَضِرُ رَأْسَهُ بيده، فاقتلعه فَقَتَلَهُ، فقال له موسى: أقتلت نفساً زاكية. قال «3» ع: قيل: كان هذا الغلامُ لم يبْلُغ الحُلْم، فلهذا قال موسى: نَفْساً زاكية، وقالت فرقة: بل كان بالغاً. وقوله: بِغَيْرِ نَفْسٍ يقتضي أنه لو كان عَنْ قَتْلِ نفْسٍ، لم يكن به بأْسٌ، وهذا يدلُّ على كِبَرِ الغلامِ، وإِلا فلو كان لم يحتلم، لم يجبْ قتله بَنَفْس ولا بغير نفْس. ت: وهذا إِذا كان شَرْعُهم كَشَرْعنا، وقد يكونُ شرعهم أنَّ النفْسَ بالنفْسِ عموماً في البالغ وغيره، وفي العَمْد والخطأ فلا يلزم من الآية ما ذَكَرَ. وقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً معناه: شيئاً ينكر. قال ع «4» : ونصف القرآن بِعَدِّ الحروف. انتهى إلى النون من قوله: نُكْراً. [سورة الكهف (18) : الآيات 75 الى 82] قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

_ (1) أخرجه الحاكم (2/ 369) من حديث أبي بن كعب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 531) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 532) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 532) .

قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال: وهذه أشدُّ من الأولى- قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، قال: مائل، فقال الخَضِرُ بيده هكذا، فأقامه، فقال موسى: قومٌ أتيناهم، فلم يطعمونا، ولم يضيّفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: أجراً نأكله «1» - «قال هذا فراق بيني وبينك» إِلى قوله: ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرَهِمَا» «2» قال سعيد: فكان ابن عباس يَقْرأُ: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سفينة [صالحة] غصبا» ، وكان يقرأ: «وأَمَّا الغُلاَمُ [فَكَانَ كَافِراً] وكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ» ، وفي رواية للبخاريِّ: يزعمون عن غَيْر سعيدِ بْنِ جُبَيْر أنَّ اسم المَلِكِ: هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ، والغلام المقتولُ اسمه يزعمون حَيْسُورُ، ويقال: جَيْسُورَ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، فأردتُّ إِذا هِيَ مَرَّتْ به أنْ يَدَعَها لِعَيْبها «3» ، فإِذا جَاوَزُوا أصْلَحُوها، فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سَدُّوها بقَارُورة، ومنهم من يقول بالقار، كان أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، وكان كافراً، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أنْ يحملهما حبُّه على أنْ يتابعاه على دينه، فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً لقوله: «أقتلْتَ نفساً زاكية» ، وَأَقْرَبَ رُحْماً هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خَضِر، وزعم غير سعيد أنهما أُبْدلا جاريةً، وأما داوُدُ بن أبي عاصِمٍ، فقال عن غير واحدٍ: إنها جاريةٌ. انتهى لفظُ البخاريِّ. ت: وقد تحرَّينا/ في هذا المختصر بحَمْد اللَّه التحقيقَ فيما علَّقناه جُهْد الاستطاعة، واللَّه المستعان، وهو المسئول أن ينفع به بجُوده وكَرَمِهِ. قال ع «4» : ويشبه أنْ تكون هذه القصَّة أيضاً أصلاً للآجال في الأحكام التي هي

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 534) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 420) ، وعزاه لعبد بن حميد، ومسلم، وابن مردويه. (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه البخاري (8/ 262، 277) كتاب «التفسير» ، حديث (4725- 4726- 4727) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 532) .

ثَلاَثَةٌ، وأيام التلوم ثلاثةٌ، فتأمَّله. وقوله سبحانه: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما وفي الحديث: «أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ القَومِ يَسْتَطْعمَانِهِمْ» . قال ع «1» : وهذه عبرة مصرِّحة بهوان الدنيا على اللَّه عزَّ وجلَّ. ص: وقوله: فِراقُ بَيْنِي الجمهور «2» بإضافة «فراق» ، أبو البقاء، تفريقُ وَصْلِنا، وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ «فِراقٌ» بالتنوين «3» ، أبو البقاء و «بَيْنَ» : منصوبٌ على الظرف انتهى. قال «4» ع: ووَراءَهُمْ هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعًى بها الزمانُ، وذلك أنَّ الحادث المقدَّم الوُجُودِ هو الأمامُ، والذي يأتي بَعْدُ هو الوَرَاء، وتأمَّل هذه الألفاظ في مواضِعِها حيْثُ وردَتْ تجدها تَطَّرد، ومِن قرأ «5» : «أَمامَهُمْ» ، أراد في المكان. قال «6» ع: وفي الحديث، «أنَّ هَذَا الغُلاَمَ طُبِعَ يَوْمَ طُبعَ كافِراً» ، والضمير في «خشينا» للخضِرِ، قال الداوديُّ: قوله: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما، أي: علمنا انتهى. «والزَكَاةُ» شرف الخُلُق والوقارُ والسكينةُ المنطويةُ على خَيْرٍ ونيَّة، «والرُّحْم» الرحمة، وروي عن ابن جُرَيْج، أنهما بُدِّلا غلاماً مسْلِماً «7» ، وروي عنه أنهما بُدِّلا جاريةً، وحكى النَّقَّاش أنها وَلَدَتْ هي وَذُرِّيَّتُها سبعين نبيًّا، وذكره المهدويُّ عن ابن عباس «8» ، وهذا بعيدٌ، ولا تُعْرَف كثرة الأنبياءِ إِلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكُنْ فيهم، واختلف النَّاسُ في هذا الكنز المذكور هنا، فقال ابن عباس: كان عِلْماً في صُحُف مدفونةٍ «9» ، وقال عمر مولى غَفْرَة: كان لَوْحاً من ذَهَبٍ قد كُتِبَ فيه: «عجباً للموقِنِ بالرِّزْقِ كيف يَتْعَبُ، وعجباً للموقِنِ بالحسابِ كيف يَغْفَلُ، وعجباً للموقِنِ بالمَوْتِ كيف يَفُرَحُ» ، وروي نحو هذا مما هو في

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 533) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 144) ، و «الدر المصون» (4/ 476) . (3) ينظر: «الكشاف» (2/ 740) ، و «البحر المحيط» (6/ 144) ، و «الدر المصون» (4/ 476) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 535) . [.....] (5) وقرأ بها ابن عباس، وابن جبير، كما في «الجامع لأحكام القرآن» (11/ 24) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 536) . (7) أخرجه الطبري (8/ 267) برقم: (23250) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 536) ، والبغوي (3/ 177) ، وابن كثير (3/ 98) . (8) ذكره ابن عطية (3/ 536) . (9) أخرجه الطبري (8/ 268) برقم: (23256) ، وذكره ابن عطية (3/ 537) ، وابن كثير (3/ 98) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 92]

معناه، وقال الداوديّ: كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذَهَبٌ وفِضَّة» انتهى، فإِن صحَّ هذا الحديثُ، فلا نظرَ لأحَدٍ معه، فاللَّه أعلم أيَّ ذلك كَانَ. وقوله سبحانه: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ظاهر اللفظِ، والسابقُ منه إِلى الذهنِ أنه والدهما دِنْيَةً «1» ، وقيل: هو الأب السابعُ، وقيل: العاشر، فَحُفِظَا فيه، وفي الحديثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ في ذُريتِهِ» ، وقول الخضر: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، يقتضي أنه نَبِيٌّ، وقد اختلف فيه، فقيل: هو نبيٌّ، وقيل: عَبْدٌ صالح، وليس بنبيٍّ وكذلك اختلف في موته وحياته، واللَّه أعلم بجميع ذلك، ومما يقضي بموت الخضر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ على ظَهْرِ الأَرضِ أحد» «2» . قال القرطبيُّ في «تذكرته» : وذكر عن عمرو بن دِينَارٍ: الخَضِرُ وإِلياسُ عليهما السلام حَيَّانِ، فإِذا رفع القرآن ماتا/ قال القرطبيُّ: وهذا هو الصحيحُ انتهى، وحكاياتُ مَنْ رأَى الخَضِرَ من الأولياء لا تحصَى كثرةٍ فلا نطيلُ بَسْردها، وانظر «لطائِفَ المِنَن» لابن عطاء اللَّه. وقوله: ذلِكَ تَأْوِيلُ: أي مآل، وحكى السُّهَيْليُّ أنه لما حان للخَضِر وموسى أن يفترقا، قال له الخَضر: لو صَبَرْتَ، لأَتَيْتَ عَلَى أَلْفِ عَجَبٍ، كلُّها أعجبُ ممَّا رأَيْتَ، فبكى موسى، وقالَ للخَضِر: أوْصِنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فقال: يا مُوسَى، اجْعَلْ همَّك في معادِكَ، ولا تَخُضْ فيما لا يَعْنِيك، ولا تأمَنْ مِنَ الخوفِ في أمْنِكَ، ولا تَيْئَس من الأمن في خوفك، وتدَّبر الأمورَ في علانيتِكَ، ولا تَذَر الإحسانَ في قُدْرتك، فقال له موسى: زِدْنِي يرحمك اللَّه، فقال له الخَضِر: يا مَوسَى، إِياكَ واللَّجَاجَةُ، ولا تَمْش في غير حَاجَةٍ، ولا تَضْحَكْ من غَيْر عَجَبٍ، ولا تعير أحداً، وابكِ على خطيئتك يا بن عمران. انتهى. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 92] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)

_ (1) يقال: هو ابن عمي دنية، إذا كان ابن عمه لحّا. ينظر: «لسان العرب» (1436) . (2) تقدم تخريجه.

وقوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ... الآية: «ذو القرنين» ، هو المَلِكُ الإسْكَنْدَرُ اليُونَانِيُّ، واختلف في وَجْه تسميته ب «ذي القَرْنَيْنِ» وأحسنُ ما قيل فيه: أنه كان ذا ظفيرتين، من شَعْرهما قرناه، والتمكينُ له في الأرض: أنه مَلَكَ الدنيا، ودانَتْ له الملوك كلها، وروي أن جميع من مَلَكَ الدنيا كلَّها أربعَةٌ، مُؤْمِنَانِ وكافران فالمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، والإسْكَنْدَرُ، والكافِرَانِ: نُمْرُود، وبُخْتَ نَصَّرَ. وقوله سبحانه: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً معناه: علْماً في كل أمْرٍ، وأقيسةً يتوصَّل بها إِلى معرفة الأشياء، وقوله: كُلِّ شَيْءٍ عمومٌ معناه الخصوص في كلِّ ما يمكنه أنْ يعلمه ويحتاجُ إلَيْه، وقوله: فَأَتْبَعَ سَبَباً، أي: طريقاً مسلوكةً، وقرأ نافع وابن كثير «1» : وحفص عن عاصم: «في عَيْنٍ حِمِئَة» ، أي: ذاتِ حَمْأة، وقرأ الباقون: «في عَيْنٍ حَامِيَةٍ» ، أي: حارَّة، وذهب «2» الطبريُّ إلى الجمع بين الأمرين، فقال: يحتملُ أن تكون العين حارَّة ذاتَ حَمْأة واستدلَّ بعضُ الناس على أن ذا القرنين نبيّ بقوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، ومن قال: إنه ليس بنبيٍّ، قال كانت هذه المقالةُ مِنَ اللَّهِ له بإِلهامِ. قال ع «3» : والقول بأنه نبيّ ضعيف، وإِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ معناه: بالقَتْلِ على الكُفْر، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً، أي: إِن آمنوا، وذهب الطبري «4» إِلى أنَّ اتخاذه الحُسْن هو الأسْرُ مع كُفْرهم، ويحتمل أنْ يكون الاتخاذ ضَرْبَ الجزية، ولكنْ تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمْر إِلى كفر وإيمان يردُّ هذا القول بعض الردّ، وظَلَمَ في هذه الآية: بمعنى كَفَر، وقوله: عَذاباً نُكْراً، أي: تنكره الأوهام، لعظمه، وتستهوله، والْحُسْنى يراد بها الجَنَّة. وقوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطُّرُق المؤدِّية إِلى مَقْصِده، وكان ذو القرنَيْن، على ما وقع في كُتُب التاريخ يَدُوسُ الأرض بالجيوش الثّقال،

_ (1) ينظر: «السبعة» (398) ، و «الحجة» (5/ 169) ، و «إعراب القراءات» (1/ 412) ، و «معاني القراءات» (2/ 121) ، و «حجة القراءات» (428) ، و «العنوان» (124) ، و «شرح الطيبة» (5/ 18) ، و «شرح شعلة» (478) ، و «إتحاف» (2/ 223) . (2) ينظر: «الطبري» (8/ 274) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 539) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (8/ 275) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 93 إلى 95]

والسّيرة الحميدة، والحزم المستيقظ، والتأييد المتواصِلِ، وتقوى اللَّه عزَّ وجلَّ، فما لقي أمّة، ولا مرّ بمدينةٍ إِلا ذَلَّتْ ودَخَلَتْ في طاعته، وكُلُّ من/ عارضه أوْ توقَّف عن أمْره، جعله عظةً وآيةً لغيره، وله في هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ وغرائبُ، مَحَلُّ ذكرها كُتُبُ التاريخ. وقوله: وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ المراد ب «القوم» الزَّنْج، قاله قتادة «1» ، وهم الهنود وما وراءهم، وقال الناس في قوله سبحانه: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً معناه: أنهم ليس لهم بنيانٌ، إِذ لا تحتمل أرضهم البناءَ وإِنما يدخلون مِنْ حَرِّ الشمس في أسْرَابٍ، وقيل: يدخلون في مَاءِ البَحْر قاله الحسن «2» وغيره، وأكْثَرَ المفسِّرون في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بَلِيغَةٌ عن قُرْب الشمس منهم، ولو كان لهم أسرابٌ تغني لكان سِتْراً كثيفاً. وقوله: كَذلِكَ معناه: فَعَلَ معهم كَفِعْله مع الأولين أهْلِ المَغْرب، فأوجز بقوله: كَذلِكَ. [سورة الكهف (18) : الآيات 93 الى 95] حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) وقوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ... الآية: «السَّدَّان» ، فيما ذكر أهل التفسير: جبلان سَدَّا مسالك تلك الناحية، وبَيْنَ طَرَفيِ الجبلين فَتْحٌ هو موضع الرَّدْم، وهذان الجَبَلان في طَرَفِ الأرضِ ممَّا يلي المَشْرِق، ويظهر من ألفاظ التواريخُ أنهما إلى ناحية الشمال. وقوله تعالى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً: قال السُّهَيْليُّ: هم أهل جابلَص، ويقال لها بالسُّرْيانية «جَرْجيسَا» يسكنها قومٌ مِنْ نَسْل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح. وقوله تعالى: وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ هم: أهلُ جابَلَقَ، وهم من نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لها بالسُّرْيانيَّة: «مَرْقِيِسيَا» ولكل واحدةٍ من المديَنتْينِ عَشَرة آلاف بابٍ، بين كلِّ بابين فرسَخٌ، ومر بهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ الإسراء، فدعاهم، فأجابوه، وآمنوا به، ودعا من ورائهم من الأمم، فلم يجيبوه في حديثٍ طويلٍ رواه الطبريُّ عن مقاتل بن حَيَّان، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. انتهى،

_ (1) أخرجه الطبري (8/ 277) برقم: (23317) ، وابن عطية (3/ 540) ، وابن كثير (3/ 103) ، والسيوطي (4/ 448) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (8/ 276) برقم: (23314) بنحوه، والبغوي (3/ 179) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 96 إلى 99]

والله أعلم بصّحته. ويَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: قبيلان من بني آدم، لكنَّهم ينقسمون أنواعاً كثيرةً، اختلف الناس في عددها، واختلف في إفسادهم الذي وصَفُوهم به، فقيل: أكْلُ بَني آدم، وقالت فرقة: إفسادهم: هو الظُّلْم والغَشْم وسائرُ وجوه الإِفساد المعلومِ من البَشَر، وهذا أظهر الأقوال، وقولهم: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً: استفهامٌ على جهة حُسْن الأدبِ، «والخْرجُ» : المُجْبَى، وهو الخراج، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «1» «خَرَاجاً» ، وروي في أمر يأجوج ومأجوج أنَّ أرزاقهم هِيَ من التِّنِّينِ يُمْطَرُونَ به، ونحو هذا مما لم يَصِحَّ، وروي أيضاً أنَّ الذَّكَر منهم لا يَمُوتُ حتى يولَدَ له ألْفٌ والأنثى كذلك، وروي أنهم يتسافَدُونَ في الطُّرُق كالبهائِمِ، وأخبارُهُم تضيقُ بها الصُّحُف، فاختصرْتُ ذلك لعَدَمِ صحَّته. ت: والذي يصحُّ من ذلك كثْرَةُ عددهم على الجُمْلة، على ما هو معلوم من حديثِ: «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ» وغيره من الأحاديث. وقوله: مَا مَكَّنِّي/ فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ المعنى: قال لهم ذُو القَرْنَيْنِ: ما بسطه اللَّه لي من القُدْرة والمُلْك خَيْرٌ من خَرَاجكم، ولكن أعينوني بُقَّوة الأبدان، وهذا من تأييد اللَّه تعالى له، فإِنه تهَدَّى في هذه المحاورة إِلى الأنفع الأَنْزَه، فإِنَّ القوم لو جمعوا له الخَرَاجَ الذي هو المالُ، لم يُعِنْهُ منهم أحدٌ، ولَوَكَّلُوه إلى البنيان، ومعونتهم بالقوّة أجمل به. [سورة الكهف (18) : الآيات 96 الى 99] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وقوله: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ... الآية: قرأ حمزة «2» وغيره: «ائْتُوني» بمعنى «جيئوني» ، وقرأ نافع وغيره: «آتوني» بمعنى «أعْطُوني» ، وهذا كله إِنما هو استدعاء

_ (1) الثابت أن الأخوين حسب من السبعة قرآ هذا الحرف هكذا، وإنما تابع المصنف ابن عطية في ذكره عاصما. ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 542) ، و «السبعة» (400) ، و «الحجة» (5/ 174) ، و «إعراب القراءات» (1/ 419) ، و «معاني القراءات» (2/ 124) ، و «شرح الطيبة» (5/ 22) ، و «العنوان» (124) ، و «حجة القراءات» (433) ، و «شرح شعلة» (480) ، و «إتحاف» (2/ 225- 226) . [.....] (2) والمقصود أن حمزة قرأ: «ائتوني» الثانية من الآية هكذا، وإلا فإن الأولى قرأها أبو بكر، عن عاصم «ائتوني» ، دون حمزة، فلم يقرأها هكذا.

المناولة، وإِعمالُ القوَّة «والزُّبَر» جمع زُبْرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى: فرَصَفَه وبنَاه حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، وهما الجبلان، وقوله: قالَ انْفُخُوا ... إلى آخر الآية، معناه: أنه كان يأمر بوَضْع طاقة من الزُّبَر والحجارةِ، ثم يوقد عليها حَتَّى تحمَى ثم يؤتَى بالنُّحَاس المُذَاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلافِ في «القِطْر» ، فيفرغه على تلك الطاقة المنضَّدة، فإِذا التأم واشتدَّ، استأنَفَ رَصْفَ طاقةٍ أخرى إلى أن استوَى العَمَلُ، وقال أكثر المفسِّرين: «القِطْر» : النُّحَاس المُذَابُ، ويؤيِّد هذا ما روي أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنِّي رَأَيْتُ سَدَّ يُأْجُوجُ ومَأْجُوجَ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأْيْتَهُ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ كَالبُرُدِ المُحَبَّر طَريقَةٌ صَفْرَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حمراء، وطريقة سوداء، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «قد رأيته» «1» ويَظْهَرُوهُ ومعناه: يعلونه بُصعُودٍ فيه ومنه قوله في «الموطّإ» ، و «الشمس في حجرِتها قَبْل أَنْ تَظْهَرَ» ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لبُعْد عَرْضه وقوَّته، ولا سبِيلَ سَوى هذين: إما ارتقاءٌ، وإِما نَقْب، وروي أن في طُولَه ما بَيْنَ طرفَيِ الجبلَيْنِ مِائَة فَرْسَخِ، وفي عَرْضه خمسينَ فرسخاً، وروي غير هذا مما لم نَقِفْ على صحَّته، فاختصرناه، إِذ لا غاية للتخرُّص وقوله في الآية انْفُخُوا يريد بالأَكْيَار. وقوله: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ... الآية: القائل ذو القرنين، وأشار ب هذا إِلى الرَّدْمِ والقوةِ عليه، والانتفاعِ به، والوعدُ يحتملُ أنْ يريد به يوم القيامة، ويحتمل أنْ يريد به وقْتَ خروجِ يأجُوجَ ومأجوج، وقرأ «2» نافع وغيره: «دَكًّا» مصدر «دَكَّ يَدُكُ» ، إِذا هدم ورض، ونَاقةٌ دَكَّاء لا سَنَام لها، والضمير في تَرَكْنا للَّه عزَّ وجلَّ. وقوله: يَوْمَئِذٍ يحتمل أنْ يريد به يوم القيامة، ويحتمل أنْ يريد به يَوْمَ كمالِ السَّدِّ، والضميرُ في قوله: بَعْضَهُمْ على هذا ليأجوجَ ومأجُوجَ، واستعارة المَوْج لهم عبارةٌ عن الحَيْرة، وتردُّدِ بعضهم في بَعْضٍ، كالمُوَلَّهينَ مِنْ هَمٍّ وخوفٍ ونحوه، فشبَّههم بموجِ البَحْر الذي يضطرب بعضُه في بعض. وقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ... إلى آخر الآية: يعني به يومَ القيامة بلا احتمال

_ ينظر: «إتحاف» (2/ 227) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 543) ، و «الحجة للقراء السبعة» (5/ 177- 178) ، و «معاني القراءات» (2/ 126) ، و «شرح شعلة» (482) . (1) ينظر: «تفسير القرطبي» (11/ 62) . (2) وقرأ بها أبو عمرو، وابن عامر. ينظر: «السبعة» (402) ، و «الحجة» (5/ 182) ، و «إعراب القراءات» (1/ 422) ، و «حجة القراءات» (435) ، و «العنوان» (125) ، و «إتحاف» (2/ 228) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 100 إلى 106]

لغيره، والصُّورِ في قول الجمهور وظاهر الأحاديثِ الصِّحَاحِ: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل للقيامة «1» . [سورة الكهف (18) : الآيات 100 الى 106] وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) وقوله سبحانه: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً معناه/ أبرزناها لَهُمْ لتجمعهم وتحطِّمهم، ثم أكَّد بالمصدر عبارةً عن شدَّة الحال. وقوله: أَعْيُنُهُمْ كنايةٌ عن البصائر، والمعنى: الذين كانَتْ فِكَرُهم بينها، وبَيْن ذكري والنَّظَرِ في شَرْعِي- حجابٌ، وعليها غطاءٌ وَكانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يريد لإِعراضهم ونِفارهم عن دعوة الحق، وقرأ الجمهور «2» ، «أفَحِسِبَ الَّذِين كَفَرُوا» - بكسر السين- بمعنى «أظَنُّوا» وقرأ علي بن أبي طالب «3» وغيره وابنُ كَثِير، بخلافٍ عنه: «أَفَحَسْبُ» بسكون السين وضمِّ الباء، بمعنى «أَكافِيهِمْ ومنتهى غرضهم» ، وفي مصحف ابن مسعود «4» : «أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وهذه حجة لقراءة الجمهور. وقوله: أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي قال جمهور المفسِّرين: يريد كلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه كالملائكة وعزير وعيسى، والمعنى: أن الأمر ليس كما ظَنُّوا، بل ليس لهم من ولاية هؤلاءِ المذكُورين شيء، ولا يجدون عندهم منتفعا وأَعْتَدْنا معناه: يَسَّرنا، و «النُّزُل» موضع النزول، و «النُّزُل» أيضاً: ما يُقدَّم للضْيفِ أو القادم من الطَّعام عند نزوله، ويحتملُ أنْ يريد بالآية هذا المعنى: أنَّ المعدَّ لهؤلاء بَدَلَ النُّزُلِ جهنَّم، والآية تحتملُ الوجهِينِ، ثم قال

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 545) ، و «الدر المصون» (4/ 484) . (3) وقرأ بها ابن عباس، وابن يعمر، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ونعيم بن ميسرة، والضحاك، ويعقوب، وابن أبي ليلى. ينظر: «المحتسب» (2/ 34) ، و «الكشاف» (2/ 749) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 545) ، و «البحر المحيط» (6/ 157) ، وزاد نسبتها إلى ابن محيصن، وأبي حيوة، والشافعي، ومسعود بن صالح، وينظر: «الدر المصون» (4/ 484) ، و «الشواذ» ص: (85) . (4) ينظر: «الكشاف» (2/ 749) ، و «المحرر الوجيز» (3/ 545) ، و «البحر المحيط» (6/ 157) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 107 إلى 108]

تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الآية: المعنى قل لهؤلاء الكفرة على جهة التوبيخ: هل نخبركم بالذين خَسِرَ عَمَلُهم، وضَلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم مع ذلك يظنُّون أنهم يحسنون فيما يصنعوه، فإِذا طلبوا ذلك، فقل لهم: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، وعن سعد بن أبي وقَّاص في معنى قوله تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً قال: هُمْ عُبَّاد اليهودِ والنصارى، وأهْلُ الصوامع والدِّياراتِ وعن عَلِيٍّ: هم الخوارجُ ويضعِّف هذا كلَّه قولُهُ تعالى بعْدَ ذلك: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، وليس هذه الطوائف ممن يكفر باللَّه ولقائه، وإِنما هذه صفة مشركي عَبَدَةِ الأوثان، وعليٌّ وسعْدٌ رضي اللَّه عنهما، ذكَرا قوماً أَخَذُوا بحظِّهم من صدر الآية «1» . وقوله سبحانه: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً يريد أنهم لا حسنَةَ لهم تُوزَنْ لأن أعمالهم قد حَبِطَتْ، أي: بَطَلَتْ، ويحتمل المجاز والاستعارة، كأنه قال: فلا قَدْرَ لهم عندنا يومئذ، وهذا معنى الآية عندي، وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «يُؤَتَى بالأكُولِ الشَّرُوبِ الطَّوِيل فَلاَ يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ثم قَرَأَ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» «2» وقوله: ذلِكَ اشارة الى ترك إقامة الوزن. [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ: اختلف المفسِّرون في «الفِرْدَوسِ» فقال قتادة: إِنه أعلى الجَنَّةَ وَرَبْوتها «3» ، وقال أبو هريرة: إِنه جَبَلٌ تتفجَّر منه أنهارُ الجَنَّة «4» ، وقال أبو أُمَامَةِ: إِنه سُرَّة الجنة ووسطها «5» ، وروى أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ، أنه تتفجَّر منه أنهار الجَنَّة «6» ، وروي عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فاسألوه الفِرْدَوْس» «7» .

_ (1) ذكره ابن عطية (3/ 545) . (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 457) ، وعزاه إلى ابن عدي، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (3) أخرجه الطبري (3/ 296) برقم: (23400) ، وذكره البغوي (3/ 186) ، وذكره ابن عطية (3/ 546) . (4) أخرجه الطبري (3/ 297) برقم: (23409) ، وذكره ابن عطية (3/ 546) . (5) ذكره ابن عطية (3/ 546) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 457) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه. (6) أخرجه الطبري (3/ 297) برقم: (23409) ، وذكره ابن عطية (3/ 546) . [.....] (7) ينظر: الحديث الآتي:

[سورة الكهف (18) : آية 109]

ت: ففي «البخاريِّ» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجَنَّةِ» «1» انتهى. وقوله تعالى: لاَ يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا «الحِوَلُ» بمعنى المتحوَّل. قال مجاهدٌ: متحوَّلاً «2» : [سورة الكهف (18) : آية 109] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) وأما قوله سبحانه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ... الآية: فروي أن سبب الآية أنّ اليهود قالت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: كَيْفَ تَزْعُمُ أنَّكَ نَبِيُّ الأُمَمِ كُلَّها وأنَّكَ أُعُطِيتَ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ، وأَنْتَ مُقَصِّرٌ، قَدْ سُئِلْتَ عَنْ الرُّوحِ، فَلَمْ تُجِبْ فيهِ؟، ونحو هذا من القول فأنزل اللَّه الآية مُعْلِمَةً باتساع معلوماتِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأنها غير متناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدْعٍ، فالمعنى: لو كان البحْرُ مداداً تكتب به معلوماته تعالى، لنَفِدَ قبل أنْ يستوفيها، «وكلمات ربِّي» هي المعاني القائمة بالنَّفْس، وهي المعلوماتُ، ومعلوماتُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لا تتناهى والبحر متناهٍ ضرورةً، وذكر الغَزَّالِيُّ في آخر «المنهاج» أن المفسِّرين يقولون في قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، أن هذه هي الكلماتُ التي يقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ لأهْلِ الجَنَّةِ في الجَنَّة باللُّطْفِ والإِكرام، مما لا تكيِّفه الأوهام، ولا يِحُيطُ به عِلْمُ مخْلوقِ، وحُقَّ أنْ يكون ذلك كذلك، وهو عطِاءُ العزيز العليم على مقتضى الفَضْل العظيم، والجود الكريمِ، أَلاَ لِمِثْلِ هذا فليعملِ العَامِلُونَ. انتهى. وقوله: مَدَداً، أي زيادة. ت: وكذا فسَّره الهَرَوِيُّ ولفظه: وقوله تعالى: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً، أي زيادة انتهى. [سورة الكهف (18) : آية 110] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 14) كتاب «الجهاد» باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، حديث (2790) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه الطبري (3/ 298) برقم: (23418) ، وذكره ابن عطية (3/ 546) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 458) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

وقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: أنا بشرٌ ينتهي علْمي إلى حيثُ يوحى إليّ، ومما يوحَى إِليَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وباقي الآية بيِّن في الشرك باللَّه تعالى، وقال ابن جُبَيْر في تفسيرها لا يرائي في عمله، وقد ورد حديثٌ أنها نزلَتْ في الرياء. ت: وروى ابن المبارك في «رقائقه» ، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلَمُ، عن أبيه، أنه كَانَ يَصِفُ أمْرَ الرياء، فيقول: ما كَانَ مِنْ نَفْسِكَ فَرَضِيَتْهُ نَفْسُكَ لها، فإِنه مِنْ نَفْسِكَ فعاتْبها، وما كان مِنْ نَفْسِك، فكرهَتْه نَفْسُك لها، فإنه من الشيطان فتعوَّذْ باللَّه منه، وكان أبو حَازِمٍ يقول ذلك «1» ، وأسند ابنُ المبارك عن عبْدِ الرحمن بنِ أبي أُمَيَّة، قال: كُلُّ ما كَرِهَه العَبْد فليس منْه «2» انتهى، وخرَّج الترمذيُّ عن أبي سعيد بْنِ أبي فَضَالَة الأنصاريِّ، وكان من الصحابة، قال: سَمِعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كان أشرك في عمل عَمِلَهُ للَّهِ أحَداً، فَلْيَطْلُبْ ثَوابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّركَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» «3» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ انتهى، وقد خرَّج مسلم معناه. ت: ومما جَّربته، وصحَّ من خواصِّ هذه السورة، أنَّ من أراد أن يستيقظ أيَّ وقتٍ شاء من الليل، فليقرأ عند نومه قولَهُ سبحانه: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي/ مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ... إلى آخر السورة، فإنه يستيقظُ بإِذن اللَّه في الوقْت الذي نَوَاهُ، ولتكُنْ قراءته عند آخر ما يَغْلِبُ عليه النُّعَاس بحيث لا يتجدَّد له عقب القراءة خواطِرُ، هذا مما لا شَكَّ فيه، وهو من عجائب القرآن المقطوعِ بها، واللَّه الموفِّق بفضله. تنبيهٌ: رُوِّينا في «صحيح مسلم» ، عن جابر رضي اللَّه عنه قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «إِنَّ في اللَّيلِ لسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلَ اللَّهَ خَيْراً مِنْ أَمْر الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» «4» ، وذلِكَ كُلَّ لَيَلةٍ، فإِن أردتَّ أن تعرف هذه الساعة، فاقرأ عند نومك من قوله

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (287) برقم: (831) . (2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (287) برقم: (832) . (3) أخرجه الترمذي (5/ 314) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الكهف، حديث (3154) ، وابن ماجه (2/ 1406) كتاب «الزهد» باب: الرياء والسمعة، حديث (4203) ، وأحمد (3/ 466) ، وابن حبان (2499- موارد) ، والدولابي في «الكنى» (1/ 35) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 307) برقم: (778) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن حبان. (4) أخرجه مسلم (3/ 84- الأبي) كتاب «صلاة المسافرين» باب: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، حديث (166- 176/ 757) من حديث جابر، وأخرجه أحمد (3/ 313) .

تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ إلى آخر السورة، فإِنك تستيقظ في تلك الساعة- إن شاء اللَّه تعالى- بفضله، ويتكرَّر تَيَقُّظَكَ، ومهما استيقظْتَ، فادْعُ لي ولك، وهذا مما ألهمنيه اللَّهُ سبحانه، فاستفِدْه، وما كتبته إلاّ بَعْدَ استخارة، وإِياك أن تدعُوَ هنا على مُسْلِمٍ، ولو كان ظالماً، فإن خالفتَني، فاللَّه حَسِيبُكَ وبَيْن يديه أكونُ خصيمَكَ، وأنا أرغَبُ إِليك أنْ تشركني في دعائِكَ، إِذ أفدتُّكَ هذه الفائدةَ العظيمةَ وكُنْتُ شيخَكَ فيها، وللقرآن العظيم أسرارٌ يُطْلِعُ اللَّه عليها من يشاء مِنْ أوليائه، جَعَلَنَا اللَّه منْهم بفَضْله، وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما. تم بحمد الله وحسن توفيقه الجزء الثالث من تفسير الثعالبي ويليه الجزء الرابع وأوله: سورة مريم ولله الحمد والمنه

محتوى الجزء الثالث من تفسير الثعالبي

محتوى الجزء الثالث من تفسير الثعالبي الأعراف 5 الأنفال 112 التوبة 161 يونس 233 هود 271 يوسف 310 الرعد 358 إبراهيم 374 الحجر 393 النحل 410 الإسراء 449 الكهف 505

الجزء الرابع

[الجزء الرابع] بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة مريم هذه السورة مكية بإجماع إلّا السجدة منها، فقيل: مكيّة. وقيل: مدنيّة. [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) قوله عزَّ وجل: كهيعص قد تقدَّمَ الكلامُ في فواتح السوَرِ. وقوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ مرتَفِعٌ بقولهِ: كهيعص في قَوْلِ فرقَةٍ. وقيل: إنَّهُ ارتفعَ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأ محذوفٍ تَقْديرُهُ: هذا ذكر، وحكَى أبو عمرو الدَّانِي عن ابن يعمر «1» أَنَّه قرأ: «ذَكِّر رَحْمَة رَبِّكَ» : بفتح الذَّالِ، وكسر الكافِ المشدَّدة، ونصبِ الرَّحمة. وقوله نادى: مَعناه بالدُّعَاءِ والرغبَةِ قاله ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «2» . وقوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا: يناسِبُ قَوْلَهْ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. [الأعراف: 55] . وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قَال: «خيرُ الذَّكْرِ الخفيُّ، وخيرُ الرِّزقِ ما يكفي» «3»

_ (1) ينظر «مختصر الشواذ» ص (86) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 14) ، و «البحر المحيط» (6/ 163) ، و «الدر المصون» (4/ 490) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1250) . (3) تقدم تخريجه.

وذلك لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِن الرياء، فأَمَّا دُعاءُ زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيّاً لوجهين: أَحدُهُما: أَنَّهُ كان ليلاً. والثاني: أَنَّهُ ذَكَرَ في دُعَائه أَحوالاً تفتقرُ إلى الإخفَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي. وهذا مما يكتم. انتهى. ووَهَنَ الْعَظْمُ معناه ضَعُفَ، واشْتَعَلَ مُسْتَعَارٌ للشيْب منِ اشتعال النَّار. وقولهُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا شكر لله- عز وجل- على سالف أياديه عنده، معناه: قد أَحسنتَ إليَّ فيما سلَف، وسعدتُ بدعائي إيَّاك فالإنعامُ يقتضي أَنْ يشفع أَوله آخره. ت: وكذا فسَّر الدَّاوُودِيُّ، ولفظه: «ولم أَكنْ بدُعائِك رَبِّ شقيّاً» ، يقولُ: كنْتَ تعرفني الإجابَة فيما مضى، وقاله قتادةُ: انتهى. وقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ... الآية، قيل: معناه خاف أَن يرثَ الموَالي مَالَهُ، والموالي: بنو العمّ، والقرابةُ. وقولُه مِنْ وَرائِي أَيْ: من بعدي. وقالت فرقةٌ: إنما كان مواليه مهمِلينَ للدِّين فخاف بموته أَنْ يضَيع الدينُ فطلب وليّاً يقومُ بالدين بعده حَكَى هذا القولَ: الزَّجَّاجُ، وفيه: أَنه لا يجوزُ أَن يسأل زَكَرِيَّاءُ من يرث ماله إذ الأَنبيَاءِ لا تُورَثُ. قال: ع «1» : وهذا يُؤَيّده قوله «2» صلى الله عليه وسلّم: «إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَة» «3» . والأَظهرُ الأَلْيق بزكرياء عليه السلام أَن يريدَ وِرَاثةَ العِلْم والدِّينِ، فتكون الوارثةُ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 4- 5) . (2) في ج: قول النبي. (3) أخرجه البخاري (6/ 227- 228) كتاب «فرض الخمس» : باب فرض الخمس، حديث (3094) ، (7/ 389) كتاب المغازي باب حديث لبني النضير، حديث (4033) ، (9/ 412- 413) كتاب «النفقات» : باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، حديث (5358) ، (13/ 290- 291) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» : باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، حديث (7305) ، ومسلم (3/ 1377- 1379) كتاب «الجهاد» : باب حكم الفيء، حديث (49/ 1757) ، وأبو داود (2/ 154- 156) كتاب «الخراج» : باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأموال، حديث (2963) ، والترمذي (4/ 158) كتاب «السير» : باب ما جاء في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حديث (1610) ، وفي «الشمائل» (216) ، -

مستعارةً، وقد بلغه الله أَمَلَهُ. قال ابنُ هشام: ومِنْ وَرائِي متعلّقٌ ب الْمَوالِيَ، أو بمحذوفٍ هو حالٌ من «1» الموالي، أو مُضَاف إليهم، أَيْ: كائِنِينَ مِنْ وَرَائي، أو فعَل الموالي مِنْ ورائي، ولا يصحّ تعلقه ب «خِفْتُ» لفساد المعنى. انتهى من «المغني» . وخِفْتُ الْمَوالِيَ هي قراءةُ الجمهور «2» ، وعليها هو هذا التفسير. وقرأ عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ «3» ، وجماعةٌ «خَفَّتِ» بفتح الخاء، وفتح الفاء وشدِّها، وكَسْر التَّاء، والمعنى على هذا: قد انقَطَع أَوْلِيَائِي، وماتُوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وَليَّا يقوم بالدين. قال ابنُ العربي «4» في «أحكامه» : ولم يخف زكرياءُ وارث المال، وإنما أراد إرث

_ - وعبد الرزاق (9772) ، وأبو يعلى (1/ 12، 13) رقم: (2، 4) ، وابن حبان في «صحيحه» (8/ 207- الإحسان) حديث (6574) ، والبيهقي (6/ 297) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 631، 632- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب به، وفيه قصة طويلة. وأخرجه مالك (2/ 993) كتاب الكلام: باب ما جاء في تركة النبي صلى الله عليه وسلّم، حديث (27) ، والبخاري (12/ 7، 8) كتاب «الفرائض» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا صدقة» حديث (6727، 6730) ، ومسلم (3/ 1379) كتاب «الجهاد والسير» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» حديث (51/ 1758) ، وأبو داود (2/ 160، 161) كتاب «الخراج والفيء والإمارة» : باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأموال، حديث (2976، 2977) ، والنسائي (7/ 132) كتاب «قسم الفيء» ، وأحمد (6/ 145، 262) ، وعبد الرزاق (9774) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (1098) ، وابن حبان (8/ 209- الإحسان) رقم (6577) ، «والبيهقي» (6/ 297، 298) كلهم من طريق الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر، فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلّم، قالت عائشة لهنّ: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» ؟! وفي بعض طرق الحديث أن راوي هذا الحديث هو أبو بكر. [.....] (1) لأنه في الأصل صفة للنكرة، فقدّم عليها. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 5) ، «والبحر المحيط» (6/ 165) ، «والدر المصون» (4/ 491) . (3) وقرأ بها محمد بن علي، وعلي بن الحسن، وسعيد بن العاص، وابن يعمر، وسعيد بن جبير، وشبيل بن عزرة. ينظر: «مختصر الشواذ» ص (86) ، و «المحتسب» (2/ 37) ، «والكشاف» (3/ 4) ، «والمحرر الوجيز» (4/ 5) ، «والبحر المحيط» (6/ 165) ، وزاد نسبتها إلى الوليد بن مسلم عن ابن عامر. وهي في «الدر المصون» (4/ 491) . (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1250) .

النبوة، وعليها خاف أَن تخرج عن عَقِبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: «إنَّا- معَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ- لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» «1» انتهى. وقرأ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما- رضي الله عنهم- «يرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ «2» » . ت: وقوله: فَهَبْ لِي قال ابنُ مَالكٍ في «شرح الكافية» اللامُ هنا: هي لامُ التعدِيَة وقاله ولدُه في «شرح الخلاصة» . قال ابنُ هشام: والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيداً لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى. وقوله: مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يريد يرث منهم الحكمة/ والعلم، والنبوة، ورَضِيًّا معناه: مرضيّا، والعاقر من النساء التي لا تلد من غير كبرة، وكذلك العاقرُ من الرجال. وقوله: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا معناه في اللغة: لم نجعل له مُشَارِكاً في هذا الاسم، أي: لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس «3» وغيره. وقال مجاهدُ «4» وغيره: سَمِيًّا معناه: مئيلا، ونظيرا، وفي هذا بعد: لأنه لا

_ (1) ينظر الحديث السابق. (2) وبها قرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وأبو حرب بن أبي الأسود، والحسن، وقتادة، وأبو نهيك، وجعفر بن محمد. قال أبو الفتح: هذا ضرب من العربية غريب، ومعناه التجريد، وذلك أنك تريد: فهب لي من لدنك وليّا يرثني منه أو به وارث من آل يعقوب. وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثا. ومثله قول الله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28] ، فهي نفسها دار الخلد، فكأنه جرد من الدار دارا، وعليه قول الأخطل: [الطويل] بنزوة لصّ بعد ما مر مصعب ... بأشعث لا يفلى ولا هو يقمل ومصعب نفسه هو الأشعث، فكأنه استخلص منه أشعث. ا. هـ. ينظر: «المحتسب» (2/ 38) ، «ومختصر الشواذ» (86) ، و «الكشاف» (3/ 5) ، «والمحرر الوجيز» (4/ 5) ، «والبحر المحيط» (6/ 165) ، «والدر المصون» (4/ 492) ، (3) ذكره ابن عطية (4/ 6) ، والسيوطي (4/ 468) وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس. (4) أخرجه الطبريّ (8/ 309) برقم: (23505) ، وذكره ابن عطية (4/ 6) ، وابن كثير (3/ 112) ، والسيوطي (4/ 468) .

[سورة مريم (19) : الآيات 12 إلى 16]

يفضل على إبرَاهِيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص كالسودد «1» ، والحصر. والعتي، والعُسِيُّ: المبالغة في الكبر، أو يُبْس العود، أو شيْب الرأس، أو عقيدة ما، وزكرياء: هو من ذرية هارون- عليهما السلام- ومعنى قوله: سَوِيًّا فيما قال الجمهور، صحيحاً من غير عِلَّة، ولا خرس. وقال ابن عباس: ذلك عائدٌ على الليالي، أراد: كاملات مستويات «2» . وقوله: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ قال قتادة «3» ، وغيره: كان ذلك بإشارة. وقال مجاهد «4» : بل بكتابة في التراب. قال ع «5» : وكِلاَ الوجهين وَحْي. وقوله: أَنْ سَبِّحُوا قال قتادة: معناه صلوا السُّبْحة، والسُّبحةْ: الصلاة «6» ، وقالت فرقة: بل أَمرهم بذكر الله، وقول: سبحان الله. [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 16] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) وقوله- عز وجل-: [يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ] المعنى: قال اللهُ له: يا يحيى] «7» خذ الكتابَ، وهو التوراةُ، وقوله: بِقُوَّةٍ أَيْ: العلم به، والحفظ له، والعمل به، والالتزام للوازمه.

_ (1) السودد: الشرف، وقد يهمز وتضم الدال. ينظر: «لسان العرب» (2144) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 7) . (3) ذكره ابن عطية (4/ 7) . (4) أخرجه الطبريّ (8/ 314) رقم (23539) ، وذكره ابن عطية (4/ 7) ، والبغوي (3/ 190) ، وابن كثير (3/ 113) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 7) . (6) ذكره ابن عطية (4/ 7) . [.....] (7) سقط في ج.

وقوله: صَبِيًّا يريد: شاباً لم يبلُغْ حدّ الكهولة، ففي لفظ صبي على هذا، تجوّزٌ، واستصحابُ حال. وروى مَعْمَرُ أَنَّ الصِّبْيَانَ دعوا يحيى إلى اللَّعب، وهو طِفْل، فقال: إني لم أُخلقْ للعب، فتلك الحِكْمة الَّتي آتاه الله عز وجل وهو صَبِيٌّ «1» ، وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحِكْمة صَبِيّاً «2» . «والحنان» : الرحمةُ، والشفقةُ، والمحبّة قاله جمهورُ المفسرين، وهو تَفْسِير اللغة ومن الشواهد في «الحَنَان» قولُ النابغة: [الطويل] أَبَا مُنْذِرٍ، أَفْنَيْتَ فاستبق بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بْعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ «3» وقال عطاء بن أبي رباح: حَناناً مِنْ لَدُنَّا بمعنى تعظيماً مِنْ لدنا «4» . قال ع «5» : وهو أَيضاً ما عظم من الأمر لأجل الله عز وجل ومنه قول زيد بن عمرو بن نُفَيْل في خبر بِلاَلٍ: واللهِ، لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذَا العَبْدَ لاَتَّخَذْنَ قَبْرَهُ حَنَاناً «6» . قال أَبو عبيدة: وأَكْثَر ما يُسْتَعمل مثنى. انتهى، والزكاةُ التنميةُ، والتَّطْهير في وُجُوه الخير. قال مجاهدٌ: كان طعامُ يَحْيَى العُشب، وكان للدمع في خَدّه مجار ثابتة، وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً «7» ، روي أن يحيى عليه السلام لم يواقع معصية قَطُّ صغيرة ولا كبيرة، والبَر كثير البرّ، والجبار: المُتكبّر، كأَنه يجبر الناس على أخلاقه.

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 315) برقم: (23548) ، وذكره ابن عطية (4/ 7) ، وابن كثير (3/ 113) ، والسيوطي (4/ 470) ، وعزاه لأحمد في «الزهد» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي، وابن عساكر عن معمر بن راشد. (2) ذكره ابن عطية (4/ 7) ، والبغوي (3/ 190) والسيوطي (4/ 470) ، وعزاه لابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس مرفوعا، وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا. (3) البيت لطرفة بن العبد في «ديوانه» ص (66) ، و «الدرر» (3/ 67) ، و «الكتاب» (1/ 348) ، و «ولسان العرب» (13/ 130) (حنن) ، و «همع الهوامع» (1/ 190) ، وبلا نسبة في «جمهرة اللغة» ص (1273) ، و «شرح المفصّل» (1/ 118) ، و «والمقتضب» (3/ 224) . (4) أخرجه الطبريّ (8/ 316) رقم (23559) ، وذكره ابن عطية (3/ 113) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 7) . (6) ذكره ابن عطية (4/ 7) . (7) ذكره ابن عطية (4/ 8) .

[سورة مريم (19) : الآيات 17 إلى 19]

وقوله: وَسَلامٌ عَلَيْهِ قال الطَّبرِيُّ «1» ، وغيرُه: معناه وأَمانٌ عليه. قال ع «2» : والأَظهرُ عندي: أَنها التّحيةُ المتعارفة، فهي أَشرف وأَنبه من الأَمان لأَن الأَمان متحصَّلٌ له بنفي العِصْيان عنه، وهو أَقلّ درجاته، وإنما الشرف في أن سلم اللهُ عليه، وحيَّاه في المواطن الَّتي الإنسان فيها في غاية الضعْفِ، والحاجةِ، وقلَّةِ الحيلة. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ، الكتاب: هو القُرْآنُ، والاِنْتباذ: التنحِّي. قال السُّدِّيُّ: انتبذت لتطهر من حيض «3» ، وقال غيره: لتعبد الله عز وجل. قال ع «4» : وهذا أحْسن. وقوله: شَرْقِيًّا يريد: في جهة الشرق من مساكن أهلها، وكانوا يعظمون جهة المَشْرق قاله الطبري. وقال بعضُ المفسرين: اتخذت المكان بشرقي المحراب. [سورة مريم (19) : الآيات 17 الى 19] فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) وقوله سبحانه: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً ، أيْ: لتستتر به عن الناس لعبادتها. «والروح» : جبريلُ عليه السلام. وقوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ، المعنى: قالت مريمُ للملك الذي تمثل لها بشراً، لما رأَتْهُ قد خرق الحِجَاب/ الَّذي اتخذته فأساءت به الظن: 2 ب أعوذ بالرحمن منك إن كنت ذا تُقًى، فقال لها جبريلُ عليه السلام: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا.

_ (1) ينظر «الطبريّ» (8/ 318) . (2) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 8) . (3) أخرجه الطبريّ (8/ 319) برقم (23572) ، وذكره ابن عطية (4/ 9) ، وابن كثير (3/ 114) بمعناه. (4) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 9) .

[سورة مريم (19) : الآيات 20 إلى 23]

وقرأ أَبو عمرو «1» ونافعٌ بخلاف عنه «لِيَهَبَ» «2» . [سورة مريم (19) : الآيات 20 الى 23] قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، والبغي: الزانية، وروي: أن جبريلَ- عليه السلام- حين قاولها هذه المقاولة، نفخ في جيب دِرْعها فسرت النفخة بإذن الله تعالى حتَّى حملت منها قاله وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وغيرُهُ «3» . وقال أُبيُّ بنُ كَعْبٍ «4» : دخل الروح المنفوخُ من فمها فذلك قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ أي: فحملت الغلام، ويذكر أَنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلمَّا أحسَّت بذلك، وخافت تعنيفَ الناس، وأَن يُظنَّ بها الشَّرُ انْتَبَذَتْ أيْ: تنحت مكاناً بعيداً حياء وفرارا على وجهها، وفَأَجاءَهَا معناه: اضطرّها، وهو تعدية [جاء] بالهمزة. والْمَخاضُ: الطّلْقُ، وشدةُ الولادة، وأَوْجَاعُها، وروي: أَنّها بلغت إلى موضعٍ كان فيه جِذْع نخلة بالٍ يابس، في أَصْله مِذْود بقرة، على جرية ماء، فاشتدَّ بها الأَمْرُ هنالك، واحتضنت الجِذْع لشدة الوجع، وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من صعُوبة الحال من غير ما وجه: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا فتمنت الموتَ من جهة الدّين أَن يُظَنّ بها الشر، وخوفَ أَن تُفْتَتَن بتعْيِير قومها، وهذا مُباحٌ وعلى هذا الحدّ تمناه عمر- رضي الله عنه-.

_ (1) وأما قراءتهما، فإنهما أسندا الفعل إلى ضمير «ربك» ، فكأنه قال: «ليهب الله «أو ربك» لك» ، ولم يكن جبريل الذي يهب بل الله سبحانه. وأما قراءة الباقين، فقد أسندوا الفعل للمتكلم، والهبة لله سبحانه، ومنه أمر الرسول والوكيل قد يسندان هذا النحو إلى أنفسهم وان كان الفعل للمرسل والموكل. ينظر: «السبعة» (408) ، و «الحجة» (5/ 195) ، و «اعراب القراءات» (2/ 14) ، و «معاني القراءات» (2/ 132) ، و «حجة القراءات» (440) و «شرح الطيبة» (5/ 30) ، و «العنوان» (126) ، و «شرح شعلة» (485) ، و «إتحاف» (2/ 234) . (2) في ج: لأهب. [.....] (3) أخرجه الطبريّ (8/ 322) برقم (23591) ، وذكره ابن عطية (4/ 10) . (4) ذكره ابن عطية (4/ 10) ، والبغوي (3/ 192) .

[سورة مريم (19) : الآيات 24 إلى 28]

وَكُنْتُ نَسْياً أيْ: شَيْئاً مَتْرُوكاً محتقراً، والنَّسِيُّ في كلام العرب الشيءُ الحقير الذي شأنه أَن يُنْسَى، فلا يُتَأَلَّمُ لفقده كالوتد، والحبل للمسافر، ونحوه. وهذه القصةُ تقتضي أَنها حملت واستمرَّت حامِلاً على عُرْف البشر، واستحْيَتْ من ذلك ومرّت بسببه، وهي حاملٌ، وهو قولُ جمهور المتأوِّلين. وروى عن ابن عباسٍ أَنه قال: ليس إلا أَن حملت، فوضعت في ساعةٍ واحدة والله أعلم «1» . وظاهر قوله: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أنها كانت على عرف النساء. [سورة مريم (19) : الآيات 24 الى 28] فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) وقولُهُ سبحانه: فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ ابنُ كَثِير، وأبو عَمْرو، وابن عامرٍ، وعَاصِمٌ «2» : «فناداها مَنْ تحتها» على أَن «مَنْ» فاعل بنادى، والمراد بِ «مَنْ» عيسى قاله مجاهدٌ، والحسنُ، وابن جبير، وأبي بن كعب «3» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 325) برقم (23605) ، وذكره ابن عطية (4/ 11) ، والبغوي (3/ 192) ، وابن كثير (3/ 116) . (2) إنما قرأها عاصم هكذا من رواية أبي بكر، وإلا فهي من رواية حفص المشهورة مثل الباقين «من تحتها» . وحجة هؤلاء أنه روي عن أبيّ قال: الذي خاطبها هو الذي حملته في جوفها. وحجة الباقين ما روي عن ابن عباس أنه قال: «من تحتها» : جِبْرِيلُ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها. ينظر: «السبعة» (408- 409) ، و «الحجة» (5/ 197) ، و «إعراب القراءات» (2/ 16) ، و «معاني القراءات» (2/ 133) ، و «شرح الطيبة» (5/ 32) ، و «العنوان» (126) ، و «شرح شعلة» (485) ، و «حجة القراءات» (441) ، و «إتحاف» (2/ 235) . (3) أخرجه الطبريّ (8/ 327) عن مجاهد برقم (23626) ، والحسن برقم (23631) ، وابن جبير برقم (23633) ، وأبي بن كعب (23635) ، وذكره ابن عطية (4/ 11) ، والبغوي (3/ 192) عن مجاهد والحسن، وابن كثير (3/ 117) عن مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، والسيوطي (4/ 482) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. والثاني: عزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن. والثالث: عزاه لابن المنذر عن أبي بن كعب.

وقال ابن عباس: المراد ب «مَنْ» جِبْرِيلُ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها «1» . والقول الأولُ أَظهر وأبْيَنُ، وبه يتبيّن عُذْر مريم، ولا تبقى بها استرابة. وقرأ نافعٌ، وحمزةُ، والكِسَائِيُّ، وحَفْصٌ عن عَاصِمٍ: «مِنْ تَحْتِهَا» بكسر الميم، واختلفوا أَيضاً فقالت فرقةٌ: المرادُ عيسى، وقالت فِرْقَةٌ: المراد جِبْرِيلُ المحاور لها قَبْلُ. قالوا: وكان في بُقْعة أَخفضَ من البُقْعة الَّتي كانت هي عليها والأَول أَظهَرُ. وقرأ ابنُ عباس «2» : «فَنَادَاهَا مَلَكٌ مِن تَحْتِهَا» . والسَّرِيُّ: من الرجال العظيمُ السيّد، والسري: أَيضاً الجدولُ مِنَ الماء وبحسَبِ هذا اختلف النّاسُ في هذه الآية. فقال قتادةُ، وابنُ زيدٍ: أَراد جعل تحتك عَظِيماً من الرجال، له شأنٌ «3» . وقال الجمهورُ: أَشار لها إلى الجَدْول، ثم أَمرها بهز الجِذْع اليابِس لترى آيَةً أُخْرى. وقالت فرقةٌ: بل كانت النخْلة مطعمة رطباً، وقال السُّدِّيُّ: كان الجِذْع مقطوعاً، وأجري تحتها النهر لحينه «4» . قال ع «5» : والظاهر من الآية: أَن عيسى هو المكلِّم لها، وأَن الجِذْع كان يَابِساً فهي آيات تسليها، وتسكن إليها. قال ص: قوله: وَهُزِّي إِلَيْكِ تقرر في عِلْم النحو أَن الفِعْل لا يتعدَّى إلى ضمير مُتّصلٍ، وقد رفع المتصل، وهما لمدلول واحد، وإذا «6» تقرر هذا ف «إِليك» لا يتعلق ب «هُزِّي» ، ولكن يمكن أَن يكون «إلَيْك» حالاً من جِذْع النخلة فيتعلَّق بمحذْوفٍ أَيْ: هزي بجذْع النخلة مُنْتهياً إليك. انتهى.

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 327) برقم (23625) ، وذكره ابن عطية (4/ 11) ، والبغوي (3/ 192) ، وابن كثير (3/ 117) ، والسيوطي (4/ 482) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 11) ، و «البحر المحيط» (6/ 173) . (3) أخرجه الطبريّ (8/ 330) عن قتادة برقم (23656) ، وابن زيد برقم (23657) ، وذكره ابن عطية (4/ 11) ، وابن كثير (3/ 117) . (4) أخرجه الطبريّ (4/ 330) برقم (23662) ، وابن عطية (4/ 11) . (5) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 11- 12) . (6) في ج: تقدر.

والباء في قوله: بِجِذْعِ: زائدة مؤكّدة، وجَنِيًّا: معناه: قد طابت/ وصلحت 3 أللاجتناء، وهو من جَنَيْتُ الثمرةَ. وقال عَمْرُو بْنُ مَيْمُون «1» : ليس شيءٌ للنُّفَسَاءِ خيراً من التَّمر، والرُّطَب. وقرةُ العَيْن مأْخُوذةَ من القُرِّ وذلك، أَنَّهُ يحكى: أَن دمعَ الفرح باردُ المسِّ، ودمعَ الحُزْن سخن المس «2» ، وقِيلَ: غير هذا. قال ص: وَقَرِّي عَيْناً أَيْ: طِيبي نفساً. أَبو البَقَاءِ: «عيناً» تمييز. اهـ. وقوله سبحانه: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً ... الآية، المعنى: أن الله عز وجل أمرها على لسان جِبْرِيلَ عليه السلام أو ابنها على الخلاف المتقدم: بأن تُمْسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية: أَنها أُبِيح لها أن تقولَ مضمن هذه الألفاظ الّتي في الآية وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى فَقُولِي بالإشارة، لا بالكلام. قال ص: وقولُه: فَقُولِي جوابُ الشرط، وبينهما جملةٌ محذوفةٌ يدل عليها المعنى أيْ فَإمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحداً، وسألك أو حاورك الكلام، فقولي. انتهى. وصَوْماً معناه عن الكلام إذ أَصلُ الصوم الإمساكُ. وقرأَتْ فرقةٌ: «إني نَذَرْتُ للرحمن صَمْتاً» ولا يجوز في شَرْعِنا نذرُ الصمتِ فروي: أَن مريم عليها السلام لمَّا اطمأنَّت بما رأت مِنَ الآياتِ، وعلمت أَن الله تعالى سيبيِّنُ عذرَها، أَتَتْ به تحمله مدلة من المكان القَصِيّ الذي كانت مُنْتبذةً به، والفَرِيُّ: العظيمُ الشَّنِيعُ قاله مجاهد «3» ، والسُّدِّيُّ، وأكثرُ استعماله في السوء.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 12) . (2) في ج: الملمس. (3) أخرجه الطبريّ (8/ 335) عن مجاهد برقم (23682) ، وعن السدي برقم (23685) ، وذكره ابن عطية (4/ 13) ، والبغوي (2/ 193) ، وابن كثير (3/ 118) ، والسيوطي (4/ 486) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....]

واختلف في معنى قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ، فقيل: كان لها أَخٌ اسمه هارون لأَن هذا الاِسْم كان كَثِيراً في بني إسْرَائِيل. ورَوَى المغيرةُ بن شُعْبة: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أَرسله إلى أَهْلِ نَجْرَانَ في أمْرٍ من الأُمُور، فقالتْ له النصارى: إن صَاحِبَك يزعم أَنَّ مريمَ هي أُخْت هارون، وبينهما في المدّةِ ستُّ مائةِ سنة. قال المغيرةُ: فلم أَدر ما أقول، فلما قَدِمْتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلّم ذكرتُ ذلك له، فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياءِ والصّالحين «1» . قال ع «2» : فالمعنى أَنه اسم وافق اسما. وقيل: نسبُوها إلى هَارُون أَخِي مُوسَى لأَنها مِنْ نَسْله ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم: «إن أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ، فَهُوَ يقيم» «3» .

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1685) كتاب الآداب: باب النهي عن التكني بأبي القاسم، حديث (9/ 2135) ، والترمذي (5/ 315) كتاب التفسير: باب ومن سورة مريم، حديث (3155) ، والنسائي في التفسير (2/ 29) رقم (335) ، وأحمد (4/ 252) ، وابن أبي شيبة (14/ 551) ، والطبريّ في «تفسيره» (16/ 77- 78) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (20/ 411) رقم (986) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 392) ، وابن حبان (6250) ، والبغوي في «تفسيره» (3/ 194) كلهم من طريق عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة به. وقال الترمذي: حديث صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن إدريس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 486) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 13) . (3) أخرجه أحمد (4/ 169) ، وأبو داود (1/ 352) : كتاب الصلاة: باب في الرجل يؤذن، ويقيم آخر، الحديث (514) ، والترمذي (1/ 384) : كتاب الصلاة: باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم، الحديث (199) ، وابن ماجه (1/ 237) : كتاب الأذان: باب السنة في الأذان، الحديث (717) ، والبيهقي (1/ 399) : كتاب الصلاة: باب الرجل يؤذن ويقيم غيره، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/ 503) ، وأبو نعيم (1/ 266) في «التاريخ» ، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، عن زياد بن نعيم الحضرمي، عن زياد بن الحارث الصدائي به، وقال الترمذي: (إنما يعرف من حديث الأفريقي.. وقد ضعفه القطان وغيره.. قال: ورأيت محمد بن إسماعيل- يعني البخاري- يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث) . وللحديث شاهد من حديث ابن عمر: قال: أبطأ بلال يوما بالأذان، فأذن رجل، فجاء بلال فأراد أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقيم من أذن» . -

[سورة مريم (19) : الآيات 29 إلى 33]

وقال قتادةُ: نسبوها إلى هَارُونَ اسم رَجُلٍ صَالِحٍ في ذلك الزمان «1» . وقالتْ فرقةٌ: بل كان في ذلك الزمان رجلٌ فاجِرٌ اسمه هَارُون نسبُوها إليه على جهة التَّعْيِير. ت: واللهُ أعلمُ بصحّة هذا، وما رواه المُغِيرة إنْ ثبت هو المعوَّلُ عليه، وقولهم: مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ المعنى: ما كان أَبُوك، ولا أمّك أهلاً لهذه الفِعْلة، فكيف جِئْت أنت بها؟ والبَغِيّ: الّتي تبغِي الزَّنَا، أي: تطلبه. [سورة مريم (19) : الآيات 29 الى 33] فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) وقولُه تعالى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ يقوى قولَ مَنْ قال: إنّ أمرها ب فَقُولِي، إنما أريد به الإشارة. وقوله: آتانِيَ الْكِتابَ يعني الإنْجِيل، ويحتمل أن يريد التوراةَ والإنجيل، و «آتاني» معناه: قضى بذلك- سُبْحَانه- وأَنْفذه في سَابِق حُكْمه، وهذا نحو قولِه تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] . وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قيل: هما المشرُوعتانِ في البدن، والمال. وقيل: الصلاةُ: الدعاءُ، والزكاة: التطهُّرُ من كُلِّ عيْبٍ، ونقصٍ، ومعصيةٍ. والجبارُ المتعَظِّمُ وهي خلق مقرونة بالشقاء لأَنَّها مناقضة لجميع الناس، فلا يلقى صاحبها من كل أحد إلا مكروهاً، وكان عيسى عليه السلام في غاية التَّوَاضُعِ يأكلُ الشجر، ويلبَسُ الشَّعْر، ويجلس على الأَرض، ويَأْوِي حيث جنّه الليل. لا مسكن له.

_ أخرجه عبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص- 258) ، رقم (811) ، والبيهقي (1/ 399) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 105) من طريق سعيد بن راشد السماك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر به، وقال البيهقي: تفرد به سعيد بن راشد، وهو ضعيف. وأخرج العقيلي (2/ 105) بسنده عن يحيى بن معين، قال: سعيد بن راشد السماك يروي «من أذن فهو يقيم» ، ليس حديثه بشيء. (1) أخرجه الطبريّ (8/ 335) برقم (23687) ، وذكره ابن عطية (4/ 14) ، والبغوي (3/ 193) ، وابن كثير (3/ 119) .

[سورة مريم (19) : الآيات 34 إلى 36]

قال قتادة: وكان يقولُ: سَلُوني فإني ليّن القلب، صَغِيرٌ في نفسي «1» . وقالت فرقةٌ: إنَّ عيسى عليه السلام كان أُوتي الكتابَ وهو في سنّ الطفوليّة، وكان يصوم، ويصلّي. 3 ب قال ع «2» : / وهذا في غاية الضَّعْف. ت: وضعفُه مِنْ جهة سنده وإلا فالعقلُ لا يحِيلُه لا سِيَّما وأمره كله خرق عادة، وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد، وغيره: أَنهم لما سَمِعُوا كلام عيسى أَذْعنوا وقالوا: إن هذا الأمر عظيم. [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 36] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) وقوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ المعنى: قل يا محمدُ، لمعاصريكَ من اليَهُود والنَّصَارَى ذلك الذي هذه قصّته عيسى بن مريم. وقرأَ نافعٌ، وعَامّةُ الناس «3» : «قَوْلُ الحَقِّ» برفع القول على معنى هذا هو قول الحق. وقرأ عاصمٌ، وابنُ عَامِرٍ: «قولَ الحقِّ» بنصب اللام «4» على المصدر. وقوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ... الآية، هذا من تمام القول الّذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلّم: أَن يقولَه، ويحتمل أنْ يكون من قول عيسى عليه السلام ويكون قوله: «أَنَّ» بفتح الهمزة، عطفاً على قوله: «الكتاب» . وقد قال وَهْبُ بنُ مُنَبِّه: عهد عيسى إليهم: أَن الله ربي وربّكم «5» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 339) برقم (23713) ، وذكره ابن عطية (4/ 15) . (2) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 15) . (3) ينظر: «السبعة» (409) ، و «الحجة» (5/ 201) ، و «إعراب القراءات» (2/ 18) ، و «معاني القراءات» (2/ 135) ، و «شرح الطيبة» (5/ 33، 34) ، و «العنوان» (127) ، و «شرح شعلة» (486) ، و «حجة القراءات» (443) ، و «إتحاف» (2/ 236) . (4) في ج: القول. (5) أخرجه الطبريّ (8/ 342) رقم (23721) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 15) .

[سورة مريم (19) : الآيات 37 إلى 39]

ت: وما ذكره وَهْبُ [مصرح به في القرآن، ففي آخر المائدة: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... الآية. [المائدة: 117] . وامتراؤهم] «1» في عيسى هو اختلافهم فيقول بعضُهم: لَزَنْيَةٌ، وهم اليهُود، ويقول بعضُهم: هو اللهُ تعالى اللهُ عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، فهذا هو امتراؤُهم، وسيأتِي شرح ذلك بإثر هذا. [سورة مريم (19) : الآيات 37 الى 39] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) وقوله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم بأَن بني إسْرَائِيلَ اختلفوا أَحزاباً، أيْ: فرقاً. وقوله: مِنْ بَيْنِهِمْ بمعنى: من تلقَائِهم، ومن أَنْفسِهم ثار شرُّهم، وإنّ الاِخْتلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين. وروي في هذا عن قتادةَ: أَنَّ بني إسْرَائِيلَ جمعوا من أَنفسهم أَربعة أحبار غاية في المَكَانةِ والجَلاَلة عندهم وطلبوهم أن يبيِّنُوا لهم أَمْرَ عيسى فقال أَحَدُهم: عيسى هو اللهُ تعالى الله عن قولهم. وقال له الثلاثة: كذبتَ، واتبعه اليعقوبيةُ، ثم قِيلَ للثلاثة فقال أحدهم: عيسى ابنُ الله، [تعالى الله عن قولهم] «2» فقال له الاِثنان: كذبت، واتبعه النُّسْطُورِيَّةُ، ثم قيل للاِثنين فقال أَحدهما: عيسى أحد ثلاثةٍ: الله إله، ومريم إله، وعيسى إله [تعالى الله عن قولهم عُلوّاً كبيراً] «3» فقال له الرابع: كذبت، واتَّبَعَتْهُ الإِسْرَائِيلية، فقِيلَ للرابع فقال: عيسى عبدُ الله، وكلمتُه أَلقاها إلى مريم، فاتّبعَ كلَّ واحد فريقٌ من بني إسْرَائِيل، ثم اقْتَتلُوا فغُلِبَ المؤمنون، وقُتِلوا، وظَهَرَت اليَعْقُوبيّة على الجميع «4» . و «الويل» : الحزنُ، والثُّبور، وقِيلَ: «الويل» : واد في جهنّم، ومَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ: هو يوم القيامة.

_ (1) سقط في ج. (2) سقط في ب، ج. (3) في ب، ج. سقط. (4) أخرجه الطبريّ (8/ 343) برقم (23724) ، وذكره ابن عطية (4/ 16) ، وابن كثير (3/ 121) ، والسيوطي (4/ 488، 489) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. [.....]

وقولُه سبحانه: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: ما أَسْمَعَهم، وأبصرهم يوم يرجعُون إلَيْنا، ويرَوْن ما نصنع بهم، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أَيْ: في الدنيا في ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ بيِّنٍ، وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ وهو يوم ذَبْحِ الموت قاله الجمهورُ. وفي هذا حَدِيثٌ صحيحٌ خرجه البُخَاريُّ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أَنَّ المَوْتَ يُجَاءُ بِهِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ويُنَادِى: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ لاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ لاَ مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ... «1» [الآية] «2» . قال ع «3» : [وعند ذلك تُصِيب أَهلَ النار حسرةٌ لا حَسْرة مثلها. وقال ابنُ زيد، وغيره: يَوْمَ الحَسْرَةِ] «4» : هو يَوْمَ القِيَامَةِ «5» . قال ع «6» : ويحتمل أَن يكونَ يوم الحسرة اسمُ جِنْسٍ شاملٌ لحسَرَاتٍ كَثِيرَةٍ بحسب مواطن الآخرة: منها يومَ مَوْتِ الإنسان، وأَخْذِ الكتاب بالشِّمال، وغير ذلك، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ يريد: في الدنيا.

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 282) كتاب التفسير: باب وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ حديث (4730) ، ومسلم (4/ 2188- 2189) كتاب الجنة والنار: باب النار يدخلها الجبارون، حديث (40، 41/ 2849) ، والترمذي (5/ 315- 316) كتاب التفسير: باب ومن سورة مريم، حديث (3156) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 393) كتاب التفسير: باب قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، حديث (11316) ، وأحمد (3/ 9) ، وأبو يعلي (2/ 364) رقم (1120) ، والطبريّ في «تفسيره» (8/ 345) رقم (23733) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 489) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه. وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 393- 394) كتاب التفسير: باب قوله تعالى وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ حديث (11317) ، والطبريّ في «تفسيره» (8/ 345) رقم (23734) كلاهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 489) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) سقط في ب. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 17) . (4) سقط في ب. (5) أخرجه الطبريّ (8/ 345) برقم (23737) ، وذكره ابن عطية (4/ 17) ، وابن كثير (3/ 122) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 17) .

[سورة مريم (19) : الآيات 40 إلى 46]

[سورة مريم (19) : الآيات 40 الى 46] إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ ... الآية، عبارةٌ عن بقائهِ- جل وعلا- بعد فناء مَخْلُوقاتِه، لا إله غَيْرَه. وقوله: - عزَّ وجل-: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً/ نَبِيًّا ... 4 أالآية، قوله: وَاذْكُرْ بمعنى اتل وشهر لأَن الله تعالى هو الذاكر والْكِتابِ: هو القرآن، والصديق: بناءُ مبالغَةٍ فكان إبراهيمُ عليه السلام [يُوصَفُ] «1» بالصِّدْقِ في أَفْعَالِهِ وأَقْوالِهِ. وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ ... الآية، قال الطّبرِيُّ «2» : «أخاف» بمعنى أعلمُ. قال ع «3» : والظَّاهِرُ عندي أَنه خوفٌ على بابه وذلك أَن إبراهيم عليه السلام في وقْتِ هذه المقالة لم يَكُن آيِساً من إيمان أَبِيه. ت: ونحو هذا عبارة المهدوي «4» ، قال: قيل: «أَخافُ» معناه: أَعْلَمُ، أيْ: إِنِّي أَعْلَمُ إن متَّ عَلَى ما أَنْتَ عليه. ويجوزُ أَن يكون «أَخَافُ» على بابهِ، ويكونَ المعنى، إِنِّي أَخاف أَن تمُوتَ على كُفْرك فيمسَّكَ العذابُ. انتهى. وقوله: لَأَرْجُمَنَّكَ قال الضَّحَّاكُ «5» ، وغيرُه: معناه بالقوْلِ، أَي: لأَشْتمنَّك. وقال الحسَنُ: معناه: لأرجمنّك بالحجارة «6» .

_ (1) سقط في ب. (2) ينظر: «الطبريّ» (8/ 347) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 18) . (4) ذكره البغوي (3/ 197) ، ولم يعزه لأحد. (5) أخرجه الطبريّ (8/ 347) برقم (23741) ، وذكره ابن عطية (4/ 18) ، والبغوي (3/ 197) ، وابن كثير (3/ 123) . (6) ذكره ابن عطية (4/ 18) ، والبغوي (3/ 197) .

[سورة مريم (19) : الآيات 47 إلى 50]

وقالتْ فرقةٌ: معناه لأَقْتُلَنَّكَ، وهذان القولان بمعنًى واحدٍ. وقوله: وَاهْجُرْنِي على هذا التَّأْوِيل إنما يترتب بأَنه أَمْرٌ على حياله كأَنه قال: إن لم تَنْتَهِ قتْلتُك بالرَّجم، ثم قال له: واهجرني، أي: مع انتهائك، ومَلِيًّا معناه: دهراً طوِيلاً مأَخوذٌ من المَلَويْنِ وهما اللّيل والنّهار هذا قول الجمهور. [سورة مريم (19) : الآيات 47 الى 50] قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وقولهُ: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ اختُلِف في معنى تَسْلِيمه على أَبِيهِ، فقال بعضُهم: هي تحيةُ مفارقٍ، وجوَّزوا تحيةَ الكَافِر وأَن يُبْدَأ بها. وقال الجمهورُ: ذلك السلامُ بمعنى المُسَالمةِ، لا بمعنى التَّحِيَّة. وقال الطبريّ «1» : معناه أَمَنَة مِنّي لك وهذا قول الجمهُورِ وهم لا يَروْن ابتداءَ الكافِرِ بالسَّلاَم. وقال النَّقَّاشُ: حليمٌ خاطب سَفِيهاً كما قال تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «2» [الفرقان: 63] . وقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي معناه: سأَدْعُو الله تعالى في أَن يَهْدِيَكَ، فيغفِرَ لك بإيمانك، ولمّا تبيَّن له أَنه عدوٌّ للَّه تبرّأَ منه. والحِفيُّ: المهتبلُ المتلطِّف، وهذا شُكْر من إبراهيمَ لنعم الله تعالى عليه، ثم أَخبر إبراهيمُ عليه السلام بأنه يعتزلهم، أي: يصير عنهم بمعْزِل، ويروى: أَنهم كانوا بأَرض كُوثَى، فرحل عليه السلام حتى نزل الشامَ، وفي سفرته تلك لقِي الجبَّار الَّذي أَخْدم هاجرَ ... » الحديثَ الصحيح بطوله «3» ، وتَدْعُونَ معناه: تعبدون. وقوله: عَسى: تَرَجٍّ في ضمنه خَوْفٌ شديد. وقوله سبحانه: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ... إلى آخر الآية: إخبار من الله تعالى لنبِيّه صلى الله عليه وسلّم أَنَّه لما رَحَل إبراهيم عن بلد أَبِيه وقومه، عوّضَهُ اللهُ تعالى من ذلك ابنَهُ إسحاق، وابن ابنه

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (8/ 349) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 19) . [.....] (3) تقدم هذا الحديث في «تفسير سورة إبراهيم» .

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 53]

يعقوبَ- على جميعهم السلام- وجعلَ الولدَ له تَسْلِيةً، وشَدًّا لِعَضُدِهِ. وإسحاقُ أَصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجرِ بإسْمَاعِيل، غارَتْ سَارَةُ فحملت بإسحاقِ، هكذا فيما روي. وقوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا يريد: العِلْم، والمنزِلَة، والشَّرَف في الدنيا، والنَّعيم في الآخرة كُلُّ ذلك من رحمة الله عز وجل، ولِسَانُ الصَّدْق: هو الثَّناءُ البَاقِي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس «1» وإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلّم وذريته مُعظَّمة في جميع الأُمم والمِلَل. قال ص: وَكُلًّا جَعَلْنا [نَبِيًّا] «2» أَبو البقاء: هو منصوبٌ ب جَعَلْنا. انتهى. [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وقوله (عزَّ وجل) : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى، أي: على جهة التَّشْرِيف له، وَنادَيْناهُ هو تَكْلِيمُ الله له، والأَيْمن: صفةُ لجَانِب، وكان على يَمِينِ موسى، وإلا فالجبل نفسُه لاَ يَمْنةً له ولا يَسْرة، ويحتمل أَن يكون الأَمن مأْخُوذاً من الأَيمن، وَقَرَّبْناهُ أَيْ: تقريب تشريف، والنّجيّ: من المناجاة. [سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 58] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) وقوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ هو أيضاً من لسانِ الصِّدْقِ المضمون بقاؤه على إبراهيمَ عليه السلام وإسماعيلُ عليه السلام: هو أَبو العربِ اليومَ وذلك أَنَّ اليَمَنِية والمُضَرِية ترجع إلى ولد إسماعيل، وهو الذِّبِيحُ في قول الجمهُور. وهو الرَّاجِحُ من وجوهٍ: / منها قوله تعالى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ 4 ب [هود: 71] .

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 350) برقم (23758) ، وذكره ابن عطية (4/ 19) ، وابن كثير (3/ 124) ، والسيوطي (4/ 491) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) سقط في د، ح.

فَوَلَدٌ بُشِّر أَبواه بأن سَيَكُونُ منه ولدٌ كيف يُؤْمَرُ بذبحه؟!. ومنها أَن أَمْرَ الذبح كان بِمِنًى بلا خِلاَفٍ، وما روي قَطُّ أَن إسحاقَ دخل تلك البلاد، وإسماعيلُ بها نَشَأ، وكان أَبوه يزُورُه مِرَاراً كَثِيرةً يأْتي من الشام، ويرجِعُ من يَوْمِهِ على البُرَاق وهو مركب الأنبياء. ومنها قوله صلى الله عليه وسلّم: «أَنَا ابن الذَّبِيحَيْنِ» «1» وهو أَبُوهُ عبدُ اللهِ، والذَّبِيحُ الثَّانِي هو إسْماعِيلُ. ومنها [تَرْتِيبُ] «2» آيات سورة «والصَّافَّاتِ» يكاد ينصُّ على أَنَّ الذبيح غيرُ إسحاق، ووصفه اللهُ تعالى بصِدْق الوَعْد لأَنه كان مُبَالِغاً في ذلك وروي أَنَّه وعد رَجُلاً أَنْ يلقاه في مَوْضِعٍ، فبقي في انْتِظاره يَوْمَهُ ولَيلَتَهُ، فلما كان في اليوْمِ الآخر جاء الرجُلُ، فقال له إسماعيلُ: ما زِلْتُ هنا في انتظارك منذ أَمْسِ، وقد فعل مثله نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم قبل مَبْعَثِه، خرَّجه التّرمِذِيّ وغيرُه. قال سُفْيان بن عُيَيْنَةَ «3» : أَسْوَأُ الكَذِبِ إخْلاَفُ المِيعَادِ، ورَمْي الأبرياء بالتّهم. وأَهْلَهُ المرادُ بهم قومه، وأُمَّته قاله الحسنُ «4» . وفي مصحف ابن مسعود: «وكان يَأْمُرُ قَوْمَهُ» . وإدْريسُ عليه السلام من أَجْدَاد نوح عليه السلام. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قالت فرقةٌ من العلماء: رُفِع إلى السماءِ. قال ابنُ عَبَّاسٍ: كان ذلك بأَمْرِ الله تعالى «5» . وقوله: وَبُكِيًّا قالت فرقةٌ: جمع «6» بَاكٍ، وقالت فرقةٌ: هو مَصْدَرٌ بمعنى البكاء التقدير: وبكوا بكيّا.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) سقط في ج. (3) ذكره ابن عطية (4/ 21) . (4) ذكره ابن عطية (4/ 21) ، والبغوي (3/ 199) . (5) ذكره ابن عطية (4/ 21) . (6) في د، ج: هو جمع.

[سورة مريم (19) : الآيات 59 إلى 63]

واحتجَّ الطَّبِرِيُّ «1» ، ومَكّي لهذا القول بأَن عُمَر رضي الله عنه قرأ سُورةٍ مريم، فسجد ثُمَّ قال: هذا السُّجُودُ، فأَيْنَ البُكَى «2» ؟ يَعْنِي: البُكَاء. قال ع «3» : ويحتمل أَن يريد عُمر رضي الله عنه فأَين البَاكُون؟ وهذا الذي ذكروه عن عُمَر، ذكره أَبُو حَاتِمٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ... الآية، الخَلْفُ، -[بسكون] «4» اللام- مُسْتعمل إذا كان الآتي مَذْمُوماً هذا مشهورُ كَلامِ العَرَبِ، والمرادُ بالخلْف: مَنْ كفر وعَصَى بعدُ مِنْ بني إسرائيل، ثم يتناول معنى الآية مَنْ سِوَاهُم إلَى يوم القيامة، وإضاعة الصّلاة بترْكِهَا وبجحْدِها، وبإضاعة أَوْقَاتِهَا. وروى أَبُو دَاوُدَ الطيالسي في «مسنده» بسنده عن عُبَادَةَ بنِ الصّامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أَحْسَنَ الرَّجُلُ الصَّلاَةَ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا، وَسُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَتُرْفَعُ، وإذَا أَسَاءَ الصَّلاَةَ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا، وَلاَ سُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، وَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلقُ، فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ» . انتهى «5» من «التذكرة» ، والشَّهَوَاتُ: عُمُومُ، والغَيُّ: الخسران قاله ابن زيد «6» .

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (8/ 354) برقم: (23777) . (2) أخرجه الطبريّ (8/ 354) برقم: (23777) ، وذكره ابن عطية (4/ 22) ، وابن كثير (3/ 127) ، والسيوطي (4/ 498) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في «البكاء» ، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن عمر بن الخطاب. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 22) . (4) في ب سقط. (5) أخرجه أبو داود الطيالسي (1/ 66، 67- منحة) برقم: (254) من طريق خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت به. وذكره الهندي في «كنز العمال» (19054) ، وعزاه للطبراني، والبيهقي في «شعب الإيمان» . [.....] (6) أخرجه الطبري (8/ 357) برقم: (23798) ، وذكره ابن عطية (4/ 23) .

[سورة مريم (19) : الآيات 64 إلى 65]

وقد يكُونُ [الغي بمعنى الضَّلاَلِ، والتقديرُ: يُلْقون جَزَاءَ الغَيِّ. وقال عبدُ الله بن عمرو، وابنُ مسعودٍ: الغَيُّ: وَادٍ في] «1» جَهنَّم، وبه وَقَعَ التوعُّدُ في هذه «2» الآية. وقال ص: الغي عندهم كُلُّ شرّ كما أن الرشاد كلّ خير. [انتهى] «3» . وجَنَّاتِ عَدْنٍ: بدلٌ من الجنَّةِ في قوله يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وقولُه بِالْغَيْبِ، أيْ أخبرهم من ذلك بما غَابَ عنهم، وفي هذا مَدْحٌ لهم على سرعة إيمانهم وبدارهم إذْ لم يعاينوا، ومَأْتِيًّا مفعولٌ على بابه. وقال جماعةٌ من المفسرين: هو مفعولٌ في اللفظ بمعنى فاعل ف مَأْتِيًّا بمعنى آتٍ، وهذا بَعِيدٌ. ت: بل هو الظَّاهِرُ، وعليه اعتمد ص. واللَّغْوُ: السَّقْطُ من القول. وقوله بُكْرَةً وَعَشِيًّا يريدُ في التقدير. [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وقوله عز وجل: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... / الآية، قال ابنُ عباس، وغيرُه: سبب هذه الآية: أَن النبي صلى الله عليه وسلّم أَبْطَأَ عنه جِبْرِيلُ عليه السلام مدَّةَ فَلما جاءه قال: «يَا جِبْرِيلُ، قَدِ اشتقت إلَيْكَ، أَفلاَ تزورَنا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا» فنزلت هذه الآية «4» .

_ (1) سقط في ج. (2) أخرجه الطبريّ (8/ 356) برقم: (23793) ، (23796) بلفظ «نهر في النار يعذب فيه الذين اتبعوا الشهوات» ، وذكره ابن عطية (4/ 23) ، وابن كثير (3/ 128) ، وعزاه لعبد الله بن مسعود، والسيوطي (4/ 500) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبريّ، والحاكم وصححه، والبيهقي في «البعث» عن ابن مسعود. (3) في ب، ج سقط. (4) أخرجه الطبريّ (8/ 359) برقم (23806) ، وذكره البغوي (3/ 202) ، وابن عطية (4/ 24) ، وابن كثير (3/ 130) ، والسيوطي (4/ 502) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس بنحوه.

وقال الضَّحَّاكُ، ومجاهدٌ: سببها أَن جِبْريلَ تأخَّر عن النبي صلى الله عليه وسلّم عند قَوْلِه في السؤالات المتقدِّمَةِ في سُورةِ الكهف: «غدا أخبركم» «1» . وقال الداوديّ عن مجاهدٍ: أَبطأت الرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أَتى جِبْرِيلُ عليه السلام قال: ما حَبَسَكَ؟ قال: وكَيْفَ نَأْتِيكُم. وأَنْتُمْ لاَ تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ. وَلاَ تَأْخُذُونَ شَوَارِبَكُمْ وَلاَ تَسْتَاكُونَ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. انتهى «2» . وقد جاءت في فَضْل السواك آثَارٌ كثيرة، فمنها: ما رواه البزار في «مسنده» عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: إنَّ العَبْدَ إذَا تَسوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَامَ المَلَكُ خَلْفه، فَيَسْمَعُ لِقَرَاءَتِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُ حتى يَضَعَ فَاهُ على فِيهِ، فما يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ إلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ المَلَكِ» «3» . انتهى من «الكوكب الدري» . وفيه: عن ابنِ أَبِي شَيْبَة، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: «صَلاَةٌ عَلَى إثْرِ سِوَاكٍ أَفْضَلُ من سبعين صلاة بغير سواك «4» انتهى.

_ (1) ذكره البغوي (3/ 202) ، وابن عطية (4/ 24) . (2) ذكره ابن كثير (3/ 130) وعزاه لمجاهد، والسيوطي (4/ 502) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) أخرجه البزار (1/ 242- كشف) رقم (496) من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا. وقال البزار: لا نعلمه عن علي بأحسن من هذا الإسناد، وقد رواه بعضهم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي موقوفا. وقال المنذري في «الترغيب» (335) : رواه البزار، بإسناد جيد لا بأس به. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 102) : رواه البزار، ورجاله ثقات. ا. هـ. أما الموقوف الذي أشار إليه البزار، فأخرجه البيهقي (1/ 38) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن علي موقوفا. (4) أخرجه البزار (1/ 245- كشف) رقم (502) ، وابن حبان في «المجروحين» (3/ 5) ، وابن عدي في «الكامل» (6/ 2395) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (1/ 336) من طريق معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري عن عروة عن عائشة. وقال البزار: لا نعلم رواه إلا معاوية. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، ومعاوية بن يحيى ضعيف. قاله الدارقطني. وللحديث طريق آخر: أخرجه ابن خزيمة (1/ 71) رقم (137) ، والحاكم 1/ 146) ، وأحمد (6/ 146) ، والبزار (1/ 244) رقم (501) من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال ابن خزيمة: أنا استثنيت صحة هذا الخبر، لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق لم يسمع من محمد بن مسلم، وإنما دلّسه عنه. أما الحاكم فقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وضعفه النووي في «المجموع» (1/ 325) وقال: ذكره الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح على شرط-

وفي «البخاري» : أَنَّ السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاة لِلرَّبِّ «1» . اهـ. وقوله سبحانه: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا ... الآية، المقصودُ بهذه الآية الإشعارُ بملك الله تعالى لملائكته، وأن قَلِيلَ تصرُّفِهِم، وكَثِيرَه إنما هو بأَمْره وانتقالهم مِنْ مَكانٍ إلى مَكانٍ إنَّما [هو] «2» بحدٍّ منه. وقولُه: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أَيْ: ممن يلحقُه نِسيانٌ لبعثنا إليك، ف نَسِيًّا. فَعِيلٌ من النّسْيانِ، وهو الذُّهُولُ عن الأُمور. وقرأ ابنُ مسْعودٍ «3» : «وَمَا نَسِيَكَ رَبُّكَ» . وقوله سَمِيًّا قال قوم: معناه مُوَافِقاً في الاِسْم. قال ع «4» : وهذا يحسنُ فيهِ أَن يريد بالاِسْم ما تقدم مِنْ قوله رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ: [هل] «5» تعلم من يسمى بهذا، أَو يوصف بهذه الصفة وذلك أَن الأُمم والفِرَق لا يسمون بهذا الاِسْم وَثَناً، ولا شَيْئاً سوى الله تعالى.

_ - مسلم، وأنكروا ذلك على الحاكم، وهو معروف عندهم بالتساهل في التصحيح، وسبب ضعفه أن مداره على محمد بن إسحاق، وهو مدلس، ولم يذكر سماعه، والمدلس إذا لم يذكر سماعه لا يحتج به بلا خلاف كما هو مقرر لأهل هذا الفن. وقوله: «إنه على شرط مسلم» ليس كذلك، فإن محمد بن إسحاق لم يرو له مسلم شيئا محتجا به، وإنما روى له متابعة، وقد علم من عادة مسلم وغيره من أهل الحديث أنهم يذكرون في المتابعات من لا يحتج به للتقوية لا للاحتجاج، ويكون اعتمادهم على الإسناد الأول، وذلك مشهور عندهم. (1) أخرجه النسائي (1/ 10) كتاب الطهارة: باب الترغيب في السواك، حديث (5) ، وأحمد (6/ 124) ، وأبو يعلي (8/ 315) رقم (4916) ، وابن حبان (143- موارد) ، والحميدي (162) ، وابن المنذر في «الأوسط» (338) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 159) ، والبيهقي (1/ 34) ، وابن خزيمة رقم (135) من حديث عائشة. وعلقه البخاري (4/ 158) باب سواك الرطب واليابس للصائم، بصفة الجزم، فهو صحيح عنده. وصححه أيضا ابن خزيمة، وابن حبان. وقال البغوي في «شرح السنة» (1/ 294- بتحقيقنا) : هذا حديث حسن. وقال النووي في «المجموع» (1/ 324) : حديث صحيح. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. (2) سقط في ج. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 24) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 25) . [.....] (5) سقط في ب.

[سورة مريم (19) : الآيات 66 إلى 70]

قال القُشَيْرِيُّ في «التحبير» : قولهُ تعالى: وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ: الاصْطبارُ: نهايةُ الصَّبْرِ، ومَنْ صَبَر ظَفَرَ، ومَنْ لاَزَمَ وَصَلَ وفي مَعْناه أَنْشدُوا: [البَسيط] . [لاَ تَيْئَسَنَّ وَإنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ ... إذَا استعنت بِصَبْرٍ أَنْ ترى فَرَجَا] «1» أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يحظى بِحَاجَتِه ... وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلجَا وأَنشدوا: [البسيط] إنِّي رَأَيْتُ وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي شَيْءٍ يُحَاوِلُهُ «2» ... واستصحب الصَّبْرَ إلاَّ فَازَ بالظَّفَرِ انتهى. وقال ابنُ عباسٍ، وغيرُه: سَمِيًّا معناه: مَثِيلاً، أَو شَبِيهاً، ونحو ذلك «3» وهذا قوْلٌ حَسَنٌ، وكأن السمي بمعنى: المسامي، والمضاهي فهو من السموّ. [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 70] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وقوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، الإنسان: اسمُ جِنْس يرادُ به الكافرون «4» ، وروي أَنَّ سببَ نزُولِ هذه الآية هو: أَن رجالاً من قريشٍ كانُوا يقولون هذا ونحوه، وذكر: أَن القائِلَ هو أُبيُّ بْنُ خَلَفٍ. ورُوِي «5» أَن القائل هو العَاصِي بْنُ وَائِل، وفي قوله تعالى: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً دَلِيلٌ على أَنَّ المعدومَ لا يسمى شَيْئاً. وقال أَبو علي الفارسي: أراد شيئا موجودا.

_ (1) سقط من ج. (2) في ب، ج: يطالبه. (3) أخرجه الطبريّ (8/ 361، 362) برقم (23821، 23822) ، وذكره البغوي (3/ 65) ، وابن عطية (4/ 25) ، وابن كثير (3/ 131) ، والسيوطي (4/ 503) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (4) في ج: النافرين. (5) في ب، ج: وقيل.

[سورة مريم (19) : الآيات 71 إلى 74]

قال ع «1» : وهذه من أبي علي نزعةٌ اعتزالية [فتأملها] «2» ، والضمير في لَنَحْشُرَنَّهُمْ عائدٌ على الكفَّارِ القائلين ما تقدم، ثم أَخبر تعالى: أنه يقرن بهم الشياطين المغوين لهم، وجِثِيًّا جمعُ جَاثٍ، فأخبر سبحانه: أَنه يحضر هؤلاءِ المنكرين البعث مع 5 ب الشياطين [المغوِينَ] «3» ، فيجثُون/ حول جهنَّم وهو «4» قعودُ الخائف الذَّلِيل على رُكْبتيْهِ كالأَسِير، ونحوهِ. قال ابنُ زيدٍ «5» : الجَثْيُ: شَرُّ الجلُوسَ، و «الشيعة» : الفِرْقَةُ المرتبطة بمذهبٍ وَاحدٍ، المتعاونةِ فيه، فأخبر سبحانه أَنه ينزع مِنْ كُلِّ شيعةٍ أَعْتاها وأَولاَها بالعذاب، فتكون مقدمتها إلى النَّار. قال أَبو الأحوص: المعنى: نبدأ بالأكابر «6» جرما «7» ، وأيّ: هنا بُنِيَتْ لمَّا حُذِف الضميرُ العَائِدُ عليها مِنْ صَدْر صِلَتها، وكان التقدِيْرُ: أَيَّهم هو أشَدُّ، وصِلِيًّا: مصدر صلي يصلى إذا باشره. [سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 74] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) وقوله عزَّ وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قسم، والواو تقتضيه، ويفسّره قوله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ، لَمْ تَمَسَّهُ النّار إلّا تحلّة القسم» «8» . وقرأ ابن

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 30) . (2) سقط في ج. (3) سقط في ب، ج. (4) في ج: ويعني. (5) أخرجه الطبريّ (8/ 370) رقم (23872) ، وذكره ابن عطية (4/ 26) . (6) في ح: بالأكابر فالأكابر. (7) أخرجه الطبريّ (7/ 363) برقم (23827) ، وذكره ابن عطية (4/ 26) ، وابن كثير (3/ 131) ، والسيوطي (4/ 504) وعزاه لهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي الأحوص. (8) أخرجه البخاري (3/ 142) كتاب الجنائز: باب فضل من مات له ولد فاحتسبه، حديث (1251) ، ومسلم (4/ 2028) كتاب البر والصلة: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، حديث (150/ 2632) ، والترمذي (3/ 365) كتاب الجنائز: باب ما جاء في ثواب من قدم ولدا، حديث (1060) ، والنسائي (4/ 25) كتاب الجنائز: باب من يتوفى له ثلاثة، حديث (1875) ، وابن ماجه (1/ 512) كتاب الجنائز: باب ما جاء في ثواب من أصيب بولده، حديث (1603) ، وأحمد (2/ 239- 240) ، والحميدي (2/-[.....]

عباس «1» ، وجماعَةٌ: «وإنْ مِنْهُمْ» بالهَاءِ على إرَادة الكُفَّار. قال ع «2» : ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فِرْقَةٌ من الجمهور القارئين «منكم» ، المعنى: قُلْ لهم يا محمَّدُ، فالخِطَاب ب مِنْكُمْ للكفرةِ، وتأويل هؤلاءِ أَيضاً سَهْلُ التناوُلِ. وقال الأكثرُ: المخاطَبُ العَالَمُ كلّه، ولا بُدّ من ورود الجميع، ثم اختلفوا في كَيْفِيَّةِ ورود المُؤْمِنِينَ، فقال ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وخالدُ بن مَعْدَانَ، وابنُ جُرَيْجٍ «3» ، وغيرُهم: هو ورودُ دخولٍ، لكنَّها لا تعدو عليهم، ثم يخرجهم الله عز وجل منها بعدَ مَعْرِفتهم حَقِيقَةَ ما نَجَوْا منه. وروى «4» جابرُ بنُ عبدِ اللهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: «الوُرُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الدُّخُولُ» «5» ، وقد أَشْفَقَ كَثِيرٌ من العلماء من تحقُّقِ «6» الورودِ مع الجَهْلِ بالصَّدَرِ- جعلنا الله تعالى من الناجين بفضله ورحمته-، وقالت فِرْقَة: بَلْ هُو ورودُ إشْرَافٍ، واطِّلاعٍ، وقُرْبٍ، كما تقول: وردتُ الماءَ إذا جِئْتَه، وليس يلزم أن تدخل فيه، قالوا:

_ - 444) رقم (1020) ، ومالك (1/ 235) كتاب الجنائز: باب الحسبة في المصيبة، حديث (38) ، وأبو يعلى (10/ 285) رقم (5882) ، والبيهقي (4/ 67) كتاب الجنائز: باب ما يرجى في المصيبة بالأولاد إذا احتسبهم، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 295- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (1) وقرأ بها عكرمة. ينظر: «الكشاف» (3/ 34) ، «والمحرر الوجيز» (4/ 27) ، «والبحر المحيط» (6/ 197) ، «والدر المصون» (4/ 519) . (2) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 27) . (3) أخرجه الطبريّ (8/ 364) برقم (23833) عن ابن عباس، وبرقم (23834) عن ابن جريج، وبرقم (23836) عن خالد بن معدان، وذكره البغوي (3/ 204) عن ابن عباس، وخالد بن معدان، وعن ابن مسعود بلفظ: «القيامة والكناية راجعة إليها» ، وابن عطية (4/ 27) ، والسيوطي (4/ 505) ، وعزاه لعبد، الرزاق، وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال ابن عباس. (4) في ج: قال. (5) أخرجه أحمد (3/ 329) ، والحاكم (4/ 587) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 336) رقم (370) من حديث جابر مرفوعا. وذكره الهيثمي في «المجمع» (7/ 58) وقال: رواه أحمد، ورجاله ثقات. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 505) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» . (6) في ج: تحقيق.

وحسب المؤمن بهذا هؤلاء ومنه قولُه تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: الآية 23] . وروت فرقة أثراً: أنّ الله تعالى يجعلُ النَّار يوم القيامة جامدةَ الأعلى كأنها إهالةٌ فيأتي الخلقُ كلُّهم برُّهم وفاجرُهم، فيقفون عليها، ثم تسوخُ بأهلِها، ويخرجُ المؤمنون الفائزون، لم ينلهم ضرٌّ، قالوا: فهذا هو الورودُ. قال المهدوي «1» : وعن قتادةَ قال: يرد النَّاسُ جهنَّمَ وهي سَوْدَاءُ مظلِمةٌ، فأَما المؤْمنُونَ فأَضَاءَتْ لهم حَسَناتُهم، فَنَجَوْا منها، وأما الكفارُ فأوبقتهم سَيِّئَاتُهم، واحتبسوا بذنوبهم. [انتهى] » . وروت حَفْصَةُ- رضي الله عنها- أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالحُدَيْبِيَةِ» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، وأَيْنَ قَوْلُ اللهِ تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فقال صلى الله عليه وسلّم: «فَمَهْ «3» ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» «4» ورجح الزجاجُ «5» هذا القَوْلَ بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] . ت: وحديثُ حفصةَ هذا أَخرجهُ مُسْلِم، وفيه: «أَفلم تَسْمَعِيهِ يقولُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا «6» . وروى ابنُ المبارك في «رُقائقه» : أنه لما نزلت هذه الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى [فَجَاءَتِ امرأته، فبكت] ، «7» وجاءت الخادم فبكت، وجاء

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 365) . (2) سقط في ج. (3) في ج: مه. (4) أخرجه أحمد (6/ 285) ، وابن ماجه (2/ 1431) كتاب «الزهد» : باب ذكر البعث، حديث (4281) ، وهناد في «الزهد» (1/ 165) رقم (230) كلهم من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة به. قال البوصيري في «الزوائد» (3/ 315) : هذا إسناد صحيح إن كان أبو سفيان سمع من جابر بن عبد الله اهـ. وأخرجه أيضا من طريق الأعمش- أبو يعلى (12/ 473) رقم (7044) . والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 282) ، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، والطبراني، وابن مردويه. (5) ينظر: «معاني القرآن» (3/ 340، 341) . (6) أخرجه مسلم (4/ 1942) كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان، حديث (163/ 2496) ، وأحمد (6/ 420) كلاهما من طريق حجاج بن محمد: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول عند حفصة ... فذكر الحديث. (7) سقط في ج. [.....]

أهل البيت فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عَبْرَتُهُ، قَالَ: يَا أَهْلاَهُ، مَا يُبْكِيكُمْ، قَالُوا: لاَ نَدْرِي، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا، فَقَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم يُنْبِئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِي وَارِدُ النَّارَ، وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أبْكَانِي «1» . انتهى. وَقال ابنُ مَسْعُودٍ: ورودُهُمْ/: هو جَوَازُهُمْ على الصراط «2» ، وذلك أنّ الحديث 6 أالصحيح تضمن أَنَّ الصراط مَضْرُوبٌ على مَتْنِ جهنم. والحتم: الأمر المنفد المجزوم، والَّذِينَ اتَّقَوْا: معناه اتَّقَوْا الكُفْر وَنَذَرُ دالةٌ على أَنهم كَانُوا فيها. قال أَبُو عُمَر بنُ عَبْدِ البَرِّ في «التمهيد» بعد أَن ذكر روَاية جابِر، وابنِ مَسْعُودٍ في الوُرُودِ: وروي عن كَعْبٍ أَنه تَلاَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فقال: أَتَدْرُونَ مَا وُرُودُهَا؟ إنه يُجَاءُ بجهنَّم فتُمْسكُ للناس كأَنها متْن إهَالَة: يعني: الوَدَك الذي يجمد على القِدْر من المرقَةِ، حَتَّى إذا استقرت عليها أَقدَام الخَلائِق: بَرّهم وفاجرهم، نَادَى مُنَادٍ: أَنْ خُذِي أَصْحَابِك، وذَرِي أَصْحَابِي، فيُخْسَفُ بكلِّ وليٍّ لها، فَلَهِيَ أَعلَمُ بهم مِنَ الوَالِدَة بولَدِهَا، وينجو المُؤْمِنُونَ نَدِيَّة ثيابهم «3» . وروي هذا المعنى عن أَبي نَضْرَةَ، وزاد: وهو معنى قولِه تَعَالَى: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس: 66] . انتهى. وقوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً ... الآية، هذا افتخارٌ من كفار قريش وأَنه إِنما أَنعم الله عليهم لأَجْلِ أَنهم على الحقِّ بزعمهم. والنَّدِيّ، والنَّادِي: المجْلِسُ، ثم رد الله تعالى حُجَّتَهم وحقَّر أَمْرهم فقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً أيْ: فلم يُغْن ذلك عنهم شَيْئاً «4» ، والأَثَاث: المال العين، والعَرْض «5» والحيوان. وقرأَ نافِعٌ «6» وغيرُه: «ورءيا» بهمزةٍ بعدها ياء من رؤية العين.

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 282) ، وعزاه إلى أحمد، وابن المبارك، كلاهما في «الزهد» ، وابن عساكر. (2) ذكره ابن عطية (4/ 27) ، وابن كثير (3/ 132) . (3) أخرجه الطبريّ (8/ 365) رقم (23838) ، وذكره ابن كثير (3/ 133) . (4) سقط في ج، وفي ب شيئا. (5) في ج: العروض. (6) ينظر: «السبعة» (411، 412) ، و «الحجة» (5/ 209) ، و «إعراب القراءات» (2/ 23) ، و «معاني القراءات» (2/ 138) ، و «العنوان» (127) ، و «حجة القراءات» (446) ، و «شرح شعلة» (487) ، و «إتحاف» (2/ 239) .

[سورة مريم (19) : الآيات 75 إلى 76]

قال البخاري «1» : ورءياً: منظراً. وقرأ نافعٌ أيضاً، وأَهل المدينة: «وَرِيّاً» بياء مشددة، فقيل: هي بمعنى القِرَاءةِ الأُولى، وقيل: هي بمعنى الرِّيِّ في السُّقْيَا إذْ أَكْثر النعمة مِنَ الريِّ والمطر. وقرأ ابنُ جُبَيْر، وابنُ عباسٍ، ويزيدُ البريري: «وزيّا» بالزاي المعجمة بمعنى: الملبس. [وأما] «2» : [سورة مريم (19) : الآيات 75 الى 76] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) قوله سبحانه: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا، فيحتمل أَنْ يكون بمعنى الدُّعَاءِ والاِبْتِهَال كأَنه يقولُ: الأَضَلّ مِنّا ومنكم مد الله له، أَيْ: أملى له حَتَّى يؤول ذلك إلَى عذابِه، ويحتمل أَنْ يكون بمعنى الخبر أنه سبحانه هذه عَادَتُه: الإمْلاَءُ للضَّالِينْ: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ، أَيْ: في الدنيا بنصر الله لِلْمُؤْمِنينَ عليهم، وَإِمَّا السَّاعَةَ فيصيرون إلى النارِ، والجند النّاصرون: القائمون بأمر الحرب، وشَرٌّ مَكاناً بإزاء قولهم خَيْرٌ مَقاماً وأَضْعَفُ جُنْداً بإزاء قولهم: أَحْسَنُ نَدِيًّا ولما ذكر سبحانه ضَلاَلَةَ الكَفَرةِ وافتخارَهُم بنِعَم الدنيا عَقَّبَ «3» ذلك بذكر نِعْمة الله على المؤْمِنينَ في أَنه يزيدهم هُدَىً في الارْتِبَاط بالأَعمالِ الصَّالحة، والمعرفة بالدَّلائل الوَاضِحَة، وقد تقدَّم تَفْسِيرُ البَاقِيَاتِ الصالحات عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «وأنها: سُبْحَانَ اللهِ، والحمُدْ لِلَّهِ، وَلاَ إله إلا الله، والله أكبر» وقد قال صلى الله عليه وسلّم لأَبِي الدَّرْدَاءِ: «خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ، وَبَيْنَهُنَّ فَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وهنّ من كنوز الجنّة «4» » ، وعنه صلى الله عليه وسلّم أَنه قَالَ: «خُذُوا جُنَّتِكُم، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ؟ قَالَ: مِنَ النَّارِ، قَالُوا: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهنّ الباقيات الصّالحات» «5» .

_ (1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 280) كتاب التفسير: باب كهيعص. (2) سقط في ج. (3) في ب، ج: عقّب الله. (4) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (16/ 91) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (43664) ، وعزاه للطبراني عن أبي الدرداء. (5) أخرجه الحاكم (1/ 541) ، والطبراني في «الصغير» (1/ 145) ، والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 17-

[سورة مريم (19) : الآيات 77 إلى 79]

وكَان أَبو الدرداء يقولُ إذَا ذكر هذا الحدِيثَ: لأُهَلِّلنّ، ولأُكَبِّرنَّ اللهَ، ولأُسَبِّحَنَّهُ حَتَّى إذَا رَآنِي الجَاهِلُ ظنِّنِي مَجْنُوناً «1» . ت: ولو ذكرنا ما ورد مِنْ صَحِيح الأَحادِيث في هذا الباب، لخرجنا بالإطالة عن مقصود الكتاب. [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 79] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وقوله/ سبحانه: أَفَرَأَيْتَ «2» الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا هو العاصي بن وائل السهميّ قاله 6 ب جمهورُ المفسرين، وكان خبره أَنْ خَبَّابَ بْنَ الأَرَتّ كان قَيْناً في الجاهلية، فعمل له عملاً، واجتمع له عنده دَيْن فجاءه يَتَقاضَاهُ، فقال له العاصِي: لا أقضيك حتَّى تكفُرَ بمحمدٍ، فقال خَبَّابٌ: لا أكفرُ بمحمّدٍ حتى يُميتَكَ اللهُ، ثم يبعثك فقال العاصي: أَوَ مبعُوثٌ أنا بعد الموت؟! فقال: نعم، فقال: فإنه إذَا كان ذلك، فسيكُونُ لِي مَالٌ، ووَلَدٌ، وعند ذلك أَقضيكَ دَيْنَكَ فنزلت الآيةُ في ذلك. وقال «3» الحسنُ: نزلتْ في الْوَلِيدِ بنِ المُغِيرة. قال: ع «4» : وقد كانت لِلْوَلِيدِ أَيْضاً، أَقْوَالٌ تشبه هذا الغرض. ت: إلاَّ أَنَّ المسند الصحيح في «البخاري» هو الأَول.

_ - 18) ، وابن عدي في «الكامل» (6/ 2085) كلهم من طريق محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة به. وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرِّجاه» ، ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 92) وقال: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» ، ورجاله ثقات. وقد طعن أبو حاتم كما في «العلل» (2/ 100) رقم (1793) في هذا الحديث. وله طريق آخر عند الخطيب: فأخرجه في «تاريخه» (9/ 336) من طريق صلة من سليمان العطار عن أشعث عن ابن سيرين عن أبي هريرة به. ونقل الخطيب عن أبي حاتم قوله في صلة: متروك الحديث، أحاديثه عن أشعث منكرة. (1) أخرجه الطبريّ (8/ 374) رقم (23898) ، وذكره ابن عطية (4/ 30) ، وابن كثير (3/ 135) . (2) في ج: يعني أفرأيت. [.....] (3) ذكره ابن عطية (4/ 30) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 30) .

[سورة مريم (19) : الآيات 80 إلى 83]

وقولُه: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً معناه بالأَيْمان، والأَعْمال الصالحات «1» . وكَلَّا زَجْرٌ، وردٌّ، وهذا المعنى لاَزِمٌ ل «كَلاَّ» ، ثم أَخبر سبحانه: أَن قولَ هذا الكافر سَيُكْتب على معنى حفظه عليه، ومعاقبته «2» به، ومدّ العذاب: هو إطالته وتعظيمه. [سورة مريم (19) : الآيات 80 الى 83] وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) وقوله سبحانه: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ: هذه الأَشياء التي سمّى أنه يُؤْتَاها في الآخرة، يرث اللهُ ماله منها [في الدنيا بإهلاكه، وتَرْكِه لها، فالوراثة «3» مستعارةٌ] «4» . وقال النحاسُ «5» : نَرِثُهُ مَا يَقُولُ معناه: نحفظه عليه لنعاقبه به ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم: «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» أي: حفظة ما قالوا. قال ع «6» : فكأَنَّ هذا المجرمُ يورث هذه المقالة. وقوله: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا معناه: يجدونهم خِلاَف ما كانوا أمّلُوه في مَعْبُودَاتِهم فَيَؤولُ ذلك بهم إلى ذِلَّة، وضِدِّ ما أملوه من العزّ، وغيره، وهذه صفة عامة. وتَؤُزُّهُمْ معناهُ: تُقْلِقُهم وتحرِّكُهم إلى الكفر والضلالِ. قال قتادةُ «7» : تزعِجُهم إزْعاجاً، وقال ابنُ زيد «8» : تُشْلِيهم إشْلاَءً، ومنه، أَزِيزُ القِدر، وهو غَلَيَانُه وحَرَكَتُه ومنه الحديث: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وهُو يَبْكِي، ولِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المرجل» «9» .

_ (1) في ب، ج: الصالحة. (2) في ب: ومعاقبته إياه. (3) في ج: الوارثة. (4) سقط في ب. (5) ذكره ابن عطية (4/ 31) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 31) . (7) أخرجه الطبريّ (8/ 379) رقم (23926) ، وذكره البغوي (3/ 208) ، وابن عطية (4/ 32) ، وابن كثير (3/ 136) ، والسيوطي (4/ 507) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (8) أخرجه الطبريّ (8/ 379) رقم (23927) ، وذكره ابن عطية (4/ 32) . (9) أخرجه أبو داود (1/ 300) كتاب الصلاة: باب البكاء في الصلاة، حديث (904) ، والنسائي (3/ 13) -

[سورة مريم (19) : الآيات 84 إلى 87]

ت: هذا الحديثُ خرَّجه مسلمٌ، وأَبُو دَاوُدَ عن مُطَرِّف عن أَبِيه. وقال العِرَاقِيّ: تَؤُزُّهُمْ أي: تدفعهم: انتهى. [سورة مريم (19) : الآيات 84 الى 87] فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وقوله سبحانه: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أَيْ: لاَ تَسْتَبطِىءْ عَذَابهم. وقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً. قال ع «1» : وظاهر هذه الوفادة «2» أَنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوضُ إلَى الجنَّة، وكذلك سوقُ المجرمين إنما هو لدخول النّار. ووَفْداً قال المفسرون: معناه رُكْباناً، وهي «3» عادةُ الوفود لأَنهم سَرَاةُ الناسِ، وأَحسنهم شَكْلاً، وإنما شَبَّههم بالوفْدِ هيئة، وكرامة. وروي عن عَلِيِّ- رضي الله عنه- أَنهم يَجِيئُونَ رُكْباناً على النُّوقِ المحلاَّة بحِلْيةِ الجنَّة: خطمُها من يَاقُوتٍ، وزَبَرْجَدٍ «4» ، ونحو هذا. وروى عمرو بْنُ قيس المَلاَّئِي: أنهم يركبون على تماثيل مِنْ أَعمالهم الصَّالِحة، وهي

_ - كتاب السهو: باب البكاء في الصلاة، حديث (1214) ، والترمذي في «الشمائل» رقم (323) ، وأحمد (4/ 25، 26) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» رقم (900) ، وابن خزيمة (900) ، وأبو يعلى (3/ 174- 75) رقم (1599) ، وابن حبان (522- موارد) ، والحاكم (1/ 264) ، والبيهقي (2/ 251) كتاب الصلاة، كلهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه به. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. تنبيه: عزا المؤلف هذا الحديث لمسلم، وقد وهم في ذلك. وينظر: «تحفة الأشراف» (4/ 359) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 359) . (2) في ب: الرفادة. [.....] (3) في ج: وهو. (4) أخرجه الطبريّ (8/ 380) رقم (23929) ، وذكره البغوي (3/ 209) ، وابن عطية (4/ 32) ، وابن كثير (3/ 137) ، والسيوطي (4/ 508) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في «البعث» عن علي.

في غَاية الحُسْن «1» . وروي: أَنه يركب كُلُّ واحدٍ منهم ما أَحبَّ فمنهم: مَنْ يركبُ الإبلَ، ومنهم: مَنْ يركب الخَيْلَ، ومنهم مَنْ يركب السُّفُنَ، فتجيء عَائِمةٌ بهم، وقد ورد في «الضَّحَايَا» : أَنها مَطَايَاكُمْ إلَى الجَنَّةِ «2» وأَكْثَر هذه فيها ضَعْفٌ مِنْ جهة الإِسْناد، والسَّوْقُ: يتضمن هوانا، والورد: العطاش قاله «3» ابن عباس، وأَبُو هريرة، والحَسَنُ «4» . 7 أواختلف في الضَّمِير في قوله: [لاَّ] يَمْلِكُونَ «5» فقالت/ فِرْقةٌ: هو عائد على الْمُجْرِمِينَ أي: لا يملكون أَنْ يَشْفَعَ لهم وعلى هذا فالاِسْتِثْنَاءُ مُنقَطِع، أيْ: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفعُ له. والعهدُ عَلَى هذا الأَيْمان، وقال ابنُ عباسٍ: العهدُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ «6» ، وفي الحدِيث: يقول اللهُ تعالى يَوْمَ القِيَامة: «مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عَهْدٌ، فَلْيَقُمْ» . قال ع «7» : ويحتمل: أَنْ يكون المجرمون يعمُّ الكَفَرَةَ والعُصَاة، أيْ: إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عَهْداً من عُصَاةِ المؤْمِنِينَ فإنه يشفع لهم، ويكون الاستثناء متّصلا.

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 380) رقم (23932) نحوه، وذكره ابن عطية (4/ 32) ، وابن كثير (3/ 137) نحوه. (2) قال السخاوي في المقاصد ص (58) : أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه بهذا، ويحيى ضعيف جدا، ووقع في «النهاية» لإمام الحرمين، ثم في «الوسيط» ثم في «العزيز» : «عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم» ، وقال الأول: معناه: إنها تكون مراكب للمضحين، وقيل: إنها تسهل الجواز على الصراط، لكن قد قال ابن الصلاح: إن هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه. وقال ابن العربي في «شرح الترمذي» : ليس في فضل الأضحية حديث صحيح، ومنها: قوله: «إنها مطاياكم إلى الجنة» . (3) سقط في ج. (4) أخرجه الطبريّ (8/ 381) عن ابن عباس برقم (23936) ، وعن أبي هريرة برقم (23937) وعن الحسن برقم (23938) ، وذكره البغوي (3/ 209) ، وابن عطية (4/ 32) ، وابن كثير (3/ 138) ، والسيوطي (4/ 509، 510) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عباس، وعزاه أيضا لابن المنذر عن أبي هريرة، ولهناد عن الحسن. (5) في ب، ج: يملكون. (6) أخرجه الطبريّ (8/ 381) برقم (23943) ، وذكره البغوي (3/ 209) ولم يعزه لأحد، وابن عطية (4/ 32) ، وابن كثير (3/ 138) ، والسيوطي (4/ 510) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس. (7) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 32) .

[سورة مريم (19) : آية 88]

وقالت فِرْقَةٌ: الضميرُ في «1» لاَّ يَمْلِكُونَ للمتقين. وقوله: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ ... الآية أيْ: إلاَّ من كان له عملٌ صَالِحٌ مبرورٌ [فيشفَعُ] فيُشَفَّع «2» ، وتحتملُ الآية أَنْ يُرادَ ب «مَنْ» النبي صلى الله عليه وسلّم، وبالشَّفَاعَة الخاصَّة له العامة في أَهل الموقِفِ، ويكون الضميرُ في لاَّ يَمْلِكُونَ «3» لجميع أَهْل الموقف أَلا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الأَنبياء يتدافعون الشفاعة إذ ذاك، حتّى تصير إليه صلى الله عليه وسلّم. [سورة مريم (19) : آية 88] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) وقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. قال البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» له: رُوِيَ عن ابن مَسْعُودٍ، أَنه قال: إنَّ الجبل ليقولُ للجبل: يا فلانُ، هل مَرَّ بِكَ اليومَ ذَاكِرٌ لله تعالى؟ فإنْ قال: نعم، سُرَّ بِهِ «4» ، ثُمَّ قرأ عبدُ اللهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا إلى قولهِ: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً قال: أَتروْنَها تسمع الزُّورَ، ولا تسْمَعُ الخيْرَ «5» . انتهى. وهكذا رواه ابنُ المُبَارك في «رقائقه» وما ذكره ابنُ مسعودٍ لا يقالُ من جهة الرأْيِ، وقد رُوِيَ عن أَنسٍ، وغيرهِ نحوه. قال الباجي بِإثْرِ الكَلاَمِ المتقدم: وروى جعفرُ بْنُ زَيْدٍ، عن أَنَسِ بن مَالِكٍ أَنه قالَ: مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلاَ رَوَاحٍ إلاَّ وتُنَادِي بِقَاعُ الأَرض بعضها بعضاً: أَيْ جَارَةُ، هَلْ مَرَّ بِكِ اليَوْمَ عَبْدٌ يُصَلِّي أَو يَذْكُر الله؟ فَمِن قائلةٍ: لاَ، ومِنْ قَائِلَةٍ: نَعَمْ، فإذا قَالَتْ: نَعَمْ، رأت لها فضلا بذلك. انتهى. [سورة مريم (19) : الآيات 89 الى 96] لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)

_ (1) في ج، ب: في قوله. (2) في ب: ليشفع. (3) في ج: في يملكون. (4) ذكره السيوطي (4/ 511) وعزاه لابن المبارك، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» ، والطبراني، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن طريق عون عن ابن مسعود. (5) ذكره السيوطي (4/ 511) ، وعزاه لعون. [.....]

وقوله سبحانه: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا الآية، الإدُّ: الأَمرُ الشنِيعُ الصَّعْبُ. ت: وقال العِرَاقِي: «إدّاً» ، أَيْ: عَظِيماً، انتهى. والانْفِطَارُ: الاِنْشِقَاقُ، والهَدُّ: الاِنْهِدَامُ، قال محمدُ بنُ كَعْبٍ «1» : كاد أَعداءُ الله أَنْ يُقِيمُوا علينا السَّاعَةَ. وقوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ ... الآية، إنْ نافيةٌ بمعنى مَا. وقوله: فَرْداً يتضمنُ عَدَمَ النصير، والحَوْلِ والقُوّةِ، أيْ: لا مُجِير له مما يُريد اللهُ به. وعبارة الثَّعْلَبِيّ: «فرداً» أيْ: وحيداً بعمله، ليس معه من الدنيا شيءٌ. اهـ. ت: وهذه الآيةُ تُنظر إلى قوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ... الآية. [الأنعام: 94] . وقوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ذهب أكثرُ المفسرين إلى: أن هذا الوُدّ هو القبول الذي يضعه اللهُ لمن يحب مِنْ عباده حَسْبَما في الحديث الصَّحيح المأثور، وقال عُثْمان بن عَفّان- رضي الله عنه-: أَنها بمنزلة قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم «من أسَرَّ سَرِيرةً ألْبَسُهُ اللهُ رِدَاءَها» «2» . ت: والحديثُ المتقدِّمُ المُشَارُ إليه أَصلُهُ في «الموطإ» ولفظه: مالك، عن سُهَيْل بن أبي صالح السَّمان، عن أَبيه، عن أَبِي هريرَةَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذَا أَحَبَّ اللهُ العَبْدَ قَالَ لِجِبْريلُ: يا جبريل قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاءِ «3» : إنَّ اللهَ أَحَبَّ فُلاَناً، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَضَعُ لَهُ القَبُولَ فِي الأَرْضِ» . وَإذَا أَبْغَضَ الْعَبْدَ، قَالَ مالكٌ: لا أَحْسبُه إلاَّ قال في [البغض] «4» مثل ذلك «5» .

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 34) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 34) . (3) في ج: السموات. (4) سقط في ب. (5) أخرجه مالك (2/ 953) كتاب الشعر: باب ما جاء في المتحابين في الله، حديث (15) ، ومسلم (4/ 2030) كتاب البر والصلة: باب إذا أحب الله عبدا، حديث (157/ 2637) ، والترمذي (5/ 317--

قال أبو عمر [بن عبد البر] «1» في «التمهيد» «2» /، وممن روى هذا الحديث عن 7 ب سُهَيْل، بإسناده هذا «3» فذكر البُغْضَ من غير شَكٍّ معمرُ وعبدُ العزيز بن المختار، وحماد بنُ سَلَمة، قالوا في آخره: وإذَا أَبْغَض بمثل «4» ذلك، ولم يشكوا. قال أَبو عُمَر: وقد قال المفسِّرُون في قوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا: يُحِبُّهم ويُحبِّبُهم إلى الناس، وقاله مُجَاهِدٌ، وابنُ عباس «5» ، ثم أَسند أَبو عُمَرَ عن كْعبٍ أَنه قال: واللهِ مَا اسْتَقَر لعبدٍ ثَنَاءٌ في أَهْل الدُّنْيَا حتى يَسْتَقِرَّ له في أَهْل السماء. قال كعبٌ: وقرأتُ «6» في التوراة أنه لم تكن مَحَبَّةٌ لأَحَدٍ من أَهْل الأَرْضِ إلاَّ كان بَدّأَها من الله عز وجل ينزلها على أَهْل السماء، ثم ينزلها على أهْل الأرض، ثم قرأت القرآن، فوجدتُ فيهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وأَسْنَد أَبو عمر، عن قتادة [قال] «7» : قال هَرِمَ بْنُ حَيَّان: ما أَقْبَلَ عبدٌ بقلبه إلى اللهِ تعالى إلاَّ أَقبل اللهُ بقلوب أَهْل الإيمان عليه حَتَّى يرزُقَه مودَّتَهُمْ ورحْمَتَهُمْ. انتهى «8» . قال ابنُ المُبَارَك في «رقائِقه» : أَخبرنا سُلَيْمَان بُنِ المُغِيرة، عن ثابت قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَهْل الجَنَّة؟ قال: «مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى يَمْلأَ [الله] «9» سمعه «10» ممّا

_ - 318) كتاب «التفسير» : باب «ومن سورة مريم» ، حديث (3161) ، وأحمد (2/ 267، 341) ، وعبد الرزاق (19673) ، وابن حبان (365) ، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 306) كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه البخاري (13/ 469) كتاب التوحيد: باب كلام الرب عز وجل مع جبريل، حديث (7485) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة. (1) سقط في ب، ج. (2) ينظر: «التمهيد» (21/ 237- 238) . (3) في ج: هذه. (4) في ج، ب: مثل. (5) أخرجه الطبريّ (8/ 385) عن مجاهد برقم (23961) ، وعن ابن عباس برقم (23965) ، وذكره البغوي (3/ 210) ، وعزاه عن مجاهد، والسيوطي (4/ 512) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس بلفظ: «محبة في الناس في الدنيا» . (6) في ج: قوله. (7) سقط في ج. (8) أخرجه الطبريّ (8/ 386) رقم (23967) . [.....] (9) سقط في ب، ج. (10) في ج: مسامعه.

[سورة مريم (19) : الآيات 97 إلى 98]

يُحِبُّ» قال: فقيل «1» : يا رسول اللهِ، مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالَ: «مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى يَمْلأَ اللهُ سَمْعَهُ مِمَّا يَكْرَهُ» . انتهى. قال ع «2» : وفي حَدِيثِ أبي هريرة قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ في السَّمَاء صِيتٌ، فَإنْ كَانَ حَسَناً، وُضِعَ فِي الأَرْضِ حَسَناً، وإنْ كَانَ سَيِّئاً وُضِعَ في الأَرْضِ سَيِّئاً» «3» . ت: وهذا الحديثُ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ في كتاب «الزهد» . [سورة مريم (19) : الآيات 97 الى 98] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) وقوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أَيْ: القرآن لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أيْ: بالجنة، والنَّعِيم الدائم، والعزّ في الدنيا. وقَوْماً لُدًّا هم: قريشٌ، ومعناه: مُجَادِلِينَ مُخَاصِمِينَ، والأَلَدُّ: المُخَاصِمُ المبالِغُ في ذلك، ثم مثَّل لهم بإهلاَكِ مَنْ قبلهم إذْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُم، وأَلَدَّ وأَعْظَم قدْراً، و «الركز» : الصَّوْتُ الخَفِيّ.

_ (1) في ج: قيل. (2) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 34) . (3) أخرجه البزار (3306- كشف) من حديث أبي هريرة. وذكره الهندي في «كنز العمال» (43038) ، وعزاه للبزار عن أبي هريرة.

تفسير سورة طه

تفسير سورة طه بسم الله الرحمن الرحيم وهي مكيّة قوله سبحانه وتعالى: [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) قوله سحانه وتعالَى: طه مَآ أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى قيل: طه: آسْمٌ من أَسْمَاءِ نَبِيِّنَا محمّدٍ صلى الله عليه وسلّم وقِيلَ: معناه: يا رَجُلُ بالسُّرْيَانِيّة، وقِيلَ: بغيرها مِنْ لُغَاتِ العَجَمِ. قال البخاريُّ: قال ابن جُبَيْرٍ: طه: يا رجلُ، بالنَّبطِيَّة «1» انتهى. وقيل «2» : إنها لغةٌ يَمَانِيةٌ في «عَكَّ» وأَنشد الطبريُّ «3» في ذلك: [الطويل] دَعَوْتُ ب «طَه» فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِب ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلاَ «4» وقال آخرُ: [البسيط] إنَّ السَّفَاهَةِ «5» - طه- مِنْ خَلاَئِقِكُم ... لاَ بَارَكَ اللهُ فِي الْقَوْمِ المَلاَعِينِ «6» وقالت فِرْقَةٌ من العُلَمَاءِ: سَبَبُ نزولِ هذه الآية أَن قريشاً لما نظرت إلى عيش النبي صلى الله عليه وسلّم وشَظَفِه وكَثْرة عِبَادَته قالت: إن محمداً مع ربِّه في شقاءٍ، فنزلت الآيةُ رادَّةً عليهم «7» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 389) برقم (23988) بلفظ: «يا رجل كلمة بالنبطية» ، وذكره ابن كثير (3/ 141) . (2) في ب، ج: وحكى. (3) ينظر: «الطبريّ» (16/ 136) . (4) البيت لمتمم بن نويرة، و «الموئل» الملجأ، وموائل منه: طالب النجاة، وهو اسم فاعل «واءل» أي: بادر، والشاهد في قوله: «طه» على أنها بمعنى «يا رجل» . ينظر البيت في: «تفسير الطبريّ» (16/ 136) ، وفيه «صفت بطه» ، و «روح المعاني» (16/ 148) . (5) في ج، ب: الشفاعة. (6) والاستشهاد به كالاستشهاد بالبيت السابق- ينظر البيت في «حاشية الشهاب» (6/ 178) ، و «الطبريّ» (8/ 390) ، و «مجمع البيان» (4/ 2) ، و «الفخر الرازي» (22/ 4) ، و «البحر المحيط» (6/ 212) ، و «الدر المصون» (5/ 3) . (7) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 516) عن الربيع بن أنس، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.

[سورة طه (20) : الآيات 9 إلى 14]

وأسند عِيَاضٌ في «الشفا» «1» من طريق أَبِي ذَرٍّ الهروي، عن الرَّبِيعِ بن أَنَسٍ قال: كان 8 أالنبيّ صلى الله عليه وسلّم إذَا صَلَّى/، قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الأخرى، فأنْزَل الله طه يعني: طَإ الأَرْضَ يَا محمد، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ولاَ خَفاءَ بمَا في هذا كله من الإكرام له (صلى الله عليه وسلّم) وحُسْن المعاملة. انتهى. [قال ص: لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً عِلَّتانِ لِقَوْلِه: مَا أَنْزَلْنا. انتهى] «2» . وقد تقدم القولُ في مَسْأَلَةِ الاسْتِوَاء، وباقي الآية بيّن. قال ابنُ هِشَام: قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أيْ: فاعلم أَنه غَنِيٌّ عن جهرك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى، فالجوابُ مَحذُوفٌ. انتهى. [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 14] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نَاراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) وقوله سبحانه: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَاراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هذا الاِسْتفهام توقيفٌ مضمنه: تَنْبِيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدَأُ الرجل إذا أَردْتَ إخْبَارَه بأَمْرٍ غَرِيبٍ فتقول: أعلمْتَ كذا، وكذا، ثم تبدأ تخبره. وكان من قصّة موسى- عليه السلام- أنه رحل من مَدْيَن بأهله بِنْت شُعَيْب- عليه السلام- وهو يريدُ أَرض مِصْر، وقد طالت مُدَّة جِنَايته هُنَالِكَ، فَرَجَا خَفَاءَ أمْره، وكان فيما يزعمون رَجُلاً غَيُوراً، فكان يَسِيرُ الليلَ بأهْلِهِ، وَلاَ يَسِيرُ بالنهار مخافةَ كشفة «3» الناسِ، فَضَلَّ عن طريقه في لَيْلَةٍ مظلمة، فبينما هو كذلك، وقد قَدَحَ بزنده، فلم يُورِ شَيْئاً إِذْ رَأى نَاراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا، أيْ: أقِيموا، وذهب هو إلى النار، فإذا هي مُضْطَرِمةٌ في شَجَرةٍ خَضْرَاءَ يانِعةٍ، قيل: كانت من عُنَّابٍ، وقِيلَ: من عَوْسَج «4» ، وقِيلَ: من علّيق «5» ، فكلّما

_ (1) في ب: عبارة من. (2) سقط في ب. [.....] (3) في ج: كشف. (4) العوسج: شجر من شجر الشوك، له ثمر مدوّر كأنه خرز العقيق. واحدته: عوسجة. ينظر: «المعجم الوسيط» (606) . (5) في ج، ب: عليقة.

دَنَا مِنْها، تباعَدَتْ منه، ومَشَتْ فإذا رجع عنها اتَّبعَتْهُ، فلما رأَى ذَلِكَ أَيقنَ أَنَّ هذا مِنْ أُمُورِ الله الخَارِقَةِ للعادة، ونُودِي، وانقضى أَمْرُه كُلّه في تلك الليلة هذا «1» قول الجُمْهُورِ، وهو الحقُّ، وما حُكِيَ عن ابنِ عباسٍ: أنَّه قال: أَقامَ في ذلك الأَمْرِ حَوْلاً، فغيرُ صَحِيحٍ عن ابن عباس «2» . وآنَسْتُ: معناه: أَحْسَسْتُ، والقَبَسُ: الجذْوةُ من النار، تكون على رَأْس العُودِ. والهُدَى: أراد هُدَى الطريقِ، أَيْ: لعلي أَجِدُ مرشداً لي، أوْ دليلاً. وفي قِصَّة موسى بأسْرها في هذه السورة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم عما لقي في تبليغه من المشقّات صلى الله عليه وسلّم والضميرُ في قوله: أَتاها: عائِدٌ على النار. وقوله: «نُودي» : كنايةٌ عن تَكْلِيم الله تعالى له (عليه السلام) . وقرأَ نَافِعٌ «3» وغيرُه: إنِّي- بكسر الهمزة- على الابْتداءِ، وقرأَ أَبُو عَمْرو، وابن كَثِير: «أَنِّي» - بفتحها- على معنى: لأَجل أَنِّي أَنا رَبُّك، فَاخْلَعْ نعليك. واخْتُلِفَ في السبب الذي مِنْ أَجْله أُمِرَ بخلْعِ النعلين: فقالتْ فِرْقَةٌ: كَانَتَا من جِلْد حَمِارٍ مَيِّتٍ، فأُمِرَ بِطَرْحِ النَّجَاسَةِ. وقالت فرقةٌ: بل كَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ بقَرَةٍ ذَكِيّ لكن أُمِر بخلعهما لينَالَ بركَةَ الوَادِي المُقدَّسِ، وتمَسَّ قَدَماهُ تُرْبَةَ الوَادِي. قال ع «4» : وتحتمل الآيةُ مَعْنًى آخَرَ، هو الأَليقُ بها عِنْدِي وهو: أَن الله تعالى أمرِه أنْ يتأدَّبَ، ويتَوَاضَعَ لعظم الحَالِ الَّتي حَصَلَ فيها، والعُرْف عِنْد المُلُوكِ: أن تخلع

_ (1) في ج: هذا هو. (2) ذكره ابن عطية (4/ 38) . (3) وكذلك قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ، غير أن نافعا فتح الياء، وأسكنها الباقون. ينظر: «السبعة» (417) ، و «الحجة» (5/ 218) ، و «إعراب القراءات» (2/ 28) ، و «معاني القراءات» (2/ 143) ، و «شرح الطيبة» (5/ 39) ، «وحجة القراءات» (451) ، و «شرح شعلة» (490) ، و «إتحاف» (2/ 244) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 39) .

النَّعْلاَنِ، ويبلغُ الإنْسان إلَى غاية تَوَاضُعِهِ، فكأَنَّ موسى- عليه السلام- أُمِر بذلك عَلَى هذا الوجه، وَلاَ نُبَالِي كيفَ كَانَتْ نَعْلاَهُ من ميتة أو غيرها. والْمُقَدَّسِ: معناه المطهّر، وطُوىً: [معناه] «1» مَرَّتَيْنِ. فقالت فرقةٌ: معناه قُدِّسَ مرتيْنِ، وقالت فِرْقةٌ: معناه طُوِيَتْ لك الأَرْضُ مَرَّتَيْنِ من ظنك. قال الفَخْرُ: وقِيلَ: إنَّ طُوًى اسم وادٍ بالشام، وهو عند الطُّورِ الذي أَقْسم الله به في القرآن. وقيل/: إنَّ طُوىً بمعنى: يَا رَجُلُ، بالعَبْرَانِيَّةِ، كأنه قِيلَ: يا رجل اذهب إلَى فِرْعون. انتهى «من تفسيره لسورة والنازعات» . قال ع «2» : وحدثني أَبِي- رحمه الله- قال: سمعت أَبا الفضل بْنَ الجوهري- رحمه الله تعالى- يقول: لما قِيل لموسى: استمع لما يوحى، وقف على حَجَرٍ، واستند إلَى حَجَرٍ، ووضع يَمِينه عَلَى شِمَالِه وأَلْقى ذَقَنَهُ على صَدْرِه، ووقف يستمع، وكان كُلُّ لباسه صُوفاً. وقوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي: يحتمل أن يريدَ: لِتَذْكُرَنِي فيها، أوْ يريد: لأَذْكركَ في عِلِّيَينَ بها، فالمصدرُ محتمل الإضافة إلى الفَاعِل، أَوِ المفعول. وقالت فِرْقةٌ: معنى قولهِ لِذِكْرِي أيْ: عند ذِكْرى، أَيْ: إذا ذكرتني، وأمري لك بها. ت: وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ نَسِيَ صَلاَةً، فَلُيصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا «3» قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» . انتهى.

_ (1) سقط في ج. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 39) . (3) أخرجه أحمد (3/ 269) ، والبخاري (2/ 70) «كتاب مواقيت الصلاة» باب من نسي صلاة، الحديث (597) ، ومسلم (1/ 477) «كتاب المساجد» باب قضاء الصلاة الفائتة، الحديث (314/ 684) ، والترمذي (1/ 335- 336) «كتاب الصلاة» باب ما جاء في الرجل ينسى، الحديث (178) ، وابن ماجه (1/ 227) «كتاب الصلاة» باب من نام عن الصلاة أو نسيها، حديث (696) ، والنسائي (1/ 293) ، كتاب المواقيت باب فيمن نسي صلاة (613) ، وأبو داود (1/ 174) «كتاب الصلاة» باب من نام عن-

[سورة طه (20) : الآيات 15 إلى 36]

فقد بيّن لك صلى الله عليه وسلّم ما تحتمله الآيةُ، واللهُ الموفِّقُ بفضله وهكذا استدل ابنُ العربي هنا بالحديثِ «1» ، ولفظه: وقد روى مالك وغيره: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نسِيَهَا، فَلْيُصَلِّها إذَا ذَكَرَهَا فَإنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: أَقِمِ الصلاة لِذِكْرَي» «2» . انتهى من «الأحكام» . وقرأت فرقةٌ: «للذكرى» ، وقرأتْ «3» فرقةٌ: «لِلذِّكْرِ» ، وقرأتْ فرقةٌ: «لذكرى» «4» بغير تعريف. [سورة طه (20) : الآيات 15 الى 36] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وقولُه تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ: يريدُ «5» : القيامةَ آتيةٌ، فيه تحذيرٌ وَوَعِيدٌ. وقرأ ابنُ كَثِير، وعاصِمٌ: «أَكَاد أَخفيها» - بفتح الهمزة- بمعنى: أظْهرها، أيْ: إنها من تيقُّن وقُوعِهَا تَكاد تَظْهَرُ، لكن تَنْحَجِبُ إلى الأَجل المعلومِ، والعربُ تقولُ: خَفَيْتُ الشيء بمعنى: أظهرته.

_ - صلاة أو نسيها (442) ، وأبو عوانة (1/ 385) ، والدارمي (1/ 280) ، وابن خزيمة (2/ 97) رقم (993) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 465) ، وفي «المشكل» (1/ 187) ، والبيهقي (2/ 218) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 270) ، من حديث أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» . وأخرجه مسلم (1/ 477) «كتاب المساجد» باب قضاء الصلاة الفائتة (316) ، وأحمد (3/ 369) ، وأبو نعيم (9/ 52) ، بلفظ: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فَلْيُصَلِّها إذَا ذَكَرَهَا فَإنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. (1) ينظر «أحكام القرآن» لابن العربي (3/ 1258) . (2) ينظر الحديث السابق. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 39) ، «والبحر المحيط» (6/ 218) ، و «الدر المصون» (5/ 11) . [.....] (4) في ج: لذكر. (5) في ج: يوم.

وقرأ الجمْهورُ «1» : «أُخْفِيهَا» - بضم الهمزة- فقيل: معناه: أظهرها، وزعموا: أَنَّ «أَخْفَيْتُ» من الأَضْدَادِ. وقالت فرقةٌ: أَكادُ بمعنى أُرِيدُ، أيْ: أرِيدُ إخْفَاءَها عنكم لتجزى كل نفس بما تسعى، واسْتَشْهَدُوا بقول الشاعر: [الكامل] . كَادَتْ وَكِدْتَ وَتِلْكَ خَيْرُ إرَادَةٍ ... ................ «2» وقالت فرقةٌ: أَكاد: على بَابها بمعنى: أنها مقاربة ما لم يَقَعْ لكن الكلام جَارٍ على استعارة العَرَبِ، ومَجَازِهَا، فلما كانت الآيةُ عبارةٌ عن شِدَّةِ خَفَاءِ أَمْرِ القيامة ووقْتِها، وكان القَطْعُ بإتْيَانِها مع جَهْلِ الوَقْتِ أَهْيَبُ على النفوسِ بالغ- سُبْحَانَه- في إبْهَامِ وقْتِها، فقال: أَكادُ أُخْفِيها حتَّى لاَ تظهرُ ألْبتةَ، ولكن ذلك لا يقعُ، ولا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وهذا التَّأْوِيلُ هو الأقوى عندي. وقوله سبحانه: «فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا» : أيْ: عن الإيمانِ بالسَّاعَةِ، ويحتمل عودُ الضمير على الصَّلاَةِ. وقوله: فَتَرْدى: معناه فتَهْلك، والردى: الهلاكُ، وهذا الخطابُ كلَّه لموسى عليه السلام، وكذلك ما بعده. وقال النقاش: الخطاب ب فَلا يَصُدَّنَّكَ: لنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وهذا بَعِيدٌ «3» . وقوله سبحانه: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى تقريرٌ مضمنه التَّنْبِيهُ، وجمعُ النفْسِ لتلقى ما يورد عليها، وإلاَّ فقد علم سُبْحَانه مَا هي في الأزل.

_ (1) ينظر: «المحتسب» (2/ 47- 48) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 40) ، و «الدر المصون» (5/ 11) . (2) صدر بيت للأخفش، وعجزه: ............... .. ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى ينظر «الصحاح» (كود) ، و «اللسان» (كود) و (كيد) ، و «التاج» (كود) . وقال الزبيدي: وقال الأخفش في تفسير الآية: معناه: أخفيها. وفي «تذكرة أبي عليّ» أن بعض أهل التأويل قالوا: أَكادُ أُخْفِيها معناه أظهرها، قال شيخنا: والأكثر على بقائها على أصلها، كما في «البحر» و «النّهر» و «وإعراب أبي البقاء» و «والسفاقسيّ» ، فلا حاجة إلى الخروج عن الظاهر، والله أعلم، قال السيوطيّ: وعكسه كقوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يكاد. قلت: وفي «اللسان» : قال بعضهم في قوله تعالى أَكادُ أُخْفِيها أريد أخفيها، فكما جاز أن توضع أريد موضع أكاد في قوله جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] . فكذلك أكاد، فتأمّل. (3) ذكره ابن عطية (4/ 40) .

قال ابنُ العَرَبِيُّ في «أحكامه» : وأجابَ مُوسَى عليه السلام بقوله: هِيَ عَصايَ ... الآية، بأَكْثَرَ مما وقع السؤال عنه وهذا كقوله صلى الله عليه وسلّم: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته» «1» / 9 ألمن سأله عن طهوريّة ماء البحر. انتهى.

_ (1) أخرجه مالك (1/ 22) كتاب الطهارة: باب الطهور للوضوء، الحديث (12) ، والشافعي في (1/ 16) : كتاب الطهارة، ومحمد بن الحسن في «الموطأ» (43) كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر، الحديث (46) ، وابن أبي شيبة (1/ 131) كتاب الطهارات: باب من رخص في الوضوء بماء البحر، وأحمد (2/ 361) ، والدارمي (1/ 186) كتاب الطهارة: باب الوضوء من باب البحر، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 478) ، وأبو داود (1/ 64) كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر، الحديث (83) ، والترمذي (1/ 100- 101) كتاب الطهارة: باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، الحديث (69) ، والنسائي (1/ 176) كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر، وابن ماجه (1/ 136) كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر، الحديث (386) ، وابن خزيمة (1/ 59) كتاب الطهارة: باب الرخصة في الغسل والوضوء من ماء البحر، الحديث (111) ، وابن حبان في «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» كتاب الطهارة: باب ما جاء في الماء، الحديث (119) ، وابن الجارود ص: (25) باب في طهارة الماء والقدر الذي ينجس الماء والذي لا ينجس، والدارقطني (1/ 36) كتاب الطهارة: باب في ماء البحر، الحديث (13) ، والحاكم (1/ 140- 141) كتاب الطهارة، والبيهقي في (1/ 3) كتاب الطهارة: باب التطهير بماء البحر، وفي «معرفة السنن والآثار» (1/ 150- 151) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 139) ، وابن بشكوال في «الغوامض» (ص- 555) ، والجوزقاني في «الأباطيل» رقم (331) ، من رواية مالك عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن نتوضأ به عطشنا. أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد توبع مالك على هذا الحديث فتابعه أبو أويس وعبد الرحمن بن إسحاق وإسحاق بن إبراهيم. فمتابعة الأول رواها أحمد (2/ 392- 393) ، ومتابعة الثاني والثالث، أخرجها الحاكم (1/ 141) كتاب الطهارة، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 153- 154) كتاب الطهارة: باب ما تكون به الطهارة من الماء. وقد تابعه أيضا الجلاح أبو كثير، فرواه عن سعيد بن سلمة. أيضا أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 478) ، والحاكم (1/ 141) كتاب الطهارة، والبيهقي (1/ 3) كتاب الطهارة: باب التطهير بماء البحر. و «معرفة السنن والآثار» (1/ 154) كتاب الطهارة باب ما تكون به الطهارة من الماء. وممن روى هذا الحديث عن أبي هريرة غير المغيرة سعيد بن المسيب. أخرجه الدارقطني (1/ 37) رقم (15) والحاكم (1/ 142) من طريق عبد الله بن محمد القدامي ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة به. وسكت عنه الحاكم والذهبي وعبد الله بن محمد القدامي ضعيف. قال ابن عدي (4/ 258) : عامة أحاديثه غير محفوظة وهو ضعيف على ما تبين لي من رواياته واضطرابه فيها ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فأذكره. أبو سلمة بن عبد الرحمن عنه:

_ - أخرجه الحاكم (1/ 142) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 132) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ثنا محمد بن غزوان قال: ثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. ومحمد بن غزوان قال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يقلب الأخبار ويسند الموقوف. ينظر «المجروحين» (2/ 299) ، «المغني» (2/ 623) رقم (5892) وقد صحّح هذا الحديث جمع من الأئمة والحفّاظ منهم: 1- البخاري فقال: هو حديث صحيح كما نقل عنه الترمذي في «العلل الكبير» (1/ 41) رقم (33) . 2- الترمذي فقال: حسن صحيح. 3- ابن خزيمة: بإخراجه في صحيحه وسكوته عليه. 4- ابن حبان: بإخراجه في صحيحه وسكوته عليه، وقال في «المجروحين» (2/ 299) : حديث أبي هريرة صحيح. 5- الحاكم. 6- البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 152) ونقل قول البخاري في تصحيح الحديث. 7- الجوزقاني في «الأباطيل» فقال: هذا حديث حسن وغيرهم كثير. وفي الباب عن علي، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأبي بكر، وابن عباس، وأنس، والفراسيّ، وابن عمر، وعبد الله المدلجي، وسليمان بن موسى، ويحيى بن أبي كثير مرسلا. أما حديث علي: رواه الدارقطني (1/ 35) كتاب الطهارة باب في ماء البحر، الحديث (6) ، والحاكم (1/ 142- 143) كتاب الطهارة كلاهما من رواية ابن عقدة الحافظ، ثنا أحمد بن الحسين بن عبد الملك، ثنا معاذ بن موسى، ثنا محمد بن الحسين، حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن علي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 12) : وفيه من لا يعرف. وحديث جابر: رواه أحمد (3/ 373) ، وابن ماجه (1/ 137) كتاب الطهارة باب الوضوء بماء البحر، الحديث (388) ، والدارقطني (1/ 34) كتاب الطهارة باب في ماء البحر، الحديث (3) ، وابن خزيمة (1/ 59) ، وابن حبان (120- موارد) ، وابن الجارود (879) ، والدارقطني (1/ 34) ، والبيهقي (1/ 253- 254) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 229) من طريق إسحاق بن حازم عن عبيد الله بن مقسم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن ماء البحر فقال: «الحل ميتته، الطهور ماؤه» . قال الحافظ في «تلخيص الحبير» (1/ 11) : قال أبو علي بن السكن: حديث جابر أصح ما روي في هذا الباب. وأخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 203) . الحديث (1759) ، والدارقطني (1/ 43) ، والحاكم (1/ 143) كتاب الطهارة، من وجه أخر من رواية المعافي بن عمران، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر به. قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 11) إسناده حسن ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس، ورواه الدارقطني (1/ 34) أيضا من طريق مبارك بن فضالة، عن أبي الزبير. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: - أخرجه الحاكم (1/ 143) كتاب الطهارة، من طريق الحكم بن موسى، ثنا معقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن-

_ - رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ميتة البحر حلال وماؤه طهور» . وقد رواه الدارقطني (1/ 35) كتاب الطهارة باب في ماء البحر، الحديث (7) ، من هذا الوجه أيضا، من رواية الحكم بن موسى، عن معقل فقال عن المثنى، عن عمرو بن شعيب ومن طريق المثنى أيضا أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2418) والمثنى بن الصباح ضعفه ابن معين وغيره وقال النسائي: متروك. ينظر «المغني» (2/ 541) رقم (5175) . قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 12) : ووقع من عند الحاكم الأوزاعي بدل المثنى وهو غير محفوظ. وحديث أبي بكر: أخرجه الدارقطني (1/ 35) كتاب الطهارة باب في ماء البحر، الحديث (4) من طريق عبد العزيز بن أبي ثابت، عن إسحاق بن حازم الزيات، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، عن أبي بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن البحر، الحديث. وقال الدارقطني: عبد العزيز ليس بالقوي، ورواه ابن حبان في «المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين» (1/ 355) ، من وجه آخر عن أبي بكر مرفوعا، لكنه من رواية السري بن عاصم، قال ابن حبان: يسرق الحديث، ويرفع الموقوف، وأخرجه الدارقطني (1/ 35) ، والبيهقي (1/ 4) كتاب الطهارة باب التطهير بماء البحر، عن أبي بكر موقوفا، وصحح وقفه الدارقطني، وابن حبان في «الضعفاء» . وحديث ابن عباس: أخرجه الدارقطني (1/ 35) كتاب الطهارة باب في ماء البحر، الحديث (10) ، والحاكم (1/ 140) كتاب الطهارة، كلاهما من رواية سريج بن النعمان، عن حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عن ماء البحر فقال: «ماء البحر طهور» . قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي، لكن الدارقطني قال: الصواب أنه موقوف قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 11) : رواته ثقات لكن صحح الدارقطني وقفه، والموقوف خرجه أحمد (1/ 279) في مسند ابن عباس رضى الله عنه من طريق عفان، عن حماد بن سلمة به، وفيه: وسألته يعني ابن عباس عن ماء البحر، فقال: ماء البحر طهور. وحديث أنس: أخرجه عبد الرازق (1/ 94) كتاب الطهارة باب الوضوء من ماء البحر، الحديث (320) ، عن الثوري، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلّم في ماء البحر قال: «الحلال ميتته الطهور ماؤه» وأخرجه الدارقطني (1/ 35) كتاب الطهارة باب في ماء البحر، الحديث (8) من طريق محمد بن يزيد، عن أبان به وقال: أبان متروك. وحديث الفراسي أو ابن الفراسي: أخرجه ابن ماجه (1/ 136- 137) كتاب الطهارة باب الوضوء بماء البحر، الحديث (387) عن سهل بن أبي سهل عن يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن بكر بن سوادة، عن مسلم بن مخشي عن ابن الفراسي قال: كنت أصيد وكانت لي قربة أجعل فيها ماء، وإني توضأت بماء البحر فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» هكذا قال ابن ماجه: عن ابن الفراسي. وأخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (16/ 220) ، من طريق أبي الزنباع روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن بكير، وفيه عن مسلم بن مخشي، أنه حدثه أن الفراسي قال: كنت أصيد في البحر الأخضر على أرماث وكنت أحمل قربة لي فيها ماء، فذكره. قال الترمذي في «علله» (ص: 41) رقم (34) ، قال: سألت البخاري عن حديث ابن الفراسي في ماء البحر فقال: حديث مرسل، لم يدرك ابن الفراسي النبي صلى الله عليه وسلّم. والفراسي له صحبة.

ت: والمُسْتَحْسَنُ من الجواب: أَنْ يكون مُطَابِقاً للسؤال، أو أَعَمَّ منه كما في الآية، والحديث، أَمَّا كونُه أَخَصَّ منه، فَلاَ. انتهى. وَأَهُشُّ: معناه: أخبط بها الشجر حتّى ينتثر الوَرَقُ لِلْغَنم، وعَصَا مُوسَى عليه السلام هي الَّتي كان أَخَذَها من بَيْتِ عِصِيِّ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام الَّذِي كان عند شُعَيْب عليه السلام حين اتَّفَقَا عَلَى الرَّعْيِ «1» ، وكانت عَصَا آدم عليه السلام، هبط بها من الجَنَّةِ، وكانت من العير الّذي في ورق الرَّيْحَانِ، وهو الجِسْم المُسْتَطيل في وسطها، ولما أَراد اللهُ سبحانه تَدْرِيب موسى في تلقي النبوءة، وتَكَالِيفها، أمره بإلْقَاءِ العَصَا، فألْقَاهَا، فإذا هي حَيَّةً تَسْعَى، أيْ تَنْتَقِلُ، وتَمْشِي، وكانت عَصاً ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ، فصارت الشُّعْبَتَانِ فماً «2» يلتقِمُ الحِجَارَةَ، فلما رآها مُوسَى رأى عِبْرةً فولَّى مُدْبِراً ولم يُعَقِّبْ فقال اللهُ تعالى له: خُذْها وَلا تَخَفْ فأَخذَها بيده، فصارت عَصاً كما كانت أَوَّل مرةٍ وهي سِيرَتُها الأُولَى، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ، أَيْ: جَنْبِك. قال ع «3» : وكُلُّ مَرْعُوبٍ من ظُلْمَةٍ ونحوها فإنه إذا ضمّ يده إلى جناحه، فتر

_ - قال الحافظ البوصيري في «الزوائد» (1/ 161) : هذا إسناد رجاله ثقات إلا أن مسلما لم يسمع من الفراسي إنما سمع من ابن الفراسي، وابن الفراسي لا صحبة له وإنما روى هذا الحديث عن أبيه فالظاهر أنه سقط من هذا الطريق. وحديث ابن عمر: رواه الدارقطني (4/ 267) باب الصيد والذبائح والأطعمة، الحديث (2) طريق إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، أنه سأل ابن عمر قال: آكل ما طفا على الماء، قال: إن طافيه ميتة، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن ماءه طهور وميتته حل» . وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي، قال النسائي والدارقطني: متروك، وذكره البخاري في «الضعفاء» ، وقال الحافظ: متروك، ينظر «الضعفاء» للنسائي رقم (14) والدارقطني (13) والبخاري (14) و «التقريب» (1/ 46) . وحديث عبد الله المدلجيّ: أخرجه الطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (1/ 218) ، وقال الهيثمي: وفيه عبد الجبار بن عمر ضعفه البخاري والنسائي، ووثقه محمد بن سعد. أما مرسل سليمان بن موسى ويحيى بن أبي كثير: فأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1/ 93) رقم (319) . وهذا الحديث من الأحاديث التي عدها بعض الحفاظ متواترة كالحافظ السيوطي ص (23) رقم (11) «الأزهار المتناثرة» . (1) في ب/ ج: الرعية. (2) في ج: مما. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 42) .

رُعْبُهُ، وربط جَأْشه «1» ، فجمع الله سبحانه لموسى عليه السلام تَفتِير الرُّعْبِ مع الآيةِ في اليَدِ. ورُوِي أَنَّ يدَ مُوسَى خرجت بَيْضَاءَ تَشفّ وتُضِيء كأَنَّها شَمْسٌ من غيرِ سُوءٍ، أَيْ: من غير بَرَصٍ، ولا مثله، بل هو أمْر ينحسر، ويَعُود بحكم الحَاجَةِ إليه، ولما أَمَرُه اللَّه تعالى بالذَّهَابِ إلَى فِرْعَون، علم أنها الرسالة، وفهم قدر التَّكْلِيف فدعا اللَّهَ في المَعُونة إذْ لاَ حَوْلَ له إلّا به. واشْرَحْ لِي صَدْرِي معناه: لفهم ما يرد عَلَيّ مِنَ الأُمور، والعُقْدة التي دَعَا في حَلِّها هي التي اعترته بالجَمْرةِ في فِيهِ، حين جَرَّبه فرعون، وروي في ذلك: أَنَّ فِرْعون أراد قَتْلَ مُوسَى، وهو طِفْل حينَ مَدَّ يَدَهُ عليه السلام إلَى لِحْيَةِ فرعون، فقالت له امرأته: إنه لا يَعْقِلُ، فقال: بل هو يَعْقِلُ، وهو عَدُوِّي، فقالت له: نجرِّبُه، فقال لها: أَفْعَلُ، فدَعا بجمَراتٍ من النَّارِ، وبطبقٍ فيه يَاقُوتٌ، فقالا: إنْ أَخذ الياقُوتَ، علِمْنَا أنه يعقِلُ، وإنْ أخذ النارَ، عَذَرْنَاهُ، فمدَّ مُوسَى يده إلى جمرة «2» فأَخذها، فلم تعد على يده، فجعلها فِي فِيهِ، فأَحْرَقَتْهُ، وأوْرثت لِسَانَهُ عُقْدَةٌ، وموسى عليه السلام إنما طلب مِنْ حَلِّ العُقْدَة قدراً يُفْقَهُ معه قولُه، فجائز أَنْ تكون تِلْكَ العقدةُ قد زَالَتْ كُلُّها، وجائِزٌ أَن يكون قَدْ بَقِيَ منها القَلِيلُ، فيجتمع أن يؤتى هو سُؤْلَةٌ، وأنْ يقولَ فِرْعَون: وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] . ولو فرضنا زوالَ العُقْدة جملة، لكانَ قولُ فِرْعَون سَبّاً لمُوسَى بحالته القَدِيمةَ. وَالوَزِير: المُعِين القَائِمُ بوزر الأُمورِ، وهو ثِقَلها، فيحتمل الكَلاَمُ أَنَّ طلبَ الوَزِير من أَهْلِهِ على الجملة، ثم أبدل هرون من الوزير المَطْلُوب، ويحتمل أنْ يريدَ: واجعل هرون وَزِيراً، فيكون مفعولاً أَوّلاً ل اجْعَلْ، وكان هرون عليه السلام أكْبر من موسى عليه السلام بأرْبع سنين، والأَزْرُ: الظهرُ «3» قاله أَبُو عُبَيْدةَ «4» . وقوله: كَثِيراً نعتٌ لمصدرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: تسبيحاً كثيرا.

_ (1) فلان قوي الجأش أي القلب. ينظر: «لسان العرب» (529) . (2) في ج: الجمرات. [.....] (3) في ب، ج: بمعنى الظهر. (4) ذكره ابن عطية (4/ 43) .

[سورة طه (20) : الآيات 37 إلى 46]

[سورة طه (20) : الآيات 37 الى 46] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى قيل: هو وَحْي إلهام، وقِيلَ: بملك، وقِيلَ: برؤْيَا رَأَتْهَا، وكان مِنْ قصة موسى عليه السلام فيما رُوي أن فرعون ذُكرَ له أَنَّ خرابَ مُلْكِه يكونُ عَلَى يد غُلاَمٍ من بني إسرائيل فأمر بقتل 9 ب كُلِّ/ مَوْلُودٍ يولَدُ لبني إسرائيل، ثم إنه رَأَى مع أَهْل مملكته: أَنَّ فناء بني إسرائيل يعودُ على القِبْطِ بالضَرَرِ إذْ هم كانوا عَمَلَةَ الأَرْضِ، والصناع، ونحو هذا فعزم على أَنْ يقتُلَ الوِلْدَانَ سنةً، ويَسْتَحْيِيَهُم سنةً، فولد هرون عليه السلام في سَنَةِ الاِسْتِحْيَاءِ، ثم ولد موسى عليه السلام في العام الرابع سَنَةَ القَتْلِ، فخافت عليه أُمُّه فأوحى اللَّه إلَيْها: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فأخذَت «1» تابُوتاً فقذفَتْ فيه موسى راقِداً في فِرَاشٍ، ثم قذفتْهُ في يَمِّ النيل، وكان فرعون جَالِساً في مَوْضِع يُشْرِفُ منه على النِّيلِ إذْ رَأَى التَّابُوتَ فأمَر به، فسِيقَ إليه، وامرأته معه، ففُتِحَ فرأَوْهُ فَرَحِمتْهُ «2» امرأته وطلبتْهُ لتتَّخذَهُ ابنا، فأباح لها ذلك، ثم إنَّها عرضَتْهُ للرِّضَاعِ، فلم يقبلِ «3» امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة، ويُطافُ به يُعْرَضُ للمَرَاضِعِ، فكلما عُرِضَتْ عليه امرأةٌ أَباهَا، وكانت أمه قالَتْ لأُخْتِه: قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ [القصص: 11] وفهمت أمره، فقالت لهم: أنا أدلُّكم على أهْل بيت يَكْفلُونه لَكُمْ، وهم له نَاصِحُون، فتعلَّقُوا بِهَا، وقالوا: أنْتِ تَعْرِفينَ هذا الصبيَّ، فأنْكَرتْ، وقَالَتْ: لاَ، غير أني أعلم من أهل هذا البيْتِ الحِرْصَ على التقرُّبِ إلى المملكةِ، والجدّ في خِدْمتها، ورِضَاهَا، فتَرَكُوها وسَأَلُوها الدَّلاَلة، فجاءت بِأُمِّ مُوسَى، فلما قَرَّبَتْهُ، شَرِبَ ثَدْيَهَا، فسُرّت بذلك آسِيَةُ امرأة فِرْعون (رضي اللَّه عنها) وقالت لها: كُونِي مَعِي في القَصْرِ، فقالت لها: ما كُنْتُ لأَدَعَ بيتي وَوَلَدِي، ولكنه يِكُون عِنْدِي، فقالت: نعم، فأَحسنت إلى أَهْل ذلك البيت غاية الإحسان،

_ (1) في ب: فاتخذت. (2) في ج: ورحمته. (3) في ج: فلم يقبل للرضاع.

واعتزَّ بنو إسْرَائِيل بهذا الرِّضاعِ، والسبب من المَمْلَكَةِ، وأقام موسى عليه السلام حتى كَمَلَ رضاعه، فأرسلت إليها آسية: أن جئيني بولدي لِيَوْمِ كذا، وأمَرتْ خَدَمَها، ومَنْ مَعَها أنْ يلقينه بالتحَفِ، والهَدَايا، واللّباس فوصل إليها على ذلك، وهو بخير حال وأجمل ثياب، فسُرّت بِهِ، ودخَلتْ به عَلَى فِرْعَوْن؟ ليراه ويهب له «1» فرآه وأعْجَبه، وقرَّبَهُ فأخذ موسى عليه السلام بلِحْيَةِ فرعون، وجَبَذَهَا، فاسْتَشَاطَ فرعونُ، وقال: هذا عَدُوٌّ لي، وأمَر بذبْحِهِ، فَنَاشَدَتْهُ فيه امرأته، وقالَتْ: إنه لاَ يَعْقِلُ، فقال فِرْعَونُ: بل يَعْقِلُ، فاتَّفَقَا عَلَى تَجْرِيبه بالجمْرَةِ «2» والياقُوتِ حَسَبَ ما تقدَّمَ، فنجاه اللَّهُ من فرعون ورَجَعَ إلى أمّه، فشبّ عندها، فاعتزّ به بنو إسْرَائِيل «3» إلى أن تَرَعْرَعَ، وكان فَتًى جَلداً «4» فَاضِلاً كَامِلاً، فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرِّضاع، وكان يحميهم، ويكون ضِلعَهُ مَعهم، وهو يَعْلَمُ مِنْ نفسه أنه مِنْهُم، ومِنْ صَمِيمِهم، فكانت بصيرته في حمايتهم أكِيدة، وكان يَعْرِفُ ذلك أَعيانُ بني إسْرَائِيل، ثم وقعت له قِصَّةُ القِبْطِيِّ المتقاتل مع الإسرائيلي على ما سيأتي إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالى، وعدد اللَه سبحانه على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القِصَّة: مِنْ لُطْفه سُبْحَانه به في كُلِّ فَصْل، وتخليصه من قِصَّةٍ إلَى أخرى، وهذه الفُتُون التي فتنه بها، أيْ: اختبره بها، وخلَّصَهُ حتى صلح لِلنّبوّةِ، وسلم لها. وقوله مَا يُوحى / إبهامٌ يتضمن عِظَمَ الأَمْر وَجَلالَتِه وهذا كَقَوْلِهِ تعالى: إِذْ 10 أيَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى [النجم: 16] فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النجم: 10] . وهو كثيرٌ في القرآن، والكلام الفصيح. وقوله: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ خبرٌ خرج في صِيغَةِ الأَمر «5» [مُبالغةً ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم «قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ» فأخرج الخبر في صِيغَة الأمْرِ لنفسه، مُبَالغةً] «6» ، وهذا كَثِيرٌ، والمرادُ بالعدُوِّ في الآية: فرعونُ ثم أخبر تعالى مُوسَى عليه السلام أَنه ألْقى عليه مَحَبَّةً منه.

_ (1) في ج: ويهبه. (2) في ج: بالجمرات. (3) في ج: بنو إسرائيل بظاهر هذا الرضاع. (4) الجلد: القوة والشدة، وجلد الرجل فهو جلد جليد. ينظر: «لسان العرب» (654) . (5) في ج: الأمر لنفسه. (6) سقط في ج.

[سورة طه (20) : الآيات 47 إلى 54]

قالت فِرقةٌ: أَرَادَ القَبُولَ الذي يضعه اللَّهُ في الأرضِ لِخَيارِ عِبَادِه، وكان حَظُّ موسى منه في غاية الوَفْرِ وهذا أقوى ما قِيلَ هنا مِنَ الأقوال. وقرأَ الجُمْهورُ «1» : «ولِتُصْنَعَ» بكسر اللام، وضم التاء على معنى: ولِتُغْذى، وتُطْعم، وتربى. وقوله: عَلى عَيْنِي معناه: بمرأى مِنِّي. وقوله: عَلى قَدَرٍ أيْ: لميقاتٍ محدُودٍ للنبوّة التي قد أرادها اللَّهُ تعالى، وَاصْطَنَعْتُكَ: معناه جعلْتُك مَوْضِعَ الصَّنِيعة ومقر الإجْمال والإحْسَان. وقوله: لِنَفْسِي إضَافة تَشْرِيف وهذا كما تقولُ: بيتُ اللَّهِ، ونحوه: «والصِّيَامُ لِي» «2» وعبَّر بالنَّفْسِ عن شِدَّة القرب، وقوة الاخْتِصَاص. وقوله تعالى: وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي معناه: لا تُبْطِئَا وتضعفاً تقولُ: وَنَى فلانٌ في كذا، إذا تَبَاطَأَ فيه عن ضَعْفٍ، والوَنْيُ: الكَلاَلُ، والفَشَلُ في البَهَائِم والإنْسِ. وفي مُصْحَفِ ابن مَسْعُودٍ «3» : «ولاَ تَهِنَا فِي ذِكْرَي» معناه: لاَ تَلِينَا مِنْ قَوْلِك: هَيِّنٌ لَيِّنٌ. فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً أي: حسّنا له الكلمة مع إكْمَالِ الدَّعْوة. قال ابن العَرَبِي «4» في «أحْكَامِهِ» : وفي الآية دَلِيلٌ على جواز الأَمْر بالمعرُوفِ، والنهي عن المنكر بالليِّن لمن معه القُوَّة، وفي الإسرائيليات: أَنَّ مُوسَى عليه السلام أَقامَ بباب فِرْعَوْن سنةً لا يجد مَنْ يبلغ كَلاَمَهُ حَتَّى لقيه حِينَ خَرَج، فجرى له ما قَصَّ اللَّهُ تعالى عَلَيْنَا من خَبَرِه وكان ذلك تَسْلِيةً لمن جاء بعده مِنَ المؤْمِنِينَ في سِيرَتهم مع الظَّالِمِينَ. انتهى. وقولهما: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ معناه: يعجل، ويتسرع إلينا بمكروه. وقوله عز وجل إِنَّنِي مَعَكُما أي بالنّصر والمعونة. [سورة طه (20) : الآيات 47 الى 54] فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 44) ، و «البحر المحيط» (6/ 227) ، و «الدر المصون» (5/ 20) . (2) تقدم تخريجه في سورة البقرة. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 45) ، و «البحر المحيط» (6/ 230) . [.....] (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1260) .

[سورة طه (20) : الآيات 55 إلى 66]

وقوله تعالى: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ... الآية جُمْلَةَ ما دُعي إليه فرعون الإيمان، وإرْسال بني إسْرَائِيل، وأَما تعذِيبُه بني إسْرَائيل، فبذبح أَولادِهم، وتسخِيرهم وإذْلاَلهم. وقولهما: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يحتمل أنْ يكون آخر كلام فيقوى أنْ يكون السلامُ بمعنى التَّحِيَّة كأَنَّهما رَغِبَا بها عنه، وجَرَيَا على العُرْف في التسلِيم عند الفَرَاغِ مِنَ القول. ويحتمل أَنْ يكون في دَرْجِ القول، فيكون خبراً بأن السلامة للمهتدين، وبهذين المعنيين قالت كلّ فرقة من العلماء. وقوله سبحانه: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ قالت فرقة: المعنى أَعطى كل موجود من مخلوقاتِه خلْقته، وصورته، أي: أكمل ذلك له، وأتقنه ثُمَّ هَدى، أي: يسّر كُلَّ شيء لمنافعه وهذا أحسنُ ما قيل هنا، وأشرف معنىً وأعم في الموجودات. وقول فرعونَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى يحتمل أن يريد ما بال القرون الأولى لم تبعث لها، ولم يوجدْ أمرك عندها؟ ويحتمل أن يريد فرعون قطعَ الكلام، والرجوعَ إلى/ 10 ب سؤال موسى عن حالة مَنْ سلف من الأمم روغاناً في الحجّة، وحَيْدَةً. وقيل: البالُ: الحالُ، فكأنه سأله عن حالهم، وقولُ موسى [عليه السلام] : عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ يريد في اللّوح المحفوظ، ولا يَضِلُّ: معناه لا ينتلف ويعمه، «والأزواج» هنا: بمعنى الأنواع. وقوله: شَتَّى نعت للأزواج، أي: مختلفة. وقوله كُلُوا وَارْعَوْا بمعنى هي صالحةٌ للأكل والرعي، فأخرج العبارة في صيغة الأمر لأنه أرجى الأفعال، وأهزها للنفوس. والنُّهى جمع نُهْيَةٍ، والنُّهْيَةُ: العَقْلُ النَّاهِي عن القبائح. [سورة طه (20) : الآيات 55 الى 66] مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)

وقوله سبحانه: مِنْها خَلَقْناكُمْ يريد من الأَرض وَفِيها نُعِيدُكُمْ أَيْ: بالموت، والدفن. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ أيْ: بالبعث ليوم القيامة. وقوله: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا إخبار لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم. وقوله كُلَّها عائد على الآيات التي رآها فرعون، لا أنه رأى كلَّ آية للَّه عز وجل وإنما المعنى: أن اللَّه أراه آيات ما كاليد، والعصا، والطّمْسة، وغير ذلك. وكانت رؤيتُه لهذه الآياتِ مستوعبة يرى الآياتِ كلَّها كاملةً. ومعنى سُوىً أَيْ: عَدْلاً ونصفَه، أي: حالنا فيه مُستَوِيَة. وقالت فرقة: معناه مستوياً من الأرض لا وهْدَ فيه، ولا نشز، فقال موسَى: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وروي أَنَّ يوم الزينة كان عيداً لهم، ويوماً مشهوراً. وقيل: هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم. وقوله: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ عطفاً على الزِّينَةِ فهو في موضع خفض. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي: جمع السحرةَ، وأمرهم بالاِسْتعدَادِ لموسى، فهذا هو كيدُه. ثُمَّ أَتى فرعونُ بجمعه، فقال موسى للسحرة: وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً وهذه مُخَاطَبةُ مُحَذّر «1» ، وندبَهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه، وألّا يباهتوا بكذب فَيُسْحِتَكُمْ أيّ: فيهلككم، ويذهبكم، فلما سمع السَّحَرَةُ هذه المقالةَ، هالهم هذا المنزع، ووقع في نفوسهم من هَيْبتِه شديد الموقع. وفَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ والتنازُعُ يقتضي اختلافا كان بينهم في السرِّ فقائلٌ منهم يقول: هو محقٌّ، وقائل يقول: هو مُبْطل، ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى عليه السلام والنَّجْوى المسارة، أي: كل واحد يناجي مَنْ يليه سِرّاً مخافةً من فرعون أن يتبين له فيهم ضعف.

_ (1) في ج: محذور.

وقالت فرقة: إنما كان تناجِيهم بالآية التي بعد هذا. إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ والكسائيُّ «1» : «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ» فقالت فرقةٌ: قوله: «إِن» بمعنى: نعم كما قال صلى الله عليه وسلّم إن الحمدُ للَّه، برفع الحمد. وقالت فرقةٌ: إنّ هذه القراءةَ على لغةِ بَلْحَارِث بن كعْب، وهي إبقاء ألف التثنية في حال النَّصْبِ، والخِفْضِ، وتعزى هذه اللغة لكِنَانةَ، وتُعْزى لخثْعَم. وقال الزجاج «2» : في الكلام ضميرٌ تقديره: إنه هذان لساحران وقرأ أبو عَمْرو وَحْدَه: «إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ» . [وقرأ ابنُ كثيرٍ: «إنْ هَذَانِّ لسَاحِرَانِّ» بتخفيف إنَّ، وتشديد نون هذان لساحران] . «3» . وقرأ حفصٌ عن عاصِمٍ: «إنْ» بالتخفيف «هَذَانِ» خفيفة أَيْضاً «لَسَاحِرَانِ» . وعبّر كَثيرٌ من المفسرين عن الطريقة بالسادة أهْل العَقْل والحِجَا وحكوا/ أن 11 أالعرب تقول: فلان طريقة قومه، أي: سيدهم، والأظهر في الطريقة هنا أَنها السِّيرة، والمملكة، والحال الّتي كانوا عليها. والْمُثْلى تأنِيث أَمثل، أي: الفاضلة الحسنة. وقرأَ جمهورُ «4» القرَّاء: «فأَجْمِعوا» : بقطْع الهمزة، وكسْرِ الميم على معنى: انفذوا «5» ، واعزموا.

_ (1) ينظر: «السبعة» (419) ، و «الحجة» (5/ 229) ، و «إعراب القراءات» (2/ 36) ، و «معاني القراءات» (2/ 149) ، و «شرح الطيبة» (5/ 44) ، و «العنوان» (129) ، و «حجة القراءات» (454) ، و «شرح شعلة» (492) ، و «إتحاف» (2/ 248- 249) . (2) ينظر: «معاني القرآن» (3/ 361) . (3) سقط في ج. (4) ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 51) ، و «البحر المحيط» (6/ 239) ، و «الدر المصون» (5/ 37) ، و «السبعة» (419، 420) ، و «الحجة» (5/ 232) ، و «إعراب القراءات» (2/ 40) ، و «معاني القراءات» (2/ 151) ، و «شرح الطيبة» (5/ 45) ، و «العنوان» (130) ، و «حجة القراءات» (456) ، و «شرح شعلة» (493) ، و «إتحاف» (2/ 250) . (5) في ج: انفروا.

[سورة طه (20) : الآيات 67 إلى 73]

وقرأ أبو عمرو وَحْدَهُ «فاجمعوا» من جمع، أي: ضموا سِحْركم بعضه إلى بعض. وقوله صَفًّا أي: مصطفين، وتداعوا إلى هذا لأنه أهْيب، وأظهر لهم، وأَفْلَحَ معناه: ظفر بِبُغْيَته، وباقي الآية بيّن مما تقدم. [سورة طه (20) : الآيات 67 الى 73] فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) وقوله: فَأَوْجَسَ عبارة عما يعتري نفسَ الإنسان إذا وقع ظنّه في أمر على شَيْء يسوؤه، وعبّر المفسرون عن أوْجَس بأضْمر وهذه العبارة أعمُّ من الوجيس بكثير. إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب، وروي في قصص هذه الآية: أن فِرْعون (لعنه اللَّه) جلس في عِلّية له طولها ثمانون ذراعاً، والناس تحته في بسيطٍ، وجاء سَبْعُون ألف ساحرٍ، فألْقوا مِنْ حبالهم وعِصِيّهم ما فيه وَقْرُ ثَلاَثِ مائة بعيرٍ، فهال الأمر، ثم إن موسى عليه السلام ألقى عَصَاهُ من يده، فاستحالت ثُعْباناً، وجعلت تَنْمُو حتى روي أنها عبرت النهر بذَنَبِها، وقيل: البحر، وفرعونُ في هذا كلِّه يضحكُ ويرى أن الاسْتواءَ حاصلٌ، ثم أَقبلتْ تأكل الحِبَال والعصِيّ حتى أفْنتها، ثم فَغَرتْ فَاهَا نحو فرعون ففزع عند ذلك واستغاث بموسى، فمد مُوسَى يده إليها، فرجعت عصاً كما كانت، فنظر السحرةُ، وعلموا الحقَّ، ورَأَوْا عدم الحبال والعصِيّ فأَيقَنُوا أَنّ الأمر من الله عز وجل فآمنوا رضي اللَّه عنهم. وقوله سبحانه: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ. قال ص: «في» على بابها، وقِيلَ: بمعنى على. ت: والأول أصْوب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا قوله: أَيُّنَا يريد نَفْسَهُ، وربَّ موسى عليه السلام.

[سورة طه (20) : الآيات 74 إلى 79]

وقال الطَّبَرِيُّ «1» : يريد نفسه، ومُوسى، والأول أذهب مع مخرقة فرعون، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم قال السحرةُ لفرعون: لَنْ نُؤْثِرَكَ أيْ: لن نفضلك، ونفضِّلَ السلامة مِنْك على ما رأينا مِنْ حُجَّة اللَّه تعالى، وآياته، وعليّ الذي فَطَرنا، هذا على قول جماعةٍ: أَنَّ الواو في قوله وَالَّذِي: عاطفة. وقالت فرقةٌ: هي واو القسم، وفَطَرَنا أيْ: خلقنا، واخترعنا، فافعل يا فرعونُ ما شِئْت وإنما قضاؤُك في هذه الحياة الدنيا، والآخرةُ مِنْ وراء ذلك لنا بالنعيم، ولك بالعذاب الأليم. وهؤلاءِ السحرةُ اختلف الناسُ: هل نفذ فيهم وَعِيدُ فرعون، أم لا؟ والأمر في ذلك محتمل. وقولهم: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ردّ لقول فرعون: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى. [سورة طه (20) : الآيات 74 الى 79] إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) وقوله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ... الآية. قالت فرقة: هذه الآيةُ بجملتها مِنْ كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له، والبيان فيما فعلُوه. وقالتْ فرقةٌ: بلْ هي مِنْ كلام الله عز وجل لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم تنبيهاً على قُبْح ما فعل فرعون، وحُسْنِ ما فعل السحرة، وموعظة، وتحذِيراً قد تضمنت القِصّة المذكورة مثاله. وقوله: لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى مختصٌّ بالكافر فإنه مُعَذّب عذاباً ينتهي به إلى الموت، ثم لا يُجْهز عليه فيستريح/، بل يُعاد جلده، ويجدّدُ عذابه. 11 ب وأما مَنْ يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي، فهم قبل أن تخرجهم الشفاعةُ في غمرة

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (8/ 436) .

[سورة طه (20) : الآيات 80 إلى 82]

قد قاربوا الموت، إلا أنّهم لا يُجْهز عليهم، ولا يجددُ عذابهم فهذا فرقُ ما بينهم وبين الكفار، وفي الحديث الصحيح: «أَنَّهُمْ يُمَاتُونَ فِيهَا إمَاتَةً» ، وهذا هو معناها لأنه لا موت في الآخرة: وتَزَكَّى معناه: أطاع اللَّهَ، وأخذَ بأَزْكَى الأُمور. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى هذا استئناف إخبارٍ عن شيء من أمر موسى، وباقي الآية بيِّنٌ، وقد تقدم ذكر ما يخصها من القصص. وقوله تعالى: لاَ تَخافُ دَرَكاً أيْ: من فرعون، وجنودِهِ، وَلا تَخْشى غرقاً من البحر. وقوله: مَا غَشِيَهُمْ إبهام أهول من النصّ وهذا كقوله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى. [النجم: 16] . وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ يريد: من أول أمره إلى هذه النهاية، وَما هَدى مقابل لقوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 29] . [سورة طه (20) : الآيات 80 الى 82] يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وقوله عز وجل: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ ... الآية، ظاهر هذه الآية: أنّ هذا القول قِيل لبني إسرائيل حينئذٍ عند حُلولِ النِّعم التي عددها اللهُ عليهم، ويحتمل أن تكون هذه المقالة خُوطِب بها مُعَاصِرُو النبي صلى الله عليه وسلّم، والمعنى: هذا فِعْلُنا بأسلافكم وتكون الآيةُ على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى، والقصدُ به توبيخُ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفُهم على أداء شكر نعم الله تعالى، والمعنى الأول أظهر وأبْين. وقوله سبحانه: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ... الآية، وقصص هذه الآية: أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل، وغرّق فرعون، وعد بني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى، ويناجيه بما فيه صلاحهم، فلما أخذوا في السير، تعجل موسى عليه السلام ابتغاء مَرضَاةِ ربِّه، حَسْبما يأتِي بعدُ. وقرأ جمهورُ الناس «1» : «فيَحِلّ» بكسر الحاء، «ويَحْلِلْ» بكسر اللام.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 56) ، و «البحر المحيط» (6/ 246) ، و «الدر المصون» (5/ 45) ، و «السبعة» (422) ، و «الحجة» (5/ 242) ، و «إعراب القراءات» (2/ 48) ، و «معاني القراءات» (2/ 156) ، و «شرح

[سورة طه (20) : الآيات 83 إلى 98]

وقرأ الكِسَائِيُّ وَحْدَه بضمهما، ومعنى الأول: فيجب، ويحقّ، ومعنى الثاني: فيقع وينزل، وهَوى معناه: سقط أيْ: هوى في جَهَنَّم، وفي سخط الله- عافانا الله من ذلك-، ثم رجى سبحانه عباده بقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ ... الآية، والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره، وهي توبة مقيدة، وإذا تاب العبد، ثم عَاوَدَ الذنب بعينه بعد مُدّة فيحتمل عند حُذَّاق أهل السنة: أَلاَّ يعيدَ اللهُ تعالى عليه الذنبَ الأول لأن التوبةَ قد كانت محْتهُ، ويُحتمل: أن يعيده لأنها توبةٌ لم يوف بها، واضطرب الناس في قوله سبحانه: ثُمَّ اهْتَدى من حيث وَجَدُوا الهدى ضمن الإيمان والعمل فقالت فرقة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه. وقيلَ: غير هذا، والذي يقوى في معنى: ثُمَّ اهْتَدى أن يكون: ثم حفظ معتقداتِه من أن تخالف الحق في شَيْء من الأَشياء فإن الاهتداءَ على هذا الوجه غيرُ الإيمان، وغيرُ العَمَلِ وَرُبَّ مُؤْمِنٍ عمل صالحاً قد أوبقه عدم الاهْتداء كالقدرية والمُرْجِئة، وسائر أهل البدع، فمعنى: ثُمَّ اهْتَدى: ثم مشى في عقائد الشَّرْعِ على طريقٍ قَوِيم- جعلنا الله منهم بمنه- وفي حِفْظ المعتقَدَاتِ ينحصر معظم أمر الشرع. [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 98] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)

_ الطيبة» (5/ 48) ، و «العنوان» (130) ، و «حجة القراءات» (460) ، و «شرح شعلة» (495) ، و «إتحاف» (2/ 253) .

12 أوقوله سبحانه: / وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى الآيةَ، وقصص هذه الآية: أَن موسى عليه السلام لمَّا شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور حيث كان الموعدُ أن يكلم اللهُ موسى بما لهم فيه شرفُ العاجل والآجل- رأى موسى عليه السلام على جهة الاجْتِهَاد أن يتقدم وحدَهُ مُبادراً لأمر الله سبحانه طلباً لرضائه، وحرصاً على القرب منه، وشوقاً إلى مُناجاته، واستخلف عليهم هارونَ، وقال لهم موسى: تسيرون إلى جانب الطور، فلما انتهى موسى صلى الله عليه وسلّم وناجى ربَّه، زاده اللهُ في الأجل عشراً، وحينئذٍ وقفه على معنى استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر، فيقَعَ الإعلامُ له بما صنعوا، وأعلمه موسى أنه إنما استعجل طلب الرضى، فأعلمه اللهُ سبحانه: أنه قد فتن بني إسرائيل، أي: اختبرهم بما صنع السَّامِرِيّ، ويحتمل أن يريد: ألقيناهم في فتنة، فلما أخبر الله تعالى مُوسَى بما وقع، رجع موسى إلى قومه غَضْبَانَ أَسِفَا، وباقي الآية بيّن، وقد تقدّم قصصها مستوفى وسمّى العذاب غضباً من حيْثُ هو عن الغضب. وقرأ نافعٌ «1» ، وعَاصِمٌ: «بِمَلْكِنَا» بفتح الميم، وقرأ حمزة، والكسائيّ: «بملكنا» بضمة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «بِمِلْكِنَا» بكسرة فأما فتحُ الميم، فهو مصدرٌ من ملك، والمعنى: ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب، ولا وُفِّقْنا له، بل غلبتنا أنفُسُنا. وأَما كسرُ المِيم، فقد كثر استعماله فيما تحوزه اليدُ، ولكنه يستعمل في الأمور الَّتي يُبْرمها الإِنسان، ومعناها كمعنى التي قبلها، والمصدرُ مضافٌ في الوجهين إلى الفاعل. وقولهم: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً ... الآية سموها أوزاراً من حيث هي ثَقِيلة الأجرام، أو من حيثُ تأَثَّموا في قذفها، وقرأ أبو عمرو، وحمزةُ، والكسائيُّ: «حَمَلْنَا» بفتح «2» الحاء، والميم. وقولهم: فَكَذلِكَ أيْ: فكما قذفنا نحن، فكذلك أيضاً ألقى السامري. قال ع «3» : وهذه الألفاظُ تقتضى أنَّ العجل لم يصغه السامريّ، ثم أخبر «4» تعالى

_ (1) ينظر: «السبعة» (422، 423) ، و «الحجة» (5/ 244) ، و «إعراب القراءات» (2/ 49) ، و «معاني القراءات» (2/ 156) ، و «شرح الطيبة» (5/ 49) ، و «العنوان» (130) ، و «شرح شعلة» (496) ، و «إتحاف» (2/ 254) . (2) ينظر: «السبعة» (423) ، و «الحجة» (5/ 246) ، و «إعراب القراءات» (2/ 50) ، و «معاني القراءات» (2/ 157) ، و «شرح شعلة» (49) ، و «العنوان» (130) ، و «شرح شعلة» (496) ، و «إتحاف» (2/ 255) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 59) . (4) في ج: أخبر الله. [.....]

عن فِعْل السامري بقوله: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا ومعنى قوله جَسَداً أَي شخصاً لا رُوحَ فيه، وقيل: معناه جسداً لا يتغذى، «والخُوَارُ» : صوت البقر. قالت فرقةٌ منهم ابن عباس: كان هذا العجلُ يخُورُ ويمشي، وقيل غير هذا «1» . وقوله سبحانه: فَقالُوا يعني: بني إسرائيل: هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ موسى إلهه، وذهب يطلبه في غَيْرِ موضعِه، ويحتمل أن يكون قوله فَنَسِيَ إخباراً من الله تعالى عن السَّامِرِيُّ أي: فنسي السامري دينه، وطريق الحق، فالنِّسْيَانُ في التأوِيل الأول بمعنى الذهُول، وفي الثَّانِي بمعنى الترك. ت: وعلى التّأويل الأول عوَّلَ البخاريُّ «2» : وهو الظَّاهر. ولقولهم أيضاً قبل ذلك: اجْعَلْ لَنا إِلهاً [الأعراف: 138] . وقول هَارُون: فَاتَّبِعُونِي أي: إلى الطور الَّذي واعدكم اللهُ تعالى إليه وَأَطِيعُوا أَمْرِي فيما ذكرتُه لكم فقال بنو إسرائيل حين وَعَظهم هارونُ، وندبَهُم إلى الحق: لَنْ نَبْرَحَ عابدين لهذا الإلَه عَاكِفِين عليه، أي: مُلاَزِمين له. ويحتمل قولُه: أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَيْ: ببني إسرائيل نحو جبل الطور، ويحتمل قولُهُ: أَلَّا تَتَّبِعَنِ أيْ: أَلاّ تسير بسيري، وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد. / وقوله: ابْنَ أُمَ قالت فرقة: إنَّ هَارُونَ لم يكن أَخا موسى إلا من أمه. 12 ب قال ع «3» : وهذا ضَعِيفٌ. وقالتْ فرقةٌ: كان شَقِيقَه وإنما دعاه بالأَم استعطافا برحم الأم، وقول موسى: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ هو كما تقول: ما شأْنُكَ، وما أمرك، لكن لفظةُ الخطب تقتضى انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره، وبَصُرْتُ بضم الصاد: من البصيرة، وقرأتْ فرقةٌ بكسرها «4» ، فيحتمل أن يراد من البصيرة، ويحتمل من البصر.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 59) . (2) ينظر: «البخاري» (8/ 285) كتاب التفسير: باب سورة طه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 60) . (4) قرأ بها أبو السمّال والأعمش مع فتح صاد «يبصروا» . كما في «مختصر الشواذ» ص 92. وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 61) ، و «البحر المحيط» (6/ 254) ، و «الدر المصون» (5/ 49) ، و «التخريجات النحوية» ص 292.

وقرأ حمزة، والكسائيّ «1» : «بما لم تُبْصروا» بالتاء مِنْ فوقُ، يريد مُوسى مع بني إسرائيل، والرسول هنا: هو جِبْرِيلُ عليه السلام والأَثَرُ: هو ترابٌ تحت حافر فرسه. وقوله: فَنَبَذْتُها أَيْ: على الحلي، فكان منها ما ترى، وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي: وكما وقع وحدث قربت لي نفسي، وجعلت «2» لي سُؤْلاً وإرباً حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلاَّ في حدٍّ أو بوحْيٍ، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحَّاه عن الناس، وأمر بني إسرَائيل باجتنابه، واجتناب قبيلته وأَلاَّ يُؤَاكلُوا ولا يُنَاكحوا، ونحو هذا، وجعل له أنْ يقول مدة حياته: لاَ مِسَاسَ، أي: لا مُمَاسَّة، ولا إذاية. وقرأ الجمهور «3» : «لَنْ تُخْلفَهُ» بفتح اللام، أي: لن يقع فيه خلف، وقرأ ابن كَثِير، وأبُو عَمْرِو: «تخلِفه» بكسر اللام، على معنى لن تستطيع الرَّوغَانَ، والحيْدَةَ عن موعد العذاب، ثم وبَّخه عليه السلام بقوله: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ ... الآية، وظَلْتَ وظل معناه: أقام يفعل الشيء نهاراً، ولكنها قد تُستعمل في الدائب ليلاً ونهاراً، بمثابة طَفِقَ. وقرأ ابن عباس «4» وغيرُه: «لَنَحْرُقَنَّهُ» بضم الراء وفتح النون بمعنى لنبردنه بالمبرد، وقرأ نافعٌ وغيره: «لَنُحَرِّقَنَّهُ» وهي قراءةٌ تحتمل الحرق بالنار، وتحتمل بالمبرد. وفي مصحف ابن مَسْعُود «5» : «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه» وهذه القراءةُ هي مع رواية من روى أن العِجْلَ صار لحماً ودماً، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرقٌ بنارٍ، وإلاَّ فإذا كان جماداً مِنْ ذهب ونحوه، فإنما هو حرق بمبرد، اللَّهم إلاَّ أَن تكون إذابة، ويكون النسف مُسْتعاراً، لتفريقه في اليمِّ مذاباً.

_ (1) ينظر: «السبعة» (424) ، و «الحجة» (5/ 249) ، و «إعراب القراءات» (2/ 52) ، و «معاني القراءات» (2/ 158) ، و «شرح الطيبة» (5/ 50) ، و «العنوان» (130) ، و «إتحاف» (2/ 255) . (2) في ج: جعلته. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 62) ، و «البحر المحيط» (6/ 256) ، و «الدر المصون» (5/ 51) ، و «السبعة» (424) ، و «الحجة» (5/ 249) ، و «إعراب القراءات» (2/ 53) ، و «معاني القراءات» (2/ 158) ، و «شرح الطيبة» (5/ 50) ، و «العنوان» (130) ، و «شرح شعلة» (496) ، و «إتحاف» (256) . (4) وقرأ بها علي وعمرو بن فائد. ينظر: «المحتسب» (2/ 58) ، و «الكشاف» (3/ 85) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 62) ، و «البحر المحيط» (6/ 257) ، وزاد نسبتها إلى حميد، وأبي جعفر في رواية. وهي في «الدر» (5/ 52) . (5) وقرأ بها أبي. ينظر: «الكشاف» (3/ 85) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 62) ، و «البحر المحيط» (6/ 257) .

[سورة طه (20) : الآيات 99 إلى 104]

وقرأت فِرْقَةٌ: «لَنَنْسِفَنَّهُ» بكسر السين «1» ، وقرأت فرقةٌ بضمها، والنَّسْفُ: تفريقُ الريح الغبار، وكل ما هو مثله كتفريق الغربال ونحوه، فهو نَسْفٌ، والْيَمِّ: غمرُ الماءِ من بحرٍ أو نَهْرٍ، وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يَمٌّ، واللام في قوله لَنُحَرِّقَنَّهُ لام قسم، وقال مكي (رحمه الله تعالى) : وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في المناجاة، وحينئذٍ وقع أمر العجل، وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك، فكتمه موسى عنهم، وجاء بهم حتى سمعوا لَغَطَ بني إسرائيل حول العجل، فحينَئذٍ أعلمهم. قال ع «2» : وهذه رواية ضعيفةٌ، والجمهورُ على خلافها، وإنما تعجل موسى عليه السلام وحدَهُ فوقع أمر العجل، ثم جاء موسى، وصنع ما صنع بالعجل، ثم خرج بعد ذلك بالسَّبْعِين على معنى الشفاعة في ذَنْب بني إسرائيل، وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة، فكان لموسى عليه السلام نهضتان، والله أعلم. [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وقوله سبحانه: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مخاطبة/ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم أي كما قصصنا 13 أعليك نبأ بني إسرائيل، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق مُدّتك، والذِّكْر: القُرْآن. وقوله: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ يريد بالكُفْر بهِ، وزُرْقاً قالت فرقةٌ معناه: يُحْشرونَ أول قيامهم سودَ الألوَانِ، زُرْقَ العُيونِ، فهو تَشْوِيه، ثم يعمون بعد ذلك، وهي مواطن. وقالت فرقةٌ: أراد زرق الألوان، وهي غايةٌ في التشويه، لأنهم يجيئون كلون الرماد، ومهيع في كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أيْ: يتخافت المجرمون بينهم، أي: يتسارون، والمعنى: أنهم لهول المطلع وشِدّة ذهاب أذهانهم، قد عزب عنهم قَدْر مُدّة لبثهم. واختلف الناسُ فيما ذا، فقالتْ فرقةٌ: في دار الدنيا، ومُدّة العمر، وقالت فرقة: في الأرض مدة البرزخ.

_ (1) أما الكسر فهو قراءة السبعة. وأما ضم السين، فقرأ بها عيسى بن عمر، كما في «مختصر الشواذ» ص 92. وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 62) ، و «البحر المحيط» (6/ 257) ، و «الدر المصون» (5/ 52) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 62) .

[سورة طه (20) : الآيات 105 إلى 110]

وأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً معناه: أثبتهم نفساً يقول: إن لبثتم إلاَّ يوماً، أي: فهم في هذه المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم. [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 110] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وقوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ... الآية، السائلُ: قِيلَ: رجلٌ من ثقيف، وقيل: السائل: جماعةٌ من المؤمنين، ورُوِي: أن الله تعالى يرسل على الجبال رِيحاً، فتدكدكها حتى تكون كالعِهْن المنفوش، ثم تتوالى عليها حتى تُعِيدها كالهَبَاءِ المُنْبَثِّ، فذلك هو النسفُ. والقَاعُ: هو المستوي من الأرض، والصَّفْصَفِ: نحوه في المعنى. والأمَتُ: ما يعترى الأرضَ من ارتفاع وانخفاض. وقولُه: لاَ عِوَجَ لَهُ يحتمل: أن يُرِيدَ الإخبارَ به، أي: لا شَكَّ فيه، ولا يخالف وجوده خبره، ويحتمل: أن يريدَ لا مَحِيدَ لأحدٍ عن اتباع الدَّاعِي، والمشْيِ نحو صَوْته، والخشوعُ: التَّطَامُنُ، والتواضُعُ، وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء. والهَمْسُ: الصَّوْتُ الخفيُّ الخَافِتُ، وهو تخافُتُهم بينهم، وكَلاَمُهم السر، ويحتمل أن يريد صوتَ الأقْدام وفي «البُخَاري» «1» : هَمْساً: صوت الأقدام، انتهى. ومن في قوله إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يحتمل أن تكون للشافع، ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه. [سورة طه (20) : آية 111] وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وقوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ معناه: ذلّت، وخضعت، والعاني: الأسير ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم في أمر النساء: «هن عوان عندكم» وهذه حالةُ النَّاس يومَ القيامة. قال ص: وَعَنَتْ: من عَنَا يَعْنُو: ذَلَّ، وخَضَعَ قال أُمَيَّةُ بن أبي الصلت: [الطويل]

_ (1) ينظر «صحيح البخاري» (8/ 285) كتاب التفسير: باب سورة طه.

[سورة طه (20) : آية 112]

مَلَيكٌ على عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ «1» انتهى. ت: وأحادِيثُ الشفاعة قَدِ استفاضت، وبلغت حَدَّ التواتر، ومن أعظمها شفاعة أرْحم الراحمين سبحانه وتعالى ففي «صحيح مُسْلم» ، من حديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ قال: فيقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: «شَفَعَتِ المَلاَئِكَةُ، وشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَماً، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرِ فِي أَفْوَاهِ الجَنَّةِ» وفيه: «فيخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ، فِي رِقَابِهِمُ الخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ اللهِ الَّذِينَ أدْخَلَهُمُ الجَنَّةِ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمَلُوهُ، وَلاَ خَيرٍ قَدَّمُوهُ ... » «2» / الحديث، وخرج أبو القاسم إسحاقُ بنُ إبراهيم الختلي بسنده عن ابن 13 ب عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذَا فرغ اللهُ تعالى مِنَ القَضَاءِ بين خَلْقِه، أخرج كِتَاباً من تحت العَرْشِ أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، قَالَ: فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مِثْلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلَيْ أَهْلِ الجَنَّةِ، قَالَ: وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ: مِثْلَيْ أَهْلِ الجَنَّةِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ أعْيُنِهِمْ: عُتَقَاءُ اللهِ» . «3» انتهى من «التذكرة» . وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً، معنى خاب: لم ينجَحْ، ولا ظفر بمطلُوبه، والظلمُ يَعمُّ الشِّركَ والمَعاصِي، وخيبةُ كلّ حاملٍ بقدْرِ ما حمل من الظلم. [سورة طه (20) : آية 112] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وقوله سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ معادلٌ لقوله: مَنْ حَمَلَ ظُلْماً والظلم والهُضْمُ: هما متقاربان في المعنى، ولكن من حيثُ تَنَاسقَا في هذه الآية ذهب قومٌ إلى تَخْصِيص كل وَاحِدٍ منهما بمعنًى، فقالوا: الظلم: أن تعظم عليه سيِّئاته، وتكثر أكثر مما يجب. والهَضْمُ: أن ينقص من حَسَناتِهِ، ويبخسها. وكلهم قرأ: «فَلاَ يَخَافُ» على «4» الخبر غيرَ ابن كَثِيرٍ فإنه قرأ: «فلا يخف» على النهي.

_ (1) ينظر: «ديوانه» (29) ، وهو من شواهد «البحر» (3/ 501) ، و «الدر المصون» (2/ 537) ، (5/ 57) . (2) تقدم تخريج هذا الحديث. [.....] (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 6) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. (4) ينظر: «السبعة» (424) ، و «الحجة» (5/ 251) ، و «إعراب القراءات» (2/ 57) ، ولكنه أثبتها بالتاء الفوقية، و «معاني القراءات» (2/ 159) ، و «شرح الطيبة» (5/ 52) ، و «العنوان» (130) ، و «شرح شعلة» (496) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 257) .

[سورة طه (20) : الآيات 113 إلى 114]

[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ بحسب توقع البشر، وترجيهم يَتَّقُونَ اللهَ، ويخشَوْنِ عَقَابه فيؤمِنُون ويتذكَّرونَ نِعَمه عندهم، وما حذَّرهم من ألِيم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله: أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً. وقالت فرقةٌ: معناه أَوْ يُكْسِبُهُمْ شَرَفاً، ويبقى عليهم إيمانهم ذكراً صالحاً في الغابرين. وقوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ... الآية، قالت فرقة: سببها: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يخاف وقْتَ تكليمِ جِبْريلَ له أنْ ينسى أول القرآن، فكان يقرأُ قبل أن يستتم جبريلُ عليه السلام الوحْيَ فنزلت في ذلك، وهي على هذا في معنى قوله: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] . وقيل غير هذا. [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 117] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) وقوله عز وجل: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ... الآية، العهدُ هنا بمعنى الوصِيّة، والشيءُ الّذي عهد إلى آدم عليه السلام هو أَلاَّ يقرَبَ الشجرة. ت: قال عِياضٌ: وأما قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] أي: جهل، فإنّ الله تعالى أخبر بعذره بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قيل: نسي، ولم ينو المخالفة فلذلك قال تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، أيْ: قصداً للمخالفة. ت: وقيل: غير هذا مما لا أرى ذكره هنا، ولِلَّه دَرُّ ابن العَربيّ حيثُ قال «1» : يجبُ تنْزِيه الأنْبياء- عليهم الصلاة والسلام- عما نَسَبَ إليهم الجهالُ. ولكن البَارِي سبحانه بحُكْمه النافذ، وقَضَائِه السابق أسلم آدم إلى الأكل من الشجرة متعمِّداً للأكل، ناسِياً للعهد، فقال في تعمده: وَعَصى آدَمُ وقال في بيان عُذْرهُ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ فَمُتَعَلِّق العهد غيرُ متعلِّق النسيان، وجاز للمولى أن يقول في عبده لحقه: عصى تَثْرِيباً،

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1261) .

[سورة طه (20) : الآيات 118 إلى 119]

ويعودُ عليه بفضله فيقول: نَسِيَ تقريباً، ولا يجوز لأحد مِنّا أن يطلق ذلك على آدمَ، أو يذكره إلاَّ في تلاَوة القرآن أو قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم. انتهى من «الأحكام» . [سورة طه (20) : الآيات 118 الى 119] إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) وقوله سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى المعنى: إنّ لك يا آدمُ في الجنة نعمة تامة، لا يصيبك جوعٌ، ولاَ عُري، ولاَ ظَمأٌ/، ولا بروزٌ للشمس يؤذيك، وهو 14 أالضحاء. [سورة طه (20) : الآيات 120 الى 127] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) وقوله: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ص: عدّي هنا ب «إلى» على معنى أنهى الوسوسة إليه، وفي «الأعراف» باللام، فقال أبو البقاء: لأنه بمعنى ذكر لهما. انتهى. ثم أعلمهم سُبْحانه: أن من اتّبع هُدَاه فلا يضِلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وأنَّ من أعرض عن ذِكْر الله، وكفر به فَإنَّ له معيشةً ضَنْكاً، و «الضَّنْك» : النكدُ الشاقّ من العيش والمنازل، ونحو ذلك. وهل هذه المعيشةُ الضنك تكون في الدنيا، أو في البَرْزَخ، أو في الآخرة؟ أقوال. ت: ويُحْتَمَلُ في الجميع، قال القرطبي: قال أبو سعيد الخُدْرِيّ، وابن مسعودٍ: ضَنْكاً: عذاب القبر» ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أتَدْرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنك؟ قالوا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: عَذَابُ الكَافِرِ فِي الْقَبْرِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّيناً- وَهِيَ الحَيَّاتُ- لكُلِّ حَيَّةٍ تِسْعَةُ رُؤُوسٍ، ينفخن في جسمه، ويلسعنه

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 472) رقم (24424) ، وذكره البغوي (3/ 235) ، والسيوطي (4/ 557) ، وعزاه لابن أبي شيبة، والبيهقي عن ابن مسعود.

[سورة طه (20) : الآيات 128 إلى 133]

وَيَخْدِشْنَهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ويُحْشَرُ مِنْ قَبْرِهِ إلى مَوْقِفِهِ أعمى» «1» . انتهى من «التذكرة» فَإنْ صَحَّ هذا الحديث، فلا نظرَ لأحد معه، وإن لم يصحَّ، فالصوابُ حملُ الآية على عُمُومها والله أعلم. قال الثَّعْلَبِيُّ: قال ابن عباس: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال: أَجار اللهُ تعالى تابعَ القرآن من أن يضل في الدنيا، أو يشقى في الآخرة «2» . وفي لفظ آخر: «ضمن اللهُ تعالى لمن قرأَ القرآن ... » الحديث، وعنه: مَنْ قرأَ القرآن واتَّبع ما فيه، هَدَاهُ الله تعالى مِنَ الضَّلاَلَةِ ووقاه اللهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ سُوءَ الحِسَابِ. انتهى. وقولُه سبحانه: «ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أعمى» قالت فرقةٌ: وهو عَمَى البَصَر، وهذا هو الأوْجه، وأما عمى البَصِيرة، فهو حاصل للكافر. وقوله سبحانه: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها النسيان هنا: هو التركُ، ولا مَدْخَلَ للذهول في هذا الموضع، وتُنْسى أيضا بمعنى: تترك في العذاب. [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 133] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وقوله سبحانه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ المعنى: أفلم «3» يبين لهم.

_ (1) أخرجه أبو يعلى (11/ 521- 522) رقم (6644) ، وابن حبان (872- موارد) ، والطبريّ في «تفسيره» (16/ 228) من حديث أبي هريرة. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 58) : رواه أبو يعلى، وفيه دراج، وحديثه حسن، واختلف فيه. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 557) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في «ذكر الموت» ، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) أخرجه الطبريّ (8/ 469) برقم (24400) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 235) ، وابن كثير (3/ 168) ، والسيوطي (4/ 556) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في «شعب الإيمان» من طريق عن ابن عباس. (3) في ج: أو لم.

وقرأت «1» فرقةٌ: «نَهْدِ» بالنون، والمراد بالقرونِ المهلَكِين: عَادٌ، وثَمُودٌ، والطَّوائِفُ التي كانت قريشٌ تجوزُ على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره، ثم أعلم سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلّم أن العذابَ كان يصير لهم لِزَاماً لولا كلمة سبقَتْ من الله تعالى في تَأْخيره عنهم إلى أجلٍ مُسَمًّى عنده، فتقدير الكلام. ولولاَ كلمةٌ سبقت في التَّأْخِير، وأجلٍ مسمى، لكَانَ العذابُ لِزَاماً كما تقولُ لَكَانَ حَتْماً، أو واقعاً، لكنّه قدم وأَخّر لتشابه رُؤُوس الآي. واختُلِف في الأجل المسمى: هل هو يوم القيامة، أو موت كل واحد منهم، أو يوم بدْرٍ؟ وفي «صحيح البخاري» : «2» أن يوم بَدْرٍ هو: اللزام، وهو: البَطْشَةُ الكبرى، يعني: وقع في البخاري من تفسير ابن مسعود، وليس هو من تفسير النبي صلى الله عليه وسلّم. قال ص: ولِزاماً: إمَّا مصدرٌ، وإمَّا بمعنى ملزم، وأجاز أبو البقاء: أنْ يكون جمع لاَزِم، كَقَائِمٍ وقيام. انتهى. ثم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم بالصّبْر على أقوالهم: إنه ساحرٌ، إنه كاهن، إنه كاذب «3» إلَى غير ذلك. وقوله سبحانه: / وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... الآية، قال أكثرُ المفسرين: هذه إشارة 14 ب إلى الصلوات الخمس فقبل طلوع الشمس صلاةُ الصبح، وقبل غُرُوْبَها صَلاةُ العَصْر، ومن آناءِ الليل العِشَاءُ، وأطرافُ النهار المغرِبُ والظهر. [قال ابن العربي «4» : والصحيحُ أنَّ المغربَ من طَرَفِ الليل، لاَ مِنْ طرف النَّهَارِ. انتهى من «الأحكام» ] «5» . وقالت فرقةٌ: آناء الليل: المغرب والعشاء، وأطراف النهار: الظهر وحدها، ويحتمل اللفظ أن يراد به قول: سبحان الله وبحمده.

_ (1) وهي قراءة ابن عباس والسلمي. كما في «الجامع لأحكام القرآن» (11/ 172) . ينظر: «الكشاف» (3/ 96) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 69) ، و «البحر المحيط» (6/ 267) ، و «الدر المصون» (5/ 63) . (2) ينظر «صحيح البخاري» (8/ 355) كتاب التفسير: باب فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً رقم (4767) . (3) في ج: كذاب. (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1263) . (5) سقط في ج.

وقالت فرقةٌ: في الآية: إشارةٌ إلى نوافل، فمنها آناء الليل، ومنها قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر. ت: ويتعذر على هذا التأويل قولُه: وَقَبْلَ غُرُوبِها إذْ لَيْس ذلك الوقْتُ وقْتَ نفل «1» ، على ما علم إلاَّ أنَّ يتأول ما قبل الغروب بما قبل صلاة العصر وفيه بعد. قال ص: بِحَمْدِ رَبِّكَ في موضع الحال، أي: وأنت حامدٌ. انتهى. وقرأ الجمهور «2» : لَعَلَّكَ تَرْضى بِفَتْح التاء، أي: لعلك تُثَابُ على هذه الأعمال بما ترضى به. قال ابنُ العربي في «أحكامه» «3» : وهذه الآية تُماثِلُ قولَهُ تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] . وعنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ فإنِ استطعتم أَلاَّ تُغْلَبُوا «4» على صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَعْنِي: الصُّبْحَ، وقَبْلَ غُرُوبَهِا فافعلوا» «5» . وفي الحديث الصحيح أيضاً: «منْ صَلَّى البَرْدَيْنِ، دَخَلَ الجَنَّةَ» «6» . انتهى. وقرأَ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم «7» : «ترضى» أي: لعلك تُعْطى ما يرضيك، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلّم: بالاحتقار لشأن الكفرة، والإعراض عن أموالهم، وما في أيْديهم من الدنيا إذ ذلك مُنْحَسِرٌ عنهم صائر إلى خِزْي، والأزواج: الأنواع، فكأنه قال: إلَى ما متعنا به أقواماً منهم، وأصنافا.

_ (1) سقط في ج. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 70) ، و «البحر المحيط» (6/ 269) . [.....] (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1263) . (4) في ج: لا تغموا. (5) تقدم تخريجه. (6) أخرجه البخاري (2/ 52) كتاب مواقيت الصلاة: باب فضل صلاة الفجر، حديث (574) ومسلم (1/ 440) كتاب المساجد: باب فضل صلاة الصبح والعصر، حديث (215/ 635) ، وأحمد (4/ 80) ، والدارمي (1/ 331، 332) ، وابن حبان (1739) ، والبيهقي (1/ 466) ، والبغوي في «شرح السنة» (2/ 39- بتحقيقنا) . (7) ينظر: «السبعة» (425) ، و «الحجة» (5/ 252) ، و «إعراب القراءات» (2/ 57) ، و «معاني القراءات» (2/ 160) ، و «شرح الطيبة» (5/ 53) ، و «العنوان» (130) ، و «شرح شعلة» (497) ، و «إتحاف» (2/ 259) .

وقوله: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا شبَّه سبحانه نِعَم هؤلاء الكفار بالزهر، وهو ما اصفر من النّوْر، وقيل: الزهر: النورُ جملةً لأن الزهر له منظر، ثم يضمحل عن قرب، فكذلك مآل هؤلاء، ثم أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلّم: أن ذلك إنما هو ليختبرهم به، ويجعله فِتْنةً لهم وأمراً يجازون عليه أسوأ الجزَاءِ لفساد تقلبهم فيه. ص: وزَهْرَةَ: منصوبٌ على الذمِّ، أو مفعولٌ ثانٍ ل: مَتَّعْنا مضمن معنى أعطينا. اهـ. ورزق الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده، خير وأبقى، أيْ: رزق الدنيا خيرٌ ورزق الآخرة أبقى، وبين أنه خير من رزق الدنيا، ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يأمر أهله بالصلاة، ويمتثلها معهم ويَصْطَبِر عليها ويلازمها، وتكفَّل هو تعالى برزْقِهِ لا إله إلاَّ هو، وأخبره أن العَاقِبَةَ للمتقِينَ بنصره في الدنيا، ورحمته في الآخرة، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم ويدخل في عُمُوْمِهِ: جميعُ أمته. ورُوِيَ: أنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه كان إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم، بادر إلَى منزله، فدخله وهو يقول: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... الآية إلى قوله وَأَبْقى ثم يُنَادِي: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ رَحِمَكُمُ اللهُ، ويصلي «1» . وكان عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ رضي الله عنه يوقِظُ أهل داره لصلاة اللّيل ويصلّي هو ويتمثّل بالآية «2» . قال الداوديّ: وعن عَبْدِ اللهُ بْنِ سَلاَمٍ، قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم إذا نزل بأهله ضِيقٌ أوْ شِدَّةٌ أمرهم بالصَّلاَةِ، ثم قرأَ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ إلى قوله لِلتَّقْوى «3» . انتهى. قال ابن عطاء اللَّه في «التنوير» : واعلم أنَّ هذه الآية علمت أهل الفَهْم عن اللَّه تعالى كَيْفَ يطلبون/ رزقَهُم، فإذَا توقفت عليهم أسباب المعيشة، أكثروا من الخدمة والموافقة، 15 أوقرعوا بابَ الرِّزْقِ بمعاملة الرزَّاق- جل وعلا- ثم قال: وسمعت شيخنا أبا العبّاس

_ (1) أخرجه الطبريّ (8/ 480) رقم (24459) ، وذكره ابن عطية (4/ 71) ، وابن كثير (3/ 171) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 71) ، وابن كثير (3/ 171) نحوه، والسيوطي (4/ 561) ، وعزاه لمالك، والبيهقي عن أسلم عن عمر. (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 561) ، وعزاه إلى أبي عبيد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، والطبراني في «الأوسط» ، وأبي نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن عبد الله بن سلام.

[سورة طه (20) : الآيات 134 إلى 135]

المُرْسِي رضي اللَّه عنه يقول: واللَّه مَا رَأَيْتَ العزَّ إلاَّ في رفع الهِمّة عن الخلق، واذكر رحمك اللَّه هنا: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] . ففي العز الذي أَعزّ اللَّه به المؤمن رفْعُ همته إلى مولاه، وثقتُه به دُونَ مَنْ سِوَاهُ، واستحي من اللَّه بعد أن كساك حُلّة الإيمان، وزينك بزينة العِرْفان أن تستولي عليك الغفلة والنسيان حتى تميل إلى الأكوان «1» ، أو تطلب من غيره تعالى وجود إحسان، ثم قال: ورفع الهِمَّة عن الخلْقِ: هو ميزانُ ذوي الكمال ومِسْبار الرجال، كما توزن الذَّواتُ كذلك توزن الأحوالُ والصِّفَاتُ. انتهى. ومن كتاب «صفوة التصوف» لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ حَدِيثٌ «2» بسنده عن ابن عمر قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم رَجَلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدَّثْنِي حَدِيثاً، واجعله موجزا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «صَلَّ صَلاَةَ مُوَدَّع، كَأَنَكَ تَرَاهُ، فَإنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ، فَإنَّهُ يُرَاكَ، وَايَأَس مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، تَعْشِ غَنِيّاً، وإِيَّاكَ وَمَا يُعَتَذَّرُ مِنْهُ» ورواه أبو أيوب الأنصاري بمثله عن النبي صلى الله عليه وسلّم «3» إنتهى. وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا محمدٌ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أي: بعلامة مما اقترحناها عليه، ثم وبخهم سبحانه بقوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى أَيْ: [ما في] «4» التوراة، وغيرها، ففيها أعظم شاهد، وأكبر آية له سبحانه. [سورة طه (20) : الآيات 134 الى 135] وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل إرسالنا إليهم محمداً، لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا ... الآية، وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يَحْتَجُّ عَلَى اللَّه تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب

_ (1) في ج: الأخوان. (2) في ج: حدث. (3) أخرجه البيهقي في «الزهد» (528) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (952) ، وابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (1/ 108) من حديث ابن عمر. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 232) ، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه من لم أعرفهم. (4) سقط في ج.

على عَقْلِهِ، والصَّبِيُّ الصَّغيرُ. فيقُولُ المَغْلُوبُ على عَقْلِهِ: رَبِّ، لَمْ تَجْعَلْ لِيَ عَقْلاً، ويَقَولُ الصَّبِيُّ نَحْوَهُ، ويَقُولُ الهَالِكُ فِي الفَتْرَةِ. رَبِّ، لَمْ يُرْسِلْ إِلَيَّ رَسَولاً، وَلَوْ جَاءَنِي، لَكُنْتُ أَطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ، قَالَ: فَتَرْتَفِعُ لَهُمْ نَارٌ، وَيَقَالُ لَهُمُ: رُدُوهَا، فَيَرِدُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّهُ سَعِيدٌ وَيَكَعُ عَنْهَا الشَّقِيُّ، فَيَقُولُ اللَّه تعالى: إيَّايَ عَصَيْتُمْ فَكَيْفَ بِرْسُلِي لَوْ أَتَتْكُمْ» «1» . قال (ع) «2» : أما الصبيُّ، والمغلوبُ على عقله، فبَيّن أمرهما، وأما صاحبُ الفَترة، فليس ككفّار قريش قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم، لأن كفار قريش، وغيرهم مِمَّنْ علم وسمع نبوّة ورسالة في أقطار الأرضِ، ليسٍ بصاحب فترةٍ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم لرجل: «أبي وأبوك في النّار» ورأى صلى الله عليه وسلّم، عمرو بن لحيّ في النار «3» وإلى غير هذا مِمَّا يطوُلَ ذِكْرهِ، وإنما صاحبُ الفترة يفرض أنه آدميٌّ لم يطرأ إليه أن اللَّه تعالى بعث رَسُولاً، ولاَ دَعا إلى دِينٍ، وهذا قليلُ الوجود إلاّ أن يشذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران. ت: والصحيح في هذا الباب: «أَنَّ أوْلادَ المُشْرِكينَ في الجَنَّةِ، وأمَّا أَوَلاَدُ المُسْلِمِينَ فَفِي الجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ» متفق عليه. وقد أَسند أَبو عُمَرَ في «التمهيد» «4» من طريق أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «سألتُ رَبِّي في اللاَّهين مِنْ ذًرِّيَّةِ البَشَرِ ألاَّ يُعَذَّبَهُمْ فَأَعْطانِيهِمْ» «5» . قال أبو عمر: إنّما قيل للأطفال:

_ (1) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (8/ 481) رقم (24466) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 71- 72) . [.....] (3) أخرجه ابن إسحاق (1/ 78- 79) «تهذيب سيرة ابن هشام» ، ومن طريقه الطبريّ (5/ 89) (12831) عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي، أن أبا صالح السمان حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول ... فذكره، وأخرجه الحاكم (4/ 605) عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا به وصححه، ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث أبي بن كعب، رواه أحمد (5/ 138) ، والحاكم (4/ 605) وصححه، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد (3/ 352- 353) عن جابر. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 91) : رواه أحمد، وروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلّم بمثله. وفي الإسنادين عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه ضعف، وقد وثق. (4) ينظر: «التمهيد» (18/ 117) ، وينظر: «الاستذكار له» (8/ 401- 402) . (5) أخرجه أبو يعلى (6/ 267) رقم (3570) . وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 222) : رواه أبو يعلى من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن المتوكل، وهو ثقة.

الَّلاهُوَنَ «1» لأن أعمالهم كاللهو، واللعب من غير عقد، ولا عَزْم، ثم أسند أبو عمر، 15 ب/ عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ خَدَمُ أَهْلِ الجَنَّةِ» «2» . قال أبو عمر «3» ، وروى شُعْبةِ، وسعيد بن أبي عروبة، وأبو عَوَانة، عن قتادة، عن أَبي سراية العجلي، عن سَلْمَان قال: أَطْفَالُ المُشْرِكِينَ خَدَمُ أَهْلِ الجَنَّةِ» . وذكرِ البخاري حَدِيثَ الرؤيا الطويل، وفيه: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ، فَإنَّهُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام وأمَّا الوِلْدَانُ حَوْلَهُ، فَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولدُ عَلَى الفِطْرَةِ، قَالَ: فقيل: يَا رَسُولَ اللَّه، وأَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وأَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ» ، وفي رواية: «والصبيان حَوْلَهُ أَوْلاَدُ النَّاسِ» وظاهره العمومُ في جميع أولاد الناس. انتهى [من التمهيد] «4» والذُّلُّ، والخِزْيُ مقترنان بعذاب الآخرة. وقوله: قُلْ كُلٌّ أَيْ: مِنَّا ومنكم مُتَرَبِّصٌ والتربصُ: التأَنِّي، والصِّراطُ: الطريق، وهذا وَعِيدٌ بَيِّنٌ والله الموفّق، والهادي إلى الرشاد بفضله.

_ (1) في ج: اللاهين. (2) أخرجه الطيالسي (2/ 235- منحة) رقم (2822) ، وأبو يعلى (7/ 131) رقم (4090) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 308) ، وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 222) : رواه أبو يعلى، والبزار، والطبراني في «الأوسط» إلا أنهما قالا: أطفال المشركين، وفي إسناد أبي يعلى يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، وقال فيه ابن معين: رجل صدق. ووثقه ابن عدي، وبقية رجالهما رجال الصحيح. والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 151) ، وعزاه للطبراني عن أنس، وسعيد بن منصور عن سلمان موقوفا، وللبخاري في «تاريخه الأوسط» عن سمرة مرفوعا. (3) ينظر «التمهيد» (18/ 116- 118) و «الاستذكار» (8/ 402) . (4) سقط في ج.

تفسير سورة الأنبياء

تفسير سورة الأنبياء مكية بإجماع بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما [سورة الأنبياء (21) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) قوله عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ... الآية: رُوي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، كان يبني جِدَاراً، فمر به آخرُ يومَ نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدارَ: ماذا نزل اليوَم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل اليومَ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فنفض يديه من البُنْيان، وقال: واللَّهِ لا بَنَيْتُ. قال أبو بكر بنُ العربي: قال لي شَيُخِي: في العبادة لا يذهب لك الزمان في مُصَاولةِ الأقران ومُوَاصلة الإِخَوان، ولم أرَ للخلاص شيئاً أقرب من طريقين: إمَّا أن يغلق الإنسان على نفسه بابه، وإما أن يخرج إلى مَوْضِعٍ لا يُعرفُ فيه، فإن اضطر إلى مخالطة الناس، فَلْيَكُنّ معهم ببدنه، ويفارقهم بقلبه ولسانه، فإنْ لم يستطِعْ، فبقلبه، ولا يفارق السكوتَ. قال القُرْطُبِيَّ: ولأَبي سليمان الخَطَابِيّ في هذا المعنى: [الوافر] أَنِسْتُ بِوَحْدَتِي وَلَزِمْتُ بَيْتِي ... فَدَامَ الأُنْسُ لِي وَنَمَا السُّرُورُ وأَدَّبَنَي الزَّمَانُ فَلاَ أُبَالِي ... بِأَنِّي لا أُزَارُ وَلاَ أَزَوُرُ وَلَسْتُ بِسَائِلٍ مَا دُمْتُ حَيًّا ... أَسَارَ الْجَيْشُ أَمْ رَكِبَ الأَمِيرُ انتهى من «التذكرة» . وقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ عام في جميع الناس، وإن كان المشارُ إليه في ذلك الوقت كفار قريش ويدل على ذلك ما يأتي بعدُ من الآيات. قال ص: اقترب: بمعني الفعل المجرّد وهو قَرُبَ، وقيل: اقترب أبلغ للزيادة وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ الواو للحال، انتهى. وقوله: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يريدُ: الكفار، ويأخَذ عصاة المؤمنينَ من هذه الألفاظ قسطهم.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 2 إلى 5]

ت: أَيَّها الأَخُ أَشْعرِ قلبك مَهَابَةَ رَبِّك، فإليه مآلك وتأهب للقدوم عليه فقد أنَ ارتحالك أنت في سكرة لذاتِك وغشية شهواتكِ وإغماء غفلاتِك ومِقْراضُ/ الفناء يعمل في ثوب حياتك ويفصل أجزاء عمرك جُزْءاً جزءاً في سائر ساعاتك كل نفس من أنفاسك جزءٌ منفصل من جملة ذاتك وبذهاب الأجزاء تذهبُ الجمل، أنت جملة تؤخذ، آحادها وأبعاضها، إلى أن تستوفي سائرها عساكر الأقضية، والأقدار مُحْدقة بأسوار الإعمار تهدمُها بمعاول الليل والنهار فلو أضاء لنا مِصْباحُ الاعتبار لم يبقَ لنا في جَمِيع أوقاتنا سكونٌ ولاَ قَرار. انتهى من «الكلم الفارقية والحكم الحقيقة» . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 2 الى 5] ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) وقوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ وما بعده مختصٌ بالكُفَّارِ، والذكر: القرآن، ومعناه محدث نزوله، لا هو في نفسه. وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ جملة في موضع الحال، أيْ: استماعهم في حال لعب فهو غير نافع، ولا وَاصِلٍ إلى النفس. وقوله لاهِيَةً حال بعد حال، واختلف النحاةُ في إعراب قوله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فمذهبُ سيبويه «1» (رحمه الله تعالى) : أن الضمير في أَسَرُّوا: فاعل، وأن الَّذِينَ بدل مِنْه، وقال: ليس في القرآن لغةُ مَنْ قال: أكلوُنِي البَرَاغِيثُ «2» ، ومعنى: أَسَرُّوا النَّجْوَى تكلَّمُوا بينهم في السرِّ، ومُنَاجَاتِ بعضهم لبعض.

_ (1) ينظر «الكتاب» (2/ 41) . (2) الواو علامة جمع الفاعل، كما يلحق الفعل تاء التأنيث ليدلّ على تأنيث الفاعل، ك «قامت هند» ، وهذه اللغة جارية في المثنى وجمع الإناث أيضا فيقال: قاما أخواك، وقمن أخواتك» كقوله: ............. ... وقد أسلماه مبعد وحميم وقوله: ولكن ديافيّ أبوه وأمّه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه واستدلّ بعضهم بقوله عليه السلام: «يتعاقبون فيكم ملائكة» ، ويعبّر النحاة عن هذه اللغة بلغة «أكلوني البراغيث» ، ولكنّ الأفصح ألّا تلحق الفعل علامة، وفرّق النحويون بين لحاقه علامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع بأنّ علامة التأنيث ألزم لأن التأنيث في ذات الفاعل بخلاف التثنية والجمع فإنه غير لازم. ينظر: «الدر المصون» (2/ 580- 581) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 إلى 7]

وقال أبو عبيدة «1» : أسَرُّوا: أظْهرُوا، وهو مِنَ الأضدَادِ، ثم بيَّن تعالى الأمر الذي تَنَاجوا به، وهو قولُ بعضهم لبعض على جهة التَّوبِيخ بزعمهم: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ المعنى: أفَتَتَّبِعُون السحر وأنتم تبصرون، ثم أمر اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم، أن يقول لهم وللناس جميعاً: قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أيْ: يعلم أقوالكم هذه، وهو بالمرصاد في المَجَازاةِ عليها، ثُمَّ عَدَّد سبحانه جَمِيعَ ما قَالتْهُ طوائِفُهم ووقع الآضرابُ بكُلِّ مقالة عن المتقدمة لها ليبيّن اضطرابَ أمرهم فقال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ والأَضْغَاثُ: الأَخْلاطُ، ثم حكى سبحانه اقتراحهم، آيةً تضطرهم كناقة صالح وغيرها، وقولهم: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دَالٌّ على معرفتهم بإتيان الرُّسُلِ الأَمَمَ المتقدمة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 الى 7] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وقوله سبحانه: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ فيه محذوفٌ يَدُلُّ عليه المعنى تقديره: والآيةُ التي طلبوها عَادَتُنَا أَنَّ القومَ إنْ كفروا بها عَاجَلْنَاهُم، وما آمنت قبلهم قَرْيَةٌ من القُرَى التي نزلتْ بها هذه النازِلَةُ، أفهذه كانت تؤمن؟. وقوله: أَهْلَكْناها جملة في موضع الصِّفَةِ ل قَرْيَةٍ والجُمَلُ: إذا اتَّبَعَتِ النَّكِرَاتِ فهي صفاتٌ لها، وإذا اتبعت المعارف فهي أحوالٌ منها. وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ هذه الآية رَدُّ على مَنِ استبعد منهم أَنْ يبعث الله بشرا رسولا والذِّكْرِ هو كُلُّ ما يأتي من تذكير اللَّه عِبادَهُ، فأهل القرآن أَهْلُ ذكر، وأَمَّا المُحَالُ على سؤالهم في هذه الآية فلا يَصِحُّ أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خُصُومَهُم، وإنما أَحيلوا على سؤالِ أحبارِ أهْلِ الكتابِ من حيثُ كانوا موافقين لكفّار قريش على ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 8 الى 12] وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12)

_ (1) ينظر: «مجاز القرآن» (2/ 34) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 13 إلى 16]

وقوله سبحانه: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعامَ قيل: الجَسَدُ من الأحياءِ: ما لا يَتَغَذَّى، وقيل: الجسد يَعُمُّ المُتَغَذَّي من الأجسامِ وغيرَ المتغذي ف جَعَلْناهُمْ جَسَداً على التَّأَوِيلِ الأَول: مَنْفِيٌّ، وعلى الثاني: مُوجِبٌ، والنفيُ واقعٌ على صِفَتِهِ. وقوله سبحانه: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ الآية، هذه آية وعيدٍ. وقوله: وَمَنْ نَشاءُ يعني من المؤمنين، والْمُسْرِفِينَ: الكُفَّارُ، ثم وَبَّخَهُمْ تعالى بقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً/ يعني: القرآن، فِيهِ ذِكْرُكُمْ، أي: شرفكم، آخر 16 ب الدَّهْر، وفي هذا تحريضٌ لهم، ثم أَكَّدَ التحريض بقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ وكَمْ للتكثير، وقَصَمْنا معناه: أهلكنا، وأَصْلُ القصم: الكَسْرُ في الأَجْرَامَ، فَإذا اسْتُعِيرَ للقوم والقرية ونَحْوِ ذلك فهو ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم، وأَنْشَأْنا، أي: خلقنا وبثثنا أَمَّةً أُخْرَى غَيْرَ المُهْلَكَةِ. وقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا وَصْفٌ عن حالِ قريةٍ من القُرَى المُجْمَلَةِ أَوَّلاً قيل: كانت بالْيَمَنِ تُسَمَّى «حضور» ، بَعَثَ اللَّه تعالى إلى أَهْلِها رسولاً فقتلوه، فَأَرْسَلَ اللَّه تعالى عليهم بختنصر صَاحِبَ بني إسرائيل فَهَزَمُوا جَيْشَهُ مرتين، فَنَهَضَ في الثالثة بنفسِهِ، فلما هزمهم، وأَخَذَ القَتْلَ فيهمَ رَكَضُوا هاربين، ويُحتَملُ أنْ لا يريدُ بالآية قريةً بعينها، وأَنَّ هذا وَصْفُ حالِ كُلِّ قريةٍ من القرى المُعَذَّبَة إذا أَحَسُّوا العذابَ من أي نوع كان «1» ، أخذوا في الفرار وأَحَسُّوا باشروه بالحواسِّ. ص: إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ «إذا» الفجائية، وهي وما بعدها جواب لما. انتهى. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 13 الى 16] لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) وقوله: لاَ تَرْكُضُوا يُحْتَمُلُ على الرواية المُتَقَدِّمَةِ أَنْ يكونَ من قول رجالِ بُخْتَنَصَّرَ على جِهَةِ الخداعِ والاستهزاءِ بهم، فلما انصرفوا راجعينَ أَمَرَ بُخْتَنَصَّرُ أَنْ يُنَادَي فيهم: يا ثارات النّبيّ المقتول «2» ، فقتلوا بالسّيف عن آخرهم.

_ (1) في ج: أكانوا. (2) في ج: المفتول.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 17 إلى 20]

قال ع «1» : وهذا كُلَّهُ مَرْوِيٌّ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ: لاَ تَرْكُضُوا إلى آخر الآية. مِنْ كلامِ ملائِكَةِ العذابِ على جِهَةِ الهُزْءِ بِهم. وقوله: حَصِيداً أي: بالعذاب كحصيدِ الزَّرْعِ بالمِنْجَلِ، وخامِدِينَ أي: موتى مُشَبَّهينَ بالنارِ إذا طفئت، ثم وَعَظَ سبحانه السَّامِعِينَ بقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 17 الى 20] لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) وقوله سبحانه: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً الآية: ظاهِرُ الآية: الرَّدُّ على مَنْ قال من الكُفَّارِ في أَمْرِ مريمَ- عليها السلام-، وما ضَارَعَهُ من الكُفْرِ تعالى الله عن قَوْلِ المُبْطِلِينَ و «إن» في قوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ شرطيةً، ويحتمل أَنْ تكونَ نافِيَةً بمعنى: ما كُنَّا فاعلين، وكُلُّ هذا قد قيل، و «الحَقَّ» عام في القرآن والرسالة والشَّرْعِ، وكُلِّ ما هو حَقًّ، فَيَدْمَغُهُ معناه: يُصِيبُ دِمَاغَهُ، وذلك مُهْلِكٌ في البشر فكذلك الحقّ يهلك الباطل، والْوَيْلُ: الخِزْيُ. وقيل: هو اسمُ وادٍ في جَهَنَّمَ، وَأَنه المُرَاد في هذه الآية، وهذه مُخَاطَبَةٌ للكفّار الذين وصفوا الله عز وجل بما لا يجوزُ عليه تعالى اللَّه عن قولهم. وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ ... الآية: عند هنا ليست في المسافات، وإنما هي تشريفٌ في المنزلة. وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي: لا يكلون، والحسير من الإبل: المعِييُ. وقوله: لاَ يَفْتُرُونَ وفي «الترمذي» عن أبي ذَرِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلاَّ وَمَلُكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً للَّهِ» «2» الحديث. قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، وفي الباب عن عَائِشَةَ، وابنِ عَبَّاسٍ، وأَنَسٍ، انتهى من أصل الترمذي، أعني: «جامعه» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 76) . (2) تقدم تخريج حديث الأطيط. [.....]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 إلى 26]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 26] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) وقوله سبحانه: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، أي: يُحْيُونَ غَيْرَهُمُ، ثم بيَّنَ تعالى أَمْرَ التمانُعِ بقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وقد تَقَدَّمَ إيضاحُ ذلك عند قوله تعالى: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: 42] . 17 أ/ وقوله: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يُحْتَمَلُ أَنْ يريدَ بالإشارة بقوله: هذا إلى جميعِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثهَا- أَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ اللَّه الخالِقَ وَاحِدٌ لا شريكَ له، ويحتمل أَنْ يريدَ بقوله: هذا القرآنَ والمعنى: فيه نَبأ الأَوَّلِينَ والآخرينَ فَنَصَّ أخبارَ الأَولين، وذَكَرَ الغُيُوبَ في أُمُورِهِمْ، حسبما هي في الكتب المُتَقَدِّمَةِ، وَذكَرَ الآخرين بالدعوة، وبيانِ الشرع لهم، ثم حَكَمَ عليهم سبحانه بأَنَّ أَكْثرهم لا يعلمون الحقَّ، لإعراضهم عنه، وليس المعنى: فهم معرضون لأنَّهُم لا يعلمون بلِ المعنى: فهم معرضون، ولذلك لا يعلمون الحَقَّ، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم بَيَّنَ سبحانه نوعاً آخرَ من كُفْرِهِم بقوله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الآية كقول بعضهم: اتَّخَذَ المَلاَئِكَةَ بناتاً، وكما قالتِ النَّصَارَى في عيسى ابن مريم، واليهود في عزيز. وقوله سبحانه: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ عبارةٌ تَشْمَلُ الملائِكَةَ وعيسى وعزير. وقال ص: بل إِضْرَابٌ عن نسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وعِبادٌ خبرُ مبتدإِ محذوف، أي: هم عباد. قاله أبو البقاء انتهى. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 27 الى 33] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وقوله سبحانه: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ عبارةٌ عن حُسْن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 إلى 35]

الأمر، ثم أَخْبَرَ تعالى: أَنَّهُم لا يشفعون إلاَّ لِمَنِ ارتضى اللَّه أَنْ يشْفَعَ له، قال بعضُ المفسرين: لأَهْلِ لا إله إلاّ اللَّه، والمُشْفِقُ: المُبَالِغُ في الخوفِ، المُحْتَرِقُ النَّفْسِ من الفَزَع على أَمْرٍ ما. وقوله سبحانه: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ ... الآية، المعنى: وَمَنْ يَقُلْ منهم كذا أَنْ لو قاله، وليس منهم مَنْ قال هذا، وقال بَعْضُ المفسرين: المراد بقوله: وَمَنْ يَقُلْ ... الآية: إبْلِيسُ، وهذا ضعيفٌ لأَنَّ إبَلِيسِ لم يُرْوَ قَطَّ أَنَّهُ ادَّعَى الرُّبِوبِيَّة، ثم وَقَفَهُمْ سبحانه على عِبْرَةٍ دَالَّةٍ على وَحْدَانِيَّتِهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، فقال: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً والرَّتْقُ: المُلْتَصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، الذي لا صَدْعَ فيه ولا فَتْحَ، ومنه: امرأةً رتْقَاءُ، واخْتُلِفِ في معنى قوله: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما فقالت فِرْقَةٌ: كانت السماءُ ملتصقة بالأرض ففتقهما اللهُ بالهواء، وقالت فرقةٌ: كانت السمواتُ ملتصقةً بَعْضَهَا ببعضٍ، والأرضُ كذلك ففتقهما الله سبعاً سبعاً فعلى هذين القولين فالرُّؤيَةُ الموقَفِ عليها رؤيةُ قلبٍ، وقالت فرقةٌ: السماءُ قبل المَطَرَ رَتْقٌ، والأَرضُ قبل النباتِ رَتْقٌ ففتقهما الله تعالى بالمَطَرِ والنَّبَاتِ كما قال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 11، 12] . وهذا قولٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ العِبْرَةَ وتعديدَ النعمةِ والحُجَّةِ بِمحسوسٍ بَيِّنٍ، ويُنَاسِبُ قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: من الماءِ الذي كان عَن الفَتْقِ، فَيَظْهَرُ معنى الآية، ويتوجَّهُ الاعتبارُ بها، وقالت فرقة: السماءُ والأَرْضُ رَتْقٌ بالظُّلْمَةِ ففتقهما الله بالضَّوْءِ والرُّؤْيَةِ على هذين القولين رُؤْيَةُ العَيْنِ، وباقي الآية بَيِّنٌ. قال ص: قال الزَّجَّاجُ: السمواتُ جَمْعٌ أُرِيدَ به الواحد ولذا قال: كانَتا رَتْقاً. وقال الحُوفِيُّ: «قال: كانَتا- والسمواتُ جَمْعٌ-: لأَنَّهُ أرادَ الصنفين» انتهى. وقوله: سَقْفاً مَحْفُوظاً الحِفْظُ هنا عامٌّ في الحِفْظِ من الشيطان، ومن الوهي والسُّقُوطِ، وغير ذلك من الآفاتِ، والفَلَكُ: الجسمُ الدّائر دورة اليوم والليلة/. 17 ب ويَسْبَحُونَ معناه: يَتَصَرَّفُونَ، وقالت فرقة: الفَلَكُ مَوْجٌ مكفوفٌ، قوله: يَسْبَحُونَ من السباحة وهي: العوم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 35] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وقوله عزَّ وجل: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ... الآية، وتقديرُ الكلام:

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 إلى 38]

أَفَهُمُ الخالدون، إنْ مِتَّ؟! وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ... الآية: موعظةٌ «1» بليغةٌ لِمَنْ وُفِّقَ قال أَبو نُعَيْم: كان الثَّوْرِيُّ (رضي الله عنه) إذَا ذَكَرَ الموتَ لا يُنْتَفَعُ به أَيَّاماً» . انتهى. من «التذكرة» «2» للقرطبيِّ. قال عبدُ الحقِّ في «العاقبة» : وقد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم بذكر الموتِ، وأَعَادَ القولَ فيه تهويلاً لأَمرهِ، وتعظيماً لشأْنِهِ، ثم قال: واعلم أَنّ كثرةَ ذِكْرِ الموت يُرْدِعُ عن المعاصي، ويلين القلب القاسي. قال الحسن: ما رأيت عاقلا قطُّ إلا وجدته حَذِراً من الموت، حزيناً من أَجْلِهِ، ثم قال: واعلم: أَنَّ طُولَ الأَمَلِ يكسل عن العمل، ويُورِثُ التواني، ويخلد إلى الأرض، ويُمِيلُ إلى الهوى، وهذا أَمرٌ قد شُوهِدَ بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يُطَالَبُ صَاحِبُهُ بالبرهان كما أَنَّ قِصَرَهُ يبعث على العَمَلِ، وَيَحْمِلُ على المُبَادَرَةِ، ويَحُثُّ على المسابقة قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «أنا النَّذِيرُ، والمَوْتُ المُغِيرُ، والسَّاعَةَ المَوْعِدُ» «3» ذكره القاضي أبو الحسن بنُ صَخْرٍ في الفوائد. انتهى. وَنَبْلُوكُمْ معناه: نختبركم، وقدّم بِالشَّرِّ على لَفْظَةِ الْخَيْرِ لأَنَّ العَرَبَ من عادتها أن تقدّم الأقلّ والأردى ومنه قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] . فبدأ تعالى في تقسيم أمّة سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم بالظالم «4» . وفِتْنَةً معناه: امتحانا. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 38] وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) وقوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا: كأبي جَهْلٍ وغيرِهِ، «وإن» بمعنى: «ما» ، وفي الكلام حَذْفٌ تقديره: يقولون: أهذا الذي؟

_ (1) في ج: هو عظة. (2) ينظر: «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» للقرطبي (1/ 23) . (3) أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 387) ، والحديث ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (4/ 459) . وقال: أخرجه ابن أبي الدنيا في «قصر الأمل» ، وأبو القاسم البغوي بإسناد فيه لين. (4) في ج: بالمظالم.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 39 إلى 50]

وقال ص: «إنْ» : نافية، والظاهِرُ أَنَّها وما دَخَلَتْ عليه جَوَابُ إذَا، انتهى. قوله سبحانه: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ رُوِيَ: أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ أنكروا هذه اللَّفْظَةَ، وقالوا: ما نعرفُ الرحمن إلاَّ في اليمامة، وظاهِرُ الكلامِ: أَنَّ الرَّحْمنِ قُصِدَ به العبارة عنِ الله عز وجل، وَوَصَفَ سبحانه الإنسانَ الذي هو اسمُ جنسٍ بأَنه خُلِقَ من عَجَلٍ، وهذا على جهة المُبَالَغَةِ كما تقول للرجل البطال: أَنْتَ من لعب ولهو. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 39 الى 50] لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وقوله سبحانه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ ... الآية: حُذِفَ جوابُ «لو» إيجازاً لدلالة الكلامِ عليه، وتقديرُ المحذوف: لما استعجلوا، ونحوه، وذَكَرَ الوجوهَ لشرفها من الإنسانِ، ثم ذَكَرَ الظهورَ ليُبَيِّنَ عُمُومَ النَّارِ لجميع أَبْدَانِهِمْ، والضميرُ في قوله: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً: للسَّاعَةِ التي تُصَيِّرُهُم إلى العذاب، ويحتمل أن يكون للنار، ويُنْظَرُونَ معناه: يؤخّرون، وفَحاقَ معناه: حلّ ونزل، ويَكْلَؤُكُمْ، أي: يَحْفَظُكُمْ. وقوله سبحانه: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ يحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أحدهما: يجارون ويمنعون. والآخر: ولا هم مِنَّا يُصْحَبُون بخيرٍ وتَزْكِيَةٍ ونحو هذا. وقوله سبحانه: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ... الآية نَأْتِي الْأَرْضَ معناه: بالقُدْرَة، ونقصُّ الأَرْض: إمَّا أنْ يُرِيدَ بتخريبِ المعمور، وإمَّا بموتِ البَشَرِ.

وقال قوم: النَّقْصُ من الأَطْرَاف: موتُ العلماءِ، ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلّم متوعّدا 18 ألهؤلاء/ الكَفَرَةِ بقوله: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ ... الآية، والنَّفْحَةُ: الخَطْرَةُ والمَسَّةُ، والمعنى: ولئن مَسَّتْهُمْ صَدْمَةَ عذابٍ لَيَنْدَمُنَّ، ولَيُقِرُّنَّ بظلمهم، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقال الثعلبي: نَفْحَةٌ، أي: طَرَفٌ قاله ابن عباسٌ «1» ، انتهى. وقوله سبحانه: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قال أبو حيان «2» : اللام للظرفية بمعنى «في» انتهى. قال القرطبي «3» في «تذكرته» : قال العلماء: إذا انقضى الحسابُ كان بعدَه وَزْنُ الأَعمالِ لأَنَّ الوَزْنَ للجزاءِ، فينبغي أَنْ يكونَ بعد المُحَاسبَةِ، واخْتُلِفَ في الميزانِ والحَوْضِ: أَيُّهُمَا قَبْلَ الآخرِ، قال أبو الحسن القابسيُّ: والصحيحُ أَنَّ الحوضَ قبل الميزانِ، وذهب صاحِبُ «القوت» وغيره إلى: أنّ حوض النبي صلى الله عليه وسلّم إنما هو بَعْدَ الصِّرَاط. قال القرطبي «4» : والصحيح: «أنّ للنبي صلى الله عليه وسلّم حَوْضَيْنِ، وكلاهما يُسَمَّى كَوْثَراً، وأَنَّ الحَوْضَ الذي يذاد عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ، يكونُ في المَوْقِفِ قبل الصراط، وكذا حِيَاضُ الأنبياءِ- عليهم الصلاة والسلام- تكونُ في الموقف على ما وَرَدَ في ذلك من الأخبار» «5» انتهى. والفُرْقَانُ الذي أُوتي موسى وهارونُ قيل: التوراةُ، وهي الضِّيَاءُ والذّكر.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 294) . (2) في هذه اللام أوجه: - أحدها: قال الزمخشري مثلها في قولك: جئت لخمس خلون من الشهر، ومنه قول النابغة: [الطويل] توهّمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع والثاني: أنّها بمعنى في وإليه ذهب ابن قتيبة وابن مالك وهو رأي الكوفيين ومنه عندهم لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، ولقول مسكين الدارمي: [الطويل] أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ... كما مضى من قبل عاد وتبّع وكقول الآخر: [الطويل] وكلّ أب وابن وإن عمرا معا ... مقيمين مفقود لوقت وفاقد والثالث: أنّها على بابها من التعليل ولكن على حذف مضاف أي لحساب يوم القيامة. ينظر: «الدر المصون» (5/ 89- 90) وينظر: «الكشاف» (2/ 574) ، و «البحر» (6/ 316) . (3) ينظر: «التذكرة» (2/ 417) . (4) ينظر: القرطبي (1/ 406- 407) . (5) أخرجه مسلم (4/ 1799) كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلّم حديث (37/ 2301) ، وأحمد (5/ 280) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 56]

وقالت فرقة: الفُرقَان: هو ما رَزَقَهُمَا اللَّهُ تعالى من نَصْرٍ وظُهُورٍ على فرعونَ وغيرِ ذلك، والضِّيَاءُ: التوراةُ، والذِّكْرُ: بمعنى التذكرة. وقولُه سبحانه: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ يعني: القرآن، ثم وَقَفَهُم سبحانه تقريراً وتوبيخاً: هل يَصِحُّ لهم إنكارُ بَرَكَتِهِ وما فيه من الدعاءِ إلى الله تعالى وإلى صالح العمل؟ [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 56] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ ... الآية. الرُّشْدُ عامٌّ، أي: في جميع المَرَاشِدِ وأنواعِ الخيراتِ. وقال الثعلبيُّ: رُشْدَهُ، أي: توفيقَه، وقيل: صَلاَحَهُ، انتهى. وقوله: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ: مَدْحٌ لإبراهيمَ عليه السلام، أي: عالمين بما هَلَّ له وهذا نحو قولِهِ تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] والتماثيل: الأصنام. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 57 الى 58] وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) وقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ ... الآية. رُوِيَ: أَنَّهُ حَضَرَهُم عِيدٌ لهم، فعزم قومٌ منهم على إبراهيمَ في حُضُورِهِ طمعاً منهم أَنْ يَسْتَحْسِنَ شيئاً من أحوالهم، فَمَشَى معهم، فلما كان في الطريق ثَنَى عَزْمَه على التَّخَلُّفِ عنهم، فقعد، وقال لهم: إني سقيم، فَمرَّ به جُمْهُورهُم، ثم قال في خلوةٍ من نفسه: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَسَمِعَهُ قومٌ من ضَعَفَتِهِم مِمَّنْ كان يسيرُ في آخِرِ الناس. وقوله: بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ معناه: إلى عِيدِكُمْ، ثم انصرف إبراهيمُ عليه السلام إلَى بيت أصنامِهِم فدخله، ومعه قدُومٌ، فوجد الأَصنامَ قد وُقِّفَتْ، أكْبَرُهَا أَوَّلٌ، ثم الذي يليه فالذي يليه، وقد جعلوا أَطْعِمَتَهُم في ذلك اليوم بين يدي الأَصنام تبركاً لينصرفوا من ذلك العيد إلى أَكْلِهِ، فجعل- عليه السلامُ- يقَطِّعُهَا بتلك القدومِ، ويُهَشمُهَا حتى أَفسد أَشكالها، حاشا الكبيرَ فإنَّهُ تَرَكَهُ بحالِهِ وعَلَّقَ القدومَ في يده، وخرج عنها، وجُذاذاً:

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 إلى 63]

معناه: قطَعاً صِغَاراً، والجَذُّ: القَطْعُ، والضميرُ في إِلَيْهِ أَظْهَرُ ما فيه أَنَّهُ عائِدٌ على إبراهيم، أي: فَعَلَ هذا كُلّهُ ترجِّياً منه أَنْ يَعْقُبَ ذلك منهم رَجْعَةٌ إليه وإلى شرعه، ويحتمل أن يعود على كبيرهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 63] قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) وقوله سبحانه: قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا ... الآية. المعنى: فانصرفوا من عيدهم فرأوا 18 ب ما حَدَثَ بآلهتهم، ف قالُوا: مَنْ/ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟ وقالُوا الثاني: الضميرُ فيه للقوم الضَّعَفَةِ الذين سَمِعُوا قولَ إبراهيمَ: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ. وقوله: عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ يريدُ في الحَفْلِ، وبِمَحْضَرِ الجمهور، وقوله: يَشْهَدُونَ: يحتَمِلُ أَنْ يريدَ: الشهادَةَ عليه بفعله، أو بقوله: لَأَكِيدَنَّ، ويحتمل أنْ يريدَ به: المُشَاهَدَةَ، أي: يشاهدون عُقُوبَتَهُ أو غلبته المُؤَدِّيَةَ إلَى عُقُوبَتِهِ، وقوله عليه السلام: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا على معنى الاحتجاجِ عليهم، أَي: إنَّهُ غَارَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ هو وَتُعْبَدَ الصِّغَارُ معه، ففعل هذا بها لذلك وفي الحديث الصحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليه السلام إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ: قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] ، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وقوله لِلْمَلِكِ: هِيَ أُخْتِي. وكانت مقالاتُه هذه في ذات اللَّه، وذهبت فرقة إلى أَنَّ معنى الحديث: لم يكذب إبراهيم، أي: لم يقل كلاماً ظاهره الكذب أو يشبه الكذبُ، وذهب الفَرَّاءُ إلى جهة أخرى في التأويل بأَنْ قال: قوله: فَعَلَهُ ليس من الفعل، وإنما هو فعله على جهة التوقع، حُذِفَ اللامُ على قولهم: عَلَّه بمعنى: لَعَلَّهُ، ثم خُفِّفَتِ اللام. قال ع «1» : وهذا تكلف. قلت: قال عياض: واعلم، (أكرمك اللَّه) أَنَّ هذه الكلماتِ كلها خارجة عن الكذب، لا في القصد ولا في غيره، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، فأَمَّا قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فإنه عَلَّقَ خبره بشرط النطق، كأَنه قال: إنْ كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه. انتهى.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 87) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 64 إلى 70]

ثم ذكر بقية التوجيه وهو واضح لا نطيل بسرده. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 64 الى 70] فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وقوله سبحانه: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، أي: في توقيف هذا الرجل على هذا الفعلِ وأَنتم معكم من تسألون ثم رأوا ببديهة العقل أنَّ الأصنام لا تنطق، فقالوا لإبراهيمَ حين نكسوا في حيرتهم: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، فوجد إبراهيمُ عليه السلام عند هذه المقالة موضعَ الحُجَّةِ ووقفهم موبّخا لهم بقوله: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً ... الآية. ثم حَقَّرَ شأنهم وشأنها بقوله: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية. ص «1» : وقولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ: جواب قَسَمٍ محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال، أي: قائلين، لقد علمت. انتهى. وقال الثعلبي: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي: تفكروا بعقولهم فقالوا: ما نراه إلاَّ كما قال، إنكُم أنتم الظالمون في عبادتكم الأَصنامَ الصغارَ مع هذا الكبير. اهـ. وما قدمناه عن ع «2» هو الأوجه وأُفٍّ لفظة تُقال عند المُسْتَقْذَرَاتِ من الأَشياءِ، ويُسْتَعَارُ ذلك للمُسْتَقْبَح من المعاني، ثم أخذتهم العِزَّةُ بالإثم وانصرفوا إلى طريق الغلبة والغشم، فقالوا: حَرِّقُوهُ رُوِيَ: أَنَّ قائل هذه المقالة هو رجل من الأَكْرَادِ من أعرابِ فارس، أي: من باديتها، فَخَسَفَ اللَّه به الأَرض، فهو يتجلجلُ فيها إلى يومِ القيامة، وروي: أَنه لما أجمع رأيهم على تحريقه حَبَسَهُ نمرودُ الملك (لعنه الله) وأمر بجمع

_ (1) [هذه الجملة جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمولان لقول مضمر وذلك القول المضمر حال من مرفوع نكسوا أي نكسوا قائلين والله لقد علمت قوله: «ما هؤلاء ينطقون» يجوز أن تكون ما هذه مجازية فتكون هؤلاء اسمها وينطقون في محل نصب خبرها أو تميمية فلا علم لها والجملة المنفية بأسرها سادة مسد المفعولين إن كانت «علمت» على بابها ومسد واحد إن كانت عرفانية] . ينظر: «الدر المصون» (5/ 98) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 88) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 إلى 76]

الحَطَبِ حتى اجتمع منه ما شاءَ اللَّه، ثم أضرم نارا فلما أرادوا طرحَ إِبراهيمَ فيها لم يقدروا على القرب منها، فجاءهم إبليسُ في صورة شيخ فقال لهم: أنا أصنع لكم آلةً يُلْقَى بها، فَعَلَّمَهُمْ صنعة المِنْجَنِيقِ، ثم أُخْرِجَ إبراهيمُ عليه السلام فشد رباطاً، ووُضِعَ في كفَّةِ المنجنيق، ورُمِيَ به، فتلقَّاهُ جبريلُ- عليه السلام- في الهواءِ فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأَمَّا إلى اللَّه فبلى. قلت: قال ابنُ عطاء اللَّه في «التنوير» : وكنْ أَيُّها الأَخْ إبراهيميّاً إذْ زُجَّ به في المنجنيق، فتعرَّض له جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي، فبلى، قال: فَاسْأَلْهُ. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فانظرْ كيف رفع هِمَّتَهُ عن الخلق، ووجَّهَهَا إلى الملك الحقِّ، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال، بل رأى رَبَّهُ تعالى أقربَ إليه من جبريل ومن سؤاله فلذلك سَلَّمَهُ من نمرودَ ونكَالِهِ، وأنعم عليه بنواله وأفضاله. انتهى. وقوله سبحانه: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً قال بعض العلماء فيما روي: إنَّ اللَّه تعالى لو لم يقلْ: وَسَلاماً لهلك إبراهيمُ من برد النارِ، ورُوِيَ أَنَّه لما وقع في النار سَلَّمَهُ اللَّه، واحترق الحبل الذي رُبِطَ به، وقد أَكثر الناس في قصصه فاختصرناه لعدم صِحَّة أكثره، وروي: أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام كان له بسط وطعام في تلك النارِ كُلُّ ذلك من الجنة، وروي: أَنَّ العيدانَ أينعت وأثمرت له هناك ثمارَها، ورُوِيَ: أنهم قالوا: إنَّ هذه نار مسحورة، لا تحرق، فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق، واللَّه أعلم بما كان من ذلك. قلت: قال صاحب «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظم» وهو من الأئمة المحدثين، وعن الإمام أَحمدَ بنِ حَنبلَ رحمه اللَّه: إنه يُكْتَبُ للمَحْمُومِ ويُعَلَّقُ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا الله يا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ، اللهم ربَّ جبريل وميكائيل اشْفِ حاملها بحولك وقوتك وجبروتك يا أرحمَ الراحمين. انتهى. وقوله: وَسَلاماً معناه: وسلامةً، و «الكيد» : هو ما أرادوه من حرقه. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 76] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 77 إلى 84]

وقوله سبحانه: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً ... الآية. رُوِيَ أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام لما خرج من النار أحضره نمرودُ، وقال له في بعض قوله: يا إبراهيمُ، أين جنودُ ربِّك الذي تَزْعُمُ؟ فقال له عليه السلام: سيريك فِعْلَ أضعفِ جنوده، فبعث اللَّه تعالى على نمرودَ وأصحابه سحابةً من بعوضٍ فأكلتهم عن آخرهم ودوابَّهُم حتى كانتِ العظام تلوح بيضاءَ، ودخلت منها بعوضةٌ في رأس نمرودَ، فكان رأسه يُضْرَبُ بالعيدانِ وغيرِها، ثم هلك منها، وخرج إبراهيمُ وابن أخيه لوط- عليهما السلام- من تلك الأرضِ مهاجرين، وهي «كُوثى» من العراق، ومع إبراهيمَ بنتُ عَمِّهِ، سارَةُ زوجتُه، وفي تلك السفرة لَقِيَ الجبارَ الذي رام أخذها منه، واخْتُلِفَ في الإرض التي بُورِكَ فيها ونحا إليها إبراهيم ولوط- عليهما السلام-، فقالت فرقة: هي مَكَّةُ، وقال الجمهور: هي الشام، فنزل إبراهيم بالسبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتكفة، «والنافلة» : العطيَّةُ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وخبائِثُ قرية لوط هي إتيانُ الذكور، وتَضَارُطُهُمْ في مجالسهم، إلى غير ذلك من قبيح أفعالهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 77 الى 84] وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وقوله سبحانه في نوح- عليه السلام-: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ ... الآية، لما كان جُلُّ نُصْرَتِهِ النجاةَ، وكانت غلبة قومه بأَمر أجنبيٍّ منه- حَسُنَ أنْ يقول: «نصرناه من» ، ولا تتمكن هنا «على» . قال ص: عُدِّي «نصرناه» ب «مِنْ» لتضمنه معنى: نجينا، وعصمنا، ومنعنا. وقال أبو عبيدة: «مِنْ» بمعنى «على» .

قلت: وهذا أولى، وأَمَّا الأول ففيه نظر لأَنَّ تلك الأَلفاظَ المُقَدِّمَةَ كلها غير مرادفة ل «نصرنا» ، انتهى. قلت: وكذا يظهر من كلام ابن هشام: ترجيحُ الثاني، وذِكْرُ هؤلاء الأنبياء- عليهم السلام- ضَرْبُ مَثَلٍ لقصة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلّم مع قومه، ونجاةُ الأنبياء، وهلاكُ مكذبيهم ضمنها تَوَعُّدٌ لِكُفَّارِ قريش. وقوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ المعنى: واذكر داود وسليمان، هكذا قَدَّرَهُ جماعة من المفسرين، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المعنى: وآتينا داود، و «النفش» : هو الرعي ليلاً، ومضى الحكم في الإسلام بتضمين أربابِ النعم ما أفسدت بالليل لأنَّ على أهلها أَنْ يثقفوها، وعلى أهل الزروع حفظها بالنهار، هذا هو مُقْتَضَى الحديث في ناقة ابن عازب، وهو مذهب مالك وجمهور الأُمَّةِ، وفي كتاب ابن سحنون: إن الحديث إنَّما جاء في أمثالِ المدينة التي هي حيطان محدقة، وأمَّا البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة فيضمن أربابُ النَّعَمِ ما أفسدتْ بالليل والنهار. قال ص: والضمير في قوله: لِحُكْمِهِمْ يعودُ على الحاكمين والمحكوم له وعليه أبو البقاء. وقيل: الضمير لداودَ وسليمانَ- عليهما السلام- فقط، وجُمِعَ لأَنَّ الاثنين جمع. انتهى. قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» : المواشي على قسمين: ضوار «2» ، وغير ضوار، وهكذا قَسَّمَهَا مالك، فالضواري: هي المعتادة بأكل الزرع والثمار، فقال مالك: تُغَرَّبُ وتُبَاعُ في بلد لا زرعَ فيه، ورواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن حبيب: وإنْ كَرِهَ ذلك أربابُها، وكان قول مالك في الدَّابَّةِ التي ضربت بفساد الزرع أَنْ تُغَرِّبَ وتُبَاعَ، وأَمَّا ما يُسْتَطَاعُ الاحتراز منه فلا يُؤْمَرُ صاحبه بإخراجه عن ملكه، وهذا بَيِّنٌ. انتهى. وقوله: يُسَبِّحْنَ، أي: يقلن: سبحان اللَّه هذا قول الأكثر، وذهبت فرقة منهم

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1270) . (2) الضرو من السباع: ما ضري بالصيد ولهج بالفرائس. ينظر: «لسان العرب» (2583) . [.....]

منذرُ بن سعيد إلى أنه بمعنى: يُصَلِّينَ معه بصلاته، واللبوس في اللغة: هو السلاح، فمنه الدرع وغيره. قال ص: ولَبُوسٍ معناه: مَلْبُوسٌ كالرُّكُوب بمعنى المَرْكُوب قال الشاعر [الطويل] . عَلَيْهَا أَسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُم ... سَوَابِعُ بِيضٌ لاَ تُخَرِّقُهَا النَّبْلُ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، أي: وسخرنا لسليمانَ الريحَ، هذا على قراءة [النصب] «1» وقرأت «2» فرقة «الريحُ» بالرفع، ويروى أَنَّ الريح العاصفة كانت تهبُّ على سرير سليمانَ الذي فيه بساطه، وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صَنَعَ سريراً يَحْمِلُ جميع عسكره وأقواته، فتقله من الأرض في الهواء، ثم تتولاه الريح الرُّخَاءُ بعد ذلك فتحمله إلى حيث أراد سليمان. قال ص: والعَصْفُ: الشِّدَّةُ، والرُّخَاءُ: اللين. انتهى. وقوله تعالى: إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها اخْتُلِفَ فيها، فقالت فرقة: هي الشام، وكانت مسكنَه وموضعَ ملكه، وقد قال بعضهم: إنَّ العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدَّوابِّ في الإسراع إلى الوطن، وإنَّ الرُّخَاء كانت في البدأة حيث أصاب، أي: حيث يقصد لأَنَّ ذلك وقت تأنٍ/ وتدبير وتقلُّبِ رأي، ويحتمل: أنْ يريد الأَرض التي يسير 19 أإليها سليمان كائنةً ما كانت، وذلك أَنَّهُ لم يكن يسير إلى أَرض إلاَّ أصلحها اللَّه تعالى به صلى الله عليه وسلّم، ولا بركةَ أَعظَمُ من هذا، والغوصُ: الدخول في الماء والأرض، والعمل دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوها، وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ قيل: معناه: مِنْ إفسادهم ما صنعوه، وقيل: غير هذا. قلت: وقوله سبحانه: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ هذا الاسم المُبَارَكُ مناسب لحال أَيُّوبَ عليه السلام، وقد روى أسامة بن زيد (رضي اللَّه عنه) أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ لِلَّهِ تعالى مَلَكاً مُوَكَّلاً بِمَنْ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينٍ، فَمَنْ قَالَهَا ثَلاَثاً، قال له الملك: إنّ

_ (1) سقط في ج. (2) وقد قرأ بها الأعرج، وأبو بكر عن عاصم. ينظر: «مختصر الشواذ» (95) ، و «الكشاف» (3/ 130) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 93) ، و «البحر المحيط» (6/ 308) ، و «الدر المصون» (5/ 103) .

أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ فَاسْأَلْ» «1» رواه الحاكم في «المَسْتَدْرَكِ» ، وعن أنس بن مالك (رضي اللَّه عنه) قال: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: سَلْ فَقَدْ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْكَ» «2» رواه الحاكم، انتهى من «السلاح» . وفي قصص أيوبَ عليه السلام طُولٌ واختلاف، وتلخيصُ بعض ذلك: أَنَّ أيوبَ عليه السلام أصابه اللَّه تعالى بأكلة في بدنه، فلما عَظُمَتْ، وتقطَّع بدنه، أخرجه الناس من بينهم، ولم يبقَ معه غيرُ زوجته، ويقال: كانت بنتَ يوسفَ الصديق عليه السلام قيل: اسمها رحمة، وقيل في أيوب: إنَّه من بني إسرائيل وقيل: إنه من «الروم» من قرية «عيصو» ، فكانت زوجته تسعى عليه، وتأْتيه بما يأكل، وتقوم عليه، ودامَ عليه ضُرُّهُ مدَّة طويلة، وروي أَنَّ أيوب (عليه السلام) لم يزل صابراً شاكراً، لا يدعو في كشف ما به، حتى إنَّ الدودة تسقط منه فيردها، فمرَّ به قوم كانوا يعادونه فشمتوا به فحينئذٍ دعا رَبَّهُ سبحانه فاستجاب له، وكانت امرأته غائبةً عنه في بعض شأنها، فأنبع اللَّه تعالى له عيناً، وأُمِرَ بالشرب منها فبرىء باطنه، وأُمِرَ بالاغتسال فبرىء ظاهره، ورُدَّ إلى أفضل جماله، وأوتي بأحسن ثياب، وهبَّ عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحتفن منه في ثوبه، فناداه ربه سبحانه وتعالى: «يا أيوب ألمْ أكنْ أغنيتك عن هذا؟ فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك» فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته، فلم تره في الموضع، فجزعت وَظَنَّتْ أَنَّهُ أزيل عنه، فجعلت تتولَّهُ رضي اللَّه عنها، فقال لها: ما شَأْنُكِ أيتها المرأة؟ فهابته لحسن هيئته، وقالت: إنِّي فقدت مريضاً «3» لي في هذا الموضع، ومعالم المكانِ قد تغيرت، وتأملته في أثناءِ المقاولة «4» فرأت أيوبَ، فقالت له: أنت أيوبُ؟ فقال لها: نعم، واعتنقها، وبكى، فَرُوِيَ أنه لم يُفَارِقْهَا حَتَّى أراه اللَّه جميعَ مالِهِ حاضراً بين يديه. واختلف الناس في أهله وولده الذين آتاه اللَّه، فقيل: كان ذلك كله في الدنيا فَرَدَّ اللَّه عليه ولده بأعيانهم، وجعل مثلهم له عدة في الآخرة، وقيل: بل أُوتي جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال. ت: وقد قَدَّمَ ع «5» في صدر القصة: إن اللَّه سبحانه أَذِنَ لإبليس (لعنه الله)

_ (1) أخرجه الحاكم (1/ 544) من طريق كامل بن طلحة عن فضال بن جبير عن أبي أمامة مرفوعا، وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: فضال ليس بشيء. (2) أخرجه الحاكم (1/ 544) من حديث أنس بن مالك، وقال الذهبي: لم يصح هذا. (3) في ج: كان لي. (4) في ج: المقالة. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 94) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 إلى 88]

في إهلاك مال أيوبَ، وفي إهلاك بنيه وقرابته، ففعل ذلك أجمع، واللَّه أعلم بصحة ذلك، ولو صَحَّ لوجب تأويله. وقوله سبحانه: وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ، أي: وتذكرة وموعظة للمؤمنين، ولا يعبد الله إلّا مؤمن. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 88] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وقوله سبحانه: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ المعنى: واذكر إسماعيلَ، وقوله سبحانه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً التقدير واذكر ذا النون، قال السُّهَيْلِيُّ: لما ذكر اللَّه تعالى يُونُسَ هنا في معرض الثناء، قال: وَذَا النُّونِ، وقال في الآية الأخرى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 48] / والمعنى واحدٌ، ولكن بين اللفظين تفاوتٌ كثير في حسن 19 ب الإشارة إلى الحالتين، وتنزيلُ الكلام في الموضعين والإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب لأنَّ قولك «1» : ذو يضاف بها إلى التابع، وصاحبُ يُضَافُ بها إلى المتبوع. انتهى. والنون: الحوتُ، والصاحب: يونس بن متى- عليه السلام- وهو نبيٌّ من أهل نَيْنَوَى. وقوله: مُغاضِباً قيل: إنَّهُ غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وَتَعَنُّتُهُمْ، فذهب فارّاً بنفسه، وقد كان اللَّه تعالى أمره بملازمتهم والصبرِ على دعائهم، فكان ذلك ذَنْبَه، أي: في خروجه عن قومه بغير إذن ربه. قال عِيَاض: والصحيح في قوله تعالى: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أَنَّهُ مُغَاضِبٌ لقومه لكفرهم، وهو قول ابن عباس، والضَّحَّاكِ «2» وغيرهما، لا لربه إذْ مغاضبة اللَّه تعالى معاداة له، ومعاداةُ اللَّه كفر لا يليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام-؟! وفرار

_ (1) في ج: قوله وذا. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 73) برقم (24749) عن ابن عباس، (24750) عن الضحاك، وذكره السيوطي (4/ 597) وعزاه للبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس، وعزاه أيضا لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك.

يونس عليه السلام خشيةَ تكذيب قومه بما وعدهم به من العذاب. وقوله سبحانه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ معناه: أَنْ لن نضيق عليه، وقيل: معناه: نقدر عليه ما أصابه، وقد قُرِىء «نقَدِّرَ» عليه بالتشديد «1» ، وذلك، كما قيل لحسن ظَنِّهِ بربه: أَنه لا يقضى عليه بعقوبة، وقال عياض في موضع آخر: وليس في قصة يونس عليه السلام نَصٌّ على ذنب، وإنما فيها أَبَقَ وذهب مغاضباً، وقد تكلمنا عليه، وقيل: إنما نقم الله- تعالى- عليه خروجه عن قومه، فارّا من نزول العذاب. وقيل: بل لَمَّا وعدهم العذابَ، ثم عفا اللَّه عنهم، قال: واللَّهِ لا ألقاهم بوجه كذَّابٍ أبداً، وهذا كله ليس فيه نَصٌّ على معصية. انتهى. وقوله سبحانه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. قالت فرقة: معناه: أن لن نضيق عليه في مذهبه من قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] ، وقرأ الزُّهْرِيُّ: «نُقَدِّرُ» «2» بضم النون، وفتح القاف، وشَدِّ الدال، ونحوه عن الحسن. وروي: أَنَّ يونس عليه السلام سجد في جوفِ الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وقوله: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ: يريد فيما خالف فيه من ترك ملازمة قومه والصبر عليهم، هذا أحسن الوجوه، فاستجاب اللَّه له. ت وليس في هذه الكلمة ما يَدُلُّ أَنَّهُ اعترف بذنب، كما أشار إليه بعضهم، وفي الحديث الصحيح: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ، في بَطْنِ الْحُوتِ: لاَ إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، مَا دَعَا بِهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ- أَوْ قَالَ: مُسْلِمٌ-، إلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ» «3»

_ (1) وهي قراءة الزهري والحسن كما ذكرهما المصنف بعد. وقرأ بها ابن أبي ليلى، وأبو شرق، والكلبي، ويعقوب. كما في «مختصر الشواذ» ص (95) ، وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 97) ، و «البحر المحيط» (6/ 311) ، ونسبها للزهري حسب. وهي في «الدر المصون» (5/ 105) . وحكاها القرطبي (11/ 219) عن عمر بن عبد العزيز والزهري. (2) ينظر القراءة السابقة. (3) أخرجه الترمذي (5/ 529) كتاب الدعوات: باب (82) حديث (3505) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 168) كتاب عمل اليوم والليلة: باب ذكر دعوة ذي النون، حديث (10492) ، وأحمد (1/ 170) ، والحاكم (1/ 505) ، والطبريّ (9/ 78) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 432) رقم (620) كلهم من حديث سعد بن أبي وقاص. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 599) ، وزاد نسبته إلى الحكيم في «نوادر الأصول» ، وابن أبي حاتم، والبزار، وابن مردويه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 إلى 91]

الحديث، انتهى. وعن سعد بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال في قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أيُّما مُسْلِمٍ دَعَا بِهَا فِي مَرَضِهِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ- أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيدٍ، وإنْ بَرِىءَ بَرِىءَ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ» «1» أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح» . وذكر صاحب «السلاح» أيضاً عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَإنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ في شَيْءٍ قَطُّ إلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ تعالى لَهُ» رواه الترمذي، واللفظ له، والنسائي والحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح الإسناد، وزاد فيه من طريق آخر: «فَقَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، هَلْ كَانَتْ لِيُونُسَ خَاصَّةً، أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم: «ألا تسمع إلى قول الله عز وجل: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «2» » . انتهى. والغم: ما كان ناله حين التقمه الحوت. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 91] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) وقوله سبحانه: / وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ ... الآية تقدم أمر زكرياء. وقوله سبحانه: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ قيل: بأَنْ جُعِلَتْ مِمَّنْ تَحْمِلُ وهي عاقر قاعد، وعموم اللفظ يتناول جميع الإصلاح. وقوله تعالى: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً المعنى: أنهم يدعون في وقت تعبداتهم، وهم بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف في حال واحدة لأَنَّ الرغبة والرهبة متلازمان، والخشوعُ: التذلُّل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب. قال القشيريُّ في «رسالته» : سُئِلَ الجنيد عن الخشوع فقال: تَذَلُّلُ القلوب لعلاَّمِ الغيوب، قال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الله: مَنْ خشع قلبُه لم يقرب منه الشيطان. انتهى.

_ (1) أخرجه الحاكم (1/ 506) ، وسكت عنه هو والذهبي. (2) تقدم تخريجه. [.....]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 إلى 95]

وقوله سبحانه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها المعنى: واذكر التي أحصنت فرجها، وهي الجارحة المعروفة، هذا قول الجمهور، وفي أحصانها هو المدح، وقالت فرقة: الفرج هنا هو فرج ثوبها [الذي منه نفخ الملك] «1» . وهذا قول ضعيف، وقد تقدم أمرها. ت: وعكس (رحمه الله) في سورة التحريم النقل، فقال: قال الجمهور: هو فرج الدرع. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 95] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (95) وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ يُحْتَمَلُ أن يكون منقطعاً خطابا لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلّم ثم أخبر عن الناس أَنَّهُمْ تقطعوا، ثم وعد وأوعد، ويحتمل أنْ يكون مُتَّصِلاً بقصة مريمَ وابنها- عليهما السلام. ص: أبو البقاء: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي، في أمرهم، يريد أنه منصوب على إسقاط حرف الجر. وقيل: عُدِّيَ بنفسه لأنَّه بمعنى قطعوا، أي فرقوا، انتهى. وقال البخاري: أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، أي: دينكم دينٌ واحد «2» . انتهى. وقرأ جمهور السبعة: «وحرام» ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «3» : «وحِرْم» - بكسر الحاء وسكون الراء- وهما مصدران بمعنى، فأَمَّا معنى الآية، فقالت فرقة: حَرَامٌ وحَرْمٌ معناه: جزم وحتم، فالمعنى: وحتم على قرية أهلكناها، أَنَّهم لا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون، بل هم صائرون إلى العقاب. وقالت طائفة: حرام وحرم، أي: ممتنع.

_ (1) سقط في ج. (2) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 289) كتاب «التفسير» : باب سورة الأنبياء. (3) إنما قرأ عاصم هذه القراءة في رواية أبي بكر، لا حفص كما ذكر المصنف، وأما قراءة حفص فهي كقراءة الجمهور. ينظر: «السبعة» (431) ، و «الحجة» (5/ 261) ، و «إعراب القراءات» (2/ 68) ، و «معاني القراءات» (2/ 170) ، و «شرح الطيبة» (5/ 60) ، و «العنوان» (132) ، و «شرح شعلة» (500) ، و «إتحاف» (2/ 267) .

[سورة الأنبياء (21) : آية 96]

[سورة الأنبياء (21) : آية 96] حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ... الآية، تحتمل «حتى» في هذه الآية أنْ تتعلَّقَ ب يَرْجِعُونَ، وتحتمل أنْ تكون حرفَ ابتداء، وهو الأظهر بسبب «إذا» لأنها تقتضي جواباً، واختلف هنا في الجواب، والذي أقول به: أَنَّ الجواب [في قوله] «1» فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ وهذا هو المعنى الذي قُصِدَ ذكرُه. قال ص: قال أبو البقاء: حَتَّى إِذا مُتَعَلِّقَةٌ في المعنى ب حَرامٌ أي: يستمر الامتناع إلى هذا الوقت، ولا عملَ لها في «إذا» . انتهى. وقرأ الجمهور: «فُتِحَتْ» بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر «2» وحده «فُتِّحَتْ» بالتشديد، ورُوِيَ أنَّ ياجوجَ وماجوجَ يشرفون في كلِّ يوم على الفتح، فيقولون: غداً نفتح، ولا يردون المشيئة إلى الله تعالى، فإذا كان غد وجدوا الرَّدم كأَوَّلِهِ حتى إذا أذن الله تعالى في فتحه، قال قائلهم: غداً نفتحه إن شاء الله تعالى، فيجدونه كما تركوه قريبَ الانفتاح فيفتحونه حينئذٍ. ت وقد تقدم في «سورة الكهف» كثير من أخبار يأجوج ومأجوج فأغنانا عن إعادته، وهذه عادتنا في هذا المُخْتَصَرِ أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإيَّاكم به، ويجعلَه لنا نوراً بين أيدينا، يومَ لا ينفعُ مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أتى الله بقلب سليم، والحَدَبُ: كل مُسَنَّمٍ من الأرض، كالجبل والظَرِب «3» والكدية «4» ، والقبر ونحوه. وقالت فرقة: المراد بقوله: وَهُمْ يأجوجُ ومأجوجُ، يعني أنهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويملؤون الأرضَ من كثرتهم. وقالت فرقة: المراد بقوله: «وهم» جميعُ العالم، وإنَّما هو تعريف بالبعث من القبور.

_ (1) سقط في ج. (2) ينظر: «السبعة» (431) ، و «الحجة» (5/ 262) ، و «إعراب القراءات» (2/ 67) ، و «معاني القراءات» (2/ 172) ، و «العنوان» (132) ، و «حجة القراءات» (470) ، و «إتحاف» (2/ 267) . (3) الظرب: كل ما نتأ من الحجارة، وحدّ طرفه، وقيل: هو الجبل المنبسط، وقيل: هو الجبل الصغير، وقيل: الروابي الصغار، والجمع: ظراب. ينظر: «لسان العرب» (2745) . (4) الكدية: الأرض المرتفعة، وقيل: هو شيء صلب من الحجارة والطين، وهي أيضا الأرض الغليظة، وقيل: الأرض الصلبة. ينظر: «لسان العرب» (3838) .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 97 إلى 101]

وقرأ ابن مسعود «1» : «وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ» بالجيم والثاء المثلثة، وهذه القراءة تؤيّد 20 ب/ هذا التأويل، ويَنْسِلُونَ: معناه: يسرعون في تطامن، وأسند الطبريُّ عن أبي سعيد قال: «يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحداً إلاَّ قتلوه، إلاَّ أَهْلَ الحصون، فيمرُّون على بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول: كان هنا مرة ماء، قال فيبعث الله عليهم النَغَف حتى تكسر أعناقهم، فيقول أهل الحصون: لقد هلك أَعداءُ الله، فيدلون رجلاً ينظر، فيجدهم قد هلكوا، قال: فينزل الله من السماء ماءً فيقذف بهم في البحر، فيطهر الله الأَرض منهم» «2» وفي حديث حذيفة نحوُ هذا، وفي آخره قال: وعند ذلك طلوعُ الشمس من مغربها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 97 الى 101] وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) وقوله سبحانه: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ يريد يومَ القيامة. وقوله: [فَإِذا] «3» هِيَ: مذهب سيبويه أنها ضمير القِصَّةِ، وجَوَّز الفرَّاء أن تكون ضمير الإبصار، تقدمت لدَلالة الكلام، ومجيء ما يفسرها، والشخوص بالبصر إحداد النظر دون أن يطرف، وذلك يعترى من الخوف المُفْرِطِ ونحوه، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ... الآية: هذه الآية مُخَاطَبَةٌ لكُفَّارِ مَكَّةَ، أي: إنكم وأصنامكم حصب جهنم، والحصب: ما توقد به النَّار إمّا

_ (1) وقرأ بها ابن عباس، والكلبي، والضحاك. قال أبو الفتح: هو القبر بلغة أهل الحجاز. ينظر: «المحتسب» (2/ 66) ، و «مختصر الشواذ» (95) ، و «الكشاف» (3/ 135) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 100) ، و «البحر المحيط» (6/ 314) ، و «الدر المصون» (5/ 111) . (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1363- 1364) كتاب الفتن: باب فتنة الدجال، حديث (4079) ، وأحمد (3/ 77) ، وأبو يعلى (2/ 377- 378) رقم (1144) ، وابن حبان (1909- موارد) ، والحاكم (4/ 489) ، والطبريّ في «تفسيره» (9/ 86) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 603) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن مردويه. (3) سقط في ج.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 102 إلى 105]

لأنها تحصب به، أي: تُرْمَى، وإمَّا أنْ يكون لغة في الحطب إذا رُمِيَ، وإمَّا قبل أنْ يرمى فلا يُسَمَّى حصباً إلاَّ بتجوز، وحرق الأصنام بالنار على جهة التوبيخ لعابديها، ومن حيث تقع «ما» لمن يعقل في بعض المواضع، اعترَضَ في هذه الآية عبدُ الله بنُ الزِّبعري على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إنَّ عِيسَى وعُزَيراً وَنَحْوَهُمَا قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا حَصَباً لجهنم فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية. والورود في هذه الآية: ورودُ الدخولِ، والزفيرُ: صوت المُعَذِّبِ، وهو كنهيق الحمير وشبهه إلاَّ أَنه من الصدر. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 102 الى 105] لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) وقوله سبحانه: لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَها هذه صفة الذين سبقت لهم الحسنى، وذلك بعد دخولهم الجنة لأَنَّ الحديث يقتضى أَنَّ في الموقف تزفر جهنم زفرةً لا يبقى نبيٌّ ولا مَلَكٌ إلاَّ جثا على ركبتيه، قال البخاريُّ «1» : الحسيس والحس: واحد، وهو الصوتُ الخفيُّ، انتهى. والفزع الأكبر عامٌّ في كلِّ هول يكون يوم القيامة، فكأَنَّ يوم القيامة بجملته هو الفَزَعُ الأكبر. وقوله سبحانه: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يريد: بالسلام عليهم والتبشير لهم، أي: هذا يومكم الذي وعدتهم فيه الثواب والنعيم، والسِّجِلِّ في قول فرقة: هو الصحيفة التي يُكْتَبُ فيها، والمعنى: كما يطوى السِّجِلُّ من أجل الكتاب الذي فيه، فالمصدر مضاف إلى المفعول وهكذا قال البخاري «2» : السجل: الصحيفة، انتهى، وما خَرَّجه أبو داودَ في «مراسيله» من أَنَّ السجل: اسم رجل من كتّاب النبي صلى الله عليه وسلّم «3» . قال السهيليُّ فيه: هذا غير معروف. انتهى.

_ (1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 289) كتاب التفسير: باب سورة الأنبياء. (2) ينظر المصدر السابق. (3) أخرجه أبو داود (2/ 147) كتاب الخراج والفيء والإمارة: باب في اتخاذ الكاتب، حديث (2935) ، والنسائي في التفسير (2/ 74) رقم (355) ، والطبريّ (9/ 94) رقم (24849) ، وابن عدي في «الكامل» (7/ 2662) ، والبيهقي (10/ 126) ، والطبراني في «الكبير» (12/ 170) رقم (12790) من حديث ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 611) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن منده في «المعرفة» ، وابن مردويه، وابن عساكر.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 106 إلى 112]

وقوله سبحانه: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون خبراً عن البعث، أي كما اخترعنا الخلق أوَّلاً على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى، فنبعثهم من القبور. والثاني أنْ يكونَ خبراً عن أَنَّ كل شخص يُبْعَثُ يوم القيامة على هيئته التي خرج بها 21 أإلى الدنيا، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلّم: «يُحْشَرُ/ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» «1» . وقوله: كَما بَدَأْنا الكاف مُتَعَلِّقَةٌ بقوله: نُعِيدُهُ، وقالت فرقة: الزَّبُورِ هنا يعم جميعَ الكتب المُنَزَّلَة لأَنه مأخوذ من: زبرت الكتاب إذا كتبته، والذِّكْرِ أراد به اللَّوحَ المحفوظ، وقالت فرقة: الزَّبُورِ هو زبور داود عليه السلام، والذِّكْرِ: التوراة. وقالت فرقة: الزَّبُورِ: ما بعد التوراةِ من الكتب، والذِّكْرِ: التوراة. وقالت فرقة: الْأَرْضَ هنا: أرضُ الدنيا، أي: كل ما يناله المؤمنون من الأرض، وقالت فرقة: أراد أرض الجنة، واستشهدوا بقوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 106 الى 112] إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) وقوله سبحانه: إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً: الإشارة ب «هذا» إلى هذ الآيات المتقدمة في قول فرقة.

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 445) كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حديث (3349) ، وأطرافه في (3447، 4625، 4626، 4740، 6524، 6525، 6526) ، ومسلم (4/ 2194- 2195) كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب فناء الدنيا، حديث (508/ 2860) ، والترمذي (4/ 615- 616) كتاب صفة القيامة: باب ما جاء في شأن الحشر، حديث (2423) ، والنسائي (4/ 114) كتاب الجنائز: باب البعث، حديث (2082) من حديث ابن عباس وقال الترمذي: حسن صحيح. [.....]

وقالت فرقة: الإشارة إلى القرآن بجملته، والعبادة تتضمن الإِيمان. وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ: قالت فرقة: هو صلى الله عليه وسلّم رحمةٌ للعالمين عموماً، أَمَّا للمؤمنين فواضح، وأَمَّا للكافرين فلأَنَّ الله تعالى رفع عنهم ما كان يصيب الأُمَمَ والقرونَ السابقة قبلهم من التعجيل بأنواع العذاب المستأصلة كالطوفان وغيره. وقوله آذَنْتُكُمْ معناه: عرّفتكم بنذراتي، وأردتُ أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى، وقال البخاري: آذَنْتُكُمْ: أعلمتكم، فإذا أعلمتهم فأنت وهم على سواء، انتهى، ثم أخبر أنه لا يعرف تعيينَ وقتٍ لعقابهم، هل هو قريب أم بعيد؟ وهذا أهول وأخوف. قال ص: وَإِنْ أَدْرِي بمعنى: ما أدري، انتهى. والضمير في قوله: لَعَلَّهُ عائد على الإِملاء لهم، وفِتْنَةٌ معناه: إمتحان وابتلاء، والمتاع: ما يُسْتَمْتَعُ به مُدَّةَ الحياة الدنيا، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وهذا دعاء فيه توعُّدٌ، ثم توكل في آخر الآية واستعانَ بالله تعالى قال الداوديّ: وعن قتادة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا شَهِدَ قِتَالاً قَالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «1» . انتهى.

_ (1) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 102) رقم (24897) عن قتادة مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 615) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

تفسير سورة الحج

بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الحجّ [وهي] «1» مكّيّة سوى ثلاث آيات وهي «2» : هذانِ خَصْمانِ إلى تمام ثلاث آيات، هذا قول ابن عباس، ومجاهد «3» . وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكّيّ ومنها مدنيّ، وهذا هو الأصحّ لأنّ الآيات تقتضي ذلك. [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الزلزلة: التحريكُ العنيف، وذلك مع نفخة الفزع، ومع نفخة الصعق حسبما تضمنه حديثُ أبي هريرة من ثلاث نفخات، والجمهور على أَنَّ «زلزلة الساعة» هي كالمعهودة في الدنيا إلاَّ أَنَّهَا في غاية الشِّدَّةِ، واخْتَلَفَ المفسرون في الزلزلة المذكورة، هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور: [هي في الدنيا، والضميرُ في تَرَوْنَها عائِدٌ عندهم على الزلزلة، وقوى قولهم أَنَّ الرضاع] «4» والحملَ إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة، والضميرُ عندهم عائد على الساعة، والذهول: الغفلة عن الشيءِ بطريانِ ما يشغل عنه من همّ أو وجع أو غيره قال

_ (1) سقط في ج. (2) في ج: قوله. (3) ذكره ابن عطية (4/ 105) . (4) سقط في ج.

ابن زيد: المعنى: تترك وَلَدَهَا للكرب الذي نزل بها «1» . / قلت: وخَرَّجَ البخاريُّ وغيرُه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله 21 ب عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يا آدمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعمَائةً وتِسْعَةً وتَسْعِينَ إلَى النَّارِ، وَوَاحِداً إلى الجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الحَامِلُ حَمْلَهَا، وَيَشِيبُ الوَلِيدُ، وَتَرَى النَّاسَ سكارى، وَمَا هُمْ بسكارى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ» «2» الحديث. انتهى. وهذا الحديث نَصٌّ صريح في أَنه يوم القيامة، وانظر قوله: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] ، وقوله: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ [التكوير: 4] تجدْهُ موافقاً للحديث، وجاء في حديث أبي هريرة فيما ذكره علي بن معبد: «أنّ نفخة الْفَزَعِ تَمْتَدُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبَالَ، فَتَمُرُّ مَرَّ السِّحَابِ، ثُمَّ تَكُونُ سَرَاباً، ثُمَّ تَرْتَجُّ الأَرْضُ بأَهْلِهَا رَجّاً، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَيَشِيبُ الْوُلْدَانُ، ويُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِيْنَ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ إلَى السَّمَاءِ، فَإذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثمّ انشقّت» ، ثمّ قال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «وَالْمَوْتَى لاَ يَعْلَمُونَ شَيئاً مِنْ ذَلِكَ، قُلْتُ: يا رسول الله، فمن استثنى الله عز وجل حين يقول: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ؟ قال: أولئك هم الشهداء» «3» . انتهى مختصراً، وهذا الحديث ذكره «4» الطبريّ، والثعلبي، وصححه ابن العربي في «سراج المريدين» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 108) رقم (24913) ، وذكره ابن عطية (4/ 106) . (2) أخرجه البخاري (6/ 440) كتاب أحاديث الأنبياء: باب قصة يأجوج ومأجوج، حديث (3348) ، وفي (8/ 295) كتاب التفسير: باب وَتَرَى النَّاسَ سُكارى حديث (4741) وفي (11/ 396) كتاب الرقاق: باب قوله عز وجل: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، حديث (6530) ، وفي (13/ 462) كتاب التوحيد، حديث (7483) ، ومسلم كتاب الإيمان: باب قوله: يقول الله لآدم: «أخرج بعث النار» ، حديث (222/ 379) ، وأحمد (3/ 32- 33) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» رقم (917) والطبريّ (9/ 106) رقم (24907) ، والنسائي في «التفسير» (359) من حديث أبي سعيد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 618) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 634) مطولا، وعزاه إلى عبد بن حميد، وعلي بن سعيد في كتاب «الطاعة والعصيان» ، وأبي يعلى، وأبي الحسن القطان في «المطولات» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي موسى المديني كلاهما في «المطولات» ، وأبي الشيخ في «العظمة» ، والبيهقي في «البعث والنشور» . (4) ينظر: «الطبريّ» (9/ 105) .

[سورة الحج (22) : الآيات 3 إلى 4]

وقال عبد الحق: بل هو حديث منقطع، لاَ يَصِحُّ، والذي عليه المحققون أنَّ هذه الأهوال هي بعد البعث، قاله صاحب «التذكرة» وغيره، انتهى. والحَمْلُ: - بفتح الحاء- ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وقوله سبحانه: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى تشبيهاً لهم، أي: من الهم، ثم نفي عنهم السُّكَر الحقيقيَّ الذي هو من الخمر، قاله الحسن «1» وغيره، وقرأ حمزة والكسائيُّ: «سكرى» في الموضعين «2» . قال سيبويه «3» : وقوم يقولون: سكرى جعلوه مثل مرضى، ثم جعلوا: روبى مثل سكرى، وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب. [سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) وقوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ. قال ابن جريج: هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وأبَيِّ بنِ خَلَفٍ، وقيل في أبي جهل بن هشام «4» ، ثم هي بعدُ تتناول كل مَن اتصف بهَذِهِ الصفة، ومجادلتهم في أنَّ الله تعالى لا يبعثَ مَنْ يموتُ، والشيطان هنا هو مغويهم من الجن، ويحتمل من الأنس، والمريد: المُتَجَرِّدُ من الخير للشَّرِّ، ومنه الأمرد، وشجرة مرداء، أي: عارية من الورق، وصَرْحٌ مُمَرَّدٌ، أي: مملس، والضمير في عَلَيْهِ عائد على الشيطان قاله قتادة «5» ، ويحتمل أَنْ يعودَ على المجادِل، وأنه في موضع رفع على المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعِلُه، و «أَنَّه» الثانية عطف على الأُولَى مؤكدة مثلها، وقيل: هي مُكَرَّرَةٌ للتأكيد فقط، وهذا مُعْتَرَضٌ بأَنَّ الشيء لا يؤَكَّد إلاَّ بعد تمامه، وتمامٌ «أَنَّ» الأولى إنما هو بصلتها في قوله:

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 106) . (2) ينظر: «السبعة» (434) ، و «الحجة» (5/ 266) ، و «إعراب القراءات» (2/ 72) ، و «معاني القراءات» (2/ 175) ، و «شرح الطيبة» (5/ 63) ، و «العنوان» (134) ، و «حجة القراءات» (472) ، و «شرح شعلة» (502) ، و «إتحاف» (2/ 270) . (3) ينظر: «الكتاب» (2/ 212- 214) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 109) برقم (24918) ، وذكره ابن عطية (4/ 107) ، وابن كثير (3/ 206) ، والسيوطي (4/ 619) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج. (5) ذكره ابن عطية (4/ 107) ، والسيوطي (4/ 620) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. [.....]

[سورة الحج (22) : الآيات 5 إلى 7]

السَّعِيرِ وكذلك لا يُعْطَفُ عليه، ولسيبويه في مثل هذا: أنه بدل، وقيل: «أنه» الثانية خبر مبتدإٍ محذوف تقديره: فشأنه أَنه يضلّهُ. قال ع «1» : ويظهر لي أَنَّ الضميرَ في أَنَّهُ الأولى للشيطان، وفي الثانية لمن الذي هو المتولي، وقرأ أبو عمرو «2» : «فإِنَّه» بالكسر فيهما. [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ... الآية: هذا احتجاج على العالم بالبدأة الأُولى، وضَرَبَ سبحانه وتعالى في هذه الآية مَثَلَيْنِ، إذا اعتبرهما الناظر جَوَّزَ في العقل البعثة/ من القبور، ثم ورد الشرع بوقوع ذلك. 22 أوقوله: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يريدُ آدم عليه السلام. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يريد: المنيَّ، والنطفة: تقع على قليلِ الماءِ وكثيره. ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ يريدُ: من الدم الذي تعودُ النطفةُ إليه في الرحم أو المقارن للنطفة، والعَلَقُ الدمُ الغليظ، وقيل: العلق الشديد الحُمْرَة. ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ يريد مضغة لحم على قدر ما يمضغ. وقوله: مُخَلَّقَةٍ معناه: مُتَمَّمَةٌ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ غير متممة، أي: التي تسقط، قاله مجاهد «3» وغيره، فاللفظة بناءُ مبالغة من خلق، ولما كان الإنسانُ فيه أعضاء متباينة، وكل واحد منها مختصّ بخلق- حَسُنَ في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقا كثيرا.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 107) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 107) ، و «البحر المحيط» (6/ 326) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش. وينظر: «الشواذ» ص 96، و «الدر المصون» (5/ 124) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 111) برقم (24926) و (24927) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 275) ، وابن عطية (4/ 108) ، وابن كثير (3/ 206) بنحوه، والسيوطي (4/ 621) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 10]

وقوله سبحانه: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ قالت فرقة: معناه أمر البعث، وَنُقِرُّ أي: ونحن نُقِرُّ في الأرحام، والأجل المُسَمَّى مختلف بحسب حين حين، فَثَمَّ مَنْ يسقط، وثم مَنْ يكمل أمره ويخرج حَيّاً. وقوله سبحانه: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً قد تقدَّمَ بيانُ هذه المعاني، والردّ إلى أَرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانة، واختلال العقل والقوة، فهذا مثال واحد يقتضي للمُعْتَبِرِ به أن القادِرَ على هذه المناقل، المُتْقِنَ لها- قادرٌ على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل، إلى حالها الأولى. وقوله عز وجل: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ هذا هو المثال الثَّاني الذي يُعْطِي للمعتبر فيه جوازَ بعث الأجساد وذلك أَنَّ إحياءَ الأرض بعد موتها بيّن فكذلك الأجساد، وهامِدَةً: معناه: ساكنة دارسة بالية، واهتزاز الأرض: هو حركتها بالنبات وغيرِ ذلك مِمَّا يعتريها بالماء، وَرَبَتْ: معناه: نشزت وارتفعت ومنه الرَّبْوَةُ وهي المكان المرتفع، والزوج: النوع، والبهيج: من البهجة، وهي الحسن قاله قتادة «1» وغيره. وقوله: ذلِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره، وباقي الآية بين. [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وقوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... الآية، الإشارة بقوله: وَمِنَ النَّاسِ إلى القوم الذين تقدَّمَ ذكرُهُم، وكَرَّرَ هذه الآية على جهة التوبيخ فكأنه يقول: فهذه الأمثال في غاية الوضوح، ومِنَ الناس مع ذلك مَنْ يجادل، وثانِيَ: حال من الضمير في يُجادِلُ.

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 113) برقم (24937، 24938) ، وذكره ابن عطية (4/ 109) ، والسيوطي (4/ 622) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.

[سورة الحج (22) : الآيات 11 إلى 18]

وقوله: ثانِيَ عِطْفِهِ: عبارة عن المُتَكَبِّرِ المُعْرِضِ قاله ابنُ عباس «1» وغيرُه وذلك أَنَّ صاحب الكبر يردُّ وجهه عَمَّنْ يتكبر عنه، فهو يَرُدُّ وجههُ يِصَعِّرُ خَدَّهُ، ويولي صَفْحَتَهُ، ويَلْوَيَ عُنُقَهُ، ويَثْنِي عِطْفَه، وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف: الجانب. وقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي: يقال له ذلك، واخْتُلِفَ في الوقف على: يَداكَ فقيل: لا يجوزُ: لأَنَّ التقدير: وبأَنَّ الله، أي: أنَّ هذا هو العدل فيك بجَرَائِمِكَ. وقيل: يجوز بمعنى: والأمر أنّ الله ليس بظلّام للعبيد. [سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 18] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) وقوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ... الآية نزلت في أعراب، وقوم لا يَقِينَ لهم كان أحدُهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقاتٌ حِسَانٌ: من نموِّ مال، وولد يُرْزَقُهُ، وغير ذلك- قال: هذا دِينٌ جَيِّدٌ، وتمسك به لهذه المعاني، وإنْ كان الأمر بخلاف ذلك، تشاءَم به، وارتد كما فعل العُرَنِيون، قال هذا المعنى ابن عباس «2» وغيره. وقوله: عَلى حَرْفٍ معناه: على انحرافٍ منه عن العقيدة البيضاء، وقال البخاريُّ «3» : عَلى حَرْفٍ: على شَكٍّ، ثم أسند عن ابن عباس ما تقدم من حال الأعراب، / انتهى. 22 ب وقوله: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ يريد الأوثانَ، ومعنى يَدْعُوا: يعبد، ويدعو أيضاً في مُلِمَّاتِهِ، واللام في قوله: لَمَنْ ضَرُّهُ: لام مُؤْذِنَةٌ بمجيء القسم، والثانية في لَبِئْسَ: لام القسم، والْعَشِيرُ: القريب المعاشر في الأمور.

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 114) برقم (24944) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 109) ، والسيوطي (4/ 623) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 115) رقم (24948) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 110) ، وابن كثير (3/ 209) بنحوه، والسيوطي (4/ 623) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس. (3) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 296) كتاب التفسير باب وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.

ت وفي الحديث في شأن النساء: «وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» يعني الزوج. قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ «1» : قال أهل اللغة: العشير: الخليط من المعاشرة والمخالطة، ومنه قوله عز وجل: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ انتهى من «التمهيد» ، والذي يظهر: أَنَّ المراد بالمولى والعشير هو الوثن الذي ضَرُّهُ أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد «2» ، ثم عَقَّبَ سبحانه بذكر حالة أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... الآية، ثم أَخذتِ الآية في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول: هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق، وظَنُّوا أَنَّ الله تعالى لن ينصرَ محمداً وأتباعه، ونحن إنَّما أمرناهم بالصبر وانتظارِ وعدنا، فَمَنْ ظَنَّ غير ذلك فليمدد بسبب، وهو الحبل وليختنق هل يذهب بذلك غيظه؟ قال هذا المعنى قتادة «3» ، وهذا على جهة المَثَلِ السائر في قولهم: «دُونَكَ الحَبْلُ فاختنق» ، والسَّماءِ على هذا القول: الهواء عُلُوّاً، فكأَنه أراد سقفاً أو شجرة، ولفظ البخاري: وقال ابن عباس: «بسبب إلى سَقْفِ البيتِ» «4» ، انتهى، والجمهورُ على أنَّ القطع هنا هو الاختناق. قال الخليل: وقطع الرجل: إذا اختنق بحبل ونحوه، ثم ذكر الآية، ويحتمل المعنى مَنْ ظَنَّ أَنَّ محمداً لا ينصر فليمت كمداً هو منصور لا محالَة، فليختنق هذا الظانُّ غيظاً وكمداً، ويؤيد هذا: أَنَّ الطبري والنقاش قالا: ويُقال: نزلت في نفر من بني أَسَدٍ وغَطَفَانَ، قالوا: نخاف أَلاَّ يُنصرَ محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهودٍ من المنافع «5» ، والمعنى الأَوَّلُ الذي قيل للعابدين على حرف- ليس بهذا ولكنه بمعنى: مَنْ قلق واستبطأ النصر، وظَنَّ أن محمداً لا يُنْصَرُ فليختنق سفاهةً إذ تعدَّى الأمرُ الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله، وقال مجاهد: الضمير في يَنْصُرَهُ عائدٌ على مَنْ والمعنى: مَنْ كان من المتقلّقين من المؤمنين «6» ، وما في قوله: ما يَغِيظُ بمعنى الذي، ويحتمل أنْ تكونَ مصدرية حرفاً فلا عائد عليها، وأبينُ الوجوه في الآية: التأويل الأَوَّلُ وباقي الآية بيّن. وقوله: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أي: ساجدون مرحومون بسجودهم، وقوله:

_ (1) ينظر «التمهيد» (3/ 324) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 118) برقم (24958) ، وذكره ابن عطية (4/ 111) ، وذكره ابن كثير (3/ 210) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 118) برقم (24959، 24960) نحوه، وذكره ابن عطية (4/ 111) ، وابن كثير (3/ 210) نحوه، والسيوطي (4/ 623) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 119) برقم (24966) ، وذكره ابن كثير (3/ 210) نحوه، وذكره السيوطي (4/ 625) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (5) ذكره ابن عطية (4/ 111) . (6) ذكره البغوي (3/ 278) ، وابن عطية (4/ 111، 112) .

[سورة الحج (22) : الآيات 19 إلى 22]

وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ مُعَادِلٌ له، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد هذا: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ الآية. [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 22] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) وقوله سبحانه: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ... الآية، نزلت هذه الآيةُ في المتبارزين يوم بدر، وهم سِتَّةُ نفر: حَمْزَةُ، وعَلِيٌّ، وعبيدة بن الحارث (رضي الله عنهم) بَرَزُوا لعتبةَ بنِ ربيعة، والوليد بن عتبة، وشيبة بن ربيعة، قال علي بن أبي طالب: أنا أَوَّلُ مَنْ يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أَبو ذَرٍّ «1» على هذا القولِ ووقع في «صحيح البخاريِّ» (رحمه الله تعالى) : أَنَّ الآيةَ فِيهم، وقال ابن عباس: الإِشارة إلى المؤمنين وأَهْلِ الكتاب «2» وذلك أَنَّهُ وقع بينهم تخاصم، فقالتِ اليهودُ: نحن أقدمُ دِيناً منكُم، ونحو هذا فنزلت الآية، وقال مجاهد وجماعة «3» : الإِشارة إلى المؤمنين والكُفَّارِ على العموم. قال ع «4» : وهذا قولَ تَعْضُدُهُ الآية وذلك أنه تَقَدَّمَ قولُه: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ المعنى: هم مؤمنون ساجدون، ثم قال تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ/، ثم أشار 23 أإلى هذين الصنفين بقوله: هذانِ خَصْمانِ والمعنى: أَن الإيمانَ وأهله، والكفرَ وأهله- خصمان مذ كانا إلى يوم القيامة بالعداوة والجدال والحرب، وخصم مصدر يُوصَفُ به الواحد والجمع، ويَدُلُّ على أَنه أراد الجمع قوله: اخْتَصَمُوا فإنه قراءة الجمهور «5» وقرأ ابن أبي «6» عبلة: «اختصما» .

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 297) كتاب «التفسير» : باب هذانِ خَصْمانِ حديث (4743) و «مسلم» (4/ 2323) كتاب «التفسير» : باب قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ حديث (34/ 3033) . [.....] (2) أخرجه الطبريّ (9/ 124) برقم (24984) ، وذكره البغوي (3/ 280) ، وابن عطية (4/ 113، 114) ، وابن كثير (3/ 212) ، والسيوطي (4/ 628) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 124) برقم (24985) ، وذكره البغوي (3/ 280) ، وابن عطية (4/ 114) ، وابن كثير (3/ 212) ، والسيوطي (4/ 628) ، وعزاه لابن جرير عن مجاهد، وعطاء بن أبي رباح والحسن. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 114) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 114) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 114) ، و «البحر المحيط» (6/ 334) ، و «الدر المصون» (5/ 134) .

[سورة الحج (22) : الآيات 23 إلى 24]

ت: وهذه التأويلاتُ مُتَّفِقَاتٌ في المعنى، وقد ورد أَنَّ أَوَّلَ ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة في الدماء، ومن المعلوم أَنَّ أَوَّلَ مبارزة وقعت في الإسلام مبارزة عَليٍّ وأصحابه، فَلاَ جَرَمَ كانت أَوَّلَ خصومة وحكومة يوم القيامة وفي «صحيح مسلم» عنه صلى الله عليه وسلّم: «نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، والأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ المَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الخَلاَئِقِ» وفي رواية: «المَقْضِيِّ بَيْنَهُمْ» «1» . وقوله: فِي رَبِّهِمْ أي: في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل في رِضَى ربهم وفي ذاته. وقال ص: فِي رَبِّهِمْ أي: في دين ربهم، انتهى، ثم بَيَّنَ سبحانه حكم الفريقين، فتوعَّدَ تعالى الكُفَّارَ بعذابه الأليم، وقُطِّعَتْ معناه جُعِلَتْ لهم بتقدير كما يُفَصَّلُ الثوبُ، وروي: أنّها من نحاس، ويُصْهَرُ معناه: يُذَابُ، وقيل: معناه: ينضج قيل: إن الحميم بحرارته يُهْبِطُ كلَّ ما في الجوف ويكشطه، ويسلته، وقد روى أبو هريرةَ نحوَهُ عن النّبي صلى الله عليه وسلّم: «أَنَّهُ يُسْلِتُهُ، وَيَبْلُغُ بِهِ قَدَمَيْهِ، وَيُذِيبُهُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» «2» . وقوله سبحانه: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها رُوِيَ فيه: أَنَّ لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار، فيريدون الخروج، فتردهم الزبانية بمقامع الحديد، وهي المقارع «3» . [سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 24] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ ... الآية معادلة لقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا [الحج: 19] واللؤلؤ: الجوهر، وأخبر سبحانه: بأَنَّ لباسهم فيها حرير لأَنَّهُ من أكمل حالات الدنيا قال ابن عباس «4» : لا تُشْبِهُ أمور الآخرة أمورَ الدنيا إلاَّ في الأسماء فقط، وأمَّا الصفات فمتباينة، والطَّيِّبُ من القول: لا إله إلا الله وما

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم في سورة الكهف. (3) المقرعة: خشبة تضرب بها البغال والحمير. وقيل: كل ما قرع به فهو مقرعة. ينظر: «لسان العرب» (3595) . (4) ذكره ابن عطية (4/ 115) .

[سورة الحج (22) : الآيات 25 إلى 29]

جرى معها من ذكر الله وتسبيحه، وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب فإنّها لا تسمع فيها لاغية، وصِراطِ الْحَمِيدِ هو طريقُ الله الذي دعا عبادَه إليه، ويحتمل أَنْ يريد بالحميد نفس الطريق، فأضاف إليهِ على حد إضافته في قوله: دار الآخرة، وقال البخاريُّ «1» : وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ: أي: أَلْهِمُوا إلى قراءة القرآن، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ: أي: إلى الإسلام، انتهى. [سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 29] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذه الآية نزلت عام الحُدَيْبِيَّةِ حين صدّ النبي صلى الله عليه وسلّم وجاء يَصُدُّونَ مستقبلاً ِاذ هو فعل يُدِيمونه، وخبر إِنَّ محذوف مقدّر عند قوله: والْبادِ: تقديره: خسروا أو هلكوا. والْعاكِفُ: المقيم في البلد، و «البادي» : القادم عليه من غيره. وقوله: بِإِلْحادٍ قال أبو عبيدة «2» : الباء فيه زائدة. ت قال ابن العربيِّ «3» في «أحكامه» : وجَعْلُ الباء زائدةً لا يُحْتَاجُ إليه في سبيل العربية لأَنَّ حَمْلَ المعنى على القول أولى من حمله على الحروف، فيقال: المعنى ومن يَهُمَّ فيه بميل، لأَنَّ الإلحادَ هو الميل في اللغة، إلاَّ أَنَّهُ قد صار في عُرْفِ الشرع ميلاً مذموماً، فرفع الله الإشكال، وبَيَّنَ سبحانه أَنَّ الميلَ بالظلم هو المراد هنا، انتهى. / قال ع «4» : والإلحاد الميلُ وهو يشمل جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، 23 ب فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومَنْ نوى سيئة ولم يعملها- لم

_ (1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 292) كتاب «التفسير» : باب سورة الحج. (2) ينظر: «مجاز القرآن» (2/ 48) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1276) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 116) .

يُحَاسَبْ بذلك إلاَّ في مَكَّةَ. هذا قولُ ابنِ مسعود وجماعة من الصحابة «1» وغيرهم. قال ص: وقوله: أَنْ لاَّ تُشْرِكْ: أَنْ: مفسِّرةٌ لقولٍ مُقَدَّرٍ، أي: قائلين له، أو موحين له: لا تشرك، وفي التقدير الأول نَظَرٌ فانظره، انتهى. وقوله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ ... الآية: تطهيرُ البيت عامٌّ في الكُفْرِ، والبِدَعِ، وجميعِ الأَنْجَاسِ، والدماءِ، وغير ذلك، وَالْقائِمِينَ: هم المصلون، وخَصَّ سبحانه بالذكر من أركان الصلاة أعظَمَها، وهو القيامُ والركوعُ والسجودُ، ورُوِيَ: «أنّ إبراهيم- عليه [الصلاة] «2» والسلام- لَمَّا أُمِرَ بالأذان بالحج- قال: يا رب، وإذا أَذَّنْتُ، فَمَنْ يَسْمَعُنِي؟ فقيل له: نادِ يا إبراهيمُ، فعليك النداءُ وعلينا البلاغ فصعد على أبي قُبَيْس «3» ، وقيل: على حجر المَقَام، ونادى: أَيُّها الناس، إنَّ الله تعالى قد أمركم بحجِّ هذا البيتِ فَحِجُّوا، فَرُوِيَ أَنَّ يومَ نادى أسمع كُلَّ مَنْ يحج إلى يوم القيامة في أصلابِ الرجال، وأجابه كُل شَيءٍ في ذلك الوقْتِ: من جمادٍ، وغيرهِ: لبَّيكَ اللَّهُمَّ لبيك فجرت التلبيةُ على ذلك» . قاله ابن عباس، وابن جبير «4» ، ورِجالًا: جمع رَاجِل، وَال ضامِرٍ: قالت فرقة: أراد بها الناقةَ وذلك أَنه يقال: ناقة ضامرٌ، وقالت فرقة: لفظ «ضامر» يشمل كلَّ مَنِ اتصف بذلك من جمل، أو ناقة، وغيرِ ذلك. قال ع «5» : وهذا هو الأظهر، وفي تقديم رِجالًا تفضيلٌ للمُشَاةِ في الحج وإليه نحا ابن عباس «6» . قال ابن العربي في «أحكامه» «7» : قوله تعالى: يَأْتِينَ رَدَّ الضمير إلى الإبل تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [العاديات: 1] . في خيل الجهاد تكرمةً لها حين سَعَتْ في سبيل الله، انتهى. والفَجُّ: الطريق الواسعة، والعميق:

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 116) والسيوطي (4/ 633) ، وعزاه لسعيد بن منصور، والطبراني عن ابن مسعود. [.....] (2) سقط في ج. (3) جبل مشرف على مكة ينظر: «المراصد» (3/ 1066) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 134) برقم (25039، 25040، 25041) عن ابن عباس، وبرقم (25043) عن سعيد بن جبير، وذكره ابن عطية (4/ 118) ، والسيوطي (4/ 638) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس، وعزاه أيضا لابن جرير عن سعيد بن جبير. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 118) . (6) أخرجه الطبريّ (9/ 135، 136) برقم (25052) ، وذكره ابن عطية (4/ 118) ، وابن كثير (3/ 216) ، والسيوطي (4/ 639) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس. (7) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1279) .

معناه: البعيد قال الشاعر [الطويل] : إِذَا الْخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَة ... يَمُدُّ بِهَا فِي السير أشعث شاحب «1» والمنافع في هذه الآية التجارةُ في قول أكثر المتأولين، ابنِ عباس «2» وغيرِه، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أراد الأَجْرَ ومنافع الآخرة «3» ، وقال مجاهد بعموم الوجهين «4» . ت: وأظهرها عندي قول أبي جعفر يظهر ذلك من مقصد الآية، والله أعلم. وقال ابن العربيِّ: الصحيح: القولُ بالعموم، انتهى. وقوله سبحانه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ذهب قوم إلى: أَنَّ المراد ذكر اسم الله على النَّحْرِ والذبح، وقالوا: إنَّ في ذكر الأيام دليلاً على أنَّ الذبح في الليل لا يجوزُ، وهو مذهب مالكٍ وأصحابِ الرأي. وقالت فرقة فيها مالك وأصحابُه: الأيام المعلوماتُ: يومُ النحر ويومانِ بعده. وقوله: فَكُلُوا ندبٌ، واستحب أهل العلم أن يأكلَ الإنسانُ مِنْ هَدْيِهِ وأَضْحِيَّتِهِ، وأنْ يتصدَّقَ بالأكثر، والبائس: الذي قد مَسَّهُ ضُرُّ الفاقة وبؤسها، والمراد أهل الحاجة، والتفث: ما يصنعه المُحْرِمُ عند حِلِّهِ من تقصيرِ شعر وحلقه، وإزالة شعث ونحوه، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ: وهو ما معهم من هدي وغيره، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ: يعني: طوافَ الإفاضة الذي هو من واجبات «5» الحج.

_ (1) لم أقف على قائله، والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع في الجبل، والعميق البعيد سفلا، وهو محل الشاهد، والأشعث المتلبد شعره المتغير، والشاحب المتغير من هزال. ينظر: «البحر المحيط» (6/ 2) ، و «الدر المصون» (5/ 144) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 136) برقم (25063) ، وذكره البغوي (3/ 284) ، وابن عطية (4/ 118) ، وابن كثير (3/ 216) ، والسيوطي (4/ 640) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 137) برقم (25074) بلفظ العفو، وذكره ابن عطية (4/ 118) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 137) برقم (25072) ، وذكره البغوي (3/ 284) ، وابن عطية (4/ 118) ، وابن كثير (3/ 216) ، والسيوطي (4/ 640) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد. (5) من أركان الحج الطواف بالبيت، لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، والمراد به: طواف الإفاضة، لانعقاد الإجماع على ذلك، ولهذا الطواف أسماء غير ذلك منها طواف الزيارة، وطواف الفرض، وقد يسمى طواف الصدر بفتح الدال: والأشهر أن طواف الصدر هو طواف الوداع. -

[سورة الحج (22) : الآيات 30 إلى 31]

قال الطبري/: ولا خلاف بين المتأوِّلِينَ في ذلك. قال مالك: هو واجب، ويرجع تاركه من وطنه إلاَّ أَنْ يطوف طوافَ الوداع فإنَّهُ يجزيه عنه، ويحتمل أَنْ تكونَ الإشارة بالآية إلى طواف الوداع، وقد أَسْنَدَ «1» الطبريُّ عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيراً عن قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فقال: هو طواف الوداع وقاله مالك في «الموطإِ» ، واخْتُلِفَ في وجهِ وصف البيتِ بالعتيق، فقال مجاهد «2» وغيره: عتيق، أي: قديم. وقال ابن الزبير «3» : لأَنَّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة. وقيل: أعتقه من غرق الطَّوفانِ، وقيل غير هذا. [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 31] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) وقوله: ذلِكَ يحتمل أَنْ يكونَ في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك، ويحتمل أن يكون في محلِّ نصب بتقدير: امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار، وأَحْسَنُ الأشياءِ مُضْمَراً أحسنُهَا مظهراً ونحو هذه الإشارةِ البليغةِ قَوْلُ زُهَيْرِ: [البسيط] هذا، وَلَيْسَ كَمَنْ يَعْيَا بخطبته ... وسط النّديّ إذا ما ناطق نطقا «4» والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج.

_ - ومحل طواف الإفاضة بعد الخروج من عرفة ولهذا سمي طواف الإفاضة. ويدخل وقته بنصف ليلة النحر لمن وقف قبله قياسا على رمي جمرة العقبة. ولا آخر لوقته إذ الأصل عدم التأقيت إلا إذا دلّ دليل على ذلك ولا دليل ثمّة. ويسن تأخيره إلى بعد طلوع الشمس للاتباع، ويكره تأخيره عن يوم النحر وفي تأخيره عن أيام التشريق كراهة شديدة وعن خروجه من مكة كراهة أشد. (1) أخرجه الطبريّ (9/ 142) برقم (25123) ، وذكره ابن عطية (4/ 119) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 119) . [.....] (3) أخرجه الترمذي (5/ 324) كتاب «التفسير» باب ومن سورة الحج حديث (3170) ، والحاكم (2/ 389) من حديث عبد الله بن الزبير وقال الترمذي: حَسَنٌ صَحِيحٌ وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ البخاري ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم. (4) البيت في ديوانه (42) ، و «البحر» (6/ 339) ، و «الدر المصون» (5/ 145) . والندي: القوم المجتمعون ومنه النادي، والشاهد في قوله «هذا» حيث أشير باسم الإشارة إلى ما سبق من وصف الهرم.

وقال ابن العربي «1» في «أحكامه» : الحرمات: امتثال ما أَمَرَ الله تعالى به، واجتنابُ ما نهى عنه فإنَّ للقسم الأَوَّلِ حرمةَ المبادرة إلى الامتثال، وللثاني حرمةَ الانكفاف والانزجار «2» . انتهى. وقوله: فَهُوَ خَيْرٌ ظاهر أنها ليست للتفضيل، وإنما هي عِدةٌ بخير، ويحتمل أن يجعل خَيْرٌ للتفضيل على تجوز في هذا الموضع. ص: فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي: فالتعظيم خير له، [انتهى] «3» . وقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ يحتمل معنيين. أحدهما: أَنْ تكون «من» لبيان الجنس أي: الرجس الذي هو الأوثان فيقع النهي عن رِجْسِ الأوثان فقط، وتبقى سائر الأرجاس نَهْيُهَا في غير هذا الموضع. والمعنى الثاني: أَنْ تكون «من» لابتداء الغاية فكأنه نهاهم سبحانه عن الرجس عموماً، ثم عَيَّنَ لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعةٌ لكل فساد ورجس، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مِمَّا يُتْلَى عليهم، والمَرْوِيُّ عن ابن عباس وابن جرير: أنّ الآية نهي عن عبادة الأوثان «4» ، والزُّورِ عامٌّ في الكَذِبِ والكفر وذلك أَنَّ كُلَّ ما عدا الحق فهو كذب وباطل. وقال ابن مسعود وغيره: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «عدلت شهادة الزور بالشّرك «5» ،

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1284) . (2) في ج: الازتجار. (3) سقط في ج. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 144) برقم (25129) عن ابن عباس، وبرقم (25130) عن ابن جريج، وذكره ابن عطية (4/ 120) ، والسيوطي (4/ 646) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. (5) أخرجه أبو داود (2/ 329) كتاب الأقضية: باب في شهادة الزور حديث (3599) والترمذي (4/ 547) كتاب الشهادات: باب ما جاء في شهادة الزور حديث (2300) وابن ماجه (2/ 794) كتاب الأحكام: باب شهادة الزور حديث (2372) وأحمد (4/ 321، 322) والطبراني (4/ 209) رقم (4162) والبيهقي (1/ 121) كلهم من طريق حبيب بن النعمان عن خريم بن فاتك الأسدي به وقال الترمذي: خريم بن فاتك له صحبة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أحاديث وهو مشهور ا. هـ. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 646) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان» . وأخرجه الترمذي (4/ 547) كتاب الشهادات: باب ما جاء في شهادة الزور حديث (2299) من طريق سفيان بن زياد الأسدي عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم مرفوعا وقال الترمذي: هذا حديث-

وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ» والزُّورُ: مْشْتَقٌّ من الزَّوْرِ، وهو الميل «1» ، ومنه في جانب فلان زور،

_ - غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد واختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد ولا يعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلّم وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد. وأخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 144) رقم (25134) عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 646) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والخرائطي في «مكارم الأخلاق» . (1) الزور: الكذب، والتزوير: تزيين الكذب، وزوّر الشيء حسّنه، وقومه، والزور مأخوذ من زور يزور، بمعنى مال، وانحرف، فالشاهد الذي يشهد بخبر كاذب يسمى شاهد زور، لأنه مائل عن الحق، منحرف عن الصدق. وشهادة الزور من أكبر الكبائر، وقد قرن الله (تعالى) بينها وبين الشرك، فقال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ؟! قلنا: بلى يا رسول الله، قال «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» ، وكان متكئا، فجلس وقال: «ألا وقول الزور، وشهادة الزور» حتى قلنا: ليته سكت. واختلف أهل العلم في كيفية ثبوت شهادة الزور، فقال الحنفية إن شاهد الزور لا يثبت كونه شاهد زور، إلا إذا أقر على نفسه، ولم يدع سهوا، أو غلطا. واعترض على هذا صدر الشريعة، بأنه قد يعلم بدونه، كما إذا شهد بموت زيد، أو بأن فلانا قتله، ثم ظهر زيد حيا، أو برؤية الهلال، فمضى ثلاثون يوما، وليس في السماء علة، ولم ير الهلال. وإنما لا تثبت شهادة الزور بالبينة، لأنها ستكون بينة على النفي، والبينة حجة للإثبات دون النفي. وفي «المهذب» للشافعية: ويثبت أنه شاهد زور من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقر أنه شاهد زور. الثاني: أن تقوم البينة على أنه شاهد زور. الثالث: أن يشهد بما يقطع بكذبه، بأن شهد على رجل أنه قتل، أو زنى في وقت معين في موضع معين، والمشهود عليه في ذلك الوقت كان في بلد آخر. وأما إذا شهد بشيء أخطأ فيه، لم يكن شاهد زور، لأنه لم يقصد الكذب. وإن شهد لرجل بشيء، وشهد به آخر أنه لغيره، لم يكن شاهد زور، لأنه ليس تكذيب أحدهما بأولى من تكذيب الآخر، فلم يقدح ذلك في عدالته. وكذلك اختلفوا في عقوبة شاهد الزور، فقال أبو حنيفة (رضي الله تعالى عنه) : شاهد الزور يعزر بتشهيره على الملأ في الأسواق ليس غير. وقال الصاحبان: نوجعه ضربا ونحبسه، وذكر شمس الأئمة السرخسي (رحمه الله تعالى) أنه يشهر عندهما أيضا، والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي. وقال بهذه الرواية مالك، والشافعي، والأوزاعي، وابن أبي ليلى. لهما ما روي عن عمر (رضي الله تعالى عنه) أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه، ولا يقال: الاستدلال بهذا غير مستقيم على مذهبهما، لأنهما لا يريان التسخيم، لأنه يحمل التسخيم على أنه كان سياسة. -

[سورة الحج (22) : الآيات 32 إلى 35]

ويظهر أَنَّ الإشارة إلى زور أقوالهم في تحريمِ وتحليلِ ما كانوا قد شرعوا في الأنعام، وحُنَفاءَ معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق، بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد، تَقَعُ على الاستقامة، وتقع على الميل، والسحيق: البعيد. [سورة الحج (22) : الآيات 32 الى 35] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وقوله سبحانه: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ التقدير في هذا الموضع: الأمر ذلك، والشعائر جمع شعيرة وهي كلّ شيء لله عز وجل فيه أمر أشعر به وأعلم. قال الشيخ ابن أبي جمرة: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ قال:

_ - واستدل أبو حنيفة. بأن شريحا كان يشهر، ولا يضرب، وما روي عن عمر من أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه، فمحمول على السياسة، بدلالة التبليغ إلى الأربعين، والتسخيم. والتشهير منقول عن شريح (رحمه الله تعالى) ، فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا، ويقول إن شريحا يقرئكم السلام، ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور، فاحذروه، وحذروا الناس منه. واختلف القائلون بجواز الضرب، والحبس: فقال ابن أبي ليلى: يجلد خمسة وسبعين سوطا، وهذه رواية عن أبي يوسف، وفي رواية أخرى عنه: يجلد تسعة وسبعين سوطا. وقال الشافعي: لا يزيد على تسعة وثلاثين. وقال أحمد: لا يزداد على عشر جلدات. وقال الأوزاعي في شاهدي الطلاق: يجلدان مائة مائة، ويغرمان الصداق. وقال صاحب «الفتح» : اعلم أنه قد قيل: إن المسألة على ثلاثة أوجه: أن يرجع على سبيل الإصرار، مثل أن يقول لهم: شهدت في هذه بالزور، ولا أرجع عن مثل ذلك، فإنه يعزر بالضرب بالاتفاق، وإن رجع على سبيل التوبة لا يعزر اتفاقا، وإن كان لا يعرف حاله، فعلى الاختلاف المذكور. واختلفوا في قبول شهادته بعد توبته، فذهب الحنفية إلى أنه إذا تاب شاهد الزور، وأتت على ذلك مدة، قيل سنة، وقيل ستة أشهر، والصحيح أنها مفوضة لرأي القاضي. فإن كان فاسقا تقبل شهادته، لإن الحامل له على الزور فسقه، وقد زال بالتوبة. وإن كان مستورا لا يقبل أصلا، وكذا إذا كان عدلا، على رواية بشر عن أبي يوسف، لأن الحامل له على ذلك غير معلوم، فكان الحال قبل التوبة وبعدها سواء، وروى أبو جعفر أنها تقبل، قالوا: وعليه الفتوى. وقال الشافعي، وأبو ثور، وأحمد: تقبل شهادته إذا أتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته، ويتبين فيها صدقه، وعدالته.. وقال مالك: لا تقبل شهادته أبدا، لأنه لا يؤمن على قول الصدق.

تعظيمُ شعائِرِ اللهِ، - كان من البقع أو من البشر أو مِمَّنْ شاء الله تعالى- زيادَةٌ في الإيمان وقوة في اليقين. انتهى. وقال العراقي في أرجوزته: [الرجز] أَعْلاَمُ طَاعَةٍ هي الشعائر ... ............... .... 24 ب/ البيت. وقالت فرقة: قصد بالشعائر في هذه الآية الهَدْيُ والأنعام المشعرة، ومعنى تعظيمها التسمين والاهتبال بأمرها، قاله ابن عباس «1» وغيرُه، ثم اخْتَلَفَ المتأوِّلُون في قوله سبحانه: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ ... الآية: فقال مجاهد وقتادة: أراد أنَّ للناس في أنعامهم منافِعَ من الصُّوف، واللَّبَن، والذبح للأكل، وغيرِ ذلك ما لم يبعثها رَبُّها هدياً، فَإذا بعثها فهو الأجل المُسَمَّى «2» ، وقال عطاء: أراد لكم في الهدي المبعوثِ منافِعُ، من الركوب، والاحتلاب لمن اضطر، والأجل نحرها «3» ، وتكون «ثم» من قوله: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لترتيب الجمل لأَنَّ المَحِلَّ قبل الأجل، ومعنى الكلام عند هذين الفريقين: ثم مَحِلَّها إلى موضع النحر، وذكر البيت لأنَّه أشرفُ الحرم، وهو المقصود بالهدي وغيره. وقال ابن زيد، والحسن، وابن عمر، ومالك: الشعائر في هذه الآية: مواضِعُ الحج كُلُّها، ومعالمه بمنى، وَعَرَفَةَ، والمزدلفة، والصَّفَا والمروة، والبيت وغير ذلك «4» ، وفي الآية التي تأتي أَنَّ البُدنَ من الشعائر، والمنافِعُ: التجارة وطلب الرزق أوِ الأجر والمغفرة، والأجل المُسَمَّى: الرجوعُ إلى مكة لطواف الأُفاضة، ومَحِلُّها مأخوذٌ من إحلال المحرم، والمعنى: ثم أُخِّروا هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق، فالبيتُ على هذا التأويل مُرَادٌ بنفسه، قاله مالك في «الموطإ» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 146) برقم (25142) ، وذكره البغوي (3/ 286) ، وابن عطية (4/ 121) ، وابن كثير (3/ 219) ، والسيوطي (4/ 647) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 148) برقم (25156) عن مجاهد، وعن قتادة برقم (25160) ، وذكره البغوي (3/ 287) ، وابن عطية (4/ 121) ، والسيوطي (4/ 647) ، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 148) برقم (25162) ، وذكره البغوي (3/ 287) ، وابن عطية (4/ 121) ، والسيوطي (4/ 647) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك وعطاء. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 146) برقم (25148) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (4/ 121) . [.....]

[سورة الحج (22) : آية 36]

ت وأظهرُ هذه التأويلات عندي تأويلُ عطاءٍ، وفي الثالث بعضُ تكلُّفٍ، ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل أُمة من الأُمم المؤمنة منسكاً، أي: موضعَ نُسُكٍ وعبادة، هذا على أَنَّ المنسك ظرف، ويحتملُ أَنْ يريد به المصدر كأنه قال: عبادة، والناسِكِ العابد. وقال مجاهد «1» : سُنَّةً في هراقة دماء الذبائح. وقوله: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له لأَنَّهُ رازق ذلك، وقوله: فَلَهُ أَسْلِمُوا أي: آمنوا، ويحتمل أَنْ يريد استسلموا، ثم أمر سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلّم أَنْ يُبَشِّرَ بشارةً على الإطلاق، وهي أبلغ من المفسرة لأنها مُرْسَلَةٌ مع نهاية التخيل للمخبتين المتواضعين الخاشعين المؤمنين، والخبت ما انخفض من الأَرض، والمُخْبِتُ المتواضع الذي مَشْيُهُ متطامن كأنه في حدورٍ من الأرض، وقال عمرو بن أوس «2» : المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. قال ع «3» : وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهيّن الليّن، وقال مجاهد: هم المطمئنون بأمر اللهِ تعالى، ووصفهم سبحانه بالخوفِ والوَجَلِ عند ذكر الله تعالى، وذلك لِقُوَّةِ يقينهم ومراقبتهم لربهم، وكأنهم بين يديه جلَّ وعلا، ووَصَفَهُم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها، ورُوِيَ: أَنَّ هذه الآية قوله: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ (رضي الله عنهم أجمعين) . [سورة الحج (22) : آية 36] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) وقوله سبحانه: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ البُدْنُ: جمع بدنة، وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة قاله عطاء وغيره «4» ، وسمّيت بذلك لأنها تبدن، أي: تسمن.

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 150) برقم (25171) ، وذكره ابن عطية (4/ 121) والسيوطي (4/ 648) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 151) برقم (25177) ، وذكره ابن عطية (4/ 122) ، وابن كثير (3/ 221) والسيوطي (4/ 649) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن عمرو بن أوس. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 123) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 152) برقم (25180) ، وذكره ابن عطية (4/ 122) ، وابن كثير (3/ 221) .

وقيل: بل هذا الاسم خاصٌّ بالإبل، والخير هنا قيل فيه ما قيل في المنافع التي تَقدَّم ذكرُها، والصوابُ عُمُومُه في خير الدنيا والآخرة. وقوله: عَلَيْها يريد عند نَحْرِها، وصَوافَّ، أي: مُصْطَفَّةً، وقرأ ابن مسعود «1» ، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم: «صَوَافِنَ» جمع صَافِنَة، وهي التي رُفِعَتْ إحدى يديها بالعقل لئَلاَّ تضطرب، ومنه في الخيل الصَّافِناتُ الْجِيادُ [ص: 31] ، و «وجبت» معناه: سقطت. 26 أوقوله: فَكُلُوا مِنْها: / نَدْبٌ، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإِنسان من هديه، وفيه أَجْرٌ وامتثالٌ إذْ كان أهل الجاهليَّةِ لا يأكلون من هديهم، وتحرير القول في الْقانِعَ: أنَّهُ السائل والْمُعْتَرَّ المُتَعَرِّضُ من غير سؤال قاله الحسن ومجاهد وغيرهما «2» ، وعكست فرقة هذا القول، فحكى الطبريُّ «3» عن ابن عباس أنَّهُ قال: القَانِعُ: المُسْتَغني «4» بما أعطيته، والمعترُّ: هو المتعرض «5» ، وحكي عنه أَنَّهُ قال: القَانِعُ: المُتَعَفِّفُ، والمُعترُّ: السائل «6» . قال ع «7» : يُقَالُ: قَنَعَ الرجلُ- بفتح النون- يَقْنَعُ قُنُوعاً فهو قَانِعٌ إذا سأل فالقانع: هو السائل بفتح النون في الماضي، وقَنِعَ- بكسر النون- يَقْنَعُ قَنَاعَةً فهو قَنِعٌ إذا تَعَفَّفَ واستغنى ببلغته قاله الخليل بن أحمد.

_ (1) وقرأ بها النخعي، وأبو جعفر محمد بن علي، والأعمش. ينظر: «الشواذ» (97، 98) ، و «المحتسب» (2/ 81) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 122) ، و «البحر المحيط» (6/ 342) ، و «الدر المصون» (5/ 150) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 157، 158) برقم (25231، 25232، 25233، 25236، 25237) عن الحسن، وذكره البغوي (3/ 288) ، وابن عطية (4/ 123) ، والسيوطي (4/ 654) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن الحسن، وعزاه أيضا للبيهقي في «سننه» عن مجاهد، وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. (3) سبق تخريجه. (4) في ج: المستغنى والمستغني. (5) أخرجه الطبريّ (9/ 156) برقم (25219) ، وذكره البغوي (3/ 288) بنحوه، وابن عطية (4/ 123) ، وابن كثير (3/ 222) ، والسيوطي (4/ 653) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (6) أخرجه الطبريّ (9/ 156) برقم (25222) ، وذكره ابن عطية (4/ 123) ، وذكره ابن كثير (3/ 222) ، والسيوطي (4/ 653) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 123) .

[سورة الحج (22) : الآيات 37 إلى 39]

[سورة الحج (22) : الآيات 37 الى 39] لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) وقوله سبحانه: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ... الاية: عبارة مبالغة، وهي بمعنى: لن تُرْفَعَ عنده سبحانه، وتتحصل سبب ثواب، والمعنى: ولكن تُنَالُ الرِّفْعَةُ عنده، وتحصلُ الحسنة لديه بالتقوى. وقوله تعالى: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ رُوِيَ: أن قوله: «وبشر المحسنين» نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تَقَدَّمَ في التي قبلها، وظاهر اللفظ العمومُ في كل مُحْسِنٍ. وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: «يَدْفَعُ» «1» وَلَوْلا دَفْعُ [الحج: 40] . قال أبو علي: أجريت «دافع» مُجْرى «دفع» كعاقبت اللِّصَّ وطارقت النعلَ، قال أبو الحسن الأَخْفَشُ: يقولون: دافع الله عنك، ودفع عنك، إلاَّ أَنَّ «دفع» أكثر في الكلام. قال ع «2» : ويحسن «يدافع» لأَنَّهُ قد عنّ للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم، فيجيء دفعه سبحانه مدافعةً عنهم، وروي أَنَّ هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لَمَّا كَثُروا بمكة وآذاهم الكُفَّارُ هَمَّ بعضُهم أَنْ يقتل مَنْ أمكنه من الكُفَّارَ، ويغتالَ، وَيَغْدُرَ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: كَفُورٍ، ثم أَذِنَ الله سبحانه في قتال المؤمنين لِمَنْ قاتلهم من الكفار بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ. وقوله: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا معناه: كان الإذن بسبب أنهم «3» ظُلِمُوا، قال ابن جريج «4» : وهذه الآية أول ما نقضت الموادعة.

_ (1) وحجتهما أن الله- جل وعز- لا يدافعه شيء، وهو يدفع عن الناس، فالفعل له وحده لا لغيره. وحجة الباقين أنه يدافع مرة بعد مرة. ينظر: «السبعة» (437) ، و «الحجة» (5/ 278) ، و «إعراب القراءات» (2/ 79) ، و «معاني القراءات» (2/ 181) ، و «شرح الطيبة» (5/ 69) ، و «العنوان» (134) ، و «حجة القراءات» (477) ، و «شرح شعلة» (504) ، و «إتحاف» (2/ 277) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 123) . (3) في ج: أنهم عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم. [.....] (4) ذكره ابن عطية (4/ 124) .

[سورة الحج (22) : الآيات 40 إلى 41]

قال ابن عباس «1» ، وابن جُرَيْجٍ «2» : نزلتُ عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة. وقال أبو بكر الصديق: لَمَّا سمعتُهَا، علمتُ أنَّه سيكون قتال «3» . قلت: وهذا الحديث خَرَّجَهُ الترمذيُّ، قال ابن العربيِّ: ومعنى أُذِنَ: أبيح، وقرىء «يُقَاتِلُونَ» بكسر التاء وفتحها «4» ، فعلى قراءة الكسر: تكونُ الآية خبراً عن فعل المأذونِ لهم، وعلى قراءة الفتح: فالآية خبرٌ عن فعل غيرهم، وأَنَّ الإذْنَ وقع من أجل ذلك لهم، ففي فتح التاء بيانُ سبب القتال، وقد كان الكفار يتعمدون النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالإذاية ويعاملونهم بالنكاية، وقد قتل أبو جهل سُمَيَّةَ أمَّ عمار بن ياسر، وعُذِّبَ بلالُ، وبعد ذلك جاء الانتصار بالقتال، انتهى، ثم وعد سبحانه بالنصر في قوله: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. [سورة الحج (22) : الآيات 40 الى 41] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وقوله سبحانه: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يريد كُلَّ مَنْ خرج من مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوه بإذايتهم، - طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة-، ونسب الإخراج إلى الكفار لأَنَّ الكلام في معرض تقرير الذنب، وإلزامه لهم.

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 325) كتاب «التفسير» : باب ومن سورة الحج حديث (3171) ، وأحمد (1/ 216) ، والطبريّ (9/ 161) رقم (25255) وابن حبان (1687- موارد) والحاكم (3/ 7) والطبراني (12/ 16) رقم (12336) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 294) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 655) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. (2) في ج: حي. (3) ينظر الأثر السابق. (4) قرأ بفتح التاء كل من نافع، وأبي عمارة، واين اليتيم، وهبيرة عن حفص عن عاصم، مع ضم همزة «أذن» . وقرأ بكسر التاء مع ضم الهمزة- عاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو. وقرأها مكسورة مع فتح همزة «أذن» كل من ابن كثير، وحمزة، والكسائيّ. وقرأها ابن عامر مفتوحة الهمزة والتاء. ينظر: «السبعة» (437) ، و «الحجة» (5/ 280) ، و «إعراب القراءات» (2/ 79) ، و «معاني القراءات» (2/ 182) ، و «شرح الطيبة» (5/ 69- 70) ، و «العنوان» (135) ، و «حجة القراءات» (478) ، و «شرح شعلة» (504) ، و «إتحاف» (2/ 276) .

وقوله: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا/ رَبُّنَا اللَّهُ استثناءٌ مُنْقَطِعٌ. قال ص: وأجاز أبو إسحاق وغيرُه أنْ يكون في موضع جَرٍّ بدلاً من حَقَّ، أي: بغير مُوجِبٍ سوى التوحيدِ الذي ينبغي أن يكونُ مُوجِبَ الإقرار، لا مُوجِبَ الإِخراج، ومثله: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] انتهى، وهو حَسَنٌ من حيث المعنى، والانتقاد عليه مُزَيَّفٌ. وقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية تقوية للأمر بالقتال، وذكر أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ في الأمم، وبه صَلُحَتِ الشرائع، فكأنه قال: أُذِنَ في القتال، فليقاتلِ المؤمنون، ولولا القتالُ والجهادُ لَتُغُلِّبَ على الحَقِّ في كُلِّ أُمَّةٍ، هذا أصوب تأويلات الآية، والصومعة: موضع العبادة، وهي بِنَاءٌ مرتفع، منفرد، حديد الأعلى، والأصمع من الرجال: الحديد القول، وكانت قبل الإسلام مُخْتَصَّةً برهبان النصارى، وعُبَّادِ الصابئين «1» قاله قتادة «2» ، ثم اسْتُعْمِلَتْ «3» في مئذنة المسلمين، والبِيَعُ: كنائس النصارى، واحدتها: بِيعَةٌ. وقال الطبري «4» : قيل: هي كنائس اليهود، ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، والصلوات مشتركة لكل مِلَّةٍ واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطيلها أو أرادَ موضع صلواتٍ، وقال أبو العالية «5» : الصلوات مساجد الصابئين، وقيل: غير هذا. وقوله: يُذْكَرُ فِيهَا الضمير عائد على جميع ما تَقَدَّمَ، ثم وعد سبحانه بنُصْرَةِ دينه وشرعه، وفي ذلك حَضٌّ على القتال والجدِّ فيه، ثم الآية تَعُمُّ كل مَنْ نصر حقّاً إلى يوم القيامة. وقوله سبحانه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ... الآية: قالت فرقة: هذه الآية في الخلفاءِ الأربعة، والعمومُ في هذا كله أبينُ، وبه يَتَّجِهُ الأمر في جميع الناس، وإنَّما الآية آخذة عهداً على كُلِّ مَنْ مُكِّنَ [في الأرض] «6» على قدر ما مكّن، والآية

_ (1) في ج: الصابئين. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 164) برقم (25272) ، وذكره البغوي (3/ 290) ، وابن عطية (4/ 125) ، وابن كثير (3/ 226) ، والسيوطي (4/ 657) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) في ج: استعمل. (4) ينظر: «الطبريّ» (9/ 164) . (5) أخرجه الطبريّ (9/ 165) برقم (25285) ، وذكره ابن عطية (4/ 125) ، وابن كثير (3/ 226) ، والسيوطي (4/ 657) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي العالية. (6) سقط في ج.

[سورة الحج (22) : الآيات 42 إلى 51]

أمكن ما هي في الملوك. وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ: تَوَعُّدٌ للمخالف عن هذه الأمور التي تقتضيها الآية لمن مكن. [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 51] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وقوله سبحانه: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ: يعني: قريشاً، فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى ... الآية: فيها وعيد لقريش، وفَأَمْلَيْتُ معناه: أمهلتُ، والنكير مصدر بمعنى الإنكار. [وقوله] «1» : «وبير معطلة» قيل: هو معطوف على العروش، وقيل: على القرية وهو أصوب. ثم وَبَّخَهُمْ تعالى على الغفلة وترك الاعتبار بقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وهذه الآية تقتضي أَنَّ العقل في القلب، وذلك هو الحق، ولا يُنْكَرُ أَنَّ للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ. وقوله: فَتَكُونَ: نصب بالفاء في جواب الاستفهام صُرِفَ الفعلُ من الجزم إلى النصب. وقوله سبحانه: فَإِنَّها لاَ تَعْمَى الْأَبْصارُ لفظ مبالغة كأنه قال: ليس العمى عَمَى العين، وإنما العمى كُلَّ العمى عَمَى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى، ولكن المقصود ما

_ (1) سقط في ج.

[سورة الحج (22) : آية 52]

ذكرنا وهذا كقوله صلى الله عليه وسلّم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ» «1» ، وَ «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطّواف» «2» ، والضمير في فَإِنَّها للقصة ونحوها من التقدير، والضميرُ في يَسْتَعْجِلُونَكَ لقريشٍ. وقوله: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وعيد وإخبار بأنَّ كل شيءٍ إلى وقت محدود، والوعد هنا مُقَيَّدٌ بالعذاب. وقوله سبحانه: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ/ قالت فرقة: معناه 27 أوإنّ يوماً من أَيَّامِ عذاب الله كألف سنة من هذه لطول العذاب وبؤسه، فكان المعنى أي من هذه السنين فما أَجْهَلَ مَنْ يَسْتَعْجِلَ هذا، وكُرِّرَ قوله: وَكَأَيِّنْ لأَنَّهُ جلب معنى آخر ذكر أَوَّلاً القرى المُهْلَكَةَ دون إملاء بل بعقب التكذيب، ثم ثَنَّى سبحانه بالممهلة لئلاَّ يفرحَ هؤلاء بتأخير العذاب عنهم، وباقي الآية بيّن، والرزق الكريم: الجنة، ومُعاجِزِينَ معناه: مغالبين، كأَنهم طلبوا عَجْزَ صاحب الآياتِ، والآيات تقتضي تعجيزهم فصارت مفاعلة. [سورة الحج (22) : آية 52] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... الآية. قلت: قال [القاضي أبو الفضل] «3» عياض: وقد توجهت هاهنا لبعض الطاعنين سُؤَالاتٍ منها ما رُوِيَ مِنْ: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم لما قرأ سورة «والنجم» وقال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] قال: تِلْكَ الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتها لترتجى» «4» .

_ (1) أخرجه مالك (2/ 906) كتاب «حسن الخلق» : باب ما جاء في الغضب، حديث (12) ، والبخاري (10/ 535) كتاب «الأدب» : باب الحذر من الغضب، حديث (6114) ، ومسلم (4/ 2014) كتاب «البر والصلة» : باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، حديث (107/ 2609) ، وأحمد (2/ 236) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 531- بتحقيقنا) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (11212) من حديث أبي هريرة. (2) تقدم تخريجه. [.....] (3) سقط في ج. (4) أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/ 53) رقم (12450) ، والبزار في «مسنده» كما في «تخريج الكشاف» (2/ 391) ، وابن مردويه كما في المصدر السابق، كلهم من طريق يوسف بن حماد ثنا أمية بن خالد، ثنا-

_ - شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فذكر القصة. وقال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد، ولا نعلم أحدا أسند هذا الحديث عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس إلا أمية، ولم نسمعه نحن إلا من يوسف بن حماد، وكان ثقة، وغير أمية يحدث به عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مرسلا، وانما يعرف هذا الحديث عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وأمية ثقة مشهور اهـ. وقد مشى الهيثمي على ظاهر السند، فقال في «المجمع» (7/ 118) : رواه البزار والطبراني، ورجالهما رجال الصحيحين. وهذا الطريق فيه اضطراب، فقد رواه بعضهم عن أبي بشر عن سعيد مرسلا وقد أشار إلى ذلك البزار رحمه الله. وهذا الطريق أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 176) رقم (25331) من طريق محمد بن جعفر: ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مرسلا. وقد رويت هذه القصة عن محمد بن كعب القرظي، وعن قتادة، وعن أبي العالية مرسلة: أما مرسل محمد بن كعب، فأخرجه الطبريّ (9/ 175- 176) رقم (25328) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 662) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور. مرسل قتادة: أخرجه الطبريّ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 663) ، وعزاه لابن أبي حاتم. أما مرسل أبي العالية، فأخرجه الطبريّ (9/ 176) رقم (25330) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 663) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. وللحديث طريق موصول عن ابن عباس: أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 176) رقم (25333) : حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس به. قال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (2/ 392) : ولكن فيه عدة مجاهيل عينا وحالا ا. هـ. وقد طعن فيها كثير من المحققين والمحدثين، قال البيهقي وهو من كبار رجال السنة: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وقال القاضي عياض في: «الشفاء» : إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، والمولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ومن حكيت عنه هذه المقالة من المفسرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع منها حديث شعبة، عن أبي البشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب (الشك في وصل الحديث) : «أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان بمكة وذكر القصة» : قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعرفه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم بإسناد متصل، إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي خالد عن ابن عباس، فقد بين أبو بكر أنه لا يعرف عن طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه، وأما حديث الكلبي: فمما لا يجوز الرواية منه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ا. هـ. وكذا أنكر القصة القاضي أبو بكر بن العربي وطعن فيها من جهة النقل، وسئل محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن هذه القصة، فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا، وذهب إلى وضعها الإمام: أبو منصور الماتريدي، في كتاب «حصص الأتقياء» حيث قال: الصواب أن قوله: «تلك الغرانيق العلى» من جملة-

_ - إيحاء الشياطين إلى أوليائه من الزنادقة، حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين، ليرتابوا في صحة الدين، والرسالة بريئة من مثل هذه الرواية. فها نحن نرى: أن من أنكرها وقضى بوضعها أكثر ممن صححها اعتمادا على روايات مرسلة. ومما يقلل الثقة بالحديث: اضطراب الروايات اضطرابا فاحشا. فقائل يقول: إنه كان في الصلاة، وقائل يقول: قالها في نادي قومه، وثالث يقول: قالها وقد أصابته سنة. ورابع يقول: بل حدّث نفسه فيها. ومن قائل: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؟ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان: أن النبي قرأها كما رويت: تلك الغرانيق العلى على أنحاء مختلفة، وكل هذا الاضطراب ممّا يوهن الرواية، ويقلل الثقة بها. والحق أبلج والباطل لجلج. وقد حكمت الصنعة والقواعد الاصطلاحية على الحافظ ابن حجر، فصحح القصة، وجعل لها أصلا، قال في «الفتح» ، في تفسير سورة الحج، بعد ما ساق الطرق الكثيرة: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف، وإما منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا، مع أن لها طريقين مرسلين آخرين، رجالهما على شرط الصحيح: أحدهما: ما أخرجه الطبريّ من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فذكر نحوه. والثاني: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمد بن سليمان، وحماد بن سلمة، فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، وبعد أن ذكر كلام القاضي أبي بكر بن العربي، وعياض قال: وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتبينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرت أن ثلاثة أساتيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل، يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج، لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما فيها مما يستنكر، وهو قوله: «ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا» ، فإنه لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلّم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس منه، وكذا سهوا إن كان مغايرا لما جاء به من التوحيد، لمكان عصمته، وقد سلك العلماء في ذلك مسالك ... ، وبعد أن ذكر الكثير منها، ولم يرتضه، ارتضى لتصحيح القصة هذا التأويل: وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يرتل القرآن ترتيلا، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمة محاكيا نغمته، بحيث سمعها من دنا، فظنه من قوله، وأشاعها بين الناس، قال: وهو الذي ارتضاه عياض وأبو بكر بن العربي ا. هـ، والقاضيان: عياض وأبو بكر رأيهما البطلان نقلا وعقلا، ولكنهما ارتضيا ذلك تنزلا على تسليم الصحة. والذي أجيب به على ما ذكره الحافظ: 1- أن جمهور المحدثين لم يحتجوا بالمرسل، وجعلوه من قسم الضعيف لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي، وحينئذ: يحتمل أن يكون ثقة أو غير ثقة. وعلى الثاني: فلا يؤمن أن يكون كذابا، والإمام مسلم قال في مقدمة كتابه: والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالإخبار: ليس بحجة. وقال ابن الصلاح في مقدمته: «وذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل، والحكم بضعفه: هو الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث، وتداولوه في تصانيفهم» ، والاحتجاج به مذهب مالك، وأبي حنيفة والشافعي، بشروط ذكرها في رسالته، ونقلها العراقي في شرح ألفيته، وقد قالوا في مراسيل أبي العالية: إنها كالريح، كما في: «التدريب» وإني لأذكر الحافظ بما ذكره من البلاء في الاحتجاج بالمراسيل-

قال عياض: اعلم (أكرمك الله) أَنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله. والثاني: على تقدير تسليمه. أما المأخذ الأَوَّلُ: فيكفيك أنَّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولاَ رَوَاهُ ثقة بسند مُتَّصِلٍ سليم وإنما أولع به وبمثله المُفَسِّرُون والمؤرِّخُونَ المُولَعُونَ بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكيُّ (رحمه الله تعالى) حيث يقول: لقد بُلِيَ الناسُ ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض: قال أبو بكر البَزَّارُ: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم بإسناد مُتَّصل يجوزُ ذكرُه وإنَّما يُعْرَفُ عن الكلبيِّ. قال عياض: والكلبيُّ مِمَّنْ لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكْرُهُ لقوَّةِ ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البَزَّارُ، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلّم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية «1» قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يُدْخِلْهُ البخاريُّ ولا مسلم، ولا ذكره- في علمي- مُصَنِّفٌ مشهور بل يقتضي مذهبُ أهل الحديث أَنَّ الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره.

_ - في مقدمة كتابه «لسان الميزان» . 2- الاحتجاج بالمرسل إنما هو في الفرعيات التي يكفي فيها الظن، أما الاحتجاج به على إثبات شيء يصادم العقيدة وينافي دليل العصمة فغير مسلم، وقد قال علماء التوحيد: إن خبر الواحد لو كان صحيحا لا يؤخذ به في العقائد لأنه لا يكتفي فيها إلا باليقين، فما بالك بالضعيف؟!! 3- هذا التأويل الذي ارتضاه ما أضعفه عند النظر والتأمل، فهو يوقع متأوله فيما فر منه، وهو تسلط الشيطان على النبي، فالتسلط عليه بالمحاكاة، كالتسلط عليه بالإجراء على لسانه، كلاهما لا يجوز، وفتح هذا الباب خطر على الرسالات، وإذا سلمنا أن الشيطان هو الذي نطق في أثناء سكوت الرسول، فكيف لا يسمع ما حكاه الشيطان؟ وإذا سمعنا، فكيف لا يبادر إلى إنكارها؟ والبيان في مثل هذا وجب على الفور، وإذا لم يسمع النبي، ألم يسمع أصحابه؟ وإذا سمعوا، فكيف يسكتون؟ وإذا لم يسمعوا فهل بلغ من تسلط الشيطان أن يحول بينهم وبين السماع؟ ومثل هذا: ما ذكره موسى بن عقبة في «مغازيه» : من أن المسلمين ما سمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، فهل كان الشيطان يسر في آذان المشركين دون المؤمنين؟ ثم كيف يتفق هذا وما روي: من أن النبي حزن حزنا شديدا، وأن جبريل قال له: ما جئتك بهذا الحق!! الحق: أن نسج القصة مهما تأوّل فيه المتأولون فهو مهلهل متداع لا يثبت أمام البحث. ينظر: «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» ص 245 وما بعدها بتصرف. (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 129) .

[سورة الحج (22) : الآيات 53 إلى 57]

قال ع «1» : وحدثني أَبي (رحمه الله تعالى) أَنَّهُ لَقِيَ بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين مَنْ قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو المعصوم في التبليغ وإنَّما الأمرُ يعني على تقدير صحَّته- أَنَّ الشيطان نَطَقَ بلفظ أسمعه الكفّار عند قول النبي صلى الله عليه وسلّم: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] . وقرّب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلّم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد رُوِيَ نحوُ هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي. قلت: قال عياض: وقد أعاذنا الله من صِحَّتِهِ، وقد حكى موسى «2» بن عقبة في «مغازيه» نحوَ هذا، وقال: إنَّ المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، ومعنى قوله تعالى: تَمَنَّى أي: تلا ومنه قوله تعالى: لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [البقرة: 78] . أي: تلاوة، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أي: يُذْهِبُهُ، ويزيل اللبس به ويُحكمُ آياته، وعبارة البخاريِّ «3» : وقال ابن عباس: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، أي: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقى الشيطان/ ويحكم 27 ب آياته، ويقال: أُمْنِيَّتِهِ: قراءته. انتهى. قال عياض: وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلّم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك، ويرجعُ عنه، انتهى. [سورة الحج (22) : الآيات 53 الى 57] لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وقوله سبحانه: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً الفتنة: الامتحانُ والاختبار، والذين في قلوبهم مرض: عامَّةُ الكُفَّارِ، وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ خواصُّ منهم عتاة: كأبي جهل وغيره، والشقاق: البعد عن الخير والكون في شقّ غير شقّ الصلاح، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: هم أصحاب نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم، والضمير في أَنَّهُ: عائد على القرآن،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 129) . (2) في المطبوعة (محمد) والمثبت من «السير» للذهبي (6/ 114) ترجمة (31) . (3) انظر: «صحيح البخاري» (8/ 292) كتاب التفسير: باب سورة الحج.

[سورة الحج (22) : الآيات 58 إلى 62]

فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ: معناه: تتطامن وتَخْضَعُ، وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض كما تقدم. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي: من القرآن، والمريةُ: الشَّكُّ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ يعني يوم القيامة، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قيل: يوم بدر، وقيل: الساعةُ سَاعَةُ موتهم، واليوم [العقيم] «1» يومُ القيامة. [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 62] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا ... الآية، ابتداءُ معنى آخرُ وذلك أَنَّهُ لما مات عثمانُ بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: مَنْ قُتِلَ من المهاجرين أَفْضَلُ مِمَّنْ ماتَ حَتْفَ أنفه. فنزلت هذه الآية مُسَوِّيَةً بينهم في أنَّ الله تعالى يرزقُ جميعهم رِزْقاً حسناً، وليس هذا بقاضٍ بتساويهم في الفضل، وظاهِرُ الشريعة أَنَّ المقتول أفضل، وقد قال بعض الناس: المقتول والميت في سبيل الله شهيدَانِ، ولكن للمقتول مَزِيَّةُ ما أصابه في ذات الله، والرزق الحسن يحتمل: أن يريد به رزق الشهداءِ عند ربهم في البرزخ، ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة «2» ، وقرأت «3» فرقة: «مُدْخَلاً» - بضم الميم- من أدخل فهو محمولٌ على الفعل [المذكور، وقرأت فرقة: «مَدْخَلاً» - بفتح الميم- من دخل فهو محمول على فعل] «4» مُقَدَّرٍ تقديره: فَيَدْخُلُونَ مَدْخَلاً، ثم أخبر سبحانه عَمَّنْ عاقب من المؤمنين مَنْ ظلمه من الكفرة، وَوَعَدَ المَبْغِيَّ عليه بأنه ينصره، وذلك أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفّار في

_ (1) سقط في ج. (2) ذكره ابن عطية (4/ 130) . (3) بفتح الميم قرأ نافع، وبضمها قرأ الباقون. ينظر: «السبعة» (439، 440) ، و «الحجة» (5/ 284) ، و «إعراب القراءات» (2/ 83) ، و «العنوان» (135) ، و «حجة القراءات» (481) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 278) . (4) سقط في ج.

[سورة الحج (22) : الآيات 63 إلى 64]

الأشهر الحُرْم فأبى المؤمنون من قتالهم، وأبى المشركون إلاَّ القتال، فلمَّا اقتتلوا، جَدَّ المؤمنون ونصرهم الله تعالى فنزلت الآية فيهم «1» ، وجَعَلَ تقصيرَ الليلِ وزيادَة النهار وعكسهما إيلاجاً تجوُّزاً وتشبيها، وباقي الآية بيّن. [سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 64] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قوله: فَتُصْبِحُ عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلّا ب «مكّة» «2» و «تهامة» . [قال ع «3» : ومعنى هذا أنه أخذ قوله: فَتُصْبِحُ مقصوداً به صباحُ ليلة المطر، وذهب إلى أَنَّ ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر] «4» . قال ع «5» : وقد شاهدتُ هذا في السُّوسِ الأقصى، نزل المطرُ ليلاً بعد قَحْطٍ، وأصبحت تلك الأرض الرملة التي تسفيها الرياح قد اخضَرَّت بنبات ضعيف دقيق. قلت: وقد شاهدتُ أنا ذلك بصحراء سواكن بالمشرق، وهي في حكمُ مكةَ إلاَّ أَنَّ البحر قد حال بينهما وذلك أَنَّ التعدية من جده إلى «سواكنَ» مقدار يومين في البحر أو أقلَّ بالريح المعتدلة، وكان ذلك في أَوَّلِ الخريف، وأجرى الله العادة أَنَّ أَمطارَ تلك البلاد تكونُ بالخريف فقط، هذا هو الغالب، ولَمَّا شاهدتُ ذلك تذكرتُ هذه الآية/ الكريمة، 28 أفسبحان الله ما أعظم قدرته! واللطيف: المُحَكَّمُ للأمور برفق. [سورة الحج (22) : الآيات 65 الى 67] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 131) . [.....] (2) ذكره ابن عطية (4/ 131) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 131) . (4) سقط في ج. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 131) .

[سورة الحج (22) : الآيات 68 إلى 71]

وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي: سَخَّرَ لنا سبحانه ما في الأرض من الحيوان والمعادِنِ وسائر المرافق، وباقي الآية بين مما ذكر في غير هذا الموضع. وقوله سبحانه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً الآية، المنسك: المصدر، فهو بمعنى: العبادة والشِّرْعَةُ، وهو أيضاً موضع النسك، وقوله: هُمْ ناسِكُوهُ يعطى أَنَّ المنسكَ: المصدر، ولو كان الموضعَ لقال: هم ناسكون فيه. [سورة الحج (22) : الآيات 68 الى 71] وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وقوله سبحانه: وَإِنْ جادَلُوكَ ... الآية موادعة محضة نسختها آية السيف «1» ، وباقي الآية وعيد. وقوله سبحانه: إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ يعني: اللوح المحفوظ. وقوله سبحانه: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يحتمل أنْ تكونَ الإشارة إلى الحكم في الاختلاف. [سورة الحج (22) : الآيات 72 الى 74] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يعني: أَنَّ كُفَّارَ قريش كانوا إذا تُلِيَ عليهم القرآنُ، وسمعوا ما فيه من رفض «2» آلهتهم والدعاءِ إلى التوحيدُ- عُرِفَتِ المساءةُ في وجوههم والمنكرُ من معتقدهم وعداوتهم، وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتَّالِينَ، والسطو إيقاع ببطش، ثم أمر تعالى نبيّه عليه السلام

_ (1) قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية [التوبة 29] . وقيل غير ذلك. (2) في ج: بغض.

[سورة الحج (22) : الآيات 75 إلى 77]

أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع: أَفَأُنَبِّئُكُمْ أي: أخبركم. بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ: والإشارة بذلكم إلى السطو، ثم ابتدأ بخبر كأن قائلاً قال له: وما هو؟ قال: النَّارُ «1» أي: نار جهنم. وقوله: وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل أَنْ يكون أراد: أَنَّ الله تعالى وعدهم بالنار، فيكونُ الوعد في الشر، ويحتمل أَنَّهُ أراد: أَنَّ الله سبحانه وعد النارَ «2» بأن يُطْعِمَهَا الكُفَّارَ، فيكون الوعد على بابه، إذ الذي يقتضي قولها: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] ونحو ذلك، أَنَّ ذلك من مَسَارِّها. قلت: والظاهر الأَوَّل. وقوله سبحانه: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ... الآية: ذكر تعالى أمر سالب الذباب، وذلك أنهم كانوا يضمخون «3» أوثانهم بأنواع الطِّيبِ فكان الذبابُ يتسلط ويذهب بذلك الطيب، وكانوا يتألّمُون من ذلك، فَجُعِلَتْ مثلاً، واخْتَلَفَ المتأوَّلُون في قوله تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فقالت فرقة: أراد بالطالب: الأصنامَ، وبالمطلوبِ: الذبابَ، أي: أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان، وقيل: معناه: ضَعُفَ الكُفَّارُ في طلبهم الصوابَ والفضيلةَ من جهة الأصنام، وضَعُفَ الأصنامُ في إعطاء ذلك وإنالته. قال ع «4» : ويحتمل أنْ يريد: ضعف الطالب وهو الذبابُ في استلابه ما على الأصنامِ، وضعف الأصنام في أنْ لا منعة لهم، وبالجملة فدلتهم الآيةُ على أَنَّ الأصنام في أَحَطِّ رُتْبَةٍ، وأَخَسِّ منزلة لو كانوا يعقلون. وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ المعنى: ما وَفَّوْهُ حقّه سبحانه من التعظيم والتوحيد. [سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 77] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)

_ (1) في ج: النار، فيكون الوعد في الشر. (2) في ج: الناس. (3) الضمخ: لطخ الجسد بالطّيب حتى كأنما يقطر. ينظر: «لسان العرب» (2605) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 134) .

وقوله سبحانه: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ... الآية: نزلت بسبب قول الوليد بن المُغِيرَةِ: أَأُنْزِلَ «1» عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] . ص: أبو البقاء: وَمِنَ النَّاسِ أي: رسلا، انتهى، ثم أمر سبحانه بعبادته 28 ب وخَصَّ الركوعَ والسجودَ بالذكر تشريفاً/ للصلاة، واختلف الناسُ: هل [في] «2» هذه الآية سجدة أم «3» لا؟. قال ابنُ العربيّ «4» في «أحكامه» : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا تَقَبَّلَهَا قوم على أَنَّها سجدةُ تلاوة فسجدوها. وقال آخرون: هو سجود الصلاة فقصروه عليه، ورأى عمرُ وابنُه عبدُ الله رضي الله عنهما: أنها سجدةُ تلاوة، وإنِّي لأَسجُدُها وأراها كذلك «5» لما رَوَى ابنُ وهب، وغيره عن مالك، وغيره «6» ، انتهى. وقوله سبحانه: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ نَدْبٌ فيما عدا الواجبات. قلت: وهذه الآية الكريمةَ عَامَّةٌ في أنواع الخيرات، ومن أعظمها الرأفةُ والشفقة على خَلْقِ الله، ومُوَاساةُ الفقراء وأهلِ الحاجة، وقد روى أبو داود والترمذيّ عن النبي صلى الله عليه وسلّم [أنه قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ] «7» كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وأَيُّما مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ» «8» . انتهى. وروى عليُّ بن عبد العزيز البَغَوِّيُّ في «المُسْنَد المنتخب» عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً، كَانَ فِي حِفْظِ اللهِ مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ رُقْعَةٌ» «9» . وروى ابن أبي شَيْبَة في «مُسْنَدِهِ» عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «أيّما أهل

_ (1) في ج: نزل. (2) سقط في ج. (3) في ج: أو. (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1304) . [.....] (5) ذكره البغوي (3/ 299) . (6) ذكره البغوي (3/ 299) . (7) سقط في ج. (8) تقدم تخريجه. (9) تقدم تخريجه.

[سورة الحج (22) : آية 78]

عَرْصَةٍ ظَلَّ فِيهُمُ امرؤ جَائِعاً، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللهِ» «1» . انتهى من «الكوكب الدري» . [سورة الحج (22) : آية 78] وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) وقوله سبحانه: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ قالت فرقة: الآية في قتال الكُفَّارِ. وقالت فرقة: بل هي أَعَمُّ من هذا، وهو جهاد النفس، وجهادُ الكفار والظَّلَمَةِ، وغيرِ ذلك، أمر اللَّه عباده بأَنْ يفعلوا ذلك في ذات الله حَقَّ فعله. قال ع «2» : والعموم أحسن، وبَيِّنٌ أَنَّ عُرْفَ اللفظة يقتضي القتال في سبيل الله. وقوله: هُوَ اجْتَباكُمْ [أي: تخيَّرَكم] «3» ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي: من تضييقٍ، وذلك أَنَّ المِلَّةَ حنيفية سَمْحَةٌ، ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم، بل فيها التوبة والكَفَّارَاتُ، والرُّخَصُ، ونحو هذا مِمَّا يكثر عَدُّهُ، ورفع الحرج عن هذه الأمة لمن استقام منهم على منهاج الشرع، وأَمَّا السُّلابة «4» والسُّرَّاقُ وأصحابُ الحدود فهم أَدخلوا الحَرَجَ على أنفسهم بمفارقتهم الدِّين، وليس في الدِّين أَشَدُّ من إلزام رجل لاثنين في سبيل الله، ومع صحة اليقين، وجودة العزم ليس بحرج ومِلَّةَ نصب بفعل مضمر من أفعال الإغراء.

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 33) ، والحاكم (2/ 11- 12) ، وأبو يعلى (10/ 117) رقم (5746) ، والبزار (1311- كشف) كلهم من طريق أبي بشر الأملوكي، عن أبي الزاهرية، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر به. وقال البزار: لا نعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 392) رقم (1174) عن أبيه: هذا حديث منكر. وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 103) : رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني في «الأوسط» ، وفيه أبو بشر الأملوكي، ضعفه ابن معين ا. هـ. ومن طريق أبي بشر ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 242- 243) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 135) . (3) سقط في ج. (4) السلّاب: جمع سالب، وهم أهل الاختلاس. ينظر: «لسان العرب» (2057) .

وقوله: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «1» قال ابن زيد «2» : الضمير ل إِبْراهِيمَ- عليه السلام- والإشارة إلى قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] ، وقال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: الضمير للَّه عز وجل «3» . ومِنْ قَبْلُ معناه: في الكتب القديمة، وَفِي هذا أي: في القرآن، وهذه اللفظة تُضْعِفُ قولَ مَنْ قال: الضمير لإبراهيم عليه السلام، ولا يتوجه إلاَّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف. قال ص: هُوَ قيل: يعود على الله تعالى، وقيل: على إبراهيم، وعلى هذا فيكون: وَفِي هذا: القرآن، [أي] «4» : وسميتم بسببه فيه، انتهى. وقوله سبحانه: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أي: بالتبليغ. وقوله: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي: بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نَبِيُّكم، ثم أمر سبحانه بالصلاة المفروضة أَنْ تُقَامَ ويُدَامَ عليها بجميع حدودها، وبالزكاة أَنْ تُؤَدَّى، ثم أمر سبحانه بالاعتصام به، أي: بالتعلُّق به والخلوص له وطَلَبِ النجاة منه، ورفض التوكّل على سواه. 29 أوقوله سبحانه: / هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ المولى: في هذه الآية معناه: الذي يليكم نصره وحفظه، [وباقي الآية بيّن] «5» .

_ (1) في ج: سمّاكم المسلمين. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 194) برقم (25405) ، وذكره ابن عطية (4/ 135) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 672) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 193، 194) برقم (25399، 25400) عن ابن عباس، وبرقم (25401) عن قتادة، وبرقم (25402، 25403) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (4/ 135) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 672) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد. (4) سقط في ج. (5) سقط في ج. [.....]

تفسير سورة المؤمنين

تفسير سورة المؤمنين بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أخبر الله سبحانه عن فلاح المؤمنين، وأنهم نالوا البُغْيَةَ، وأحرزوا البقاءَ الدائم. قلت: وعن عُمرَ بن الخَطَّاب رضي اللَّه عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلّم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْماً، فَمَكَثْنَا سَاعَةً، وَسُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ، زِدْنَا وَلاَ تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وَآثِرُنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وأرْضِنَا وارض عَنَّا» ، ثُمَّ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آياتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ» ، ثُمَّ قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم عشر آيات «1» رواه الترمذي واللفظ له والنسائيُّ والحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «سلاح المؤمن» . قلت: وقد نَصَّ بعض أئمتنا على وجوب الخشوع في الصلاة، قال الغزاليّ

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 326) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (3173) ، والنسائي في «الكبرى» (1/ 450) كتاب الوتر: باب رفع اليدين في الدعاء، حديث (1439) ، وأحمد (1/ 34) ، والحاكم (2/ 392) ، وعبد الرزاق (6038) ، والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 460) كلهم من طريق يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر بن الخطاب به. وقال النسائي: هذا حديث منكر، لا نعلم أحدا رواه غير يونس بن سليم، ويونس بن سليم لا نعرفه. وقال العقيلي في ترجمة يونس: لا يتابع على حديثه هذا ولا يعرف إلا به. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 4) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «الدلائل» ، والضياء في «المختارة» .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 إلى 11]

- رحمه الله-: ومِنْ مكائد الشيطان أن يَشْغَلَكَ [في الصلاة بفكر الآخرة وتدبيرِ فِعْلِ الخيرات لتمتنعَ عن فَهْمِ ما تقرأه، واعلم أَنَّ كلَّ ما أشغلك] «1» عن معاني قراءتك فهو وسواس فإنَّ حركة اللسان غيرُ مقصودة بل المقصود معانيها، انتهى من «الإحياء» . وروي عن مجاهد «2» : أَنَّ الله تعالى لما خلق الجَنَّةَ، وأتقن حُسْنَها قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين: فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ والخشوع التطامُنُ، وسكونُ الأعضاءِ، والوقارُ، وهذا إنَّما يظهر في الأعضاء مِمَّنْ في قلبه خوف واستكانة لأَنَّه إذا خشع قلبُه خشعت جوارِحُه، ورُوِيَ أَنَّ سبب الآية أَنَّ المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يُمْنَةً ويُسْرَةً فنزلت هذه الآيةُ، وأُمِرُوا أن يكون [بصرٍ] «3» المُصَلِّي حِذَاءَ قِبْلَتِه أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة، واللَّغْوِ: سقط القول، وهذا يَعُمُّ جميع ما لا خيرَ فيه، ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، أي: يُعْرِضُونَ عن اللغو، وكأنَّ الآية فيها موادعة. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ذهب الطبريُّ «4» وغيره إلى: أَنَّها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بَيِّنٌ، ويحتمل اللفظُ أَن يريد بالزكاة: الفضائلَ، كأنه أراد الأزكى من كل فعل كما قال تعالى: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف: 81] . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 الى 11] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلى قوله: هُمُ العادُونَ يقتضي تحريمَ الزِّنا والاستمناءِ ومواقعةِ البهائم، وكُلُّ ذلك داخل في قوله: وَراءَ ذلِكَ ويريد: وراءَ هذا الحَدِّ الذي حُدَّ، والعادي: الظالم، والأمانة والعهد يَجْمَعُ كُلَّ ما تحمَّله الإنسان من أمر دينه ودُنياه قولاً وفعلاً. وهذا يعمُّ معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، ورعاية ذلك حِفْظُهُ والقيام به، والأمانة أعمُّ من العهد إذ كل عهد فهو أمانة، وقرأ الجمهور:

_ (1) سقط في ج. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 196) (25411) ، وذكره ابن عطية (4/ 136) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 237) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 4) ، وعزاه لابن جرير عن مجاهد. (3) سقط في ج. (4) ينظر الطبريّ (9/ 199) .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 14]

«صلواتهم» وقرأ حمزة والكسائيّ: «صلاتهم» بالإفراد «1» ، والْوارِثُونَ يريد الجنة، وفي حديث أَبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَسْكَناً فِي الجَنَّةِ، وَمَسْكَناً فِي النَّارِ، فَأَمَّا المُؤْمِنُونَ فَيَأْخُذُونَ مَنَازِلَهُمْ، وَيَرِثُونَ مَنَازِلَ الكُفَّارِ، وَيَحْصُلُ الكُفَّارُ في منازلهم/ في النّار» . 29 ب قلت: وَخَرَّجَهُ ابن ماجه أيضاً بمعناه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْكُمْ إلاَّ [مَنْ] «2» لَهُ مَنْزِلاَنِ: مَنْزِلٌ فِي الجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ في النَّارِ، فَإذَا مَاتَ- يعني الإنسان- وَدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ فَذَلِكَ قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ» «3» قال القرطبي في «التذكرة» «4» : إسناده صحيح، انتهى من «التذكرة» . قال ع «5» : ويحتمل أَنْ يُسَمِّيَ الله تعالى حصولَهم في الجنة وراثة من حيثُ حصَّلُوهَا دون غيرهم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّ الله أحاط حائط الجَنَّةِ: لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَغَرَسَ غَرَاسَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فقالت: «قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ» فقال: طُوبَى لَك! مَنْزِلُ المُلُوكِ» «6» خرجه البغويُّ في «المسند المنتخب» له، انتهى من «الكوكب الدرّيّ» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 14] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)

_ (1) ينظر: «السبعة» (444) ، و «الحجة» (5/ 287) ، و «إعراب القراءات» (2/ 85) ، و «معاني القراءات» (2/ 187) ، و «شرح الطيبة» (5/ 75) ، و «العنوان» (136) ، و «حجة القراءات» (483) ، و «شرح شعلة» (507) ، و «إتحاف» (2/ 282) . (2) سقط في ج. (3) أخرجه ابن ماجه (2/ 1453) كتاب الزهد: باب صفة الجنة، حديث (4341) ، والطبريّ في «تفسيره» (9/ 200) رقم (25441) من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. قال البوصيري في «الزوائد» (3/ 327) : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 9) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» . (4) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 166) ، (2/ 569) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 137) . (6) أخرجه أبو نعيم في «صفة الجنة» (1/ 137) رقم (140) ، وفي «الحلية» (6/ 204) ، والبيهقي في «البعث» (236) من حديث أبي سعيد الخدري. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 400) وقال: رواه البزار مرفوعا وموقوفا، والطبراني في «الأوسط» ، ورجال الموقوف رجال الصحيح.

وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ... الآية: اخْتُلِفَ في قوله: «الإنسان» فقال قتادة وغيره [أراد آدم- عليه السلام- لأنه استُلَّ من الطين «1» . وقال ابن عباس وغيره] «2» : المراد ابنُ آدم «3» ، والقرارُ المكينِ من المرأة: هو مَوْضِعُ الولد، والمكين: المُتَمَكِّنُ، والعَلَقَةُ: الدَّمُ الغليظ، والمُضْغَةُ: بضعة اللحم قدرَ ما يُمْضَغُ، واختلف النَّاسُ في الخلق الآخر، فقال ابنُ عباس «4» وغيره: هو نفخ الرُّوح فيه. وقال ابن عباس «5» أيضاً: هو خروجه إلى الدنيا. وقال أيضاً «6» : تَصَرُّفُهُ في أمور الدنيا، وقيل: هو نباتُ شعره. قال ع «7» : وهذا التخصيص كُلُّهُ لا وجهَ له، وإنما هو عامٌّ في هذا وغيرِه: من وجوه النطق، والإدراك، وحسن المحاولة، وفَتَبارَكَ مطاوع بارك، فكأنها بمنزلة تعالى وَتَقَدَّسَ من معنى البركة. وقوله: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ معناه: الصانعين: يقال لمن صنع شيئاً: خَلَقَهُ، وذهب بعضُ الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس فقال ابن جريج «8» : إنَّما قال: الْخالِقِينَ لأَنَّهُ تعالى أَذِنَ لعيسى في أَنْ يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك.

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 202) (25452) ، وذكره ابن عطية (4/ 137) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 10) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (2) سقط في ج. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 202) (25454) بمعناه كما ذكره الطبريّ، والبغوي (3/ 304) ، وابن عطية (4/ 137) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 10) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. [.....] (4) أخرجه الطبريّ (9/ 204) (25457) ، وذكره البغوي (3/ 304) ، وابن عطية (4/ 138) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 241) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 11) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (5) أخرجه الطبريّ (9/ 204) (25466) ، وذكره البغوي (3/ 304) بنحوه، وابن عطية (4/ 138) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 241) . (6) أخرجه الطبريّ (9/ 204) (25466) ، وذكره البغوي (3/ 304) ، وابن عطية (4/ 138) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 241) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 138) . (8) أخرجه الطبريّ (9/ 205) (25473) ، وذكره البغوي (3/ 304) ، وابن عطية (4/ 138) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 12) ، وعزاه لابن جرير عن ابن جريج.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 15 إلى 19]

قال ع «1» : ولا تُنْفَى اللفظةُ عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفيَّةٌ بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 15 الى 19] ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وقوله سبحانه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ [لَمَيِّتُونَ] «2» أي: بعد هذه الأحوال المذكورة، ويريد بالسبع الطرائق: السموات، والطرائق: كُلِّ [ما كان] «3» طبقاتٍ بعضه فوق بعض ومنه طارقت نعلي. ويجوزُ أَنْ تكونَ الطرائق بمعنى المَبْسُوطاتِ من طرقت الشيء. قلت: وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء بِقَدَرٍ ... الآية: ظاهر الآية أَنَّهُ ماءُ المطر، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في أول «تاريخ «4» بغداد» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الجَنَّةِ إلَى الأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: سَيْحُونَ: وَهُو نَهْرُ الهِنْدِ، وجَيْحُونَ: وَهُوَ نَهْرُ بَلْخَ، ودِجْلَةَ والفُرَاتَ: وَهمَا نَهَرَا العِرَاقِ، والنِّيلَ: وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا اللهُ تعالى مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الجَنَّةِ مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهَا الجِبَال، وَأَجْرَاهَا فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فَإذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَرْسَلَ اللهُ تعالى جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنَ الأَرْضِ القُرْآنَ، وَالْعِلْمَ كُلَّهُ، وَالْحَجَرَ مِنْ رُكْنِ البَيْتِ، وَمَقَامَ إبْرَاهِيمَ، وَتَابُوتَ موسى عليه السلام بما فِيهِ، وَهَذِهِ الأَنْهَارَ الخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ ذَلِكَ/ كُلَّهُ إلَى السَّمَاءِ فذلك قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ 30 ألَقادِرُونَ، فَإذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ مِنَ الأَرْضِ، فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا» . وفي رواية: «خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» «5» . انتهى، فإِن صحَّ هذا الحديثُ، فلا نظرَ لأحد معه، ونقل ابن العربي في «أحكامه» هذا الحديثَ أيضاً عن ابن عباس وغيره، ثم قال في آخره: وهذا جائز في القدرة إنْ صَحَّتْ به الرواية، انتهى.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 138) . (2) سقط في ج. (3) سقط في ج. (4) ينظر: «تاريخ بغداد» (1/ 57- 58) . (5) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/ 57- 58) من طريق مقاتل بن حَيَّان عن عكرمة عن ابن عباس.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 20 إلى 26]

قال ع «1» : قوله تعالى: مَاء بِقَدَرٍ قال بعض العلماء: أَراد المطر. وقال بعضهم: إنَّما أراد الأنهار الأربعة سيحان «2» وجَيْحَانَ والفرات «3» والنيل «4» . قال ع «5» : والصواب أَنَّ هذا كُلَّهُ داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى. وقوله تعالى: لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ يحتمل: أنْ يعود الضمير على الجنات فيشمل أنواع الفواكه، ويحتمل أَنْ يعود على النخيل والأعناب خاصَّةً إذ فيهما مراتبُ وأنواع، والأَوَّلُ أعمُّ لسائر الثمرات. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 20 الى 26] وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) وقوله سبحانه: وَشَجَرَةً عطف على قوله: جَنَّاتٍ ويريد بها الزيتونة، وهي كثيرة في طور سيناء من أرض الشام، وهو الجَبَلُ الذي كُلِّمَ فيه موسى عليه السلام قاله ابن عباس، وغيره «6» ، والطور: الجبلُ في كلام العرب، واخْتُلِفَ في سَيْناءَ فقال قتادة: معناه الحُسْنُ «7» ، وقال الجمهور: هو اسم الجبل، كما تقول جبل أُحُدٍ، وقرأ الجمهور: «تَنْبُتُ» بفتح التاء وضم الباء، فالتقدير تنبت ومعها الدُّهْنُ كما تقول خرج زيد

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 139) . (2) (سيحان) نهر كبير بالثغر، من نواحي المصيصة، وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم، يمرّ بأذنة ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم. (3) الفرات: وهو النهر المعروف. (4) نيل مصر: قيل هو تعريب نيلوس، فليس في الدنيا نهر يصبّ من الجنوب إلى الشمال إلّا هو، ولا أطول منه. [.....] (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 139) . (6) أخرجه الطبريّ (9/ 208) رقم (25481) ، وذكره البغوي (3/ 306) ، وابن عطية (4/ 139) . (7) أخرجه الطبريّ (9/ 207) (25479) وذكره البغوي (3/ 306) ، وابن عطية (4/ 139) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 14) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 27 إلى 30]

بسلاحه، وقرأ ابن كثير «1» وأبو عمرو: «تُنْبِتُ» بضم التاء [وكسر الباء] «2» واخْتُلِفَ في التقدير على هذه القراءة، فقالت [فرقة: الباءُ زائدة، كما في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] ، وقالت] «3» فرقة: التقدير تُنْبِتُ جناها ومعه الدُّهْنُ، فالمفعول محذوف، وقيل: نبت وأَنْبَتَ بمعنى فيكونُ المعنى كما مضى في قراءة الجمهور، والمراد بالآية تعديدُ النعم على الإنسان، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ... الآية: هذا ابتداءُ تمثيلٍ لكُفَّارِ قريش بأُممٍ كفرت بأنبيائها فأُهْلِكُوا، وفي ضمن ذلك الوعيدُ بأَنْ يَحُلَّ بهؤلاء نحوُ ما حَلَّ بأولئك، والملأ: الأشراف، والجنّة، الجنون، وحَتَّى حِينٍ معناه إلى وقت يريحكم القَدَرُ منه، ثم إن نوحاً عليه السلام دعا على قومه حين يَئِسَ منهم، وإنْ كان دعاؤُهُ في هذه الآية ليس بِنَصٍّ وإنَّما هو ظاهر من قوله: بِما كَذَّبُونِ فهذا يقتضي طلبَ العقوبة، وأَمَّا النصرة بمجردها فكانت تكون بردّهم إلى الإيمان. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 27 الى 30] فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) وقوله عزَّ وجل: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قوله: بِأَعْيُنِنا: عبارة عن الإدراك هذا مذهبُ الحُذَّاقِ، ووقفتِ الشريعةُ على أعين وعين، ولا يجوزُ أَنْ يُقال: عينان من حيثُ لم توقف الشريعة على التثنية، ووَحْيِنا معناه في كيفية العمل، ووجهُ البيان لجميع حكم السفينة وما يحتاج إليه، وأَمْرُنا يحتمل أن

_ (1) ينظر: «السبعة» (445) ، و «الحجة» (5/ 291) ، و «إعراب القراءات» (2/ 87) ، و «معاني القراءات» (2/ 188) ، و «شرح الطيبة» (5/ 75) ، و «العنوان» (136) ، و «حجة القراءات» (484) ، و «شرح شعلة» (507) ، و «إتحاف» (2/ 282) . (2) سقط في ج. (3) سقط في ج.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 إلى 39]

يكونَ واحد الأوامر، ويحتمل أن يريد واحد الأمور، والصحيح من الأقوال في التَّنُّورُ أنه تَنُّورُ الخبز، وأَنَّها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح- عليه السلام-. 30 ب وقوله: فَاسْلُكْ: معناه: فأدخل يقال سلك وأسلك بمعنىً، وقرأ حفص/ عن عاصم «1» : «مِنْ كُلٍّ» بالتنوين، والباقون بغير تنوين، والزوجان: كُلَّ ما شأنه الاصطحابُ من كل شيءٍ نحو: الذكر والأنثى من الحيوان، ونحو: النعال وغيرها، هذا موقع اللفظة في اللغة. وقوله: وَأَهْلَكَ يريد: قرابته، ثم استثنى من سبق عليه القولُ بأَنَّهُ كافر، وهو ابنه وإمرأته، ثم أُمِرَ نوحٌ ألاَّ يراجعَ رَبَّه، ولا يخاطبَه شافعاً في أحد من الظالمين، ثم أُمِرَ بالدعاء في بركة المنزل. وقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ خطاب لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم ثم أخبر سبحانه أنه يبتلي عباده الزمنَ بعد الزمنِ على جهة الوعيد لِكُفَّارِ قريشٍ بهذا الإخبار، واللام في لَمُبْتَلِينَ لامُ تأكيدٍ، و «مبتلين» : معناهُ: مُصِيبِينَ ببلاء، ومختبرين اختباراً يؤدي إلى ذلك. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 39] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) وقوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. قال الطبريُّ «2» - رحمه الله-: إنَّ هذا القرنَ هم ثمودُ، قومُ صالح. قال ع «3» : وفي جُلِّ الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدمٌ، إلاَّ أنَّهم لم يُهْلَكُوا بصيحة.

_ (1) والمعنى على هذه القراءة: من كل شيء. ينظر: «السبعة» (445) ، و «الحجة» (5/ 294) ، و «إعراب القراءات» (2/ 89) ، و «العنوان» (136) ، و «حجة القراءات» (486) ، و «إتحاف» (2/ 284) . (2) ينظر: «الطبريّ» (9/ 212) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 142) .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 40 إلى 48]

قلت: وهو ظاهر ترتيب قَصَصِ القرآن أَنَّ عاداً أقدم، وَأَتْرَفْناهُمْ معناه نَعَّمْنَاهم، وبسطنا لهم الأموالَ والأَرْزَاقَ وقولهم: أَيَعِدُكُمْ استفهام على جهة الاستبعاد وأَنَّكُمْ: الثانية بَدَلٌ من الأُولَى عند سيبويه، وقولهم: هَيْهاتَ هَيْهاتَ استبعادٌ، وهيهات أحياناً تلي الفاعل دونَ لام، تقول هيهاتَ مجيءُ زيد، أي: بعد ذلك، ومنه قول جرير: [الطويل] : فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَمَنْ بِهِ ... وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُوَاصِلُهْ «1» وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً، وذلك عند وجود اللام كهذه الآية، التقدير: بعد الوجود لما توعدون. قال ص: ورد بأن فيه حذف الفاعل، وحذف المصدر وهو الوجود وذلك غير جائز عند البصريين، وذكر أبو البقاء: أنّ اللام زائدة و «ما» فاعل، أي: بعد ما توعدون. قال أبو حيان «2» : وهذا تفسير معنى لا إعراب لأَنَّهُ لم تَثبُتْ مصدرِيَّةُ «هيهات» ، انتهى. وقولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أرادوا: أَنَّهُ لا وجود لنا غير هذا الوجود وإنّما نموت مِنَّا طائفة فتذهب، وتجيء طائفة جديدة، وهذا هو كفر الدّهريّة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 40 الى 48] قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وقوله: قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ المعنى: قال الله لهذا النَّبِيِّ الدَّاعي: عَمَّا قليل يندمُ قومُك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر الصَّيْحَة ذهب الطبريُّ «3» إلى

_ (1) البيت لجرير في «ديوانه» ص 965 و «الأشباه والنظائر» (8/ 133) ، و «الخصائص» (3/ 42) ، و «الدرر» (5/ 324) ، و «شرح التصريح» (1/ 318) ، (2/ 199) ، و «شرح شواهد الإيضاح» ص 143، و «شرح المفصل» (4/ 35) ، و «لسان العرب» (13/ 553) (هيه) ، و «المقاصد النحويّة» (3/ 7) ، (4/ 311) ، وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (2/ 193) ، (4/ 87) ، و «سمط اللآلي» ص 369، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي ص 1001. (2) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 374) . (3) ينظر: «الطبريّ» (9/ 212) .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 49 إلى 50]

أَنَّهم قوم ثمود. وقوله: بِالْحَقِّ أي: بما استحقوا بأفعالهم وبما حَقَّ مِنَّا في عقوبتهم، والغثاء: ما يحمله السَّيْلُ من زُبَدِهِ الذي لا يُنْتَفَعُ به، فَيُشَبَّهُ كُلُّ هامد وتالف بذلك. قال أبو حيان «1» : «وبعداً» منصوبٌ بفعل محذوف، أي: بَعُدُوا بُعْداً، أي: هلكوا، انتهى، ثم أخبر سبحانه: إنَّه أنشأ بعد هؤلاء أمماً كثيرةً، كلَّ أَمَّةٍ بأجل، وفي كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها، وتترى: مصدر من تَوَاتَر الشيءُ. وقوله سبحانه: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي: في الإهلاك. وقوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يريد أحاديث مَثَلٍ، وقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ الجعل حديثا 31 أإلّا في الشر، وعالِينَ/ معناه: قاصدين لِلْعُلُوِّ بالظلم، وقولهم: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ معناه: خادمون متذللون، والطريق المُعَبَّدُ المُذَلَّلُ، ومِنَ الْمُهْلَكِينَ: يريد بالغرق. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 49 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة، ولَعَلَّهُمْ يريد: بني إسرائيل لأَنَّ التوراة إنَّما نزلت بعد هلاكِ فرعونَ والقِبْطِ، والربوة: المُرْتَفِعُ من الأرض، والقرار: التَّمَكُّنُ، وَبَيِّنٌ أَنَّ ماء هذه الربوة يرى معيناً جارياً على وجه الأرض قاله ابن عباس «2» ، والمعين: الظاهِرُ الجري للعينِ، فالميم زائدة، وهو الذي يُعَايَنُ جريُه، لا كالبئرِ ونحوِهِ، ويحتمل أن يكون من قولهم: معن الماء إذَا كَثُرَ، وهذه الربوة هي الموضع الذي فَرَّتْ إليه مريمُ وقتَ وضع عيسى عليه السلام هذا قولُ بعضِ المفسرين، واختلف الناسُ في موضع الربوة، فقال ابن المُسَيِّبِ «3» : هي الغُوطَةُ بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأَنَّ صفة الغُوطَةِ أَنَّها ذات قرار ومعين على الكمال.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 375) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 219) (25523) ، وذكره ابن عطية (4/ 145) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 246) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 17) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه. [.....] (3) أخرجه الطبريّ (9/ 218) (25514) ، وذكره البغوي (3/ 310) ، وذكره ابن عطية (4/ 145) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 246) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 18) . وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن سعيد بن المسيب.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 إلى 60]

وقال كَعْبُ الأَحْبَارِ «1» : الربوة بيت المَقْدِسِ، وزعم أَنَّ في التوراة أَنَّ بيتَ المقدس أَقْرَبُ الأرض إلى السماء وأَنَّهُ يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلاً. قال ع «2» : ويترجَّحُ: أَنَّ الربوة في بَيْتِ لَحْمٍ من بيت المقدس لأَنَّ ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذٍ كان الإيواءُ، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : اختلف الناس في تعيين هذه الربوة على أقوال منها: ما تُفسِّرُ لغةً ومنها: ما تُفَسَّرُ نقلاً، فيفتقر إلى صحة سندهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، إلّا أنّ هاهنا نُكْتَةً، وذلك أَنَّه إذا نُقِلَ لِلنَّاسِ نَقْلَ تواتر أَنَّ هذا موضِعُ كذا، وأَنَّ هذا الأَمرَ جرى كذا- وقع العلم به، ولَزِمَ قبولهُ، لأَنَّ الخبر المتواتر ليس من شرطه الإِيمانُ، وخبرَ الآحاد لا بدَّ من كون المُخْبِرِ به بصفة الإيمان لأَنَّهُ بمنزلة الشاهد، والخَبَرَ المتواتر بمنزلة العيانِ، وقد بَيَّنَا ذلك في «أصول الفقه «3» » ، والذي شاهدتُ عليه الناسَ ورأيتهم يعينونه تعيينَ تواترٍ- مَوْضِعٌ في سفح الجبل في غربيِّ دمشق، انتهى، وما ذكره: من أَنَّ التواتُرَ ليس من شرطه الإيمانُ هذا هو الصحيح، وفيه خلاف إلاَّ أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ هذا متواتر لاختلال شرطه، انظر «المنتهى» لابن الحاجب. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 60] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60)

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 219) (25518) ، وذكره البغوي (3/ 310) ، وابن عطية (4/ 145) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 145) . (3) ينظر: الكلام عن المتواتر في «البحر المحيط» للزركشي (4/ 231) ، «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 566) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (2/ 14) ، «نهاية السول» للإسنوي (3/ 54) ، «منهاج العقول» للبدخشي (2/ 296) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (95) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (2/ 95) ، «المنخول» للغزالي (231) ، «المستصفى» له (1/ 132) ، «حاشية البناني» (2/ 119) ، «الإبهاج» لابن السبكي (2/ 263) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (3/ 206) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 147) ، «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 86) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (1/ 101) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (3/ 232) ، «كشف الأسرار» للنسفي (2/ 4) ، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (2/ 3) ، «شرح المنار» لابن ملك (78) ، «ميزان الأصول» للسمرقندي (2/ 627) ، «تقريب الوصول» لابن جزي (119) ، «إرشاد الفحول» للشوكاني (46) .

وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يحتمل أنْ يكون معناه: وقلنا يا أيها الرسلُ، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ للنّبي صلى الله عليه وسلّم. قال ع «1» : والوجه في هذا أَنْ يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، وخرج بهذه الصيغة، لِيُفْهَمَ وجيزاً أَنَّ المقالة قد خُوطِبَ بها كُلُّ نبيٍّ، أو هي طريقتُهم التي ينبغي لهم الكونُ عليها كما تقول لعالم: يا علماءٌ إنَّكُم أَئمَّةٌ يُقْتَدَى بكم فتمسكوا بعلمكم، وقال الطبريُّ «2» : الخطاب لعيسَى- عليه السلام-. قلت: والصحيح في تأويل الآية: أَنَّه أمر للمُرْسَلِينَ كما هو نَصٌّ صريح في الحديث الصحيح فلا معنى للتردد في ذلك، وقد روى مسلم والترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ طَيِّب وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ 31 ب عَلِيمٌ/ [المؤمنون: الآية 51] . وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَر، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ [حرامٌ] «3» وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» «4» اهـ. وقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وهذه الآية تُقَوَّى أَنَّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ إنَّما هو مخاطبة لجميعهم، وأَنَّه بتقدير حضورهم، وإذا قدّرت: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلّم- قلق اتصال هذه واتصال قوله: فَتَقَطَّعُوا، ومعنى الأُمَّةِ هنا: المِلّةُ والشريعة، والإِشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة مِلَّةِ إبراهيم عليه السلام، وهو دين الإسلام.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 146) . (2) ينظر: «الطبريّ» (9/ 220) . (3) سقط في ج. (4) أخرجه مسلم (2/ 703) كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (65/ 1015) ، والترمذي (5/ 220) كتاب التفسير: باب ومن سورة البقرة، حديث (2989) ، والدارمي (2/ 300) ، وأحمد (2/ 328) كلهم من طريق الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وإنما نعرفه من حديث فضيل بن مرزوق.

وقوله سبحانه: فَتَقَطَّعُوا يريد الأمم، أي: افترقوا، وليس بفعل مُطَاوِعٍ كما تقول: تقطع الثوبُ بل هو فعل مُتَعَدٍّ بمعنى قطعوا، وقرأ نافع «1» : «زُبُراً» جمع زبور، وهذه القراءة تحتمل معنيين: أحدهما: أَنَّ الأممَ تنازعت كتباً مُنَزَّلَةً فَاتَّبَعَتْ فرقة الصُّحُفَ، وفرقة التوراة، وفرقة الإنجِيلَ، ثم حَرَّفَ الكُلُّ وَبَدَّلَ، وهذا قول قتادة «2» - والثاني: أنَّهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالةً ألَّفُوها قاله ابن زيد «3» ، وقرأ أبو عمرو «4» بخلاف: «زُبَراً» بضم الزاي وفتح الباء، ومعناها: فرقاً كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكرُ الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش- خاطب الله سبحانه نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلّم في شأنهم مُتَّصلاً بقوله: فَذَرْهُمْ أي: فذِرْ هؤلاء الذين هم بمنزلة مَنْ تقدم، والغمرة: ما عَمَّهُمْ من ضلالهم وفُعِلَ بهم فعلَ الماء الغمر بما حصل فيه، والخيراتُ هنا نَعِمُ الدنيا. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ... الآية: أسند الطبريُّ «5» عن عائشة أنها قالت: قلتُ: يا رسولَ الله، قوله تعالى: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا أَهي في الذي يَزْنِي وَيَسْرِقُ؟ قال: «لا، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، بَلْ هِيَ في الرَّجُلِ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وقلبه وجل، يخاف ألّا يتقبّل منه» «6» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 147) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 221) برقم (25533) وذكره الغوي (3/ 311) ، وابن عطية (4/ 147) ، والسيوطي (5/ 20) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 222) برقم (25537) ، وذكره ابن عطية (4/ 147) ، والسيوطي (5/ 20) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه. (4) ينظر: مصادر القراءة السابقة. (5) ينظر: «الطبريّ» (9/ 225) رقم (25562) . (6) أخرجه الترمذي (5/ 327- 328) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (3175) ، وابن ماجه (2/ 1404) كتاب الزهد: باب التوقي على العمل، حديث (4198) ، وأحمد (6/ 159، 205) ، والطبريّ في «تفسيره» (9/ 225) رقم (25560) ، والحاكم (2/ 393- 394) كلهم من طريق مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني عن عائشة به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 21) ، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «نعت الخائفين» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . [.....]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 61 إلى 65]

قال ع «1» : ولا نظرَ مع الحديث، والوَجَلُ: نحو الاشفاق والخوف، وصورة هذا الوَجِلِ إمَّا المُخَلِّطُ فينبغي أنْ يكونَ أبداً تحت خوف من أنْ يكونَ ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وإمَّا التَّقِيُّ أوِ التائب، فخوفه أمرَ الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموتِ، وفي قوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ: تنبيهٌ على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البِرِّ، ويخافون أَلاَّ يُنْجِيَهُم ذلك من عذاب رَبِّهِم «2» ، وهذه عبارة حسنة، ورُوِيَ عن الحَسَنِ أيضاً أَنَّهُ قال: المؤمن يجمع إحساناً وشفقةً، والمنافِقُ يجمع إساءَةً وأمناً «3» . قلت: ولهذا الخَطْبِ العظيم أطال الأولياءُ في هذه الدار حُزْنَهُمْ وأجروا على الوجنات «4» مدامعهم. قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا سفيان قال: إنما الحُزْنُ على قَدْرِ البصيرة «5» . قال ابن المبارك: وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال: ما عُبِدَ اللهُ بمثل طُولِ الحُزْنِ «6» ، وقال ابن المبارك أيضاً: أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التَّيْمِيِّ قال: أَنَّ مَنْ أُوتي من العلم ما لا يُبْكِيهِ لخَلِيقِ ألاَّ يكونَ أُوتِيَ عْلماً ينفعه لأَنَّ الله تعالى نعت 32 أالعلماء فقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ/ إلى قوله: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ «7» [الإسراء: 107- 109] انتهى. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 61 الى 65] أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 148) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 224) برقم (25547) ، وذكره البغوي (3/ 311) ، وابن عطية (4/ 148) ، والسيوطي (5/ 22) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 224) برقم (25549) ، وذكره ابن عطية (4/ 148) ، والسيوطي (5/ 21) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن. (4) الوجنة: ما ارتفع من الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف. ينظر: «لسان العرب» (4774) . (5) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 42) رقم (128) . (6) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 41) رقم (126) . (7) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 41) رقم (125) .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 66 إلى 76]

وقوله سبحانه: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي: إليها سابقون، وهذا قول بعضهم في قوله: لَها، وقالت فرقةٌ: معناه وهم من أَجْلِها سابقون، وقال الطبريُّ عنِ ابن عباس: المعنى: سبقتْ لهم السعادَةُ في الأَزَلِ فهم لها «1» ، وَرَجَّحَهُ الطبريُّ «2» بأنَّ اللام متمكنة في المعنى. وقوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أظهر ما قيل فيه أنَّه أراد كتابَ إحصاءِ الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وقيل: الإشارة إلى القرآن، والأول أظهر. وقوله سبحانه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا اخْتُلِفَ في الإشارة بقوله: مِنْ هذا هل هي: إلى القرآن، أو إلى كتاب الإحصاءِ، أو إلى الدِّينِ بجملته، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلّم؟ وَلَهُمْ أَعْمالٌ أي: من الفساد هُمْ لَها عامِلُونَ: في الحال والاستقبالِ، والمُتْرَفُ: المُنَعَّمُ في الدّنيا، الذي هو منها في سرف، ويَجْأَرُونَ معناه: يستغيثون بصياح كصياح البقر، وكَثُرَ استعمال الجُؤَار في البَشَرِ ومنه قول الأعشى: [المتقارب] يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيك ... طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا «3» وقال ص: جأر الرجل إلى الله تعالى، أي: تَضَرَّعَ قاله الحُوفِيُّ، انتهى، وذهب مجاهد وغيره إلى أَنَّ هذا العذابَ المذكورَ هو الوعيدُ بيوم بَدْرٍ «4» ، وقيل: غيرُ هذا. وقوله سبحانه: لاَ تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي: يقال لهم يوم العذاب: لا تجأروا اليوم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 66 الى 76] قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76)

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 226) برقم (25565) ، وذكره البغوي (3/ 312) ، وذكره ابن عطية (4/ 148) ، والسيوطي (5/ 22) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ينظر: الطبريّ (9/ 226) . (3) في «ديوانه» (76) وينظر البيت في «تفسير الطبريّ» (2/ 105) ، والصاحبي (84) ، و «البحر المحيط» (5/ 500) ، و «روح المعاني» (14/ 165) ، و «الدر المصون» (4/ 336) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 228، 229) برقم (25581) عن مجاهد، وبرقم (25583) عن ابن جريج، وبرقم (25584) عن الضحاك، وذكره ابن عطية (4/ 149) ، والسيوطي (5/ 23) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد، وعزاه أيضا للنسائي عن ابن عباس. وعزاه أيضا لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير.

وقوله: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني القرآن وتَنْكِصُونَ معناه: ترجعون وراءَكُم، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحقّ ومُسْتَكْبِرِينَ حال والضمير في بِهِ: عائد على الحَرَم والمسجد وإنْ لم يَتَقَدَّمْ له ذكر لشهرته، والمعنى: إنكم تعتقدون في نفوسكم أَنَّ لكم بالمسجد الحرام أعظَم الحقوق على الناسِ والمنزلةَ عند اللَّه، فأنتم تستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق. وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن والمعنى: يُحْدِثُ لكم سماعُ آياتي كبراً وطغيانا، وهذا قول جيّد، وذكر منذر بن سعيد: أن الضمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو مُتَعَلِّقٌ بما بعده، كأن الكلام تَمَّ في قوله: مُسْتَكْبِرِينَ ثم قال: بمحمد عليه السلام سامرا تهجرون، وسامِراً حال، وهو مفرد بمعنى الجمع يقال: قوم سُمَّرٌ وسَمَرةٌ وسَامِرٌ، ومعناهُ: سُهَّرُ الليل مأخوذ من السَّمَرِ وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر، وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أَوْجَبَ معرفَتها بالنجوم لأَنَّها تجلس في الصحراء فترى الطوالِعَ من الغوارب، وقرأ أبو «1» رجاء: «سُمَاراً» وقرأ ابن عباس «2» وغيره: «سمرا» وكانت قريش تَسْمُرَ حول الكعبة في أباطيلها وكفرها، وقرأ السبعة «3» غيرَ نافع: «تَهْجُرُونَ» بفتح التاء

_ (1) وقرأ بها ابن عباس، وأبو رجاء، وأبو نهيك، وزيد بن علي. قال أبو الفتح: فهذا ك: كاتب وكتّاب، وشارب وشرّاب. ينظر: «الشواذ» (100) ، و «المحتسب» (2/ 96) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 150) ، و «البحر المحيط» (6/ 381) ، و «الدر المصون» (5/ 196) . (2) وقرأ بها ابن مسعود، وأبو حيوة، وعكرمة، وابن محيصن، والزعفراني، ومحبوب عن أبي عمرو. ينظر مصادر القراءة السابقة. (3) ينظر: «الحجة» (5/ 298) ، و «إعراب القراءات» (2/ 92) ، و «معاني القراءات» (2/ 192) ، و «العنوان» (137) ، و «شرح الطيبة» (5/ 77) ، و «حجة القراءات» (489) ، و «شرح شعلة» (508) ، و «إتحاف» (2/ 286) . [.....]

وضم الجيم قال ابن عباس «1» معناه: تهجرون الحَقَّ وذِكْرَ اللَّه، وتقطعونه من الهجران المعروف، وقال ابن زيد «2» : هو من هجر المريض: إذا هذى، أي: تقولون اللغوَ من القول وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده: «تُهْجِرونَ» بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة، ومعناه: تقولون الفُحْشَ والهجر من القول، وهذه إشارة إلى سبّهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قال ابن عباس «3» أيضاً وغيره، ثم وبخهم سبحانه بقوله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد/ قال بعضهم: شِعْرٌ، وبعضهم: سحر وغير ذلك، أم 32 ب جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوَّلين أي: ليس بِبِدْعٍ بل قد جاء آباءهم الأَوَّلِينَ، وهم سالف الأمم الرُّسُلُ كنوح، وإبراهيم، وإسماعيلَ وغيرهم، وفي هذا التأويل من التَّجَوُّزِ أَنَّ جَعْلَ سالف الأمم، آباء إذِ الناس في الجملة آخِرُهم من أَوَّلِهِم. أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ المعنى: ألم يعرفوا صدقه وأمانته مدَّةَ عمره صلّى الله عليه وسلّم. وقوله سبحانه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ. قال ابن جريج «4» ، وأبو صالح: الحقُّ: اللَّه تعالى. قال ع «5» : وهذا ليس من نَمَطِ الآية، وقال غيرهما: الحق هنا: الصواب والمستقيم. قال ع «6» : وهذا هو الأحرى، ويستقيمُ على هذا فساد السموات والأرض ومن فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاءِ وذلك أَنَّهُم جعلوا للَّه شركاءَ وأولاداً، ولو كان هذا حَقّاً لم تكن لله عز وجل الصفاتُ العِلَيَّةُ، ولو لم تكن له سبحانه- لم تكن الصَّنْعَةُ، ولا القُدْرَةُ كما هي، وكان ذلك فسادُ السمواتِ والأرض ومَنْ فيهن: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 231) برقم (25608) ، وذكره ابن عطية (4/ 150) ، والسيوطي (5/ 24) ، وعزاه للطستي عن ابن عباس بنحوه. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 232) برقم (25614) ، وذكره ابن عطية (4/ 150) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 232) برقم (25615) ، وذكره ابن عطية (4/ 150) ، والسيوطي (5/ 24) ، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه عن ابن عباس. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 234) برقم (25623) عن أبي صالح، وبرقم (25625) عن ابن جريج، وذكره البغوي (3/ 313) ، وابن عطية (4/ 151) ، وابن كثير (3/ 250) والسيوطي (5/ 25) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي صالح. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 151) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 151) .

وقوله سبحانه: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ قال ابن عباس «1» : بوعظهم، ويحتمل: بشرفهم، وهو مَرْويٌّ. أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً الخَرْجُ والخراج بمعنًى، وهو: المال الذي يُجْبَى ويؤتى به لأوقات محدودة. وقوله سبحانه: فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ يريد ثوابَهُ، ويحتمل أن يريد بخراج ربك: رِزْقَه، ويُؤَيِّدُهُ قوله: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. و «الصراط المستقيم» دين الإسلام، «وناكبون» : أَي: مجادلون ومُعْرِضُون، وقال البخاريُّ: لَناكِبُونَ: لعادلون، انتهى. قال أبو حيان «2» : يقال: نكب عن الطريقِ ونَكَّبَ بالتشديد، أي: عَدَلَ عنه، انتهى، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القَحْطُ، ومَنَّ اللَّه عليهم بالخصب، ورَحِمَهُم بذلك- لبقوا على كفرهم ولَجُّوا في طغيانهم، وهذه الآية نزلت في المُدَّةِ التي أصاب فيها قريشاً السِّنُونَ الجَدْبَةُ والجُوعُ الذي دعا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيُ يُوسُفَ» «3» الحديث. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، قال ابن عباس وغيره «4» : هو الجوعُ والجَدْبُ حَتَّى أكلوا الجلود وما جرى مجراها، ورُوِيَ أَنَّهم لما بلغهم الجَهْدُ رَكِبَ أبو سفيانُ، وجاءَ إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة فقال: يا محمد، ألستَ تزعمُ أَنَّك بُعِثْتَ رحمةً للعالمين؟ قال: بلى، قَالَ: قَدْ قَتَلْتَ الآباءَ بِالسَّيْفِ، واْلأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، وَقَدْ أكلنا العلهز «5» فنزلت «6» الآية،

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 234) برقم (25626) ، وذكره البغوي (3/ 314) ، وابن عطية (4/ 151) ، والسيوطي (5/ 25) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 383) . (3) تقدم. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 235) برقم (25632) ، وذكره ابن عطية (4/ 152) . (5) العلهز: وبر يخلط بدماء الحلم، كانت العرب تأكله في الجاهلية تأكله في الجدب. (6) أخرجه النسائي في «التفسير» (2/ 98- 99) رقم (372) ، والطبريّ في «تفسيره» (9/ 235- 236) رقم (25632) ، وابن حبان (1753- موارد) ، والطبراني (11/ 370) رقم (12038) ، والحاكم (2/ 394) ، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 90- 91) من طريق عكرمة عن ابن عباس. وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 26) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 77 إلى 83]

واسْتَكانُوا معناه: تواضعوا وانخفضوا. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 77 الى 83] حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ ... الآية تَوُعُّدُ بعذاب غير مُعَيَّنٍ، وهذا هو الصواب، وهذه المَجَاعَةُ إنَّما كانت بعد وقعة بدر، والمُبْلِسُ الذي قد نزل به شَرٌّ وَيئِسَ من زواله ونَسُخِهِ بخير، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نِعَمٍ في نفس تعديدها استدلالٌ بها على عِظَمِ قدرته سبحانه، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ... الآية، أنشأ بمعنى: اخترع، والأفئدة: القلوبُ، وذرأ: بَثَّ وخلق. وقوله: بَلْ إضرابٌ، والجَحْدُ قبله مُقَدَّر/ كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه 33 أالآيات أو نحو هذا، والْأَوَّلُونَ: يشير به إلى الأُمَمِ الكافرة: كعاد وثمود. وقوله تعالى: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ... الآية، قولهم: وَآباؤُنا إنْ حُكِيَ المقالة عن العرب فمرادُهُم مَنْ سَلَفَ من العالم، جعلوهم آباءَ من حيث النوعُ واحدٌ، وكونهم سلفاً، وفيه تَجُوزٌ، وإنْ حُكِيَ ذلك عن الأَوَّلِينَ فالأَمر مستقيم فيهم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 91] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) وقوله سبحانه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أَمَر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 92 إلى 98]

يمكنهم إلاَّ الإقرارُ بها، ويلزم من الإقرار [بها] «1» توحيدُ اللَّه وإذعانهم لشرعه ورسالة رسله، وقرأ الجميع «2» في الأَوَّل: «للَّه» بلا خلاف، واخْتُلِفَ في الثاني والثالث، فقرأ أبو عمرو وحدَه: «اللَّه» جواباً على اللفظ، وقرأ باقي السبعة: «للَّه» جواباً على المعنى، كأنه قال في السؤال: لمن ملك السموات السبع؟ وقوله سبحانه: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط وَوَضْعِ الأفعالِ والأَقوالِ غيرِ مواضعها ما يقع من المسحور عَبَّرَ عنهم بذلك. وقالتَ فرقة: تُسْحَرُونَ معناه: تمنعون، وحكى بعضهم ذلك لُغَةً، والإجارة: المنع، والمعنى: أَنَّ اللَّه تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه، وإذا أراد أخذَه فلا مانِعَ له. وقوله سبحانه: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي: فيما ذكروه من الصاحبة، والولد، والشريك، تعالى اللَّه عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، وفي قوله سبحانه: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [الآية] «3» . دليلُ [التمانع] «4» وهذا هو الفسادُ الذي تَضَمَّنَهُ قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. [الأنبياء: الآية 22] . والجزءُ المُخْتَرَعُ مُحَالٌ أَنْ تَتَعَلَّقَ به قدرتان فصاعداً، وقد تقدم الكلامُ على هذا الدليل فَأَغنى عن إعادته. وقوله: إِذاً جوابٌ لمحذوف تقديره: لو كان معه [إله] «5» إذاً لذهب. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 92 الى 98] عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

_ (1) سقط في ج. (2) ينظر اتفاق الجميع على هذا الحرف، واختلافهم في الثاني والثالث، يعني في قوله تعالى «لله» من الآيتين (87) ، (89) - في: «السبعة» (447) ، و «الحجة» (5/ 300) ، و «إعراب القراءات» (2/ 93) ، و «معاني القراءات» (2/ 194) ، و «شرح الطيبة» (5/ 78) ، و «العنوان» (137) ، و «حجة القراءات» (490) ، و «شرح شعلة» (509) ، و «إتحاف» (2/ 287) . [.....] (3) سقط في ج. (4) سقط في ج. (5) سقط في ج.

وقوله: عالِمِ الْغَيْبِ المعنى: هو عالم الغيب، وقرأ أبو عمرو «1» وغيره: «عَالِمِ» بالجر اتباعاً للمكتوبة. وقوله سبحانه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أمَرَ اللَّه تعالى نَبِيَّه- عليه السلام- أنْ يدعوَ لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك، و «إن» شرطية و «ما» زائدة و «تريني» جزم بالشرط لزمته النونُ الثقيلة وهي لا تُفَارِقُ، «أَمَّا» عند المُبَرِّدِ، ويجوزُ عند سيبويه أنْ تفارقَ، ولكن استعمالَ القرآن لزومها، فمن هنالك ألزمه المبرد، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله، ثم نظيره لسائر الأُمَّةِ دُعَاءٌ في حسن الخاتمة، وقوله ثانياً: «رب» اعتراض بين الشرط وجوابه. وقوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أمْرٌ بالصفح ومكارِمِ الأخلاق، وما كان منها لهذا فهو مُحْكَمٌ باقٍ في الأُمَّةِ أبداً، وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال. وقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ يقتضي أَنَّها آية مُوَادَعَةٍ. وقال مجاهد «2» : الدفع بالتي هي أحسن: هو السلامُ، تُسَلِّمُ عليه إذا لَقِيتَه. وقال الحسن «3» : واللَّه لا يُصِيبُهَا/ أَحَدٌ حَتَّى يكظم غيظه، ويصفح عمّا يكره، وفي 33 ب الآية عدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أي: اشتغل أنت بهذا وكل أمرهم إلينا، ثم أمره سبحانه بالتَّعَوُّذِ من همزات الشياطين، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسانُ فيها نفسه وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكُفَّارِ فتقع المجادلة، ولذلك اتَّصَلَتْ بهذه الآية، وقال ابن زيد: هَمْزُ الشيطان: الجنونُ «4» ، وفي «مُصَنَّفِ أَبي داودَ» : أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ: هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، ونَفْثِهِ» «5» . قال أبو داودَ: همزه: الموتة، ونفخه:

_ (1) وقرأ بها ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم. ينظر: «السبعة» (447) ، و «الحجة» (5/ 301) ، و «إعراب القراءات» (2/ 94) ، و «معاني القراءات» (2/ 195) ، و «شرح الطيبة» (5/ 79) ، و «شرح شعلة» (509) و «حجة القراءات» (491) ، و «إتحاف» (2/ 287) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 241) رقم (25645) ، وذكره ابن عطية (4/ 155) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 241) رقم (25647) ، وذكره ابن عطية (4/ 155) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 242) برقم (25648) ، وذكره ابن عطية (4/ 155) ، والسيوطي (5/ 28) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد. (5) أخرجه أبو داود (1/ 262- 263) كتاب الصلاة: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، حديث (764) ، وابن ماجه (1/ 265) كتاب الصلاة: باب الاستعاذة في الصلاة، حديث (807) ، وأحمد (4/ 85) من حديث جبير بن مطعم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 إلى 104]

الكبر، ونفثه: السحر. قال ع «1» : والنّزعات وسورات الغضبِ من الشيطان، وهي المُتَعَوَّذُ منها في الآية، وأصل الهمز: الدَّفْعُ والوَكزُ بيدٍ أو غيرها. قلت: قال صاحب «سلاح المؤمن» : وهَمَزَاتُ الشياطين: خَطَرَاتُها التي تَخْطِرَهَا بقلب الإنسان، انتهى. وقال الواحديّ: همزات الشياطين: نزغاتها ووساوسها، انتهى. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 104] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ حَتَّى في هذا الموضع حَرْفُ ابتداءٍ، والضمير في قوله: أَحَدَهُمُ للكفار، وقوله: ارْجِعُونِ أي: إلى الحياة الدنيا، والنون في: ارْجِعُونِ: نون العظمة وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة: «إذَا عَايَنَ المُؤْمِنُ المَوْتَ، قَالَتْ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: نُرْجِعُك؟ فيقول: إلى دَارِ الهُمُومِ وَالأَحْزَانِ؟ بل قُدُماً إلى اللهِ، وأَمَّا الكَافِرُ، فَيَقُولُ: ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً» «2» . وقوله: كَلَّا: رَدٌّ وزجر. وقوله: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها تحتمل ثلاثة معانٍ: أحدها: الإخبارْ المُؤكّدُ بأنَّ هذا الشيء يقع، ويقولُ هذه الكلمة. الثاني: أنْ يكون المعنى: إنها كلمة لا تغنى أكثر من أَنَّه يقولها، ولا نفعَ له فيها ولا غَوْثَ- الثالث: أنْ يكون إشارةً إلى أنّه لو رُدَّ لعاد، والضمير في: وَرائِهِمْ للكفار، والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين المسافتين، ثَم يُسْتَعَارُ لما عدا ذلك، وهو هنا: للمُدَّةِ التي بين موت الإنسان وبين بعثه هذا إجماع من المفسرين.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 155) . (2) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 242) رقم (25652) عن ابن جريج قال: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة، فذكره. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 29) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

وقوله عز وجل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ... الآية: قال ابن مسعود «1» وغيرُه: هذا عند النفخة الثانية وقيامِ الناس من القُبُورِ فهم حينئذٍ لهول المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائلُ، وزال انتفاعُ الأنساب فلذلك نفاها سبحانه، والمعنى: فلا أنسابَ نافعةٌ، ورُوِيَ عن قتادَة أَنَّهُ: ليس أَحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم مِمَّن يَعْرِفُ، لأَنَّهُ يخاف أَنْ يكونَ له عنده مَظْلِمَةٌ «2» ، وفي ذلك اليوم يَفِرُّ المرء من أخيه وأُمِّهِ وأبيه وصاحبتِهِ وبَنِيْهِ، ويفرحُ كلُّ أحد يومئذٍ أنْ يكون له حَقُّ على ابنه وأبيه، وقد وَرَدَ بهذا حديثٌ، وكأنّ ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه، ثم تأتي في القيامة مواطنُ يكون فيها السؤال والتعارف. قال ع «3» : وهذا التأويل حَسَنٌ، وهو مرويُّ المعنى عن ابن عباس «4» ، وذكر البزَّارُ من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالْمِيزَانِ، فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإنْ ثَقُلَ مِيزانُهُ، نَادَى/ المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ الخَلاَئِقَ: سَعِدَ فُلاَنٌ 34 أسعادة لاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً، وَإنْ خَفَّ مِيزَانُهُ، نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلاَئِقَ: شَقِيَ فُلاَنٌ شَقَاوَةً لاَ يَسْعَدُ بَعْدَهَا أبداً «5» » ، انتهى من «العاقبة» . وروى أبو داودَ في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أَنَّها ذَكَرَتِ النَّارَ فبكت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذكُرُونَ أَهْلِيَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَمَّا في ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ، فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَم: أَيِخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الكِتَابِ حَتَّى يَقُولَ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يُعْطَى كِتَابَهُ: أفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شَمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ» «6» ، انتهى. ولفح النار: إصابتها بالوهج والإحراق، والكلوح انكشافُ الشفتين عن الأسنان، وقد شبه ابن

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 244) برقم (25669) نحوه، وذكره البغوي (3/ 317) ، وابن عطية (3/ 156) ، والسيوطي (5/ 30) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية» ، وابن عساكر عن ابن مسعود بنحوه. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 245) برقم (25671) ، وذكره ابن عطية (4/ 156) ، والسيوطي (5/ 30) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 156) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 244) برقم (25667) نحوه، وذكره البغوي (3/ 317) ، وابن عطية (4/ 156) . [.....] (5) أخرجه البزار (3445- كشف) من حديث أنس بن مالك، وذكره الهيثمي (10/ 353) وقال: رواه البزار، وفيه صالح المري، وهو مجمع على ضعفه. (6) أخرجه أبو داود (2/ 654) كتاب السنة: باب في ذكر الميزان، حديث (4755) .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 إلى 108]

مسعود ما في الآية بما يعتري رؤوس الكِبَاشِ إذا شيطت بالنار فإنَّها تكلح، ومنه كلوح الكلب والأسد «1» . قلت: وفي «الترمذيِّ» عن أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال: تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتَقْلُصُ شَفَتُهُ العُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ ... » «2» الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، انتهى. وهذا هو المُعَوَّلُ عليه في فهم الآية، وأَمَّا قول البخاريِّ: كالِحُونَ «3» معناه: عابسون- فغيرُ ظاهر، ولَعَلَّهُ لم يقف على الحديث. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 108] أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) وقوله سبحانه: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي: يقال لهم، والآياتُ هنا القرآن، وقرأ حمزة: «شَقَاوَتُنَا» ثم وقع جواب رغبتهِم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ويقال: إنَّ هذه الكلمة إذا سمعُوها يئسوا من كل خير، فتنطبق عليهم جَهَنَّمُ، ويقع اليأسُ- عافانا الله من عذابه بمنّه وكرمه-! وقوله: اخْسَؤُا زجر، وهو مستعمل في زجر الكلاب. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 109 الى 118] إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 246) برقم (25675) ، وذكره ابن عطية (4/ 157) ، والسيوطي (5/ 31) وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود. (2) أخرجه الترمذي (4/ 708) كتاب صفة جهنم: باب ما جاء في صفة طعام أهل النار، حديث (2587) ، وفي (5/ 328) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (3176) ، وأحمد (3/ 8) ، والحاكم (2/ 395) ، وأبو يعلى (2/ 516) رقم (1367) كلهم من طريق ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وصححه الحاكم. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 31) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «صفة النار» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم في «الحلية» . (3) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 299) كتاب التفسير: باب سورة المؤمنين.

وقوله عز وجل: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا ... الآية الهاء في إِنَّهُ: مُبْهَمَةٌ: وهي ضمير الأمر والشأن، والفريقُ المُشَارُ إليه: كُلُّ مُسْتَضْعَفٍ من المؤمنين يَتَّفِقُ أنْ تكون حالُه مع كُفَّارٍ مِثلَ هذه الحال، ونزلت الآية في كُفَّارِ قريشِ مع صُهَيْبٍ، وعَمَّار، وبلال، ونظرائهم، ثم هي عامة فيمَنْ جرى مجراهم قديماً وبقيةَ الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سُخْرِيّاً» بضم السين «1» ، والباقون بكسرها فقيل هما بمعنى واحد ذكر ذلك الطبريُّ «2» . وقال ذلك أبو زيد الأنصاريُّ: إنهما بمعنى الهُزْءِ «3» ، وقال أبو عبيدَة وغيره: إنَّ ضم السين من السخرة والاستخدام، وكسرها من السخر وهو الاستهزاء» ، ومعنى الاستهزاء هنا أليق أَلاَ ترى إلى قوله: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ. وقوله سبحانه: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ... الآية قوله: فِي الْأَرْضِ قال الطبريُّ «5» معناه: في الدنيا أحياءَ، وعن هذا وقع السؤال، ونَسُوا لفرط هول العذاب حَتَّى قالوا: يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والغرضُ توقيفهم على أَنَّ أعمارهم قصيرة أَدَّاهُمُ الكُفْرُ فيها إلى عذاب طويل، عافانا الله من ذلك بِمَنِّهِ وكرمه!. وقال الجمهور: معناه: كم لَبِثْتُمْ في جوف التراب أمواتاً؟ قال ع «6» : وهذا هو

_ (1) وحجتهم: إجماع الجميع على الرفع في سورة الزخرف، فرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه. ينظر: «السبعة» (448) ، و «الحجة» (5/ 302) ، و «إعراب القراءات» (2/ 95) ، و «شرح الطيبة» (5/ 80) ، و «العنوان» (137) ، و «حجة القراءات» (491) ، و «شرح شعلة» (510) ، و «إتحاف» (2/ 288) . (2) ينظر: الطبريّ (9/ 250) . (3) ذكره ابن عطية (4/ 158) . (4) ذكره ابن عطية (4/ 158) . (5) ينظر: «الطبريّ» (9/ 253) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 158) .

34 ب الأصوب من حيث أنكروا البعث/. وكان قولهم: إنهم لا يقومون من التراب، وقوله آخراً: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لاَ تُرْجَعُونَ يقتضي ما قلناه. قلت: الآيات محتملة للمعنيين، والله أعلم بما أراد سبحانه قال البخاريُّ «1» : قال ابن عباس: فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي: الملائكة «2» ، انتهى. ص: قرأ الجمهور: «العَادِّينَ» «3» - بتشديد الدال- اسم فاعل من «عدّ» ، وقرأ الحسن والكسائيّ في رواية: «العَادِينَ» «4» بتخفيف الدال، أي: الظَّلَمَةَ، و «إنْ» من قوله: إِنْ لَبِثْتُمْ نافيةٌ، أي: ما لبثتم إلّا قليلا، اهـ. وعَبَثاً: معناه: باطلاً، لغير غَايَةٍ مُرَادَةٍ، وخَرَّجَ أبو نعيم الحافظ عن حنش الصنعانيِّ عن ابن مسعود «أنه قرأ في أذن مبتلى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ... إلى آخر السورة، فأفاق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما قرأتَ في أذنه؟ قال: قرأت: أَفَحَسِبْتُمْ ... إلى آخر السورة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ أَنَّ رَجُلاً مُوقِناً قَرَأَهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَال» ، انتهى «5» ، وخَرَّجَهُ ابن السُّنِّيُّ أيضاً، ذكره النووي. وقوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ: المعنى: فتعالى الله عن مقالتهم في دعوى الشريك والصاحبة والولد، ثم تَوَعَّدُ سبحانه عَبَدَةَ الأوثان بقوله: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وفي حرف عبد الله: «عند ربك» ، وفي حرف «6» أُبَيِّ: «عند الله» ثم أَمر تعالى نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء والذكر له فقال: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.

_ (1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 299) كتاب التفسير: باب سورة المؤمنين. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 252) برقم (25695) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (4/ 159) عن مجاهد، والسيوطي (5/ 34) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 390) . [.....] (4) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 390) ، و «الدر المصون» (5/ 205) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 289) . (5) أخرجه أبو يعلى (8/ 458) رقم (5045) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (631) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 7) . كلهم من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش الصنعاني عن ابن مسعود به. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 115) ، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وحديثه حسن اهـ. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 34) ، وزاد نسبته إلى الحكيم الترمذي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (6) في قراءة عبد الله، وقراءة أبي: ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 159) . ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 159) .

تفسير سورة النور

تفسير سورة النّور وهي مدنيّة [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها ... الآية معنى «فرضنا» : أوجبنا وأثبتنا، وقال الثَّعْلَبِيُّ والواحِدِيُّ: فَرَضْناها أي: أوجبنا ما فيها من الأحكامِ، انتهى، وقال البخاريُّ «1» : قال ابن عباس «2» : سُورَةٌ أَنْزَلْناها: بَيَّنَّاها، انتهى. وما تقدم أَبْيَنُ. ص: فَرَضْناها الجمهور: بتخفيف الراء أي: فرضنا أحكامها، وأبو عمرو وابن كثير: بتشدِيْدِ الراء: إما للمبَالَغَةِ في الإيجاب، وإما لأَنَّ فيها فرائضَ شَتَّى، انتهى. والآيات البَيِّنَاتُ: أمثالُها ومواعِظُهَا وأحكامُها. وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ... الآية، هذه الآية ناسخة لآية الحَبْسِ باتِّفاق، وحكم المُحْصَنِينَ منسوخٌ بآية الرجم والسُّنَّةِ المتواترة على ما تقدّم في سورة النساء، وقرأ الجمهور «3» : «رَأْفَةٌ» بهمزة ساكنة من رَأَفَ إذا رَقَّ وَرَحِمَ، والرأفة المَنْهِيُّ عنها هي [في] «4» إسقاط الحَدِّ، أي: أقيموه ولا بدّ، وهذا تأويل ابن عمر «5» وغيره.

_ (1) ينظر: البخاري (8/ 301) كتاب التفسير: باب سورة النور. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 256) برقم (25706) ، وذكره السيوطي (5/ 36) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حارثة عن ابن عباس. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 161) ، و «البحر المحيط» (6/ 394) ، و «الدر المصون» (5/ 208) . (4) سقط في ج. (5) أخرجه الطبريّ (9/ 256) برقم (25709، 25710) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وذكره ابن عطية (4/ 161) ، وابن كثير (3/ 261، 262) ، والسيوطي (5/ 37) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

وقال قتادة وغيره: هي في تخفيف الضَّرْبِ عنِ الزُّنَاةِ «1» ، ومِنْ رأيهم أَنْ يُخَفَّفَ ضربُ الخمر، والفِرْيَةِ دون ضرب الزنا. وقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: إغلاظاً على الزناة، وتوبيخاً لهم، ولا خلافَ أَنَّ الطائفة كُلَّمَا كَثُرَتْ فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف في أَقَلِّ ما يجزِىءُ فقال الزُّهْرِيُّ: الطائفة: ثلاثةٌ فصاعداً «2» ، وقال عطاء: لا بُدَّ من اثنين «3» ، وهذا هو مشهورُ قول مالك فرآها موضع شهادة. وقوله تعالى: الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً مَقْصِدُ الآية تشنيع الزنا وتشنيع 35 أأمره، وأَنَّهُ مُحَرَّمٌ على المؤمنين/ ويريد بقوله: لاَ يَنْكِحُ أي: لا يَطَأُ، فالنكاح هنا بمعنى: الجماع كقوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] . وقد بيّنه صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح أَنَّه بمعنى الوطء، حيث قال: «لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ... » «4» الحديث، وتحتمل الآية وجوها هذا أحسنها.

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 258) برقم (25722، 25724) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وابن عطية (4/ 161) ، والسيوطي (5/ 37) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن، وابراهيم، وعامر، ولابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن شعبة. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 259) برقم (25736) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وابن كثير (3/ 262) ، والسيوطي (5/ 38) وعزاه لابن جرير عن الزهري. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 259) برقم (25734) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وابن كثير (3/ 262) . (4) أخرجه مالك (2/ 531) كتاب النكاح: باب نكاح المحلل وما أشبهه، حديث (17) من طريق المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته ... ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 248) باب نكاح المطلقة ثلاثا، وابن حبان (1323- موارد) ، والبيهقي (7/ 375) كتاب الرجعة: باب نكاح المطلقة ثلاثا. قال السيوطي في «تنوير الحوالك» (2/ 6) قال ابن عبد البر: كذا لأكثر الرواة مرسل، ووصله ابن وهب عن مالك، فقال: عن أبيه، وابن وهب من أجل من روى عن مالك هذا الشأن، وأثبتهم فيه. وتابعه أيضا ابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، كلهم عن مالك، وقالوا فيه: عن أبيه، وهو صاحب القصة ا. هـ. ومن طريق ابن وهب أخرجه ابن الجارود (682) ، والبيهقي (7/ 375) كتاب «الرجعة» : باب نكاح المطلقة ثلاثا. وأخرجه البزار (2/ 194- كشف) رقم (1504) من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ثنا مالك بن أنس عن المسور بن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير عن أبيه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 343) : رواه البزار والطبراني، ورجالهما ثقات، وقد رواه مالك في «الموطأ» مرسلا، وهو هنا متصل ا. هـ.

_ - وقد ورد هذا الحديث موصولا من حديث عائشة: أخرجه أحمد (6/ 226) ، والبخاري (5/ 249) كتاب «الشهادات» : باب شهادة المختبئ، حديث (2639) ، ومسلم (2/ 1055- 1056) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (111/ 1433) ، والترمذي (2/ 293) كتاب النكاح: باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا حديث (1118) ، والنسائي (6/ 148) كتاب الطلاق: باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجه (1/ 621- 622) كتاب النكاح: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا، حديث (1932) والدارمي (2/ 161) كتاب الطلاق: باب ما يحل المرأة لزوجها الذي طلقها، والشافعي (2/ 34- 35) كتاب الطلاق، حديث (110) ، والحميدي (1/ 111) رقم (226) ، وعبد الرزاق (6/ 346- 347) رقم (11131) ، والطيالسي (1/ 314- 315) رقم (1612، 1613) ، وسعيد بن منصور (2/ 73- 74) ، رقم (1985) ، وأبو يعلى (397) ، رقم (4423) ، وابن حبان (4199- الإحسان) ، والبيهقي (7/ 373- 374) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 169- بتحقيقنا) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. وقال الترمذي: حسن صحيح. وللحديث طرق أخرى عن عائشة: فأخرجه البخاري (9/ 284) كتاب الطلاق: باب من قال لامرأته: أنت عليّ حرام، حديث (5265) ، ومسلم (2/ 1057) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (114/ 1433) ، وأحمد (6/ 229) ، والدارمي (2/ 162) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به. وأخرجه مسلم (2/ 1057) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (115/ 1433) ، وأحمد (6/ 193) ، وأبو يعلى (8/ 373- 374) رقم (4964) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة. وأخرجه أبو داود (1/ 705) كتاب الطلاق: باب في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (2309) ، وأحمد (6/ 42) من طريق الأسود عن عائشة. وأخرجه البخاري (10/ 293) من طريق عبد الوهاب عن أيوب عن عكرمة [ «أنّ رفاعة طلّق امرأته، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظيّ، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها، وأرتها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- والنساء ينصر بعضهن بعضا- قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات لجلدها أشدّ خضرة من ثوبها. قال وسمع أنها قد أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إليه من ذنب، إلا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه- وأخذت هدبة من ثوبها- فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإن كان ذلك لم تحلّي له أو تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك. قال وأبصر معه ابنين له فقال: بنوك هؤلاء؟ قال: نعم. قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فو الله لهم أشبه به من الغراب بالغراب» ] .

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 5]

[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ... الآية نزلت بسبب القاذفين، وذكر تعالى في الآية: قَذْفَ النساءِ من حيث هو أَهَمُّ وأبشعُ، وقذفُ الرجال داخلٌ في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك، والْمُحْصَناتِ هنا: العفائف، وشَدَّدَ تعالى على القاذف بأربعة شهداء رحمةً بعباده، وستراً لهم، وحكم شهادة الأربعة أنْ تكونَ على معاينة مبالغة كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ في موطنٍ واحد، فإنِ اضطرب منهم واحد

_ - وفي الباب عن ابن عمر، وعبيد الله بن عباس، وأنس بن مالك، والفضل بن عباس. حديث ابن عمر: أخرجه أحمد (2/ 85) ، والنسائي (6/ 148- 149) كتاب النكاح: باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجه (1/ 622) كتاب النكاح: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا: فتتزوج فيطلقها (1933) من طريق محمد بن جعفر: حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر به. وأخرجه أحمد (2/ 62) ، والنسائي (6/ 149) ، والبيهقي (7/ 375) من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان عن ابن عمر. قال النسائي: هذا أولى بالصواب. وأخرجه أبو يعلى (8/ 374) رقم (4066) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر. قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) : رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. حديث عبيد الله بن عباس: أخرجه أحمد (1/ 214) ، والنسائي (6/ 148) كتاب الطلاق: باب إحلال المطلقة ثلاثا، عنه أن «الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها، فقال: يا رسول الله هي كاذبة، وهو يصل إليها، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس ذلك حتى تذوفي عسيلته» . وأخرجه أبو يعلى (12/ 85- 86) رقم (6718) عن عبيد الله بن عباس والفضل بن عباس به. وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) ، رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح. حديث أنس بن مالك: أخرجه أحمد (3/ 284) ، والبزار (2/ 195- كشف) برقم (1505) ، وأبو يعلى (7/ 207) رقم (4199) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فمات عنها قبل أن يدخل بها هل يتزوجها الأول؟ قال: «لا حتى يذوق عسيلتها» . قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) : رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن دينار الطاحي، وقد وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وفيه كلام لا يضر. حديث الفضل بن عباس: انظر حديث عبيد الله بن العباس. [.....]

جُلِدَ الثلاثة، والجلد: الضرب، ثم أمر تعالى: ألّا تقبل للقذفة المحدودين شهادة أبدا «1» ،

_ (1) القاذف هو من يرمي محصنا أو محصنة بالزنى ولم يأت بأربعة شهداء يشهدون على صدق قوله، ولا خلاف بين العلماء في شهادة القاذف إذا شهد قبل إقامة الحدّ وبعد التوبة، أو بعد إقامة الحدّ وقبل التوبة فإنه في الصورة الأولى، تقبل شهادته إجماعا، وفي الثانية لا تقبل إجماعا إنّما الخلاف في شهادته بعد الحد وبعد التوبة. فذهب الإمام الشافعيّ، ومالك، وأحمد، والبتيّ وإسحاق، وأبو عبيدة وابن المنذر إلى قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وشريح والحسن والنّخعيّ وسعيد بن جبير والثوريّ إلى ردّ شهادة المحدود في القذف وإن تاب. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. ومنشأ هذا الاختلاف هو: اختلافهم في فهم الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. اختلفوا في الاستثناء: هل هو راجع إلى الكل أو إلى الأخيرة فقط؟ وهذه مسألة أصولية، وسنذكر فيما يلي خلاصة القول فيها: إنّ الاستثناء إذا وقع بعد جمل متعاطفة بالواو، ونحوها أمكن رده للجميع، وإلى الأخيرة خاصة بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما هو ظاهر فيه، فالشافعية يقولون ظاهر في الكل، ولا يرجع للأخيرة فقط إلّا بقرينة. والحنفية يقولون: ظاهر في الأخيرة، ولا يرجع للكل إلا بدليل. وأبو الحسين كالشافعية إلّا أنه فصل في القرينة فقال: إن قامت قرينة على الإضراب عن الأول فهو للأخير. وظهور الإضراب يكون باختلاف الجملتين نوعا: بأن تكون إحداهما خبرا والأخرى إنشاءا نحو العلماء مكرمون ولا تكرم الجهال إلّا خالدا. أو تكون إحداهما أمرا والأخرى نهيا نحو: أكرم العلماء ولا تكرم الجهال إلّا من دخل الدار فالاستثناء من الأخير. أو باختلافهما حكما: بأن يكون مضمون إحداهما غير مضمون الأخرى نحو: الرجال قائمون، والعلماء جالسون إلّا محمدا. أو باختلافهما اسما بأن يكون الاسم في الأولى غير صالح لتعلق الاستثناء به نحو: أكرم الرجال وأعطف على النساء إلّا هندا. ففي هذا كلّه يرجع الاستثناء إلى الأخير، ظهور الإضراب. لكن محل هذا ما لم يكن الاسم في الجملة الثانية ضمير الاسم في الأولى أو اتفقا في الغرض وإلّا كان الاستثناء راجعا للكل مطلقا وإن اختلفا نوعا أو حكما. وأما الاختلاف في الاسم فلا يمكن معه رجوع الاستثناء للكل، لعدم صلاحيته للتعلق بالكل. مثال الأول: أكرم بني تميم وهم مكرمون إلّا بكرا، فهما مختلفان نوعا لكن الاسم في الثانية ضمير الأول فيرجع للكل. ومثال الثاني قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فقد اتحدا في الغرض وهو الإهانة والانتقام وإن اختلفا نوعا فيرجع للكل. وقال القاضي والغزاليّ: «بالوقف» . وقال المرتضى: مشترك بين الكل والأخير، ويرجع مذهب الوقف والاشتراك إلى قول الحنفية، لأنّ مذهب الوقف معناه أنّ الاستثناء لا يعلم أهو موضوع للإخراج من الكل أو من الأخير؟ ومذهب المرتضى أنّه مشترك بين الإخراج من الكل ومن الأخير. فيلزم الرجوع للأخير عليهما لأنه إن كان موضوعا للأخير فظاهر، وإن كان للكل ففي ضمنه الأخير. قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري (من أصحاب الشافعي) : بأن يقول: كذبت

[سورة النور (24) : الآيات 6 إلى 10]

وهذا يقتضي مُدَّةَ أعمارهم، ثم حكم بفسقهم، ثم استثنى تعالى مَنْ تاب وأصلح من بعد القذف، فالاستثناء غيرُ عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واخْتُلِفَ في عمله في رَدِّ الشهادة، والجمهور أَنَّه عامل في رَدِّ الشهادة، فإذا تاب القاذف قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، ثم اختلفوا في صورة توبته، فقيل بأن يُكَذِّبَ نَفْسَه، وإلاَّ لم تُقْبَلُ، وقالت فرقةٌ منها مالك: توبته أن يَصْلُحَ وتَحْسُنَ حالُه «1» . وإنْ لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاءُ المالكيَّةِ متى تسقط شهادة القاذفِ فقال ابن الماجشون: بنفس قَذَفِهِ، وقال ابن القاسم وغيره: لا تَسْقُطُ حتى يُجْلَدَ، فإن مَنَعَ من جلده مانع عفو أو غيره لم تُرَدَّ شهادَتُه، قال اللَّخْمِيَّ: شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة، وتابُوا معناه: رجعوا، وقد رَجَّحَ الطبريُّ «2» وغيرُهُ قولَ مالك، واخْتُلِفَ أَيضاً على القول بجواز شهادته، فقال مالك: تجوزُ في كل شيء بإطلاق، وكذلك كُلُّ مَنْ حُدَّ في شيء. وقال سحنون: مَنْ حُدَّ في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حُدَّ فيه، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أَنَّ شهادته لا تجوز في الزنا. [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ... الآية: لما رَمَى هلالُ بن أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ زوجته بِشَرِيكِ بنِ سحماء- عزم النبي صلّى الله عليه وسلّم على ضَرْبِهِ حَدَّ القَذْفِ فَنَزَلَتْ هذه الآية حسبما هو مشروح في الصحاح، فجمعهما صلّى الله عليه وسلّم في المسجد،

_ - فيما قلت، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي (من أصحاب الشافعي) لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله: «كذبت» كذبا، والكذب معصية. والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما فعلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه. وظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف (كما قال الشافعي) إكذاب نفسه، فيقول: كذبت فيما قلت. وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود. والسر في أن الشافعية ومن وافقهم أدخلوا في معنى التوبة التلفظ باللسان مع أن التوبة من عمل القلب أن يترتب عليها حكم شرعي، وهو قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، فلا بد أن يعلم الحاكم توبته حتى تقبل شهادته. (1) في ج: وتحسن حالته. (2) ينظر: «الطبريّ» (9/ 265) .

وَتَلاَعَنَا، وجاء أَيضاً عُوَيْمِرُ العَجْلاَنِيُّ فرمى امرأته ولا عن «1» ، والمشهورُ: أَنَّ نازلةَ هلالٍ قبلُ، وأَنَّها سَبَبُ الآية، والأزواج في هذه الآية: يَعُمُّ المسلماتِ والكافرات والإماءِ فكُلُّهن يُلاعِنُهُنَّ الزوجُ للانتفاء من الحمل، وتختصُّ الحُرَّةُ بدفع حَدِّ القذف عن نفسها، وقرأ السبعة غيرَ نافعِ «2» : أَنَّ لَعْنَتَ، وأَنَّ غَضَبَ بتشديد «أَنَّ» فيهما ونَصْبِ اللعنة والغضب، والعذاب المُدْرَأَ في قول الجمهور: هو الحَدُّ، وجُعِلَتْ اللعنة للرجل الكاذب لأَنَّهُ مفترٍ مُبَاهِتٌ، فَأُبْعِدَ باللعنة، وجُعِلَ الغَضَبُ، الذي هو أَشَدُّ على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت- بالقول، والله أعلم، وأجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادِّعاء الرؤية زناً لا وطء من/ الزوج بعده، وذلك مشهور المذهب. 35 ب وقال مالك: إنَّ اللعان يجب بنفي حمل يُدَّعَى قبله استبراءٌ والمُسْتَحَبُّ من ألفاظ اللعان أنْ يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه، فيقول الزوج: أشهد بالله لرأيتُ هذه المرأة تزني،

_ (1) تقدم. حديث ابن عباس في الملاعنة. أخرجه أبو داود (2/ 688) كتاب الطلاق: باب في اللعان، حديث (2256) ، وأحمد (1/ 238- 239) ، والطيالسي (1/ 319- منحة) رقم (1620) ، والطبريّ في «تفسيره» (18/ 65- 66) ، والبيهقي (7/ 394) كتاب «اللعان» : باب الزوج يقذف امرأته، كلهم من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، وفيه: فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 43) ، وعزاه إلى أحمد، وعبد الرزاق، والطيالسي، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس. أما حديث عويمر: فرواه سهل بن سعد. وأخرجه مالك (2/ 566- 567) كتاب الطلاق: باب ما جاء في اللعان، حديث (34) ، والبخاري (9/ 361) كتاب الطلاق: باب من جوز الطلاق الثلاث، حديث (5259) ، ومسلم (2/ 1129- 1130) كتاب «اللعان» ، حديث (1/ 1492) ، وأبو داود (2/ 679- 682) كتاب الطلاق: باب في اللعان، حديث (2245) ، والنسائي (6/ 170- 171) كتاب الطلاق: باب بدء اللعان، وابن ماجه (1/ 667) كتاب الطلاق: باب اللعان، حديث (2066) ، وأحمد (5/ 336- 337) ، والدارمي (2/ 150) كتاب النكاح: باب في اللعان، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (756) ، وابن حبان (4271- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 102) ، والبيهقي (7/ 398- 399) كتاب «اللعان» : باب سنة اللعان، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 181- بتحقيقنا) من طريق الزهري عن سهل بن سعد به. (2) ينظر: «السبعة» (453) ، و «الحجة» (5/ 314) ، و «إعراب القراءات» (2/ 101) ، و «معاني القراءات» (2/ 202) ، و «شرح الطيبة» (5/ 84) ، و «العنوان» (138) ، و «حجة القراءات» (494) ، و «شرح شعلة» (512) ، و «إتحاف» (2/ 292) ، و «المحتسب» (2/ 102) .

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 13]

وإنِّي في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة: وأنّ لعنة الله علي إنْ كنتُ من الكاذبين، وأَمَّا في لعان نفي الحمل فيقول: ما هذا الولدُ مِنِّي، وتقول المرأة: أشهدُ بالله ما زنيتُ، وأَنَّهُ في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول: غَضِبَ الله عَلَيَّ إنْ كان من الصادقين، فإنْ مَنَعَ جَهْلُهُمَا من ترتيب هذه الألفاظ، وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، ومشهور المذهب: أَنَّ نفسَ تمام اللعان بينهما فُرْقَةٌ، ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم، وتحريم اللعان أَبَدِيٌّ باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك، وجواب لَوْلا محذوف تقديره: لكشف الزناةَ بأيسر من هذا، أو لأخذهم بعقابه ونحو هذا. [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 13] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ... الآية: نزلت في شأن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ففي «البخاريِّ» في غزوة بَنِي المُصْطَلِقِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: وأَنْزَلَ اللهُ العَشْرَ الآياتِ في براءتي: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ... الآيات: والإفك: الزُّورُ والكذب، وحديث الإفك في «البخاريّ» و «مسلم» وغيرهما مُسْتَوْعَبٌ، والعُصْبَةُ: الجماعة من العشرة إلى الأربعين. وقوله سبحانه: لاَ تَحْسَبُوهُ خطاب لِكُلِّ مَنْ ساءه ذلك من المؤمنين. وقوله تعالى: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ معناه: أَنَّه تَبْرِئَةٌ في الدنيا، وترفيعٌ من الله تعالى في أنْ نَزَّلَ وَحْيَهُ بالبراءة من ذلك، وأجرٌ جزيلٌ في الآخرة، وموعظةٌ للمؤمنين في غابر الدهر، واكْتَسَبَ: مستعملة في المآثم، والإشارة بقوله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هي إلى: عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلولَ وغيره من المنافقين، وكِبْرَهُ: مصدر كَبُرَ الشيء وعَظُمَ ولكنِ استعملتِ العربُ ضَمَّ الكاف في السِّنِّ. وقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ... الآية: الخطاب للمؤمنين حاشا مَنْ تولى كِبْرَهُ، وفي هذا عتابٌ للمؤمنين، أي: كان الإنكارُ واجباً عليهم، ويقيس فُضَلاَءُ المؤمنين الأمر على أنفسهم، فإذا كان ذلك يَبْعُدُ فيهم فَأُمُّ المؤمنين أبعد، لفضلها، ووقع هذا النّظر السديد من أبي أَيُّوبَ وامرأته وذلك أَنَّهُ دَخَلَ عليها فقالت له: «يا أبا أيوبَ، أَسَمِعْتَ ما قيل؟ فقال: نعم، وذلك الكذبُ أكنتِ أنت يا أمّ أيّوب

[سورة النور (24) : الآيات 14 إلى 18]

تفعلين ذلك؟ قالت: لا، والله، قال: فعائشة- والله- أفضلُ منك، قالتْ أُمُّ أيوب: نعم» «1» فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله فيه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم، والضمير في قوله: لَوْلا جاؤُ للذين تولوا كبره. [سورة النور (24) : الآيات 14 الى 18] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) وقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا عتاب من الله تعالى، بليغ في تعاطيهم هذا الحديثَ وإنْ لم يكن المُخْبِرُ والمُخْبَرُ مُصَدِّقِينَ، ولكنَّ نفس التعاطي والتلقي من لسانَ إلى لسان والإفاضة في الحديث- هو الذي وقع العتابُ فيه، وقرأ ابن يعمر «2» وعائشة (رضي الله عنها) وهي أعلم الناس بهذا الأمر: «إذْ تَلِقُونَهُ» /- بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف-، ومعنى 36 أهذه القراءة من قول العرب: وَلَقَ الرجُل وَلْقاً إذا كَذِبَ، وحكى «3» الطبريُّ: أن هذه اللفظة مأخوذةٌ من: الوَلْقِ الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء يقال: ولق في سيره إذا أسرع، والضمير في: تَحْسَبُونَهُ للحديث والخوضِ فيه والإذاعةِ له. وقوله تعالى: سُبْحانَكَ أي: تنزيهاً للَّه أَنْ يقع هذا من زوج نَبِيِّه صلّى الله عليه وسلّم وحقيقة البُهْتَانِ: أَنْ يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة: أَنْ يقال في الإنسان ما فيه، ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. [سورة النور (24) : الآيات 19 الى 21] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 284) برقم (25859) ، وذكره ابن عطية (4/ 170) ، وابن كثير (3/ 273) ، والسيوطي (5/ 60) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر. (2) وقرأ بها ابن عباس، وعثمان الثقفي. ينظر: «مختصر الشواذ» ص 102، و «المحتسب» (2/ 104) ، و «الكشاف» (3/ 219) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 171) ، و «البحر المحيط» (6/ 402) ، و «الدر المصون» (5/ 213) . (3) ينظر: «الطبريّ» (9/ 285) .

وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية: قال مجاهد وغيره: الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين، وعذابهم الأليم في الدنيا: الحدودُ، وفي الآخرة: النار «1» ، وقالت فرقة: الآية عامَّةٌ في كلّ قاذف، و [هذا] «2» هو الأظهر. وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ معناه: يعلم البريءَ من المُذْنِبِ، ويعلم سائر الأمور، وجواب لَوْلا أيضاً محذوف تقديره: لَفَضَحَكُم بذنوبكم، أو لعذّبكم ونحوه. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ... الآية: خطوات جمع خُطْوَة، وهي ما بين القدمين في المشي، فكأنَّ المعنى: لا تمشوا في سُبُلِهِ وطُرُقِهِ. قلت: وفي قوله سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً: ما يردع العاقلَ عن الاشتغال بغيره، ويُوجِبُ له الاهتمامَ بإصلاح نفسه قبل هجوم مَنِيَّتِهِ وحُلُولِ رَمْسِهِ، وحَدَّثَ أَبو عمر في «التمهيد» بسنده عن إسماعيل بن كثير قال: سمعت مجاهداً يقول: «إنَّ الملائكة مع ابن آدم، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير، قالت الملائكة: ولك مِثْلُهُ، وإذا ذكره بشرٍّ، قالتِ الملائكةُ: ابنَ آدمَ المستور عورته، أَرْبِعْ على نفسك، واحْمَدِ الله الذي يستر عورتك» انتهى، ورُوِّينَا في «سنن أبي داودَ» عن سهل بن مُعَاذِ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ حَمَى مُؤْمِناً مِنْ مُنَافِقٍ- أَرَاهُ قالَ: بَعَثَ اللهُ مَلَكاً يَحْمِي لَحْمَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِماً بشيء يريد به شينه، حبسه الله- عز وجل- عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» «3» ، وروينا أيضاً عن أَبي داودَ بسنده عن جابرِ بن عبد الله وأبي طلحةَ بن سهل الأنصارِيَّين أنَّهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما من امرئ يخذل أمرا مُسْلِماً في مَوْضِعٌ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ- إلاَّ خَذَلَهُ اللهُ في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من امرئ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِع يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ- إلاَّ نَصَرَهُ الله في موضع يحبّ فيه

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 287) برقم (35870) نحوه، وذكره ابن عطية (4/ 171) ، والسيوطي (5/ 61) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني عن مجاهد بلفظ: «تظهر» . (2) سقط في ج. (3) أخرجه أبو داود (2/ 687) كتاب الأدب: باب من رد على مسلم غيبة، حديث (4883) ، وابن المبارك في «الزهد» (239) .

[سورة النور (24) : آية 22]

نُصْرَتَهُ» ، انتهى «1» ، ثم ذكر تعالى أَنَّه يزكى مَنْ شاء مِمَّنْ سبقت له السعادة، وكان عمله الصالح أمارة على سبق السعادة له. [سورة النور (24) : آية 22] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) وقوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ... الآية: المشهورُ من الروايات أَنَّ هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر رضي الله عنه ومِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وكان من قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه، لمسكَنَتِهِ، فلما وقع أمر الإفك بلغ أبا بكر أَنَّه: وقع مِسْطَحٌ مع مَنْ وقع فحلف أبو بكر: لا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح معتذرا/ 36 ب وقال: إنَّما كُنْتُ أسمع ولا أقول، فنزلتِ الآية، والفضل: الزيادة في الدِّينِ، والسعة هنا: هي المال، ثم قال تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ... الآية، أي: كما تحبون عفوَ الله لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، فيروى أنَّ أبا بكر قال: بلى، إنِّي أُحِبُّ أَنْ يغفر الله لي، ورَجَّعَ إلى مِسْطَحٍ ما كان يُجْرِي عليه من النفقة والإحسان «2» . قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الحنث إذا رآه الإنسان خيراً هو أولى من البر، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «فَرَأَى غَيْرُهَا خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» انتهى «3» . وقال بعض الناس: هذه أرجى آيةٌ في كتاب الله عز وجل من

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 687) كتاب الأدب: باب من رد على مسلم غيبة، حديث (4884) ، وأحمد (3/ 441) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 495- 496- بتحقيقنا) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 289) برقم (25875) ، وذكره البغوي (3/ 334) ، وابن عطية (4/ 172، 173) ، وابن كثير (3/ 276) ، والسيوطي (5/ 63) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان. [.....] (3) أخرجه مسلم (3/ 1271- 1272) كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا، فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، حديث (11/ 1650) ، والبيهقي (10/ 32) كتاب الأيمان، باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه. وأخرجه مسلم (3/ 1272) كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، حديث (13/ 1650) . ومن حديث عدي بن حاتم أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» ، وأبو داود الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه، حديث (1218) ، وأحمد (4/ 256- 257- 258) ، والدارمي (2/ 186) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، ومسلم (3/ 1272- 1273) ، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، حديث (16، 18/ 1651) ، والنسائي (7/ 10- 11) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث، وابن ماجه (1/ 681) كتاب «الكفارات» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، -

حيث لطفه سبحانه بالقَذَفَةِ العُصَاةِ بهذا اللفظ. قال ع «1» : وإنَّما تعطى الآية تفضلاً من الله تعالى في الدنيا، وإنَّما الرجاءُ في الآخرة، أما أنَّ الرجاءَ في هذه الآية بقياسٍ، أي: إذا أُمِرَ أُولِي الفضل والسعة بالعفو، فطرد هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا رَبَّ غيره، وإنَّما آيات الرجاء: قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] . وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ

_ - حديث (2108) ، والحاكم (4/ 300- 301) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب لا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم، والبيهقي (10/ 32) كتاب «الأيمان» : باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه، بلفظ «فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . ومن حديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك» . ومنهم من قال: «فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» . والحديث أخرجه أحمد (5/ 62- 63) ، والدارمي (2/ 186) كتاب «الأيمان والنذر» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، والبخاري (11/ 516- 517) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب قول الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... حديث (6622) ، ومسلم (3/ 1273- 1274) كتاب «الأيمان» ، باب ندب من حلف يمينا، فرأى غيرها خيرا منها، حديث (9/ 1652) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، حديث (1219) ، والنسائي (7/ 12) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث، وأبو داود (3/ 584) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث، حديث (3277) ، وابن الجارود في «المنتقى» ص (310) : باب ما جاء في الأيمان، حديث (929) ، والبيهقي (10/ 31) كتاب «الأيمان» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. والخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 400) من طرق عن الحسن عن عبد الرحمن به. ومن حديث عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه أخرجه الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، حديث (1220) . ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه أحمد (2/ 204) بلفظ «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» ، ورواه الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، حديث (1221) ، وأحمد (2/ 212) ، وأبو داود (3/ 582) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب اليمين في قطيعة الرحم، حديث (3274) ، وابن ماجه (1/ 682) كتاب «الكفارات» ، باب من قال: كفارتها تركها، حديث (2111) بلفظ «فليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها» . وقال أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلّم «وليكفر عن يمينه» إلا فيما لا يعبأ به. ومن حديث مالك الجشمي رواه النسائي (7/ 11) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث، وابن ماجه (1/ 681) كتاب «الكفارات» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، حديث (2109) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 173) .

[سورة النور (24) : الآيات 23 إلى 25]

[الشورى: 19] . وسمعت أبي رحمه الله يقول: أرجى آيةٌ في كتاب الله عندي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] . وقال بعضهم: أرجى آية قولَهُ تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] . [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ... الآيةَ: قال ابن جبير: هذه الآية خاصَّةٌ في رُمَاةِ عائشة «1» ، وقال ابن عباس «2» وغيره: بل ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم لمكانهن من الدِّينِ ولم يقرن بآخر الآية توبة. قال ع «3» : وقاذف غَيْرهِنَّ له اسم الفسق، وذكرت له التوبةُ، ولعن الدنيا: الإِبعاد، وضربُ الحَدِّ، والعامل في قوله: يَوْمَ فعل مُضمَرٌ تقديره: يُعَذَّبُونَ يومَ أو نحو هذا، والدين في هذه الآية: الجزاء، وفي مصحف ابن مسعود «4» وأُبَيٍّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ بتقديم الصفة على الموصوف. وقوله: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يُقِوِّي قولَ مَنْ ذهب: أَنَّ الآية في المنافقين عَبْدِ الله بن أبيّ وغيره. [سورة النور (24) : الآيات 26 الى 28] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 290) برقم (25881) ، وذكره البغوي (3/ 334) ، وابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 276) ، والسيوطي (5/ 64) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني عن خصيف. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 291) برقم (25885) ، وذكره البغوي (3/ 334) ، وابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 276) ، والسيوطي (5/ 64) ، وعزاه لسعيد بن منصور، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 174) . (4) ونسبها ابن خالويه إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم. ولكنه ضبطها برفع كلمة «الحق» . ينظر: «المختصر» ص (103) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 174) .

وقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ... الآية: قال ابن عباس «1» وغيره: الموصوف بالخُبْثِ والطيب: الأقوال والأفعال، وقال ابن زيد «2» : الموصوفُ بالخُبْث والطيب، النساءُ والرجال، ومعنى هذا التفريقَ بَيْنَ حكم ابن أبيّ وأشباهه وبين حكم النبي صلى الله عليه وسلّم وفضلاء أصحابه وأمّته. وقوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ إشارة إلى الطيبين المذكورين، وقيل: الإشارة ب أُولئِكَ إلى عائشة- رضي الله عنها- ومَنْ في معناها. وقوله تعالى: لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا سبب هذه الآية فيما روى الطبريُّ «3» : أَنَّ امرأة من الأنصار قالت: يا رسولَ الله، إنِّي أَكونُ في منزلي على الحال الَّتي لاَ أُحِبُّ أَنْ يراني أحدٌ عليها، لاَ وَالَدٌ ولا وَلَد، وإنَّهُ لا يزالُ يدخلُ عليَّ رجلٌ مِنْ أهلي، وأنا على تلك الحال فنزلت هذه «4» الآية، ثم هي عامَّةٌ في الأُمَّةِ غَابِرَ الدهر، وبيت الإنسان: هو الذي لا أحد معه فيه، أوِ البيتَ الذي فيه زوجته أو أَمَتُهُ، وما عدا هذا 37 أفهو غير بيته، وتَسْتَأْنِسُوا معناه: تستعملوا/ مَنْ في البيت، وتستبصروا، تقول: آنستُ: إذا علمَتُ عن حِسٍّ وإذا أبصرتُ ومنه قوله تعالى: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: 6] . و «استأنس» وزنه: استفعل، فكأنَّ المعنى في تَسْتَأْنِسُوا: تطلبوا أنْ تعلموا ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله، فذلك يكون بالاستئذان على من فيه، أو بأنْ يتنحنح ويشعر بنفسه بأي وجه أمكنه، ويتأنّى قَدْرَ ما يتحفظ منه، ويدخل إثر ذلك. وذهب الطبريُّ «5» في: تَسْتَأْنِسُوا إلى أَنَّه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بأنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه، وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا أنْ قد شعر بكم.

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 293) برقم (25891) ، وذكره ابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 287) ، والسيوطي (5/ 66) ، وعزاه لابن جرير، ولابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 295) برقم (25905) ، وذكره البغوي (3/ 335) ، وابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 278) . (3) ينظر: «الطبريّ» (9/ 297) . (4) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 297) رقم (25921) عن عدي بن ثابت. (5) ينظر: «الطبريّ» (9/ 298) .

[سورة النور (24) : الآيات 29 إلى 31]

قال ع «1» : وتصريف الفعل يأْبَى أَنْ يكون من أنس، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس «2» : «حتى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا» وصورة الاستئذان أَنْ يقول الإنسان: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن أُذِنَ له دَخَل، وإنْ أُمِرَ بالرجوع انصرف، وإنْ سُكِتَ عنه استأذن ثلاثاً ثم ينصرف، جاءت في هذا كله آثار، والضمير في قوله: تَجِدُوا فِيها: للبيوت التي هي بيوتُ الغير، وأسند الطبريُّ «3» عن قتادة أنه قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبتُ عمري كُلَّه هذه الآيةَ فما أدركتها أن أستأذنَ على بعض إخواني فيقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مُغْتَبِطٌ «4» لقوله تعالى: هُوَ أَزْكى لَكُمْ. وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَوَعُّدٌ لأهل التجسّس. [سورة النور (24) : الآيات 29 الى 31] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ... الآية: أباح سبحانه في هذه الآية رفعَ الاستئْذان في كُلِّ بيت لا يسكنه أحد لأَنَّ العِلَّةَ في الاستئذان خوفُ الكشفة على المُحَرِّمَاتِ، فإذا زالت العِلَّةُ زال الحكم، وباقي الآية بَيِّنٌ ظاهر التوعد، وعن مالك رحمه الله: أَنه بلغه أَنَّهُ كان يُسْتَحَبُّ إذا دخل البيتَ غيرَ المسكون، أن يقول

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 175) . (2) ينظر: «المحتسب» (2/ 107) ، و «مختصر شواذ ابن خالويه» ص 103، ولكنه حكاها هكذا: «حتى يسلموا على أهلها ويستأذنوا» ، ونسبها إلى ابن مسعود وابن عباس. وأما قراءة أبي عنده- فهي: حتى يسلموا ويستأذنوا» . وينظر: «الكشاف» (3/ 227) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 175) . [.....] (3) تقدم تخريجه. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 299) برقم (25933) ، وذكره ابن عطية (4/ 176) ، وابن كثير (3/ 281) ، والسيوطي (5/ 72) ، وعزاه لأبي يعلى، وابن مردويه عن أنس.

الذي يدخله: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللهِ الصَّالِحِينَ، انتهى، أخرجه «1» في «المُوَطَّإِ» . وقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أظهر ما في مِنْ أَنْ تكون للتبعيض، لأَنَّ أول نظرة لا يملكها الإنسانُ وإنَّما يَغُضُّ فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج إذ حفظُها عامٌّ لها، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذيرُ منه، وحفظُ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا يحل. قلت: النواظر «2» صوارمُ مشهورة فاغمدها في غِمْدِ الغَضِّ والحياء مِنْ نظر المولى وإلاَّ جرحك بها عَدُوُّ الهوى، لا ترسلْ بريد النظر فيجلبَ لقلبك رَدِيءَ الفكر، غُضُّ البصرِ يُورِثُ القلب نوراً، وإطلاقُه يَقْدَحُ في القلب ناراً. انتهى من «الكَلِمِ الفارقيَّة فِي الحِكَمِ الحقيقيَّة» . قال ابن العربيِّ» في «أحكامه» : قوله تعالى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ يريد: أطهر وأنمى، يعني: إذا غَضَّ بصره كان أطهرَ له من الذنوب وأَنمى لعمله في الطاعة. قال ابن العربي «4» : ومِنْ غَضَّ البصر: كَفُّ التطلع إلى المُبَاحَاتِ من زينة الدنيا وجمالِها كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ 37 ب زَهْرَةَ الْحَياةِ/ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 131] . يريد ما عند الله تعالى، انتهى. وقوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ... الآية: أمر الله تعالى النساء في هذه الآية بِغَضِّ البصر عن كل ما يُكْرَهُ- من جهة الشرع- النظرُ إليه، وفي حديث أُمِّ سلمةَ قالت: كُنْتُ أنا وعائشة عند النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فدخل ابن أمّ مكتوم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «احتجبن، فقلن: إنّه أعمى! فقال صلى الله عليه وسلّم: «أفعمياوان أنتما» «5» ومِنْ الكلام فيها كالتي قبلها.

_ (1) أخرجه مالك (2/ 962) كتاب «السلام» : باب جامع السلام حديث (8) . (2) في ج: النظر. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1366) . (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1366) . (5) أخرجه أبو داود (2/ 462) كتاب «اللباس» : باب قول الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ حديث (4112) ، والترمذي (5/ 94) كتاب «الأدب» : باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، حديث (2778) ، وأحمد (6/ 296) ، والنسائي في «الكبرى» (5/ 393) كتاب «عشرة النساء» : باب نظر-

قال ابن العربي في «أحكامه» «1» : وكما لا يَحِلُّ للرجل أن ينظر إلى المرأة، لا يحل للمرأة أَنْ تنظر إلى الرجلِ، فإنَّ عَلاَقَتَهُ بها كعلاقتها به، وقصدَه منها كقصدها منه، ثم استدل بحديث أُمِّ سلمة المتقدم، انتهى. وحفظ الفرج يَعُمُّ الفواحش، وسترَ العورة، وما دون ذلك مِمَّا فيه حفظ، ثم أَمر تعالى بأَلاَّ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ ما يظهر من الزينة قال ابن مسعود «2» : ظاهر الزينة: هو الثياب. وقال ابن جبير وغيره «3» : الوجه والكَفَّانِ والثيابُ. وقيل: غير هذا. قال زينتها ع «4» ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أَنَّ المرأة مأمورة بأَلاَّ تبديَ، وأَنْ تجتهدَ في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كُلِّ ما غلبها، فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بُدَّ منه أو إصلاح شأن، فما ظهر على هذا الوجه فهو المَعفُوُّ عنه، وذكر أبو عمر: الخلاف في تفسير الآية كما تقدم قال: ورُوِيَ عن أبي هريرة في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قال: القلب والفتخة.

_ - النساء إلى الأعمى، حديث (9241، 9242) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 116) ، وأبو يعلى (12/ 353) رقم (6922) ، وابن حبان (1968- موارد) ، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 416) ، والبيهقي (7/ 91- 92) ، وابن سعد في «الطبقات» (8/ 126) كلهم من طريق الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان. قال الحافظ في «الفتح» (9/ 337) : وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته ا. هـ. (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1367) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 303، 304) برقم (25951، 25952، 25953، 25954، 25955) ، وذكره ابن عطية (4/ 178) ، وابن كثير (3/ 283) والسيوطي (5/ 74) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 304) برقم (25963) ، (25964) عن سعيد بن جبير، وبرقم (25965) عن عطاء، وذكره ابن عطية (4/ 178) ، وابن كثير (3/ 283) ، والسيوطي (5/ 75) ، وعزاه لابن جرير عن سعيد بن جبير. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 178) .

قال جرير بن حازم: القُلْبُ: السِّوَارُ، والفتخة: الخاتم، انتهى من «التمهيد» . وقوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ. قال ابن العربي «1» : الجيب هو الطَّوْقُ، والخمار: هو المِقْنَعَة، انتهى. قال ع «2» : سبب الآية أَنَّ النساء كُنَّ في ذلك الزمان إذا غَطَّيْنَ رؤوسهنَّ بالأخمرة سَدَلْنَهَا من وراء الظهر فيبقى النَّحْرُ والعُنُقُ والأُذُنَانِ لا سِتْرَ على ذلك، فأمر الله تعالى بِلَيِّ الخمار على الجيوب، وهَيْئَةُ ذلك يستر جميعَ ما ذكرناه، وقالت عائشة- رضي الله عنها- رُحِمَ اللهُ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ لمَّا نزلت هذه الآية عَمَدْنَ إلى أكثف المروط «3» فشققنها أخمرةً، وضربن بها على الجيوب «4» . وقوله سبحانه: أَوْ نِسائِهِنَّ يعني جميع المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين، وكتب عمر إلى أبي عبيدةَ بن الجراح أَنْ يمنع نساءَ أهل الذِّمَّةِ أَنْ يدخلنَ الحَمَّامَ مع نساء المسلمين فامتثل «5» . وقوله سبحانه: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ يدخل فيه الإماءُ الكتابِيَّاتُ والعبيد. وقال ابن عباس وجماعة «6» : لا يدخل العبد على سَيِّدته فيرى شعرها إلاَّ أن يكون وغْداً. وقوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ يريد الأتباع لِيُطْعَمُوا، وهم فُسُولُ الرجال الذين لا إرْبَةَ لهم في الوَطْءِ، ويدخل في هذه الصنيفة: المَجْبُوبُ، والشيخ الفاني، وبعضُ المَعْتُوهِينَ، والذي لا إرْبَةَ له من الرجال قليلٌ، والإربة: الحاجة إلى الوطء، والطفل اسم جنس،

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1369) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 178) . [.....] (3) المرط: كل ثوب غير مخيط. وبالفتح: كساء من خز أو صوف أو كتان، وقيل: هو الثوب الأخضر، وجمعه مرمط، ينظر: «لسان العرب» (4183) . (4) أخرجه البخاري (8/ 347) كتاب «التفسير» : باب وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ حديث (4758) . (5) أخرجه الطبريّ (9/ 307) برقم (25986) ، وذكره ابن عطية (4/ 179) ، وابن كثير (3/ 284) ، والسيوطي (5/ 77) ، وعزاه لسعيد بن منصور، والبيهقي في «سننه» ، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب. (6) ذكره ابن عطية (4/ 179) ، والسيوطي (5/ 77) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه.

[سورة النور (24) : الآيات 32 إلى 34]

/ ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم، ويَظْهَرُوا معناه: يطّلعوا بالوطء. 38 أوقوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ... الآية، قيل: سببها أَنَّ امرأة مَرَّتْ على قوم فضربت برجلها الأرض فَصَوَّتَ الخَلْخَالُ، وسماعُ صوت هذه الزينة أَشَدُّ تحريكاً للشهوة من إبدائها ذكره الزَّجَّاجُ «1» ، ثم أمر سبحانه بالتوبة مُطْلَقَةً عَامَّةٍ من كل شيء صغير وكبير. [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) وقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الأَيِّمُ: مَنْ لا زوجةَ له أو لا زوجَ لها فالأَيِّمُ: يقال للرجل والمرأة. وقوله: وَالصَّالِحِينَ يريد: للنكاح، وهذا الأمر بالنكاح يختلف بحسب شَخْصٍ شخْصٍ، ففي نازلة: يُتَصَوَّرُ وجوبُه، وفي نازلة: النَّدْبُ وغيرُ ذلك حسبما هو مذكور في كتب الفقه قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «2» : قوله تعالى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ الأظهر فيه: أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى، وذلك بيد السادَةِ في العبيد والإماء كما هو في الأحرار بيد الأولياء، انتهى. ثم وعد تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين طَلَبَ رضا الله عنهم، واعتصاماً من معاصيه، ثم أمر تعالى كُلَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عليه النكاحُ أَنْ يستعفف حتى يُغْنِيَهُمُ الله من فضله، إذِ الغالب من موانع النكاح عَدَمُ المال، فوعد سبحانه المُتَعَفِّفُ بالغنى. والمكاتبة: مفاعلة من حيث يَكْتُبُ هذا على نفسه وهذا على نفسه، ومذهب مالك: أَنَّ الأَمرَ بالكتابة هو على الندب. وقال عطاء: ذلك واجب، وهو ظاهرُ مذهب عمرَ بن الخطاب «3» رضي الله عنه.

_ (1) ينظر: «معاني القران» (4/ 40) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1378) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 312) رقم (26018) ، وذكره ابن عطية (4/ 181) .

وقوله: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قالت فرقة: الخير هنا المال. وقال مالك: إنَّه ليقال: القُوَّةُ والأداء، وقال عبَيْدَةُ السَّلْمانيَّ: الخير هو: الصلاح في الدّين. وقوله تعالى: وَآتُوهُمْ قال المفسرون: هو أمر لكل مُكَاتِبِ أنْ يضع عن العبد من مال كتابته، ورأى مالك هذا الأمر على النَّدْبِ، ولم يَرَ لقدر الوضيعة حَدّاً، واستحسن «1» عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن يُوضَعَ عنه الرُّبُعُ، وقيل: الثُّلُثُ، وقيل: العشر، ورأى عمر «2» أَنْ يكون ذلك من أَوَّلِ نُجُومِهِ مبادرةً إلى الخير، وخوفَ أَلاَّ يدركَ آخرها، ورأى مالك وغيره: أَنْ يكونَ الوضعُ من آخر نَجْمٍ وعِلَّةُ ذلك أَنَّه: ربما عجز العبدُ فرجع هو وماله إلى السَّيِّدِ، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة. قلت: والظاهر أَنَّ هذا لا يُعَدُّ رجوعاً كما لو رجع إليه بالميراث، ورأى الشافعيُّ وغيره: أَنَّ الوضيعة واجبةُ يُحكَمُ بها. وقال الحسن «3» وغيره: الخطاب بقوله تعالى: وَآتُوهُمْ: للناس أجمعين في أَنْ يتصدَّقُوا على المكاتَبِينَ. وقال زيد بن أسلم «4» : إنَّما الخطاب لولاة الأمور. وقوله سبحانه: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً الآية: رُوِيَ أَنَّ سبب الآية هو أَن عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلولَ كانت له أَمَةٌ، فكان يأمرُها بالزنا والكَسْبِ به، فشكَتْ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية فيهِ، وفيمن فَعَلَ فعلَه من المنافقين «5» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 315) برقم (26046، 26047، 26048، 26049) ، وابن عطية (4/ 181) ، والسيوطي (5/ 83) وعزاه لأبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب، وعزاه أيضا في رواية أخرى لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والديلمي، وابن المنذر، والبيهقي، وابن مردويه. (2) ذكره ابن عطية (4/ 181) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 317) برقم (26066) ، وذكره ابن عطية (4/ 182) ، والسيوطي (5/ 83) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن. (4) ذكره ابن عطية (4/ 182) ، والسيوطي (5/ 83) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم. (5) أخرجه الطبريّ (9/ 318) برقم (26073) ، وذكره البغوي (3/ 344) ، وابن عطية (4/ 182) ، والسيوطي (5/ 84) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.

[سورة النور (24) : الآيات 35 إلى 37]

وقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً راجع إلى الفتيات وذلك أَنَّ الفتاةَ إذا أَرادت التَّحَصُّنَ فحينئذ يمكن ويُتَصَوَّرُ أَنْ يكونَ السيد مُكْرِهاً، ويمكن أن ينهى عن الإكراه، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصنَ فلا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ للسيد: لا تُكْرِهها: لأَنَّ الإكراه لا يُتَصوَّرُ فيها وهي مريدة للفساد، فهذا أمر في سادة وفتياتٍ حالُهم هذه، وذهب هذا النظرُ عن كثير من المفسرين/: فقال بعضُهم: قولُه: إِنْ أَرَدْنَ راجِعٌ إلى الأيامى في قوله: وَأَنْكِحُوا 38 ب الْأَيامى مِنْكُمْ، وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: إِنْ أَرَدْنَ مَلْغِيٌّ ونحو هذا مِمَّا هو ضعيف، والله الموفق للصواب برحمته. قلت: وما اختاره ع «1» هو الذي عَوَّلَ عليه ابن العرَبيِّ «2» وَنَصَّهُ، وإنما ذكر الله تعالى إِرادة التَّحَصّنِ من المرأة لأَنَّ ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأَمَّا إذا كانت هي راغبةً في الزنا، لم يتحصل الإكراه فحصلوه إنْ شاء الله، انتهى من «الأحكام» وقرأ ابن مسعود «3» وغيره: «فَإنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ [لهُنَّ] «4» غَفُورٌ رَحِيمٌ» ثم عَدَّد سبحانه نِعَمَهُ على المؤمنين في قوله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ليقع التحفظ ممّا وقع أولئك فيه. [سورة النور (24) : الآيات 35 الى 37] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 182) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1386) . [.....] (3) وقرأ بها ابن عباس، وسعيد بن جبير. قال أبو الفتح: اللام في «لهن» متعلقة ب «غفور» لأنها أدنى إليها، ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل، فكأنه قال: فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن. ويجوز أن تكون أيضا متعلقة ب «رحيم» ، وذلك أن ما لا يتعدى قد يتعدى بحرف الجر ألا تراك تقول: هذا مارّ بزيد أمس، فتعمل اسم الفاعل، وهو لما مضى؟ فكذلك يجوز تعلق اللام في «لهن» بنفس «رحيم» . ينظر: «المحتسب» (2/ 108) ، و «الكشاف» (3/ 240) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 182) ، وزاد نسبتها إلى جابر بن عبد الله. (4) سقط في ج.

وقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية: النور في كلام العرب الأضواء المُدْرَكَةُ بالبصر، ويُسْتَعْمَلُ مجازاً فيما صَحَّ من المعاني ولاح فيقال: كلام له نور، ومنه الكتاب المنير، والله تعالى ليس كمثله شيء فواضح أَنَّهُ ليس من الأضواء المُدْرَكَةِ، ولم يبقَ إلاَّ أَنَّ المعنى مُنَوِّرُ السموات والأرض، أي: به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، كما تقول: الملك نور الأمة، أي: به قِوام أمورها وصلاحُ جملتها، والأمر في الملك مجاز، وهو في صفة الله تعالى حقيقة مَحْضَةٌ، وقرأ «1» أبو عبد الرحمن السلمي وغيره: «الله نَوَّرَ» - بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء- والضمير في نُورِهِ يعود على الله تعالى قاله جماعة، وهو إضافة خلق إلى خالق، كما تقول: ناقة الله، وبيت الله، ثم اختلفوا في المراد بهذا النور، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلّم، وقيل: هو المؤمن، وقيل: هو الإيمان والقرآن، وفي قراءة أبيّ بن كعب: «مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِينَ» والمشكاة: هي الكُوَّةُ غير النافذة فيها القنديل ونحوه، وهذه الأقوال الثلاثة يطّرد فيها مقابلة جزء من المثال بجزء من المُمَثَّلِ، فعلى قول من قال: الممثّل محمد صلى الله عليه وسلّم- وهو قول كعب الأحبار- فرسول الله صلى الله عليه وسلّم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يَتَّصِلُ بها من علمه وهداه، والزجاجة: قلبه، والشجرة المباركة: هي الوحي، والزيت: هو الحجج والبراهين. وعلى قول مَنْ قال: إنَّ المُمَثَّلَ به هو المؤمن- وهو قول أُبَيِّ بن كعب «2» -، فالمشكاة صدره، والمصباح: الإيمان والعلم، والزجاجة: قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها: هو الحجج، والحكمة التي تضمنها قولُ أُبَيٍّ فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي في قبور الأموات، وتحتمل الآية معنى آخر، وهو أَنْ يريدَ: مَثَلُ نورِ الله الذي هو هداه في الوضوح كهذه الجملة من النور، الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور، الذي هو بين أيديكم أَيُّها البشر وقال أبو موسى: المشكاة: الحديدة أو الرَّصَاصَةُ التي يكون فيها القنديل في جوف الزجاجة، والأوّل أصحّ.

_ (1) وقرأ بها عبد الله بن أبي ربيعة. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 183) ، و «البحر المحيط» (6/ 418) ، وزاد نسبتها إلى علي بن أبي طالب، وأبي جعفر، وعبد العزيز المكي، وزيد بن علي، وثابت بن أبي حفصة، والقورصي، ومسلمة بن عبد الملك. وينظر: «الدر المصون» (5/ 219) . (2) أخرجه الطبريّ (26088) ، وذكره البغوي (3/ 345) ، وابن عطية (4/ 183) ، وابن كثير (3/ 289) ، والسيوطي (5/ 87) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه عن أبيّ بن كعب.

وقوله: فِي زُجاجَةٍ لأَنَّه جسم شَفَّافٌ، المصباحُ فيه أنور منه في غير الزجاجة، والمصباح: الفتيل بناره. وقوله: كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي/ في الإنارة والضوء، وذلك يحتمل معنيين: إمَّا أن 39 أيريد أَنَّها بالمصباح كذلك، وإمَّا أَنْ يريد أَنَّها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها، وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور قال الضَّحَّاكُ: الكوكب الدُّرِّيُّ: الزهرة «1» . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «2» : «تَوَقَّدَ» - بفتح التاء والدال-، والمراد: المصباح، وقرأ نافع وغيره: «يُوقَدُ» أي: المصباح. وقوله: مِنْ شَجَرَةٍ أي من زيت شجرة، والمباركة: المُنَمَّاةُ. وقوله تعالى: لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قال الحسن «3» : أي: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنَّما هو مَثَلٌ ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إمَّا شرقِيَّةً وإمَّا غربِيَّةً، وقيل غيرُ هذا. وقوله سبحانه: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ... الآية مبالغة في صفة صفاته وحُسْنِهِ. وقوله: نُورٌ عَلى نُورٍ أي: هذه كلها ومعان تكامل بها هذا النورُ المُمَثَّلُ به، وفي هذا الموضع تمّ المثالُ، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قال ابن عباس وغيره» : هي المساجد المخصوصةُ بعبادة الله التي من عادتها أنْ تُنَوَّرَ بهذا النوع من المصابيح. وقوله: أَذِنَ اللَّهُ: بمعنى: أمر وقضى، وتُرْفَعَ قيل: معناه تُبْنَى وتُعَلَّى قاله مجاهد «5» وغيره كقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ... [البقرة: 127] .

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 184) ، والسيوطي (5/ 89) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك. (2) ينظر: «السبعة» (455- 456) ، و «الحجة» (5/ 324) ، و «إعراب القراءات» (2/ 109) ، و «معاني القراءات» (2/ 207) ، و «شرح الطيبة» (5/ 90) ، و «العنوان» (139) ، و «حجة القراءات» (500) ، و «شرح شعلة» (514) و «إتحاف» (2/ 298) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 327) برقم (26124) ، وذكره البغوي (3/ 347) وابن عطية (4/ 185) ، والسيوطي (5/ 90) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 329) برقم (26129، 26130) ، وذكره البغوي (3/ 348) ، وابن عطية (4/ 185) ، والسيوطي (5/ 90) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (5) أخرجه الطبريّ (9/ 329) برقم (26131، 26132، 26133) ، وذكره البغوي (3/ 348) ، وابن عطية (4/ 186) ، والسيوطي (5/ 91) ، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.

وقال الحسن «1» : معناه تُعظَّم ويُرْفَعُ شأنها، وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً، ويُسَبِّحُ لَهُ فِيها أي: في المساجد، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ قال ابن عباس «2» : أراد ركعتي الضُّحَى. [والعصر، وإنَّ ركعتي الضحى] «3» لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلاَّ غَوَّاصٌ ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمرَ الله تعالى وطلبهم رضاه، لا يشغلهم عن الصلاة وذكرِ الله شيءٌ من أمور الدنيا. قلت: وعن عمر- رضي الله عنه- أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحَدٍ، يَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، ويُسْمعُهُمُ الدَّاعِي، فَيْنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ لَمِنَ الْكَرَمُ اليَوْمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة: 16] ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُواْ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إلى آخر الآية، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الجَمْعِ لَمِنِ الكَرَمُ اليَوْمَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ رَبَّهمْ؟» مختصراً «4» رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» وله طرق عن أَبي إسحاقَ، انتهى من «السلاح» ، ورواه أيضاً ابن المبارك من طريق ابن عباس قال: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نادى مُنَادٍ: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ منْ أَصْحَابُ الكَرَم، لِيَقُمْ الحَامِدُونَ لِلَّهِ تعالى على كُلِّ حَالٍ، فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ يُنَادِي ثَانِيَةً: سَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ جُنُوبُهُمْ تتجافى عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ: فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجنَّة، ثُمَّ يُنَادِي ثَالِثَةً: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ لِيَقُمَ الَّذِينَ كَانَتْ: لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ فيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجَنَّة» . انتهى من «التذكرة» . والزكاة هنا عند ابن عباس: الطاعة للَّه «5» . وقال الحسن «6» : هي الزكاةُ المفروضة في المال، واليوم المخوف: هو يوم القيامة،

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 330) برقم (26141) ، وذكره البغوي (3/ 348) ، وابن عطية (4/ 186) ، والسيوطي (5/ 91) ، وعزاه لعبد الرزاق عن الحسن. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 331) برقم (26144) ، وذكره ابن عطية (4/ 186) ، والسيوطي (5/ 93) ، وعزاه لابن أبي شيبة، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس. (3) سقط في ج. (4) أخرجه الحاكم (2/ 399) من حديث عقبة بن عامر الجهني. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، وله طرق عن أبي إسحاق ووافقه الذهبي. (5) أخرجه الطبريّ (9/ 332) برقم (26153) ، وذكره ابن عطية (4/ 186) . [.....] (6) ذكره ابن عطية (4/ 186) .

[سورة النور (24) : الآيات 38 إلى 40]

ومعنى الآية: إنَّ ذلك اليوم لِشِدَّةِ هوله القلوبُ والأبصارُ فيه مضطربةٌ قِلِقَةٌ متقلبة. / قلت: ومن «الكلم الفارقية» : سعادة القلبِ إقباله على مقلّبه والعالم بحال مآله 39 ب ومُنْقَلَبهِ، القلوبُ بحارٌ جواهرُها المعارفُ، وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة، غَوَّاصُ بحر الصُّوَرِ يغوصُ بصورته في طلب مكسبه، والعارِفُ يغوص بمعنى قلبه في بحار غَيْبِ رَبِّهِ، فيلتقط جواهرَ الحكمة ودُرَرَ الدِّرَايَةِ، قلوبُ العارفين كالبحار، تنعقد في أصداف ضمائرهم جواهِرُ المعارف والأسرار، القلوب كالأراضي إلى من أسلمت إليه قلبك بذر فيه ما عنده، أَمَّا مَنْ بذر نفسه ووسواسه العفن المسوس، أو بذر فيه معرفته بالرب المقدس، انتهى. قلت: فإنْ أردت سلامتك في ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلاً على طاعة مولاك فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أَتَى الله بقلب سليم. قال الواحِدِيُّ: تتقلب فيه القلوبُ بين الطمع في النجاة والخوفِ من الهلاك، والأبصارُ تتقلَّبُ في أيِّ ناحية يؤخذ بهم أذاتَ اليمين أم ذاتَ الشمال، ومن أيّ جهة يؤتون كتبهم، انتهى. [سورة النور (24) : الآيات 38 الى 40] لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) وقوله سبحانه: لِيَجْزِيَهُمُ أي فعلوا ذلك ليجزيهم «أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ» أي: ثواب أحسن ما عملوا، ولمّا ذكره تعالى حالة المؤمنين وتنويره قلوبَهم عَقَّبَ ذلك بذكر الكَفَرَةِ وأعمالهم، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ وهي جمع قاعٍ، والقاع: المنخفض البساط من الأرض، ويريد ب جاءَهُ: جاء موضعه الذي تَخَيَّلَهُ فيه، ويحتمل أنْ يعودَ الضمير في: جاءَهُ على السراب ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يَدُلُّ عليه الظاهر تقديره: فكذلك الكافر يومَ القيامة، يَظُنُّ عملَه نافعاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. وقوله: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي بالمجازات والضمير في عِنْدَهُ عائد على العَمَلِ، وباقي الآية وعيد بيّن.

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 44]

وقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على قوله: كَسَرابٍ وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي أَنَّهم من الضلال في مثل هذه الظلمات المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بَعْضُ الناس إلى أَنَّ في هذا المثالَ أجزاءً تقابل أجزاءً من المُمَثَّلِ به فقال: الظلمات: الأعمال الفاسدة والمُعْتَقَدَاتُ الباطلة، والبحر اللُّجِّيُّ: صَدْرُ الكافر وقلبه، واللجي معناه: ذو اللجة وهي مُعْظَمُ الماء وغَمْرُه، واجتماع ما به أَشَدُّ لظلمته، والموج: هو الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبَه، والسحاب هو شهوتُه في الكفر وإعراضه عن الإيمان. قال ع «1» : وهذا التأويل سائغ وألّا يُقَدَّرُ هذا التقابل سائغ. وقوله: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها لفظ يقتضي مبالغةَ الظلمة، واخْتُلِفَ في هذه اللفظة، هل معناها أَنَّهُ لم يريده البتَّة؟ أو المعنى أَنَّه رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ وكاد أَلاَّ يراها، ووجه ذلك أَنَّ «كاد» إذا صَحِبَهَا حرف النفي، وَجبَ الفعل الذي بعدها، وإذا لم يصحبها انتفى الفعل، وكاد معناها: قارب. وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ قالت فرقة: يريد في الدنيا، أي: مَنْ لم يهده الله لم يَهْتَدِ، وقالت فرقة: أراد في الآخرة، أي: مَنْ لم يرحمه الله ويُنَوِّرُ حاله بالمغفرة والرحمة فلا رحمة له. 40 أقال ع «2» : والأَوَّلُ أبينُ/ وأليق بلفظ الآية، وأيضاً فذلك متلازم، ونور الآخرة إنَّمَا هو لمن نوّر قلبه في الدنيا. [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 44] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية: الرؤية هنا قلبية، والتسبيح: التنزيه والتعظيم، والآية عامَّةٌ عند المفسرين لكُلِّ شيء من العقلاء والجمادات.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 188) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 188) .

[سورة النور (24) : الآيات 45 إلى 51]

وقوله تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال الزَّجَّاجُ «1» وغيره: المعنى: كُلٌّ قد علم [اللهُ] «2» صَلاَتَهُ وتسْبِيحَهُ. وقال الحسن «3» : المعنى: كُلٌّ قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه. وقالت فرقة: المعنى: كل قد علم صلاةَ اللهِ وتسبيحَ اللهِ اللَّذَيْنِ أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خَلْقٍ إلى خالقٍ، وباقي الآية وعيد، ويُزْجِي معناه: يسوق، والرُّكام، الذي يركب بَعْضُه بعضاً ويتكاثف، والودق: المطر، قال البخارِيُّ: مِنْ خِلالِهِ أي: من بين أضعاف السحاب، انتهى. وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ قيل: ذلك حقيقةٌ، وقد جعل الله في السماء جبالاً من بَرَدٍ، وقالت فرقة: ذلك مجازٌ، وإنَّما أراد وصف كثرته، وهذا كما تقول: عند فلان جبال من مال وجبال من العلم. قلت: وحَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى إنْ لم يمنع من ذلك مانع، ومن كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي أبي علي التنوخي، أحد الرواة عن أبي الحسن الدَّارَقُطْنِيِّ والمُخْتَصِّينَ به- قال: أخبرنا أَبو بكر الصوليُّ عن بعض العلماء قال: رأيتُ امرأةً بالبادية، وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعها، فجاء الناس يعزّونها، فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: اللهم أنتَ المَأْمُولُ لأَحْسَنِ الخَلَفِ وبيدك التعويضُ مِمَّا تَلِفَ، فافعل بنا ما أَنْتَ أهله، فإنَّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك، قال: فلم أبرحْ حتى مَرَّ رجل من الأَجِلاَّءِ، فحُدِّث بما كان فَوَهَبَ لها خَمْسِمائَةٍ دينارٍ، فأجاب الله دعوتها وفرّج في الحين كربتها، انتهى. والسنا مقصوراً: الضوءُ، وبالمد: المَجْدُ، والباء في قوله بِالْأَبْصارِ يحتمل أن تكون زائدة. [سورة النور (24) : الآيات 45 الى 51] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 48) . (2) سقط في ج. (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (4/ 189) .

[سورة النور (24) : الآيات 52 إلى 54]

وقوله سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ الآية آية اعتبار، والدابة: كُلُّ ما دَبَّ من جميع الحيوان، وقوله: مِنْ ماءٍ قال الجمهور: يعني أنَّ خلْقَةَ كُلِّ حيوان فيها ماء كما خُلِقَ آدمُ من الماء والطين، وقال النقاش: أراد منيَّ «1» الذكورِ، والمشي على البطن: للحَيَّاتِ، والحُوتِ، والدُّودِ، وغيره، وعلى رجلين: للإنسان، والطَّيْرِ إذا مشى، وعلى أربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي «2» عَلَى أَكْثَرَ» فعَمَّمَ بهذه الزيادة جميعَ الحيوان. وقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ يَعُمُّ كل ما نصب الله تعالى من آية. وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ يعني المنافقين رُوِيَ أَنَّ رجلاً من المنافقين اسمه بشر دعاه يهوديّ إلى التحاكم عند النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وكان المنافق مُبْطِلاً، فَأبى، ودعا اليهودِيَّ إلى كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية، فيه، والحيف: المَيْلُ. وقوله سبحانه: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ... الآية المعنى: إنَّما كان الواجب أنْ يقوله المؤمنون إذا دُعُوا إلى حكم الله ورسوله- سمعنا وأطعنا. [سورة النور (24) : الآيات 52 الى 54] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) 40 ب وقولُهُ سبحانه: وَمَنْ يُطِعِ/ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ قال الغزاليُّ في «المنهاج» : التقوى في القرآن تُطْلَقُ على ثلاثة أشياء: أحدها: بمعنى الخشية والهيبة قال الله عز وجل: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة: 41] . وقال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] . والثاني: بمعنى الطاعة والعبادة قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] . قال ابن عباس: أطيعوا الله حَقَّ طاعته، وقال مجاهد: هو أنْ يُطَاع فلا يُعْصَى، وأنْ يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأنْ يُشْكَرَ فلا يُكْفَرَ.

_ (1) في ج: أراد منية. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 191) ، و «البحر المحيط» (6/ 428) .

[سورة النور (24) : الآيات 55 إلى 57]

والثالث: بمعنى تنزيه القلب عن الذنوب، وهذه هي الحقيقة في التقوى دون الأَولَيَيْنِ أَلا ترى أَنَّ الله تعالى يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ذَكَرَ الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى، فعلمتَ أنَّ حقيقة التقوى معنى سوى الطاعةِ والخشيةِ، وهي تنزيهُ القلب عن الذنوب، انتهى. وقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.... الآية: جهد اليمين: بلوغ الغاية في تعقيدها، ولَيَخْرُجُنَ معناه: إلى الغزو، وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دُعُوا إلى الله ورسوله. وقوله تعالى: قُلْ لاَّ تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ يحتمل معاني: أحدها: النهي عن القَسَمِ الكاذب إذ قد عُرِفَ أَنَّ طاعتهم دغلة فكأنه يقول: لا تغالطوا فقد عُرِفَ ما أَنْتُمْ عليه. والثاني: أَنَّ المعنى: لا تتكلَّفُوا القَسَمَ فطاعة معروفة على قدر الاستطاعة أَمْثَلُ وأجدر بكم، وفي هذا التأويل إبقاءٌ عليهم، وقيل غير هذا. وقوله: تَوَلَّوْا معناه: تتولوا، والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلّم هو التبليغ والذي حمل الناس هو السمعُ والطاعة واتباع الحق، وباقي الآية بيّن. [سورة النور (24) : الآيات 55 الى 57] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ... الآيةُ عامَّةٌ لأُمَّةِ نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم في أنْ يُمَلِّكَهُمُ الله البلادَ كما هو الواقع، فسبحانه ما أصدق وعده! وقال الضَّحَّاكُ في كتاب «النقاش» «1» : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، والصحيح في الآية أَنَّها في استخلاف الجمهور، واللام في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ لأم القَسَم. وقوله: يَعْبُدُونَنِي فعل مستأنف، أي: هم يعبدونني.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 193) .

[سورة النور (24) : آية 58]

وقوله: وَمَنْ كَفَرَ يحتمل أنْ يريدَ كفر هذه النعم، ويحتمل الكفر المُخْرِجَ عن المِلَّةِ عياذاً بالله من سخطه! وباقي الآية بيِّن مما تقدَّم في غيرها. [سورة النور (24) : آية 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية: قيل: «الذين ملكت أيمانهم» : الرجال والنساء، ورَجَّحَهُ الطبريُّ، وقيل: الرجال خاصة، وقيل: النساء خاصَّةً، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء: أَنَّ الله تعالى أَدَّبَ عباده بأنْ يكونَ العبيدُ والأَطفَالُ الذين عقلوا معاني الكَشَفَةِ ونحوها- يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاث، وهي الأوقات التي تقتضي عادَةُ الناس الانكشافُ فيها وملازَمَةُ التَّعَرِّي في المضاجع، وهي: عند الصباح، وفي وقت القائلة وهي الظهيرة لأَنَّ النهار يظهر فيها إذا علا واشْتَدَّ حَرُّهُ، وبعدَ العشاء لأَنَّهُ وقتُ التعرِّي للنوم، وأما في غير هذه الأوقات فالعرف 41 أمن الناس التَّحَرُّزُ/ والتَّحَفُّظُ فلا حرجَ في دخول هذه الصنيفة بغير إذن إذ هم طَوَّافون يمضون ويجيئون، لا يجد الناس بُدّاً من ذلك. وقوله: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بدل من قوله: طَوَّافُونَ، وثَلاثَ مَرَّاتٍ نُصِبَ على الظرف لأَنَّهم لم يُؤْمروا بالاستئذان ثلاثاً وإنَّما أُمِروا بالاستئذان في ثلاث مواطنَ، فالظرفية في ثلاث بَيِّنة. وقوله سبحانه: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ بيّن للمتأمّل. [سورة النور (24) : الآيات 59 الى 60] وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) وقوله سبحانه: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ... الآية: أَمَرَ تعالى في هذه الآية أَنْ يكونوا إذا بلغوا الحُلْمَ على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله عز وجل.

[سورة النور (24) : آية 61]

وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ- بَيِّنٌ لا يحتاجُ إلى تفسير. وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ: هن اللواتي قد أسنّ وقَعَدْنَ عن الوِلْدِ، واحدتهن قَاعِدٌ، وقال ربيعة: هي هنا التي تُسْتَقْذَرُ من كِبرَهَا، قال غيره: وقد تَقْعُدُ المرأة عن الوِلْدِ وفيها مُسْتَمْتَعٌ، ولما كان الغالب من النساء أَنَّ ذواتَ هذا السِّنِّ لا مذهبَ للرجال فيهنَّ- أُبِيحَ لهنَّ ما لم يُبَحْ لغيرهنَّ، وقرأ «1» ابن مسعود وأبيّ: «أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهنَّ» والعرب تقول: امرأة، واضع للتي كَبُرَتْ، فوضعت خمارَها، ثم استثنى عليهن في وضع الثياب أَلاَّ يقصدنَ به التَّبَرُّجَ وإبداءَ الزينة فرُبَّ عجوزٍ يبدو منها الحِرْصُ على أَنْ يظهر لها جمال، والتبرج: طلب البُدُوِّ والظهورِ للعين، ومنه: بُرُوجٌ مُشَيَّدة، والذي أبيح وضعه لهن الجِلبابُ الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود «2» وغيره، ثم ذكر تعالى أَنَّ تَحَفُّظَ الجميعِ مِنْهُنَّ، واستعفافَهُنَّ عن وضع الثياب، والتزامهنَّ ما يلتزم الشَّوَابُّ من الستر- أفضلُ لَهُنَّ وخير. وقوله تعالى: «والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ» : أي: سميع لما يقولُ كُلُّ قائل وقائلة، عليم بمقصد كل أحد، وفي هاتين الصفتين توعد وتحذير. [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إلى قوله كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ظاهر الآية وأَمْرُ الشريعة: أَنَّ الحَرَجَ عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم الإتيان به بالأكمل، ويقتضي العذر أَنْ يقعَ منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، وللناس أقوال في الآية وتخصيصات يطول ذكرها، وذكر الله تعالى

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 195) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 349) برقم (26206، 26207) ، وذكره ابن عطية (4/ 195) ، وابن كثير (3/ 304) ، والسيوطي (5/ 104) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في «السنن» عن ابن مسعود.

بيوتَ القراباتِ، وسقط منها بيوت الأبناء فقال المفسرون: ذلك لأَنَّها داخلة في قوله: مِنْ بُيُوتِكُمْ لأنَّ بيت ابن الرجل بيتُه. وقوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يريد ما خزنتم وصار في قبضتكم، فمعظمه ما ملكه الرجلُ في بيته وتحت غلقه، وهو تأويل الضَّحِّاكِ ومجاهد «1» ، وعند جمهور المفسرين: يدخل في الآية الوكلاءُ والعبيدُ والأُجراءُ بالمعروف. وقرأ «2» ابن جبير: «ملكتم مفاتيحه» مبنيا للمفعول وزيادة ياء بين التاء والحاء، وقَرَنَ تعالى في هذه الآية الصديقَ بالقرابة المَحْضَةِ الوكيدة لأَنَّ قُرْبَ المودة لصيق قال معمر: قلت لقتادَة: أَلاَ أشرب من هذا الجُبِّ؟ قال: أنت لي صديق، فما هذا الاستئذان؟ «3» قال ابن عباس «4» في «كتاب النقاش» : الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100، 101] . وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً: ردّ لمذهب جماعة 41 ب من العرب كانت/ لا تأكل أفذاذاً البتَّةَ، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وأَنَّ إحضار الأكيل لَحَسَنٌ ولكن بأَلاَّ يحرم الانفرادُ، قال البخاريُّ «5» : أشتاتاً وشتى واحد، انتهى. وقال بعض أهل العلم: هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: [ «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» «6» الحديث، وبقوله تعالى: لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 353) برقم (26228) عن الضحاك، (26230) عن مجاهد، وذكره البغوي (3/ 358) عن الضحاك، وابن عطية (4/ 196) ، والسيوطي (5/ 109) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) ينظر: «مختصر الشواذ» ص (104) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 196) ، و «البحر المحيط» (6/ 434) ، و «الدر المصون» (5/ 236) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 354) برقم (26231) ، وذكره ابن عطية (4/ 196) ، والسيوطي (5/ 107) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه. [.....] (4) ذكره ابن عطية (4/ 196) . (5) ينظر البخاري (8/ 301) كتاب «التفسير» : باب سورة النور. (6) أخرجه البخاري (1/ 190) كتاب «العلم» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم «ربّ مبلغ أوعى من سامع» ، حديث (67) ، (1/ 240) كتاب: العلم، باب: «ليبلّغ العلم الشاهد الغائب» ، حديث (105) ، (4/ 670) كتاب «الحج» : باب الخطبة أيام منى، حديث (1741) ، (6/ 338) كتاب «بدء الخلق» : باب ما جاء في سبع أرضين، حديث (3197) ، (7/ 711) كتاب «المغازي» : باب حجة الوداع، حديث (4406) ، (10/ 10) كتاب «الأضاحي» : باب الأضحى يوم النحر، حديث (5550) ، (13/ 29) كتاب «الفتن» : باب-

الآية، وبقوله عليه السلام] «1» من حديث ابن عمر: «لاَ يَجْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِهِ ... » «2» الحديث. قلت: والحق أَنْ لا نسخَ في شيءٍ مِمَّا ذُكِرَ، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى. وقوله سبحانه: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً: قال النَّخَعِيُّ: أراد المساجد «3» ، والمعنى: سُلِّمُوا على مَنْ فيها، فإنْ لم يكن فيها أحد فالسلام أنْ يقول: السلامُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصالحين. وقال ابن عباس «4» وغيره: المراد البيوتُ المسكونة، أي: سلِّموا على مَنْ فيها، [قالوا: ويدخل في ذلك غيرُ المسكونة] «5» ، ويُسَلِّم المرءُ فيها على نفسه بأنْ يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قلت: وفي «سلاح المؤمن» ، وعن ابن عباس في قوله عز وجل: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً

_ - قول النبي- صلى الله عليه وسلّم- «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ... » ، حديث (7078) ، (13/ 433- 434) كتاب «التوحيد» : باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، حديث (7447) ، ومسلم (3/ 1305- 1307) كتاب «القسامة» : باب تغليظ تحريم الدماء، حديث (29، 30، 31/ 1679) ، وأبو داود (1/ 599) كتاب «المناسك» : باب الأشهر الحرم، حديث (1948) ، وابن ماجه مختصرا (1/ 85) المقدمة: باب من بلغ علما، حديث (233) ، وأحمد (5/ 37، 45، 49) ، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (833) ، والبيهقي (5/ 140) كتاب «الحج» : باب الخطبة يوم النحر، كلهم من طريق محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا. تنبيه: سقط من إسناد ابن الجارود «أبو بكرة» ولعله سهو من طابع أو ناسخ، فوقع محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعبد الرحمن ليس هو القائل وليست له صحبة. (1) سقط في ج. (2) أخرجه البخاري (5/ 88) كتاب «اللقطة» : باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه، حديث (2435) ، ومسلم (3/ 1352) كتاب «اللقطة» : باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها، حديث (13/ 1726) ، وأبو داود (2/ 46) كتاب «الجهاد» : باب فيمن قال: لا يحلب، حديث (2623) كلهم من طريق مالك، وهو في «الموطأ» (2/ 971) كتاب «الاستئذان» : باب ما جاء في أمر الغنم، حديث (17) عن نافع عن ابن عمر به. وأخرجه أحمد (2/ 6) من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر، وأخرجه أيضا (2/ 57) من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر بلفظ: نهى أن تحتلب المواشي بغير إذن أهلها. وأخرجه الحميدي في «مسنده» (2/ 300) رقم (683) من طريق إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 357) رقم (26247) ، وذكره ابن عطية (4/ 196) . (4) ذكره السيوطي (5/ 107) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس. (5) سقط في ج.

فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ قال: هو المسجدُ إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» «1» رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ» وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً، انتهى، وهذا هو الصحيح عن ابنِ عباس، وفَهِمَ النوويُّ أَنَّ الآية في البيوت المسكونة، قال: ففي الترمذيِّ عن أنس قال: قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «يَا بُنَيَّ، إذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ، فَسَلِّمْ، يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» «2» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي أبي داودَ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة كلّهم ضامن على الله عز وجل: [رجل خرج غازيا في سبيل الله عز وجل] «3» فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى المَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ فَهُو ضَامِنٌ عَلَى اللهِ تعالى» «4» ، حديث حسن رواه أَبو داودَ بإسناد حسن، ورواه آخرون، والضمان: الرعاية للشيء، والمعنى: أَنَّه في رعاية الله عز وجل، انتهى. وقوله تعالى: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً وصفها تعالى بالبركة لأَنَّ فيها الدعاءَ واستجلابَ مودَّةِ المسلم عليه. قلت: وقد ذكرنا في سورة النساءِ: ما ورد في المصافحة من رواية ابن السُّنِّيِّ قال النووي: وَرُوِّينَا في «سنن» أَبي داودَ والترمذيِّ وابن ماجه عَنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» «5» انتهى. والكاف من قوله: كَذلِكَ: كافُ تشبيهٍ وذلك: إشارة إلى هذه السنن. وقال أيضاً بعضُ الناس في هذه الآية: أَنَّها منسوخة بآية الاستئذان المتقدمة. قال ع «6» : والنسخ لا يُتَصَوَّرُ في شيءٍ من هذه الآيات، بل هي مُحْكَمَةٌ، أَمَّا

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 357) برقم (26246) ، وذكره البغوي (3/ 359) ، والسيوطي (5/ 108) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عباس. (2) أخرجه الترمذيّ (5/ 59) كتاب «الاستئذان» : باب ما جاء في التسليم إذا دخل بيته، حديث (2698) من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أنس. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب. (3) سقط في ج. (4) أخرجه أبو داود (2/ 10) كتاب «الجهاد» : باب فضل الغزو في «البحر» ، حديث (2494) ، والحاكم (2/ 73) ، وابن حبان (416- موارد) ، والبيهقي (9/ 166) كتاب «السير» : باب فضل من مات في سبيل الله، من حديث أبي أمامة وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه أيضا ابن حبان. (5) تقدم تخريجه. [.....] (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 197) .

[سورة النور (24) : الآيات 62 إلى 64]

قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] ففي التعدي والخدع ونحوه، وأمَّا هذه الآية ففي إباحة طعام هذه الأصناف التي يسرها- استباحَةُ طعامها على هذه الصفة، وأمَّا آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكَشَفَةِ، فإذا استأذن المرءُ ودخل المنزل بالوجه المباح صَحَّ له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة، وليس يكون في الآية نسخ فتأمله. [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) وقوله/ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: إنّما هنا: 42 أللحصر، والأمر الجامع يُرَادُ به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لمصلحة، فالأدب اللازم في ذلك ألّا يذهب أحد لعذر إلّا بإذنه، والإمام الذي يُتَرَقَّبُ إذنه هو إمام الإمارة، وروي: أنَّ هذه الآية نزلت في وقت حفر النبي صلى الله عليه وسلّم خندقَ المدينة، فكان المؤمنون يستأذنون، والمنافقون يذهبون دون إذن، ثم أمر تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بالاستغفار لصنفي المؤمنين: مَنْ أَذِنَ له، ومَنْ لم يُؤْذن [له] «1» . وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم. وقوله تعالى: لاَّ تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي: لا تخاطبوه كمخاطبة بعضكم لبعض، وأمرهم تعالى في هذه الآية وفي غيرها أنْ يدعوا رسول الله بأشرف أسمائه وذلك هو مُقْتَضَى التوقير، فالأدب في الدعاء أنْ يقول: يا رسولَ الله، ويكون ذلك بتوقير وبِرٍّ، وخفض صوت، قاله مجاهد «2» ، واللواذ: الرَّوْغَانُ، ثم أمرهم تعالى بالحذر من عذاب الله ونِقْمَتِهِ إذا خالفوا أمره ومعنى يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي: يقع خلافهم بعد أمره، ثم أخبر تعالى أَنَّهُ قد علم ما أهلُ الأرض والسماء عليه، وباقي الآية بيّن، والحمد لله.

_ (1) سقط في ج. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 360) برقم (26262، 26263) ، وذكره البغوي (3/ 359) ، وابن عطية (4/ 198) ، وابن كثير (3/ 306) ، والسيوطي (5/ 111) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

تفسير سورة الفرقان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وسلّم تفسير سورة الفرقان [وهي] «1» مكّيّة في قول الجمهور [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) قوله تعالى: تَبارَكَ هو مطاوع «بارك» من البَرَكَةِ، و «بارك» فاعَل من واحد، ومعناه: زاد، و «تبارك» : فعل مُخْتَصٌّ بالله تعالى، لم يُسْتَعْمَلْ في غيره، وهو صفة فعل، أي: كَثُرَت بركاته، ومن جملتها: إنزال كتابه الذي هو الفُرْقَانُ بين الحَقِّ والباطل. والضمير في قوله: لِيَكُونَ، قال ابن زيد «2» : هو لمحمد صلى الله عليه وسلّم وهو عبده المذكور، ويُحْتَمَلُ أن يكون للفرقان. وقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عامٌّ في كل مخلوق، ثم عَقَّبَ تعالى بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لها صفاتُ الألوهِيَّةِ. والنشور: بعث الناس من القبور. [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: قريشاً إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ: محمد، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل، ثم أكذبهم الله تعالى، وأخبر أنّهم

_ (1) سقط في ج. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 363) رقم (26269) ، وذكره ابن عطية (4/ 199) .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 إلى 14]

ما جاؤوا إلاَّ إثماً وزوراً، أي: ما قالوا إلاَّ باطلاً وبُهْتَاناً قال البخاريُّ «1» : تُمْلى عَلَيْهِ تقرأ عليه من أمليت وأمللت، انتهى. ثم أمر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنْ يقول: إنَّ الذي أنزله هو الذي يعلم سِرَّ جميع الأشياء التي في السموات والأرض، وعبارة الشيخ العارف بالله، سيدي عَبْدُ اللَّه بْنُ أَبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه) : ولما كان المرادُ مِنَّا بمُقْتَضَى الحكمة الرَّبَانِيَّةِ العبادَةُ ودوامُهَا ولذلك خُلِقْنَا كما ذكر مولانا سبحانه في الآية الكريمة، يعني: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الآية [الذاريات: 56] . وهو عزل وجل غَنِيٌّ عن عبادتنا وعن كل شيء لكن الحكمة اقتضته لأَمرٍ لا يعلمه إلاَّ هو كما قال الله عز وجل: الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: الذي يعلم الحكمةَ في خلقها وكذلك في خلقنا وخلق جميع المخلوقات، انتهى. [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 14] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) / وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ... الآية: المعنى عندهم: أنّ من كان 42 ب رسولاً فهو مُسْتَغْنٍ عن الأكل والمشي في الأسواق، ومُحَاجَّتُهُمْ بهذا مذكورة في السِّيَرِ، ثم أَخبر تعالى عن كفَّارِ قريش، وهم الظالمون المشار إليهم، أَنَّهم قالوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي: قد سُحِرَ، ثُمَّ نَبَّهَ تعالى نِبَيَّهُ مُسَلِّياً له عن مقالتهم فقال: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ... الآية، والقصور التي في هذه الآية تَأَوَّلَهَا الثعلبيُّ وغيره أَنَّها في الدنيا، والقصور هي البيوتُ المبنية بالجدرات، لأَنَّها قصرت عن الداخلين والمستأذنين، وباقي الآية بيّن، والضمير في رَأَتْهُمْ لجهنم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 18] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18)

_ (1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 348) كتاب «التفسير» : باب سورة الفرقان.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 19 إلى 20]

وقوله سبحانه: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ المعنى: قل يا محمدُ لهؤلاء الكفرة الصائرين إلى هذه الأحوال من النار: أذلك خير أم جَنَّةُ الخلد، وهذا استفهام على جِهَةِ التوقيف والتوبيخ لأَنَّ الموقِفَ جائز له أنْ يُوقِفَ مُحَاوِرَهُ على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطإِ. وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يعني الكفار، وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يريد كل شيء عُبِدَ من دون الله، وقرأ ابن «1» عامر: «فَنَقُولُ» بالنون، قال جمهور المفسرين: والموقف المجيب كل من ظلم بأن عُبِدَ مِمَّنْ يعقل كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم، وقال الضَّحَّاكُ وعِكْرِمَةُ: الموقف المجيب: الأصنام التي لا تَعْقِلُ يقدرها الله تعالى على هذه المقالة، ويجيء خزيَ الكفرة لذلك أبلغ «2» ، وقرأ الجمهور «3» : «نَتَّخِذَ» - بفتح النون-، وذهبوا بالمعنى إلى أَنَّه مِنْ قول مَنْ يَعْقِلُ، وأَنَّ هذه الآية بمعنى التي في سورة سبإ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ الآية [سبأ: 40] . وكقول عيسى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة: 117] . وقولهم: حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي: ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء- عليهم السلام-، وقرأ زيد بن ثابت «4» وجماعة: «نُتَّخَذَ» - بضم النون-. [سورة الفرقان (25) : الآيات 19 الى 20] فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

_ (1) قال أبو علي الفارسي: وقراءة ابن عامر: «ويوم نحشرهم فنقول» حسن لإجرائه المعطوف مجرى المعطوف عليه في لفظ الجمع، وقد قال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ [سبأ: 40] ، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا [الأنعام: 22] ، وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ [الكهف: 47] . ينظر: «الحجة للقراء السبعة» (5/ 338) ، و «السبعة» (463) ، و «إعراب القراءات» (2/ 117) ، و «معاني القراءات» (2/ 214) ، و «شرح الطيبة» (5/ 93) ، و «العنوان» (140) ، و «حجة القراءات» (509) ، و «شرح شعلة» (517) ، و «إتحاف» (2/ 306) . (2) ذكره البغوي (3/ 363- 364) ، وابن عطية (4/ 204) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 204) ، و «البحر المحيط» (6/ 446) ، و «الدر المصون» (5/ 247) . (4) وقرأ بها أبو جعفر، والحسن، وأبو الدرداء، وأبو رجاء، ونصر بن علقمة، ومكحول، وزيد بن علي، وحفص بن حميد، والسلمي. ينظر «الشواذ» ص (105) ، و «الكشاف» (3/ 270) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 204) ، و «البحر المحيط» (6/ 448) ، و «الدر المصون» (5/ 247) .

وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ... الآية: خطابٌ من الله تعالى للكفرة، أخبرهم أنَّ مَعْبُودَاتِهم كذبتهم، وفي هذا الإخبار خِزْيٌ وتَوْبِيخٌ لهم، وقرأ حفص عن عاصم: «فَمَا تَسْتَطِيعُونَ» - بالتاء من فوق- قال مجاهد «1» : الضمير في «يستطيعون» هو للمشركين، وصَرْفاً معناه رَدُّ التكذيب أو العذاب. وقوله تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ قيل: هو خطاب للكُفَّارِ، وقيل: للمؤمنين، والظلم هنا: الشِّرْكُ، قاله الحسن «2» وغيره، وقد يحتمل أنْ يعم غيرَه من المعاصي، وفي حرف أُبَيِّ: «وَمَنْ يَكْذِبْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً» . وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ... الآية: رَدٌّ على قريش في قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ثم أخبر عز وجل أَنَّ السبب في ذلك أَنَّه جعل بعض عَبيدَهُ فتنةً لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، والتوقيف ب أَتَصْبِرُونَ خَاصٌّ بالمُؤمنين المحققين، قال ابن العربي في «الأحكام» «3» : ولما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيه المناكر- كَرِهَ علماؤُنا دخولَها لأرباب الفضل والمُقْتَدَى يهم في الدِّينِ تنزيهاً لهم عن البقاع التي يُعْصَى الله تعالى فيها، انتهى. ثم أعرب قوله تعالى: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين، وعن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب- رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَحْده، لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ» «4» ، رواه الترمذيُّ وابن ماجه، وهذا لفظ الترمذي، وزاد في رواية أخرى: «وَبَنَى لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» ، ورواه الحاكم في «المستدرك» من عدة طرق، انتهى من «السلاح» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 375) برقم (26307، 26308) ، وذكره ابن عطية (4/ 204) ، والسيوطي (5/ 119) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 376) برقم (26312) عن الحسن، و (36311) عن ابن جريج. وذكره ابن عطية (4/ 204) ، والسيوطي (5/ 119) ، وعزاه لعبد الرزاق عن الحسن. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1414) . (4) تقدم تخريجه في سورة آل عمران. [.....]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 إلى 24]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا ... الآية: الرجاء هنا على بابه، وقيل: هو بمعنى الخوف، ولمَا تَمَنَّتْ كُفَّارُ قريش رؤيةَ رَبِّهِمْ أخبر تعالى عنهم أَنَّهُم عَظَّمُوا أَنفسهم، وسألوا ما ليسوا له بأهل. ص لَقَدِ جواب قَسَمٍ محذوف، انتهى. والضمير في قوله: وَيَقُولُونَ قال مجاهد «1» ، وغيرُه: هو للملائكة، والمعنى: يقول الملائكة للمجرمين: حِجْراً محجوراً عليكم البُشْرَى، أي: حراماً مُحَرَّماً، والحِجْرُ: الحرامُ، وقال [مجاهد أيضاً] «2» وابن جريج «3» : الضمير للكافرين المجرمين، قال ابن جريج: كانت العرب إذا كرهوا شيئاً، قالوا: حجرا، قال مجاهد: حجرا عوذاً يستعيذون من الملائكة «4» . قال ع «5» : ويحتمل أنْ يكونَ المعنى: ويقولون حرام مُحَرَّمٌ علينا العَفْوُ، وقد ذكر أبو عبيدة أنَّ هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها مَنْ خاف آخَرَ في الحَرَمِ، أو في شهرٍ حرامٍ إذا لقيه وبينهما تِرَةٌ قال الداودِيُّ: وعن مجاهد «6» : وَقَدِمْنا أي: عمدنا، انتهى. قال ع «7» : وَقَدِمْنا أي: قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة، ومعنى الآية: وقصدنا إلى أعمالهم التي لا تَزِنُ شَيْئاً فصيرناها هباءً، أي: شَيْئاً لا تحصيلَ له، والهباء: ما يتطايرُ في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكاد يرى إلا في الشمس، قاله ابن

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 379) برقم (26322) ، وذكره ابن عطية (4/ 206) عن الحسن، وقتادة، والضحاك ومجاهد، وابن كثير (3/ 314) ، والسيوطي (5/ 121) وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) سقط في ج. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 379) برقم (26323) ، وذكره البغوي (3/ 365) ، وابن عطية (4/ 206) ، والسيوطي (5/ 121) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 379) برقم (26321) ، وذكره البغوي (3/ 365) ، وابن عطية (4/ 206) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 206) . (6) أخرجه الطبريّ (9/ 380) رقم (26324) ، وذكره ابن كثير (3/ 134) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 206) .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 إلى 29]

عباس «1» وغيره، ومعنى هذه الآية: جعلنا أَعمالهم لا حُكْمَ لها ولا منزلة، ووصف تعالى الهباء في هذه الآية بمنثور، ووصفه في غيرها بمُنْبَثٍّ، فقالت فرقة: هما سواء، وقالت فرقة: المُنْبَثُّ: أرَقُّ وأَدَقُّ من المنثورِ لأَنَّ المنثورَ يقتضي أَنَّ غيره نَثَرَهُ، والمُنْبَثَّ كأنه انبثَّ من دِقَّتِهِ. وقوله تعالى: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ذهب ابن عباس والنَّخَعِيُّ وابن جريج: إلى أَن حساب الخلق يَكْمُلُ في وقت ارتفاع النهار، وَيَقِيلُ أهلُ الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فالمقيل: القائلة «2» . قال ع: ويُحْتَمَلُ أَنَّ اللفظة إنَّما تضمنت تفضيلَ الجَنَّةِ جُمْلَةً، وحُسْنَ هوائها فالعرب تفضِّل البلادَ بحُسنِ المقيل لأَنَّ وقت القائلة يُبْدِي فسادَ هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسناً حاز الفضل، وعلى ذلك شواهد. [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ يريد: يومَ القيامة. ص: بِالْغَمامِ الباء: للحال، أي: متغيمة، أو للسبب، أو بمعنى «عن» ، انتهى. وفي قوله تعالى: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً: دليل على أَنَّهُ سهل على المؤمنين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «إنَّ اللهَ لَيُهَوِّنُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى المُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ أَخَفَّ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلاَّهَا فِي الدُّنْيَا» . وعضُّ اليدين هو فعل النادم قال ابن عباس وجماعةٌ من المفسرين: الظالم في هذه الآية عُقْبَةُ بْنُ أبي معِيطٍ وذلك أَنَّهُ كان أسلم أو جَنَحَ إلى الإسلام، وكان أُبَيُّ بنُ خلف الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلّم بيده يوم أحد خليلا

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 381) برقم (26331) ، وذكره البغوي (3/ 366) ، وابن عطية (4/ 207) ، والسيوطي (5/ 122) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 382) برقم (36336) عن إبراهيم النخعي، (36337) وابن جريج، (36335) وابن عباس، وذكره ابن عطية (4/ 207) ، وابن كثير (3/ 315) عن ابن عباس، والسيوطي (5/ 123) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعزاه لابن المبارك، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وأبي نعيم في «الحلية» عن إبراهيم النخعي.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 إلى 34]

لعُقْبَةَ، فنهاه عن الإسلام، فَقَبِلَ نَهْيَهُ فنزلت الآية فيهما «1» ، فالظالم: عقبة، وفُلاناً أُبيُّ. قال السُّهَيْلِيُّ: وَكَنَّى سبحانه عن هذا الظالم ولم يُصَرَّحْ باسمه ليكون هذا الوعيدُ غيرَ مخصوصٍ به ولا مقصور عليه بل يتناول جميعَ مَنْ فعل مثل فعله، انتهى. 43 ب/ وقال مجاهد «2» وغيره: الظَّالِمُ عام، اسم جنس، وهذا هو الظاهر، وأَنَّ مقصد الآية تعظيمُ يوم القيامة وذِكْرُ هوله بأَنَّهُ يوم تندم فيه الظَّلَمَةُ، وتتمنَّى أَنَّها لم تُطِعْ في دنياها إخِلاَّءَهَا، والسبيل المُتَمَنَّاةُ: هي طريق الآخرة، وفي هذه الآية لكل ذي نُهْيَةٍ تنبيهٌ على تجنب قرين السوء، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة، والذِّكْرِ: ما ذَكر الإنسانَ أمر آخرته من قرآن، أو موعظة ونحوه. وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يحتمل: أَنْ يكونَ من قول الظالم، ويحتمل: أن يكون ابتداء إخبار من الله عز وجل على وجه التحذير من الشيطان الذي بَلَّغهم ذلك المبلغ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وقوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الدنيا وتشكِيْهِ ما يَلْقَى من قومه هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة: هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة، ومَهْجُوراً يحتمل: أَنْ يريدَ مُبْعَداً مقصيّاً من الهَجْر بفتح الهاء، وهذا قول ابن زيد «3» ، ويُحْتَمَلُ: أَنْ يريدَ مقولاً فيه الهُجْرُ- بضم الهاء إشارة إلى قولهم: شعر وكهانة ونحوه قاله مجاهد «4» . قال ع «5» : وقول ابن زيد مُنَبِّهٌ للمؤمن على مُلازمة المُصْحَفِ، وأَلاَّ يكون الغبارُ

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 384) برقم (26347) ، وذكره ابن عطية (4/ 208) والسيوطي (5/ 125) وعزاه لأبي نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. (2) ذكره ابن عطية (4/ 208) ، والسيوطي (5/ 127) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد بلفظ: «الشيطان» . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 386) برقم (26357) ، وذكره ابن عطية (4/ 209) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 386) برقم (26355) ، وذكره ابن عطية (4/ 209) ، والسيوطي (5/ 127) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 209) . [.....]

يعلوه في البيوت، ويشتغلَ بغيره، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ عَلَّقَ مُصْحَفاً، ولَمْ يَتَعَاهَدْهُ- جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَقُولُ: يَا ربِّ، هَذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» وفي حلية النووي قال: وروينا في «سنن أبي داود» و «مسند الدَّارِمِيِّ» عن سعد بن عُبَادَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: لمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ، لَقِيَ الله تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمَ» «1» ، وروينا في كتاب أبي دَاودَ والترمذيِّ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى القَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ، وعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْباً أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَو آيَةٍ أُوتِيها رَجُلٌ ثم نَسِيَهَا» «2» تكلم الترمذي فيه، انتهى، ثم سَلاَّه تعالى عن فعل قومه بقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي: فاصبر كما صبروا قاله ابن عباس «3» ، ثم وعد تعالى بقوله: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً والباء في بِرَبِّكَ: للتأكيد دَالَّةٌ على الأمر إذ المعنى: اكتفِ بربك. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا «4» لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً قال ابن عباس «5» وغيره: قالوا في بعض معارضاتهم: لو كان من عند الله لنزل جُمْلَةً كالتوراة والإنجيل. وقوله: كَذلِكَ يحتمل أَنْ يكونَ من قول الكُفَّارِ إشارةً إلى التوراة والإنجيل، ويحتمل أَنْ يكون من الكلام المستأنف وهو أولى، ومعناه: كما نُزِّل أردناه، فالإشارة إلى نزوله مُتَفَرِّقاً، والترتيل: التفريق بين الشيء المتتابع، ومنه تَرْتِيلُ القرآن، وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقا: تثبيت قلب نبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم وأن ينزله في النوازل والحوادث التي

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 465) كتاب الصلاة: باب التشديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه، حديث (1474) ، والدارمي (2/ 437) كتاب «فضائل القرآن» : باب من تعلم القرآن ثم نسيه، وأحمد (5/ 323) من حديث سعد بن عبادة. (2) أخرجه أبو داود (1/ 179) كتاب «الصلاة» : باب في كنس المساجد، حديث (461) ، والترمذيّ (5/ 178- 179) كتاب «فضائل القرآن» : باب (19) حديث (2916) ، وكلاهما من طريق المطلب بن حنطب عن أنس بن مالك مرفوعا. وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه، واستغربه. قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلّم. قال: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن (هو الدارمي) يقول: لا نعرف للمطلب سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قال عبد الله: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 386) برقم (26358) بنحوه، والسيوطي (5/ 127) . (4) في ج «وقالوا الذين كفروا» . (5) ذكره ابن عطية (4/ 209) ، والسيوطي (5/ 127) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في «المختارة» عن ابن عباس.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 44]

قد قَدَّرَهَا وَقَدَّرَ نزوله فيها، وأَنَّ هؤلاءِ الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم إلاَّ جاء القرآن بالحَقِّ في ذلك والجلية، ثم هو أحسن تفسيراً، وأفصح بياناً، وباقي الآية بَيِّنٌ تقدم تفسير نظيره، والجمهور: أَنَّ هذا المشي على الوجوه حقيقة، وقد جاء 44 أكذلك في الحديث، وقد تقدَّمَ، ولفظ البخاريِّ عن أنس [رضي الله عنه] : / أَنَّ رَجُلاَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ الله، أَيُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قال: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ في الدُّنْيَا قَادِراً عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» «1» قال قتادة: بلى وعزّة ربّنا، انتهى. [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... الآيات تنبيه لكفار قريشٍ، وَتَوَعَّدٌ أَنْ يَحِلَّ بِهِم ما حَلَّ بهؤلاء المُعَذَّبين قال قتادة «2» : أصحاب الرَّسِّ، وأَصحابُ الأيْكَةِ: قومانِ أُرْسِلَ إليهِما شُعَيْبٌ، وقاله وهب «3» بن منبه، وقيل غير هذا. وقوله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً إبهام لاَ يَعْلَمُ حقيقتَه إلاَّ الله عز وجل، والتَّبَارُ: الهلاك، والقرية التي أُمْطِرَت مَطَرَ السوء هي: «سدُوم» مدينة قوم لوط، وما لم نذكر تفسيره قد تقدم بيانه للفاهم المتيقظ، ثم ذكر سبحانه أَنَّهُم إذا رأوا محمداً عليه السلام قالوا على جهة الاستهزاء: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا. قال ص: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ [إنْ] «4» نافية، جوابُ «إذا» ، انتهى، ثم آنس الله تعالى نبيّه بقوله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ... الآية، المعنى: لا تتأسف عليهم،

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ذكره ابن عطية (4/ 210) ، والسيوطي (5/ 129) ، وعزاه لابن عساكر. (3) ذكره ابن عطية (4/ 211) . (4) سقط في ج.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 إلى 52]

ومعنى اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي: جعل هواه مطاعا فصار كالإله. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي: بل هم كالأنعام. قلت: وعبارة الواحدي: إِنْ هُمْ أي: ما هم إلاَّ كالأنعام، انتهى. [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ... الآية: مَدُّ الظل بإطلاقٍ: هو ما بين أول الإسفار إلى بُزُوغ الشمس، ومن بعد مغيبها أيضاً وقتاً يسيراً فإنَّ في هذين الوقتين على الأَرض كُلِّها ظِلاًّ ممدوداً. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي: ثابتاً غيرَ متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشمس ونسخها إيَّاه، وطردها له من موضع إلى موضع دليلاً عليه مُبَيِّناً لوجوده ولوجه العبرة فيه، وحكى الطبريّ «1» أَنَّه: لولا الشمسُ لم يُعْلَمْ أَنَّ الظل شيء، إذِ الأشياء إنَّما تُعْرَفُ بأضدادها. وقوله تعالى: قَبْضاً يَسِيراً يحتمل أَنْ يريد، لطيفاً، أي: شيئاً بعدَ شيءٍ، لا في مرة واحدة. قال الداوديّ: قال الضَّحَّاكُ: قَبْضاً يَسِيراً يعني: الظِّلَّ إذا علته الشمسُ «2» ، انتهى. قال الطبريُّ «3» : ووصف الليل باللباس من حيث يستُر الأَشياء ويغشاها، والسبات: ضرب من الإِغماء يعترى اليقظانَ مرضاً، فشُبِّهَ النوم به، والنشور هنا: الإحياء، شبَّهَ اليقظةَ به، ويحتمل أَنْ يريد بالنشور وقتَ انتشار وتفرق، وأَناسِيَّ: قيل [هو] «4» جمع إنسان،

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (9/ 395) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 394) رقم (26398) . (3) ينظر «الطبريّ» (9/ 396) . (4) سقط في ج.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 إلى 57]

والياء المُشَدَّدَةُ بدل من النون في الواحد، قاله سيبويه، وقال المُبَرِّدُ: هو جمع إنسي، والضمير في صَرَّفْناهُ عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر، ويَعْضُدُ ذلك قوله: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً. [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 57] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ مَرَجَ معناه: خَلَطَ. قال ع «1» : والذي أقول به في معنى هذه الآية: أَنَّ المقصود بها التنبيهُ على قدرة الله تعالى في أنَّ بَثَّ في الأرض مياهاً عذبة كثيرة، جعلها خلال الأُجَاجِ، وجعل الأُجَاجَ خلالها، كما هو مَرْئِيٌّ تجدُ البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضَفَّتِهِ، وتجد الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأُجاج، وكُلٌّ باقٍ على حاله ومطعمه فالبحران: يراد بهما جميعُ الماء العذب، وجميع الماء الأجاجُ، والبرزخ والحجر هو ما بين البحرين من الأرض واليبس قاله «2» الحسن، والفرات: الصافي اللذيذُ المطعم، والأُجَاجُ أبلغ ما يكون من الملوحة. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ/ بَشَراً ... الآية تعديدُ نعم على الناس، 44 ب والنسب: هو أنْ يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ، والصِّهْرُ هوَ تَوَاشُجِ المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار يقع عاماً لذلك كله. وقوله تعالى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي: مُعِيناً يعينون على رَبِّهم غيرهم من الكفرة بطاعتهم للشيطان، وهذا تأويل مجاهد «3» وغيره، والكافر هنا اسم جنس، وقال

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 214) . [.....] (2) أخرجه الطبريّ (9/ 400) برقم (26430) ، وذكره ابن عطية (4/ 214) ، والسيوطي (5/ 136) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن الحسن. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 401) برقم (26435) ، وذكره ابن عطية (4/ 215) ، والسيوطي (5/ 137) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 58 إلى 59]

ابن عباس «1» : هو أبو جهل. قال ع «2» : فيُشْبِهُ أَنَّ أبا جهل هو سبب الآية، ولكنَّ اللفظ عام للجنس كله. قلت: والمعنى: على دِينِ رَبِّه ظهيراً. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا الظاهر فيه: أنَّه استثناءٌ مُنْقَطِعٌ، والمعنى: لكن مسؤولي ومطلوبي مَنْ شاء أَنْ يهتدي ويؤمن، ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 58 الى 59] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وقوله سبحانه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ. قال القشيريُّ في «التحبير» : وإذا عَلِمَ العبدُ أَنَّ مولاه حَيٌّ لا يموت، صَحَّ تَوَكُّلُهُ عليه قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ قيل: إنَّ رجلاً كتب إلى آخر أَنَّ صديقي فلاناً قد مات، فَمِنْ كَثَرَةِ ما بكيت عليه ذَهَبَ بَصَرِي، فكتب إليه: الذَّنْبُ لك حين أحببتَ الحيَّ الذي يموت، فهلا أحببت الحيَّ الذي لا يموت حتى لا تحتاج إلى البكاء عليه، انتهى. وعن أبي هُرَيْرة قال: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم: «ما كَرَبَنِي أَمْرٌ إلاَّ تَمَثَّلَ لِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» رواه «3» الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإِسناد، انتهى من «السلاح» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 402) برقم (26440) ، وابن عطية (4/ 215) ، والسيوطي (5/ 137) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 215) . (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 509) من حديث أبي هريرة مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وذكره الهندي في «كنز العمال» (2/ 119- 120) رقم (3424) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في «الفرج» ، والبيهقي في «الأسماء» عن إسماعيل بن أبي فديك مرسلا. وعزاه لابن صصرى في «أماليه» عن أبي هريرة.

وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي: قل: سبحان الله وبحمده أي: تنزيهه واجب وبحمده أقول، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مائَةَ مَرَّةٍ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» «1» فهذا معنى قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان الثقيلتين في الميزان، الحديث في البخاري وغيره «2» . ت: وعن جُوَيْرِيَّةَ- رضي الله عنها- أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نعم، قَال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتُ مُنْذُ الْيَوْمَ لَوَزَنْتُهِنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» «3» رواه الجماعة إلاَّ البخاريَّ، زاد النسائي في آخره: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَذَلِكَ» وفي رواية له: «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَاللَّهُ إكْبَرُ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» انتهى من «السلاح» . وقوله سبحانه: وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً: وعيدٌ بَيِّنٌ. وقوله تعالى: «الرحمن» : يحتمل أنْ يكون: رفعه بإضمار مبتدإٍ، أي: هو الرحمن، ويحتمل أنْ يكونَ: بَدَلاً من الضمير في قوله: اسْتَوى. وقوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [فيه تأويلان: أحدهما: فاسأل عنه خبيراً] «4» والمعنى: اسأل جبريلَ والعلماء وأهل الكتاب، والثاني: أنْ يكون المعنى كما تقول: لو لقيت فلانا لقيت به البحرَ كرماً، أي: لقيتَ منه، والمعنى: فاسأل اللهَ عن كل أمر، وقال عِيَاضٌ في 45 أ «الشِّفَا» قال القاضي أبو بكر بن العلاء: المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلّم والمسئول/ الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلّم انتهى.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه مسلم (4/ 2090) كتاب الذكر والدعاء: باب التسبيح أول النهار وعند النوم، حديث (79/ 2726) ، والترمذيّ (5/ 556) كتاب الدعوات: باب (104) حديث (3555) ، والنسائي (3/ 77) كتاب السهو: باب نوع آخر من عدد التسبيح، وابن ماجه (2/ 1251- 1252) كتاب الأدب: باب فضل التسبيح، حديث (3808) ، وأحمد (6/ 324) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (647) ، وابن خزيمة (753) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 82- بتحقيقنا) . وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. (4) سقط في ج.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 60 إلى 61]

قال أبو حيان «1» : والظاهر تعلق به فَسْئَلْ وبقاء الباء على بابها، وخَبِيراً من صفاته تعالى، نحو: لَقِيتُ بِزَيْدٍ أَسَداً، أي: أَنَّهُ الأَسَدُ شجاعةً، والمعنى: فاسألِ اللهَ الخبير بالأشياء، انتهى. [سورة الفرقان (25) : الآيات 60 الى 61] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ يعني أَنَّ كفار قريش قالوا: ما نعرف الرحمن إلاَّ رحمن اليمامة، وهو مُسَيْلَمَةَ الكَذَّابَ، وكان مُسَيْلَمَةُ تَسَمَّى بالرحمن. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ هذا اللفظُ نُفُوراً والبروج هي التي عَلِمْتَها العرب، وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات، وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] . [سورة الفرقان (25) : الآيات 62 الى 63] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي: هذا يَخْلُفُ هذا، وهذا يخلف هذا، قال مجاهد وغيره: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي: يعتبر بالمصنوعات ويشكرَ الله تعالى على آلائه «2» ، وقال عمر وابن عباس والحسن: معناه: لمن أراد أَنْ يَذْكُرَ ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه «3» ، وقرأ حمزة «4» وحده: «يذْكُرُ» بسكون الذال وضم الكاف، ثم لما قال تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً جاء بصفات عباده الذين هم أهل التذكرة والشكور. وقوله: الَّذِينَ يَمْشُونَ. [خبر مبتدإ، والمعنى: وعباده حَقُّ عباده هم الذين يمشون.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 465) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 407) برقم (26458، 26459) ، وذكره البغوي (3/ 375) ، وابن عطية (4/ 217) ، والسيوطي (5/ 139) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) ذكره ابن عطية (3/ 218) ، وابن كثير (3/ 324) عن ابن عباس، والسيوطي (5/ 139) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن الحسن. (4) ينظر: «السبعة» (466) ، و «الحجة» (5/ 348) ، و «العنوان» (141) ، و «إتحاف» (2/ 310) ، و «حجة القراءات» (513) .

وقوله: يَمْشُونَ «1» عَلَى الْأَرْضِ عبارة عن عيشهم ومدّة حياتهم وتصرّفاتهم، وهَوْناً بمعنى أَنَّ أمرهم كله هَيِّنُ، أي: ليِّنٌ حسن قال مجاهد «2» : بالحلم والوقار. وقال ابن عباس «3» : بالطاعة والعَفَاف والتواضع، وقال الحسن «4» : حُلَمَاءُ، إنْ جُهلَ عليهم لم يجهلوا. قال الثعلبيُّ: قال الحسن «5» : يمشون حلماء علماء مثلَ الأنبياء، لا يؤذون الذَّرَّ في سكونٍ وتواضع وخشوع، وهو ضدُّ المُخْتَالُ الفخور الذي يختال في مشيه، اه. قال عياض في صفة نَبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلّم: يخطو تكفُّؤاً «6» ، ويمشي هوناً، كأنَّما ينحطُّ من صبب، انتهى من «الشفا» . قال أبو حيان «7» : هَوْناً: نعت لمصدر محذوف، أي: مشياً هوناً، أو حال، أي: هَيِّنِينَ، انتهى، وروى الترمذيُّ عن ابن مسعود أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ على كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ، سَهْلٍ» «8» ، قال أَبو عيسى: هذا

_ (1) سقط في ج. [.....] (2) أخرجه الطبريّ (9/ 407) برقم (26461) ، وذكره ابن عطية (4/ 218) ، والسيوطي (5/ 140) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 408) برقم (26469) ، وذكره ابن عطية (4/ 218) والسيوطي (5/ 140) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (4) أخرجه الطبريّ (9/ 408) برقم (26474) ، وذكره البغوي (3/ 375) ، وابن عطية (4/ 218) ، والسيوطي (5/ 141) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الحسن. (5) أخرجه الطبريّ (9/ 408) برقم (26476) ، وذكره البغوي (3/ 375) ، وابن عطية (4/ 218) . (6) أي تمايل إلى قدام. ينظر: «النهاية» (4/ 183) . (7) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 469) . (8) أخرجه الترمذيّ (4/ 654) كتاب صفة القيامة: باب (45) حديث (2488) ، وأحمد (1/ 415) ، وأبو يعلى (8/ 467- 468) رقم (5053) ، وابن حبان (1096، 1097- موارد) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (11) ، والطبراني في «الكبير» (10/ 285) رقم (10562) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 535- 536) رقم (11251، 11252) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 480- بتحقيقنا) كلهم من طريق هشام بن عروة عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن عمرو الأودي عن ابن مسعود مرفوعا. وقال الترمذيّ: حديث حسن غريب. وصححه ابن حبان. وللحديث طريق آخر: فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 108) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه مصعب بن عبد الله-

[سورة الفرقان (25) : الآيات 64 إلى 66]

حديث حسن، انتهى. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً العامل في سَلاماً قالُوا، والمعنى: قالوا هذا اللفظ، وقال مجاهد «1» : معنى سَلاماً: قولاً سداداً، أي: يقول للجاهل كلاماً يدفعه به برفقٍ ولينٍ، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فَنُسِخَ منها ما يَخُصُّ الكَفَرَةَ، وَبَقِيَ أَدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، قال صاحب «الحكم الفارقية» : إذا نازعك إنسان فلا تجبه فإنّ الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها، فإنْ أمسكت عنها بترتها وقطعت نسلها، وإنْ أجبتها ألقحتها، فكم من نسل مذمومٍ يتولد بينهما في ساعة واحدة، انتهى. [سورة الفرقان (25) : الآيات 64 الى 66] وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً هذه آية فيها تحريض على قيام الليل بالصلاة، قال الحسن: لما [فرغ من] «2» وصف نهارهم، وَصَفَ في هذه ليلهم «3» ، وغَراماً: معناه: ملازما ثقيلا، ومُقاماً: من الإقامة، وعن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الجنة ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، قَالتِ/ الجنّة: اللهمّ، أدخله الجنّة، 45 ب وَمَن استجار مِنَ النَّارِ ثَلاَث مَرَّاتٍ، قَالتِ النَّارُ: اللَّهُمْ أَجْرِهُ مِنَ النَّار» «4» ، رواه أبو داود،

_ - الزبيري عن أبيه عن هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم ... فذكر الحديث قالا: هذا خطأ، رواه الليث بن سعد وعبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن عمرو الأودي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلّم ... وهذا هو الصحيح. (1) أخرجه الطبريّ (9/ 409) ، وذكره ابن عطية (4/ 218) ، والسيوطي (5/ 140) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد. (2) سقط في ج. (3) ذكره ابن عطية (4/ 219) ، والسيوطي (5/ 141) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الحسن. (4) أخرجه الترمذيّ (4/ 699- 700) كتاب صفة الجنة: باب ما جاء في صفة أنهار الجنة، حديث (2572) ، وابن ماجه (2/ 1453) كتاب الزهد: باب صفة الجنة، حديث (4340) ، والنسائي (8/ 279) كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من حر النار، وأحمد (3/ 117، 141، 155، 262) ، وأبو يعلى (6/ 356) رقم (3682) ، وابن حبان (2433- موارد) ، وابن أبي شيبة (10/ 421) رقم (9857) ، والحاكم (1/ 534- 535) ، وهناد بن السري في «الزهد» (1/ 133) رقم (173) كلهم من حديث أنس. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه أيضا ابن حبان.

[سورة الفرقان (25) : آية 67]

والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في «صحيحه» بلفظ واحد، ورواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح» . [سورة الفرقان (25) : آية 67] وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ... الآية: عبارة أكثر المفسرين أَنَّ الذي لا يُسْرِفُ هو المُنْفِقُ في الطاعة وإنْ أفرط، والمُسْرِفَ هو المُنْفِقُ في المعصية وإنْ قَلَّ إنفاقهُ، وإنَّ الْمُقتِرَ هو الذي يمنع حَقّاً عليه وهذا قول ابن عباس «1» وغيره، والوجه أَنْ يقال: إنَّ النفقة في المعصية أمر قد حَظَرَتِ الشريعةُ قليلَه وكثيره، وهؤلاءِ الموصوفون مُنَزَّهُونَ عن ذلك، وإنَّما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات والمُبَاحَاتِ، فأدب الشريعة فيها إلاَّ يفرط الإنسانِ حتى يُضَيِّعَ حَقّاً آخر أو عيالا ونحو هذا، وألّا يضيّق أيضا ويقتر حتى يجمع العيالَ ويفرط في الشُّحِّ، والحَسَنُ في ذلك هو القوام، أي: المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخير الأمور أوساطها ولهذا ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أبا بكْرٍ الصِّدِّيقَ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ لأَنَّ ذلك وَسَطٌ بنسبة جَلَدِهِ وَصَبْرِهِ في الدِّينِ، ومنع غيره من ذلك. وقال عبد الملك بن مروان لعمرَ بن عبد العزيز حين زَوَّجَه ابنته فاطمة: مَا نَفَقَتُكَ؟ فقال له عمر: الحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، ثم تلا الآية «2» ، وقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: كفى بالمرء سَرَفاً أَلاَّ يشتهيَ شيئاً إلاَّ اشتراه فأكله «3» . وقَواماً: خبر كانَ واسمها مقدّر، أي: الإنفاق. [سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 72] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية: في نحو هذه الآية قَال اْبنُ مسعود:

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 411) نحوه، وذكره البغوي (3/ 376) نحوه، وابن عطية (4/ 220) والسيوطي (5/ 142) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ذكره ابن عطية (4/ 220) . [.....] (3) ذكره البغوي (3/ 376) ، وابن عطية (4/ 220) ، والسيوطي (5/ 143) ، وعزاه لعبد الرزاق عن الحسن.

قَلْتُ يَوْماً: يا رَسُولَ اللهِ، أيُّ الذَّنْبِ أَعْظمُ؟ قال: «أنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قْلتُ: ثُمَّ أَي قال: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ، خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ثُمَّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه «1» الآية والأثام في كلام العرب: العِقَابُ، وبه فَسَّرَ ابن زيد وقتادة هذه الآية. قال ع «2» : يُضاعَفْ: بالجزم بدل من يَلْقَ قال سيبويه: مضاعفة العذاب هو لقي الأثام. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ: لا خلاف بين العلماء أَن الاستثناء عام في الكافر والزاني، واختلفوا في القاتل، وقد تقدم بيان ذلك في «سورة النساء» . وقوله سبحانه: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي: بأنْ يجعلَ أعمالهم بَدَل معاصيهم الأُولَى طاعةً قاله ابن عباس «3» وغيره، ويحتمل أنْ يكونَ ذلك في يوم القيامة، يجعل بدل السيئات الحسنات تَكَرُّماً منه سبحانه وتعالى كما جاء في «صحيح مسلم» «4» ، وهو تأويل ابن المُسَيِّبِ. ص: والأَوْلَى: ويحتمل أنْ يكون الاستثناءُ هنا مُنْقَطِعاً، أي: لكن من تاب

_ (1) حديث: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» . أخرجه البخاري (8/ 13) كتاب التفسير: باب قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً حديث (4477) ، وفي (8/ 350- 351) . كتاب التفسير: باب والذين تدعون مع الله إلها آخر، حديث (4761) ، وفي (10/ 448) كتاب الأدب: باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، حديث (6001) ، وفي (12/ 116) كتاب الحدود: باب إثم الزناة، حديث (6811) ، وفي (12/ 194) ، كتاب الديات: باب قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، حديث (6861) ، وفي (13/ 499- 500) كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، حديث (7520) ، وفي (13/ 512) ، حديث (7532) . ومسلم (1/ 90- 91) كتاب الإيمان: باب كون الشرك أقبح الذنوب، حديث (141/ 86) ، وأبو داود (1/ 705) ، كتاب الطلاق: باب في تعظيم الزنا، حديث (2310) ، والترمذيّ (5/ 336) كتاب التفسير: باب «ومن سورة الفرقان» ، حديث (3182) والنسائي (7/ 89) كتاب تحريم الدم: باب ذكر أعظم الذنب، حديث (4013) . وأحمد (1/ 380، 431، 433، 462، 464) ، والطيالسي (3، 4- منحة) وأبو عوانة (1/ 56) ، وأبو نعيم (4/ 145) ، والبيهقي (8/ 18) كتاب الجنايات: باب قتل الولدان، من حديث ابن مسعود. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 221) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 418) ، برقم (26527) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 377) وابن عطية (4/ 221) ، والسيوطي (5/ 146) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (4) تقدم تخريجه.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 73 إلى 76]

وآمن، وعمل عملاً صالحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سيئاتهم حسنات، انتهى. ثم أَكَّدَ سبحانه أمر التوبة، ومدح المتاب فقال: «وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً» كأنه قال: فإنه يجد باباً للفرج والمغفرة عظيماً، ثم استمرت الآيات في صفة عباد الله المؤمنين بأن 46 أنفى/ عنهم شهادة الزور، ويَشْهَدُونَ في هذا الموضع ظاهر، معناها: يُشَاهِدُون وَيَحْضُرُون، والزور: كل باطل زُوِّرَ، وأعظمه الشرك، وبه فسر الضَّحَّاكُ «1» ، ومنه الغِنَاءُ، وبه فَسَّرَ مجاهد «2» ، وقال عليٌّ وغيره: معناه لا يشهدون بالزور، فهي من الشهادة لا من المشاهدة، والمعنى الأوَّلُ أعَمُّ. واللغو: كل سَقَطٍ من فعل أو قول، وقال الثعلبيُّ: اللغو كل ما ينبغي أن يطرح ويلغى، انتهى. وكِراماً معناه: معرضين مستحيين، يتجافون عن ذلك، ويصبرون على الأذى فيه. قال ع «3» : وإذا مَرَّ المسلم بمنكر فَكَرَمُهُ أنْ يُغَيِّرَهُ، وحدود التغير معروفة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 73 الى 76] وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ يريدُ: ذكِّرُوا بالقرآن أمر آخرتهم ومعادهم. وقوله: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً يحتمل تأويلين: أحدهما: أنْ يكون المعنى: لم يكن خُرُورُهم بهذه الصفة بل يكونوا سُجَّداً وُبكِيّاً، وهذا كما تقول: لم يخرج زيد إلى الحرب جزعاً، أي: إنما خرج جريئاً مِقْدَاماً، وكأنَّ الذي يَخِرُّ أَصَمَّ أعمى هو المنافق أو الشَّاكُّ، والتأويل الثاني: ذهب إليه الطبريُّ «4» وهو أنَّ: يخروا صماً وعمياناً، هي صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم. وقال الفَرَّاءُ: لَمْ يَخِرُّوا، أي: لم يقيموا، وهو نحو تأويل الطبريّ، انتهى. وقال

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 420) برقم (26536) ، وذكره البغوي (3/ 378) ، وابن عطية (4/ 222) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 420) برقم (26538) ، وذكره ابن عطية (4/ 222) والسيوطي (5/ 148) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 222) . (4) ينظر: «الطبريّ» (9/ 423) .

ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» : قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً. قال علماؤنا: يعني الذين إذا قرأوا القرآن قرأوه بقلوبهم قراءة فهم وتثبيت، ولم ينثروه نثر الدَّقَلِ، فإنَّ المرور عليه بغير فهم ولا تثبيت صَمَمٌ وعَمًى، انتهى. وقُرَّةُ العين: من القر وهذا هو الأشهر لأَنَّ دمعَ السرور بارد، ودَمْعَ الحُزْنِ سُخْنٌ فلهذا يقال: أَقَرَّ الله عينك، وأسخن الله عين العَدُوِّ، وقرة العين في الأزواج والذُّرِّيَّةِ أَنْ يراهم الإنسان مطيعين للَّه تعالى قاله ابن عباس والحسن وغيرهما «2» ، وبَيَّن المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنَّه كان في أوَّلِ الإسلام يهتدي الأب، والابن كافر، أو الزوج والزوجة كافرة، فكانت قرة أعينهم في إيمان أحبابهم. وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي: اجعلنا يَأْتَمُّ بنا المتقون، وذلك بأن يكون الداعي متقيا قدوة، وهذا هو قصد الداعي، قال النخعي: لم يطلبوا الرياسة، بل أنْ يكونوا قدوة في الدين، وهذا حَسَنٌ أَنْ يُطْلَبَ وَيُسْعَى «3» له. قال الثعلبي: قال ابن عباس: المعنى: واجعلنا أئمة هدى «4» ، انتهى، وهو حسن، لأَنَّهُم طلبوا أن يجعلهم أهلاٌ لذلك. والغرفة من منازل الجنة وهي الغرف فوق «5» الغرف، وهي اسم جنس كما قال: [من الهزج] وَلَوْلاً الحبّة السمراء ... لم نحلل بواديكم ت: وأخرج أبو القاسم، زاهر بن طاهر بن محمد بن الشحامي عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ لَغُرَفاً لَيْسَ لَهَا مَعَالِيقُ مِنْ فَوْقِهَا وَلاَ عِمَادٌ مِنْ تَحْتِهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ يَدْخُلُهَا أَهْلُهَا؟ قال: يَدْخُلُونَهَا أَشْبَاهَ الطَّيْرِ، قيل: هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ؟ قال: هِيَ لأَهْلِ/ الأَسْقَامِ وَالأَوْجَاعِ والبلوى «6» » . انتهى من 46 ب «التذكرة» . وقرأ حمزة «7» وغيره: «يَلْقَوْنَ» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف.

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1433) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 222) . (3) ذكره ابن عطية (4/ 222) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 425) برقم (26562) ، وذكره السيوطي (5/ 149) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس. (5) في ج: الغرفة فوق فوق الغرف. [.....] (6) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 150) ، وعزاه إلى زاهر بن طاهر الشحامي عن أنس. (7) وقرأ بها الكسائيّ وأبو بكر.

[سورة الفرقان (25) : آية 77]

[سورة الفرقان (25) : آية 77] قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) وقوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ الآية، ما نافية وتحتمل التقرير، ثم الآية تحتمل أنْ تكون خطاباً لجميع الناس، فكأنه قال لقريش منهم: ما يبالي الله بكم، ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إيَّاه، أَنْ لو كانت، إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] . وقال النقاش وغيره: المعنى: لولا استغاثتكم إليه في الشدائد، وقرأ ابن الزبير «1» وغيره: «فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ» وهذا يؤيِّد أَنَّ الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم، ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب أو التكذيب الذي هو سبب العذاب لزاماً، ويحتمل أنْ يكون الخطابُ بالآيتين لقريش [خاصة] «2» وقال الداوديّ: وعن ابن عيينة: لَوْلا دُعاؤُكُمْ معناه: لولا دعاؤكم إيّاه لتطيعوه، انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه» «3» : زعم بعض الأدباء أنَّ «لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ» معناه: لولا سؤالُكم إياه وطلبُكم منه، ورأى أَنَّه مصدر أُضِيفَ إلى فاعل، وليس كما زعم وإنما هو مصدر أضيف إلى مفعول، والمعنى: قل يا محمد للكفار: لولا دعاؤكم ببعثة الرسول إليكم وتبين الأدلة لكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً ذكر هذا عند قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] . في آخر سورة النور، انتهى. ت والحق أنَّ الآية محتملة لجميع ما تقدم، ومَنِ ادَّعى التخصيص فعليه بالدليل، والله أعلم. ويعبأ: مشتق من العِبْءِ وهو الثِّقَلُ الذي يعبّأ ويرتب كما يعبأ الجيش.

_ - وحجتهم قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، [مريم: 59] . وقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الفرقان: 68] . وحجة الباقين قوله: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان: 11] . ينظر: «حجة القراءات» (515) ، و «السبعة» (468) ، و «الحجة» (5/ 354) ، و «إعراب القراءات» (2/ 128) ، و «معاني القراءات» (2/ 221) ، و «شرح الطيبة» (5/ 98) ، و «العنوان» (141) ، و «حجة القراءات» (515) ، و «شرح شعلة» (530) ، و «إتحاف» (2/ 311) . (1) وقرأ بها ابن عباس. ينظر: «مختصر الشواذ» ص 107، و «المحتسب» (2/ 126) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 223) ، و «البحر المحيط» (6/ 475) ، وزاد نسبتها إلى عبد الله بن مسعود. (2) سقط في ج. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1411) .

قال الثعلبيُّ: قال أبو عُبَيْدَةَ: يقالُ: ما عَبَأْتُ به شيئاً، أي: لم أَعُدَّه شيئاً فوجوده وعدمه سواء، انتهى. وقال العراقي: مَا يَعْبَؤُا أي: ما يبالي، انتهى. [وأكثر الناس على أن اللزام المشار إليه هو يوم بدر، وقالت فرقة: هو توعد بعذاب الآخرة] » ، وقال ابن عباس: اللزام الموت «2» ، وقال البخاريُّ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً «3» أي: هلكة، انتهى.

_ (1) سقط في ج. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 428) برقم (26584) ، وذكره البغوي (3/ 380) ، وابن عطية (4/ 223) ، والسيوطي (5/ 150) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (3) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 355) كتاب التفسير: باب فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً.

تفسير سورة الشعراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد تفسير سورة الشعراء وهي مكّيّة كلّها في قول الجمهور [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) قوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ تقدم الكلام على الحروف التي في أوائل السور، والباخع: القاتل والمُهْلِكُ نَفْسَه بالهم، والخضوعُ للآية المنزلة إمَّا لخوف هلاك كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإمَّا لأجل الوضوح وبَهْرِ العقول، بحيث يقع الإذعان لها. والأعناق الجارحة المعلومة، وذلك أَنَّ خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد. وقيل: المراد بالأعناق جماعتهم يقال: جاء عنق من الناس، أي: جماعة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 5 الى 9] وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ 47 أزَوْجٍ كَرِيمٍ تقدم تفسير/ هذه الجملة فانظره في مَحَلِّهِ، وقوله تعالى: فَسَيَأْتِيهِمْ وعيد بعذاب الدنيا كبدر وغيرها، ووعيد بعذاب الآخرة، والزوج: النوع والصنف، والكريم: الحسن المُتَّقَنُ قاله مجاهد «1» وغيره. وقوله تعالى: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ حتم على أكثرهم بالكفر، ثم توعَّدَ تعالى بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي: عزيز في انتقامه من الكفار، رحيم بأوليائه المؤمنين.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 226) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 إلى 21]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 21] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وقوله تعالى: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى التقدير: واذكر إذ نادى ربك موسى، وسَوْقُ هذه القصة تمثيل لكفار قريش في تكذيبهم النبيَّ صلى الله عليه وسلّم. وقوله: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ معناه: يعينني وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ يعني قَتْلَهُ القِبْطِيَّ. وقوله تعالى: كَلَّا رَدٌّ لقوله: إِنِّي أَخافُ أي: لا تخف ذلك، وقول فرعون لموسى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً هو على جهة المَنِّ عليه والاحتقار، أي: رَبَّيْنَاكَ صغيراً، ولم نقتلك في جملة مَنْ قَتَلْنَا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ: فمتى كان هذا الذي تدَّعِيْهِ، ثم قرره على قتل القبطي بقوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ والفَعْلَةُ- بفتح الفاء-: المَرَّةُ، وقوله: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ يريد: وقتلت القبطيَّ وأنت في قتلك إياه من الكافرين إذ هو نَفْسٌ لا يحلُّ قتلها قاله الضَّحَّاكُ «1» ، أو يريد: وأنت من الكافرين بنعمتي في قتلك إياه قاله ابن زيد «2» ويحتمل أن يريد: وأنت الآن من الكافرين بنعمتي، وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نَبِيّاً إلى فرعون- أَحَدَ عَشَرَ عاماً غيرَ أشهرٍ. وقوله: قالَ فَعَلْتُها إِذاً: من كلام موسى عليه السلام والضميرُ في قوله: فَعَلْتُها لِقَتْلَةِ القِبْطِيِّ. وقوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ قال ابن زيد: معناه: من الجاهلين بأنَّ وكزتي إياه تأتي على نفسه «3» ، وقال أبو عبيدةَ: معناه: من الناسين، ونزع بقوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [البقرة: 282] ، وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس «4» : «وأَنَا مِنَ الجَاهِلِينَ» ، ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير، وحُكْماً يريد: النبوّة وحكمتها.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 227) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 436) برقم (26605) ، وذكره ابن عطية (4/ 227) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 437) برقم (26611) ، وذكره ابن عطية (4/ 228) . (4) ينظر: «مختصر الشواذ» ص 107، و «المحرر الوجيز» (4/ 228) ، و «البحر المحيط» (7/ 11) ، و «الكشاف» (3/ 305) . [.....]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 22 إلى 34]

وقوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ درجة ثانية لِلنُّبُوَّةِ، فربّ نبيّ ليس برسول. [سورة الشعراء (26) : الآيات 22 الى 34] وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) وقوله: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ الآية: قال قتادة: هذا من موسى على جهة الإنكار على فرعون «1» كأنه يقول: أو يَصِحُّ لك أن تَعُدَّ عليّ نعمةَ ترك قتلي من أجل أنَّك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟! أي: ليست بنعمة لأَنَّ الواجب كان أَلاَّ تقتلَني ولا تقتلهم «2» ، ولا تستعبدهم، وقرأ الضَّحَّاك «3» : «وتِلْكَ نِعْمَةٌ مَا لَكَ أَنْ تَمُنَّهَا عَلَيَّ» وهذه قراءة تؤيِّد هذا التأويل، وقال الطبريُّ «4» والسُّدِّيُّ: هذا الكلام من موسى عليه السلام علي جهة الإقرار بالنعمة كأنه يقول: نعم «5» ، وتربيتك نعمة عليَّ من حيث عَبَّدْتَ غيري وتركتني، ولكن ذلك لا يدفع رسالتي، ولمَّا لم يجد فرعونُ حُجَّةً رجع إلى معارضة موسى في قوله: وَما 47 ب رَبُّ الْعالَمِينَ واستفهمه استفهاماً فقال موسى/ هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية، فقال فرعون «6» عند ذلك: أَلا تَسْتَمِعُونَ: على معنى الإغراء والتعجب من شنعة المقالة [إذ] «7» كانت عقيدة القوم أَنَّ فرعون رَبُّهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك، فزاده موسى في البيان بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فقال فرعون حينئذٍ على جهة الاستخفاف: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فزاده موسى في بيان الصفات التي تُظْهِرُ نقصَ فرعونَ، وتبين أَنَّهُ في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي رُبُوبِيَّةِ المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعونَ إلاَّ مِلْكُ مصرَ، ولما انقطع فرعون في باب الحجة، رجع إلى الاستعلاء والتغلب فقال لموسى: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وفي

_ (1) في ج: فرعون لعنه الله. (2) في ج: ولا قتلتهم. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 228) ، و «البحر المحيط» (7/ 11) . (4) ينظر: «الطبريّ» (9/ 438) . (5) ذكره ابن عطية (4/ 228) . (6) في ج: فرعون لعنه الله. (7) سقط في ج.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 35 إلى 45]

توعده بالسجن ضَعْفٌ لأَنَّهُ خارت طباعه معه، وكان فيما روي أنَّه يفزعُ من موسى فزعاً شديداً حتى كان لا يُمْسِكُ بولَه، وكان عند موسى من أمر الله والتوكل عليه ما لا يفزعه تَوَعُّدُ فرعونَ، فقال له موسى على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ: يتَّضِحُ لك معه صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع أن يجد أَثناءه موضع معارضة فقال له: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فألقى موسى عصاه فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ على ما تقدَّم بيانه ونَزَعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذا هِيَ: تتلألأ كأنها قطعة من الشمس، فلما رأى فرعون ذلك هاله، ولم يكن له فيه مدفعٌ غيرَ أَنَّهُ فزع إلى رميه بالسحر. [سورة الشعراء (26) : الآيات 35 الى 45] يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) وقوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ تقدم بيانه، وكذلك قولهم: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ تقدم بيانه. وقوله تعالى: قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ يريد بتقريبهم الجاه الزائد على العطاء الذي طلبوه. [سورة الشعراء (26) : الآيات 46 الى 68] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 إلى 82]

وقوله تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تقدم بيانُ هذه الجملة، والحمد للَّه فانظره في مَحَلِّهِ قال ابنُ العربيِّ «1» في «أحكامه» : قال مالكٌ: دعا موسى فرعونَ أربعين سنةً إلى الإسلام، وأنَّ السحرة آمنوا في يوم واحد، انتهى، وقولهم: لاَ ضَيْرَ أي: لاَ يَضُرُّنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه، وقولهم: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يريدون: من القِبْطِ وصنيفتهم، وإلاَّ فقد كانت بنو إسرائيل آمنت، والشِّرْذَمَةُ: الجمع القليل المُحْتَقَرُ، وشرذمة كل شيء: بَقِيَّتُهُ الخسيسة. وقوله: لَغائِظُونَ يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الأموال عارية وحاذِرُونَ جمع حَذِرٌ، والضمير في قوله: فَأَخْرَجْناهُمْ عائد على القِبْطِ، والجنات والعيون بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد قاله ابن عمر «2» وغيره، والمقام الكريم: قال ابن لَهِيعَةَ: هو الفَيُّوم، 48 أوقيل: هو المنابر، وقيل: مجالس الأمراء والحُكَّامِ، وقيل: / المساكن الحسان، ومُشْرِقِينَ معناه: عند شروق الشمس، وقيل: معناه: نحو المشرق، والطود: هو الجبل، وأَزْلَفْنا معناه: قَرَّبنا، وقرأ ابن عباس «3» : «وأزْلَقْنَا» بالقاف. [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ... الآية: هذه الآية تضمنت الإعلام بغيب، والعكوف: اللزوم.

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1435) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 232) . (3) وقرأ بها أبي، وعبد الله بن الحارث. قال أبو الفتح: ومن قرأ بالقاف ف «الآخرون» : فرعون، وأصحابه. أي: أهلكنا ثم الآخرين، أي: فرعون وأصحابه. ينظر: «المحتسب» (2/ 129) ، و «مختصر الشواذ» ص 108، و «المحرر الوجيز» (4/ 233) ، و «البحر المحيط» (7/ 20) ، و «الدر المصون» (5/ 276) .

وقوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ قالت فرقة: هو استثناءٌ مُتَّصِلٌ. لأنَّ في الآباء الأقدمين مَنْ قد عبد الله تعالى، وقالت فرقة: هو استثناءٌ مُنْقَطِعٌ لأَنَّهْ إنَّما أراد عُبَّادَ الأوثان من كل قرن منهم، وأسند إبراهيم عليه السلام المَرَضَ إلى نفسِهِ والشفاء إلى ربه عز وجل، وهذا حُسْنُ أدب في العبارة، والكل من عند الله، وأوقف عليه السلام نفسه على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شِدَّةِ خوفه مع عُلُوِّ منزلته عند الله، وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً أَوْ زَارَ أَخَا [لَهُ] «1» في اللهِ- نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الجَنَّةِ مَنْزِلاً» «2» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنَ، انتهى. وفي «صحيح مسلم» عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الجنة حَتَّى يَرْجِعَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا خُرْفَةُ الجَنَّةِ؟ قال: جَنَاهَا» «3» انتهى، وعنه صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ العَظِيمِ «4» أَنْ يَشْفَيَكَ- إلاَّ عَافَاهُ اللهُ سُبْحَانَهُ» «5» خرجه أبو داود، والترمذيُّ، والحاكم في «المُسْتَدْرَكِ على الصحيحين» بالإسناد الصحيح، انتهى من «حلية النوويِّ» ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَالَ عِنْدَ رَأْسِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ العَظِيمِ- أَنْ يَشْفَيَكَ- إلاَّ عَافَاهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ» «6» . رواه أبو داودَ واللفظ له، والترمذيُّ والنسائِيُّ والحاكم وابن حِبَّان في «صحيحيهما» بمعناه، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشيخَيْنِ، يعني: البخاريَّ ومُسْلِماً، وفي رواية النسائيّ وابن حبّان: «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم إذَا عَادَ الْمَرِيضَ، جَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ» ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ بمعناه انتهى من «السلاح» .

_ (1) سقط في ج. (2) أخرجه الترمذيّ (4/ 365) كتاب البر والصلة: باب ما جاء في زيارة الإخوان، حديث (2008) ، وابن ماجه (1/ 464) كتاب الجنائز: باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا، حديث (1443) . كلاهما من طريق أبي سنان القسملي عن عثمان بن أبي سودة عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، وأبو سنان اسمه عيسى بن سنان- (3) أخرجه مسلم (4/ 1989) كتاب البر والصلة: باب فضل عيادة المريض، حديث (42/ 2568) . (4) في ج: رب العرش الكريم. [.....] (5) أخرجه أبو داود (2/ 204) كتاب الجنائز: باب الدعاء للمريض عند العيادة، حديث (3106) ، والترمذيّ (4/ 410) كتاب الطب: باب (32) حديث (2083) ، والحاكم (1/ 342) من حديث ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. وصححه النووي في «الأذكار» (ص- 167) . (6) تقدم تخريجه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 إلى 106]

وقوله: خَطِيئَتِي ذهب أكثرُ المفسرين إلى: أَنَّهُ أراد كَذَباتِهِ الثلاثَ، قوله: هي أختي في شأن سارة، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] . وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: 63] ، وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، فدعا في كل أمره من غير تعيين. قال ع «1» : وهذا أظهر عندي. [سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 106] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) وقوله: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً: أي حكمةً ونبوَّةً، ودعاؤه في مثل هذا هو في معنى التثبيت والدوام، ولسان الصِّدْق: هو الثَّنَاءُ الحَسَنُ، واستغفاره لأبيه في هذه الآية هو قبل أنْ يَتَبَيَّنَ له أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ. وقوله: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ معناه: خالص من الشرك والمعاصي وعلق الدنيا المتروكة، وإن 48 ب كانت مباحة كالمال والبنين قال سفيان هو الذي يَلْقَى رَبَّهُ/ وليس في قلبه شيء غيره. قال ع «2» : وهذا يقتضي عموم اللفظة، ولكنَّ السليم من الشرك هو الأَهَمُّ، وقال الجُنَيْدُ: بقلب [لدِيغٍ من خشية الله، والسُّلِيمُ: اللديغ. ص: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ الظاهر أَنَّهُ استثناءٌ منقطع، أي: لكن مَنْ أتَى الله بقلب] «3» سليم، نفعته سلامةُ قلبه، انتهى. وَأُزْلِفَتِ معناه: قَرُبَتْ، والغاوون الذين بُرِّزَتْ لهم الجحيم هم: المشركون، ثم أخبر سبحانه عن حال يوم القيامة من أَنَّ الأصنامُ تُكَبْكَبُ في النار، أي: تلقى كبّة واحدة.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 235) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 235) . (3) سقط في ج.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 107 إلى 127]

وقال ص: فَكُبْكِبُوا، أي: قُلبَ بَعْضُهُم على بعض، وحروفه كلها أصول عند جمهور البصريين، وذهب الزَّجَّاج وابن عطية وغيرهما إلى أَنَّه مضاعف الباء من «كَبَّ» . وقال غيرهما: وجعل التَكْرِيرَ من اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى، وذهب الكوفيون إلى: أَنَّ أصلَه «كَبَبَ» والكاف بدلٌ من الباء «1» الثانية، انتهى. والغاوون: الكفرة الذين شملتهم الغواية وجنود إبليس: نَسْلُهُ وكل مَنْ يتبعه لأَنَّهم جند له وأعوان، ثم وصف تعالى أَنَّ أهل النار يختصمون فيها ويتلاومون قائلين لأَصنامهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ: في أنْ نعبدكم ونجعلكم سواءً مع الله الذي هو رب العالمين، ثم عطفوا يَرُدُّون الملامة على غيرهم، أي: ما أضلَّنا إلاَّ كُبَراؤُنا وأهلُ الجرم والجراءة، ثم قالوا على جِهةِ التلهف والتأسف حين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعةً في أهل الإيمان عموماً، وشفاعةَ الصَّدِيقِ في صديقه خصوصا: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، والحميم: الولي والقريب الذي يَخُصُّكَ أمرَه وتخصه أمرك، وحامَّة «2» الرجل خاصَّتُه، وباقي الآية بيّن. [سورة الشعراء (26) : الآيات 107 الى 127] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)

_ (1) قال الزمخشري: الكبكبة تكرير الكبّ وجعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى. وقال ابن عطية نحوا منه قال: وهو الصحيح لأن تكرير الفعل بيّن نحو صرّ وصرصر. وهذا هو مذهب الزجّاج وفي هذا البناء ثلاثة مذاهب: أحدها: هذا. والثاني: هو مذهب البصريين أن الحروف كلها أصول. والثالث: وهو قول الكوفيين أن الثالث مبدل من مثل الثاني فأصل كبكب كبّب بثلاث باءات ومثله لملم وكفكف هذا إذا صح المعنى بسقوط الثالث فأما إذا لم يصح المعنى بسقوطه كانت كلها أصولا من غير خلاف نحو سمسم وخمخم، وواو «كبكبوا» قيل: للأصنام إجراء لها مجرى العقلاء وقيل لعابديها قوله: وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ جملة حالية معترضة بين القول ومعموله الجملة القسميّة «إن كنّا لفي» ومذهب البصريين أنّ إن مخففة واللام فارقة ومذهب الكوفيين أنّ إنّ نافية واللام بمعنى إلّا. ينظر: «الدر المصون» (5/ 280) . (2) في ج: حماة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 128 إلى 145]

وقول نوح عليه السلام: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي: أمين على وحي الله ورسالته. ص: قرأ الجمهور «1» : «وَاتَّبَعَكَ» والجملة حال، أي وقد اتبعك، ويعقوب «2» : «وَأَتْبَاعُكَ» ، وعن اليماني «3» : «وَأَتْبَاعِكَ» بالجر عطفاً على الضمير في «لك» انتهى، والْأَرْذَلُونَ: جمع الأرذل، ولا يستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً أو مضافاً، أو بمن. قال ع «4» : ويظهر من الآية [أنَّ] «5» مراد قوم نوح بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين تهجينُ أفعالهم لا النظرُ في صنائعهم، وذهب أشراف قوم نوح في استنقاصهم ضَعَفَةَ المؤمنين مَذْهَبَ كُفَّارِ قريشٍ في شأنِ عَمَّارِ بن ياسر. وصُهَيْبٍ وبلاَلٍ وغيرهم، وقولهم: مِنَ الْمَرْجُومِينَ يحتمل أَنْ يريدوا بالحجارة أو بالقول والشتم، وقوله: فَافْتَحْ معناه: احكم، والفتّاح، القاضي بلغة يمانية، والْفُلْكِ: السفينة، والْمَشْحُونِ معناه: المملوء. [سورة الشعراء (26) : الآيات 128 الى 145] أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 30) . (2) وقرأ بها عبد الله، وابن عباس، وأبو حيوة، والضحاك، وطلحة، وابن السميفع، وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري. ينظر: «المحتسب» (2/ 131) ، و «البحر المحيط» (7/ 30) ، و «الدر المصون» (5/ 280) . (3) ينظر: «الدر المصون» (5/ 281) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 237) . (5) سقط في ج.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 146 إلى 159]

وقول هود عليه السلام لقومه: أَتَبْنُونَ هو على جهة التوبيخ، والرِّيعُ: المرتفع من الأرض وله في كلام العرب شواهد، وعَبَّرَ المفسرون عن الريع بعبارات، وجملة ذلك أنَّهُ المكان المشرف، وهو الذي يتنافس البشر في مبانيه، والآية: البنيان قال ابن عباس: آية علم «1» . وقال مجاهد: أبراج الحمام «2» ، وقيل: القصور الطوال، والمصانع جمع مصنع وهو ما صُنِعَ وَأُتْقِنَ في بنيانه من قصر مَشِيدٍ ونحوه، قال البخاريُّ: كل بناء مصنعة، انتهى. وقوله: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي: كأنكم تخلدون/ وكذا نقله البخاريُّ عن ابن عباس 49 أغير مسند، انتهى. والبطشُ: الأخذ بسرعة، والجبار: المُتَكَبِّرُ، ثم ذكَّرهم عليه السلام بأياد الله تعالى فيما منحهم، وحَذَّرهم من عذابه، فكانت مراجعتهم أنْ سووا بين وعظه وتركه الوعظ، وقرأ نافع «3» وغيره: «خُلُقُ الأَوَّلِينَ» - بضم اللام- فالإشارة بهذا إلى دينهم، أي ما هذا الذي نحن عليه إلاَّ خُلُقُ الناس وعادتهم، وقرأ ابن كثير «4» وغيره: «خُلْقُ» - بسكون اللام-، فيحتمل المعنى: ما هذا الذي تزعمه إلا أخلاق الأولين من الكَذَبَةِ فأنت على منهاجهم، وروى عَلْقَمَةُ عن ابن مسعود،: إلاَّ اختلاق الأَوَّلِينَ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 146 الى 159] أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) وقول صالح لقومه: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا: تخويف لهم بمعنى: أتطمعون أنْ تَقِرُّوا

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 460) برقم (26697) ، وذكره ابن عطية (4/ 238) ، والسيوطي (5/ 169) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 461) برقم (26700) ، والسيوطي (9/ 170) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....] (3) ينظر: «السبعة» 472، و «الحجة» (5/ 365) ، و «إعراب القراءات» (2/ 136) ، و «معاني القراءات» (2/ 227) ، و «شرح الطيبة» (5/ 100) ، و «العنوان» (142) ، و «حجة القراءات» (518) ، و «شرح شعلة» (521) ، و «إتحاف» (2/ 318) . (4) ينظر: مصادر القراءة السابقة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 إلى 175]

في النعم على معاصيكم، والهضيم: معناه اللَّيِّنُ الرَّطْبُ. والطَّلْعُ الكُفَرَّى. وهو عُنْقُودُ التمر قبل أنْ يخرج من الكِمِّ في أوَّلِ نباته، فكأنَّ الإشارة إلى أَنَّ طلعها يتم ويرطب قال ابن عباس: [إذا أينع وبلغ فهو هضيم «1» ، وقال الزَّجَّاجُ: هو فيما قيل الذي رطبه بغير نوى، وقال الثعلبيُّ: قال ابن عباس] «2» هضيم: لطيف ما دام في كُفَرَّاه «3» ، انتهى. وقرأ الجمهور «4» : «تَنْحِتُونَ» : - بكسر الحاء-، و «فرهين» : من الفراهة وهي جودة منظر الشيء وخبرته وقوته. وقوله: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ خاطب به جمهور قومه وعنى بالمُسْرِفِينَ: كبراءهم وأعلام الكفر والإضلال فيهم قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي: قد سُحِرْتَ. ص: قرأ: الجمهور «5» : «شِرْبٌ» - بكسر الشين-، أي: نصيب، وقرأ ابن أبي عبلة: - بضم الشين- فيهما، انتهى. [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ قال [النقاش] «6» : إنَّ في مصحف ابن مسعود وأُبَيٍّ وحفصةَ: «إذْ قَالَ لَهُمْ لُوطٌ» وسقط أخوهم. وقوله: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ القِلَى: البُغْضُ، فنجاه الله بأنْ أمره بالرحلة على ما تقدم في قصصهم.

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 465) برقم (26721) ، وذكره ابن عطية (4/ 239) ، والسيوطي (4/ 171) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. (2) سقط في ج. (3) ذكره البغوي (3/ 395) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 240) ، و «البحر المحيط» (7/ 33) ، و «الدر المصون» (5/ 283) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 34) . (6) سقط في ج.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 إلى 191]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وقوله تعالى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ قرأ نافع وابن كثير «1» وابن عامر: «أَصْحَابُ لَيْكَةَ» على وزن فَعْلَةَ هنا، وفي [ص] وقرأ الباقون: «الأَيْكَةِ» وهي: الدوحة المُلْتَفَّةُ من الشجر على الإطلاق، وقيل من شجر معروف له غضارة تألفه الحمام والقُمَارِيُّ ونحوها، و «لَيْكَة» اسم البلد في قراءة مَنْ قرأ ذلك قاله بعض المفسرين، وذهب قوم إلى أنّها مسهّلة من الأيكة، وأنّها وقعت في المصحف هنا وفي «ص» بغير ألف. وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] وكذلك ما بعده بلفظ الجمع من حيث إنَّ تكذيب نَبِيٍّ واحد يستلزم تَكْذِيبَ جميعَ الأنبياء لأَنَّهم كلهم يدعون الخلق إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وفي قول الأنبياء- عليهم السلام-: «أَلا تتقون» عرض رفيق وَتَلَطُّفٌ، كما قال تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] والجِبِلَّةُ: الخليقة والقرون الماضية، والكسف: القطع، واحدها كسفة، ويَوْمِ الظُّلَّةِ: هو يوم عذابهم، وصورته فيما رُوِيَ أَنَّ الله امتحنهم بحرٍّ شديد، وأنشأ الله سحابة في بعض قطرهم فجاء بعضهم إلى ظِلِّها فوجد لها برداً ورَوْحاً، فتداعوا إليها/ حتى تكاملوا 49 ب فاضطرمت عليهم ناراً، فأحرقتهم عن آخرهم. وقيل غير هذا، والحق أَنَّه عذاب جعله الله ظلة عليهم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 199] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)

_ (1) ينظر: «السبعة» (473) ، و «الحجة» (5/ 367) ، و «إعراب القراءات» (2/ 137) ، و «معاني القراءات» (2/ 229) ، و «شرح الطيبة» (5/ 101) ، و «العنوان» (142) ، و «حجة القراءات» (519) ، و «شرح شعلة» (521) ، و «إتحاف» (2/ 319) .

وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني القرآن. وقوله: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ متعلق ب نَزَلَ، أي: سمعه النبي صلى الله عليه وسلّم من جبريل حروفاً عربيَّةً، وهذا هو القول الصحيح، وما سوى هذا فمردود. وقوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي: القرآن مذكور في الكتب المُنَزَّلَة القديمة، مُنَبَّهٌ عليه، مُشَارٌ إليه أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ كَعَبْدِ الله بْنِ سَلاَمٍ ونحوه قاله ابن عباس ومجاهد «1» ، قال مُقَاتِلٌ «2» : هذه الآية مدنية، وَمَنْ قال إنَّ الآية مَكِّيَّةٌ ذهب إلى أنَّ علماء بني إسرائيل ذكروا لقريش أَنَّ في التوراة صفَةَ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ، وأَنَّ هذا زمانه، فهذه الإشارة إلى ذلك وذلك أَنَّ قريشاً بعثت إلى الأحبار يسألونهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم أخبر تعالى أَنَّ هذا القرآن لو سمعوه من أعجمَ، أي: من حيوان غير ناطق، أو من جماد، والأعجم: كل ما لا يفصح- ما كانوا يؤمنون، والأعجمون: جمع أَعْجَم، وهو الذي لا يُفْصِحُ، وإنْ كان عربيّ النَّسَبِ، وكذلك يقال للحيوانات والجمادات، ومنه الحديث: «جُرْحُ العجماء جبار» «3» والعجميّ هو الذي نسبه

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 476، 477) برقم (26771) عن ابن عباس، و (26772) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (4/ 243) ، والسيوطي (5/ 177) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس، ولابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) ذكره ابن عطية (4/ 243) . (3) أخرجه البخاري (5/ 33) : كتاب المساقاة: باب من حفر بئرا في ملكه لم يضمن، حديث (2255) ، و «مسلم» (3/ 1334) : كتاب الحدود: باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، حديث (45/ 1710) ، وأبو داود (14) : كتاب الخراج والإمارة والفيء: باب ما جاء في الركاز وما فيه، حديث (3085) ، والترمذيّ (2/ 418) : كتاب الأحكام: باب ما جاء في العجماء أن جرحها جبار. حديث (1391) ، والنسائي (5/ 45) : كتاب الزكاة: باب المعدل، وابن ماجه (2/ 839) : كتاب اللقطة: باب من أصاب ركازا، حديث (2509) ، ومالك (1/ 249) : كتاب الزكاة: باب زكاة الحديث (9) ، والشافعي (1/ 248) : كتاب الزكاة الباب الرابع في الركاز والمعادن، حديث (671، 672) ، وأبو عبيد (420، 421) : كتاب الخمس وأحكامه وسننه: باب الخمس في المعادن والركاز والطيالسي (ص: 304) ، حديث (2305) ، وابن أبي شيبة (3/ 224، 225) : كتاب الزكاة: باب في الركاز يجدوه القوم، فيه زكاة، وأحمد (2/ 228) ، وابن الجارود (ص: 135) : كتاب الزكاة، حديث (372) ، والبيهقي (4/ 155) : كتاب الزكاة: باب زكاة الركاز، وعبد الرزاق (10/ 66) ، رقم (18373) ، والحميدي (2/ 462) ، رقم (1079) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 204) ، وأبو يعلى (10/ 437) ، رقم (6050) ، والطبراني في «الصغير» (1/ 120- 121) ، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 إلى 203]

في العَجَمِ، وإن كان أفصح الناس، وقرأ الحسن «1» : الأَعْجَمِيِّينَ. قال أبو حاتم: أراد جمع الأعجمي المنسوب إلى العجم. وقال الثعلبيُّ: معنى الآية: ولو نزلناه على رجل ليس بعربيّ اللسان، فقرأه عليهم بغير لغة العرب- لما آمنوا أنفة من اتباعه، انتهى. [سورة الشعراء (26) : الآيات 200 الى 203] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) وقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. قال ع «2» : وسَلَكْناهُ معناه: أدخلناه، والضمير فيه للكفر الذي يتضمنه قوله: مَّا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 199] قاله الحسن «3» ، وقيل الضمير للتكذيب، وقيل للقرآن ورُجِّحَ بأَنَّهُ المتبادر إلى الذهن، والمجرمون أراد به مجرمي كل أُمَّةٍ، أي: أنَّ هذه عادة الله فيهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب، فكفّار قريش كذلك وهَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي: مؤخّرون. [سورة الشعراء (26) : الآيات 204 الى 211] أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) وقوله سبحانه: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ توبيخٌ لقريش على استعجالهم العذاب، وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلّم: أَسْقِطْ علينا كِسَفاً من السماء، وقولهم: أين ما تعدنا؟ ثم خاطب سبحانه نَبِيَّهُ- عليه السلام- بقوله: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. قال عِكْرِمَةُ: سِنِينَ: يريد عمر الدنيا «4» ، ثم أخبر تعالى أنّه لم يهلك قرية من

_ (1) ينظر: «مختصر الشواذ» ص 109، و «المحتسب» (2/ 132) ، و «الكشاف» (3/ 336) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 243) ، و «البحر المحيط» (7/ 40) ، وزاد نسبتها إلى ابن مقسم. وهي في «الدر المصون» (5/ 289) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 244) . [.....] (3) أخرجه الطبريّ (9/ 478) برقم (26780) بلفظ «خلقناه» ، وذكره البغوي (3/ 399) ، وابن عطية (4/ 244) ، والسيوطي (5/ 178) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن بلفظ «جعلناه» . (4) ذكره ابن عطية (4/ 344) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 212 إلى 217]

القُرَى إلاَّ بعد إرسال مَنْ ينذرهم عذاب الله عز وجل ذكرى لهم وتبصرةً. وقوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ الضمير في بِهِ عائد على القرآن. [سورة الشعراء (26) : الآيات 212 الى 217] إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) وقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي: لأَنَّ السماء محروسة بالشُّهُبِ الجارية إثرَ الشياطين، ثم وَصَّى تعالى نبيه بالثبوت على التوحيد والمراد: أُمَّتُهُ فقال: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ... الآية. وقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ... الآية: وفي «صحيح البخاريِّ» وغيره عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلّم حتى صعد الصفا، فهتف: «يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أنّ خيلا تخرج من 50 أسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: / نعم، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِباً، قَالَ: فَإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» الحديث «1» ، وَخَصَّ بإنذاره عشيرته لأَنَّهم مَظَنَّةَ الطواعية وإذ يمكنه من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم، ولأَنَّ الإنسان غير مُتَّهَمٍ على عشيرته، والعشيرة: قرابة الرجل، وخفض الجناح: استعارة معناه: لِينُ الكلمة، وبسط الوجه، والبِرُّ، والضمير في عَصَوْكَ عائد على عشيرته، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالتوكل عليه في كل أموره، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 218 الى 220] الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) وقوله: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ يراك عبارة عن الإدراك، وظاهر الآية أَنَّه أراد قيام الصلاة، ويحتمل سائر التصرفات وهو تأويلُ مجاهدٍ وقتادة «2» . وقوله سبحانه: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال ابن عباس «3» وغيره: يريد أهل

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 360) كتاب التفسير: باب وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ حديث (4770) من حديث ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 485) برقم (26814) عن مجاهد، وذكره البغوي (3/ 402) عن مجاهد، وابن عطية (4/ 246) ، وابن كثير (3/ 352) عن قتادة، والسيوطي (5/ 183) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن مجاهد، ولعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 485) برقم (26815) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 402) ، وابن عطية (4/ 246) ، والسيوطي (5/ 183) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 226]

الصلاة، أي: صلاتك مع المصلّين. [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 226] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) وقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي: قل لهم يا محمد: هل أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ والأَفَّاكُ: الكَذَّابُ، والأثيم: الكثير الإِثم، ويريد الكهنة لأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الكَلِمَةَ الوَاحِدَةَ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ، حَسْبَمَا جاء في الحديثِ «1» ، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، والضمير في يُلْقُونَ يحتمل أنْ يكون للشياطين، ويحتمل أنْ يكون للكهنة، ولما ذكر الكهنة بإفكهم وحالهم التي تقتضي نفي كلامهم عن كلام الله تعالى- عقب ذلك بذكر الشعراء وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن، إذ قال بعض الكفرة في القرآن: أنه شعر، والمراد شعراء الجاهلية، ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح شهوة، ويقدف المحصنات، ويقول الزور. وقوله: الْغاوُونَ قال ابن عباس: هم المستحسنون «2» لأشعارهم، المصاحبون لهم. وقال عِكْرَمةُ: هم الرَّعَاعُ الذين يتبعون الشاعر ويغتنمون إنشاده «3» . وقوله: فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله قاله ابن عباس «4» وغيره، وروى جابرُ بنُ عبدِ اللهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «مَنْ مَشَى سَبْعَ خُطْوَاتٍ في شِعْرٍ، كُتِبَ مِنَ الغاوِينَ» ذكره أسدُ بنَ موسى، وذكره النقاش.

_ (1) أخرجه البخاري (10/ 595) كتاب الأدب: باب قول الرجل للشيء ... ، حديث (6213) ، ومسلم (4/ 1750) كتاب السلام: باب تحريم إتيان الكهان، حديث (123/ 2228) من حديث عائشة. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 488) برقم (26933) ، وذكره ابن عطية (4/ 246) ، والسيوطي (5/ 186) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 489) برقم (26837) ، بلفظ «عصاة الجن» ، وذكره ابن عطية (4/ 246) ، والسيوطي (5/ 186) ، وعزاه للفريابي، وابن المنذر، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن عكرمة بلفظ «عصاة الجن» . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 490) برقم (26842) نحوه، وبرقم (26843) ، عن مجاهد، وذكره البغوي (3/ 403) ، وابن عطية (4/ 246) ، والسيوطي (5/ 186) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس.

[سورة الشعراء (26) : آية 227]

[سورة الشعراء (26) : آية 227] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الآية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام كحَسَّان بن ثابت، وكَعْبِ بن مالك، وعبد الله بن رَوَاحَةَ، وكُلِّ مَنِ اتصف بهذه الصفة، ويُرْوَى عن عطاءِ بن يَسَارٍ وغيرِهِ أَنَّ هؤلاءِ شَقَّ عليهم ما ذُكِرَ قَبْلُ في الشعراء، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلّم فنزلت آيةُ الاستثناء بالمدينة. وقوله تعالى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً يحتملُ أنْ يريد في أشعارهم، وهو تأويل ابن زيد «1» ، ويحتمل أنَّ ذلك خُلُقٌ لهم وعبادة قاله ابن عباس «2» ، فكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدَحُ عن غير حَقٍّ فهو داخل في [هذه الآية، وكل تقيٍّ منهم يُكْثِرُ من الزُّهْدِ، ويمسك عن كل ما يُعَابُ فهو داخل في] «3» الاستثناء. ت: قد كتبنا- والحمد للَّه- في هذا المختصر- جملةً صالحة في فضل الأذكار عسى اللَّه أنْ ينفع به من وقع بيده، ففي «جامع الترمذي» عن أبي سعيد الخُدْريِّ، قال: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلّم: أَيُّ العِبَاد أَفْضَل دَرَجَة عِنْدَ اللَّهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَال: «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، قُلْتُ: وَمِنَ الْغَازي فِي سَبِيلِ اللَّه عزَّ وجَلَّ؟! قال: لو ضرب بسيفه في الكفّار 50 ب وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَماً- لكانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ تَعَالى أَفْضَلَ مِنْهُ» «4» / وروى الترمذيُّ، وابن ماجه عن أبي الدَّرْدَاءِ، قال: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِن إنْفَاقِ الذَّهَبِ والوَرَقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تُلْقَوْا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ونضربوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بلى، قَالَ: ذِكْرُ اللهِ تعالى» «5» . قَالَ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ في كِتَابِهِ «المستدرك على الصحيحين» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 491) برقم (26856) ، وذكره ابن عطية (4/ 247) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 247) . (3) سقط في ج. (4) أخرجه الترمذيّ (5/ 428) كتاب الدعوات: باب فضل الذكر، حديث (3376) ، وأحمد (3/ 75) من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري به. وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث دراج. (5) أخرجه الترمذيّ (5/ 459) كتاب الدعاء: باب (6) حديث (3377) ، وابن ماجه (2/ 1245) كتاب الأدب: باب فضل الذكر، حديث (3790) ، وأحمد (5/ 195) ، والحاكم (1/ 496) عن أبي الدرداء مرفوعا. [.....]

هذا حدِيثٌ صحيحُ الإسْنادِ، انتهى من «حليةِ النَّوَوِيَّ» . وقوله: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا إشارةٌ إلى مَا رَدَّ به حَسَّانُ وَعَلِيٌّ وغيرهُما على قريش. قلت: قيل: وَأَنْصَفُ بَيتٍ قَالَتْهُ العَرَبُ: قَوْلُ حَسَّانٍ لأَبي سُفْيَانَ أَو لأَبِي جَهْلٍ: [الوافر] أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فشرّكما لخير كما الْفِدَاءُ «1» وَبَاقِي الآيةِ وَعِيدٌ لظلمةِ كُفَّارِ مَكَّةَ وتهديد لهم.

_ - وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 211) كتاب القرآن: باب ما جاء في ذكر الله تبارك وتعالى، حديث (24) عن زياد بن أبي زياد عن أبي الدرداء موقوفا. (1) ينظر: البيت في «ديوانه» ص (76) و «خزانة الأدب» (9/ 232، 236، 237) و «شرح الأشموني» (3/ 388) و «لسان العرب» (3/ 420) (ندد) ، (6/ 316) (عرش) . واستشهد فيه بقوله: «فشركما لخير كما الفداء» حيث ورد أفعل التفضيل ( «شرّ» و «خير» ) عاريا عن معنى التفضيل. قال السهيليّ: «في ظاهر هذا اللّفظ شناعة لأنّ المعروف أن لا يقال: «هو شرّهما» ، إلّا وفي كليهما شرّ، وكذلك شرّ منك، ولكنّ سيبويه قال: تقول: مررت برجل شرّ منك، إذا نقص عن أن يكون مثله. وهذا يدفع الشناعة عن الكلام الأوّل ونحو منه قوله عليه السلام: «شرّ صفوف الرجال آخرها» ، يريد نقصان حظّهم عن حظّ الصفّ الأوّل، كما قال سيبويه. ولا يجوز أن يريد التفضيل في الشرّ، والله أعلم» ( «الخزانة» 9/ 237) .

تفسير"سورة النمل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد تفسير «سورة النّمل وهي مكّية [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) قَولُه تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ تقدَّمَ القولُ في الحروفِ المقطَّعةِ، وعَطفِ الكِتَابِ على القرآنِ وهما لمُسَمًّى واحدٍ من حَيْثُ هُما صِفَتَانِ لمعنَيينِ، فالقُرْءَان: لأنه اجتمَعَ، والكتابُ: لأنه يُكْتَبُ، «وإقامةُ الصَّلاَةِ» : إدامتُها وأداؤُهَا عَلى وَجْهِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي: جَعَلَ سُبْحَانَه عقابَهم على كُفرِهم أَن حَتَّمَ عَليهم الكُفْرَ، وحَبَّبَ إليهم الشِّركَ وزَيَّنه في نُفُوسِهِم. والعَمَهُ: الحيرةُ والتردُّدُ في الضَّلالِ. ثم تَوَعَّدَهُمْ تَعَالى بسُوءِ العذَابِ فَمَنْ نَالَهُ مِنهُ شيءٌ في الدُّنْيَا بَقِيَ عليه عَذابُ الآخرةِ، وَمَنْ لَمْ يَنَلْه عَذَابُ الدُّنْيَا كَانَ سُوء عَذابِه في مَوْتِه وفي ما بعده. [سورة النمل (27) : الآيات 6 الى 9] وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ تُلَقَّى: مضاعفُ لَقِيَ يَلْقَى، ومعناه تُعْطَى، كما قَال: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] . وهذه الآيةُ ردٌّ على كُفَّارِ قُرَيْشٍ في قَوْلهم: إنَّ القُرْآن مِن تلقاءِ مُحَمَّدٍ ومِنْ لَدُنْ معناه: مِن عِنْدِهِ وَمِنْ جِهَتِهِ. ثم قَصَّ- تعالى- خَبرَ موسى حين خَرَجَ بزوجِه بنت شُعيب عَليهِ السَّلاَمُ يُرِيدُ مصرَ، وقد تقدَّم في «طه» قصصُ الآيةِ. وقوله: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ ... الآية، أصل الشهاب:

[سورة النمل (27) : الآيات 10 إلى 14]

الكوكب المنقضّ في أثر مسترقِ السمعِ وكل ما يُقال له «شهابٌ» من المنيرات فعلى التَّشْبِيهِ، والقبسُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يكون اسماً، ويُحْتملُ أن يكونَ صفةً. وقرأ الجمهورُ بإضافة «شِهَابٍ» إلى «قَبَسٍ» ، وقرأ حَمزَةُ والكِسائِيُّ «1» وعاصمُ بتنوينِ «شِهَابٍ قَبَسٍ» : فَهَذَا على الصِّفَةِ. ص: وقوله: جاءَها ضميرُ المفعولِ، عائدٌ على النّار، وقيل على الشجرة، انتهى. وبُورِكَ معناه: قُدِّسَ ونُمِيَ خَيْرُه، والبركة، مختصَّة بالخير. وقولهِ تعالى: مَنْ فِي النَّارِ قال ابنُ عباس: أرادَ النُّورَ «2» ، وقال الحسنُ وابنُ عباس: وأراد ب مَنْ حَوْلَها الملائكةٍ وموسى «3» . قال ع «4» : ويُحتمَلُ أن تكونَ مَنْ للملائكةِ لأن ذلكَ النورَ الذي حَسِبَه موسى ناراً لم يخْلُ من ملائكة، وَمَنْ حَوْلَها لموسَى والمَلائِكَةِ المُطِيفينَ بهِ. وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب «5» «أن بُوركَتِ النَّارُ وَمَنْ حَولَها» . وقوله تعالى: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، هو تنزيهٌ للَّه تعالى مما عساه أن يخطر/ ببال في معنى النِّداءِ من الشَّجَرَةِ، أي: هو منزَّه عن جميع ما تتوّهمه الأوهام 51 أوعن التَّشبيهِ والتَّكْيِيفِ، والضميرُ في إِنَّهُ للأمرِ والشأنِ. [سورة النمل (27) : الآيات 10 الى 14] وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

_ (1) ينظر: «السبعة» (478) ، و «الحجة» (5/ 372) ، و «إعراب القراءات» (2/ 143) ، و «معاني القراءات» (2/ 233) ، و «شرح الطيبة» (5/ 107) ، و «العنوان» (144) ، و «حجة القراءات» (522) ، و «شرح شعلة» (524) ، و «إتحاف» (2/ 323) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 496) رقم (26867) بلفظ: «كان نور رب العالمين في الشجرة» ، وابن كثير (3/ 356) ، والسيوطي (5/ 191) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن مردويه عنه عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبريّ (9/ 497) رقم (26876) بنحوه، وابن عطية (4/ 250) ، وابن كثير (3/ 357) بنحوه. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 250) . (5) ينظر: «الكشاف» (3/ 349) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 250) . وقد قرأ بها ابن عباس، ومجاهد، كما في «الجامع لأحكام القرآن» (13/ 106) . قال القرطبي: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى.

[سورة النمل (27) : الآيات 15 إلى 17]

وقوله سبحانه: وَأَلْقِ عَصاكَ ... الآية، أمره- تعالى- بهذَينِ الأمرين إلقاءِ العصا، وأمرِ اليَدِ تَدريباً له في استعمالِهمَا، والجان: الحياتُ لأنها تَجِنُّ أنفُسُهَا أي: تَسْتُرُهَا. وقالت فرقةٌ: الجانُّ: صِغَارُ الحَيَّاتِ. وقوله تعالى: وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ، أي: ولَّى فَارّاً. قال مُجاهدٌ: ولم يرجعْ «1» ، وقال قَتَادَةُ: ولم يَلْتَفِتْ «2» . قال ع «3» : وعَقَّبَ الرجلُ إذا ولَّى عَنْ أمر ثم صرف بدَنه أو وَجْهِه إليه- ثم ناداه سُبحانه مؤنسا له: يا مُوسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. وقولُهُ تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ قال الفرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ: الاستثْنَاءُ منقطعٌ، وهو إخبارٌ عن غَيرِ الأنبياء، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ- قال: لكنْ من ظَلَمَ من النَّاسِ ثُمَّ تَابَ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهذه الآية تقتضي المغفرة للتّائب، والجيب الفتح في الثوب لرأس الإنسان. وقوله تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ مُتَّصِلٌ بقوله: أَلْقِ وَأَدْخِلْ يَدَكَ وفيه اقتضَابٌ «4» وحذفٌ، والمعنى في جُملةِ تسعِ آياتٍ، وقد تَقَدَّمَ بَيَانُها، والضميرُ في جاءَتْهُمْ لفِرْعَوْنَ وقومِه، وظاهِرُ قَولِهِ تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها حُصُولُ الكفْرِ عِنَاداً وهي مَسْأَلَةُ خلافٍ قد تَقَدَّمَ بيانها وظُلْماً معناهُ: على غيرِ استحقَاقٍ للجُحْدِ، والعُلُوُّ في الأرضِ أعظمُ آفةٍ على طَالبهِ، قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً [القصص: 83] . [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 17] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 498) رقم (26880) ، وابن عطية (4/ 251) ، والسيوطي (5/ 192) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 498) رقم (26882) ، والبغوي (3/ 407) ، وابن عطية (4/ 251) ، والسيوطي (5/ 192) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) ينظر: «المحرر» (4/ 251) . (4) القضب: القطع. ومنه قيل: اقتضبت الحديث، إنما هو انتزعته واقتطعته. ينظر: «لسان العرب» (3659) .

وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ... الآية، هذا ابتداءُ قصَصٍ فيه غيُوبٌ وعَبَرٌ. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، أي: ورثَ مُلكَه وَمنزِلَتَهُ من النبوَّة بعدَ موتِ أبيهِ، وقوله: «علّمناه منطق الطير» إخبار بنعمةِ الله تعالى عندهما في اَّنَّ فَهَّمهُمَا مِنْ أصواتِ الطير المعانيَ التي في نفوسِها، وهذا نحو ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْحِجَارَةِ بالسَّلاَمِ عَلَيْهِ وغير ذلك حسب ما هو في الآثار. قال قَتَادَةُ وغيره: إنَّمَا كان هذا الأمرُ في الطيرِ خاصةً، والنملةُ طائِرٌ إذ قد يوجَدُ لَهَا جَنَاحَان «1» . وقالت فُرقَةٌ: بل كَانَ ذَلِكَ في جَمِيعِ الحيَوانِ وإنما خَصِ الطيرَ لأْنَّه كان جُنداً من جنودِ سليمان يحتاجُهُ في التَّظلِيلِ من الشَّمس وفي البَعْثِ في الأمور. والنَّمْلُ حيوانُ فَطِنٌ قويٌّ شَمَّامٌ جِدّاً يدَّخِرُ ويتخذُ القرى وَيَشُقُّ الحَبَّ بقطعتينِ لِئَلاَّ يُنْبِتَ، ويشُقَّ الكزبرةَ بأربعِ قطعٍ لأَنها تُنْبِت إذاً قُسِّمَتْ شقينِ، ويأكلُ في عامِهِ نصفَ مَا جمعَ، ويستبقي سائِرَهُ عُدَّةً. قال ابن العربي في «أحكامه «2» » : ولا خلافَ عندَ العُلَمَاءِ في أَنَّ الحيواناتِ كلَّها لَهَا أفهامٌ وعقولٌ، وقد قال الشافعيُّ: الحمَامُ أعقلُ الطَّيرِ، انتهى. وقوله: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ معناه: يَصْلُحُ لنا ونَتَمَنَّاهُ ولَيستْ على العموم. ثُمَّ ذَكَرَ شُكْرَ فَضلِ الله تعالى، واخْتُلِفَ في مقدار جُنْدِ سُليمانَ عليه السلام اختلافاً شديداً لا أرَى ذكرَه لعَدَمِ صحةِ التَّحدِيدِ، غيرَ أنَّ الصَّحِيحَ في هذا أنَّ مُلكَه كَانَ عَظيماً مَلأَ الأَرْضَ، وانقادت له المعمُورةُ كُلُّها، وَكَانَ كُرسيُّه يَحملُ أجْنَادَه من الأنسِ والجنِّ، وكانتِ الطيرُ تُظِلُّه منَ الشمس، ويبعثها في الأمور، ويُوزَعُونَ مَعناهُ: يَرُدُّ أولهُم إلى آخرهم، ويكُفُّونَ، قال قَتَادَةُ: فكأنَّ لِكُلِّ صَنْفٍ/ «3» وَزْعَةً، ومنه قَوْلُ الحسن البصريّ حين ولي 51 ب قضَاءَ البَصْرَةِ: لا بدَّ للحَاكِم من وَزْعَةً «4» ، ومنه قَوْلُ أبي قُحَافَةَ للجاريةِ: ذلك يا بنيّة

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 253) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1449) . (3) ذكره البغوي (3/ 410) ، وابن عطية (4/ 253) . [.....] (4) ذكره ابن عطية (4/ 253) .

[سورة النمل (27) : الآيات 18 إلى 24]

الوازِع «1» ومنه قولُ الشاعر: [الطويل] على حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... فَقُلْتُ: أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ «2» أي: كافٌّ، وهَكَذا نقل ابنُ العربيِّ «3» عن مَالكٍ فقال: يُوزَعُونَ أي: يُكَفَّونَ. قال ابن العربي «4» : وقد يكُونُ بمعنى يُلهَمُونَ من قوله «أَوْزِعْنِي أن أَشكُرَ نعمَتَكَ» أي: ألهمني، انتهى من «الإحكام» . [سورة النمل (27) : الآيات 18 الى 24] حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) وقولُه تَعَالَى: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها التبسمُ هو ضِحْكُ الأنبيَاءِ في غالِبِ أمْرهم لا يَليقُ بهم سِوَاهُ، وكان تَبَسُّمُه سروراً بنعمَةِ الله تَعالى عَلَيهِ في إسماعِهِ وتفهيمهِ. وفي قول النملة: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ثناءٌ على سليمانَ وجنودِه يتضمنُ تنزيهِهم عن تعمدِ القبيحِ. ثم دعا سليمانُ عليه السلام ربَّه أنْ يُعينَه ويُفَرِّغَهُ لشُكرِ نعمتهِ، وهذا معنى إيزاعِ الشُّكرِ، وقال الثعلبيُّ وغيرَه: «أوزِعْنِي» معناه: ألهِمْنِي، وكذلك قال العراقيّ: أَوْزِعْنِي ألهمني، انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 253) . (2) البيت للنابغة الذبياني في «ديوانه» ص (32) و «الأضداد» ص (151) و «جمهرة اللغة» ص (1315) و «خزانة الأدب» (2/ 456) ، (3/ 407) ، (6/ 550) ، (553) و «الدرر» (3/ 144) و «سرّ صناعة الإعراب» (2/ 506) و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 53) و «شرح التصريح» (2/ 42) و «شرح شواهد المغني» (2/ 816) ، (883) و «الكتاب» (2/ 330) ، و «لسان العرب» (8/ 390) (وزع) ، (9/ 70) (خشف) و «المقاصد النحويّة» (3/ 406) ، (4/ 357) وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (2/ 111) و «الإنصاف» (1/ 292) و «أوضح المسالك» (3/ 133) و «رصف المباني» ص (349) و «شرح الأشموني» (2/ 315) ، (3/ 578) و «شرح شذور الذهب» ص (102) و «شرح ابن عقيل» ص (387) و «شرح المفصّل» (3/ 16، 4/ 591، 8/ 137) و «مغني اللبيب» ص (571) و «المقرب» (1/ 290، 2/ 516) و «المنصف» (1/ 58) و «همع الهوامع» (1/ 218) . واستشهد فيه بقوله: «على حين» ، حيث يجوز في «حين» الإعراب وهو الأصل، والبناء لأنّه أضيف إلى مبنيّ، وهو الفعل الماضي «عاتب» . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1450) . (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1450) .

وقوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ... الآية، قالت فرقةٌ: ذلك بحسْبِ ما تقتَضِيه العنايةُ بالمَمْلَكَةِ والتَّهمُّمِ بكل جُزْءٍ منها، وهذا ظاهر الآيةِ أنَّه تَفَقَّدَ جميعَ الطيرِ، وقالت فِرقةٌ: بل تَفَقَّدَ الطيرَ لأَنَّ الشَّمْسَ دَخَلَتْ مِنْ مَوضِعِ الهُدْهُدِ فكان ذلك سببَ تفقدِ الطيرِ ليَبِينَ مِنْ أين دَخَلَتِ الشمسُ، وقال عبدُ اللهِ بن سلاَم: إنما طلبَ الهدهدَ لأنه احتاجَ إلى معرفةِ الماءِ على كَم هو مِنْ وَجهِ الأرضِ لأنه كانَ نَزَلَ في مفازةٍ عَدِمَ فيها الماءَ، وأن الهُدْهُدَ كان يَرَى بَاطِنَ الأرضِ وظاهرَها فكان يخبرُ سليمانَ بموضع الماءِ، ثم كانتِ الجنُّ تُخْرجُه في ساعةٍ، وقيل غير هذا والله أعلم بما صح من ذلك. ثم توعد- عليه السلام- الهدهدَ بالعذابِ فروي عن ابن عباس وغيره: أن تعذيبَه للطير كانَ بنتفِ ريشِه «1» . والسلطانُ: الحجةُ حيث وقع في القرآن [العظيم] قاله ابن «2» عباس. وفعلَ سليمانُ هذا بالهدهدِ إغلاظاً على العاصينَ وعِقَاباً على إخلاله بنبوته ورتبته، والضميرُ في فَمَكَثَ يحتملُ أن يكونَ لسليمانَ أو للهدهدِ، وفي قراءة ابن مسعود «3» «فتمكث ثم جاء فقال» وفي قراءة أُبَيِّ «4» «فتمكث ثم قال أحطت» . ت: وهاتان القراءتان تُبَيِّنَانِ أن الضميرَ في «مكث» للهدهدِ وهو الظاهرُ أيضاً في قراءة الجماعة، ومعنى مكثَ: أقامَ. وقوله: غَيْرَ بَعِيدٍ يعني: في الزمن. وقوله: أَحَطْتُ أي: عَلِمْتُ. وقرأ الجمهورُ «5» «سبأٍ» بالصرف على أنه اسمُ رجل وبه جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم من حديث فروةَ بن مسيك وغيره، سُئِلَ- عليه السلامُ- عَنْ سَبَإٍ فَقَالَ: «كَانَ رَجُلاً لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أرْبَعَة» «6» . ورواه الترمذي من طريقِ فروة بن

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 506) رقم (26911) ، وذكره ابن عطية (4/ 255) ، وابن كثير (3/ 360) ، والسيوطي (5/ 197) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والحاكم عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 507) رقم (26924) ، وذكره ابن عطية (4/ 255) ، والسيوطي (5/ 197) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن عكرمة، قال: قال ابن عباس. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 255) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 255) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 255) ، و «البحر المحيط» (7/ 63) . (6) أخرجه الترمذيّ (5/ 361) كتاب التفسير: باب ومن سورة سبأ، حديث (3222) من حديث فروة بن مسيك. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب. وسيأتي تخريجه بأوسع من هنا في سورة سبأ.

[سورة النمل (27) : الآيات 25 إلى 35]

مُسَيْك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «1» «سَبَأَ» - بفتح الهَمْزَةِ وتَرْكِ الصَّرْف- على أنه اسمُ بَلْدَةِ وقاله الحسن وقتادة. وقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: مما تحتاجُه المملكةُ، قال الحسن: من كل أمر الدنيا «2» ، وهذه المرأةُ هي «بلقيس» ، وَوَصَفَ عرشَها بالعِظَم في الهيئةِ ورتبة الملك، 52 أوأكثر بَعضِ النَّاسِ/ في قصَصها بما رأيتُ اختصارَه لعدَمِ صحَّتِه، وإنما اللازم من الآية: أنها امرأةٌ مَلِكَةٌ عَلى مدائنَ اليمن، ذاتُ مُلْكٍ عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار. [سورة النمل (27) : الآيات 25 الى 35] أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) وقوله: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ إلى قوله الْعَظِيمِ، ظاهره: أنه من قوله الهدهد وهو قول ابن زيد وابن إسحاق، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضاً بيْنَ الكَلاَمَيْن، وقراءةُ التشديدِ في أَلَّا تعطى: أن الكلامَ للهدهدِ وهي قراءةُ الجمهورِ «3» ، وقراءة التخفيفِ وهي للكسائي تَمْنَعَهُ «4» وتقوِّي الآخرَ فتأملْه، وقرأ الأعمشُ «5» هَلاَّ يَسْجُدُونَ وفي حرف عبد الله «ألا هل تسجدون» بالتّاء، والْخَبْءَ: الخفيّ من

_ (1) ينظر: «السبعة» (480) ، و «الحجة» (5/ 382) ، و «إعراب القراءات» (2/ 147) ، و «معاني القراءات» (2/ 236) ، و «شرح الطيبة» (5/ 108) ، و «العنوان» (144) ، و «حجة القراءات» (525) ، و «شرح شعلة» (524) ، و «إتحاف» (2/ 325) . (2) أخرجه الطبريّ (9/ 509) رقم (26935) ، وذكره ابن عطية (4/ 256) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 256) ، و «البحر المحيط» (7/ 65) . [.....] (4) وقرأ بها ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 256) ، و «البحر المحيط» (7/ 65) ، و «الدر المصون» (5/ 307) ، و «السبعة» (480) ، و «الحجة» (5/ 383) ، و «إعراب القراءات» (2/ 148) ، و «معاني القراءات» (2/ 238) ، و «شرح الطيبة» (5/ 109) ، و «العنوان» (144) ، و «حجة القراءات» (526) ، و «شرح شعلة» (525) ، و «إتحاف» (2/ 325) . (5) ينظر: «مختصر الشواذ» ص 110، وفيه القراءة هكذا: «هلا يسجدوا» بحذف نون الرفع. وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 257) ، و «البحر المحيط» (7/ 65) ، و «التخريجات النحوية» (344) .

الأمور وهو من: خَبَأْتُ الشيءَ، واللفظةُ تَعُمّ كل ما خَفِي من الأمور وبه فسر ابن عباس «1» . وقرأ الجمهورُ: «يُخْفُونَ وَيُعْلِنون» بياء الغائب وهذه القراءة تُعْطى أنَّ الآيةَ من كلامِ الهدهد. وقرأ الكسائيُّ وحفصٌ عن «2» عاصم «تُخْفُونَ وَتُعْلِنُونَ» بتاء الخطاب وهذه القراءة تعطى أنَّ الآية من خطاب الله تعالى لأمة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم. قوله: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، قال وهب بن مُنَبِّه: أمره بالتولِّي حُسنُ أدب ليَتَنَحَّى حَسْبَ ما يُتأَدَّبُ به مع الملوك، بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعاتهم، وليكل الأمر، إلى حُكْمِ ما في الكتابِ دونَ أن تكونَ للرسولِ ملازمةٌ ولا إلحاحٌ «3» . ورَوَى وهب بن منبِّه في قصص هذه الآية: أن الهدهدَ وصل فَوَجَدَ دون هذه المَلِكَةِ حُجُبَ جدراتٍ، فَعَمَدَ إلَى كُوَّةٍ كانتْ بلقيسُ صَنَعَتْهَا، لتَدْخُلَ منها الشمسُ عند طلوعها لمعنى عبادَتِهَا إيَّاهَا فدخل منها ورمى بالكتابِ إليها «4» فقرأتْه وجَمَعَتْ أهْلَ مُلْكِها فخاطبتهم بما يأتي بعد. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ تعني: الأشراف: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ وصَفَتِ الكتابَ بالكريمِ إما لأنه من عند عظيمٍ، أو لأنه بُدِىء باسمٍ كريمٍ. ثم أخذتْ تصف لهم ما في الكتابِ، ثم أخذتْ في حسْنِ الأدَبِ مَعَ رجَالِها ومشاورتهم في أمرها فراجعها قومُها بما يُقِرُّ عَيْنَها مِنْ إعلامِهم إيَّاها بالقوة، والبأس. ثم سلَّمُوا الأمر إلى نَظَرِها وهذه محاورةٌ حسنة من الجميع. وفي قراءة «5» عبد الله: «ما كُنْتُ قَاضِيَةً أَمْراً» بالضاد من القضاء، ثم أخبرتْ بلقيسُ بفِعلِ الملوكِ بالقُرَى التي يَتَغَلَّبُونَ عليها، وفي كلامها خوفٌ على قومِها وحَيْطَة لهم، قال الدَّاوُودِيُّ: وعن ابن عباس: رضي الله عنه إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها قال: إذا أخذوهَا عَنْوَةً، أخربوها «6» ، انتهى. وقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ قالت فرقة: هو من قول بلقيس، وقال ابن عباس: هو

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 257) ، وابن كثير (3/ 361) ، والسيوطي (5/ 199) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ينظر: «السبعة» (481) ، و «الحجة» (5/ 385) ، و «إعراب القراءات» (2/ 149) ، و «معاني القراءات» (2/ 239) ، و «شرح الطيبة» (5/ 111) ، و «العنوان» (144) ، و «حجة القراءات» (528) ، و «شرح شعلة» (527) ، و «إتحاف» (2/ 326) . (3) أخرجه الطبريّ (9/ 512) رقم (26946) ، وذكره ابن عطية (4/ 257) . (4) ذكره ابن عطية (4/ 257) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 258) ، و «البحر المحيط» (7/ 70) ، و «الكشاف» (3/ 364) . (6) أخرجه الطبريّ (9/ 515) رقم (26959) ، وذكره ابن كثير (3/ 362) ، والسيوطي (5/ 202) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

[سورة النمل (27) : الآيات 36 إلى 42]

من قول الله تعالى معرِّفاً لمحمَّدٍ عليه السلام وأمَّتِهِ بذلك «1» . وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ... الآية، روي أن بلقيس قالت لقومها: إني أُجَرِّبُ هذا الرجلَ بهدية فيها نفائسُ الأموالِ، فَإنْ كَانَ مَلِكاً دُنْيَوِيّاً أرضاه المال وإن كان نَبِيّاً لم يقبل الهديةَ، ولم يُرْضِهِ مِنّا إلا أن نَتَّبِعَه على دينه، فينبغي أن نؤمِنَ به، ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة. [سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 42] فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ يعني: رسلُ بلقيس، وقولُ سليمان: ارْجِعْ خطابٌ لرسلِها لأن الرسولَ يقع على الجمعِ والإفرادِ والتذكيرِ والتأنيث. وفي قراءة ابن مسعود «2» : «فلما جاءوا سليمان» وقرأ «ارجعوا» ، ووعيدُ سليمانَ لهم مقترنٌ بدوامِهم على الكفرِ، قال البخاري: لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِها: أي: لا طاقةَ لهم، انتهى. ثم قال سليمان 52 ب لجمعه/ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها. قال ابن زيد: وغرضُه في استدعاءِ عرشِها أن يُرِيَها القدرةَ التي من عند الله وليغرب «3» عليها، ومُسْلِمِينَ في هذا التأويل بمعنى: مُسْتَسْلِمِينَ، ويحتملُ أنُ يكونَ بمعنى الإسلام. وقال قتادة: كان غرضُ سليمان عليه السلام أخذه قبل أن يَعْصِمَهُم الإسلامُ فالإسلامُ على هذا التأويل يراد به الدين «4» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 515) رقم (26960) ، وذكره ابن عطية (4/ 258) ، وابن كثير (3/ 362) ، والسيوطي (5/ 202) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ينظر: «الكشاف» (3/ 366) ، و «البحر المحيط» (7/ 71) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 259) ، و «الدر المصون» (5/ 313) . (3) ذكره ابن عطية (4/ 260) . (4) أخرجه الطبريّ (9/ 521) رقم (26980) بنحوه.

ت: والتأويل الأول أَليَقُ يمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، فيتعينُ حملُ الآيةِ عليه، والله أعلم. ورُوِي أن عرشِهَا كانَ من ذهبٍ وفضةٍ مُرَصَّعاً بالياقوتِ والجَوْهرِ وأنه كان في جوفِه سبعةُ أبياتٍ عليها سَبْعة أغلاقٍ. والعِفْرِيتُ هو من الشياطين: القويُّ الماردُ. وقوله: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قال مجاهد «1» وقتادة «2» : معناه: قبل قيامِك من مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى وقتَ الظهرِ في كل يوم، وقيل: معناه: قبلَ أنْ تستويَ من جلوسِكَ قَائِماً. وقول الذي عنده علم من الكتاب: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قال ابن جبير «3» وقتادة «4» : معناه: قبل أن يصل إليكَ مَنْ يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ في أبعد ما ترى. وقال مجاهد «5» : معناه: قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي: مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض وذلك ارتداده. قال ع «6» : وهذانِ القولانِ يقابلانِ القولينِ قبلَهما. وقوله: لَقَوِيٌّ أَمِينٌ معناه: قويٌّ على حمله أمين على ما فيه. ويُرْوَى أنَّ الجِنَّ كَانَتْ تُخْبِرُ سليمانَ بمَنَاقِل سَيْرِ بلقيس، فلما قربَتْ، قال: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها فدعا الذي عنده علم من التوراة، - وهو الكتاب المشار إليه- باسم الله الأعظم الذي كانت العادة في ذلك الزمان أن لا يدعو به أحد إلا أجيب، فشقت الأرض بذلك العرشِ، حتَّى نَبَعَ بَيْنَ يَدَيْ سليمانَ عليه السلام. وقيل: بل جِيءَ به في الهواءِ. وجمهورُ المفسرين على أن هذا الذي عنده علم من الكتاب- كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل اسمه (آصف بن برخيا) ، روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان [عليه السلام] : يا نبي الله امدد بصرك

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 522) رقم (26989) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 260) ، وابن كثير (3/ 363) بنحوه، والسيوطي (5/ 204) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبريّ (9/ 522) رقم (26990) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 260) . [.....] (3) أخرجه الطبريّ (9/ 524) رقم (27003) ، وذكره البغوي (3/ 420) بنحوه، وابن عطية (4/ 260) ، والسيوطي (5/ 205) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير. (4) ذكره البغوي (3/ 420) بنحوه، وابن عطية (4/ 260) . (5) أخرجه الطبريّ (9/ 524) رقم (27007) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 420) بنحوه، وابن عطية (4/ 260) ، والسيوطي (5/ 205) بنحوه، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (6) ينظر: «المحرر» (4/ 260) .

[سورة النمل (27) : الآيات 43 إلى 44]

نحوَ اليَمَنِ، فمد بصره فإذا بالعرش، فما رد سليمان بَصره إلا وهو عنده. وقال قتادة: اسمه بلخيا «1» . وقولُ سليمانَ- عليه السلام-: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها يريدُ تَجْرِبَة مَيْزِهَا ونَظَرِهَا، ورَوَتْ فرقةٌ أن الجنَّ أحسَّتْ من سليمان أوْ ظنت به أنه ربما تزوجها، فكرهوا ذلك وعيَّبُوها عنده، بأنها غيرُ عاقلِة ولا مميزة وأَن رجلَها كحَافِرِ دابة، فجرَّب عَقْلَها وميَّزَها بتَنْكِيرِ السريرِ، وجرب أمر رجلِها بأمر الصَّرْحِ، لتكشفَ عن سَاقَيْها عنده، وتنكيرُ العرش: تغييرُ وضعهِ وسَتْرُ بعضِه. وقولُها كَأَنَّهُ هُوَ تحرزٌ فَصِيح، وقال الحسن بن الفضل «2» : شَبَّهُوا عَلَيْهَا فَشَبَّهَتْ عَلَيْهِم. ولو قالوا: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم، ثم قال سليمان عليه السلام عند ذلك: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها الآية، وهذا منه على جهة تعديد نعم الله تعالى عليه وعلى آبائه. [سورة النمل (27) : الآيات 43 الى 44] وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) وقوله تعالى: وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ أي: عن الإيمان، وهذا الكلامُ يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ قولِ سليمانَ، أو مِنْ قولِ الله، إخبارا لمحمد عليه السلام: قال محمد بن كعب 53 أالقرظي/ وغيره: ولمَّا وَصَلَتْ بلقيسُ أمر سليمانُ الجنَّ فصَنَعَتْ له صَرْحاً وهو السطحُ في الصَّحْنِ مِنْ غير سَقْفٍ وجَعَلَتْهُ مَبْنِيا كالصِّهْرِيجِ وملىء ماءً وبُثَّ «3» فيهِ السَّمَكُ وطبَّقَه بالزُّجَاجِ الأَبيضِ الشَّفَّافِ، وبهذا جاءَ صَرْحاً. والصَّرْحُ أيضاً كل بناء عالٍ، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ. ثم وضع سليمانُ في وسطِ الصَّرْحِ كرسيّاً، فلما وصلته بلقيس قيل لها: ادخلي إلى النبي- عليه السلام-، فلما رأتِ الصَّرْحَ حَسِبتَهُ لُجَّةً وهُو مُعْظَمُ المَاءِ، فَفَزِعَتْ وَظَنَّتِ أنها قُصِدَ بها الغَرَقُ، وَتَعَجَّبَتْ مِن كَوْنِ كرسِيِّه على الماءِ، ورأت مَا هَالَهَا، ولَمْ يكنْ لَها بُدَّ مِن امْتِثَالِ الأمرِ، فكَشَفَتْ عن ساقَيها، فرأى سليمانَ ساقَيْها سليمةً مِمَّا قالتِ الجنُّ غَيْرَ أَنَّها كثيرةُ الشَّعْرِ، فلما بلغتْ هذا الحد قالَ لها سليمانُ عليه السلام: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ والممرد: المحكوكُ الْمُمَلَّسُ ومنه الأمرد، فعند ذلك قالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فروي أن

_ (1) أخرجه الطبريّ (9/ 523) رقم (26993) بلفظ «كان اسمه بليخا» ، وذكره ابن عطية (4/ 61) ، وابن كثير (3/ 364) ، والسيوطي (5/ 205) ، وعزاه لابن جرير عن قتادة. (2) ذكره ابن عطية (4/ 261) . (3) في ج: وجعل.

[سورة النمل (27) : الآيات 45 إلى 53]

سليمانَ عليه السلام تَزَوَّجَهَا عند ذلك، وأسكنها الشام قاله الضحاك «1» . وقيل: تزوجَها وردَّها إلى ملكها باليمنِ وكان يأتيها على الريح كلَّ شَهْرٍ مَرَّةً، فوَلَدَتْ له غلاماً سمَّاه داودَ مات في حياته. ورُوِيَ أن سليمانَ لما أراد زوالَ شَعْرِ ساقَيْهَا أمر الجنَّ بالتَّلَطُّفِ في زوالِه، فصنَعوا النُّورَةَ «2» ولم تَكُنْ قَبْلٌ، وصنعوا الحمّام. [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ... الآية، تمثيل لقريش، وفَرِيقانِ: يريد بهما مَنْ آمنَ بصالِح. وَمَنْ كفَر به. واختصامهُم هُو تنازُعُهم. وقد ذكر تعالى ذلك في سورة الأعراف، ثم إن صالحاً- عليه السلام- ترفّق بقومه ووقفهم على خطئهم في استعجالهم العذابَ قبل الرحمة. أو المعصيةَ لله قبل الطاعة، ثم أجابوه بقولهم: اطَّيَّرْنا بِكَ أي: تشاءمنا بك. تِسْعَةُ رَهْطٍ هُمْ رجالٌ كانوا من أوجُهِ القوْمَ وأعْتَاهُمْ وهم أصحاب قدار، والمدينةُ مُجْتَمَعُ ثمودَ وقَرْيَتِهُم. وقوله تعالى: تَقاسَمُوا. قال الجمهور: هو فعل أمر، أشَار بعضُهم على بعضٍ بأن يَتحَالَفُوا على هذا الفعل بصالح، وحكَى الطبريُّ «3» أَنه يجوز أن يكونَ تقاسموا فِعْلاً ماضِياً في موضعِ الحالِ، كأنه قال: متقاسِمينَ أو متحالفِين بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهلَه، وتؤيِّدِه «4» قراءةُ عبد الله: «ولا يصلحون تقاسموا» بإسقاطِ «قالوا» .

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 262) . (2) النّورة: الهناء، وفي «التهذيب» : النّورة من الحجر الذي يحرق ويسوّى منه الكلس ويحلق به شعر العانة. ينظر: «اللسان» 4573. (3) ينظر: «الطبريّ» (9/ 533) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 263) .

[سورة النمل (27) : الآيات 54 إلى 58]

قال ع «1» : وهذه الألفاظُ الدالةُ على قَسَمِ تجاوب باللام، وإن لم يتقدمْ قَسَمٌ ظاهرٌ، فاللامُ في لَنُبَيِّتَنَّهُ: جوابُ القَسَمِ. ورُوِيَ في قصصِ هذهِ الآيةِ أَن هؤلاءِ التسعة لمَّا كانَ فِي صَدْرِ الثلاثة الأيام بعد عَقْرِ النَّاقَةِ وَقَدَ أخبرَهُمْ صالحٌ بمجيء العذابِ، اتفق هؤلاءِ التسعةُ فَتَحَالَفُوا على أن يأتوا دارَ صالحٍ ليلاً فيقتلوه وأهلَه المُخْتَصِّينَ به، قالوا: فإن كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحقُّ، وإن كانَ صادقاً كنَّا قد عجّلناه قبلنا وشفينا به نفوسنا، فجاؤوا واخْتَفَوْا لذلك في غارٍ قريبٍ من داره، فروي أنّه انحدرت عليهم صخرة 53 ب شَدَخَتْهُم جميعاً/، ورُوِيَ أنَّها طَبَّقَتْ عليهمُ الغَارَ فَهَلَكوا فيه حينَ هَلَكَ قَوْمُهُمْ، وكلُّ فَريقٍ لا يَعلم بِما جَرَى على الآخِرَ، وقَدْ كانوا بنوا على جحودِ الأمر من قرابةِ صالحٍ، ويعني بالأهل كلَّ مَنْ آمنَ بهِ قاله الحسن «2» . وقوله سبحانه: وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قال ابن العربيّ الحاتميّ: المكر إرداف النّعم مع المخالفةِ وإبقاءِ الحالِ معَ سُوءِ الأدَب، انتهى من شرحه لألفاظ الصوفية. والتدميرُ: الهلاكُ وخاوِيَةً مَعْنَاهُ: قَفْرا، وهذه البيوتُ المشارُ إليهَا هِي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلّم عَامَ تَبُوكَ: «لاَ تَدْخَلُوا بُيُوتَ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» «3» . الحديثُ في «صحيحِ مُسْلِمٍ» وغيره. [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) وقوله تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تقدمَ قصصُ هؤلاءِ القومِ، وتُبْصِرُونَ معناه: بقلوبكم. قال أبو حيان «4» : وشَهْوَةً مفعولٌ منْ أجله، انتهى. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لَعَنَ الله مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» «5» . رواه أبو داود والترمذيّ والنسائيّ

_ (1) ينظر «المحرر» (4/ 264) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 264) . (3) تقدم تخريجه في سورة الحجر. [.....] (4) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 83) . (5) أخرجه ابن حبان (53- موارد) من حديث ابن عباس مرفوعا: بلفظ: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن-

[سورة النمل (27) : الآيات 59 إلى 61]

واللفظُ له وابن ماجهْ وابنُ حِبَّان في صحيحه، انتهى من «السلاح» . [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 61] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) وقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ الآياتِ: هذا ابتداء تقريرٍ وتنبيهٍ لقريشٍ والعربِ وهو بعدُ يَعُمُّ كلَّ مُكَلَّفٍ من الناس جميعاً، وافتتح ذَلِكَ بالقولِ بحمدِه- سبحانَه- وتمجيدِه وبالسلام على عباده الذين اصطفاهم للنبوّة والإيمان، فهذا اللفظ عام لجميعهم من ولد آدم، وكأنَّ هذا صدرُ خُطْبَةٍ للتقريرِ المذكورِ، قالتْ فرقة: وفي الآية حذْفُ مضافٍ في موْضِعَيْن، التقدير: أتوحيدُ اللهِ خيرٌ أم عبادةٌ ما تشركونَ، ف «ما» ، على هذا: موصولةٌ بمعنى: الذي، وقالت فرقة: «ما» مصدريةٌ، وحذفُ المضافِ إنما هو أولاً تَقْديرُه: أتوحيدُ الله خير أم شركُكُمْ. ت: ومِنْ كلاَم الشيخ العارفِ بالله أَبى الحسن الشاذليِّ قَال- رحمه الله-: إن أردتَ أَن لا يصدأَ لكَ قلبٌ ولا يلحقك همٌّ ولا كربٌ ولا يبقَى عليكَ ذنبٌ- فأكْثِرْ من قولك: «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله، اللهم ثبِّتْ عِلْمَها في قلبي، واغفر لي ذنبي، واغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ، وقل الحمد للَّه وسلام على عباده الذين اصطفى» انتهى. وقوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ وما بعدها من التقريراتِ توبيخٌ لهم وتقريرٌ على ما لا مَنْدُوحَةَ عن الإقرارِ به، و «الحدائق» مُجْتَمع الشجرِ من الأعنابِ والنَّخِيل وغير ذلك، قال قوم: لا يقال حديقةٌ إلا لِمَا عليه جدارٌ قد أحدق له. وقال قوم: يقال ذلك كان جدارٌ أو لم يَكُنْ لأَن البَيَاضَ مُحْدِقٌ بالأشجار، والبهجةُ الجمالُ والنَّضَارَة. وقوله سبحانه: مَّا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي: ليس ذلك في قدرتكم،

_ - الله من غير تخوم الأرض، ولعن الله من كمه أعمى عن السبيل، ولعن الله من سب والديه، ولعن الله من تولى غير مواليه، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط» .

[سورة النمل (27) : الآيات 62 إلى 66]

ويَعْدِلُونَ يجوز أن يرادَ به: يعدِلُونَ عن طريق الحقِّ، ويجوزُ أَنْ يُرَادَ به يَعْدِلُونَ باللهِ غيره، أي: يجعلون له عديلا ومثيلا، وخِلالَها مَعْنَاه: بَيْنها، والرواسي: الجبال، والبحرانِ/: الماءُ العذبُ والماءُ الأجاج على ما تقدم، والحاجز: ما جَعَلَ الله بيْنَهما مِنْ حَوَاجِز الأرْضِ وموانِعها على رِقَّتِها في بعض المواضع، ولطافتِها لولا قدرة الله لغلب المالح العذب. [سورة النمل (27) : الآيات 62 الى 66] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وقوله سبحانه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ ... الآية، وعن حبيب بن مسلمة «1» الفهري وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لاَ يَجْتَمِعُ مَلأٌ فَيَدْعُوَ بَعْضُهُمْ وَيُؤَمِّنُ بَعْضُهُمْ إلاَّ أَجَابَهُمْ اللهُ تعالى» «2» ، رواه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «سلاح المؤمن» ، وعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ» «3» رواه الترمذيُّ وهذا لفظه. قال «صاحب السلاح» : ورواه الحاكمُ في «المستدرك» وقال: مستقيمُ الإسناد، انتهى. والسُّوءَ عامٌّ في كل ضرُّ يَكْشِفُه اللهُ تعالى عن عبادِه، قال ابن عطاء الله: ما طُلِبَ لَك شيءٌ مثلَ الاضْطِرَارِ، ولا أسْرَع بالمواهِب لكَ مثلَ الذِّلةِ والافتقارِ، انتهى. و «الظلماتُ» عام لظلمةِ الليل ولظلمةِ الجهل والضلال، والرزق من

_ (1) في أ: مسلمة. (2) أخرجه الحاكم (3/ 347) ، والطبراني في «الكبير» (4/ 21- 22) رقم (3536) كلاهما من طريق أبي عبد الرحمن المقري: ثنا ابن لهيعة، حدثني ابن هبيرة، عن حبيب بن مسلمة الفهري به. وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 20) : رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث. (3) أخرجه الترمذيّ (5/ 517- 518) كتاب الدعوات: باب (66) حديث (3479) ، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 368) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 356) من طريق صالح المري عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

[سورة النمل (27) : الآيات 67 إلى 82]

السماءِ هو بالمطر ومن الأرض بالنبات هذا هو مشهور ما يحُسُّه البشرُ، وكم للَّهِ بَعْدُ مِنْ لُطْفٍ خَفِي. ثم أمرَ تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنْ يُوقِفَهُمْ عَلَى أَنَّ الغَيبَ مِما انفَرَدَ الله بعلمِه ولذلكَ سُمِّي غَيْباً لغيبِه عن المخلوقين. رُوِيَ: أنَّ هذهِ الآيةَ مِن قوله: قُلْ لاَّ يَعْلَمُ إنما نَزَلَتْ لأَجْلِ سؤالِ الكفّارِ عن السَّاعَةِ الموعودِ بِهَا، فجاءَ بلفظ يَعُمَّ السَّاعَةَ وغيرَها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون إيان يبعثون. ص: أَيَّانَ اسم استفهامٍ بمعنى: متى، وهي معمولةً ل يُبْعَثُونَ، والجملة في موضع نصب ب يَشْعُرُونَ، انتهى. وقرأ جمهور القراء: بَلِ ادَّارَكَ أصله: تَدَارَكَ. وقرأ عاصم «1» في رواية أبي بكر: «بل ادرك» على وزن افتعل، وهي بمعنى: تَفَاعَلَ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «بَلْ أَدْرَكَ» وهذه القراءاتُ تحتملُ مَعْنَيَيْن: أحدهما: ادَّرَكَ علمُهم، أي: تَناهى، كما تقول ادَّركَ النباتُ، والمعنى: قد تَنَاهى علمهُم بالآخرة إلى أَن لا يعرفوا لها مقداراً، فيؤمنوا وإنما لهم ظنونٌ كاذبةٌ، أو إلى أن لا يعرفوا لها وقْتاً، والمعنى الثاني: بل ادَّرَكَ بمعنى: يُدْرِك أي أنهم في الآخرة يُدْرِكُ علمُهم وقتَ القيَامَةِ، ويرونَ العذابَ والحقائقَ التي كذَّبوا بها، وأمَّا في الدنيا فلا، وهذا هو تأويل ابن عباس «2» ، ونحا إليه الزجاج «3» ، فقوله: فِي الْآخِرَةِ على هذا التأويل: ظَرْفٌ وعلى التأويل الأول: فِي بمعنى الباء. ثم وَصَفَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بأنهم في شكٍ منها، ثم أردف بصِفَةِ هي أبلغُ من الشَّكِ وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، وعَمُونَ: أصله: (عميون) فعلون كحذرون. [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 82] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)

_ (1) ينظر: «السبعة» (485) ، و «الحجة» (5/ 400) ، و «إعراب القراءات» (2/ 161) ، و «معاني القراءات» (2/ 243) ، و «شرح الطيبة» (5/ 115) ، و «العنوان» (145) ، و «حجة القراءات» (535) ، و «شرح شعلة» (530) ، و «إتحاف» (2/ 333) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 8) رقم (27068- 27069- 27070- 27071) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 268) ، وابن كثير (3/ 373) بنحوه، والسيوطي (5/ 214) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس بنحوه. (3) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 127) .

وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، هذه الآية معنَاها واضحٌ مما تَقَدَّمَ في غيرها. ثم ذكر- تعالى- استعجالَ كفارِ قريشٍ أمْرَ السَّاعَةِ والعذابَ بقولِهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ على معنى التعجيز، ورَدِفَ مَعْنَاه: قَرُبَ وأزِفَ قاله ابن عباس «1» وغيرُه، ولكنَّها عبارةٌ عَما يجيءُ بعدَ الشيء قريباً منه، والهاءُ في غائِبَةٍ للمبَالَغَةِ، أي مَا مِنْ شَيْءٍ في غايةِ الغَيْبِ والخفاءِ إلاَّ فِي كِتَابٍ عِندَ اللهِ وفي مكنونِ علمِه، لا إله إلا هو. ثم نبّه- 54 ب تعالى- على أنَّ/ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل أكثر الأشياءِ التي كان بينهُم اختلافٌ في صِفَتِها، جاء بها القرآن على وجهها، وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كما أنه عمَىً على الكافرين المحتومِ عليهم، ثم سلَّى نبيَّه بقوله: إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى فشبَّهَهُمْ مرةً بالموتى، ومرةً بالصُّمِّ من حيث إنَّ فائدةَ القولِ لهؤلاءِ مَعْدُومَةٌ. وقرأ حمزة «2» : «وَمَا أَنتَ تَهْدِي العمي» بفعلٍ مستقبل، ومعنى قوله تعالى وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ، أي: إذا انْتَجَزَ وعدُ عذابِهمُ الذي تَضَمَّنَه القولُ الأزلي من الله في ذلك، وهذا بمنزلة قوله تعالى: حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 71] ، فمعنى الآية وإذا أراد اللهُ أن يُنْفذَ في الكافرينَ سَابقَ عِلمِهِ لَهُم من العذابِ أخْرَجَ لهم دابَّةً من الأرض، ورُوِيَ أَن ذلك حين ينقطعُ الخيرُ، ولا يؤمَر بمعروف، ولا يُنْهى عن منكر، ولا يِبْقَى مَنيبٌ ولا تائبٌ،

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 10) رقم (27077- 27078) بنحوه، وابن عطية (4/ 269) ، وابن كثير (3/ 373) بنحوه، والسيوطي (5/ 215) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ينظر: «السبعة» 486، و «الحجة» (5/ 404) ، و «إعراب القراءات» (2/ 163) ، و «معاني القراءات» (2/ 246) ، و «شرح الطيبة» (5/ 116) ، و «العنوان» (146) ، و «شرح شعلة» (530) ، و «إتحاف» (2/ 334) .

ووَقَعَ عبارةٌ عن الثبوت واللُّزُوم، وفي الحديث: أن الدابةَ وطلوعَ الشمسِ من المغْرِب مِنْ أولِ الأشراط، وهذه الدَّابَّةُ رُوِيَ أنَّها تَخْرُجُ من الصَّفَا بمكَّةَ قاله ابن عمر «1» وغيره، وقيل غيرُ هذا. وقرأ الجمهور «2» : تُكَلِّمُهُمْ من الكلام. وقرأ ابن عباس «3» وغيرُه: تُكَلِّمُهُمْ- بفَتْحِ التاءِ وتخفيفِ اللام-، من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ، وسئل ابن عباس عن هذه الآية «تكلمهم أو تكلمهم» ؟ فقال: كل ذلك، واللهِ تفعلُ: تُكَلِّمُهُمْ وَتَكْلُمُهُمْ، وروي أنها تَمُرُّ على الناسِ فَتَسِمُ الكافرَ فِي جبهتِه وتَزْبُرُهُ وتَشْتُمُه وربما خَطَمَتْه، وَتَمْسَحُ على وجهِ المؤمنِ فتبيضه، ويعرفُ بعدَ ذلكَ الإيمانُ والكفرُ مِن أثرها، وفي الحديث: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى، فَتَجْلُو وُجُوهَ المؤمِنِينَ بالعَصَا وتَخْتِمُ أَنْفَ الكَافِرِ بِالخَاتِمِ، حَتَّى أنَّ النَّاسَ لَيَجْتَمِعُونَ، فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذا: يَا كَافِرُ» «4» . رواه البَزَّار، انتهى من «الكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ» . وقرأ الجمهور: «إنَّ النَّاسَ» - بكسر «إن» . وقرأ حمزةُ «5» والكسائيّ وعاصمٌ: «أنَّ» بفتحها. وفي قراءة عبد الله «6» : «تُكَلِّمُهُمْ بَأَنَّ» ، وعلى هذه القراءة فيكونُ قوله: أَنَّ النَّاسَ إلى آخرها مِنْ كلامِ الدابَّةِ، وروي ذلك عن ابن عَبَّاس. ويحتملُ أَنْ يكون من كلام الله تعالى.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 270) ، ولم يعزه لأحد. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 271) ، و «البحر المحيط» (7/ 91) ، و «الدر المصون» (5/ 327) . (3) وقرأ بها سعيد بن جبير، ومجاهد، والجحدري، وأبو زرعة، وعمرو بن جرير. ينظر: «مختصر الشواذ» ص 112، و «المحتسب» (2/ 144) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 271) ، و «البحر المحيط» (7/ 92) ، و «الدر المصون» (5/ 328) . [.....] (4) وهم المؤلف في هذا الحديث، حيث إنه عزا هذا الحديث للبزار، وهو عند من هو أشهر من البزار، فقد أخرجه الترمذيّ (5/ 340) كتاب التفسير: باب ومن سورة النحل، حديث (3187) ، وابن ماجه (2/ 1351- 1352) كتاب الفتن: باب دابة الأرض، حديث (4066) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب. (5) ينظر: «السبعة» (486- 487) ، و «الحجة» (5/ 406) ، و «إعراب القراءات» (2/ 164) ، و «معاني القراءات» (2/ 246) ، و «العنوان» (146) ، و «حجة القراءات» (538) ، و «إتحاف» (2/ 335) . (6) ينظر: «الشواذ» ص 112، و «المحتسب» (2/ 145) ، و «الكشاف» (3/ 385) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 271) ، و «البحر المحيط» (7/ 92) ، و «الدر المصون» (5/ 328) .

[سورة النمل (27) : الآيات 83 إلى 87]

[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 87] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً: هو تذكيرٌ بيومِ القيامةِ، والفوجُ: الجماعة الكثيرة، ويُوزَعُونَ معناه: يكفّون في السوق، يَحْبِسُ أولُهُم عَلى آخرهم «1» قاله قتادة، ومنه وَازَع الجيشَ، ثم أخبر- تعالى- عن توقيفِه الكفرةَ يومَ القيامةِ وسؤالِهم على جهة التوبيخ: أَكَذَّبْتُمْ ... الآية، ثم قال: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على معنى استيفاء الحُجَجِ، أي: إن كان لكم عملٌ أو حُجَّةٌ فهاتوها. ثم أخبر عن وقوع القول عليهم، أي: نفوذُ العذابِ وحَتْمُ القَضَاءِ وأنهم لا ينطقونَ بحجَّةٍ، وهذا في موطن من مواطِنِ القيامةِ. ولما تكلَّم المحاسِبيُّ على أهوال القيامة، قال: واذكر الصراط بدقّته وهوله وزلَّتِه وعَظِيم خطره وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا له مِنْ مَنظرٍ ما أفْظَعَهُ وأهْوَلَهُ، فتَوهَّمْ ذلِكَ بقلبٍ فارغٍ، وعقلٍ جامعٍ، فإن أهوالَ يومِ القيامةِ إنما خَفَّتْ علَى الذِينَ تَوَهَّمُوهَا في الدنيا بعقولهم، فتحملوا في الدنيَا الهُمُومَ خَوْفاً مِن مَقامِ رَبِّهِمْ، فَخَفَّفَها مَوْلاَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْهم، انتهى من «كتاب التوهم» . وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وهو القَرْنُ في قول جمهور الأمة، وصاحب الصور هو 55 أإسرافيل- عليه السلام-، وهذه النفخةُ المذكورة هنا هي نفخة/ الفَزَع، ورَوى أبو هريرةَ «2» أنها ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفَزَعِ، وهو فزع حياةِ الدُّنيَا وليْسَ بالفَزَع الأكْبَرِ، ونفخةُ الصَّعْقِ، ونفخةُ القيام من القبور. وقالت فرقة: إنما هما نفختان: كأنهم جَعَلُوا الفَزَعَ والصَّعْقَ في نفخةٍ وَاحِدَةٍ مستدلين بقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ... الآية [الزمر: 68] . قالوا: وأخرى لا يقال إلا في الثانية. قال ع «3» : والأول أصحُّ، وأخرى يقال في الثالثةِ، ومنه قوله تعالى: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. [النجم: 20] . وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ استثناءٌ فيمن قَضَى الله سبحانه مِنْ ملائكتِه، وأنبيائه، وشهداءِ عبيدِه أن لا ينالهم فزعُ النَّفْخِ في الصورِ، حَسَبَ ما ورد في ذلك من الآثار.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 17) رقم (27113) ، وذكره ابن عطية (4/ 271) ، وابن كثير (3/ 376) بنحوه. (2) ذكره ابن عطية (4/ 272) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 272) .

[سورة النمل (27) : الآيات 88 إلى 90]

قال ع «1» : وإذا كان الفزعُ الأَكْبَرُ لاَ ينالهُم فَهُمْ حَرِيُّونَ أن لا ينالَهم هَذا. وقرأ حمزة «2» : «وَكُلُّ أَتَوْهُ» على صيغة الفعل الماضي، والدَّاخِرُ: المُتَذَلِّلُ الخاضِعُ، قال ابن عباس وابن زيد: الداخرُ: الصاغرُ، وقد تظاهرَتِ الرواياتُ بأنَّ الاستثناءَ فِي هذِه الآيةِ إنما أريد به الشهداءُ: لأنهم أحياءٌ عند ربهم يُرْزَقُونَ، وهم أهلٌ للفزعِ لأنَّهُمْ بشر لكن فُضِّلُوا بالأمن في ذلك اليوم. ت: واختار الحليميُّ هذا القولَ قال: - وهو مروي عن ابن عباس-: إن المستَثْنَى هم الشهداء. وضعَّفَ ما عداه من الأقوال، قال القرطبي «3» ، في «تذكرته» : وَقَدْ وَرَدَ في حديث أبي هريرة بِأَنَّهُمُ الشهداء وهو حديث صحيح «4» ، انتهى. [سورة النمل (27) : الآيات 88 الى 90] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) وقوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ... الآية، هذا وصفُ حالِ الأشياءِ يومَ القيامةِ عَقِبَ النَّفْخِ في الصُّورِ، والرؤية: هي بالعَيْن، قال ابن عباس: جامدةً «5» : قائمةً، والحَسَنَةُ الإيمانُ، وقال ابن عباس وغيره: هي «لا إله إلا الله» «6» ورُوِيَ عَنْ علي بن الحسين أنه قال: كُنْتُ في بعض خَلَواتِي فَرفَعْتُ صَوْتي: ب «لا إله إلا الله» فسمعتُ قائلاً يقول: إنها الكلمةُ التي قال الله فيها: «من جاء بالحسنة فله خير منها» «7» .

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 272) . (2) وبها قرأ حفص عن عاصم. وقرأ الباقون بالمد «آتوه» اسم فاعل، واحتجوا بقوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم: 95] . ينظر: «الحجة» 5/ 406، و «السبعة» (487) ، و «إعراب القراءات» (2/ 165) ، و «معاني القراءات» (2/ 247) ، و «شرح الطيبة» (5/ 117) ، و «العنوان» (146) ، و «حجة القراءات» (538) ، و «شرح شعلة» (531) ، و «إتحاف» (2/ 335) . (3) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (1/ 233) . (4) هو موقوف عن أبي هريرة. ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 221) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير. (5) أخرجه الطبريّ (10/ 21) رقم (27124) ، وابن عطية (4/ 273) ، والسيوطي (5/ 221) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (6) أخرجه الطبريّ (10/ 22) رقم (27131) ، وذكره ابن عطية (4/ 273) ، والسيوطي (5/ 223) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس. (7) ذكره ابن عطية (4/ 273) ، وابن كثير (3/ 378) .

[سورة النمل (27) : الآيات 91 إلى 93]

وقال ابن زيد: يُعْطَى بالحَسَنَةِ الواحدةِ عَشْراً «1» . قال ع «2» : والسيئةُ التي في هذه الآية هي الكُفْر والمَعَاصِي. فيمن حتَّم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار. [سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) وقوله: إِنَّما أُمِرْتُ المعنى: قل يا محمد لقومك: إنما أمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة، يعني: مكة، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ معناه: تَابعْ فِي قراءتِك، أي: بَيْنَ آياتِه واسْرُدْ. قال ص: وَأَنْ أَتْلُوَا معطوفٌ على «أَنْ أَكُونَ» . وقرأ عبد الله «3» : «وَأَنِ اتل» بغير واو وقوله: وَمَنْ ضَلَّ جوابُه محذوفٌ يدلُّ عليه ما قبلَه، أي: فَوَبَالُ ضلالهِ عَلَيْهِ، أو يكونَ الجوابُ: فَقل، ويُقَدَّرُ ضميرٌ عائدٌ من الجوابِ على الشرط لأنه اسمٌ غَيرُ ظَرْفٍ، أي: من المنذرين له، انتهى. وتلاوة القرآن سببُ الاهتداءِ إلى كل خير. وقوله تعالى: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ توعُّدٌ بعذابِ الدُّنيَا كَبَدْرِ ونَحوه، وبعذاب الآخرة. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيدٌ.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 23) رقم (27151) ، وذكره ابن عطية (4/ 273) . [.....] (2) ينظر: «المحرر» (4/ 274) . (3) ينظر: «الشواذ» ص 112، و «الكشاف» (3/ 389) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 274) ، و «البحر المحيط» (7/ 96) ، و «الدر المصون» (5/ 330) .

تفسير"سورة القصص"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله تفسير «سورة القصص» وهي مكّيّة إلّا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ فإنّها نزلت بالجحفة في وقت هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة قاله ابن سلام وغيره، وقال مقاتل: فيها من المدني: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ. [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) / قوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى ... 55 ب الآية، معنى نَتْلُوا: نَقُصُّ وخَصَّ تعالى بقوله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ من حيث إنهم هم المنْتَفِعُونَ بذلك دون غيرهم، وعَلا فِي الْأَرْضِ أي: علوّ طغيان وتغلّب، وفِي الْأَرْضِ يريد أرض مصر، والشيعُ: الفرقُ، والطائفةُ المستضعفةُ: هم بنو إسرائيل، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ خوفَ خرابِ مُلْكِه على ما أخبرته كَهَنَتُه، أو لأجل رؤيا رآها قاله السدي «1» . وطمع بجهله أن يَرُدَّ القدرَ، وأين هذا المنزعُ من قول النبي صلى الله عليه وسلّم لعمر: «إن يكنه

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 27) رقم (27160) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 276) .

فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْهُ، فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» «1» يعني: ابنَ صَيَّادٍ إذ خافَ عمرُ أَن يكونَ هو الدَّجَّالَ، وباقي الآيةِ بيِّن وتقدَّم قصصُه. والأئمة: ولاة الأمور قاله قتادة «2» . وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ يريدُ: أرضَ مصرَ والشامِ، وقرأ حمزة «3» : «وَيَرَى فِرْعَوْنُ» - باليَاء وفتح الراء- والمعنى: ويقعُ فرعونُ وقومُه فيما خافُوه وحذِرُوه من جهة بني إسرائيل، وظهورهم، وهامان: هو وزيرُ فرعونَ وأكبَرُ رجالِه، وهذا الوَحْي إلى أم موسى، قيل: وَحْيُ إلهامٍ، وقيلَ: بمَلَكٍ. وقيل: في مَنَامٍ وجملة الأمرِ أنها عَلِمَتْ أنَّ هذا الذي وقع في نفسِها هو من عند الله، قال السدي وغيره: أُمِرَتْ أن تُرْضِعَهُ عَقِبَ الوِلاَدَةِ، وَتَصْنَعَ بهِ مَا فِي الآية «4» لأَن الخوفَ كانَ عَقِبَ كلِّ وِلاَدَة، واليمُّ: معظم الماء، والمرادُ: نِيلُ مِصر، واسم أم موسى يوحانذ «5» ، ورُوِيَ في قَصَصِ هذهِ الآيةِ: أن أمَّ مُوسَى لَفَّتْهُ في ثِيابهِ وَجَعَلَتْ له تابوتاً صَغِيراً، وسَدَّتْه عليه بقُفْلٍ، وعَلَّقَتْ مِفْتَاحَه عَلَيْه، وأسلمَتْهُ ثقةً بالله وانتظاراً لوعدِه سبحانه، فلما غابَ عنها عاودَها بثُّها وأَسِفَتْ عليه، وأَقْنَطَهَا الشيطانُ فاهْتَمَّتْ به وكَادَتْ تَفْتَضِحُ، وجعلتِ الأُخْتُ تَقُصُّهُ، أي: تَطْلُبُ أثَرَه، وتَقَدَّم باقي القصةِ في «طه» وغيرِها، والالتقاط: اللقاء عن «6» غير قصد، وآل فِرْعَوْنَ: أهله وجملتُه، واللامُ في لِيَكُونَ: لام العَاقِبَة. وقال ص: لِيَكُونَ: اللامُ للتعليلِ المجازيِّ، ولمَّا كانَ مآله إلى ذلك، عبَّر عنه بلام العاقبة، وبلام الصيرورة، انتهى.

_ (1) أخرجه البخاري (10/ 576- 577) كتاب الأدب: باب قول الرجل للرجل: اخسأ، حديث (6173- 6174- 6175) ، ومسلم (4/ 2244- 2245) كتاب الفتن: باب ذكر ابن صياد، حديث (95/ 2930) من حديث عمر. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 28) رقم (27166) ، وذكره ابن عطية (4/ 276) ، والسيوطي (5/ 227) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة. (3) ينظر: «السبعة» (492) ، و «الحجة» (5/ 441) ، و «إعراب القراءات» (2/ 168) ، و «معاني القراءات» (2/ 249) ، و «شرح الطيبة» (5/ 120) ، و «العنوان» (147) ، و «حجة القراءات» (541) ، و «شرح شعلة» (532) ، و «إتحاف» (2/ 340) . (4) أخرجه الطبريّ (10/ 29- 30) رقم (27173) ، (27176) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 276- 277) . (5) في أ: يوحاتة. (6) في أ: من.

[سورة القصص (28) : الآيات 10 إلى 14]

وقرأ حمزة، والكسائي «1» «وحْزُناً» - بضمِّ الحاءِ وسكونِ الزاي-، والخاطئ: متعمد الخطإ، والمخطئ الذي لا يتعمده. وقوله: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أي: بأنه هو الذي يَفْسَدُ ملكُ فرعونَ على يده قاله قتادة «2» وغيره. [سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 14] وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي: فارِغاً من كلِّ شيء إلا من ذكر موسَى «3» . قاله ابن عباس. قال مالك: هو ذَهَابُ العَقْلِ، وقالت فرقة: فارِغاً من الصبر. وقوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي: أَمرِ ابنها، وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: كادتْ أُمُّ مُوسَى أن تَقُول: «وابناه وَتَخْرُجَ سَائِحَةً عَلَى وَجْهِهَا» . والرَّبْطُ على القلبِ: تأنيسُه وتقويَتُه، ولِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: من المُصَدِّقين بوعدِ اللهِ سبحانه وما أوحي إليها به، وعَنْ جُنُبٍ أي: ناحيةٍ، فمعنى عَنْ جُنُبٍ: عن بُعْد لَمْ تَدنُ مِنْهُ فَيُشْعَرَ لها. وقوله: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ معناه: أنها أختُه، ووعدُ الله المشار إليه هو الذي أوحاه إليها أولاً، إمَّا بمَلَكٍ/ أو بمَنَامَةٍ، حسْبَمَا تَقَدَّمَ، والقَوْلُ بالإلْهَامِ ضعيف أن يقال 56 أفيه وعدٌ. وقوله: أَكْثَرَهُمْ يريد به القِبْطَ، والأَشُدُّ: شدة البدن واستحكام أمره وقوته،

_ (1) ينظر: «السبعة» (492) ، و «الحجة» (5/ 412) ، و «إعراب القراءات» (2/ 168) ، و «معاني القراءات» (2/ 249) ، و «شرح الطيبة» (5/ 121) ، و «العنوان» (147) ، و «حجة القراءات» (542) ، و «شرح شعلة» (532) ، و «إتحاف» (2/ 341) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 34) رقم (27192) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 278) ، والسيوطي (5/ 228- 229) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 35) رقم (27201) ، وذكره ابن عطية (4/ 278) ، وابن كثير (3/ 381) ، والسيوطي (5/ 229) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس.

[سورة القصص (28) : الآيات 15 إلى 24]

واسْتَوى معناه: تَكَامَلَ عَقْلُه، وذلك عند الجمهور مع الأربعين. والحكمُ: الحِكْمَةُ، والعلمُ: المَعرِفَةُ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام. [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 24] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) وقوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها. قال السدي: كان موسى في وقتِ هذه القصةِ على رَسْمِ التعلُّقِ بفرْعَونَ، وكان يَرْكَبُ مَرَاكِبَه حتى إنه كان يُدْعَى مُوسَى بنَ فِرْعَوْنَ «1» ، فركب فرعونُ يوماً وسارَ إلى مدينةٍ من مدائنِ مِصْرَ، فركبَ مُوسَى بَعْدَه ولَحِق بتلكَ المدينَةِ في وقتِ القائِلة، وهو حينُ الغَفْلَة قاله ابن عباس «2» ، وقال أيضاً: هو بين العِشَاء والعَتَمَة، وقيل غيرُ هذا «3» . وقوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي من بني إسرائيل، وعَدُوِّهِ هم القِبْطُ، و «الوَكْزُ» : الضَّرْبُ باليدِ مجموعةً، وقرأ ابن مسعود «4» : «فَلَكَزَهْ» والمعنى: واحد إلا أن اللَّكْزَ في اللَّحْيِ، والوَكْزَ علَى القَلْبِ، وفَقَضى عَلَيْهِ معناه: قتله مجهزا، ولم يرد

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 42) رقم (27252) ، وذكره البغوي (3/ 438) ، وابن عطية (4/ 280) ، والسيوطي (5/ 231) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي. (2) ذكره ابن عطية (4/ 280) . [.....] (3) ذكره ابن عطية (4/ 280) . (4) ينظر: «الشواذ» ص 114، و «الكشاف» (3/ 498) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 280) ، و «البحر المحيط» (7/ 105) ، و «الدر المصون» (5/ 335) .

- عَلَيْهِ السلامُ- قَتَلَ القِبْطِيِّ، لَكِنْ وَافَقَتْ وَكْزَتُهُ الأجل فندم، ورأى أنّ ذلك من نزغ الشيطان في يده، ثم إن نَدَامَةَ موسى عليه السلام حَمَلَتْهُ على الخُضُوعِ لربِّه والاسْتِغْفَارِ من ذنبه، فغفر الله له ذلك، ومع ذلك لَم يَزَلْ عليه السلام يُعيد ذلك على نفسه مع علمه أَنه قَد غُفِر له، حتى إنَّهُ في القِيَامِةِ يَقُولُ: «وَقَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أُومَرْ بقَتْلِهَا» حَسْبَمَا صَحَّ فِي حدِيثِ الشفاعة، ثم قال موسى- عليه السلام- معاهداً لربه: رَبِّ بنعمتِكَ عليّ وبسبب إحسانِك وغُفْرانِك، فأنا مُلْتَزِمٌ أَلاَّ أكون مُعِيناً للمجرمين هذا أحسن ما تأول. وقال الطبري «1» : إنه قَسَمٌ أقسم بنعمة اللهِ عندَه. قال ع «2» : واحتج أهلُ الفضلِ والعلمِ بهذهِ الآيةِ في مَنْعِ خِدْمَة أهل الجَوْرِ ومَعُونَتِهم في شيء من أمورهم، ورأوا أنها تَتَنَاوَلُ ذلكَ نص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره. قال ابن عباس: ثم إنَّ مُوسَى- عليه السلام- مرَّ وَهُوَ بحالةِ التَّرَقُّبِ وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قَاتَلَ القبطيَّ بالأَمسِ يُقاتِلُ آخرَ مِن القِبْطِ «3» ، وكان قَتَلُ القبطيّ قد خفي على الناس واكْتَتَم، فلما رأَى الإسرائيلي موسى، استصرخه، بمعنى صاحَ بهِ مستغيثاً فلما رأى موسى- عليه السلام- قِتَالهُ لآخرَ أعظم ذلكَ وقال له مُعَاتباً ومُؤَنِّباً: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ وكانت إرادة موسى- عليه السلام- مع ذلك، أن ينصرَ الإسرائيلي، فلما دنا منهما، وحبس الإسرائيلي وفَزَعَ منه، وظن أنه ربما ضَرَبَه، وفزع من قوتِهِ التي رأى بالأمس، فناداه بالفضيحةِ وشهَّر أمرَ المقتُولِ، ولما اشْتَهِرَ أنَّ مُوسَى قَتَل القَتِيلَ، وكان قول الإسرائيلي يَغْلِبُ على النفُوسِ تصديقُه على موسَى، مَعَ ما كانَ لِمُوسَى مِنَ المقدِّمَاتِ أتى رأي فرعون وملئه علَى قَتْلِ مُوسَى، وغَلَبَ على نفسِ فرعون أنه المشارُ إليه بفَسَادِ المَمْلَكَةِ، فأنْفَد فيهِ مَنْ يطلُبه ويأْتي بهِ للقَتْلِ، وألْهَمَ اللهُ رَجُلاً يقالُ إنه مؤمِنٌ مِن آل فرعَونَ أو غيره، فجاء إلى موسَى وبَلَّغَهُ قبلَهُم ويَسْعى / معناه: يسرع في مشيه قاله 56 ب الزجاج «4» وغيره، وهو دون الجري، فقال: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ... الآية. ت قال الهروي: قوله تعالى: يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي: يؤامُرُ بعضهم بعضا في

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (10/ 46) . (2) ينظر: «المحرر» (4/ 281) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 47) رقم (27277) ، وذكره البغوي (3/ 440) ، وابن عطية (4/ 281) . (4) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 138) .

قَتلِك، وقال الأزهري: الباءُ في قوله: يَأْتَمِرُونَ بِكَ بمعنى: «في» يقال: ائتَمَرَ القومُ إذا شَاوَرَ بَعْضُهمْ بَعْضاً، انتهى. وعن أبي مجلز- واسمه لاحق بن حميد- قال: من خاف من أمير ظُلُماً فقال: رضيت بالله رَبّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً وبالقرآن حَكَماً وإماماً، نجَّاه الله منه رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» ، انتهى من «السلاح» . وتِلْقاءَ معناه نَاحِيَةَ مدين، وبينَ مِصرَ ومَدْيَنَ مسيرةَ ثَمانِيَةَ أيامٍ، وكانَ مُلْكُ مدين لغير فرعونَ، ولما خَرَجَ عليه السلام فارّاً بنفسهِ منفرداً حافياً لا شيءَ معه ولا زادَ وغيرَ عارفٍ بالطريقِ أسْنَدَ أمرَه إلى اللهِ تعالى وقال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ومشى- عليه السلامُ- حتى وَرَدَ ماءَ مدينَ، وَوُرُودُهُ المَاءَ، معناه: بلُوغُه، ومدينُ: لا ينْصَرِفُ إذ هو بلدٍ معروفٌ، والأمَّة: الجمعُ الكثيرُ، ويَسْقُونَ معناه: ماشيتهم، ومِنْ دُونِهِمُ معناه: ناحيةً إلى الجهةِ الَّتي جَاء مِنها، فَوَصَل إلى المرْأَتَيْنِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلى الأمّة، وتَذُودانِ معناه: تَمْنعَانِ، وتَحْبِسَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الماءِ خوفاً من السقاة الأقوياء، وأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، أي: لا يستطيعُ لِضَعْفِهِ أن يُبَاشِرَ أمْرَ غَنَمِه. وقوله تعالى: فَسَقى لَهُما. قالت فرقة: كانت آبارهم مغطاةً بحجارةٍ كبارٍ، فَعَمَدَ إلى بِئْرٍ، وكان حَجَرُهَا لاَ يرفعُه إلاَّ جَماعَة، فَرَفَعَهُ وسقى للمرأتين. فَعَنْ رَفْعِ الصَّخْرَةِ وصِفتْه إحداهُما بالقوة، وقيل: وصفَتْه بالقوة لأنه زَحَمَ النَّاسَ وغَلَبَهُمْ عَلى المَاءِ حتى سَقَى لهما. وقرأ الجمهور «1» «يُصْدِر الرِّعَاء» - على حَذْفِ المفعولِ- تقديرُه: مواشِيَهم، وتَولّى موسى إلى الظلّ وتعرّض لسؤال ما يطعمه بقوله: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ولم يُصَرِّحْ بسؤالٍ هكَذا، رَوَى جَمِيعُ المفسرينَ أنَّه طلبَ في هذا الكلامَ ما يأكلُه، قال ابن عباس: وكان قَدْ بَلَغَ به عليه السلام الجوعُ إلى أن اخْضَرَّ لونُه من أكل البَقْل، وَرُئِيَتْ خُضْرة البقْلِ في بَطْنِهِ، وإنه لأَكْرَمُ الخلقِ يومئِذٍ على الله، وفي هذا مُعْتَبَرٌ وحاكمٌ بهَوَانِ الدُّنْيا على «2» الله تعالى، وعن معاذ بن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أكل طعاما، فقال:

_ (1) وقرأ أبو عمرو وابن عامر «حتى يصدر» . وقرأ بها الحسن وأبو جعفر. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 283) ، و «السبعة» (492) ، و «الحجة» (5/ 412) ، و «إعراب القراءات» (2/ 169) ، و «معاني القراءات» (250) ، و «العنوان» (147) ، و «حجة القراءات» (543) ، و «شرح شعلة» (533) ، و «إتحاف» (2/ 341) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 57) رقم (27342) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 441- 442) ، وابن عطية (4/ 284) ، وابن كثير (3/ 383، 384) ، والسيوطي (5/ 237) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في «المختارة» عن ابن عباس.

[سورة القصص (28) : الآيات 25 إلى 28]

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ- غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ لَبِسَ ثَوْباً، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» «1» رواه أبو داود واللفظُ له، والترمذيُّ وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح على شرط البخاريِّ، وقالَ الترمذيُّ: حسنٌ غريب، انتهى من «السلاح» . [سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 28] فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) وقوله تعالى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ ... الآية: في هذا الموضِع اختصارٌ يدلُّ عليه الظاهرُ، قدَّرَهُ ابنُ إسحاقٍ: فذهبتا إلى أبيهما فأخبرتاه بما كان من الرجل، فأمر إحدى ابنَتَيْه أنْ تدعوَه له، فجاءته، على ما في الآية/. وقوله: عَلَى 57 أاسْتِحْياءٍ أي: خَفِرَةٍ، قد سَتَرَتْ وَجْهَهَا بِكُمِّ دِرْعِها قاله عمر بن الخطاب «2» - رضي الله عنه-. وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الحياء من الإيمان والإيمان فِي الجَنَّةِ، والبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ والجَفَاءُ فِي النّار» «3» قال أبو عيسى: هذا حديث

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 440) كتاب اللباس: باب ما جاء في اللباس، حديث (4023) ، والترمذيّ (5/ 508) كتاب الدعوات: باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، حديث (3458) ، وابن ماجه (2/ 1093) كتاب الأطعمة: باب ما يقال إذا فرغ من الطعام، حديث (3285) ، وأحمد (3/ 439) ، والحاكم (1/ 507، 4/ 192) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (461) كلهم من طريق أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه به. وقال الترمذيّ: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 58) رقم (27354) ، وذكره البغوي (3/ 442) بنحوه، وابن عطية (4/ 284) ، وابن كثير (3/ 384) ، والسيوطي (5/ 238) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب. (3) أخرجه الترمذيّ (4/ 365) كتاب البر والصلة: باب ما جاء في الحياء، حديث (2009) ، وأحمد (2/ 501) ، وابن حبان (1929- موارد) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 540، 541- بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن عمرو.

حسن صحيح انتهى. والجمهورُ أن الداعِيَ لموسَى- عليه السلامُ- هو شُعَيْبُ عليه السلام وأن المرأتينْ ابنتَاه، ف قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ... الآية، فَقَام يَتْبعُهَا فَهَبَّتْ رِيحٌ ضَمَّتْ قَمِيصَها إلى بَدَنِهَا فَتَحَرَّجَ مُوسَى عليه السلام من النظر إليها فقال لها: امشي خلفي وأرشديني إلى الطريق، فَفَهِمَتْ عَنْهُ فذلك سَبَبُ وَصْفِهَا له بِالأَمَانَةِ قاله ابن عباس «1» . فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ فآنسَه بقَولهِ: لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلما فَرَغ كلامُهُمَا قالت إحدى الابنتين يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ فقال لها أبوها: ومن أين عَرَفْتِ هذا منه؟ قالت: أَمّا قوتُه فَفِي رفعِ الصَّخْرَةِ، وأمّا أمَانَتُهُ فَفِي تَحَرُّجِه عَنِ النَّظَرِ إلَيَّ قاله ابن عباس «2» وقتادة وابن زيد وغيرهم، فقال له الأَبُ عند ذلك: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ... الآية، قال ابن العربي: فِي «أحْكَامِهِ» «3» قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ يدلُّ على أنه عَرْضٌ لاَ عَقْدٌ لأنه لو كان عَقْداً، لعَيَّن المعقودَ عَلَيْهَا لأن العلماءَ وإنْ اختلفوا في جواز البيع، إذا قَال له: بعتُكَ أَحَدَ عَبْدَيَّ هذينِ بثَمَنِ كذا، فإنهم اتَّفَقُوا على أن ذلكَ لاَ يجُوزُ في النكاحَ لأنه خيارٌ وشَيْءٌ مِن الخيارِ لاَ يُلْحَقَ بالنِّكَاحِ «4» . ورُوِي أنه قال شعيبٌ: أَيَّتُهما تُرِيد؟ قال: الصغرى، انتهى. «وتَأجَر» معناه: تُثِيبُ وجَعَلَ شعيبُ الثمانيةَ الأعوامَ شَرْطاً وَوَكَلَ العَامَيْنِ إلى المُرُوءَةِ، ولما فَرَغَ كلامُ شُعَيْبٍ قَرَّره موسَى وكَرَّرَ معناه على جهة التوثقِ في أن الشَّرط إنما وقع في ثمان حجج، وأَيَّمَا استفهامٌ نُصِبَ ب قَضَيْتُ و «ما» صلةٌ للتّأكيد و «لا عدوان» لا تباعة عليّ، و «الوكيل» : الشاهد القائم بالأمر.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 61) رقم (27376) ، (27378) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 284) ، وابن كثير (3/ 385) بنحوه. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 61) رقم (27376) ، وذكره ابن عطية (4/ 284- 285) ، وابن كثير (3/ 385) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1469) . [.....] (4) لا يدخل الخيار شرعا إلا عقود المعاوضات اللازمة القابلة للفسخ بتراضي العاقدين، فغير المعاوضات كالصدقة والهبة بلا ثواب لا يدخلها أي نوع من أنواع الخيار لأنها شرعت لدفع الضرر، وهذه العقود نفع محض، لعدم المقابل فيها، وأما اشتراط اللزوم، فلأن المعاوضات الجائزة كالشركة والوكالة لكل من العاقدين أن يفسخها متى شاء بمتقضى العقد ذاته، فليست هناك من حاجة تدعو إلى إثبات الخيار فيها، وهو لم يشرع إلا تحت ضغط الحاجة. وأما اشتراط كونها قابلة للفسخ برضا الطرفين، كالبيع، والهبة بثواب، والصلح على مال، فلأنها لو لم تكن قابلة للفسخ بتراضيهما كالنكاح، والخلع، لكان اشتراط الخيار فيها أو ثبوته في أحوال مخصوصة مخالفا لمقتضاها، لأن الخيار يستلزم جواز الفسخ، وهي لا تقبله.

[سورة القصص (28) : الآيات 29 إلى 40]

[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 40] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وقوله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ قال ابن عباس: قضى أكملهمَا عَشْرَ سنينَ وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلّم «1» . وقوله: إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ ... الآية، تَقَدَّمَ قصصُها، فانظرْه في محالِّه، قال البخاريُّ: والجَذْوَةُ قطعةٌ غلِيظةٌ مِنَ الخَشَبِ فيها لَهَبٌ، انتهى. قال العِراقيُّ: و «آنس» معناه: أبصر، انتهى. وقوله: مِنَ الشَّجَرَةِ يقتضي: أن موسى- عليه السلام- سَمِعَ ما سَمِعَ من جهة الشجَرةِ، وسمع وأدرك غَيْرُ مُكَيَّفٍ ولا محَدَّدٍ. قال السهيليُّ: قيل إن هذه الشجرةَ عَوْسَجَة، وقِيل: عُلَّيْقَة، والعَوْسَجُ إذا عَظُمَ قِيلَ له: الغَرْقَدُ، انتهى. وَلَمْ يُعَقِّبْ معناه: لم يرجع على عقبه من توليته.

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 239) ، وعزاه إلى البزار، وأبي يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه. وصححه الحاكم.

[سورة القصص (28) : الآيات 41 إلى 43]

وقوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ذهبَ مجاهد «1» وابن زيدٍ «2» إلى: أنَّ ذَلكَ حقيقةٌ، أَمَرَهُ بِضَمِّ عَضُدِهِ وَذِرَاعِه وهو الجَنَاحُ إلى جنبه ليخفّ بذلك 57 ب فَزَعُه ورهبُه، ومن شأن/ الإنسانِ إذا فَعَلَ ذلك في أوقات فزعه أن يقوى قَلْبُهُ، وذهبت فرقةٌ إلى أن ذلك على المجازِ، وأنه أُمِرَ بالعَزْمِ على ما أُمِرَ به، كما تقُولُ العربُ: اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ وارْبِطْ جَأْشَكَ، أي: شَمِّرْ في أمْرِكَ وَدَعْ عَنْكَ الرَّهْبَ. وقوله تعالى: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ قال مجاهد «3» والسدي «4» : هي إشَارة إلى العَصَا واليدِ. وقرأ الجمهور: «رِدْءاً» - بالهَمْزِ-. وقَرأ نافعٌ «5» وَحْدَهُ: «رِداً» - بتنوين الدال دونَ هَمْزِ وذلك على التخفيف من رِدْءٍ، والرِّدْءُ: الوَزير المعين، وشَدُّ العَضُدِ: استعارةُ في المَعونةِ، والسلطان: الحجةُ. وقوله: بِآياتِنا: متعلقٌ بقوله الْغالِبُونَ أي: تغلبون بآياتنا وهي المعجزاتُ، ثم إن فرعون استمر في طريق مخرقته «6» على قومِه، وأمر هامان بأنْ يَطْبُخَ له الآجُرَّ وأن يَبْنيَ له صَرْحاً أي سَطْحاً في أعلى الهواء، مُوْهِماً لِجَهَلَةِ قَوْمهِ أنْ يَطَّلِعَ بزَعْمِهِ في السَّمَاء، ثم قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ يعني: موسى في أنه أرسله مرسل وفَنَبَذْناهُمْ معناه: طرحناهم، والْيَمِّ: بحرُ القُلْزُم في قول أكثر الناس وهو الأشهر. [سورة القصص (28) : الآيات 41 الى 43] وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 70) رقم (27432) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 445) ، وابن عطية (4/ 287) ، وابن كثير (3/ 388) ، والسيوطي (5/ 243) بنحوه، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 70) رقم (27437) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 287) ، وابن كثير (3/ 388) بنحوه. (3) ذكره ابن عطية (4/ 287) ، والسيوطي (5/ 243) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (4) أخرجه الطبريّ (10/ 71) رقم (27438) ، وذكره ابن عطية (4/ 287) . (5) ينظر: «السبعة» (494) ، و «الحجة» (5/ 420) ، و «إعراب القراءات» (2/ 175) ، و «معاني القراءات» (2/ 252) ، و «شرح الطيبة» (5/ 122) ، و «العنوان» (147) ، و «حجة القراءات» (545) ، و «إتحاف» (2/ 343) . (6) في: ج: متخوفته.

[سورة القصص (28) : الآيات 44 إلى 45]

وقوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ... الآية، عبارةٌ عَنْ حالهِم وأفعالهِم، وخَاتِمَتِهم، أي: هم بذلك كالداعين إلى النار وهم فيه أَئِمَّةٌ مِنْ حَيْثُ اشْتُهِرُوا، وبَقِي حديثُهم، فهم قدوةٌ لُكُلِّ كافرٍ وعَاتٍ إلى يَوْمِ القيامة، والْمَقْبُوحِينَ الذينَ يُقَبِّحُ كُلُّ أَمرِهِم، قَولاً لهم وفِعْلاً بهم، قال ابن عباس: هم الذين قُبِحُوا بسواد الوجوه وزرقة العيون «1» ، ويَوْمَ ظرف مقدّم وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراةَ والقصدُ بهذا الإخبار التمثيلُ لقريشٍ بما تقدم في غيرها مِنَ الأمم وبَصائِرَ نصب على الحال، أي: طرائق هادية. [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 45] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وقوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ... الآية، أي: ما كنتَ يا محمدُ حاضراً لِهذهِ الغُيوبِ الَّتي تُخْبِرُهمْ بِهَا، وَلَكِنَّهَا صَارَتْ إلَيْكَ بِوَحْيِنَا، أي: فكان الواجِبُ أن يسارعوا إلى الإيمان بك. قال السهيلي: وجانبُ الغَرْبي هُوَ جانبُ الطُّورِ الأيمنِ، فحينَ ذَكَرَ سبحانَه نداءَه لِموسى قال: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] وحين نفى عن محمد صلى الله عليه وسلّم أن يكون بذلك الجانبِ قال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ والغربيُّ: هو الأيمنُ، وبين اللفظينِ في ذكر المَقَامَيْنِ ما لا يخفى في حُسْنِ العبارةِ وبديعِ الفَصَاحَةِ والبلاغةَ فإن محمداً عليه السلام لا يقالُ له: ما كنت بالجانب الأيمنِ فإنَّه لَمْ يَزَلْ بالجَانِبِ الأيْمَنِ مُذْ كانَ فِي ظَهْرِ آدم عليه السلامُ، انتهى. وقوله سبحانه: فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [قال] الثعلبيّ: أي: فنسوا عهد الله، انتهى. وقَضَيْنا معناه: أنفذنا، والْأَمْرَ يعني: التَّوْرَاة. وقالت فرقة: يعني به: ما أعلمه من أمر محمد صلى الله عليه وسلّم. قال ع «2» : وهذا تأْوِيلٌ حَسَنٌ يَلْتَئِمُ معه ما بَعْدَه من قوله وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً. ت: قال أبو بكر بن العربيِّ: قوله تعالى: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ معناه:

_ (1) ذكره البغوي (3/ 447) ، وابن عطية (4/ 289) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 290) .

[سورة القصص (28) : الآيات 46 إلى 47]

أعلمناه، وهو أحدُ ما يَرِد تَحْتَ لفظِ القَضَاءِ مراداً، انتهى من كتاب «تفسير الأفعالَ الواقعة في القرآن» . و «الثاوي» : المقيم. [سورة القصص (28) : الآيات 46 الى 47] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) 58 أوقوله تعالى: وَما كُنْتَ/ بِجانِبِ الطُّورِ يريدُ وقتَ إنزالِ التوراةِ إلى مُوسَى- عليه السلام- وقوله: إِذْ نادَيْنا رُوِيَ عَنْ أَبِي هريرةَ: أنّه نُودِيَ يَومَئِذٍ مِنَ السَّمَاءِ: «يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، استجبتُ لَكُمْ قَبْلَ أَن تَدْعُونِي، وغفرتُ لكم قبل أن تسألوني» ، فحينئذٍ قال موسى عليه السلام: اللهمَّ اجْعَلْنِي من أمَّةِ محمدٍ، فالمعنى: إذ نادينا بأمرك وأخبرنا بنُبوَّتِك. وقال الطبريُّ «1» : معنى قوله: إِذْ نادَيْنا: بأن فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ... الآية [الأعراف: 156] . وقوله سبحانه: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ... الآية، المصيبةُ: عذابٌ في الدُّنْيا على كفرهِم، وجوابُ لَوْلا محذوفٌ يقْتَضِيهِ الكلامُ تَقْدِيرُهُ: لعَاجَلْنَاهُمْ بما يَسْتَحِقُّونَه. وقال الزجاجُ «2» : تقديره: لَمَا أرسلنا الرسل. [سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 50] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وقوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يريد القرآن ومحمداً عليه السلام، والمقالةُ التي قَالَتْها قريشٌ: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى كانَتْ من تعليمِ اليهود لهم قالوا لهم: لِمَ لا يأتي بآية باهرةٍ كالعصَا واليدِ، وغير ذلك، فعكسَ الله عليهم قَوْلَهُم، وَوَقَفَهُمْ على أَنهم قد وقَع منهم في تلك الآيات مَا وَقَع من هؤلاء في هذه، فالضميرُ في قوله يَكْفُرُوا لليهود، وقرأ الجمهور: «ساحران» والمراد: موسى وهارون.

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (10/ 77) . (2) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 147) .

[سورة القصص (28) : الآيات 51 إلى 60]

قال ع «1» : ويحتمل أن يريد بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ أَمْرِ محمدٍ والإخبارِ به الذي هو في التوراة. وقوله: وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يُؤَيِّدُ هذا التأويلَ، وقرأ حمزةُ والكسائي «2» وعاصم: «سِحْران» والمرادُ بهما: التَّوراةُ والقرآنُ قاله ابن عباس «3» ، وتَظاهَرا: معناه: تعاوناً. وقوله: أَهْدى مِنْهُما. قال الثعلبي: يعني: أهدى من كتابِ محمدٍ وكتابِ موسى انتهى. ت: ويحتملُ أنْ يكونَ الضميرُ في يَكْفُرُوا لقريشٍ كما أشار إليه الثعلبيُّ، وكذا في قالُوا لقريش عنده. وسِحْرانِ يريدونَ موسى ومحمداً- عليهما السلام- وهو ظاهرُ قولِهم: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ لأن اليهودَ لا يقولون ذلك في موسى في عصر نبينا محمد عليه السلام، ويُبيِّن هذَا كلَّه قولُه تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ... الآية، فإنَّ ظاهرَ الآيةِ أنَّ المرادَ قريشٌ وعَلَى هذا كله مرّ الثعلبيّ، انتهى. [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 60] وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 291) . (2) ينظر: «السبعة» (495) ، و «الحجة» (5/ 423) ، و «إعراب القراءات» (2/ 177) ، و «معاني القراءات» (2/ 254) ، و «شرح الطيبة» (5/ 123) ، و «العنوان» (147) ، و «حجة القراءات» (547) ، و «شرح شعلة» (534) ، و «إتحاف» (2/ 344) . [.....] (3) أخرجه الطبريّ (10/ 80) رقم (27484) ، وذكره ابن عطية (4/ 391) ، وابن كثير (3/ 392) ، والسيوطي (5/ 248) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ... الآية الذينَ وصَّلَ لَهُمُ القَوْلَ: همْ قريشٌ قاله مجاهد «1» وغيره، قال الجمهورُ: والمعنى: وَاصَلْنَا لهم في القرآن، وتابعناه موصولاً بعضُه ببعضٍ في المواعظ والزواجر، والدعاء، إلى الإسلام. وذهبت فرقةٌ إلى: أنَّ الإشارة بتوصيلِ القولِ إنما هي إلى الألفاظ، فالمعنى «2» : ولقد وصَّلنا لهم قَوْلاً معجزا دالّا على نبؤتك. قال ع «3» : والمعنى الأولُ تقديره: ولقد وصلنا لهم قولا يتضمّن معاني مَنْ تَدَبَّرَهَا اهْتَدَى. ثم ذكر- تعالى- القومَ الذينَ آمنوا بمحمدٍ مِنْ أهلِ الكتاب مُبَاهِياً بهم قريشاً. واختُلِفَ في تَعيينهم فقال الزهري: الإشَارَةُ: إلى النَّجَاشِيِّ «4» . وقيل: إلى سلمان، وابن سلام، وأسند الطبريُّ «5» إلى رفاعة القرظي، قال: نزلت 58 ب هذه الآيةُ/ في اليهود في عَشْرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ، أَسْلَمْنَا فَأُوذِينَا «6» فنزلت فينا هذه الآية. والضمير في قَبْلِهِ يعود على القرآن. وأَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ معناه: على مِلَّتَيْنِ وهذا المعنى هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلّم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي ... » الحديث «7» . ويَدْرَؤُنَ معناه: يَدْفَعُونَ وهذا وصفٌ لمكَارِمِ الأخلاقَ، أي: يتغابون ومن قال لهم سوءا لاينوه وقَابَلُوهُ من القول الحسِن بما يَدْفَعُه، واللغْوُ سَقَطُ القولِ، والقولُ يَسْقُط لوجوهٍ يَعِزُّ حَصْرُها، والمرادُ منه في الآيةِ: ما كان سبّاً وأذى ونحوه فأدب الإسلام الإعراض عنه. وسَلامٌ في هذا الموضِع قُصِدَ به المَتَارَكةُ لا التحيّة. قال

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 84) رقم (27501- 27502) ، وذكره ابن عطية (4/ 291) ، وابن كثير (3/ 393) ، والسيوطي (5/ 249) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) في ج: لمعنى. (3) ينظر: «المحرر» (4/ 291) . (4) ذكره ابن عطية (4/ 292) . (5) ينظر: «الطبريّ» (10/ 84) . (6) ذكره ابن عطية (4/ 292) . (7) أخرجه البخاري (1/ 229) كتاب العلم: باب تعليم الرجل أمته (97) ، ومن (5/ 205) كتاب العتق: باب فضل من أدب جاريته وعلمها (2544) ، ومن (5/ 207) باب العبد إذا أحسن عبادة ربه (2547) ، ومن (5/ 210) باب كراهية التطاول على الرقيق (2551) ، ومن (6/ 169) كتاب الجهاد: باب فضل من أسلم (3011) ، ومن (6/ 551) كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا (3446) ، ومن (9/ 29) كتاب النكاح باب اتخاذ السراري (5083) ، ومسلم (1/ 134- 135) كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلّم (241/ 154) .

الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال، ولا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ معناه: لا نَطْلُبُهُمْ للجِدَالِ والمراجعة والمشاتمة. ت: قال ابن المباركِ في «رقائقه» : أخبرنا حبيبُ بنُ حجر القيسي، قال: كان يقال: ما أحْسَنَ الإِيمَانَ يَزِينُه العلمُ، وما أحْسَنَ العِلمَ يَزِينُه العَمَلُ، وما أَحْسَنَ العَمَلَ يزينه الرفق، وما أضفت شيئا إلى شَيء، مِثْلَ حِلْمٍ إلى عِلْمٍ، انتهى. وأجْمَعَ جُلُّ المفسرينَ على أنَّ قولَه تعالى: إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ إنما نَزَلَتْ في شَأْنِ أَبي طالب، فَرَوى أبو هريرةَ وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلّم دَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ عَمِّ، قُلْ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ... » الحديثُ «1» قد ذَكَرناه في سورة: «براءَة» ، فَماتَ أبو طالبٍ على كُفْرِه، فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ فيه. قالَ أبو روق: قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إشارة إلى العباسِ «2» ، والضميرُ في قوله: وَقالُوا لقريش. قال ابن عباس: والمُتَكَلِّمُ بذلك فيهم الحارثُ بن نوفَلِ، وحكى الثعلبيُّ أنه قالَ له: إنا لنعلم أن الذي تقولُ حَقٌّ وَلَكِنْ إن اتبَعْنَاكَ تَخَطَّفَتْنَا العرب. وتجبى: معناه: تُجْمَعُ وتُجْلَبُ. وقوله: كُلِّ شَيْءٍ يريد مما به صلاحُ حالهِم، ثم توعَّدَ قريشاً بقوله وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ وبَطِرَتْ معناه: سَفِهَت وأشِرَتْ وطَغَتْ قاله ابن زيد «3» وغيره. ت: قالَ الهروي: قولُه تعالى: بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، أي: في مَعِيْشَتِهَا، والبَطَرُ: الطغيانُ عند النِّعمةِ، انتهى. ثم أحالَهُم على الاعتبارِ في خَرَابِ دِيار الأُمَمِ المُهْلَكَةِ كَحِجْرِ ثَمُودَ، وغيرِه. ثُمَّ خَاطبَ تعالَى قريشاً مُحقِّراً لما كانوا يَفتَخِرُونَ به من مالٍ وبنينَ، وأَنَّ ذلك متاعُ الدنْيَا الفانِي، وأنَّ الآخرةَ وَمَا فِيهَا من النَّعِيمِ الذي أعدَّهُ اللهُ للمؤمِنِينَ خيْرٌ وأبقى. ت: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جناح

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ذكره ابن عطية (4/ 293) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 90) رقم (27538) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 293) .

[سورة القصص (28) : الآيات 61 إلى 64]

بَعُوضَةٍ مَا سقى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةً» «1» رواه الترمذيُّ من طريق سهل بن سعد، قال: وفي البابِ عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيح، انتهى. وباقي الآيةِ بَيّنٌ لِمَنْ أبْصَرَ واهْتَدَى، جَعَلَنا اللهُ مِنْهُمْ بمنّه. [سورة القصص (28) : الآيات 61 الى 64] أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وقوله سبحانه: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ... الآية، معناها، يعمّ جميع العالم ومِنَ الْمُحْضَرِينَ: معناه: في عذاب الله قاله مجاهد «2» وقتادة «3» ، ولفظة الْمُحْضَرِينَ مشيرةٌ إلى سوق [بجبر] «4» . وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ الضمير المتصل ب «ينادي» لِعَبَدَةِ الأوثَانِ، والإشارة إلى قريش وكفار العرب. 59 أوقوله: قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هؤلاء/ المجيبونَ هم كل مُغْوٍ دَاعٍ إلى الكُفْرِ من الشياطينِ والإنْسِ طَمِعُوا في التَّبَرِّي من مُتَّبِعِيهم فقالوا ربّنا هؤلاء إنّما أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهادٍ لنَا ولَهُمُ، وأحبوا الكُفْرَ كما أَحبَبْناه تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ. ثم أخبر تعالى: أنه يقال للكفرة العابدين للأصنام: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ يعني: الأصْنَامَ، فَدَعَوْهُمْ فلَمْ يَكُنْ في الجمادات ما يجيبُ، ورأَى الكفارُ العذاب.

_ (1) أخرجه الترمذيّ (4/ 560) كتاب الزهد: باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، حديث (2320) ، وابن ماجه (2/ 1376- 1377) كتاب الزهد: باب مثل الدنيا، حديث (4110) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 253) من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد به. وقال الترمذيّ: حديث صحيح غريب من هذا الوجه. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 92) رقم (27544) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 294) ، وابن كثير (3/ 396) بنحوه، والسيوطي (5/ 256) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 92) رقم (27542) ، وذكره ابن عطية (4/ 294) ، وابن كثير (3/ 396) ، والسيوطي (5/ 255- 256) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. [.....] (4) سقط في ج.

[سورة القصص (28) : الآيات 65 إلى 72]

وقوله تعالى: لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ ذهب الزجاج «1» وغيرُه إلى أن جَوابَ «لو» محذوفٌ. تقديره: لمَا نَالَهُمْ العَذَابُ. وقالَتْ فرقةٌ: لو: متعلِقةٌ بِمَا قَبْلَهَا، تقديرهُ: فَوَدُّوا حين رَأَوُا العذاب لو أنّهم كانوا يهتدون. [سورة القصص (28) : الآيات 65 الى 72] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ هذا النداء أيضا للكفّار، وفَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ: معناه أَظْلَمَتْ عليهم جهاتُها. وقوله: فَهُمْ لاَ يَتَساءَلُونَ معناه، في قول مجاهد: لاَ يَتَساءلون بالأرحامِ «2» ويحتملُ أنْ يرِيدَ أنهم لا يتساءلون عن الأنباء، ليقين جَميعهِم أنه لا حُجَّةَ لَهُمْ. وقوله سبحانه: فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ. قال كثير من العلماءِ: «عسى» من الله واجبة. قال ع «3» : وهذا ظَنُّ حَسَنٌ باللهِ تعالى يُشْبِهُ كَرَمَه وفَضْلَه سبحَانه، واللازِمُ مِنْ «عسى» : أنها تَرْجِيَة لاَ وَاجِبَة، وفي كتاب الله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم: 5] . ت: ومعنى الوجوب هنا: الوقوع.

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 151) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 94) رقم (27554) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 295) ، وابن كثير (3/ 397) بنحوه، والسيوطي (5/ 257) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) ينظر: «المحرر» (4/ 295) .

[سورة القصص (28) : الآيات 73 إلى 75]

وقوله سبحانه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ ... الآية، قِيلَ: سَبَبُها، قولُ قريش: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . ونحوُ ذلك من قولهم فَرَدَّ اللهُ عليهم بهذه الآيةِ، وجماعة المفسرين: أن «ما» نافيةٌ، أي: ليس لهم الخِيرَةُ، وذهبَ الطبريُّ «1» إلى أن ما مفعولة ب يَخْتارُ أي: ويختارُ الذي لَهُمْ فيه الخِيَرةُ، وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مِن سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللهَ، وَمِنْ شَقَاوَتِهِ تَرْكُهُ» «2» رواه الحاكم في «المستدرك» وقالَ: صحيحُ الإِسناد، انتهى من «السلاح» . وباقي الآية بَيِّنٌ. والسَّرْمَدُ مِنَ الأَشْيَاءِ: الدَّائِمُ الذي لا ينقطع. [سورة القصص (28) : الآيات 73 الى 75] وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) ت: وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ... ، الآيةُ معناها بيِّنٌ، وينبغي للعَاقِل أَلاَّ يجعلَ ليلَهُ كُلَّهُ نَوْماً فَيَكونَ ضَائِعَ العُمْرِ جِيفَةً بالليلِ بطَّالاً بالنَّهَارِ، كما قيل: [الطويل] نَهَارُكَ بَطَّالٌ وَلَيْلُكَ نَائِم ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ البَهَائِمُ فإنْ أرَدْتَ أَيُّهَا الأخ أن تكونَ من الأَبرَارِ فعليكَ بالقيامِ في الأَسْحَارِ، وقد نقل صاحبُ «الكوكب الدري» عن البزار أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما قالت أمّ سليمان

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (10/ 95) . (2) أخرجه الحاكم (1/ 518) ، وأحمد (1/ 168) من طريق محمد بن أبي حميد عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أبيه عن جده به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قلت: وهو من أوهامهما، فالحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 282) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار ... وفيه محمد بن أبي حميد، قال ابن عدي: ضعفه بين على ما يرويه، وحديثه مقارب، وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وقد ضعفه أحمد والبخاري وجماعة. ومن طريق محمد بن أبي حميد: أخرجه الترمذيّ (4/ 455) كتاب القدر: باب ما جاء في الرضا بالقضاء، حديث (2151) بلفظ: «من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة اللهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قضى الله له» . وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد، ويقال له أيضا: حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث.

[سورة القصص (28) : الآيات 76 إلى 79]

لِسُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: يَا بُنَيَّ، لاَ تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَإنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ، يَدَعُ الرَّجُلُ فَقِيراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «1» ، انتهى. وابتغاء الفضل: هو بالمَشي والتصرُّفِ. وقوله تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي: عُدُوْلَ الأممِ وأخيارَهَا، فيشهدوْنَ على الأمم بخيرِها وشرِّها، فيحقُّ العذابُ عَلى مَنْ شُهِدَ عليه بالكُفْرِ، وقيل له: على جهة الإعذار في المحاورة: هاتُوا بُرْهانَكُمْ، ومن هذه الآيةِ انْتُزِعَ قولُ القاضِي عند إرادة الحكم: أبقيت لك حجة. [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 79] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وقوله تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ ... الآية، كان قارونُ مِنْ قرابةِ مُوسى: ممن آمن بموسى وحَفظَ/ التوراةَ وكَانَ عند مُوْسَى عليه السلام مِنْ عُبَّادِ 59 ب الْمُؤمِنين، ثم إنَّ الله أضَلَّهُ وبَغَى عَلى قَوْمِهِ بأَنْوَاعِ البَغْيِ مِنْ ذلكَ كُفْرُهُ بموسَى. وقال الثَّعْلَبِيُّ: قال ابن المسيب: كانَ قارونُ عامِلاً لِفِرْعونَ عَلى بني إسرائيل ممنْ يبغي عليهم ويظلُمهم. قال قتادةُ: بَغَى عليهم بِكَثْرَةِ مالِهِ وولدِه «2» ، انتهى. ت: وما ذَكَرَهُ ابنُ المسيب، هو الذي يَصِحُّ في النظر لمتُأَمِّلِ الآية، ولولا الإطالة

_ (1) أخرجه ابن ماجه (1/ 422) كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في قيام الليل، حديث (1332) ، والطبراني في «الصغير» (1/ 121- 122) ، والبيهقي في «الشعب» (4/ 183) رقم (4746) كلهم من طريق سنيد بن داود عن يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر به. وقال الطبراني: لم يروه عن محمد بن المنكدر إلا ابنه يوسف، تفرد به سنيد. قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص 35) : رواه ابن الجوزي عن جابر مرفوعا، وفي إسناده يوسف بن محمد بن المنكدر متروك. قال في «اللآلئ» : قال فيه أبو زرعة: صالح الحديث، وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به. وقد أخرجه ابن ماجه من طريقه، وكذا الطبراني، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 100) رقم (27574) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 454) بنحوه.

لَبَيَّنْتُ وَجْهَ ذَلِكَ، والمَفاتِحُ ظاهِرُها: أنها التي يُفْتَحُ بِها، ويحتمل أنْ يُرِيدَ بها: الخزائنَ والأوعيةَ الكبارَ قاله الضحاك «1» لأنَّ المِفْتَحُ في كلام العرب الخزانة، وأمّا قوله: لَتَنُوأُ فمعناه: تَنْهَضُ بتحامل واشتدادِ، قال كثير من المفسرين: إنَّ المرادَ: أن العُصْبةَ تَنُوءُ بالمفَاتِح المُثْقِلةِ لها فَقُلِبَ. قلت: وقال عريب الأندلسي في كتاب «الأَنواء» : له نَوْءُ كذا معناه: مثله منه: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ، انتهى، وهو حَسَنٌ إنْ سَاعَدَهُ النَّقْلُ. وقالَ الدَّاوُودِيُّ عن ابن عباسٍ: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ يقولُ تَثْقُلُ وكذا قال الواحديُّ، انتهى. واخْتُلِفَ في العصبة: كمْ هُمْ؟ فقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: ثَلاثَةُ «2» ، وقال قتادةُ: هم من العشرة إلى الأربعين «3» ، قال البخاريُّ «4» : يقال: الفَرِحينَ المَرِحينَ. قال الغَزَالِيُّ في «الإحْيَاءِ» : الفَرَحُ بالدنيا والتَّنَعُّمُ بِهَا سُمٌّ قَاتِلٌ يَسْرِي في العُرُوقِ فَيُخْرِجُ مِن القَلْبِ الخوفَ والحَزَنَ وذِكْرَ الموتِ وأهوالَ القيامة وهذا هو موتُ القلبِ والعياذُ باللهِ، فأولوا الحَزْم من أربابِ القلوبِ جَرَّبُوا قلوبَهم في حال الفَرَحِ بمُوَاتَاةِ الدنيا، وعلموا أن النَّجَاةَ في الحُزْنِ الدائم، والتباعُدِ من أسبابِ الفَرَح، والبَطَرِ فقَطَّعُوا النَّفْسَ عن ملاذِّها وعَوَّدُوها الصَّبْرَ عَنْ شَهَوَاتِها حَلالِها وحَرَامِهَا، وعلموا أن حلالَها حِسَابٌ وهُوَ نَوْعُ عذابٍ، وَمَنْ نُوقِشَ الحساب عُذِّبَ، فَخَلَّصُوا أَنْفُسَهُمْ من عَذابِهَا، وَتَوَصَّلُوا إلى الحرّية والملكِ في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسْرِ الشهواتِ وَرقِّها، والأنْسِ بِذِكْرِ اللهِ تعَالَى والاشْتِغَالِ بِطَاعَتِه، انتهى. قال ابن الحاجِّ في «المَدْخَلِ» : قال يَمَنُ بن رزق- رحمه الله تعالى-: وأنا أُوصيكَ بأن تُطِيلَ النظرَ في مِرْآةِ الفِكْرَةِ مَعَ كثرةِ الخَلَوَاتِ، حَتَّى يُرِيَكَ شَيْنَ المَعْصِيَةِ وَقُبْحِهَا، فَيَدْعُوكَ ذَلِكَ النَّظَرُ إلى تَركها، ثم قال يمن بن رزق: ولاَ تَفْرَحَنَّ بِكَثْرَةِ العَمل مع قلةِ الحزْنِ، واغْتَنِمْ قليلَ العَمَلِ مَعَ الحزنِ، فإن قليلَ حُزْنِ الآخرةِ الدَّائِمِ فِي القلبِ يَنْفِي كُلَّ سُرُورِ ألفْتَهُ من سرورِ الدنيا، وقليلَ سرورِ الدنيا في القلب ينفي عنك «5» جميع حزن

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 101) رقم (27581) ، وذكره ابن عطية (4/ 298) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 102) رقم (27589) ، وذكره البغوي (3/ 454) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 102) رقم (27585) ، وذكره البغوي (3/ 454) ، وابن عطية (4/ 299) ، والسيوطي (5/ 260) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. (4) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 365) كتاب التفسير: باب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ. (5) في ج: عنها.

الآخِرَة. والحزنُ لا يصلُ إلى القلبِ إلاَّ مع تَيَقُّظِهِ وَتَيَقُّظُهُ حَيَاتهُ، وسرورُ الدُّنيا لِغَيْرِ الآخرةِ لا يصلُ إلى القلب إلا مع غَفْلَتِه وغفلةُ القَلْبِ مَوتُه، وعلامةُ ثَبَاتِ اليقِينِ في القَلْبِ اسْتِدَامَةِ الحُزْن فِيهِ. وقال- رحمه الله-: اعْلَمْ أني لم أجدْ شَيئاً أبلَغَ في الزُّهد في الدنيا من ثباتِ حزْن الآخرة في القلب، وعلامَةُ ثباتِ حُزْنِ الآخِرةِ في القلبِ أَنْسُ العبدِ بالوَحْدَةِ، انتهى. وقولهم له: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا. قال ابن عباس والجمهور: معناه: لا تُضَيِّعْ عُمْرَكَ في أَلاَّ تعمل عملاً صالحاً في دنياك إذ الآخرة إنّما يُعْمَلُ لَهَا في الدنيا، فنصيبُ الإنسانِ عمرُه وعملَه الصالحُ فيها فينبغي/ أن لا يُهْمِلَه. وحكى الثعلبيّ أنه قيل: أرادوا بنصيبه الكفَنَ. قال: ع «1» : وهذا كلُّه وعْظٌ متَّصِلٌ ونحو هذا قولُ الشاعر: [الطويل] نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّه ... رِدَاءَانِ تلوى فِيهِمَا وَحَنُوطِ «2» وقال ابن العربي في «أحكامه «3» » : وفي معنى النصيبِ ثلاثة أقوال: الأولُ: لا تَنْس حظَّكَ من الدنيا، أي: لا تَغْفَلْ أنْ تَعْمَلَ في الدنيا للآخرة، الثاني: أمْسِك مَا يَبْلُغَكَ فذلك حظُّ الدنيا، وأنْفِقِ الفَضْلَ فذلكَ حظُّ الآخرة، الثالث: لاَ تَغْفَلْ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ، انتهى. وقولهُم: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أمرٌ بِصِلةِ المساكينِ وذَوِي الحاجَاتِ. ص: كَما أَحْسَنَ: - الكاف للتشبيهِ أو للتعليل-، انتهى. وقول قارون: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قال الجمهور: ادَّعَى أنَّ عندَه علماً استوجَبَ به أن يكونَ صاحبَ ذلك المالِ، ثم اخْتَلَفُوا في ذلك العلم، فقال ابن المسيب: أراد علم الكيمياء «4» . وقال أبو سليمان الداراني: أراد العلم بالتجارة ووجوهِ تثميرِ المال، وقيل غير هذا. وقوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ. قال محمد بن كعب: هو كلامٌ متصِلٌ بمعنى ما قبلَه، والضميرُ في ذُنُوبِهِمُ عائدٌ على مَنْ أُهْلِكَ مِن القرون، أي: أهْلِكوا وَلَمْ يُسْئَلْ غَيرُهم بَعْدَهُمْ عن ذنوبهم، أي: كل

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 299) . [.....] (2) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (4/ 299) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1483) . (4) ذكره البغوي (3/ 455) ، وابن عطية (4/ 300) .

[سورة القصص (28) : الآيات 80 إلى 82]

أحد إنما يُكَلَّمُ ويُعَاتَبُ بِحَسْبِ ما يَخْصُّه، وقالت فرقة: هو إخبار مستأنَفٌ عَنْ حالِ يومِ القيامةِ، وجَاءتْ آيات أُخَرُ تَقْتَضِي السؤالَ، فقالَ الناسُ في هذا: إنها مواطنُ وطوائفُ. وقِيل غيرُ هذا، ويوم القيامة هو مواطنُ. ثم أخبرَ تعالى عن خُروج قارونَ على قومهِ في زينتِه من الملابِسِ والمَراكِبِ وزينةِ الدنيا وأَكثَرَ النَّاسُ في تحديدِ زينةِ قارونَ وتَعْيِينِها بِمَا لاَ صِحَّةَ لَه فَتَرَكْتُه، وبَاقِي الآيَةِ بَيِّنٌ فِي اغترارِ الجَهَلَةِ والإغْمَارِ مِن النّاس. [سورة القصص (28) : الآيات 80 الى 82] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) وقوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ... الآية: أخبر تعَالَى عَنْ الذين أوتوا العلم والمعرفةَ باللهِ وبِحَقِّ طاعتِه أَنَّهُمْ زَجَرُوا الأَغْمَارَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا حَالَ قَارُوْنَ وَحَمَلُوهُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ المُثْلَى مِنْ أَنَّ النَّظَرَ والتَّمَنِّي إنَّما يَنْبَغِى أنْ يَكونَ في أمورِ الآخرةِ، وأنَّ حالةَ المؤمنِ العاملِ الذي ينتظرُ ثوابَ اللهِ تعالى خيرٌ مِن حالِ كلِّ ذِي دُنيا. ثم أخبر تعالى عن هذه النَّزْعَةِ وهذه القوَّةِ في الخير والدينِ أَنَّها «1» لاَ يُلَقَّاها أي: لا يُمَكَّنُ فيها ويُخَوَّلُها إلا الصَّابِرُ عَلى طَاعَةِ الله وعن شهواتِ نفسه وهذا هو جماع الخير كله. وقال الطبري «2» : الضمير عائد على الكلمة وهي قوله: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، أي: لا يُلَقَّنُ هذه الكلمة إلا الصابرون وعنهم تصدر، ورُوِيَ في الخسف بقارونَ ودارِه أن موسى عليه السلام لما أمَضَّه فعلُ قارونَ به وتعدّيه عليه استجارَ بالله تعالى وطلب النصرة فأوحى الله إليه، أَني قد أمرتُ الأرض أَنْ تطيعكَ في قارونَ وأتباعه، فقال موسى: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، فاستغاثوا: يا موسى يا 60 ب موسى فقال: خذيهم، فأخذتهم شيئاً فشيئاً إلى أن تم الخسفُ بهم/، فأوحى الله إليه: يا موسى لَوْ بِيَ استغاثوا وإليَّ تابوا لرحمتِهُم. قال قتادةُ وغيره: رُوِيَ أَنه يخسفُ به كل يوم قامةً فهو يتجلجل إلى يوم «3» القيامة.

_ (1) في ج: أنهما. (2) ينظر: «الطبريّ» (10/ 109) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 112) رقم (27644) ، وذكره البغوي (3/ 457) ، وابن عطية (4/ 301) ، وابن كثير (3/ 401) ، والسيوطي (5/ 457) .

ت: وفي الترمذي عن معاذ بن أنس الجهنيّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ تَرَكَ اللَّبَاسَ تَوَاضُعاً لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ على رُؤُوسِ الخَلاَئِقِ حتى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» «1» . وروى الترمذيُّ عن عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كان لنا قِرَامُ سِتْرٍ فيه تماثيلُ على بابي فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «انْزَعِيهِ فَإنَّهُ يُذَكِّرُنِي الدُّنْيَا» «2» ، الحديثَ وروى الترمذيّ عن كعب بن عياض قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي: المَالُ» «3» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وفيه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لَيْسَ لاِبْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سوى هذه الْخِصَالِ: بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وجلف الْخَبَزِ والمَاءِ» «4» . قال النضر بن شميلٍ: «جِلْفُ الخبز» يعني: ليس معه إدام. انتهى. فهذه الأحاديث وأشباهها تزهِّد في زينةِ الدنيا وغضارة «5» عيشها الفاني.

_ (1) أخرجه الترمذيّ (4/ 650) كتاب صفة القيامة باب (39) حديث (2481) ، وأحمد (3/ 439) ، والحاكم (4/ 183) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 84) من طريق أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه مرفوعا. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. (2) أخرجه الترمذيّ (4/ 643- 644) كتاب صفة القيامة: باب (32) حديث (2468) ، والنسائي (8/ 213) . كتاب الزينة: باب التصاوير، وأحمد (6/ 226) ، والبيهقي (7/ 267) من طريق سعد بن هشام عن عائشة. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (3) أخرجه الترمذيّ (4/ 569) كتاب الزهد: باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال، حديث (2336) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (7/ 222) ، وأحمد (4/ 160) ، والحاكم (4/ 318) ، وابن حبان (2470- موارد) ، والطبراني في «الكبير» (19/ 179) رقم (404) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (2/ 124) رقم (1022) من حديث كعب بن عياض وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان. (4) أخرجه الترمذيّ (4/ 571- 572) كتاب الزهد: باب (30) حديث (2341) من طريق حريث بن السائب، قال: سمعت الحسن يقول: حدثني حمران بن أبان عن عثمان بن عفان به. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم (4/ 312) ووافقه الذهبي. (5) الغضارة: النعمة والسعة في العيش. ينظر: «لسان العرب» (3264) .

[سورة القصص (28) : الآيات 83 إلى 84]

وقوله: وَيْكَأَنَّ مذهبُ الخليلِ وسيبويه: أن «وي» حرف تنبيه منفصلة من (كأن) ، لكنْ أُضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة: ويْكَ: هي (وَيْلَكَ) حذفتِ اللامُ منها لكثرةِ الاستعمال. وقالت فرقة: «ويكأن» بجملتها كلمة. [سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) وقوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ... الآية: هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه- عليه السلام-، يرادُ به جميعُ العالمِ، ويتضمنُ الحضَّ على السعيِ، حسبَ ما دلت عليه الآيةُ، ويتضمنُ الانحناءَ على حالِ قارونَ ونظرائه، والمعنى: أَنَّ الآخرةَ ليست في شيء من أمر قارون وأشباهه وإنما هي لمن صفتُه كذا وكذا، والعلو المذموم: هو بالظلم والتجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «وذلك أَن تريد أن يكون شراكُ نعلك أفضلَ من شراكِ نعلِ أخيك» ، والفسادُ يعمُّ وجوه الشر. [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ قالت فرقة: معناه فرض عليك أحكام القرآنِ. وقوله تعالى: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال الجمهور: معناه: لرادك إلى الآخرة، أي: باعِثُكَ بعد الموت، وقال ابن عباس وغيره: المعاد: الجنة «1» ، وقال ابن عباس «2» أيضا

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 116) رقم (27660- 27661) ، وذكره ابن عطية (4/ 303) ، وابن كثير (3/ 402) ، والسيوطي (5/ 266) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس. (2) أخرجه البخاري رقم (4773) والنسائي في «التفسير» (406) . وأخرجه الطبريّ (10/ 117) رقم (27681) ، وذكره البغوي (3/ 458) ، وذكره ابن عطية (4/ 303) ، وابن كثير (3/ 402) ، والسيوطي (5/ 266) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» من طرق عن ابن عباس.

ومجاهد «1» : المعادُ: مكة، وفي البخاري بسنده عن ابن عباس: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ: إلى مكة، انتهى. وهذه الآية نزلت بالْجُحْفَةِ كما تقدَّم، والمعاد: الموضع الذي يعاد إليه. وقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ هو تعديد نعم، والظهيرُ: المعينُ. وقوله تعالى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ: بأقوالهم ولا تَلْتَفِتْ نحوهم وامضِ لِشَأْنِكَ، وادعُ إلى ربك، وآيات الموادَعَةِ كلُّها منسوخةٌ. وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ قالت فرقة: المعنى: كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا هو سبحانه قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي- رحمه الله- وقال الزَّجَّاجُ: إلا إياه.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 117- 118) رقم (27683- 27684- 27685) ، وذكره البغوي (3/ 458) ، وابن عطية (4/ 303) ، وابن كثير (3/ 402) ، والسيوطي (5/ 266) بنحوه، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد عن مجاهد. [.....]

تفسير"سورة العنكبوت"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 61 أ/ وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وآله تفسير «سورة العنكبوت» وهي مكّيّة إلا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة هذا أصحّ ما قيل هنا والله تعالى أعلم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) قوله تعالى: الم تقدم الكلام على هذه الحروف. وقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ نزلت هذه الآيةُ في قوم من المؤمنينَ بمكةَ وكان كفار قريش يؤذونهم، ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر بعضهم أن يُمَكِّنَ اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآيةُ مسليةً، ومعلمةً أن هذه هي سيرة الله في عباده اختباراً للمؤمنين، ليعلم الصادقَ من الكاذِبَ «1» ، و «حِسبَ» بمعنى «2» : ظَنَّ. والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريد بهم: المؤْمنين مع الأنبياء في سالف الدّهر. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 4 الى 7] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 305) . (2) في ج: معناه.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 إلى 11]

وقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أم: معادلةٌ للهمزة في قوله: أَحَسِبَ [العنكبوت: 2] وكأنه تعالى قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يُفْتَنُوْنَ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئاتِ في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون عقابَ الله تعالى ويعجزونه، ثم الآيةُ بَعْدَ تَعُمّ كلّ عاصٍ، وعاملٍ سيئةٍ من المسلمين وغيرهم، وفي الآية وعيد شديد للكفرة الفاتنين، وفي قوله تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ تثبيت للمؤمنين، وباقي الآية بَيِّنٌ، والله الموفق. وقال ص: قول ع «1» : أم: معادِلة للألْفِ في قوله: أَحَسِبَ يقتضي أنها هنا متصلة وليس كذلك بل «أم» هنا: منقطعةٌ مقدرة ب «بل» للإضراب، بمعنى: الانتقال لا بمعنى الإبطال، وهمزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ فلا تقتضي جواباً، انتهى. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. إخبار عن المؤْمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من الْبِدَارِ إلى الله تعالى نوه بهم- عز وجل- وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم الكفار. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ، أي: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 11] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما رُوِيَ عن قتادةَ «2» وغيره: أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظلَّ بظلٍّ حتى يرجع إليها ويكْفُرَ بمحمدٍ، فلجَّ هو في هجرته، ونزلت الآية. وقيل: بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة وكانت قصته كهذه ثم خَدَعَهُ أبو جهل

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 306) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 124) رقم (27701) ، وذكره ابن عطية (4/ 307) ، والسيوطي (5/ 270) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 إلى 13]

ورده إلى أمه. الحديث في كتب السيرة، وباقي الآية بيِّن. ثم كرر تعالى التمثيلَ بحالة المؤْمنين العاملين ليحركَ النفوس إلى نيل مراتبهم. 61 ب قال الثعلبي: قوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ/ أي: في زُمْرَتهم. وقال محمد بن جرير «1» : في مدخل الصالحين: وهو الجنة. وقيل: فِي بمعنى: «مع» و «الصالحون» : هم الأنبياء والأولياء، انتهى. وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله: الْمُنافِقِينَ، نزلت في المتخلفين عن الهجرة المتقدِّم ذكرهم قاله ابن عباس «2» . ثم قررهم تعالى على علمه بما في صدورهم، أي: لو كان يقينُهم تامّاً وإسلامُهم خالصاً لما توقَّفُوا ساعة ولَرَكِبُوا كلَّ هول إلى هجرتهم ودار نبيهم. وقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ هنا انتهى المدني من هذه السورة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ... الآية، رُوِيَ: أن قائلَ هذه المقالةِ هو: الوليد بن المغيرة، وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش لاتباع النبي صلى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ ... الآية، لأنه يلْحق كل داع إلى ضلالة كفل منها حسبما صرّح به الحديث المشهور «3» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 18] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)

_ (1) ينظر: «الطبريّ» (10/ 124) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 125) رقم (27706) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 308) بنحوه. (3) تقدم تخريجه، وهو حديث: «من دعا إلى ضلالة ... » .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 إلى 25]

وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ ... الآية، العطفُ بالفاءِ يقتضي ظاهرُه أنه لَبِثَ هذه المدةَ رسولاً يدعو إلى عبادة الله تعالى، والطُّوفانُ: العظيمُ الطامي، ويقال ذلك لكل طامٍ خَرَجَ عن العادة من ماء، أو نار، أو موت. وقوله: وَهُمْ ظالِمُونَ يريد: بالشرك. ثم ذكر تعالى قصةَ إبراهيم عليه السلام وقومِه، وذلك أيضاً تمثيل لقريش. وقوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً قال ابن عباس «1» : هو نحت الأصنام. وقال مجاهد «2» : هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 25] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ... الآية، هذه الحالةُ هي على ما يظهر مع الأحيان من إحياءِ الأرض، والنبات وإعادته ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور، ثم أمر تعالى نبيّه محمّدا صلى الله عليه وسلّم، ويحتملُ أن يكون إبراهيم عليه السلام بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج، بالسير في الأرضِ، والنظر في أقطارها، والنَّشْأَةَ الْآخِرَةَ: نشأةُ القيام من القبور. وقوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ... الآية، قال ابن

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 129) رقم (27720) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 311) ، وابن كثير (3/ 407) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 129) رقم (27719) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 311) ، والسيوطي (5/ 274) بنحوه، وعزاه للفريابي، وابن جرير عن مجاهد.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 إلى 35]

زيد «1» : لا يعجزه أهلُ الأرض في الأرض، ولا أهلُ السَّمَاءِ في السماء إن عصوه. وقيل: معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل: المعنى: ليس للبشر حيلةٌ إلى صعودٍ أو نزول يفلتون بها. قال قتادة: ذَمَّ الله قوماً هانوا عليه فقال: أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ... الآية. قال ع «2» : وما تَقَدَّمَ من قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ ... إلى هذه الآيةِ المستأَنفةِ يُحْتَمَلُ أَن يكونَ خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلّم، ويكون اعتراضا في قصَّة إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يكونَ خطاباً لإبراهيم عليه السلام ومحاورة لقومه وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه. وقوله تعالى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي بأن جعلها برداً وسلاماً. قال كعب «3» الأحبار- رضي الله عنه-: ولم تحرقِ النارُ إلا الحبل الذي أو ثقوه به وجعل سبحانه ذلك آية، وعبرةً، ودليلاً على توحيده لِمن شرح صدره ويسره للإيمان. ثم ذكر تعالى أن إبراهيم- عليه السلام- قررهم على أنَّ اتخاذَهم الأوثانَ إنما كان اتباعاً من بعضهم لبعضٍ وحفظاً لمودتهم الدنيوية وأنهم يوم القيامة يَجْحَدُ بعضُهم بعضاً، ويتَلاَعَنُون لأن توادَّهم كان على غير تقوى، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 35] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 131) رقم (27726) . (2) ينظر: «المحرر» (4/ 312) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 132) رقم (27727) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 312- 313) ، والسيوطي (5/ 274) بنحوه، وعزاه لكعب.

وقوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ/ لُوطٌ معناه: صدق، وآمن: يتعدى باللام والباء، والقائل 62 أإِنِّي مُهاجِرٌ هو إبراهيم عليه السلام. قاله قتادةُ والنخعيُّ «1» وقالت فرقةٌ: هو لوط- عليه السلام-. وقوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ... الآية، الأجرُ الذي آتاهُ الله في الدنيا: العافيةُ من النار ومن المَلِكِ الجائرِ. والعملُ الصالحُ أو الثناءُ الحسنُ قاله مجاهد «2» ويدخل في عموم اللفظ غيرُ ما ذُكِرَ. قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، أي: في عداد الصالحين الذين نالوا رضا الله عز وجل، وقول لوط عليه السلام: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، قالت فرقة: كان قطعُ الطريقِ بالسلب فاشياً فيهم، وقيل غيرُ هذا، والنادي، المجلس الذي يجتمع الناس فيه. واخْتُلِفَ في هذا المُنْكَرِ الذي يأتونه في ناديهم: فقالت فرقة: كانوا يحذفونَ الناسَ بالحصباءِ ويَسْتَخِفُّونَ بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هانىءٍ عن النبي صلى الله عليه وسلّم» : وَكَانَتْ خُلقهُمْ مُهْمَلَةً لاَ يَرْبِطُهُمْ دِينٌ وَلاَ مروءة، وقال

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 314) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 134) رقم (27735) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 314) ، وابن كثير (3/ 411) . [.....] (3) أخرجه الترمذيّ (5/ 342) كتاب التفسير: باب «ومن سورة العنكبوت» ، حديث (3190) ، وأحمد (6/ 341) ، والطبريّ في «تفسيره» (10/ 136) رقم (27745) ، والحاكم (2/ 409) ، والطبراني في «الكبير» (24/ 411- 412) رقم (1000، 1001، 1002) كلهم من طريق أبي صالح مولى أم هانىء عن أم هانىء به.. وقال الترمذيّ: حديث حسن. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 276) ، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «الصمت» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والشاشي في «مسنده» ، وابن مردويه، والبيهقي في «الشعب» ، وابن عساكر.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 إلى 41]

مجاهد «1» : كانوا يأتون الرجالَ في مَجَالِسِهِمْ وبعضُهُمْ يرى بَعْضاً. وقال ابن عباس «2» : كانوا يَتَضَارَطُونَ ويَتَصَافَعُونَ في مجالسهم، وقيل غير هذا، وقد تقدم قصص الآيةِ مكَرِّراً والرجزُ: العذابُ. وقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي: من خبرها وما بقي من آثارها، والآية: موضع العبرة، وعلامة القدرة، ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 41] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) وقوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ... الآية، الرجاء في الآية: على بابه، وذهب أبو عُبَيْدَةَ إلى أن المعنى: وخافوا، وتَعْثَوْا معناه: تفسدوا، والسَّبِيلِ: هي طريق الإيمان، ومنهجُ النجاة من النار، وما كانُوا سابِقِينَ، أي: مفلتين أخذنا وعقابنا، وقيل: معناه: وما كانوا سابقينَ الأمَمَ إلى الكُفْر، وباقي الآية بيّن. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 42 الى 45] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 137) رقم (27752) ، وذكره البغوي (3/ 466) ، وابن عطية (4/ 315) ، والسيوطي (5/ 276) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» عن مجاهد. (2) ذكره ابن عطية (4/ 315) .

وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، قيل: معناه: إن الله يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الأشياء، وقيل: ما نافية وفيه نظر، وقيل: ما استفهامية، قال جابر: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ: العَالِمُ: مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ تعالى فَعَمِلَ بطاعته وانتهى عن معصيته. وقوله تعالى: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: لا للعبث واللعب بل ليدل على سلطانه وتثبيت شرائعه، ويضع الدلالة لأهلها ويعم بالمنافع إلى غير ذلك مما لا يحصى عداً. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أُوحِيَ إليه، وإقامة الصلاة، أي: إدامتها والقيام بحدودها. ثم أخبر سبحانه حُكْماً منه أن الصلاة تنهى صاحبَها وممتثلَها عن الفحشاء والمنكر. قال ع «1» : وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجبِ من الخشوعِ، والإخبات «2» وتذكرِ الله، وَتَوَهِّمِ الوقوف بين يديه، وإنَّ قلبه وإخلاصه مُطّلَعٌ عليه مَرْقُوبٌ صَلُحَتْ لذلك نَفْسُهُ، وتذلَّلَتْ، وخَامَرَها ارتقابُ الله تعالى فاطَّرَدَ ذلك في أقواله، وأفعاله، وانتهَى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكَدْ يَفْتُرُ من ذلك حتى تظله صلاةٌ أخْرى يرجع بها إلى أفضل حاله فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاةَ المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد رُوِيَ عن بعض السلف: أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد، واصفر لونُه، فكُلِّم في ذلك، فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى. قال ع «3» : فهذه صلاة تنهى- ولا بد- عن الفحشاء/ والمنكر، وأما من كانت 62 ب صلاته دائرةً حول الإجزاء، بلا تذكر ولا خشوع، ولا فضائل فتلك تترك صاحبَها من منزلته حيثُ كانَ. وقوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عباس «4» وأبو الدرداء «5» وسلمان «6» وابن

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 319) . (2) أخبت لله: خشع. وأخبت إلى ربه أي اطمأن إليه. والإخبات: الخشوع والتواضع. ينظر: «لسان العرب» 1087. (3) ينظر: «المحرر» (4/ 319) . (4) أخرجه الطبريّ (10/ 146) رقم (27790) ، وذكره البغوي (3/ 469) ، وابن عطية (4/ 320) ، وابن كثير (3/ 415) ، والسيوطي (5/ 280) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (5) أخرجه الطبريّ (10/ 147) رقم (27801) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 320) ، وابن كثير (3/ 415) ، والسيوطي (5/ 281) ، بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير عن أبي الدرداء. (6) أخرجه الطبريّ (10/ 147) رقم (27802) ، وذكره ابن عطية (4/ 320) ، وابن كثير (3/ 415) .

مسعود «1» وأبو قرة «2» : معناه: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه. وقيل: معناه: ولذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. وقال ابن زيد وغيره: معناه: ولذكر الله أكبر «3» من كل شيء. وقيل لسلمان: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ فقال: أَمَا تَقْرَأُ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. والأحاديثُ في فَضْلِ الذّكْر كثيرةٌ لا تنحصر. وقال ابن العربي في «أحكامه» «4» : قوله: ولَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فيه أربعة أقوال: الأول: ذكر الله لكم أفضلُ من ذكرِكم له أضاف المصدر إلى الفاعل. الثاني: ذكر الله أفضل من كل شيء. الثالث: ذكر الله في الصلاة أفضل من ذكره في غيرها يعني: لأنهما عبادتان. الرابع: ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة المصدر إلى المفعول، وهذه كلها صحيحةٌ، وإن للصلاةِ بركةً عظيمةً، انتهى. قال ع «5» : وعندي، أن المعنى: ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجُزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لأنَّ الانتهاءَ لا يكونُ إلا من ذَاكِرٍ للَّهِ تعالى، مراقب له، وثوابُ ذلك الذكر أن يذكُرَه الله تعالى، كما في الحديث الصحيح: «ومن ذَكَرَنِي فِي مَلإِ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ» «6» والحركاتُ التي في الصلاة لا تأثيرَ لها في نهي، والذكرُ النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرُّغه إلا من الله تعالى. وأما ما لا يتجاوز اللسانَ ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضةُ الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة ذكر العبد ربّه.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 320) ، وابن كثير (3/ 415) ، والسيوطي (5/ 280) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في «زوائد الزهد» ، وابن جرير عن ابن مسعود. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 147) رقم (27803) ، وذكره ابن عطية (4/ 320) ، والسيوطي (5/ 280) ، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن جابر قال: سألت أبا قرة. (3) ذكره ابن عطية (4/ 320) . (4) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1487) . (5) ينظر: «المحرر» (4/ 320) . [.....] (6) تقدم تخريجه، وهو حديث: «أنا عند ظن عبدي بي» .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 إلى 49]

قال الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] . وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ معناه: ذكره لك في الأزل أن جعلك من الذاكرينَ له أكبرٌ من ذكرِك أنت الآن له، انتهى. قال القُشَيْريُّ في «رسالته» : الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وهو العمدة في هذا الطريق ولا يصل أحد إلى الله سبحانه إلا بدوام الذكر، ثم الذكرُ على ضربين: ذكر باللسان، وذكرٌ بالقلب، فذكر اللسان: به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، والتأثيرُ لذكر القلب، فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه، وقلبه فهو الكامل في وصفه، سمعتُ أبا علي الدقاق يقول: الذكر منشورُ الولاية، فمن وُفِّقَ للذكر فقد وُفِّقَ للمنشور ومن سُلِبَ الذكرَ فقد عُزِلَ، والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات. وأسند القشيريُّ عن المظفر الجصاص قال: كنت أنا ونصرَ الخراط ليلةً في موضع فتذاكرنا شَيْئاً من العلم فقال الخراط: الذاكر للَّه تعالى فائدته في أول ذكره: أنْ يعلمَ أنَّ الله ذكَره فبذكر الله له ذِكرُه، قال: فخالفته، فقال: لو كان الخضرُ هاهنا لشهد لصحته، قال: فإذا نحن بشيخٍ يجيء بين السماء والأرض، حتى بلغ إلينا وقال: صدق الذاكر للَّه بفضل الله، وذكره له ذكرَه، فعلمنا أنه الخضر عَليه السلام، انتهى. وباقي الآيةِ ضَرْبٌ من التَوعُّدِ وحثٌّ على المراقبةِ، قال البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» : / قال بعض العلماء: إن الله عز وجل يقول: «أيّما عبد 63 أاطّلعت عَلَى قَلْبِهِ فَرَأَيْتُ الغَالِبَ عَلَيْهِ التَّمَسُّكَ بِذِكْرِي تَوَلَّيْتُ سِيَاسَتَهُ، وَكُنْتُ جَلِيسَهُ وَمُحَادِثَهُ وَأَنِيسَهُ» . انتهى. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هذه الآية مَكيةٌ، ولم يكن يومئذٍ قتالٌ، وكانتِ اليهودُ يومئذٍ بمكة وفيما جاورها، فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدالٌ واحتجاجٌ في أمر الدينِ وتكذيب، فأَمر الله المؤمنين ألا يجادلوهم إلا بالتي هي أحسن دعاءً إلى الله تعالى وملاينةً، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين وحصلت منه أذية فإن هذه الصنيفة استُثْنِيَ لأهل الإسلام معارضَتُهَا بالتغيير عليها،

والخروج معها عن التي هي أحسن. ثم نُسِخَ هذا بَعْدُ بآية القتال وهذا قول قتادة «1» وهو أحسن ما قيل في تأويل الآية. ت: قال عزُّ الدين بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ في «اختصاره لقواعد الأحكام» «2» : فائدة: لا يجوز الجدال والمناظرة إلا لإظهار الحقِّ ونُصْرَتِهِ ليُعْرَفَ ويُعْمَلَ به، فمن جادل لذلك فقد أطاع، ومن جادَلَ لغرضٍ آخر، فقد عصى وخَابَ، ولا خير فيمن يتحيَّلُ لِنُصْرَةِ مذهبه مع ضعفه وبُعْدِ أدلته من الصواب، انتهى. تنبيه: رَوَى الترمذيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «الحَيَاءُ وَالْعِيُّ: شُعْبَتَانِ مِنَ الإيمَانِ، والبَذَاءُ وَالبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النَّفَاقِ» «3» . وروى أبو داود والترمذيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّ اللهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ بلسانها» حديث «4»

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 150) رقم (27822) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 470) بنحوه، وابن عطية (4/ 321) بنحوه، وابن كثير بنحوه (3/ 415) ، والسيوطي (5/ 282) ، وعزاه لأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف» عن قتادة. (2) قال «المقري» في «قواعده» : لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج، وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ، أو المرجوحية عند المجيب، كما يفعله أهل الخلاف، إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة، والتعليم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق، فالحق أعلى من أن يعلى، وأغلب من أن يغلب. وقال أيضا: ولا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها، ويذهب بالثقة بظاهرها فإن ذلك إفساد لها، وغض من منزلتها، لا أصلح الله المذاهب بفسادها، ولا رفعها بخفض درجاتها، فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح لنا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل لا يجوز الرد مطلقا لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال «الإمام الشافعي» ، لا أن ترد هي إلى المذاهب ولله درّ علي- رضي الله عنه- أي بحر علم ضم جنباه! - إذ قال لكميل بن زياد لما قال له: أترانا نعتقد أنك على الحق، وأن طلحة، والزبير على الباطل؟!: اعرف الرجل بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وما أحسن قول أرسطو لما خالف أستاذه أفلاطون: تخاصم الحقّ وأفلاطون، وكلاهما صديق لي، والحق أصدق منه. انظر «القواعد» (2/ 397) وما بعدها بتصرف، وينظر: «القواعد الصغرى» بتحقيقنا ص 109. (3) أخرجه الترمذيّ (4/ 375) كتاب البر والصلة: باب ما جاء في العي، حديث (2027) ، وأحمد (5/ 269) ، والحاكم (1/ 9) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 410- بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن مطرف أبي غسان عن حسان بن عطية عن أبي أمامة مرفوعا. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. (4) أخرجه أبو داود (2/ 720) كتاب الأدب: باب ما جاء في المتشدق في الكلام، حديث (5005) ، والترمذيّ (5/ 141) كتاب الأدب: باب ما جاء في الفصاحة والبيان، حديث (2853) ، وأحمد (2/ 165، 187) من طريق نافع بن عمر الجمحي عن بشر بن عاصم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

غريب، انتهى وهما في «مصابيح البغوي» . وروى أبو داودَ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الكَلاَمِ لِيَسْبِيَ بِه قُلُوبَ الرِّجَالِ، أَوِ النَّاسِ- لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً» «1» انتهى. وقوله تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا الآية، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراةَ بالعبرانيةِ ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ «2» » ، وقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» وَرَوَى ابنُ مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوْكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا: إمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وإمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ» «3» . وقوله تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريدُ: التوراة والإنجيل كانوا في وقت نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرآن. ثم أخبر عن معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم أن منهم أيضاً مَنْ يؤمن به ولم يكونوا آمنوا بَعْدُ، ففي هذا إخبارٌ بغيب بَيَّنَه الوجودُ بَعْدَ ذلك. قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ يُشْبِهُ أَن يُرَادَ بهذا الانحناءِ كفارُ قريش. ثم بيَّن تَعَالى الحجةَ وأوضحَ البرهانَ: أَن مما يقوى أَنَّ نزولَ هذا القرآن مِن عِنْدِ الله أن محمداً- عليه السلام- جاء به في غاية الإعجاز والطُّول والتَّضَمُنِ للغيوب، وغير ذلك؟ وهو أمِّيَّ لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتاباً/ ولا يخط حروفاً ولا سبيلَ له إلى 63 ب التعلم، ولو كان ممن يقرأ أو يخط، لارتاب المبطلون، وكان لهم في ارتيابهم مُعَلَّق، وأما ارتيابهُم مع وضوحِ هذهِ الحجةِ فظاهرٌ فساده. قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ يعني: القرآن، ويحتمل أن يعودَ على أمر محمد صلى الله عليه وسلّم والظَّالِمُونَ والْمُبْطِلُونَ يعمّ لفظهما كلّ مكذّب للنبي صلى الله عليه وسلّم، ولكنّ عظم

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 720) كتاب الأدب: باب ما جاء في المتشدق في الكلام، حديث (5006) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (13/ 345) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء» ، حديث (7362) وفي (13/ 525) كتاب التوحيد: باب ما يجوز من تفسير التوراة، حديث (7542) ، والطبريّ في «تفسيره» (10/ 151) رقم (27823) من حديث أبي هريرة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 282) ، وزاد نسبته إلى النسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الشعب» . (3) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 151) رقم (27825) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 282) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 إلى 52]

الإشارةَ بهما إلى قريش لأنهم الأهم قاله مجاهد «1» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ الضمير في: قالُوا لقريش ولبعض اليهود لأنهم كانوا يعلِّمون قريشاً مثل هذه الحجة على ما مر في غير ما موضع. ثم احتج عليهم في اقتراحهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ومعجز للجن والإنس فقال سبحانه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ... الآية. وقوله: آمَنُوا بِالْباطِلِ يريد: الأصنام وما في معناها. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 56] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) وقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يريد: كفارَ قريش، وباقي الآية بَيِّنٌ مما تقدم مكرّراً والله الموفق بفضله. وبَغْتَةً: معناه: فجأة: وهذا هو عذاب الدنيا كيوم بدر ونحوه. ثم توعدهم سبحانه بعذاب الآخرة في قوله: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ ... الآية. وقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ... الآيات، هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الكائنين بمكَّة على الهجرة. قال ابن جبير «2» ، وعطاء «3» ومجاهد «4» : إن الأَرْض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 152) رقم (27832) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 322) ، والسيوطي (5/ 283) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 156) رقم (27845- 27846) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 472) بنحوه، وابن عطية (4/ 324) ، والسيوطي (5/ 285) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 156) رقم (27847) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 472) بنحوه، وابن عطية (4/ 324) ، والسيوطي (5/ 285) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في «العزلة» ، وابن جرير عن عطاء. (4) أخرجه الطبريّ (10/ 156) رقم (27849) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 472) بنحوه، وابن عطية (4/ 324) ، والسيوطي (5/ 285) ، وعزاه للفريابي، وابن جرير عن مجاهد.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 57 إلى 63]

الهجرةُ عنها إلى بلد حق وقاله «1» مالك. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 57 الى 63] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ تحقيرٌ لأمرِ الدنيا ومخاوفِها، كأن بعضَ المؤمنين نظر في عاقبةٍ تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا فحقَّر الله سبحانه شَأْنَ الدنيا، أي وأنتم لا محالة ميتون ومُحْشَرُون إلينا، فالبِدَارُ إلى طاعة الله والهجرة إليه أولى ما يُمْتَثَلُ. ذكر هشامُ بنُ عبْدِ اللَّهِ القرطبيُّ في تاريخه المسمى ب «بهجة النفس» قال: بينما المنصور جالسٌ في منزله في أعلى قصره إذ جاءه سهم عائر فسقط بين يديه فذُعِرَ المنصورُ منه ذُعْراً شديداً، ثم أخذه فجعل يقلّبه، فإذا مكتوبٌ عليه بين الرِّيشَتَيْنِ: [الوافر] أَتَطْمَعُ في الحياة إلى التنادي ... وتحسب أنّ ما لك مِنْ مَعَادِ سَتُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِكَ وَالْخَطَايَا ... وََتُسْأَلُ بَعْدَ ذَاكَ عَنِ الْعِبَادِ ومن الجانب الآخر: [البسيط] أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأَيَّامِ إذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَاعَدَتْكَ اللَّيَالِي فاغتررت بِهَا ... وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الكَدَرُ وفي الآخر: [البسيط] هِيَ الْمَقَادِيرُ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا ... فاصبر فَلَيْسَ لَهَا صَبْرٌ على حَالِ يَوْماً تُرِيكَ خَسِيسَ القَوْمِ تَرْفَعُه ... إلَى السَّمَاءِ وَيَوْماً تَخْفِضُ العَالِي / ثم قرأ على الجانب الآخر من السهم: [البسيط] مَنْ يَصْحَبِ الدَّهْرَ لاَ يَأْمَنْ تَصَرُّفَهُ ... يَوْماً فَلِلدَّهْرِ إحْلاَءٌ وإمرار

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 324) .

لِكُلِّ شَيْءٍ وَإنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ ... إذَا انتهى مَدُّهُ لاَ بُدَّ إقْصَارُ انتهى. وقرأ حمزة «1» : «لنثوينهم من الجنة غرفا» : من أثوى يُثْوِي بمعنى: أقام. وقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ... الآية: تحريضٌ على الهجرة لأَن بعضَ المؤمنين فكَّر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة، وقالوا: غربةٌ في بلد لاَ دَارَ لنا فيه ولا عقار، ولا من يطعم، فمثل لهم بأَكثر الدواب التي لا تتقوت ولا تدخر، ثم قال تعالى: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ فقوله: لاَّ تَحْمِلُ يجوز أن يريدَ مِن الحَمْلِ، أي: لا تَنْتَقِلُ ولا تنظر في ادخاره. قاله مجاهد «2» وغيره. «3» قال ع: والادِّخار ليسَ من خُلُق الموقنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لاِبْنِ عُمَرَ: «كَيْفَ بِكَ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةِ منَ النَّاسِ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ بِضَعْف اليَقِينِ» «4» ، ويجوز أن يريدَ من الحمالة أي: لا تتكفّل لنفسها. قال الداوديّ: وعن علي بن الأقمر: لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي: لا تدخر شيئاً لغدٍ، انتهى. وفي الترمذي عن عمر بْنِ الخَطَّابِ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً» «5» . قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح. انتهى.

_ (1) ينظر: «السبعة» (504) ، و «الحجة» (5/ 438) ، و «إعراب القراءات» (2/ 190) ، و «معاني القراءات» (2/ 261) ، و «شرح الطيبة» (5/ 129) ، و «العنوان» (150) ، و «حجة القراءات» (554) ، و «شرح شعلة» (538) ، و «إتحاف» (2/ 352) . [.....] (2) أخرجه الطبريّ (10/ 158) رقم (27853) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 325) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 325) . (4) تقدم. (5) أخرجه الترمذيّ (4/ 573) كتاب الزهد: باب في التوكل على الله، حديث (2344) ، وابن ماجه (2/ 1394) ، كتاب الزهد: باب التوكل واليقين، حديث (4164) ، وأحمد (1/ 30) ، وأبو يعلى (1/ 212) ، رقم (247) ، وابن حبان (2/ 509) رقم (730) ، وابن المبارك في «الزهد» (ص: 196- 197) رقم (559) ، والحاكم (4/ 318) ، وأبو نعيم (10/ 69) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (1445) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 328- بتحقيقنا) كلهم من حديث عمر بن الخطاب. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 إلى 69]

ثم خاطب تعالى في أمر الكفار وإقامة الحجة عليهم، بأَنهم إن سُئِلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة، لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى، ويُؤْفَكُونَ معناه: يصرفون. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 69] وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) وقوله تعالى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وصفَ اللهُ تعالى الدنيا في هذه الآيةِ بأنها لهوٌ ولعب، أي: ما كان منها لغير وجه الله تعالى وأما مَا كان للَّه تعالى فهو من الآخرة، وأما أمورُ الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قِوَامُ العَيْشِ، والقوةُ على الطاعات فإنما هي لهو ولعب، وتأملْ ذلك في الملابِس والمطاعِم، والأقوال، والمكتسبات، وغير ذلك، وانظر أن حالةَ الغني والفقير من الأمور الضرورية واحدة: كالتنفسِ في الهواء، وسد الجوع، وستر العورة، وتَوَقِّي الحر والبرد هذه عظم أمر العيش والْحَيَوانُ والْحَياةُ بمعنًى، والمعَنى: لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن «1» ، ويقال: أصله: حييان فأبدلت إحداهما واواً لاجتماع المِثْلَين. ثم وقَفَهُمْ تعالى على حالهم في البحر عند الخوف العظيم ونسيانهم عند ذلك للأصنام، وغيرها، على ما تقدم بيانه في غير هذا الموضع: ولِيَكْفُرُوا نصبٌ ب «لام كي» ثم عدَّد تعالى على كَفَرَةِ قريش نعمتَه عليهم في الحَرَمِ و «المثوى» : موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآية في غايةِ الاقْتِضَابِ والإيجاز وجمع المعاني. ثم ذكر تعالى حالَ أوليائه والمجاهدين فيه. وقوله: فِينا معناه: في مرضاتنا وبغيةِ ثوابِنا. قال السدي وغيره: نزلت هذه الآيةُ قبل فَرضِ «2» القتال. قال ع «3» : فهي/ قَبْلَ الجهادِ العَرْفي وإنما هو جِهَاد عامُّ في دين الله وطلب 64 ب مرضاته.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 159) رقم (27858) ، وذكره ابن عطية (4/ 325) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 326) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 326) .

قال الحسن بن أبي الحسن «1» : الآيةُ في العُبَّادِ. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما علموا «2» . وقال أبو سليمان الدَّارانيُّ: ليس الجهادُ في هذه الآية قتالَ العدو فقط بل هو نَصْرُ الدِّين والردُّ على المبطلينَ وقمعُ الظالمينَ وأعظمُه الأمر بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكرِ، ومنه مجاهدةُ النفوسِ في طاعة الله عز وجل وهو الجهاد الأكبر قاله الحسن «3» وغيره، وفيه حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم «رَجَعْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ» «4» و «السُّبل» هنا يحتملُ أن تكونَ طُرَقَ الجنةِ ومَسَالِكَهَا، ويحتملُ أن تكونَ سبلَ الأعمال المؤَدِّيَةِ إلى الجنةِ، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النيّة في الأعمال، وحب التَزَيُّدِ والتَفَهُّمِ، وهو أن يُجَازَى العبدُ عَلى حَسَنَةٍ بازدياد حسنةٍ وبعلمٍ يَنْقَدِحُ مِن عِلْمٍ متقدمٍ. قال ص: وَالَّذِينَ جاهَدُوا: مبتدأ خبرُه القسمُ المحذوفُ، وجوابُه وهو: لَنَهْدِيَنَّهُمْ، انتهى. وقال الثعلبي: قال سهل بن عبد الله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في إقامة السنة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الجنة انتهى. واللام في قوله لَمَعَ لام تأكيد.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 326) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 326) . (3) ذكره ابن عطية (4/ 326) . (4) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (13/ 493) من حديث جابر. وقال الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (3/ 7) : أخرجه البيهقي في «الزهد» من حديث جابر، وقال: هذا إسناد فيه ضعف.

تفسير"سورة الروم"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلّى الله على سيّدناو مولانا محمّد وعلى آله تفسير «سورة الروم» وهي مكّيّة اتّفاقا [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ قرأ الجمهور «1» : «غُلبت» - بضم الغين، - وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أنّ الملك كسرى هزم جَيْشَ الروم بأذْرِعَاتٍ وهي أدنى الأرض إلى مكة قاله عكرمة «2» . فَسُرَّ بذلك كفارُ مكةَ فبشر الله تعالى المؤمنين بأن الرومَ سيَغْلِبونَ في بضْعِ سنين، فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المسجد الحرام فقال للكفار: أسركم أن غُلِبَتِ الرُّوم؟ فإن نبيَّنا أخبرنا عن الله تعالى: أنهم سَيغْلبون في بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بن خلف وأخوه أمية بن خلف: يا أبا بكر: تعالَ فَلْنَتَنَاحَبْ، أي: نتراهنْ في ذلك، فراهنهم أبو بكر على خمس قلائص «3» ، والأجل ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحرم القِمار، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بذلك فقال له: إن البضع إلى التسع، ولكن زدهم في

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 327) ، و «البحر المحيط» (7/ 157) ، و «الدر المصون» (5/ 370) . (2) ذكره البغوي (3/ 477) ، وابن كثير (3/ 423- 424) ، والسيوطي (5/ 291) ، وعزاه لابن جرير عن عكرمة. (3) القلائص: جمع قلوص، وهي الفتيّة من الإبل بمنزلة الجارية الفتاة من النساء. وقيل: هي الثنيّة، وقيل: هي ابنة المخاض. وقيل: هى كل أنثى من الإبل حين تركب. ينظر: «لسان العرب» 3722. [.....]

الرهن واستزدهم في الأجل، ففعل أبو بكرٍ، فجعلوا القلائصَ مائةً، والأجل تسعةَ أعوامٍ، فَغَلَبَتْ الرومُ فارسَ فِي أثْنَاءِ الأَجَلِ يوم بدر. ورُوِيَ أن ذلك كان يوم الحُدَيْبِية، يوم بيعة الرضوان وفي كلا اليومين كان نصرٌ من الله تعالى للمؤمنين وذكر الناسُ سرورَ المؤمنين بغلبةِ الروم من أجل أنهم أهل كتاب، وفرحت قريشٌ بغلبة الفرسِ من أجل أنهم أهل أوثان ونحوه من عبادة النار. وقوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. أي: له إنفاذ الأحكام من قبل ومن بعد هذه الغلبةِ التي بين هؤلاء ثم أخبر تعالى أن يوم غلبة الروم للفرس يفرح المؤمنون بنصر الله، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يريدُ: كُفَّارَ قريش والعرب، أي: لا يعملون 65 أأن الأمور من عند الله، وأن وعده لا يُخْلَفُ، وأن ما يورده/ نبيُّه حق. قال ع «1» : وهذا الذي ذكرناه عُمْدَةُ ما قيل. ثم وصف تعالى الكفرةَ الذين لا يعلمون أمر الله وصِدْقَ وعدِه بأنهم إنما: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، قال صاحب «الكلم الفارقية» : الدنيا طَبَقٌ مسموم، لا يعرف ضرره إلا أربابُ الفهوم. قوةُ الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة. بحسب انصرافُ الرغبةِ إلى الشيء، يجدُّ الراغبُ في طلبه، وتتوفَّرُ دواعيه على تحصيلهِ. المطلوبات تُظهر وتبيِّنُ أقدارَ طُلاَّبها فمن شَرُفَتْ همَّتُهُ شَرُفَتْ رغبته وعزت طلبته. يا غافل، سكر حبك لدنياك وطول مُتابعتِكَ لَغاوِي هواك- أنساك عظمةَ مولاك وَثَنَاكَ عن ذكره وألهاك وَصَرَفَ وجه رغبتك عن آخرتك إلى دنياك. إنْ كنت من أَهل الاستِبْصَار، فألقِ ناظرَ رغبتك عن زخارف هذه الدار فإنها مجمعُ الأكدار، ومنبَعُ المضار وسِجْنُ الأَبرار ومجلس سرور الأشرار. الدنيا كالحيةِ تجمع في أنيابها سُمُومَ نَوَائِبِها وتفرغه في صميمِ قلوب أبنائها، انتهى. قال عياض في «الشفا» : قال أبو العباس المبرِّد- رحمه الله- قَسَّم كِسرى أيامَه فقال: يَصْلُحُ يَوْمَ الريح للنوم، ويومُ الغَيْم للصيد، ويوم المطر للشُّرْب واللهو، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خَالَوَيْهِ: ما كان أعرفَهم بسياسة دنياهم، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، لكنْ نبينَا محمدا صلى الله عليه وسلّم جزأها ثلاثةَ أجزاء: جزءاً للَّه تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه. ثم جزَّأ جزءه بينه وبين الناس فكان يستعين بالخاصة على العامة وَيَقُولُ: أَبْلِغُوا حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ إبْلاَغِي فَإنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ، أَمَّنَهُ اللهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، انتهى. والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه، يأخذ من هذه الآية بحظّ. نوّر الله قلوبنا بهداه.

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 329) .

[سورة الروم (30) : الآيات 9 إلى 13]

ت: قد تقدم ما جاء في الفكرة في «آل عمران» . قال ابن عطاء الله: الفكرة سِرَاجُ القَلْب فإذا ذَهَبَتْ فلا إضاءة له. وقال: ما نفع القلبَ شيءٌ مثلُ عُزْلَةٍ يدخل بها ميدانَ فكرة، انتهى وباقي الآية بيّن. [سورة الروم (30) : الآيات 9 الى 13] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وقوله عزَّ وجل: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ ... الآية، يريدُ أثاروا الأرضَ بالمباني، والحرثِ، والحروبِ وسائرُ الحوادثِ التي أحدثوها هي كلُّها إثارةٌ للأرض بعضها حقيقة وبعضها بتجوُّز، والضمير في عَمَرُوها الأول للماضين، وفي الثاني للحاضرين المعاصرين. وقوله تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ. قرأ نافع «1» وغيره: «عَاقِبَةُ» - بالرفع- على أنها اسْمُ كانَ، والخبر يجوز أن يكون السُّواى، ويجوز أن يكونَ أَنْ كَذَّبُوا، وتكونُ السُّواى على هذا مفعولا ب أَساؤُا وإذا كان السُّواى خبراً ف أَنْ كَذَّبُوا مفعول من أجله. وقرأ «2» حمزة والكسائي وغيرهما «عَاقِبَةَ» بالنصب على أنها خبرٌ مقدَّم، واسم كان أحد ما تقدم، والسُّواى: مصدر كالرُّجْعَى، والشورى، والفتيا. قال ابن عباس: أَساؤُا هنا بمعنى: كفروا «3» ، والسُّواى هي النار. وعبارة البخاري: وقال مجاهد السُّواى أي: الإساءة جزاء المسيئين «4» ، انتهى. والإبْلاَسُ: الكون في شرّ، مع اليأس من الخير.

_ (1) ينظر: «السبعة» (506) ، و «الحجة» (5/ 442) ، و «إعراب القراءات» (2/ 193) ، و «معاني القراءات» (2/ 263) ، و «شرح الطيبة» (5/ 131) ، و «العنوان» (151) ، و «حجة القراءات» (556) ، و «شرح شعلة» (539) ، و «إتحاف» (2/ 354) . (2) ينظر: مصادر القراءة السابقة. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 171) رقم (27907) ، وذكره ابن عطية (4/ 331) ، والسيوطي (5/ 293) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (4) ذكره السيوطي (5/ 293) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة عن مجاهد.

[سورة الروم (30) : الآيات 14 إلى 16]

65 ب ص: وقال الزجاج «1» : المُبْلِسُ: الساكت المنقطع/ في حجته اليائس من أن يَهْتَدِيَ إليها، انتهى. [سورة الروم (30) : الآيات 14 الى 16] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) وقوله جلت عظمته: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ معناه: في المنازل والأحكام والجزاء. قال قتادة «2» : فرقة والله- لا اجتماع بعدها. ويُحْبَرُونَ معناه يُنَعَّمُونَ قاله مجاهد «3» . والحبرة والحبُورُ: السرور، وقال يحيى بن أبي كثير: يُحْبَرُونَ معناه: يسمعون الأغاني وهذا نوع من الحبرة. ت: وفي الصحيح من قول أبي موسى: لو شعرت بك يا رسول الله لحبَّرتْهُ لك تَحْبِيراً أو كما قال. وقال ص: يُحْبَرُونَ: قال الزجاج «4» : التَحْبِيرُ: التحسين، والحبر العالم، إنما هو من هذا المعنى لأنه مُتَخَلِّقٌ بأحسَن أخلاق المؤمنين، والحِبْرُ المِدَادُ إنما سمي به لأنه يُحَسَّنُ به، انتهى. قال الأصمعيُّ: ولا يقال: روضة حتى يكونَ فيها ماء يشربُ منه. ومعنى: فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي: مجموعون له: لا يغيب أحد عنه. [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 29] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 179) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 172) رقم (27911) ، وذكره ابن عطية (4/ 331) ، وابن كثير (3/ 428) ، والسيوطي (5/ 293) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 173) رقم (27913) ، وذكره البغوي (3/ 479) ، وابن عطية (4/ 331) ، وابن كثير (3/ 428) ، والسيوطي (5/ 294) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (4) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 180) .

وقوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ ... الآية خطابٌ للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحضِّ على الصلاة في هذه الأوقات، كأنه يقول سبحانه: إذا كان أمر هذه الفرق هكذا من النقمة والعذاب، فجِدَّ أيها المؤمن في طريق الفوز برحمة الله. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِه ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» «1» . رواه أبو داود، انتهى من «السلاح» . قال ابن عَبَّاس وغيره: في هذه الآية تنبيهٌ علَى أربع صلواتٍ: المغرب، والصبح، والظهر، والعصر «2» ، قالوا: والعشاءُ الأخيرةُ هي في آية أخرى: في زلف الليل، وقد تقدم بيانُ هذا مُسْتَوْفَى في مَحَاله. وقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... الآية، تقدم بيانُها. ثم بعد هذه الأَمثِلَةِ القاضيةِ بتجويز بعث الأجساد عقلاً ساق الخبر سبحانه بأن كذلك خروجنا من قبورنا، وتَنْتَشِرُونَ معناه: تتصرفون وتتفرقون، والمودة والرحمة: هما على بابهما المشهور من التواد والتراحم هذا هو البليغ. وقيل: غير هذا.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 740) كتاب الأدب: باب ما يقول إذا أصبح حديث (5076) والطبراني في «الكبير» (12/ 239) رقم (12991) كلاهما من طريق محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عباس مرفوعا. وعبد الرحمن البيلماني وابنه لا يحتج به. والحديث ضعفه الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (3/ 57) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 174) رقم (27919- 27921- 27923) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 479) ، وابن عطية (4/ 332) ، والسيوطي (5/ 295) ، بنحوه وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس.

وقرأ الجمهور: «للعالَمين» - بفتح اللام- يعني: جميع العالم. وقرأ حفصٌ «1» عن عاصم- بكسرها- على معنى: أَنَّ أهلَ الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم، وباقي الآية اطْلبه في مَحَالِّه تجده إن شاء الله مبيناً، وهذا شأننا إلاحالة في هذا المختصر على ما تقدم بيانه، فاعلمه راشداً. ت: وهذه الآياتُ والعبر إنما يعظمُ موقعُها في قلوب العارفين باللَّه سبحانه، ومن أكثرَ التفكُّرَ في عجائب صنع الله تعالى حَصَلَتْ له المعرفةُ بالله سبحانه. قال الغَزَالِيُّ في «الإحياء» : وبحر المعرفة لا ساحل له والإحاطة بكنه جلال الله محالٌ، وكلما كثرت المعرفةُ بالله تعالى وصفاتِه وأَفعاله وأسرار مملكته وقويت- كثر النعيم في الآخرة وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن- كثر الزرع وحسن. وقال أيضاً في كتاب «شرح عجائب القلب» من «الإحياء» : وتكون سَعَةُ ملك العبد في الجنة بحسب سِعَة معرفتِه بالله، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله- سبحانه-، وصفاتِه، وأفعاله، انتهى. وقوله تعالى: أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ معناه: تثبت، كقوله تعالى: وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [البقرة: 20] . وهذا كثير، والدعوة من الأرض: هي البعث ليوم القيامة، قال مكي: والأحسن عند أهل النظر أنَّ الوقفَ في هذه الآية يكونُ في آخرها، تُخْرَجُونَ لأن مذهب سيبويهِ والخليلِ في «إذا» الثانية: أنها جوابُ/ الأولى، كأنه قال: ثم إذا دعاكم خرجتم وهذا 66 أأسدّ الأقوال. وقال ص: إِذا أَنْتُمْ، «إذا» : للمفاجأة، وهل هي ظرفُ مكانٍ أو ظرفَ زمان؟ خلاف، ومِنَ الْأَرْضِ علَّقهُ الحُوفِيُّ ب «دَعَا» ، وأجاز ع «2» : أن يتعلقَ ب «دعوة» انتهى. وقرأ حمزة «3» والكسائي: «تَخْرُجُونَ» - بفتح التاء، والباقون بضمها-، والقنوت هنا

_ (1) ينظر: «الحجة» (5/ 444) ، و «إعراب القراءات» (2/ 194) ، و «معاني القراءات» (2/ 264) ، و «شرح الطيبة» (5/ 132) ، و «العنوان» (151) ، و «حجة القراءات» (557) ، و «شرح شعلة» (540) ، و «إتحاف» (2/ 356) . (2) ينظر: «المحرر» (4/ 334) . (3) وحجتهما قوله تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ [القمر: الآية 7] ، وقوله: إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] . وحجة الباقين قوله سبحانه: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا [يس: الآية 52] . [.....]

[سورة الروم (30) : الآيات 30 إلى 32]

بمعنى الخضوعِ، والانقيادِ في طاعتهِ سبحانه. وإعادة الخلق: هو بعثُهم من القبور. وقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قال ابن عباس وغيره: المعنى: وهو هين «1» عليه، وفي مصحف ابن مسعود «2» «وهو هين عليه» ، وفي بعض المصاحف «وكل هين عليه» . وقال ابن عباس أيضاً وغيره: المعنى: وهو أيسر «3» عليه، قال: ولكن هذا التفضيل إنَّما هو بحسْب معتقدِ البَشَرِ وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعَادَةِ في كثير من الأشياء أهون علينا من البدأة. ولما جاء بلفظٍ فيه استعارة، وتشبيه «4» بما يعهده الناس من أنفسهم خَلُصَ جانبُ العظمة بأن جعل له المثلَ الأعْلَى الذي لا يلحقه تكييف ولا تماثل مع شيء. ثم بين تعالى أمر الأصنام وفسادَ معتقدِ مَن يُشْرِكُها بالله- بضربه هذا المثلَ- وهو قوله: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... الآية، ومعناه: أَنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيدٌ تَمْلِكُونَهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومُهِمِّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواءَ المنزلة. وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسموكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: أن من عبيده وملكه شركاءُ في سلطانِه وألوهيته هذا تفسير ابن عباس «5» والجماعة. [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

_ - ينظر: «حجة القراءات» (557) ، و «السبعة» (506) ، و «الحجة» (5/ 445) ، و «إعراب القراءات» ، (2/ 195) ، و «العنوان» (151) ، و «حجة القراءات» (557) ، و «إتحاف» (2/ 356) . (1) أخرجه الطبريّ (10/ 179) رقم (27939) ، وذكره البغوي (3/ 481) ، وابن عطية (4/ 335) ، وابن كثير (3/ 431) ، والسيوطي (5/ 298) ، وعزاه لابن الأنباري عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 335) ، و «البحر المحيط» (7/ 165) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 179) رقم (27940) ، وذكره ابن عطية (4/ 335) ، وابن كثير (3/ 430) ، والسيوطي (5/ 297) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (4) في ج: التشبيه. (5) أخرجه الطبريّ (10/ 181) رقم (27949) بنحوه، وذكره البغوي، (3/ 482) ، وابن عطية (4/ 335- 336) ، والسيوطي (5/ 298) ، بنحوه، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

وقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً.... الآية، إقامة الوجه: هي تقويم المقصد والقوةِ على الجِدِّ في أعمال الدين. وخص الوجه لأنه جامع حواس الإنسان ولشرفه. وفِطْرَتَ اللَّهِ نَصْبٌ على المصدر. وقيل: بفعل مضمر تقديره: اتبع أو التزم فطرة الله، واختُلِفَ في الفطرة هاهنا، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظةِ أَنها الخِلْقَةُ والهَيْئَةُ التي في نفسِ الطفلِ التي هي مُعَدَّةٌ مُهَيَّئَةٌ لأَنْ يَمِيزَ بها مصنوعات الله، ويستدلَّ بها على ربِّهِ، ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه تعالى، قال: أقم وَجْهَك للدِّينِ الذي هو الحنيفُ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فُطِرَ البشرِ لكن تعرضهم العوارض ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ... » الحديث «1» -، ثم يقول

_ (1) أخرجه البخاري (11/ 493) كتاب القدر: باب الله أعلم بما كانوا عاملين، الحديث (6599) ، ومسلم (4/ 2048) : كتاب القدر: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، الحديث (25/ 2658) ، وأبو داود (5/ 86) : كتاب السنة: باب في ذراري المشركين، الحديث (4714) ، والترمذيّ (3/ 303) : كتاب القدر: باب كل مولود يولد على الفطرة، الحديث (3223) ، ومالك (1/ 241) : كتاب الجنائز: باب جامع الجنائز، الحديث (52) ، وأحمد (2/ 233) ، والحميدي (2/ 473) ، رقم (1113) ، وعبد الرزاق (20087) ، وأبو يعلى (11/ 197) ، رقم (6306) وابن حبان (128، 130) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 328) ، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج الإبل جمعاء، هل تحس فيها من جدعاء، قالوا: يا رسول الله: أرأيت الذي يموت وهو صغير، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. ولفظ مسلم مصدرا بلفظ: كل إنسان تلده أمه على الفطرة، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم، كل إنسان تلده أمه، يلكز الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها. وفي الباب عن جابر والأسود بن سريع وابن عباس وسمرة بن جندب. - حديث جابر: أخرجه أحمد (3/ 353) من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا.» وذكره الهيثمي في «المجمع» (7/ 221) وقال: رواه أحمد وفيه أبو جعفر الرازي وهو ثقة وفيه خلاف وبقية رجاله ثقات. - حديث الأسود بن سريع: أخرجه أحمد (3/ 435) ، وابن حبان (1658- موارد) ، وأبو يعلى (2/ 240) رقم (942) ، والطبراني في «الكبير» (1/ 283) رقم (828) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 163) من حديث الأسود بن سريع بمثل حديث جابر. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 319) وقال: رواه أحمد بأسانيد والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ... وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح. -

[سورة الروم (30) : الآيات 33 إلى 47]

فِطْرَتَ اللَّهِ ... الآية، إلى الْقَيِّمُ فذكرُ الأبوين إنما هما مثالٌ للعَوارِض التي هي كثيرةُ. وقال البخاريُّ: فِطْرَةُ اللهِ: هِيَ الإسْلاَمُ «1» ، انتهى. وقوله تعالى: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ يحتمل أنْ يريدَ بها هذه الفطرةَ، ويحتمل أن يريدَ بها الإنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول: أقم وجهَك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإنَّ هؤلاءِ الكفرة قد خلق الله لهم الكفر، ولا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، أي: أنهم لا يفلحون، وقيل غيرُ هذا، وقال البخاري: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي: لدين الله، وخُلُق الأولين: دينهم. انتهى. والْقَيِّمُ بناءُ مبَالَغَةٍ مِنَ القيام الذي هو بمعنى الاستقامة، ومُنِيبِينَ يحتمل أنْ يكونَ حالاً من قوله فَطَرَ النَّاسَ لا سِيَّمَا عَلى رَأْي مَنْ رَأَى أَنَّ ذلكَ خصوصٌ في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالا من قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ وجمعه: لأن الخطاب بإقامة الوجه هو للنبي/ صلى الله عليه وسلّم ولأمته نظيرها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ 66 ب إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] . والمشركون المشار إليهم في هذه الآية: هم اليهودُ والنصارى قاله قتادة «2» ، وقيل غير هذا. [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 47] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

_ -- حديث ابن عباس: أخرجه البزار في «مسنده» (2167- كشف) . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 221) بلفظ: «كل مولود يولد على الفطرة أبواه يهودانه وينصرانه» . وقال الهيثمي: رواه البزار وفيه ممن لم أعرفه غير واحد. - حديث سمرة بن جندب: أخرجه البزار (2166- كشف) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 221) ، وقال: رواه البزار وفيه عباد بن منصور وهو ضعيف. ونقل عن يحى القطان أنه وثقه. (1) ينظر: «البخاري» (8/ 372) كتاب التفسير: باب: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 185) رقم (27973) ، وذكره ابن عطية (4/ 337) ، والسيوطي (5/ 300) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة.

وقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ... الآية، ابتداءُ إنحاءٍ على عَبَدَةِ الأَصْنَام. قال ع «1» : ويلحق من هذه الألفاظ شيءٌ للمؤمنين إذا جاءهم فَرَجٌ بعد شدة فعلقوا ذلك بمخلوقين، أو بحذق آرائهم، وغير ذلك لأن فيه قلة شكر للَّه تعالى ويسمى تَشْرَيكاً مجَازاً. والسلطانُ هنا البرهانُ من رسولٍ أو كتابٍ، ونحوه. وقوله تعالى: فَهُوَ يَتَكَلَّمُ معناه فهو يُظْهِر حجتَهم، ويغلبُ مذهبَهم، وينطق بشركهم. ثم قال تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها ... الآية، وكل أحد يأخذ من هذه الخُلُقِ بقسطِ، فالمقل والمكثر، إلا من ربطتِ الشريعةُ جأشَه، ونَهَجَتِ السنة سبيلَه، وتأدَّب بآداب الله، فصبر عند الضراء وشكر عند السراء، ولم يَبْطُرْ عند النِّعْمَةِ، ولا قنط عند الابتلاءِ، والقَنَطُ: اليأسُ الصريحُ. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم يَيْأْسْ من رَّوْح اللهِ- وهو أنه سبحانه يَخُصُّ من يشاء من عبادهِ بِبَسْطِ الرزق، ويقدر على من يشاء منهم. فينبغي لكلِ عَبْدٍ أنْ يكونَ راجياً ما عند ربه. ثم أمر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أمراً تَدْخُلُ فيه أمته- على جهة الندب- بإيتاء ذي القربى حقَّه من صلة المالِ، وحسنِ المعاشرة ولين القول، قال الحسن «2» : حقه المواساةُ في اليُسْر، وقولٌ مَيْسُورٌ في العُسْرِ. قال ع «3» : ومعظمُ ما قُصِدَ أمر المعونة بالمال.

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 337) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 187) رقم (27976) ، وذكره ابن عطية (4/ 338) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 338) .

وقرأ الجمهور: وَما آتَيْتُمْ بمعنى: أعطيتم، وقرأ ابن كثير «1» بغير مد، بمعنى: وما فعلتم، وأجمعوا على المد في قوله وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ والربا: الزيادة. قال ابن عباس «2» وغيره: هذه الآية نزلتُ في هباتِ الثَّوابِ. قال ع «3» : وما جَرَى مَجْرَاها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسِّلمِ وغيرِه، فهو وإن كانَ لاَ إثْمَ فيه فَلا أجْرَ فيه ولاَ زيادة عند الله تعالى، وما أعْطَى الإنسانُ تَنْمِيَةً لِمالهِ وتطهيراً يريدُ بذلك وَجْهَ اللَّه تعالى فذلك هُو الذي يُجَازَى به أضعَافاً مضَاعَفَةً على ما شاء الله له. وقرأ جمهور السبعةِ «ليربوا» بإسناد الفِعل إلى الربا، وقرأ «4» نافعٌ وحدَه «لِتُرْبُوا» وباقي الآية بيِّن. ثم ذكر تعالى- على جهة العبرة- ما ظهرَ من الفسَادِ بسبب المعَاصي، قال مجاهد: البَرُّ البلاد البعيدة من البحر، والبحرُ السواحلُ والمدنُ التي على ضِفَّة البحرِ «5» ، وظهورُ الفساد فيهما: هو بارتفاعِ البركاتِ، ووقوعِ الرزايا، وحدوثِ الفتنِ. وتغلب العدوِّ، وهذه الثلاثةُ توجَد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفسادُ في البحر: انقطاع صَيْدِه بذَنَوب بني آدم «6» ، وقلما توجد أمة فاضلةٌ مُطِيعَةٌ مُسْتَقِيمَةُ الأعمال إلا يدفعُ الله عنها هذه الأمور، والأمرُ بالعكس في المعاصي، وبطر النعمة ليذيقهم عاقبة بعض ما عملوا ويعفوا عن كثير. ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أي: يتوبون ويراجعونَ بصائَرهم فِي طاعةِ ربهِم ثم حذَّر- تعالى- من يومِ القيامةِ تحذيراً يَعُمُّ العالمَ وإياهُمُ المقصد بقوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ الآية وَلاَ مَرَدَّ لَهُ: معناه: لَيْسَ فِيه رُجُوعٌ لِعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُريد/ لاَ يَردُّهُ رَادٌّ. وهذا ظاهر بحسب اللفظ 67 أويَصَّدَّعُونَ: معناه: يَتَفَرَّقُونَ بعد جمعهم إلى الجنةِ وإلى النار. ثم ذكر تعالى من آياته أشياءَ وهي ما في الرِّيحِ من المنافِع وذلك أنها بشرى بالمطر ويُلَقَّحُ بها الشجر، وغير ذلك،

_ (1) ينظر: «السبعة» (507) ، و «الحجة» (5/ 446) ، و «إعراب القراءات» (2/ 196) ، و «معاني القراءات» (2/ 264) ، و «العنوان» (151) ، و «حجة القراءات» (558) ، و «إتحاف» (2/ 357) . [.....] (2) ذكره ابن عطية (4/ 339) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 339) . (4) فالتاء هاهنا للمخاطبين، والواو واو الجمع. وحجته أنها كتبت في المصاحف بألف بعد واو. وحجة الباقين قوله بعده: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ. ينظر: «حجة القراءات» (559) ، و «السبعة» (507) ، و «الحجة» (5/ 447) ، و «إعراب القراءات» (2/ 196) ، و «معاني القراءات» (2/ 265) ، و «شرح الطيبة» (5/ 132) ، و «العنوان» (151) ، و «شرح شعلة» (540) ، و «إتحاف» (2/ 357) . (5) أخرجه الطبريّ (10/ 190- 191) رقم (27997) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 340) . (6) ذكره ابن عطية (4/ 340) .

[سورة الروم (30) : الآيات 48 إلى 53]

وتجري بها السفن في البحر. ثم آنسَ سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ... الآية، ثم وعد تعالى محمداً عليه السلام وأمّته النصر بقوله: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وحقاً خبرَ كانَ قدّمه اهتماما. [سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 53] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ... الآية. الإثارةُ: تَحْريكُها من سكونِها، وتَسْييرُها، وبَسْطُه في السماءِ هو نَشْرهُ في الآفاقِ، والكِسَفُ: القِطَع. وقوله: مِنْ قَبْلِهِ: تأكيدٌ أفادَ الإعلامَ بسرعةِ تقلبِ قُلوبِ البَشَرِ من الإبلاس إلى الاستبشارِ، والإبْلاسُ: الكَوْنُ فِي حالِ سُوءٍ مَعَ اليأسِ من زوالها. وقوله تعالى: كَيْفَ يُحْيِ الضمير في يُحْيِ يُحْتَمَلُ أن يكونَ للأثرِ ويُحْتَمَلُ أنْ يعودَ عَلَى الله تعالى وهو أظهر. ثم أخْبَرَ تعالى عَن حالِ تقلب بني إدمَ، في أنه بعد الاستبشار بالمطر، إن بعثَ الله ريحاً فاصفرَّ بها النباتُ ظلوا يكْفرونَ قلقاً منهم وقِلَّةٌ تسليمٍ للَّه تعالى، والضمير في فَرَأَوْهُ للنباتِ واللامُ في لَئِنْ مؤذِنة بمجيءِ القَسَمِ وفي لَظَلُّوا لاَمُ القَسَم. وقوله تعالى: فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى ... الآية: استعارةٌ للكُفَّارِ وقد تقدم بيان ذلك في «سورة النمل» . [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) .

وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ قال كثير من اللغويين: ضَمُّ الضادِ في البدن، وفتحها في العقل، وهذه الآية إنما يراد بها حال الجِسم، والضُّعْفُ الأول هو: كونُ الإنسان من ماءٍ مهينٍ، والقوة بعد ذلك: الشَّبِيْبَةُ وشدة الأسْر، والضُّعْف الثَّانِي هوَ الهَرَمُ والشَيْخُوخَةُ، هذا قولُ قتادةَ وغيره «1» ورَوَى أبُو داودَ فِي «سننه» بسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لاَ تَنْتِفُوا الشَّيْبَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الإسْلاَمِ إلاَّ كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «2» . وفي رواية «إلاَّ كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بها خطيئة» «3» انتهى. ثم أخبر عز وجل عن يوم القيامة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا أي: تحت التراب غَيْرَ ساعَةٍ وقيل: المعنى: ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها. كَذلِكَ كانُوا في الدنيا يُؤْفَكُونَ أي: يُصْرَفُونَ عن الحق. قال ص: مَا لَبِثُوا: جوابُ القسمِ على المعنى، ولو حُكِي قولهم لَكَانَ ما لبِثْنَا انتهى. ثم أخْبَر تعالى أن الكفَرَة لاَ يَنْفَعْهُمْ يومئذ اعتذارٌ ولا يُعْطَوْنَ عتبى، وهي الرِّضا وباقي الآية بيّن، ولله الحمد.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 198) رقم (28029) ، وذكره ابن عطية (4/ 343) ، والسيوطي (5/ 305) بنحوه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة. (2) أخرجه أبو داود (2/ 484) كتاب الترجل: باب في نتف الشيب، حديث (4202) . (3) ينظر: الحديث السابق.

تفسير"سورة لقمان"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله تفسير «سورة لقمان» وهي مكيّة غير آيتين قال قتادة: أولهما: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ إلى آخر الآيتين، وقال ابن عباس ثلاث. [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) قوله عزّ وجل: الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ: خصَّه للمحسنين من حيثُ لهم نفْعه، وإلا فهو هدًى في نفسه. 67 ب وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ/ رُوِيَ: أن الآيةَ نَزَلَتْ فِي شأن رجلٍ من قريش اشترى جاريةً مغنيةً لِتغنِّي له بهجاء النبي صلى الله عليه وسلّم. وقيل: إنه ابن خطل. وقيل: نَزَلَتْ في النضر بن الحارث، وقيل غيرُ هذا، والذي يترجح أن الآية نَزَلَتْ في لَهْوِ حَدِيثٍ مُضَافٍ إلى كُفْر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية، ولَهْوَ الْحَدِيثِ كل ما يُلهى من غناءٍ وخِناء. ونحوه، والآيةُ باقيةُ المعْنَى في الأَمة غَابِرَ الدهرِ لكنْ ليسَ ليضلوا عن سبيل الله، ولا ليتخذوا آياتِ الله هزواً، ولا عليهم هذا الوعيد بل ليعطلوا عبادةً، ويقطعوا زمناً بمكروه. قال ابن العربي «1» في «أحكامه» : ورَوَى ابن وهبٍ عن مالكٍ عن محمدِ بن المنكدر:

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1493) .

[سورة لقمان (31) : الآيات 7 إلى 11]

أنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أدخلوهم في أرض المسك، ثم يقول الله تعالى للملائكة: أسمعوهم ثنائي وحمدي وأخبروهم أن لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. انتهى. [سورة لقمان (31) : الآيات 7 الى 11] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وقوله عزّ وجل: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ الوَقْرُ في الأذن: الثِّقْلُ الذي يَعْسُر معه إدراك المَسْمُوعَاتِ، و «الرواسي» : هي الجبالُ و «المَيْد» : التحرك يَمْنَةً ويَسْرَةً، وما قرب من ذلك، والزوج: النوع والصنف. وكَرِيمٍ: مدحه بكرم جَوْهره، وحُسْن منظرِه، وغير ذلك. ثم وقف تعالى الكفرةَ على جهة التوبيخ فقال: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 13] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ اختلف في لقمان هل هو نبيٌّ أو رجلٌ صالح فقط، وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبِيّاً وَلَكِنْ كَانَ عَبْداً كَثِيرَ التَّفْكِيرِ، حَسَنَ اليَقِينِ، أَحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ وَخَيَّرَهُ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ خَلِيفَةً يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: رَبِّ إنْ خيّرتني، قَبِلْتُ العَافِيَةَ، وَتَرَكْتُ البَلاَءَ، وَإنْ عَزَمْتَ عَلَيَّ، فَسَمْعاً وَطَاعَةً، فَإنَّكَ سَتَعْصِمَنِي، وَكَانَ قاضياً في بني إسرائيل نُوبِيّاً أَسْوَدَ، مشققَ الرِّجْلَيْنِ، ذا «1» مَشَافِر» ، قاله سعيدُ بن المسيِّب «2» وابن عباس «3» وجماعة: وقال له رجل

_ (1) المشفر والمشفر للبعير: كالشفة للإنسان، وقد يقال للإنسان مشافر على الاستعارة. قال أبو عبيد: إنما قيل: مشافر الحبش تشبيها بمشافر الإبل. ينظر: «لسان العرب» 2287، 2288. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 208) رقم (28086) ، وذكره ابن عطية (4/ 347) ، وابن كثير (3/ 443) ، والسيوطي (5/ 310) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 208) رقم (28085) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 347) ، وابن كثير (3/ 443) ، والسيوطي (5/ 311) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عباس.

[سورة لقمان (31) : الآيات 14 إلى 21]

كان قد رعى معه الغنم-: مَا بَلَغَ بِكَ يا لقمان مَا أرى؟ قَالَ: صِدْقُ الحديثِ، وأداءُ الأَمانةِ، وتركِي ما لا يعنيني، وحِكَمُ لُقْمَانَ كثيرةٌ مأثُورَة. قال ابن العربي في «أحكامه «1» » : ورَوَى عُلماؤُنا عن مالكِ قال: قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ، إنَّ الناسَ قد تطاوَلَ عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرةِ سِراعاً يذهبون، وإنك قد اسْتَدْبَرْت الدنيا مذ كنت، واستقبلت الآخرة مع أَنْفَاسِك، وإن داراً ستسير إليها أقرب إليك من دار تخرج منها، انتهى. وقوله: أَنِ اشْكُرْ يجوز أن تكونَ «أنْ» في مَوضعِ نصب على إسقاط حرف الجر، أي: بأنِ اشْكُرْ للَّهِ ويجوز أن تكونَ مفسِّرَةً، أي: كانت حكمتُه دائرة على الشكر للَّه، وجميع العبادات داخلةٌ في الشكر لله عز وجل، وحَمِيدٌ بمعنى: محمود، أي: هو مستحق ذلك بذاته وصفاته. [سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 21] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان ووَهْناً عَلى وَهْنٍ معناه ضعفاً على ضعف، كأنه قال: حملته أمه، والضَّعْفُ يتزيد بعد الضَّعْفِ إلى أن ينقضي أمده. وقال ص: وَهْناً عَلى وَهْنٍ حالٌ من أمه أي شدة بعد شدة، أَوْ جَهْداً على جَهْدِ، وقيل وَهْناً نطفةٌ، ثم علقةٌ، فيكونُ حالاً من الضمير المنصوب في جملته. انتهى.

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1495) .

وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ. 68 أقال سفيان بن عُيَيْنَةَ: من صلى الصلواتِ الخمسَ فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في إدبار الصلوات فقد شكرهما. وقوله سبحانه: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ... الآية رُوِي أنَّ هاتين الآيتين نزلتا في شأن سَعْدِ بن أبي وقاص وأمه حَمْنَة بنْتِ أبي سفيانَ، على ما تقدم بيانُه، وجملةُ هذا البابِ أن طاعةَ الأبوين لا تُراعى في ركوب كبيرةٍ، ولا في ترك فريضةٍ على الأعيان، وتلزم طاعتُهما في المباحاتِ وتستحسن في ترك الطاعات الندب. وقوله سبحانه: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ وصيةٌ لجميع العالم. وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. وقوله تعالى- حاكياً عن لقمان يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ... الآية: ذكرَ كثيرٌ من المفسرين: إنه أراد مثقال حبة من أعمال المعاصي والطاعات، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجيةٌ وتَخْويفٌ منضاف إلى تَبْيِينِ قدرة الله تعالى. وقوله: وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ يَقْتَضِي حضاً على تغيير المنكر وإن نال ضرراً، فهو إشعارٌ بأن المغيِّر يؤذي أحياناً. وقوله: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يحتمل أن يُرِيْدَ مما عزمه اللهُ وأمَرَ بهِ، قاله ابن جريج «1» : ويحتمل أن يريدَ أنَّ ذلك من مكارم الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكينَ طريقَ النجاةِ قاله جماعة. والصَّعَرُ: الميل، فمعنى الآية: ولا تُمِلْ خَدَّك للناس كِبْراً عليهم وإعجاباً واحتقاراً لهم قاله ابن عباس «2» وجماعة. وعبارة البخاري: ولا تصاعر، أي: لا تعرض، والتَّصَاعُر: الإعْرَاضُ بالوجه انتهى. والمَرَحُ: النَّشَاط، والمشي مَرَحَا: هو في غير شُغْل، ولغير حاجة، وأهل هذه الخُلُقِ ملازمون للفخر والخُيَلاَءِ، فالمَرِحُ مختالُ في مَشيه، وقد ورد من صحيح الأحاديث في جميع ذلك وعيدٌ شديدٌ يطول بنا سرده.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 214) رقم (28108) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 351) ، والسيوطي (5/ 320) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج. [.....] (2) أخرجه الطبريّ (10/ 214- 215) رقم (28109) ، (28110) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 492) ، وابن عطية (4/ 351) ، والسيوطي (5/ 320) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

قال عيَاضٌ: كان أبو إسحاقَ الجبنياني قَلَّ ما يتركُ ثَلاَثَ كَلِماتٍ وفيهن الخيرُ كلُّه: اتَّبِعْ وَلاَ تَبْتَدِعْ، اتضع وَلاَ تَرْتَفِعْ، مَنْ وَرِعَ لا يَتَّسِعْ، انتهى. وغضُّ الصوتِ أوقرُ للمتكلم وأبسطُ لنفس السامع وفهمِه، ثم عَارَضَ ممثلاً بصوت الحَمِير على جهة التشبيه، أي: تلك هي التي بَعُدت عن الغَض فهِي أنكَرُ الأصوات، فكذلك ما بعُد عن الغَضِّ من أصوات البشر فهو في طريقِ تلك، وفي الحديث: «إذَا سِمِعْتُمْ نَهِيقَ الحَمِيرِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإنَّهَا رَأَتْ شَيْطاناً» . وقال سفيانُ الثوري: صياح كل شيءٍ تسبيحٌ إلا صياحُ الحمير. ت: ولفظ الحديث عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فاسألوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإنَّهَا رَأَتْ مَلَكاً، وَإذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَأَنَّهُ رأى شَيْطَاناً» «1» ، رواه الجماعَة إلا ابن ماجَهْ. وفي لفظ النسائي: «إذَا سَمِعْتُمْ الدِّيَكَةَ تَصِيحُ بِاللَّيْلِ» ، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذَا سَمِعْتُمْ نِبَاحَ الْكِلاَبِ وَنَهِيقَ الْحمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإنَّهَا ترى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَقِلُّوا الخُرُوجَ إذَا جَدَّتْ فَإنَّ اللهَ يَبُثُّ في لَيْلِهِ مِنْ خلقه ما يشاء» «2» . رواه أبو داود والنسائي والحاكم في «المستدرك» . واللفظ له، وقال: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ انتهى من «السلاح» . 68 ب/ وقوله تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً. قال المُحَاسبيُّ- رحمه الله- الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنةُ: نعم العقبى. والظاهر عندي التعميمُ. ثم وقف تعالى الكفَرَة على اتِّبَاعهِم دين آبائِهم أيكون وهم بحال من يصير

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 403) كتاب بدء الخلق: باب وبث فيها من كل دابة، حديث (3303) ، ومسلم (4/ 2092) كتاب الذكر والدعاء: باب استحباب الدعاء عند صياح الديك، حديث (82/ 2729) ، وأبو داود (2/ 748) كتاب الأدب: باب ما جاء في الديك والبهائم، حديث (5102) ، والترمذيّ (5/ 508) كتاب الدعوات: باب ما يقول إذا سمع نهيق الحمار، حديث (3459) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» رقم (943، 944) ، وأحمد (2/ 321) ، وابن أبي شيبة (10/ 420) ، وابن حبان (3/ 285- 286) رقم (1005) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 126- بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعرج عن أبي هريرة به. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. (2) أخرجه أبو داود (2/ 748- 749) كتاب الأدب: باب نهيق الحمار ونباح الكلاب، حديث (5103) ، وأحمد (3/ 306) ، والحاكم (4/ 284) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (1234) ، وأبو يعلى (4/ 155) رقم (2221) ، وابن حبان (1996- موارد) ، وابن خزيمة (2559) من حديث جابر.

[سورة لقمان (31) : الآيات 22 إلى 26]

إلى عذاب السعير، فكأنّ القائل منهم يقول: هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير، فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف كما كان اتّساقُ الكلام فيه فتأملْه. [سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 26] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وقوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ معناه يُخْلِصُ ويُوَجِّهْ ويستسلمْ به، والوجْه هنا: الجارحة، اسْتُعِيْرَ للمقصِد لأَنَّ القاصدَ إلى شيء فهو مستقبله بوجهه، فاستعيرَ ذلك للمعاني، والمحسنُ: الذي جَمَعَ القولَ والعمل، وهو الذي شَرَحه صلى الله عليه وسلّم حين سأله جبريل- عليه السلام- عن الإحسان. والمتاعُ القليلُ هنا هو العمر في الدنيا. - وقوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: على ظهور الحجة. [سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 32] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... الآية. روي عن ابن عباس: أن سببَ نزولها أن اليهودَ قالت: يا محمد كيف عنيتنا بهذا القول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ونحن قد أُوتينا التوراةَ تِبْيَاناً لكل شيء؟ فنزلت الآية «1» ، وقيل غير هذا. قال ع «2» : وهذه الآية بَحْرُ نظرٍ وفكرةٍ، نَوَّرَ الله قلوبنا بهداه.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 353- 354) ، وابن كثير (3/ 451) ، والسيوطي (5/ 322) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر» (4/ 354) .

[سورة لقمان (31) : الآيات 33 إلى 34]

وقوله تعالى: مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي: لأنه كله ب «كن فيكون» ، قاله مجاهد «1» . وقوله تعالى: كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يريد: القيامة. وقوله: بِنِعْمَتِ اللَّهِ يحتمل أن يريدَ ما تحملَه السفنُ من الطَّعامِ والأرزاقِ والتجاراتِ، فالباء: للإلْزَاقِ، ويحتمل أن يريدَ بالريحِ وتسخيرِ الله البحرَ ونحوَ هذا، فالباءُ باءُ السببِ. وذكر تعالى من صفات المؤمن الصبَّارَ والشَّكُورَ لأنهما عُظْمُ أخلاقه، الصبرُ على الطاعاتِ وعلى النوائبِ، وعن الشهواتِ، والشكرُ على الضراءِ والسراءِ. وقال الشعبي: الصبرُ نصفُ الإيمانِ والشكرُ نصفُه الآخرُ، واليقينُ الإيمان «2» كله. و «غَشِي» غطَّى أو قارَب، والظُّلَلِ: السحابُ. وقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. قال الحسن: منهم مؤمن «3» يعرف حق الله في هذه النعم، والختَّار القبيحُ «4» الغَدْرِ، وذلك أن مِنَن الله على العباد كأنها عهود ومِنَنٌ يلزمَ عنها أداء شكرها، والعبادةُ لمسديها، فمن كفر ذلك وجحد به، فكأنه ختر وخان، قال الحسن: الختار هو الغدار «5» . وكَفُورٍ: بناء مبالغة. [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ... الآية يَجْزِي مَعْنَاه يَقْضي، والمعنى: لا ينفعه بشيء، وقرأ الجمهور: «الغَرور» «6» : - بفتح

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 222) رقم (28151) ، وذكره السيوطي (5/ 324) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 223) رقم (28157) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 355) . (3) في ج: من. (4) ذكره ابن عطية (4/ 355) . (5) أخرجه الطبريّ (10/ 224- 225) رقم (28162) ، وذكره ابن عطية (4/ 356) . (6) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 189) ، و «الدر المصون» (5/ 392) .

الغَيْنِ- وهو الشيطانُ قاله مجاهد «1» وغيره، واعلم أيها الأخ أنّ مَنْ فَهِمَ كَلامَ رَبِّه وَرُزِقَ التوفيقَ لم يَنْخَدِعْ بغُرورِ الدنيا وزخرفها الفاني بَل يَصْرِفُ هِمَّتَه بالكُلِّيَةِ إلى التزود لآخرته ساعياً في مَرْضَاةِ ربه، وأنَّ مَنْ أيقنَ أنَّ اللهَ يطلبُه صَدَقَ الطلبَ إليه، كما قاله الإمام العارفُ بالله ابن عطاء الله. وإنه لا بد لبناءِ هذا الوجودِ أن تَنْهَدِمَ دعائمُه وأن تسلب كرائِمهُ، فالعاقل من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى، قد أشرق نورُه وظهرت تباشيرُه، فَصَدَفَ عن هذه الدار مُغْضِياً، وأعرض عَنها مولياً، فلم يتخذْها وطناً، ولا جعلها/ 69 أسكنا بل أنْهَضَ الهمَّةَ فيها إلى اللهِ تعالى وَصَارَ فِيهَا مُسْتَعِيناً به في القدومِ عليه، فما زالت مطيةُ عَزْمِهِ لا يَقِرُّ قرارُها. دائما تَسْيَارُهَا، إلى أن أناخَتْ بِحَضْرَةِ القُدَسِ، وبساطِ الإنْسِ، انتهى. وَرَوَيْنَا في «جامع الترمذي» عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أغبط أوليائي عندي المؤمن خَفِيفٌ الحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلاَةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرَّ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ لاَ يُشَارُ إلَيْهِ بِالأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً فَصَبَرَ على ذَلِكَ، ثُمَّ نَفَضَ بِيَدِهِ فَقَالَ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ نَوَائِحُهُ قَلَّ تراثه» ، قال أبو عيسى: وبهذا الإسنادِ عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء «2» مَكَّةَ ذَهَباً، قُلْتُ: لاَ، يَا رَبِّ، ولكن أَشْبَعُ يَوْماً وَأَجُوعُ يَوْماً، أَوْ قَالَ: ثَلاَثاً أَوْ نَحْوَ هذا، فَإذَا جُعْتُ، تَضَرَّعْتُ إلَيْكَ، وَإذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ» «3» . قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ، وفي الباب عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، انتهى. والغُرُورُ: التَّطْمِيعُ بما لا يَحْصُلُ. وقال ابن جُبَيْرٍ: معنى الآية: أن تَعملَ المعصيةَ وتَتَمَنَّى المغفرة «4» ، وفي الحديثِ الصحيح: عنه صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ تعالى وتلا الآية: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... إلى آخرها» «5» . قال أبو حيَّان: بِأَيِّ أَرْضٍ: - الباء ظَرْفِيةٌ والجملة في موضع نصب- ب تَدْرِي. انتهى.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 225) رقم (28169) ، وذكره ابن عطية (4/ 356) ، وابن كثير (3/ 453) . (2) هو مسيل واديها. ينظر: «النهاية» (1/ 134) . (3) أخرجه الترمذيّ (4/ 575) كتاب الزهد: باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن. [.....] (4) أخرجه الطبريّ (10/ 226) رقم (28172) ، وذكره البغوي (3/ 496) ، وابن عطية (4/ 356) ، والسيوطي (5/ 325) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن سعيد بن جبير. (5) تقدم تخريجه.

تفسير"سورة السجدة"

بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله تفسير «سورة السجدة» وهي مكّيّة غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً إلى تمام ثلاث آيات. [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) قال جابر: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينام حتى يقرأ: الم السجدة، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. وتَنْزِيلُ يَصح أن يَرْتَفِعَ بالابتداء، والخبر: لاَ رَيْبَ، ويَصحُّ أن يرتفعَ على أنه خبر مبتدإٍ محذوفٍ، أي: ذلك تنزيل، والريبُ: الشك، وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] . وقوله: أَمْ يَقُولُونَ إضرابٌ كأنَّه قال: بل أيقولون: ثم ردَّ على مقالتِهم وأخبَرَ أنّه الحقُّ من عند الله. وقوله سبحانه: ما أَتاهُمْ أي: لم يُبَاشِرْهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العربُ. وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] يعم من بُوشِر من النذُر ومَنْ سَمِع بهِ، فالعربُ مِن الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه، لأنها علمت بإبرَاهيم وبنيه، وبدعوتهم، ولم يأتهم نذيرٌ مباشرٌ لهم سوى محمد صلى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس ومقاتل «1» : المعنى: لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلّم.

_ (1) ذكره البغوي (3/ 497) ، وابن عطية (4/ 357) .

[سورة السجده (32) : الآيات 5 إلى 9]

[سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 9] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ... الآية، الأمر اسم جنسٍ لجميعِ الأمور، والمعنى يُنَفِّذُ سُبْحَانِه قضاءَه بجميع ما يشاءه، ثم يعرج إليه خبرُ ذلك في يوم من أيام الدنيا مقداره أن لو سِيرَ فيه السيرَ المعروف من البشر ألفُ سنة، أي: نزولاً وعروجاً لأن مَا بين السماء والأرض خمس مائة سنة، هذا قول ابن عباس «1» ومجاهد «2» وغير هما. وقيل: المعنى: يدبر الأمر من السماء إلى الأَرض في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من عَدِّنا، وهو على الكفار قَدْرُ خمسينَ ألفِ سنة. وقيل: غَيْرَ هذا، وقرأ الجمهور/: «الذي أحسن كل شيء خلقَه» : - بفتح اللام- 69 ب على أنه فعلٌ ماضٍ، ومعنى: «أحسن» : أَتْقَنَ وأحْكَمَ فهو حَسَنْ من جهة مَا هو لمقاصِده التي أريدَ لها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «خَلْقه» «3» : - بسكون اللام- وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن: «أحسن» هنا معناه: ألْهَمَ، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: الآية 50] . أي: ألهَمَ. والإنسانُ هنا آدم- عليه السلام-، والمَهِينُ: الضعيف، وَنَفَخَ: عبارة عن إفاضَةِ الرُّوحِ في جَسَدِ آدم عليه السلام والضميرُ في رُوحِهِ للَّهِ تعالى، وهي إضافة مُلْكٍ إلى مَالِكٍ وخَلْقٍ إلَى خَالِقٍ، ويُحْتَمل أن يكونَ الإنسان في هذه الآية اسم جنس وقَلِيلًا صفة لمصدر محذوف. [سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 15] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 231) رقم (28191) ، وذكره ابن عطية (4/ 358) ، والسيوطي (5/ 331) ، بنحوه وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 330) رقم (28187) ، وذكره البغوي (3/ 497- 498) بنحوه، وابن عطية (4/ 358) ، وابن كثير (3/ 457) ، والسيوطي (5/ 331) ، وعزاه لابن جرير عن مجاهد. (3) ينظر: «السبعة» (516) ، و «الحجة» (5/ 460) ، و «معاني القراءات» (2/ 273) ، و «شرح الطيبة» (5/ 140) ، و «العنوان» (153) ، و «شرح شعلة» (543) ، و «إتحاف» (2/ 366) ، و «حجة القراءات» (567) .

[سورة السجده (32) : الآيات 16 إلى 22]

وقوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي: تَلَفْنَا وَتَقَطَّعَتْ أَوْصَالُنَا، فذهبنا في التراب حتّى لم نوجد إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: أَنُخْلَقُ بَعْدَ ذلك خَلقاً جديداً إنكاراً منهم للبعثِ واستبعاداً له، ويَتَوَفَّاكُمْ معناه يَسْتَوِفِيكم رُوِيَ عَن مجاهدٍ: أن الدنّيَا بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ المَوتِ كالطِّسْتِ بَيْنَ يَدَي الإنْسَانِ يأخُذُ مِنْ حَيثُ أُمِرَ «1» . وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ الآية تَعْجِيبٌ لمحمَّد عليه السلام وأمته من حالِ الكفرةِ، ومَا حَلَّ بهم، وجوابٌ لَوْ محذوفٌ لأنَّ حذفَه أَهْوَلُ في النفوس، وتنكيسُ رؤوسهم هو من الذل واليأسِ والهَمِّ بحلُول العذابِ. وقولهم أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي: ما كنا نُخْبَرُ به في الدنيا، ثم طلبوا الرَّجْعَةَ حينَ لاَ يَنْفَعُ ذَلكَ. ثمَّ أخْبَرَ تعالى عن نَفْسهِ أنَّه لو شَاء لهدى الناس أجمعين بأن يَلْطُفُ بهم لُطْفاً يؤمنونَ به، ويخترع الإيمانَ في نفوسهم، هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ، والْجِنَّةِ: الشياطين، ونَسِيتُمْ معناه: تركتم قاله ابن عباس «2» وغيره. وقوله: إِنَّا نَسِيناكُمْ سَمَّى العقوبة باسم الذنب. ثم أثْنَى سبحانه على القوم الذين يؤمنون بآياته، ووصَفَهم بالصفة الحُسْنَى من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم. [سورة السجده (32) : الآيات 16 الى 22] تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 236) رقم (28216) ، وذكره البغوي (3/ 499) ، وابن عطية (4/ 360) ، وابن كثير (3/ 458) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 237) رقم (28221) ، وذكره ابن عطية (4/ 361) .

وقوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ... الآية، تَجافَى الجنبُ عن موضِعِه إذا تَرَكه، قال الزجاج وغيره: التَّجافِي التَّنَحِّي إلى فوق. قال ع «1» : وهذا قول حسن، والجنوبُ جَمْعُ جَنْبٍ، والمضاجِعُ مَوْضِع الاضْطجَاع للنوم. ت: وقال الهرَوِيُّ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي: ترتفعُ وتَتَباعَدُ، والجَفاء بَيْن النَّاسِ هُو التَّبَاعُدُ، انتهى. وَرَوَى البُخَاري بسنَدِهِ عن أبي هريرة أن عَبدَ الله بن رَوَاحَةَ- رَضِيَ الله عنه- قَالَ: [الطويل] وَفِينَا رَسُولُ اللهِ يَتلُو كِتَابَه ... إذَا انشق مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ أَرَانَا الهدى بَعْدَ العمى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إذَا استثقلت بِالْكَافِرِينَ المَضَاجِعُ انتهى. وجمهور المفسرين: على أن المرادَ بهذا التجافي صلاةُ النوافلِ بالليلِ. قال ع «2» : وعلى هذا التأويل أكثَرُ الناسِ، وهو الذي فيه المدحُ وفيه أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلّم يَذكر عليه السلام قِيامَ الليل ثم يستشهدُ بالآية ففي حديثِ معاذٍ «أَلاَ أَدُلُّكَ على أبواب الخير: الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِىءُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم قَرَأ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ/، حتّى بلغ يَعْمَلُونَ» رواه 70 أالترمذيّ «3» ، وقال: حديث حسن صحيح ورَجَّحَ الزَّجَاجُ «4» ما قاله الجمهور بأنهم: جُوزُوا بإخفاءٍ، فَدَلَّ ذلك على أن العَمَلَ إخْفَاءٌ أيضاً، وهو قيامُ الليل يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً أي: من عذابه وَطَمَعاً، أي: في ثوابه.

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 362) . (2) ينظر: «المحرر» (4/ 362) . (3) أخرجه الترمذيّ (5/ 11- 12) كتاب الإيمان: باب ما جاء في حرمة الصلاة، حديث (2616) ، وابن ماجه (2/ 1314- 1315) كتاب الفتن: باب كف اللسان في الفتنة، حديث (3973) ، والنسائي في «التفسير» (414) ، وأحمد (5/ 231) ، والحاكم (2/ 76، 412) ، والطبراني في «الكبير» (20/ 130- 131) رقم (266) من طرق عن ابن مسعود. وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 337) ، وزاد نسبته إلى ابن نصر في «كتاب الصلاة» ، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (4) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 207) .

قال ص: تَتَجافى أَعربه أبو البقاء: حالاً، ويَدْعُونَ: حال أو مستأنف وخَوْفاً وَطَمَعاً: مَفْعُولاَن من أجله أو مصدران في موضع الحال انتهى. وفي «الترمذي» عن معاذ بن جبل قال: قلت: يا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رمضَانَ، وتَحُجُّ البَيْتَ، ثمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِىءُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم تَلاَ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ. ثم قال: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْر وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بلى، يَا رَسُولَ اللهِ. قال: رَأْسُ الأَمْرِ الإسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بلى يَا رَسُولَ اللهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟! فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبَّ النَّاسَ فِي النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!» «1» قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى. وقرأ حمزةُ وحده «2» : «أُخْفِيْ» - بسكون الياء كأنه قال: أُخْفِيْ أَنَا. وقرأ الجمهور «أُخْفِيَ» - بفتح الياء-، وفي معنى هذه الآية قال صلى الله عليه وسلّم: «قال الله- عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خطر على قلب بَشَرٍ ذُخْراً بَلْهَ مَا اطلعتم عَلَيْهِ، واقرءوا إنْ شِئْتُمْ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ... الآية» انتهى. قال القرطبيُّ في «تذكرته» «3» : «وبَلْهَ» معناه: غَيْر، وقيل: هو اسم فِعْلٍ بمعنى دَعْ، وهذا الحديث خرّجه البخاري، وغيره «4» .

_ (1) ينظر: الحديث السابق. (2) ينظر: «السبعة» (516) ، و «الحجة» (5/ 463) ، و «معاني القراءات» (2/ 274) ، و «شرح الطيبة» (5/ 140) ، و «العنوان» (153) ، و «حجة القراءات» (569) ، و «شرح شعلة» (543) ، و «إتحاف» (2/ 367) . [.....] (3) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (2/ 595) . (4) أخرجه البخاري (8/ 375) كتاب التفسير: باب فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ حديث (4779) ، ومسلم (4/ 2174) كتاب الجنة وصفة نعيمها، حديث (2/ 2824) ، والترمذيّ (5/ 346- 347) كتاب التفسير: باب «ومن سورة السجدة» ، حديث (3197) ، والطبريّ في «تفسيره» (10/ 243) رقم (28253، 28254) ، وأحمد (2/ 313) ، والحميدي (2/ 480) ، وهناد في «الزهد» رقم (1، 2) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 339) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن الأنباري.

[سورة السجده (32) : الآيات 23 إلى 25]

ت: وفي رواية للبخاري: قال أبو هريرة: واقرؤوا إنْ شِئْتُمْ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ... «1» الآية. انتهى. وقال ابن مسعودٍ: في التوراة مكتوبٌ «عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ» «2» ، وباقي الآية بَيِّن والضمير في قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ لكفار قريش، ولا خلافَ أن العذابَ الأكبرَ هو عذابُ الآخرةِ، واخْتُلِفَ في تَعْيين العذاب الأَدْنَى فقيل هو السنون التي أجاعَهم الله فيها وقيل هو مصائبُ الدنيا من الأمراض ونحوها، وقيل هو القَتْل بالسَّيْف كَبَدْرِ وغيرها. وقوله سبحانه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ظاهر الإجرام هنا أنه الكفر، وروى معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ، فَقَدْ أَجْرَمَ: مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَمَنْ عقّ والديه، ومن نصر ظالما» . «3» [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ اخْتُلِفَ فِي الضمير الذي في لِقائِهِ على من يعود؟ فقال قتادة وغيره: يعود على موسى، والمعنى: فلا تكن يا محمد، في شك من أنك تلقى موسى، أي: في ليلة الإسراء، وهذا قول جماعة من السلف، وقالت فرقة: الضميرُ: عائد على الكتابِ، أي: فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب.

_ (1) ينظر: الحديث السابق. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 242) رقم (28247) ، وذكره ابن عطية (4/ 363) ، والسيوطي (5/ 339) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود. (3) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 249) رقم (28298) ، والطبراني في «الكبير» (20/ 61) رقم (112) كلاهما من طريق عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل مرفوعا. وذكره الهيثمي في «المجمع» (7/ 93) وقال: وفيه عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة، وهو ضعيف. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 342) ، وزاد نسبته إلى ابن منيع، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وضعف السيوطي سنده.

[سورة السجده (32) : الآيات 26 إلى 30]

70 ب ص: وقيل: يعود على الكتابِ/ على تقدير مُضْمَرٍ، أي: من لقاء مثله، أي: أتيناك مثلَ مَا آتينا موسى، والتأويل الأول هو الظاهر، انتهى. والمِرْيَةُ: الشَّكُّ، والضميرُ فِي جَعَلْناهُ: يحتمل أن يعود على الكتاب أو على موسى قاله قتادة. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ... الآية، حُكْم يَعُمّ جميعَ الخلق، وذهب بعضهم إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف. [سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 30] أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ معناه يُبَيِّنْ قاله ابن عباس، والفاعل ب يَهْدِ هو الله في قول فرقة، والرسولُ في قول فرقة، وقرأ أبو عبد الرحمن «1» : «نهد» - بالنون- وهي قراءة الحَسَنْ وقتادة، فالفاعلُ اللهُ تعالى، والضميرُ في يَمْشُونَ يُحْتَمَلُ أن يكونَ للمخاطَبِينَ أو للمهلكين، والْجُرُزِ: الأرض العاطِشَةُ التي قد أكلت نباتها من العطشِ والقيظِ ومنه قيل للأكول جَرُوزٌ. وقال ابن عباس «2» وغيره: الْأَرْضِ الْجُرُزِ: أرض أبين من اليمن وهي أرض تشرب بسيولٍ لا بِمَطَرٍ، وفي «البخاري» : وقال ابن عباس: الْجُرُزِ: التي لم تُمْطَرْ إلا مَطَراً لاَ يُغْنِي عنها «3» شَيْئاً. انتهى. ثم حكى سبحانه عن الكفرةِ أنهم يَسْتَفْتِحُونَ ويستعجلون فَصْلَ القضاءِ بينهم وبين الرسل على معنى الهزء والتكذيب، والْفَتْحِ: الحُكْمُ، هذا قول جماعةٍ من المفسرينَ، وهو أقوى الأقوال.

_ (1) وقد قرأ بها علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما. ينظر: «مختصر شواذ» ابن خالويه ص 119، و «المحرر الوجيز» (4/ 365) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 252) رقم (28305) بنحوه، وذكره البغوي بلفظ «هي أرض باليمن» ، وابن عطية (4/ 366) ، وابن كثير (3/ 464) ، والسيوطي (5/ 343- 344) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 252) رقم (28309) ، وذكره ابن كثير (3/ 464) ، والسيوطي (5/ 343) ، وعزاه للفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

قال مجاهد والْفَتْحِ هنا هو حُكْم الآخرة. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالإعراض عن الكفرةِ وانْتِظَار الفَرَجِ، وهذا مما نَسَخَتْه آية السَّيْفِ. وقولُه: إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي: العذابَ بمعنى هذا حُكْمُهُمْ وإن كانوا لا يشعرون.

تفسير"سورة الأحزاب"

تفسير «سورة الأحزاب» وهي مدنيّة بإجماع فيما علمت [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ... الآية. قوله: اتَّقِ معناه: دُمْ على التَّقْوَى، ومتى أُمر أحدُ بشيء وهو به مُتَلَبِّسٌ فإنما معناه الدوامُ في المستقبلِ على مثل الحالةَ الماضِيةَ. وحذره تعالى من طاعة الكافرين والمنافقين تنبيهاً على عداوتِهم، وأَلاَّ يَطْمَئِنَّ إلى ما يُبْدُونَه من نَصَائِحِهم. والباء في قوله: وَكَفى بِاللَّهِ زائدةٌ على مذهب سِيبَوَيْهِ، وكأنه قال وكفى الله، وغيرُهُ يَرَاهَا غَيْرَ زائدةٍ متعلقَة ب «كفى» على أنه بمعنى: اكتف بالله. واختلف في السبب في قوله تعالى: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فقال ابن عباس «1» : سببُهَا أن بعضَ المنافقينَ قَال: إن محمداً له قلبَانِ، وقيل غير هذا. قال ع «2» : ويظهَرُ مِنْ الآية بِجُمْلَتِهَا أنَّها نَفيٌ لأشْيَاءَ كانت العربُ تعتقِدُها في ذلك الوقتِ، وإعلام بحقيقةِ الأمرِ، فمنها أن العربَ كانتْ تَقُول: إن الإنسانَ له قلبٌ يأمره، وقلب ينهاه، وكان تضادُّ الخواطِر يحملُها على ذلك، وكذلك كانت العربُ تعتقد الزوجة إذا ظاهر منها بمنزلة الأم، وتراه طلاقاً، وكانت تعتقد الدَّعِيَّ المُتَبَنَّى ابْناً، فَنَفَى الله ما اعتقدوه من ذلك. وقوله سبحانه: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ سببُها أمرُ زيد بن حارثة كانوا يَدْعُونَه: زيد بن محمد، والسَّبِيلَ هنا سبيلُ الشرع والإيمان. ثم أمر تعالى في هذه الآية بدعاء

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 255) رقم (28318) ، وذكره ابن عطية (367- 368) ، وابن كثير (3/ 466) ، والسيوطي (5/ 347) ، وعزاه لأحمد، والترمذيّ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والضياء عن ابن عباس. (2) ينظر: «المحرر» (4/ 368) .

الأدعياء لآبائهم، أي: إلى آبائهم للصُّلْبِ، فمن جُهل ذلك فيه كان مولىً وأَخاً في الدين، فقال الناسُ: زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة، إلى غير ذلك وأَقْسَطُ: معناه: أعدل. وقوله عزَّ وجل: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ... الآية: رَفَعَ الحرجَ عَمَّنْ وَهِمَ وَنَسِيَ وأخْطَأَ، فَجَرَى على العَادَةِ من نسبة زيدٍ إلى محمدٍ، وغير ذلك: مما يشبهه، وأبقى الجناح في المُتَعَمِّدِ، والخطأُ مرفوعٌ عَنْ هذهِ الأمة عقابه قال صلى الله عليه وسلّم: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ» «1» . وقال- عليه السلام-: «مَا أخشى عَلَيْكُمُ الخَطَأَ وَإنَّمَا أَخْشَى العَمْدُ» «2» . قال السُّهَيْلِيُّ: ولَمَّا نزلت الآيةُ وامتثَلَهَا زيدُ فقال: أنا زيد بن حارثة جَبَرَ الله وَحْشَتَهُ وشَرَّفَه بأن سَمَّاه باسْمِه في القرآن فقال: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً [الأحزاب: 37] ومَنْ ذَكَرَهُ سبحَانه باسْمِه في الذِّكْرِ الحكيم، حتى صَار اسمُه قرآناً يتلى في المحاريبِ، فقد نَوَّه بهِ غَايَةَ التَّنْوِيهِ، فَكَانَ فِي هذا تأنيسٌ له وعوض من الفخر بأبوّة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم له أَلاَ ترى إلى قول أُبي بن كعب حين قال له النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ تعالى أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ كَذَا، فبكى أُبَيٌّ وَقَالَ: أَوَ ذُكِرْتُ هُنَالِكَ» «3» ، وكان بكاؤه من الفرح حِينَ أخْبِرَ أن الله تعالى ذَكَرَهُ فكَيْفَ بمَنْ صَار اسمُه قرآناً يتلى مخَلَّداً لا يَبِيدُ، يتلُوهُ أهْلُ الدُّنْيَا إذا قرؤوا القرآن، وأهْل الجَنَّةِ كذلِكَ فِي الجِنَانِ، ثم زَادَهُ فِي الآية غَايةَ الإحْسَانِ أنْ قال: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب: 37] يعني بالإيمان فدلَّ على أنه عند الله من أهل الجِنَانِ، وهذه فضيلةٌ أخرى هي غايةُ منتهى أمنية الإنسان، انتهى. 71 أ

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه أحمد (2/ 308) ، والحاكم (2/ 534) ، وابن حبان (2479- موارد) من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان. وذكره الهيثمي في «المجمع» (3/ 124) ، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. (3) أخرجه البخاري (7/ 158) كتاب مناقب الأنصار: باب مناقب أبي بن كعب، حديث (3809) ، وفي (8/ 597) كتاب التفسير: باب سورة (لم يكن) ، حديث (4959، 4960، 4961) ، ومسلم (4/ 1914) ، كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بن كعب، حديث (122/ 799) من حديث أنس.

[سورة الأحزاب (33) : آية 6]

[سورة الأحزاب (33) : آية 6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أزالَ الله بهذه الآية أحكاماً كانت في صدر الإسلام، منها أن النّبي صلى الله عليه وسلّم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذَكَرَ اللهُ تعالى أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم أكثرَ من نَفسِهِ، حَسَبَ حديثِ عمر بن الخطاب، ويلزمُ أن يَمْتَثِلَ أوامرَهُ، أحبت نفسُهُ ذلك أو كرهت، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم حين نزلت هذه الآية: «أَنَاْ أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنَاً أَوْ ضِيَاعاً فإلَيَّ وَعَلَيَّ، أَنا وليّه، اقرؤوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... » . ت: ولفظ البخاريِّ من رواية أبي هريرةَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاَّ وَأَنَا أولى به في الدّنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضِيَاعاً، فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهِ» «1» . قال ابن العربيِّ: في «أحكامه» «2» : فهذا الحديث هو تفسير الولاية في هذه الآية. انتهى. قال ع «3» : وقال بعض العارفين: هو صلى الله عليه وسلّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنَّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ع «4» : ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلّم: «فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُون فِيهَا تَقَحَّمَ الفَرَاشِ» . قال عياض في «الشفا» : قال أهل التفسير في قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: ما أنفذه فيهم من أمر فهو ماضٍ عليهم كما يمضي حكمُ السيد على عبده، وقيل: اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس. انتهى. وشرّف تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلّم بأن جعلهن أمهاتِ المُؤْمِنِينَ في المَبَرَّةِ وحُرْمَةِ النّكاح، وفي مصحف أبيّ بن كعب «5» :

_ (1) أخرجه البخاري (5/ 61) ، كتاب الاستقراض: باب الصلاة على من ترك دنيا (2399) ، وأخرجه مسلم (3/ 1237) ، كتاب الفرائض: باب «من ترك مالا فلورثته» الحديث (15/ 1619) . [.....] (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1508) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 370) . (4) ينظر: «المحرر» (4/ 370) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 370) ، و «البحر المحيط» (7/ 208) .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 إلى 8]

«وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» وقرأ ابن عباس «1» «مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» ووافقه أبيّ 71 ب على ذلك. ثم حكم تعالى: بَأَن أُولى الأرْحَامِ بَعْضُهم أولى ببعض في التوارُث، مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوه الإسلام، وفِي كِتابِ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَن يُرِيْدَ القُرْآن أو اللوح المحفوظ. وقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ متعلق ب أَوْلى الثانية. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يريدُ الأحسانَ في الحياةِ والصِّلَة والوَصِيَّةِ عند الموتِ و «الكتابُ المسطورُ» : يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين، وهذا الميثاق: قال الزجاج «2» وغيره: إنه الذي أخذ عليهم وَقْتَ استخراج البَشَرِ من صلب آدم كالذر، بالتبليغ وبجميعِ ما تَضَمَّنَتْهُ النبوَّة. وروي نحوُه عَنْ أُبَيِّ بْنُ كعب «3» . وقالت فرقة: بل أشار إلى أَخذ الميثاقِ عليهم وَقْتَ بَعْثِهِم وإلقاءِ الرسالة إليهم، وذكر تَعَالَى النبيينَ جملةً، ثم خَصَّصَ أولِي العَزْمِ منهم تشريفاً لهم، واللام في قوله لِيَسْئَلَ يحتمل أن تكون لام كي، أو لام الصيرورة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ... الآيات إلى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] نزلتْ في شأنِ غزوة

_ (1) ونسبها الزمخشري في «الكشاف» (3/ 523) إلى ابن مسعود. وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 370) ، و «البحر المحيط» (7/ 208) . (2) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 216) . (3) ذكره ابن عطية (4/ 371) ، وابن كثير (3/ 469) بنحوه.

الخندقِ، وما اتَّصَلَ بها مِن أمر بني قريظة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أجلى بَنِي النَّضِيرِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ عِنْدَ المَدِينَةِ إلى خَيْبَر، فاجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ اليَهُودِ، وَخَرَجُوا إلى مَكَّةَ مُسْتَنْهِضِينَ قُرَيْشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وَجَسَّرُوهُمْ على ذَلِكَ، وَأَزْمَعَتْ «1» قُرَيْشُ السَّيْرَ إلَى المَدِينَةِ، وَنَهَضَ اليَهُودُ إلى غَطَفَانَ، وبَنِي أَسَدٍ، وَمَنْ أَمْكَنَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وتِهَامَةَ، فاستنفروهم إلى ذَلِكَ وَتَحَزَّبُوا وَسَارُوا إلَى المَدِينَةِ، واتصل خبرهم بالنّبيّ صلى الله عليه وسلّم، فَحَفَرَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، وَحَصَّنَهَا، فَوَرَدَتِ الأحْزَابُ، وحَصَرُوا المدينةَ، وذلك في شَوَّال سنة خمسٍ، وقيل: أرْبَعٍ مِن الهجرةِ، وكانت قريظة قَدْ عاهدوا النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وعَاقدوه أَلاَّ يَلْحَقَهُ منهم ضَرَرٌ، فلمَّا تمكَّن ذلك الحِصَارُ، ودَاخَلَهم بَنُو النضيرِ غَدَرُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم وَنَقَضُوا عهده، وضاق الحال على المؤمنين، ونَجَمَ النفاق وساءت ظنون قوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مع ذلك يُبَشِّرُ وَيَعِدُ النَّصْرَ، فألقَى الله عز وجل الرعب في قلوب 72 أالكافرين، وتخاذلوا ويَئِسوا من الظَّفْرِ، وأرسل الله عليهم ريحاً وهي الصَّبَا، وملائكةً/ تُسَدِّدُ الرِّيحَ، وتفعل نحو فعلها، وتُلْقِي الرُّعْبَ في قلوب الكفرةِ، وهي الجنودُ التي لَم تُرَ، فارتَحَلَ الكَفَرَةُ وانقلبوا خائبين. قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ يريد: أهل نَجْدٍ مع عيينة بن حِصْن وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ: يريد أهل مكة وسائر تِهَامَة قاله مجاهد «2» . وزاغَتِ الْأَبْصارُ معناه مَالَتْ عن مواضِعَها وذلك فِعْلُ الوالِه الفزِع المُخْتَبِلِ. وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ عبارة عَمّا يَجِدُهُ الهَلِعُ من ثَوَرَانِ نَفْسِه وتفرقها ويجد كأَنَّ حُشْوَتَهُ وَقَلْبَهُ يَصَّعَّدُ عُلُوّاً، وَرَوَى أبو سعيد أن الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا يَوْمَ الخَنْدَق: يَا نَبِيَّ الله، بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قُولُوا: «اللَّهُمَّ، استر عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا» فَقَالُوهَا فَضَرَبَ اللهُ وُجُوهَ الكُفَّارِ بِالرِّيحِ فَهَزَمَهُمْ «3» . وقوله سبحانه: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ... الآية: عبارةٌ عن خواطر خطرَتْ للمؤمنين لا يمكن البشر دفعها، وأما المنافقون قنطقوا، ونجم نفاقهم. وابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ

_ (1) الزمع: المضاء في الأمر والعزم عليه. وأزمع الأمر، وبه، وعليه، مضى فيه، فهو مزمع. ينظر: «لسان العرب» 1862. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 265) رقم (28367) ، وذكره ابن عطية (4/ 372) ، والسيوطي (5/ 357) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) أخرجه أحمد (3/ 3) ، والطبريّ في «تفسيره» (10/ 263) رقم (28360) من حديث أبي سعيد الخدري، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 355) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 13 إلى 21]

معناه: اخْتُبِرُوا وَزُلْزِلُوا: مَعْنَاه: حُرِّكُوا بعنف. ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمَرْضَى القلوبِ على جِهَةِ الذَّمِّ لَهُمْ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً فَرُوِيَ عَنْ يزِيدَ بْنِ رُومَانَ أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ قال: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أن نَفْتَتِحَ كنوز كِسْرَى وقيصر ومكة ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ما يعدنا إلا غروراً، وقال غيره من المنافقين نحو هذا. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 13 الى 21] وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي: من المنافقين لاَ مُقامَ لَكُمْ أي: لا موضعَ قيام ومُمَانَعة، فارْجِعوا إلى منازِلكم وبيوتِكم، وكان هذا على جِهَة التخذيل عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، والفريق المستأذن هو أوسُ بن قيظي استأذنَ في ذلك على اتِّفَاقِ من أصحابهِ المنافقين فقالَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أيْ: مُنْكَشِفَة للعدو فأكذَبَهم الله- تعالى- ولو دخلت المدينة مِنْ أَقْطارِها أي: من نواحيها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سُئِلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى الله عليه وسلّم وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يَتَلَبَّثُوا في بُيوتهم لحفظها إلاَّ يسيراً، قيل: قَدْرَ ما يأخذون سلاحَهم. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا الله إثْر أُحُدٍ لاَ يُولُّونَ الأدْبَارَ وفي قوله تعالى: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا تَوَعُّدٌ وباقي الآية بَيِّن. ثم وبَّخَهُمْ بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وهم الذين يُعَوِّقُونَ الناسَ عن نُصْرة الرسولِ ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ويَسْعَوْنَ على الدين، وأما القائلون لإخوانهم هَلُمَّ إلينا فقال ابن زيد وغيره: أراد

من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النَّسَب وقَرَابته هلُم، أَي: إلى المنَازِل والأكل والشرب، واترك القتال «1» . وروي: أنّ جماعة منهم فَعَلَتْ ذلك وأصلُ هَلُمَّ: ها المم. وهذا مِثْلُ تعليل «رَدَّ» من «ارْدُدْ» والبأسُ: القتالُ وإِلَّا قَلِيلًا معناه إلا إتيانا قليلا، وأَشِحَّةً جمع شَحِيحٍ والصَّوَابِ تَعْمِيمُ الشُّحِّ أنْ يكون بِكُلّ ما فيه للمؤمنين منفعة. وقوله: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ قيل: معناه: فإذا قوي الخوفُ رأيت هؤلاء المنافقين 72 ب ينظرونَ إليك/ نَظَرَ الهَلِعِ المُخْتَلِطِ الذي يُغْشَى عَليه، فإذا ذهب ذلك الخوفُ العظيمُ وَتَنَفَّسَ المختَنِقُ: سَلَقُوكُمْ أي: خاطبوكم مخاطبة بليغة، يقال: خطيب سَلاَّقٌ ومِسْلاَقٌ ومِسْلَقٌ ولِسَان أيضاً كذلك إذا كان فصيحاً مقتدراً ووصف الألسِنة بالحدّة لقَطْعِها المعاني ونفوذِها في الأقوال، قالت فرقةٌ: وهذا السَّلْقُ هو في مخادعةِ المؤمنِين بما يُرْضيهِم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة. وقوله: أَشِحَّةً حال من الضمير في سَلَقُوكُمْ. وقوله: عَلَى الْخَيْرِ يدل على عموم الشح في قوله أولاً: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ وقيل: المراد بالخير: المال، أي: أشحة على مال الغنائِم، والله أعلم. ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا، وجمهورُ المفسرينَ على أن هذه الإشارةَ إلى منافقينَ لم يكن لهم قط إيمان، ويكونُ قولهُ: فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي: أنها لم تُقْبَل قط، والإشارة بذلك في قوله وَكانَ ذلِكَ إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين، والضميرُ في قوله: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ للمنافقين، والمعنى: أنهم من الفزع والجزع بحيثُ رَحَلَ الأحزابُ وهزمهَم الله تعالى، وهؤلاء يظنون أنها من الخُدَعِ وأنَّهم لم يَذْهَبوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ، أي: يرجعوا إليهم كرةً ثانية يَوَدُّوا من الخوف والجبن لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ أي: خارجون إلى البادية. فِي الْأَعْرابِ وهم أهل العمود ليسلموا من القتال. يَسْئَلُونَ أي من وَرَدَ عليهم. ثم سَلَّى سبحانه عَنْهُم وحَقَّر شَأْنَهُم بِأَنْ أخْبَرَ أنهمْ لَو حَضَرُوا لَمَا أَغْنَوا وَلَمَا قَاتَلُوا إلا قِتَالاً قَلِيلاً لا نفعَ لَه. ثُم قال تعالى- على جهة الموعظة-: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حين صَبَرَ وجَادَ بنفسه، وأُسْوَةٌ معناه قُدْوَة، وَرَجَاءُ الله تَابع للمَعْرِفة به، ورجاء اليومِ الآخر ثمرة العمل الصالح، وذكرُ الله كثيراً من خَير الأعمال فَنَبَّه عليه.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 274) رقم (28398) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 375) .

ت: وعن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنا مَعَ عَبْدِي إذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» «1» . رواه ابن ماجه، واللفظ له وابن حِبَّانَ في «صحيحه» ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي الدرداء. وروى جابرُ بن عبد الله قال: خرج علينا النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيّها النَّاسُ، إن لِلَّهِ سَرَايا مِنَ المَلاَئِكَةِ تَحُلُّ وَتَقِفُ على مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الأَرْضِ، فارتعوا فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ، قَالُوا: وأَيْن رِيَاضُ الجَنَّةِ يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ فاغدوا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللهِ وذَكِّرُوهُ أنْفُسَكُمْ مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللهِ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللهِ عِنْدَهُ فَإنَّ اللهَ يُنْزِلُ العَبْدَ مِنْهُ، حَيثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ» «2» رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيحُ الإِسناد. وعن معاذِ بْنِ جبل قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلّم أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللهِ تعالى؟ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ» «3» رواه ابن حبان في «صحيحه» ، انتهى من «السِّلاَحِ» . ولَولاَ خشيةُ الإطالةِ، لأتَيْتُ في هذا الباب بأحاديثَ كَثِيرَةٍ، وروى ابنُ المُبَاركَ في «رقائقه» قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجِيحٍ عن مجاهدٍ قَالَ: لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكرَاتِ حَتَّى يَذْكُرَ اللهَ قَائِماً وَقَاعِداً وَمُضْطَجِعاً، انتَهى. وفي «مصحف ابن مسعود «4» » «يَحْسَبُونَ الأحزاب/ قَدْ ذَهَبُواْ فَإِذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا ودّوا 73 أأنّهم بادون في الأعراب» .

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 540) ، وابن ماجه (2/ 1246) ، كتاب الأدب: باب فضل الذكر، حديث (3792) ، والحاكم (1/ 496) ، وابن حبان (3/ 97) رقم (815) من طريق أم الدرداء عن أبي هريرة. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان. (2) أخرجه الحاكم (1/ 494) ، وأبو يعلى (3/ 390- 391) رقم (1865) من طريق عمر بن عبد الله مولى غفرة عن أيوب بن خالد بن صفوان عن جابر به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: عمر ضعيف. وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 80) : رواه أبو يعلى، والبزار، والطبراني في «الأوسط» ، وفيه عمر بن عبد الله مولى غفرة، وقد وثقه غير واحد، وضعفه جماعة، وبقية رجالهم رجال الصحيح. (3) أخرجه ابن حبان (3/ 99- 100) رقم (818) ، وابن السني رقم (2) ، والطبراني في «الكبير» (20/ 107) رقم (212) ، والبزار (3059 كشف) من حديث معاذ بن جبل. وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 77) ، وقال: رواه الطبراني بأسانيد، وفي هذه الطريق خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ضعفه جماعة، ووثقه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، ورواه البزار من غير طريقه، وإسناده حسن. [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 377) .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 22 إلى 25]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 22 الى 25] وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ... الآية. قالت فرقة: لما أمر- رسول الله صلى الله عليه وسلّم- بحفر الخندقِ أعلمهم بأنهم سَيُحْصَرَون، وأمرهم بالاستعدادِ لذلك، وأعْلمهم بأنهم سَيُنْصَرُوْنَ بعد ذلك، فلما رأوا الأحزاب: قالُوا: هذا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية، وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نَزَل في سورة البقرة من قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله قَرِيبٌ [البقرة: 214] . قال ع «1» : وَيُحْتَمَلُ أنهم أرادوا جميعَ ذلك. ثم أثنى سُبحانه على رجالٍ عَاهدوا الله على الاسْتِقَامَةِ فَوَفَّوْا، وَقَضَوْا نَحْبُهُمْ، أي: نَذْرَهُمْ، وَعَهَدَهُمْ، «والنَّحْبُ» فِي كَلاَمِ العَرَبِ: النَّذْرُ والشَّيءُ الذي يلتزمُهُ الإنسان، وقَد يُسَمَّى المَوْتُ نَحْباً، وبهِ فسَّر ابن عبَّاس «2» وغيرُه هذه الآيةَ، ويقال للذي جاهد في أمرٍ حتى ماتَ: قضى فيه نحبه، ويقالُ لمن مات: قضى فلان نحبه فممن سَمَّى المفسرون أنّه أُشِيرَ إليه بهذه الآية أنس بن النضر عَمُّ أنسِ بن مالكٍ، وذلك أنه غَابَ عن بَدْرِ فساءَه ذلك، وقال لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مَشْهَداً ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصْنَعُ. فلما كان أحَدٌ أبلَى بلاءً حَسَناً حَتَّى قُتِلَ وَوُجِدَ فيه نَيِّفٌ على ثمانينَ جُرْحاً، فكانوا يَروْنَ أن هذه الآيةَ في أنس بن النضر ونظرائه. وقالت فرقة: الموصوفون بقَضَاء النَّحْبِ هم جماعة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وَفَّوْا بِعُهُودِ الإسْلاَمِ عَلَى التَّمَامِ، فالشُّهَداءُ منهم، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجنّةِ منْهم، إلى مَن حَصَل في هذه المرتبةِ مِمَّنْ لَم يُنَصَّ عليه، ويُصَحَّحُ هذه المقالةَ أيضاً مَا رُوِيَ أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلّم كان عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنِ الَّذِي قضى نَحْبَهُ؟ فَسَكَتَ عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلّم سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ على بَابِ المَسْجِدِ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: هَأَنَذَا، يا رسُولَ الله، قال:

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 377) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 280) رقم (28426) .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 إلى 27]

هَذَا مِمَّنْ قضى نَحْبهُ» «1» . قال ع «2» : فهذا أدل دليل على أَن النَّحْبَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِه المَوْتُ. وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ: طَلْحَةُ مِمَّنْ قضى نَحْبَهُ «3» ، وَرَوَتْ عَائِشَة نَحوَه «4» . وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يريدُ ومنهم من ينتظر الحصولَ في أعلى مَراتِب الإيمان والصلاحِ، وهم بسبيل ذلك ومَا بدّلوا ولا غيّرُوا، واللامُ في: لِيَجْزِيَ يحتمل أن تكونَ لامَ الصيرورة أو «لامَ كي» ، وتعذيبُ المنافقينَ ثمرةُ إدامتِهم الإقامةَ على النفاقِ إلى مَوْتِهم، والتوبَة موازيةُ لتلك الإدامة، وثمرة التوبة تركهُمْ دونَ عذاب، فهما درجتان: إدامَةُ على نفاقٍ أو تَوْبَةُ منه، وعَنْهُمَا ثمرتان: تعذيبٌ أو رحمة. ثم عدَّدَ سبحانه- نعمه على المؤمنين في هَزْمِ الأحزَاب فقال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ ... الآية. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27] وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ يريد: بني قُرَيْظَةَ، وذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا غَدَرُوا وَظَاهَرُوا الأحْزَابَ، أرادَ اللهُ النِّقْمَة مِنْهُمْ، فَلَمَّا ذَهَبَ الأَحْزَابُ جاء جبريل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وَقْتَ الظُّهْرِ فَقَالَ: يَا مْحَمَّدُ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بِالخُرُوجِ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ، فنادى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم فِي النَّاسِ، وَقَالَ لَهُمْ: / «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العصر إلّا في بني قريظة «5» ، 73 ب فخرج النّاس إليهم، وحصرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلّم خَمْساً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلُوا على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِأَنْ تُقْتَلَ المُقَاتَلَةُ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالْعِيَالُ وَالأَمْوَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الأَرْضَ وَالثِمَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الأَنْصَارِ، فَقَالَتْ لَهُ الأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ كَمَا لَكُمْ أَمْوَالٌ، فَقَالَ له النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت فيهم بحكم

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر» (4/ 378) . (3) ينظر: الحديث السابق. (4) ينظر: الحديث السابق. (5) أخرجه البخاري (7/ 471) كتاب المغازي: باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلّم حديث (4119) ، ومسلم (3/ 1391) كتاب الجهاد: باب المبادرة بالغزو، حديث (69/ 1770) من حديث ابن عمر.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 34]

الملك من فوق سبعة أرقعة» فأمر صلى الله عليه وسلّم بِرِجَالِهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقِهُمْ، وَفِيهِمْ «1» حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضِيرِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُمْ فِي الْغَدْرِ، وظاهَرُوهُمْ: معناه: عاوَنُوهم، و «الصياصي» : الحُصُون، واحدُها صيصيةٍ وهي كل ما يَتَمَنَّعُ به، ومنه يقال لقرون البقر: الصياصي، والفريقُ المقتولُ: الرجالُ، والفريقُ المأسور: العيالُ والذُّرِّيَّة. وقوله سبحانه: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يريد بها: البلاد التي فتحت على المسلمين بعدُ كالعراقِ والشامِ واليمنِ وغيرها، فوعَدَ الله تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة، وأخبر أنه قد قضى بذلك. قاله عكرمة «2» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ... الآية، ذَكَرَ جُلُّ المفسرين أن أزواج النّبي صلى الله عليه وسلّم سَأَلْنَه شَيْئاً من عَرَضِ الدنيا، وآذَيْنَه بزيادة النَفَقَة والغَيْرَة، فَهَجَرَهُنَّ وآلى أَلاَّ يقربَهن شَهْراً، فنزلت هذه الآية، فبدأَ بعائشة، وقال: «يا عَائشَةُ، إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حتى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلاَ عَلَيْهَا الآيةَ، فَقَالَتْ لَهُ: وَفِي أَيِّ هَذَا أُسْتَأْمِرُ «3» أَبَوَيَّ؟ فَإنِّي أُرِيدُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرة، قَالَتْ «4» : وَقَدْ علِمَ أَن أَبَوَيَّ لاَ يَأْمُرَانِي بفراقه، ثمّ تتابع أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلّم على مثل قول

_ (1) أخرجه البخاري (7/ 475) كتاب المغازي: باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلّم من غزوة الخندق، حديث (4122) ، ومسلم (3/ 1389) كتاب الجهاد: باب جواز قتال من نقض العهد، حديث (65/ 1769) . (2) ذكره البغوي (3/ 525) بنحوه، وابن عطية (4/ 380) ، والسيوطي (5/ 369) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن عكرمة. (3) كذا في ج، وفي المطبوعة «أستمر» . (4) في ج: ثم قالت.

عَائِشَةَ، فاخترن اللهَ وَرَسُولَهُ- رَضِيَ «1» الله عنهن. قالتْ فِرْقَةٌ قَوْله: بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يَعُمُّ جَمِيعَ المَعَاصِي ولزمهنَّ رضي الله عنهنَّ بحَسْبِ مَكَانَتُهُنَّ، أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمَ غيرَهن، فَضُوعِفَ لهنَّ الأجْرُ والعذابُ. وقوله: ضِعْفَيْنِ معناه: يكونُ العذابُ عذابَين، أي: يضاف إلى عذابِ سائِر النَّاس عذابٌ آخر مثله، ويَقْنُتْ: معناه: يُطِيعُ ويَخْضَعُ بالعبُوديَّة قاله الشعبي «2» وقتادة «3» . والرزقُ الكريمُ: الجنة. ثم خاطَبَهُنَّ اللهُ سبحانه بأنّهنّ لَسْنَ كأحدٍ مِن نساءِ عَصْرِهنَّ فَمَا بَعْدُ، بَلْ هُنَّ أَفْضَلُ بشرطِ التَّقْوَى، وإنما خصصنا النساء لأَن فيمن تقدم آسية ومريم فتأملْهُ وقد أشار إلى هذا قتادة. ثم نَهَاهُنَّ سبحانه عما كانت الحالُ عليه في نساء العرَب من مكالَمَةِ الرجال برَخيمِ القولِ وفَلا تَخْضَعْنَ معناه: لا تُلِنَّ. قال ابن زيد: خضع القول ما يدخل في القلوب الغزل «4» والمرضُ في هذه الآية قال قتادة: هو النفاق «5» . وقال عكرمة: الفِسْق «6» والغزل، والقولُ المعروفُ هو الصوابُ الذي لا تنكره الشريعةُ ولا النفوسُ. وقرأ الجمهور: «وقِرْن» - بكسر القَافِ-، وقرأ نافعُ وعاصِمُ: «وقَرْن» - بالفتح «7» -، فأما الأولى فيصح أن تكونَ من الوَقار، ويصحُّ أن تَكُونَ من القَرَارِ، وأما قراءة الفتح فعلى لغة العرب قَرِرْتُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- أَقِرَ- بفتح القاف في المكان/، وهي لغة ذكرها أبو عبيد في «الغريب» المصنف وذكرها الزجاج «8» وغيره، 74 أفأمر الله تعالى في هذه الآية نسَاءَ النَّبِي صلى الله عليه وسلّم بملازمة بيوتهن، ونهاهنّ عن التبرج

_ (1) أخرجه مسلم (2/ 1104) 18- كتاب الطلاق: 4- باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، حديث (29/ 1478) من حديث جابر. (2) ذكره ابن عطية (4/ 382) . [.....] (3) أخرجه الطبريّ (10/ 292) رقم (28471) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 382) . (4) أخرجه الطبريّ (10/ 293) رقم (28474) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 383) . (5) أخرجه الطبريّ (10/ 293) رقم (28475) ، وذكره ابن عطية (4/ 383) . (6) ذكره ابن عطية (4/ 383) . (7) ينظر: «السبعة» (522) ، و «الحجة» (5/ 475) ، و «إعراب القراءات» (2/ 199) ، و «معاني القراءات» (2/ 282) ، و «شرح الطيبة» (5/ 147) ، و «العنوان» (155) ، و «حجة القراءات» (577) ، و «شرح شعلة» (549) ، و «إتحاف» (2/ 375) . (8) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 225) .

والتبرّج إظهار الزينة والتصنّع بها، ومنه البروج لظهُورها وانكشافِها للعيون، واخْتَلَفَ الناسُ في الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى فقالَ الشعبي: ما بين عيسى ومحمد- عليهما السلام- «1» ، وقيل: غيرُ هذا. قال ع «2» : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فَأَمِرْنَ بالنَّقْلَةِ عن سِيرَتِهنَّ فِيها، وهي ما كانَ قَبْل الشَّرْعِ مِن سِيرةِ الكَفَرَةِ، وجَعْلِها أولى بالإضافة إلى حالةِ الإسْلام، وليس المعنى. أن ثمّ جاهلية آخرة، والرِّجْسَ اسم يقعُ على الإثم وعلى العذابِ وعلى النَجَاسَات والنقائِص، فأذْهَبَ الله جميعَ ذلك عن أهْل البَيْتِ، قالت أم سلمةَ: نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّا وفاطِمَةَ وحَسَنَا وحُسَيْنا فَدَخَلَ مَعَهم تَحْت كساءِ خيبري، وقال: «هؤلاءِ أهل بيتي، وقرأ الآية، وقَال اللَّهمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم وَأَنْتِ إلى خَيْرَ» «3» . والجمهورُ على هذا، وقال ابن عباس «4» وغيره: أهل البيتِ: أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم. قال ع «5» : والذي يظهر لي: أن أهل البيت أزواجه وبنتُه وبنوها وزوجُها أعنى عليّاً، ولفظ الآية: يقتضي أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن. قال صلى الله عليه وسلّم: وأَهْلَ الْبَيْتِ: منصوبٌ على النداءِ أو على المدْحِ أو على الاخْتِصَاصِ وَهُوَ قَلِيلٌ في المخاطب، وأكْثَرُ ما يكونُ في المتكلِّم، كقوله [الرجز] :

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 383) . (2) ينظر: «المحرر» (4/ 384) . (3) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 298) رقم (28499) ، والترمذيّ (5/ 351) كتاب التفسير: باب «ومن سورة الأحزاب» ، حديث (3205) من طريق عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سلمة عن أم سلمة به. وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 376- 377) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وابن المنذر. (4) أخرجه الطبريّ (10/ 298) رقم (28503) عن عكرمة. وذكره البغوي (52813) ، وابن عطية (38414) ، وابن كثير في تفسيره (3/ 483) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 376) . وعزاه لابن أبي حاتم، وابن عساكر من طريق عكرمة رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما. (5) ينظر: «المحرر» (4/ 384) .

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]

نَحْنُ بَنَاتِ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ «1» انتهى. ت واسْتَصْوَبَ ابنُ هشامٍ نصبَه على النداء، قاله في «المغني» . وقوله تعالى: وَاذْكُرْنَ يُعْطِي أنْ أهْل البيتِ نساؤه، وعلى قول الجمهور: هي ابتداء مخاطبةِ، والحكمةُ السّنّةُ، فقولُه: وَاذْكُرْنَ يحتمل مَقْصِدَيْنِ: كِلاهما مَوْعِظَة أحدُهمَا: أن يريدَ تَذَكَّرْنَه، واقْدِرْنَه قَدْرَه، وفَكِّرْنَ فِي أنّ مَنْ هذِهِ حَالُه يَنْبَغِي أن تَحْسُنَ أَفْعَالُه، والثاني: أن يُرِيْدَ: اذْكُرْنَ بمعنى: احْفَظْنَ واقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ أَلسنتَكنَّ. ت: ويحتمل أن يُرَادَ ب اذْكُرْنَ إفشاؤه ونشرُه للناس، والله أعلم. وهذا هو الذي فهمُه ابنُ العربيِّ «2» من الآية، فإنَّه قال: أمر الله أزواجَ رسولهِ أن يُخْبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن وبما يَرَيْنَ من أفعال النّبي صلى الله عليه وسلّم وأقواله، حتى يبلغَ ذلك إلى الناسِ، فيعملوا بما فيه ويَقْتَدُوا به، انتهى. وهوَ حسن وهو ظاهر الآية وقد تقدم له نحو هذا في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [النساء: 128] الآية ذكره «3» في «أحكام القرآن» . [سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... الآية: رُوِي في سَبَبهَا أَنَّ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولُ اللهِ، يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى الرِّجَالَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يَذْكُرُنَا، فَنَزَلَتْ الآيةُ فِي ذَلِكَ، وألفاظ الآية في غاية البيان.

_ (1) «الرجز» لهند بنت عتبة في «أدب الكاتب» ص (90) و «الأغاني» (12/ 343) ، (15/ 147) ولها أو لهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الإيادي في «شرح شواهد المغني» (2/ 809) و «لسان العرب» (10/ 217) (طرق) ولهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الإياديّ في «معجم ما استعجم» ص (70) ، ولهند بنت الفند الزماني (سهل بن شيبان) في «الأغاني» 23/ 254، ولهند دون تحديد في «لسان العرب» (10/ 361) (نمرق) ، وللقرشية في «جمهرة اللغة» ص (756) ، وبلا نسبة في «الأغاني» (12/ 342) و «مغني اللبيب» (2/ 387) و «همع الهوامع» (1/ 171) . واستشهد فيه بقولها: «نحن بنات طارق نمشي» حيث اعترضت جملة الاختصاص بين المبتدأ والخبر، وهذا جائز. (2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1538) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 504) . [.....]

[سورة الأحزاب (33) : آية 36]

وقوله سبحانه: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ... الآية. وفي الحديث: 74 ب الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «سَبَقَ المُفْرِّدُون! قَالُوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ، / يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ» «1» رواه مسلم واللفظ له، والترمذيُّ، وعنده: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: «المُسْتَهْتِرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافاً» «2» . قال عياض: «والمُفَرِّدون» ضَبَطْنَاهُ على مُتْقِني شيوخِنا- بفتح الفَاء وكَسرِ الراء-. وقال ابن الأعرابي: فَرَّدَ الرجلُ إذا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ، وخلا لمُرَاعاة الأمر والنهي، وقال الأزهريُّ: هم المُتَخَلُّونَ مِنَ النَّاسِ بذكْرِ الله تعالى، وقوله: المستَهْتِرُونَ «3» في ذكْر اللَّهِ هو- بفتح التاءَيْنِ المثناتين- يعني: الذين أُولِعُوا بذكْرِ الله، يقال: استهتر فُلانٌ بكَذَا، أي: أَولِعَ به، انتهى من «سلاح المؤمن» . [سورة الأحزاب (33) : آية 36] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وقوله سبحانه: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ... الآية: قوله: وَما كانَ لفظه النفي، ومعناه الحظرُ والمنعُ والخيرةُ مصدرُ بمعنى التَّخَيُّر. قال ابن زيد: نزلت هذه الآية بسبب أن أم كُلثُوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهبت نفسها للنبي، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد «4» ، وقيل غير هذا، والعصيانُ هنا يعم الكفر فما دون، وفي

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) عبارة المجد في «قاموسه» «وهم المهتزون بذكر الله تعالى، قال الشيخ نصر الهوريني في تعليقه قوله: المهتزون هكذا بالزاي في النسخ المطبوعة ولعلها رواية وفي نسخة الشارح المهترون بالراء وكتب عليها كما جاء في رواية نصها قال: «والذين اهتروا فِي ذِكْرِ اللهِ يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فيأتون يوم القيامة خفافا» اه. قلت اهتر الرجل: فقد عقله من الكبر أو المرض أو الحزن فهو مهتر بفتح التاء، واهتر فلان مجهولا: أولع بالقول في الشيء فهو مهتر، «واهتروا في ذكر الله» : أي خرفوا وهم يذكرون الله اه. (4) أخرجه الطبريّ (10/ 301) رقم (28517) ، وذكره ابن عطية (4/ 386) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 489) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 381) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 37]

حديث الترمذيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مِنْ سَعَادَةِ ابن آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سخطه بما قضاه الله له» «1» انتهى. [سورة الأحزاب (33) : آية 37] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) وقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ... الآية: ذهَب جماعة من المتأوِّلينَ إلى أن الآيةَ لا كَبيرَ عَتْبٍ فيها على النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فَرُوِي عن علي بن الحسين: أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلّم كان قد أُوحِيَ إليه أنَّ زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلّم خُلُقَ زينبَ، وأنَّها لا تطيعه، وأعلمَه بأنه يريد طلاقها، قال له النّبي صلى الله عليه وسلّم على جهة الأدب والوصيةِ: «اتَّقِ اللهَ- أي: فِي قَوْلِكَ- وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» - وَهُوَ يَعْلَمُ أنّه سيفارقها- وهذا هو الذي أخفى صلى الله عليه وسلّم فِي نفسهِ ولم يردْ أن يأمره بالطلاق لما علم من أنّه سيتزوجها، وخشي صلى الله عليه وسلّم أن يلحقه قولٌ من النَّاس، في أن يتزوجَ زينب بعدَ زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر من أن خَشِي الناس في شيء قد أباحه الله تعالى له. قال عياض: وتأويل علي بن الحسين أحسن التأويلات وأصحها، وهو قول ابن عطاء، وصححه واستحسنه، انتهى. وقوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام وغير ذلك وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ يعني بالعِتْقِ، وهو زيد بن حارثة، وزينب هي بنت جحش، بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أعلم- تعالى- نبيه أنه زَوَّجَها منه لما قَضَى زيدُ وطرَه منها لتكون سنةً للمسلمين في أزواج أدعيائهم، وليبيّن أنها ليست كحرمة البنوة، والوطرُ: الحاجَةُ والبُغْيَةُ. وقوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا: فيه حذفُ مضافٍ تقديرُه: وكانَ حكمُ أمرِ الله، أو مُضَمّنْ أمْرِ الله، وإلاّ فالأمر قديمٌ لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل/ وعبارة الواحديِّ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي: كائنا 75 ألا محالةَ، وكان قَد قضى فِي زينبَ أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم. انتهى.

_ (1) تقدم تخرجه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 إلى 39]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 39] مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) وقوله تعالى: مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ... الآية: هذه مخاطبةٌ من اللهِ تعالى لجميعِ الأمة أَعلمهم أَنه لا حرجَ على نبيه في نَيْل ما فَرَضَ اللهُ له وأباحَهُ من تزويجهِ لزينبَ بَعْد زيد، ثم أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء، من أن ينالوا ما أحله الله لهم، وعبارة الواحدي: مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي: أحل الله له من النساء. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، يقول: هذه سنة قَد مضت لغيركِ يعني كثرةُ أزواج داودَ وسليمان- عليهما السلام- وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً قضاءٍ مقضياً. وقوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ من نَعْتِ قوله: فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، انتهى. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 40 الى 44] مَّا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) وقوله تعالى: مَّا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ إلى قوله كَرِيماً أذهَب الله بهذه الآية مَا وَقَعَ في نفوسِ المنافقين وغيرِهم لأنهم استعظموا أن يَتَزَوَّجَ زَوْجَة ابْنِه، فنفى القرآن تلك النبوّة، وقوله: أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ يعني المعاصرين له وباقي الآية بيِّن. ثم أمر سبحانه عباده بأن يذكروه ذكراً كثيراً، وجعل تعالى ذلك دون حَدٍّ ولا تقدير لسهولته على العبد، ولعظم الأجر فيه. قال ابن عباس: لم يُعْذَرْ أَحدٌ فِي تركِ ذكر اللهِ عز وجل إلاَّ مَنْ غُلِبَ عَلى عَقْلِهِ «1» ، وقال: الذكرُ الكثيرُ أن لا تنساه أبداً. ورَوَى أبو سعيد عن النّبي صلى الله عليه وسلّم «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ حتى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ» «2» . ت:

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 306) رقم (28531) ، وذكره البغوي (3/ 534) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 495) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 386) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما. (2) أخرجه أحمد (3/ 68) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» (ص 289) رقم (925) ، وأبو يعلى (2/ 521) رقم (1376) ، وابن حبان (805) ، والحاكم (1/ 499) كلهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 79) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه دراج وقد ضعفه جماعة، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد ثقات.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 إلى 49]

وهذا الحديثُ خرَّجه ابن حِبَّان في «صحيحه» . وقوله: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أراد في كل الأوقات فحدّد الزمن بطرفي نهارِه ولَيْلِه، والأصيل من العَصْر إلى الليلِ، وعن ابن أبي أوفى قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللهِ» «1» رواه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح» . وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ... الآية: صلاةُ الله على العبدِ هي رحمتُه له، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين. ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيساً لَهُم. وقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قيل: يوم القيامة تجيء الملائكةُ المؤمنين بالسلامِ، ومعناه: السلامةُ من كل مكروهٍ، وقال قتادة: يوم دُخولِهم الجنَّةِ يحي بعضُهم بعضاً بالسلامِ «2» ، والأجرُ الكريمُ: جنة الخلدِ في جوار الله تبارك وتعالى. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 49] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً ... الآية، هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ أي: بأمره وَسِراجاً مُنِيراً استعارةُ للنور الذي تَضَمَّنهُ شرعُه. وقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً.

_ (1) أخرجه الحاكم (1/ 51) ، والبيهقي (1/ 379) ، كتاب الصلاة: باب مراعاة أداء المواقيت، من حديث ابن أبي أوفى مرفوعا. وقال الحاكم: إسناده صحيح. ووافقه الذهبي. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 306) رقم (28534) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 389) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 496) . والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 390) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 50]

قال ع: قال لنا أبي- رحمه الله-: هذه الآيةُ من أرجى آية عندي في كتاب الله- عز وجل-. قال أبو بكر بن الخطيب: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، ثم ذكر سنده إلى ابن عباس قال: 75 ب قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: أنزلت عليّ آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ/ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً قال: شاهداً: على أمتك، ومبشراً: بالجنة، ونذيراً: من النار، وداعياً: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، بإذنه: بأمره، وسراجاً منيراً: بالقرآن. انتهى من «تاريخ «1» بغداد» له، من ترجمة «محمد بن نصر» . وقوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ يحتمل أن يريدَ أن يأمره تعالى بترك أن يؤذِيهم هو ويعاقبهم، فالمصدر على هذا مضافٌ إلى المفعول، ويُحْتَمَلُ أن يريدَ: أعْرِض عَن أقوالهم وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل وهذا تأويل مجاهد «2» ، وباقي الآية بيّن. [سورة الأحزاب (33) : آية 50] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... الآية، ذهب ابن زيد والضحاكُ في تفسير هذه الآية إلى: أن الله تعالى أحل لنبيه أن يتزوجَ كل امرأة يؤتيها مَهْرَها، وأباح له كلَّ النساء بهذا الوجه، وإنما خَصَّصَ هؤلاءِ بالذكر تشريفا لهن فالآيةُ على هذا التأويلِ فيها إباحةٌ مُطلقةُ في جميع النساء، حاشى ذوات المحارم المذكور حُكْمُهُنَّ «3» في غير هذه الآية. ثم قال بعد هذا تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي: من هذه الأصناف كلها، ثم تجرى الضمائرُ بعد ذلك على العُموم إلى قوله تعالى:

_ (1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (3/ 319) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 307) رقم (28538) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 390) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 391) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 309) عن ابن زيد برقم (28544) ، وعن الضحاك برقم (28545) ، وذكره ابن عطية (4/ 391) .

[سورة الأحزاب (33) : آية 51]

وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ [الأحزاب: 52] فيجيءُ هذا الضميرُ مقطوعاً من الأول عائداً على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك، وتأوّل غير ابن زَيْدٍ في قوله: أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ مَنْ فِي عِصْمَتِهِ ممن تَزَوَّجَها بِمَهْرٍ وأنّ ملك اليمين بعد حلال له وأن اللهَ أباحَ له مع المذكُوراتِ بَنَاتِ عَمِّهِ وعماتِه، وخاله، وخالاته، ممن هاجرَ معَه، والواهباتِ خَاصَّةً، فيجيءُ الأمرُ على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلّم، ويؤيدُ هذَا التأويلَ ما قَالَه ابنُ عباس: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يَتَزَوَّجُ في أَيِّ النِّسَاءِ شَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ على نِسَائِهِ، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ، وحُرِّم عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاءُ إلاَّ مَنْ سُمِّيَ سُرَّ نِسَاؤه بذلك «1» . وقوله سبحانه: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ... الآية، قال السُّهَيْلِيُّ: ذكرَ البخاريُّ عَن عائشَة- رضي الله عنها- أنَّها قَالَتْ: كَانَتْ خَوْلَةُ بنتُ حَكِيمٍ مِن اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدَلَّ على أنهن كُنْ غَيْرَ واحدة «2» ، انتهى: وقوله: خالِصَةً لَكَ أي: هبة النساء أنفسهن خاصةٌ بك دونَ أمَّتِكَ. قال ع «3» : ويظهرُ من لفظِ أُبَيِّ بن كَعْبِ أن معنى قوله: «خالصة لك» يُرَادُ بهِ جميعُ هذهِ الإبَاحَة لأن المؤمنين لم يُبَحْ لهم الزيادةُ على أربعٍ «4» . وقوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ يريدُ هو كونَ النكاح بالولي والشاهدين، والمهر، والاقتصارَ على أربع قاله قتادة ومجاهد. وقوله: لِكَيْلا أي: بيّنا هذا البيان. لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ويظن بك أنك قد أثمت عند ربّك. [سورة الأحزاب (33) : آية 51] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) وقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ... الآية، ترجي معناه: تُؤَخِّرُ وتُؤْوِي

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 391) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 393) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما. (2) ذكره البخاري تعليقا (9/ 68) كتاب النكاح: باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد، حديث (5113) . [.....] (3) ينظر: «المحرر» (4/ 392) . (4) أخرجه الطبريّ (10/ 311) رقم (28552) . وذكره ابن عطية (4/ 392) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 500) .

معناه: تَضُمُّ وتُقَرب، ومعنى هذه الآية: أن الله تعالى فَسَحَ لنبيِّه فيما يفعله في جِهَة النساء، والضميرُ في مِنْهُنَّ عائدٌ على مَن تَقَدَّمَ ذكرُه من الأصْنَافِ حَسْبَ الخِلافِ المذكورِ في ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني منها: أن المعنى في القَسْمِ، أي: تُقرِّبُ مَنْ شِئْتَ فِي القسمةِ لَها مِن نَفْسِكَ وَتُؤَخِّرُ عَنْكَ مِن شِئْتَ وتُكْثِر لمن شئت وتقلّ لمن شئت، 7 ألا حرجَ عليكَ في ذلك، فإذا عَلِمْنَ هنَّ أنّ هذا هو حكم الله/ لك رَضِينَ وقَرَّت أعينُهن وهذا تأويل مجاهد وقتادةَ والضحاك «1» . قال ع «2» : لأن سبب هذه الآية تغاير وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلّم تَأَذَّى بِهِ. وقَالَ ابن عباس «3» : المعنَى في طَلاق مَنْ شَاء وإمْسَاك مَن شاء. وقال الحسنُ بن أبي الحسن «4» : المعنى في تَزَوُّج من شَاء وترك مَنْ شَاء. قال ع «5» : وعلى كلِّ مَعْنًى فالآيةُ معناها: التَوْسِعَة على النبي صلى الله عليه وسلّم والإباحة له وذهب هبة الله في «الناسخ والمنسوخ» له إلى أن قولَه تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ... الآية، ناسخُ لقوله: لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب: 52] الآيةَ. وقوله تعالى: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يحتمل معاني: أحدها أن تَكونَ «من» للتبعيض، أي: من أردت وطلبَتْه نفسُك ممن كنتَ قَدْ عزلتَه وأخَّرتَه فلا جناح عليك في رده إلى نفسِكَ وإيوائه إليك، ووجه ثانٍ وهو أن يكونَ مُقَوِّياً ومُؤكِداً لقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ و «تؤوي مَن تَشَاء» فيقول بعدُ ومَن ابتغيتَ ومَنْ عَزَلْتَ فذلكَ سواءٌ لا جناحَ عليك فِي ردِّه إلى نفسِكَ وإيوائه إليك. وقوله: وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ أي مِنْ نفْسِك، ومالِك، واتفقتِ الرواياتُ على أنه-

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 313) عن قتادة برقم (28566) ، وعن الضحاك برقم (28568) ، وذكره ابن عطية (4/ 393) ، وابن كثير في تفسيره (3/ 501) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 397) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (2) ينظر: «المحرر» (4/ 393) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 313) ، رقم (28570) ، وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 397) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس. (4) أخرجه الطبريّ (10/ 314) رقم (28571) بنحوه. وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 397) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن رضي الله عنه بنحوه. (5) ينظر: «المحرر» (4/ 393) .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 52 إلى 55]

عليه السلام- معَ مَا جَعَلَ الله له من ذلكَ كان يُسَوِّي بينهن في القَسْمِ تَطْيِيباً لنفُوسِهنَّ وأخْذاً بالفَضْلِ، وما خصه الله من الخَلق العظيم- صلى الله عليه وعلى آله- غير أن سودة وهبت يومها لعائشة تقمّنا لمسرّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 52 الى 55] لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) وقوله تعالى: لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قيل كما قدمنا: إنها حظَرَتْ عليه النساءَ إلا التسْعَ وما عُطِفَ عَليهِنَّ على ما تقدم لابن عباس وغيره، قال ابن عباس وقتادة: جَازَاهُنَّ الله بذلك لما اخترنَ الله وَرسوله «1» ، ومن قال: بأن الإباحَةَ كانتْ له مُطْلَقَةً قَال هنا: لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ معناه: لا يحل لك اليهودياتُ ولا النصرانياتُ، ولا ينبغي أن يكنَّ أمهاتِ المؤمنين ورُوِيَ هذَا عَن مجاهدَ «2» وكذلك قَدَّرَ: ولا أن تبدل اليهودياتِ والنصرانياتِ بالمسلماتِ وهو قول أبي رزين وابن جبير «3» وفيه بُعْدٌ. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ هذهِ الآيةُ تُضمنتُ قِصَّتَيْنِ: إحداهما: الأدبُ في أمر الطعام والجلوس، والثانية: أمر الحجاب.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 316) رقم (28581) عن ابن عباس، وعن قتادة برقم (28582) ، وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 394) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 501) . والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 399) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 318) (28589) ، وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 394) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 399) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) ذكره ابن عطية (4/ 394) .

قال الجمهور: سببها أن النّبي صلى الله عليه وسلّم لما تزوَّج زَيْنبَ بِنْتَ جَحْشٍ، أَوْ لَمْ عَلَيْها ودَعَا النَّاسَ، فَلَمَّا طَعِمُوا، قَعَدَ نَفَرٌ فِي طَائِفَةٍ مِنَ البَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ، فَثَقُلَ عَلَى النّبيّ صلى الله عليه وسلّم مَكَانُهُمْ، فَخَرَجَ لِيَخْرُجُوا بِخُرُوجِهِ، وَمَرَّ على حِجْرِ نِسَائِهِ، ثُمَّ عَادَ فَوَجَدَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ، وَزَيْنَبُ في البيت معهم، فلمّا دخل وراءهم انْصَرَفَ، فَخَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأُعْلِمَ أَوْ «1» أَعْلَمْتُهُ بانصرافهم، فَجَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الحُجْرَةَ، أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَدَخَلَ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ بِسَبَبِ ذَلِكَ «2» . قال إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أدب أَدَّبَ الله به الثُّقَلاء، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وجماعةٌ: سبب الحجاب: كلام عمر للنبي صلى الله عليه وسلّم مرارا في أن يحجب نساءه «3» ، وناظِرِينَ معناه: منتظرين، وإِناهُ: مصدر «أنى» الشيءَ يَأْنِي أنيْ، إذا فَرَغَ وحَانَ، ولفظُ البخاري: يُقَال: إناه: إدراكُه أنى يأنى إناءة، انتهى. وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ معناه: لا يقع منه تركُ الحق، ولما كان ذلك يقعُ من البشر لِعلةِ الاسْتِحياءِ نَفَى عنه تعالى العلةَ الموجِبةَ لذلكَ في البشر، وعن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثَلاَثٌ لاَ يحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ لاَ يؤمّ رجل قوما 76 ب فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانهُمْ، وَلاَ يَنْظُرُ فِي قَعْرِ بَيْتٍ/ قَبْلَ أنْ يَسْتَأْذِنَ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانَ، وَلاَ يُصَلِّي وَهُوَ حَاقِنٌ حتى يَتَخَفَّفُ» «4» . رواه أبو داود

_ (1) في ج: و. (2) أخرجه البخاري (8/ 387) كتاب التفسير: باب لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، حديث (4791، 4792، 4793، 4794) ، وفي (9/ 134) كتاب النكاح: باب الهدية للعروس، حديث (5163) ، وفي (9/ 137- 138) كتاب النكاح: باب الوليمة حق، حديث (5166) ، وفي (11/ 24) كتاب الاستئذان: باب آية الحجاب، حديث (6238، 6239) ، ومسلم (2/ 1050- 1052) كتاب النكاح: باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب، حديث (93، 94/ 1428) ، والنسائي في «التفسير» (440) ، والطبريّ في «تفسيره» (10/ 323- 324) رقم (28605- 28608) ، والبيهقي (7/ 87) كتاب النكاح: باب سبب نزول آية الحجاب، كلهم من حديث أنس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 401) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 326) (28619) ، وذكره البغوي (3/ 540) ، وابن عطية (4/ 395) ، وابن كثير في «تفسيره» (50513) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 403) ، وعزاه لابن جرير عن عائشة رضي الله عنها بنحوه. (4) أخرجه أبو داود (1/ 70) كتاب الطهارة: باب أيصلي الرجل وهو حاقن، حديث (90) ، والترمذيّ (2/ 189) كتاب الصلاة: باب ما جاء في كراهية أن يخص الإمام نفسه بالدعاء، حديث (357) ، وابن ماجه (1/ 202) كتاب الطهارة: باب ما جاء في النهي للحاقن أن يصلي، حديث (619) ، وأحمد (5/ 280) -[.....]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 إلى 59]

واللفظ له، وابن ماجه، والترمذي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ، ورواه أبو داود أيضاً من حديث أبي هريرة «1» ، انتهى من «السلاح» . وقوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً ... الآية، هي آية الحجَابِ، والمتَاعُ عام في جميع ما يمكن أن يُطْلَب من المَواعِينِ وَسائر المرَافِق، وباقي الآية بيِّن. وقد تقدَّم في سورة النور طرف من بيانه فأغنى عن إعادته. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 59] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... الآية، تضمّنت شرف النّبي صلى الله عليه وسلّم وعظيمَ منزلتِه عندَ اللهِ تَعالى. قالتْ فِرقَة: تقدير الآيةِ: أن الله يُصَلِّي وملائكتُه يصلُّون، فالضَّميرُ في قوله يُصَلُّونَ: للملائِكةِ فَقط. وقالت فرقة: بل الضميرُ في يُصَلُّونَ لِلَّهِ والملائكة وهذا قول من الله تعالى، شَرَّفَ به ملائكتَه فَلاَ يُرِدُ عليه الاعتراضُ الذي جَاءَ في قَوْلِ الخَطِيبِ: مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فقد رشد، ومن يعصهما، فقد ضلّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ» «2» . وهذا القَدْرُ كَافٍ هُنَا، وصلاة الله تعالى: رحمةٌ منه وبركةٌ، وصلاة الملاَئكةِ: دعاء، وصلاةُ المؤمنين: دعاء، وتعظيم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في كل حينٍ من الواجباتِ وجوبَ السُّنَنِ المؤكَّدَةِ التي لا يسعُ تَرْكُها وَلاَ يُغْفِلُها إلاَّ مَن لاَ خيرَ فيه، وفي حديث ابن عباس: أنه لما نزلت هذه الآية قال قوم من الصحابة: «هَذَا السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عرفْنَاهُ، فكَيْفَ نُصَلِّي عليك؟» الحديث «3» .

_ - من حديث ثوبان. وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود (1/ 70- 71) كتاب الطهارة: باب أيصلي الرجل وهو حاقن، حديث (71) . (1) ينظر: الحديث السابق. (2) أخرجه مسلم (2/ 594) كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة حديث (48/ 870) ، وأبو داود (1/ 355- 356) كتاب الصلاة: باب الرجل يخطب على قوس حديث (1099) ، والنسائي (6/ 90) وأحمد (4/ 256، 379) ، والحاكم (1/ 289) . (3) تقدم تخريجه.

ت: ولفظ البخاري: عن كعب بن عُجْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ، فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» «1» . انتهى وفيه طرقٌ يَزِيدُ فيها بعضُ الرواةِ على بعض، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الجمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فيه فَإنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» «2» الحديثُ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي مسعود الأنصاري، وقال: صحيحُ الإِسناد، وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلاَّ رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حتى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ» «3» وعنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُم» «4» . رواهما أبو داود، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 392) كتاب التفسير: باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... حديث (4797) ، ومسلم كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بعد التشهد حديث (66/ 405) ، وأبو داود (1/ 257) كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بعد التشهد حديث (976) والترمذيّ (2/ 352) ، كتاب الصلاة: باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم حديث (483) والنسائي (3/ 47- 48) كتاب السهو: باب (51) حديث (1288) ، وابن ماجه (1/ 292- 293) كتاب إقامة الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم حديث (904) ، وأبو عوانة (2/ 212- 213) والدارمي (1/ 309) كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم، وأحمد (4/ 241، 243، 244) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 103- منحة) رقم (103) وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص- 144) رقم (368) والحميدي (2/ 310- 311) رقم (711، 712) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (206) ، والطبريّ في «تفسيره» (22/ 31) ، وإسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» رقم (56، 57، 58) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 72- 73) وابن حبان (3/ 317) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (93) والطبراني في «الصغير» (1/ 85- 86) وفي «الكبير» (19/ 116) رقم (241، 242) وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 356) والبيهقي في «سننه» (2/ 147- 148) ، كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في التشهد، وفي «شعب الإيمان» (2/ 207) رقم (1548) والبغوي في «شرح السنة» (2/ 281- بتحقيقنا) والحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» (2/ 184- 185) كلهم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة به وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. (2) أخرجه أبو داود (1/ 635) كتاب الصلاة: باب فضل الجمعة حديث (1047) والنسائي (3/ 91- 92) كتاب الجمعة: باب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الجمعة، وابن ماجه (1/ 524) كتاب الجنائز: باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلّم حديث (1636) ، وأحمد (4/ 8) ، والدارمي (1/ 369) كتاب الصلاة: باب في فضل الجمعة. (3) أخرجه أحمد (2/ 527) ، وأبو داود (1/ 622) كتاب المناسك: باب زيارة القبور، حديث (2041) ، والبيهقي (5/ 245) من حديث أبي هريرة. (4) تقدم تخريجه قريبا، وهو حديث أوس بن أوس: «إن أفضل أيامكم يوم الجمعة» .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 إلى 71]

النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً» «1» . رواه الترمذي، وابن حِبَّانَ في «صحيحه» ، ولفظهما سواء، وقال الترمذي: حسن غريب. انتهى من «السلاح» . وقولُه سبحانه: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ الجلبابُ: ثوبٌ أَكْبَرُ مِنْ الخِمَار، ورُوِي عَن ابن عباس وابن مسعود: أَنَّهُ الخمارُ، واخْتُلِفَ في صورة إدنائه: فقالَ ابنُ عباسٍ «2» / وغيره: ذلك أن تَلْوِيَه المرأةُ حَتَّى لا يظهرَ منهَا إلاَّ عينٌ واحِدَةٌ تبصر بها، وقال 77 أابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه على الجبينِ وتشدُّهُ، ثم تَعْطِفَهُ على الأنفِ، وإن ظهرتُ عَيْنَاها لكنَّه يستر الصدر ومعظمَ الوجهِ «3» . وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ: أي حتى لا يختلطّن بالإمَاءِ، فَإذَا عُرِفْنَ لم يقابَلْن بأذَى من المعارضة مراقبةً لرتبةِ الحرائر، وليس المعنى أن تُعْرَفَ المرأةُ حتى يعلمَ من هي وكان عمر إذا رأى أمَةً قد تقنعت قَنَّعَها بالدِّرَّةِ محافظةً على زِيِّ الحرائر. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 71] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) وقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ... الآية. اللام في قوله: لَئِنْ هي المُؤْذِنَةُ بمجيء القَسَمِ، واللام في لَنُغْرِيَنَّكَ: هي لامُ القسمِ.

_ (1) أخرجه الترمذيّ (2/ 354) كتاب الصلاة: باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم، حديث (484) ، وابن حبان (3/ 192) ، رقم (911) ، من حديث ابن مسعود. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب. وصححه ابن حبان. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 332) عن ابن عباس برقم (28647) ، وذكره البغوي (3/ 544) ، وابن عطية (4/ 399) ، وابن كثير في «تفسيره» (8/ 5) عن ابن عباس رضي الله عنه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 415) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس. (3) ذكره ابن عطية (4/ 399) .

قلت: ورَوَى الترمذيُّ عن ابن عُمَرَ قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم المِنْبَرَ، فنادى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بلِسَانِهِ، وَلَمْ يَفُضْ الإيْمَانُ إلى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ يَتَبِعَ اللهُ عَوْرَتَه وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْه، وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ ... » الحديث «1» . انتهى. ورواه أبو دَاودَ في «سننه» من طريق أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلّم «2» وتوعَّد الله سبحانه هذه الأصنافَ في هذه الآية. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ المرض، هنا: هو الغَزَل وحب الزنا قاله عكرمة «3» . وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ: هم قوم كانوا يتحدثون بغزو العربِ المدينةَ ونحوِ هذا مما يُرْجِفُونَ بهِ نُفُوسَ المؤمنينَ، فيحتمل أنْ تكونَ هذه الفِرَقُ دَاخِلَةً في جملة المنافقين، ويحتمل أن تكون متباينة ولَنُغْرِيَنَّكَ معناه: نحضك عليهم بعد تعيينهم لك. وفي «البخاري» : وقال ابن عباس «4» : لَنُغْرِيَنَّكَ: لنسلطنك. انتهى. وقوله تعالى: ثُمَّ لاَ يُجاوِرُونَكَ أي: بعد الإغراء لأنك تَنْفِيهم بالإخافَة والقَتْلِ. وقوله: إِلَّا قَلِيلًا يحتمل: أن يريد إلا جِوَاراً قليلاً، أو وقتاً قليلاً، أو عدداً قليلاً، كأنه قال: إلا أقلاء، وثُقِفُوا: معناه: حصروا وقدر عليهم وأُخِذُوا: معناه: أُسِرُوا والأخِيذُ الأسِيرُ. والَّذِينَ خَلَوْا هم منافقو الأمم، وباقي الآية متّضح المعنى. والسَّبِيلَا: مفعولٌ ثَانٍ لأَنَّ أَضلَّ متعدٍ بالهَمْزَةِ، وهي سبيل الإيمان والهدى،

_ (1) أخرجه الترمذيّ (4/ 378) كتاب البر والصلة: باب ما جاء في تعظيم المؤمن، حديث (2032) من حديث ابن عمر. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه أبو داود (2/ 686) كتاب الأدب: باب في الغيبة، حديث (4880) من حديث أبي برزة الأسلمي. (2) تقدم تخريجه، وينظر الحديث السابق. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 333) (28654) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 399) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 519) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 417) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار عن عكرمة بنحوه. [.....] (4) أخرجه الطبريّ (10/ 334) (28661) ، وذكره ابن عطية (4/ 400) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 519) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 418) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 إلى 73]

وكَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى: هم قومُ مِن بَنِي إسرائيل. قال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة: الإشارةُ إلى ما تضمّنه حديث النبي صلى الله عليه وسلّم «من أَنَّ بَنِي إسرائيل كَانُوا يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، وَكَانَ موسى عليه السلام رَجُلاً سِتِّيراً حَيِّياً، لاَ يَكَادُ يرى مِنْ جَسَدِهِ شَيْءٌ فَقَالُوا: وَاللهِ، مَا يَمْنَعُ موسى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلاَّ أَنَّهُ آدَرُ أَوْ بِهِ بَرَصٌ، فَذَهَبَ يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَلَجَّ موسى فِي إثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، فَمَرَّ بِهِمْ فَنَظَرُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: وَاللهِ، مَا بموسى مِنْ بَأْسٍ» . الحديثُ «1» خرَّجه البُخَاريُّ وغيره، وقيل في إذَايتهم غيرُ هذا. فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا والوجيهُ: المكرَّمُ الوجهِ، والقولُ السَّدِيدُ: يَعُمُّ جَميعَ الخيراتِ. وقال عكرمة: أراد «لا إله إلا الله» » وباقي الآية بيّن. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) وقوله سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الآية، ذهب الجمهور: إلى أن الأمانةَ كلُّ شيء يُؤتمن الإنسانُ عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا فالشرعُ/ كلّه أمانة ومعنى الآية: إنا عرضْنَا على هذه المخلوقاتِ العظام أن تحمل الأوامر 77 ب والنَّواهي ولهَا الثوابُ إن أحْسَنَتْ، والعقابُ إن أساءت، فأبتْ هذه المخلوقاتُ وأشفقت، فيحتمل أن يكونَ هذا بِإدراكٍ يَخْلُقُه اللهُ لَهَا، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ هذا العَرْضُ على مَنْ فِيها من الملائِكةِ، وحَمَلَ الإنسانُ الأمانةَ، أي: التزَمَ القِيامَ بِحَقِّهَا، وهو في ذلك ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ بقدر مَا دخَل فيه وهذا هو تأويل ابنِ عباس وابن جبير. قال ابن عباس وأصحابه: والْإِنْسانُ آدم تَحمَّلَ الأَمانةَ فَما تَمَّ لَهُ يَوْمٌ حَتَّى وَقَعَ فِي أمرِ الشَّجرةِ «3» . وقال بعضُهم: الْإِنْسانُ: النَّوعُ كلّه فعلى تأويلِ الجمهور يكونُ قولُهما في الآية الأخرى أَتَيْنا طائِعِينَ إجابةً لأَمْرٍ أُمِرْت بِهِ وتَكُونُ هذه الآيةُ إبايَةً وإشفاقاً مِنْ أَمْرٍ عُرِضَ عَلَيْهَا وخُيِّرَتْ فِيه.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 338) (28680) ، وذكره البغوي (3/ 546) ، وذكره ابن عطية (4/ 401) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 521) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 421) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 339) (28683) ، وذكره ابن عطية (4/ 402) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 522) والسيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري عن ابن عباس.

وقوله تعالى: لِيُعَذِّبَ: اللامُ لامُ العَاقِبَة، وكذا قَال أبو حيان: اللام في لِيُعَذِّبَ: للصَّيْرُورَةِ لأَنَّه لَمْ يَحْمِلْ الأَمَانَةَ ليُعَذَّبَ، ولكنْ آلَ أمره إلى ذلك. ص: أبو البقاء: اللام تتَعلق ب: حَمَلَهَا وقرأ «1» الأعمش: «ويتوبُ» بالرفع على الاسْتِئْنَافِ، واللهِ أعلم. انتهى. وباقي الآية بيّن.

_ (1) قال الزمخشري: وقرأ الأعمش «ويتوب» ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدىء: ويتوب الله. ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة، ويتوب على غيره ممن لم يحملها لأنه إذا تيب على الوافي، كان ذلك نوعا من عذاب الغادر. والله أعلم. ينظر: «الكشاف» (3/ 565) ، و «مختصر الشواذ» ص (121) ، و «البحر المحيط» (7/ 244) ، و «الدر المصون» (5/ 427) .

تفسير"سورة سبإ"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تفسير «سورة سبإ» وهي مكّيّة واختلف في قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الآية. فقيل: ذلك مكّيّ، وقيل: مدنيّ. [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الأَلِفُ واللام في الْحَمْدُ: لاستغراق جنس المحامد، أي: الحَمْد على تَنَوُّعِهِ هُو لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جميع جهات الفكرة، ويَلِجُ معناه: يدخل، ويَعْرُجُ معناه: يصعد. [سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 11] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ رُوِيَ: أَنَّ قائلَ هذه المقالة هُو أبو

سفيانَ بنِ حَرْبٍ «1» ، والَّلامُ من قوله: لِيَجْزِيَ يصحّ أن تكون متعلقة بقوله: لَتَأْتِيَنَّكُمْ والَّذِينَ معطوف على الَّذِينَ الأولى، أي: وليجزي ليجزي الّذين سعوا ومُعاجِزِينَ معناه: مُحَاوِلِينَ تَعْجِيزَ قدرةِ اللهِ فِيهمْ، ثُم أَخْبَرَ تَعَالَى بَأَنَّ الذِينَ أُوتُوا العِلمَ يَرَوْنَ الوَحْيَ المُنَزَّل عَلَى مُحَمَّدٍ عليه السلام حَقاً، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قِيلَ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ الْمُؤْمِنُونَ «2» بِهِ، ثُمَّ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ الكُفَّارِ مَقَالَتَهُمْ الَّتِي قَالُوهَا عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ وَالهُزْءِ وَاسْتِبْعَادِ البَعْثِ، هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمّدا صلى الله عليه وسلّم يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بِالبِلَى وَتَقَطُّعِ الأوصال في القبور وغيرها وجَدِيدٍ بمعنى مُجَدَّدِ، وقولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً هُوَ أَيْضاً مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ فَقَالَ: بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ: يُريدُ عَذَابَ الآخرةِ لأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إلَيْه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يريدَ عَذَابَ الدنيا أَيضاً، والضَّمِيرُ فِي قوله: أَفَلَمْ يَرَوْا لهؤلاء الذين لا يؤمِنُونَ بالآخرةِ وَقَفَهُمْ الله على قدرتِه، وخَوَّفَهُم من إحاطَتِهَا بهِمْ، والمعنى: أليسَ يَرونَ أمامَهم وَوَرَاءَهُم سَمَائِي وَأَرْضِي، وَبَاقِي الآية بيّن، ثم 78 أذكر الله تَعَالَى نعمتَه عَلى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ/ احتجَاجاً على ما منح محمّدا، وأَوِّبِي مَعنَاه: رَجِّعي معه، قال ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهُ: معناه: يا جبالُ سَبِّحِي مَعَه، أي: يُسَبِّحُ هُوَ وتُرَجِّع هِيَ معه التسبيحَ، أي: تُرَدِّدُهُ بالذكر «3» . وقال مؤرج: أَوِّبِي سَبِّحِي بِلُغَةِ الحَبَشةِ، وقَرَأَ «4» عَاصِمُ: «والطيرُ» - بالرفع- عَطْفاً عَلى لفظِ قوله: «يا جبال» وقرأ نافع وابن كثير: «والطير» بالنّصب-.

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 405) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 347) (28711) ، وذكره البغوي (3/ 549) ، وابن عطية (4/ 406) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 426) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 350) (28719) ، وذكره ابن عطية (4/ 407) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 527) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 426) ، وعزاه لابن أبي شيبة في «المنصف» ، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما. (4) يعني قرأ عاصم في غير رواية حفص. وبها قرأ الأعرج وقرأ بها يعقوب كما ذكر الأزهري في «معاني القراءات» (2/ 290) . وقرأ بقراءة الجمهور عاصم في رواية حفص، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر. وبالجملة فقد قال الأزهري (2/ 289) : واتفق القراء على نصب قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ. وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 407) ، و «البحر المحيط» (7/ 253) ، و «الدر المصون» (5/ 434) .

[سورة سبإ (34) : الآيات 12 إلى 13]

قَالَ سَيبَوَيْهِ: عَطَفَ عَلَى مَوْضِع قَوْلِهِ: «يا جبال» لأَنَّ مَوْضِعَ المنادَى المفردِ نصبٌ، وقيل: نَصْبُها بإضمار فِعْلٍ تقديرُه: وسخَّرْنَا الطَّيْرَ، وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ مَعْنَاه: جَعَلْنَاهُ لَيِّناً، ورَوَى قَتَادَةُ وَغَيْرِه: أَنَّ الْحَدِيدَ كَانَ لَهُ كَالشَّمْعِ لاَ يَحْتَاجُ فِي عَمَلِهِ إلَى نَارٍ «1» ، و «السابغات» : الدُّرُوعُ الكَاسِيَاتِ ذَوَاتُ الفُضُولِ. وَقَوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قَالَ ابنُ زَيْدٍ: الذي أَمَرَ بهِ هُوَ فِي قدر الحَلْقَة، أي: لا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفَ فَلا يَقْوَى الدِّرْعُ عَلى الدِّفَاعِ، وَلاَ تَعْمَلْهَا كَبِيرَةً، فَيُنَالَ لاَبِسُهَا مِنَ خِلاَلِهَا «2» . وقال ابن عباس: التقديرُ: الَّذِي أَمَر بهِ هُو فِي المِسْمَارِ «3» ، وذَكَرَ البُخَارِيُّ فِي «صحيحهِ» ذَلِكَ فَقَالَ: المَعْنَى: لاَ تَدِقَّ المِسْمَارَ فَيَتَسَلَّلَ وَلاَ تُغْلِظَهُ فَيَنْقَصِمَ بالقافِ، وبالفاء أيضاً رواية. ت: قال الهُرَوِيُّ: قوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ «السرد» مُتَابَعَةُ حَلَقِ الدِّرْعِ شَيْئاً بعد شيء حتى يتناسقَ، يقالُ: فُلاَنٌ يَسْرِدُ الحديث سردا، أي: يتابعه. انتهى. [سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 13] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) وَقَوْلُه تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ المَعْنَى: ولسليمانَ سخَّرْنَا الريح، وغُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ. قال قتادة: معناه: إنها كانت تُقْطَعُ بِه فِي الغُدُوِّ إلَى قُرْبِ الزوال مسيرة شهر،

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 351) (28730) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 407) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 527) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 351) (28734) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 408) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 352) رقم (28735) بنحوه، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 408) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 427) بنحوه، وعزاه لعبد الرزاق، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وَتَقْطَعُ فِي الرَّوَاحِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إلى الغُرُوبِ، مسيرةَ شَهْرٍ، وَكَانَ سليمانُ إذَا أرادَ قَوْماً لَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى يُظِلَّهم في جَوِّ السَّمَاءِ «1» . وقوله تعالى: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ: قَال ابن عباس، وغيره: كانتْ تَسِيلُ لَهُ باليَمَنِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ مِنْ نُحَاسٍ يُصْنَعُ لَهْ منها جميع ما أحبّ، والْقِطْرِ: النّحاس «2» ، ويَزِغْ: معناه: يَمِلْ، أي: يَنْحَرِفُ عاصياً، وقال: عَنْ أَمْرِنا ولم يقل: «أرادتنا» لأَنَّهُ لاَ يَقَعُ في العالِم شَيءٌ يخالفُ إرَادتَهُ سُبْحَانه تعالى ويقعُ ما يخالفُ الأَمر، وقوله: مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ قيل: عذابُ الآخرة. وقيل: بل كان قد وكّل بهم مَلكٌ بيدِه سَوْطٌ مِن نَارٍ السَّعِيرِ فَمَنْ عَصَى ضَرَبَهُ فَأَحْرَقَهُ، و «الْمَحَارِيبُ» : الأَبْنِيَةُ العَالِيَةُ الشَّرِيفَةُ، قَالَ قَتَادَةُ: القصورُ والمسَاجِدُ والتَّمَاثِيلُ «3» ، قِيلَ: كَانَتْ مِن زُجَاجٍ وَنُحَاسٍ تَمَاثِيلُ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِحَيَوانٍ، «والجوابي» : جَمْعُ جَابِيةٍ وَهِي البِرْكَةُ التي يجبى إليها الماء وراسِياتٍ مَعْنَاه: ثابتاتُ لِكِبَرهَا، ليستْ مِمَّا يُنْقَلُ أو يُحْمَل ولا يَسْتَطِيعُ عَلَى عَمَلِهِ إلاَّ الجنُّ ثُمَّ أُمرُوا مَعَ هذهِ النعمِ بأَنْ يَعْمَلُوا بالطّاعات، وشُكْراً يُحْتَمَلُ نَصْبُه عَلى الحَالِ، أوْ عَلَى جِهَةِ المَفْعُولِ، أي: اعملوا عَمَلاً هو الشكرُ كَأَنَّ العِبَادَاتِ كُلَّها هِي نَفْسُ الشُّكْرِ، وفي الحديث: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم صَعَدَ المنبرَ فَتَلا هذه الآيةَ، ثم قال: «ثَلاثٌ من أُوتِيهِنَّ فَقَدْ أُوتِي العَمَلَ شُكْراً: العدلُ في الرضَا والغَضَبِ، والقَصْدُ فِي الفَقْرِ والغِنَى، وخَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ والعَلانِيَة» «4» ، وَهَكَذَا نقل ابن

_ (1) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 353) ، برقم (28740) بنحوه، وذكره ابن عطية في «في تفسيره» (4/ 408) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 427) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. (2) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 353) برقم (28745) عن قتادة، ورقم (28746) عن ابن زيد، ورقم (28748) عن ابن عباس، وذكره البغوي في «تفسيره» (3/ 551) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 409) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 528) ، بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 428) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. [.....] (3) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 354) رقم (28751) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 409) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 429) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة. (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 430- 431) ، وعزاه إلى ابن المنذر عن عطاء بن يسار مرسلا، وإلى ابن مردويه عن حفصة مرفوعا. والحكيم الترمذيّ عن أبي هريرة مرفوعا. وابن النجار في «تاريخه» عن أبي ذر. وذكره الهندي في «كنز العمال» (43224) ، وعزاه للحكيم الترمذيّ عن أبي هريرة.

العَرَبِيِّ هَذَا الحَدِيثَ فِي «أحْكَامِهِ» وَعِبَارَةُ الدَّاوُوديِّ: وعن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى المِنْبَرِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَقَالَ: ثَلاَثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ: العَدْلُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالقَصْدُ فِي الفَقْرُ والغنى، وذِكْرُ الله تعالى/ في السرّ والعلانية» «1» 78 ب قَال القُرْطُبِي «2» الشُّكْرُ تَقْوَى اللهِ وَالعَمَلُ بِطَاعَتِهِ. انتهى. قالَ ثابتٌ: رُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ قَدْ جَزَّأَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمْ تَكُنْ تَأْتِي سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ إلاَّ وَإنْسَانٌ مِنْ آل دَاودَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَتَنَاوَبُونَ دَائِماً «3» ، وَكانَ سُلَيْمَانُ- عَلَيْهِ السَّلاَم- فيما رُوِيَ- يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيُطْعِمُ أَهْلَه الخُشْكَارَ، ويُطْعِمُ المسَاكِينَ الدَّرْمَكَ «4» ، وَرُوِيَ أَنَّه مَا شبِعَ قَطٍّ، فقيلَ له في ذلك فقال: أخَافُ إنْ شَبِعْتُ أَنْ أنْسَى الجِياعَ. وقَولُه تَعَالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ يُحْتَمَلُ: أنْ تَكونَ مخَاطَبَةً لآلِ دَاوُدَ، ويحتمل: أنْ تكونَ مخاطبةً لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم وَعَلَى كُلٍّ وَجْهٍ فَفِيهَا تَحْرِيضٌ وَتَنْبِيهٌ، قال ابنُ عَطَاءِ اللهِ فِي «الحِكَم» : مَنْ لَمْ يَشْكُر النعمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِها وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِها. وقَالَ صَاحِبُ «الكَلِمِ الفَارِقية» : لاَ تَغْفَلْ عَنْ شُكْرِ الصَّنَائِعِ وَسُرْعَةِ استرجاع الوَدَائِعِ، وَقَالَ أيْضاً: يَا مَيِّتاً نُشِرَ مِنْ قَبْرِ العَدَمْ، بحُكْمِ الجُودِ والكَرَمِ، لاَ تَنْسَ سَوَالِفَ العُهُودِ والذِّمَمِ، اذكُرْ عَهْدَ الإيجَادِ، وَذِمَّةَ الإحْسَانِ والإرْفَادِ، وَحَالَ الإصْدَارِ والإيرَادِ، وفاتحة المَبْدَإِ وَخَاتِمَةَ المَعَادِ، وَقَالَ- رحمه الله-: يَا دَائِمَ الغَفْلَةِ عَنْ عَظَمَةِ رَبِّه، أيْن النَّظَرُ فِي عَجَائِبِ صُنْعِه، والتَّفَكُّرُ فِي غَرَائِبِ حِكْمَتِهِ، أيْنَ شُكْرُ مَا أَفَاضَ عَلَيْكَ مِنْ مَلاَبِسِ إحْسَانِه ونِعَمِهِ، يَا ذَا الفِطْنَةِ، اغْتَنِمْ نِعْمَةَ المُهْلَة، وَفُرْصَةَ المُكْنَةِ، وَخِلْسَةَ السَّلاَمَةِ، قَبْلَ حُلُولِ الحَسْرَةِ والنّدامة. انتهى.

_ (1) ينظر: الحديث السابق. (2) ينظر: «القرطبي» (4/ 177) . (3) ذكره البغوي في «تفسيره» (3/ 552) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 410) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 430) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ثابت البناني. (4) الدّرمك: هو الدقيق الحوّاري. ينظر: «النهاية» (2/ 114) .

[سورة سبإ (34) : آية 14]

[سورة سبإ (34) : آية 14] فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) وقَوْلُه تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ... الآيةَ. رُوِيَ عَن ابن عبَّاسٍ «1» وَابنِ مَسْعُودٍ فِي قَصَصِ هذهِ الآيةِ كَلاَمٌ طَوِيلٌ، حَاصِلُه: أنَّ سُلَيمَانَ عليه السلامُ لَمَّا أحَسَّ بِقُرْبِ أجَلهِ اجْتَهَدَ- عليه السلامُ- وجَدَّ فِي العِبَادَةِ وَجَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ له إلاَّ مُدَّةٌ يَسِيرَة. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ عند ذلك: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حتى يعلم الإِنْسُ أَنَّ الجِنَّ لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ، وكَانَتِ الجِنُّ تُخْبِرُ الإِنْسَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِن الغَيْبِ أَشياءَ، وأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِي غَدٍ، وَلَمَّا أَعْلَمَهُ مَلَكُ المَوْتِ بِقُرْبِ الأَجَلِ أَمَرَ حِينَئِذٍ الْجِنَّ، فَصَنَعَتْ لَهُ قُبَّةً مِنْ زُجَاجٍ تَشِفُّ وَدَخَلَ فِيهَا يَتَعَبَّدُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا بَاباً، وَتَوَكَّأَ على عَصَاهُ عَلَى وَضْعٍ يَتَمَاسَكُ مَعَهُ وَإنْ مَاتَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ- عَلَيْهِ السَّلاَمُ- على تِلْكَ الحَالَةِ، فَلَمَّا مضى لِمَوْتِهِ سَنَةً، خَرَّ عَنْ عَصَاهُ، وَالْعَصَا قَدْ أَكَلَتْهَا الأَرْضَةُ وَهِيَ الدُّودَةُ الَّتِي تَأْكُلُ العُودَ فَرَأَتِ الجِنُّ انخراره فَتَوَهَّمَتْ مَوْتَهُ «والمِنْسَأَة» : العَصَا، وَقَرأ الجمهور: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ بِإسْنَادِ الفعلِ إلَيْها، أي: بَانَ أَمْرُهَا، كَأَنَّهُ قال: افْتُضِحَتِ الجِنّ، أي: للإِنْسِ، هذا تَأَوِيلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَولُه: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ بِمَعْنَى: عَلِمَتِ الجِنُّ وَتَحَقَّقَتْ، وَيُرِيدُ بِالجِنِّ: جُمْهُورَهُمْ، والخَدَمَةَ مِنْهُمْ، ويُرِيدُ بالضَّمِيرِ فِي كانُوا: رُؤَسَاءَهُمْ وَكِبَارَهُمْ لأَنَّهُمْ هُمُ الذينَ يَدَّعُونَ عِلْمَ الغَيْبِ لأَتْبَاعِهِم من الجنّ والإنس. 79 أ/ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: «تبينت الجن» عَلَى بِنَاءِ الفعلِ للمفعول، أي: تبيّنها الناس، والْعَذابِ الْمُهِينِ: ما هم فيه من الخِدْمَةِ، والتَسْخِيرِ وغير ذلك، والمعنى: أنَّ الجِنَّ لَوْ كَانَتْ تَعْلَم الغَيْبَ لَمَا خَفِي عَلَيْهَا مَوْتُ سُلَيْمَانَ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهَا بِدَوَامِها فِي الخِدْمَةِ الصَّعْبَةِ، وَهُوَ مَيِّتٌ ف الْمُهِينِ المُذِلُّ، مِن الهَوَانِ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: أنَّ الشياطينَ قَالَتْ لِلأَرْضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ لأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ والشَّرَابِ، ولَكِنَّا سَنَنْقُلُ إلَيكِ الماءَ والطِّين فَهُمْ يَنْقُلُونَ إلَيها ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ شُكْراً لها، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 358) رقم (28777) ، ورقم (28778) بنحوه، وذكره البغوي في «تفسيره» (3/ 552) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 411) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 529) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 432) ، وعزاه للبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن السني في «الطب النبوي» ، وابن مردويه عن ابن عباس.

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 إلى 17]

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وقولُه تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ... الآية، هذا مَثَلٌ لقريشٍ بِقَوْمٍ أنْعَمَ الله عَليهمْ فَلَمْ يَشْكُروا فَانْتَقَمَ مِنْهُم، أي: فأنتم أيّها القوم مثلهم، وسبأ هُنا يراد بهِ القَبِيلُ، واخْتُلِفَ: لِمَ سُمِّي القَبِيلُ بِذلك؟ فَقَالَت فِرْقَةٌ: هُو اسْمُ امْرَأةٍ. وقِيلَ: اسْمُ مَوْضِعٍ سُمِّيَ بِهِ القَبِيلُ، وقَالَ الجُمْهُورُ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ، هُو أَبُو القَبِيلُ كُلِّه، وفِيهِ حَدِيثُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ المتقدّمُ في «سورة النّمل» خرّجه الترمذيّ «1» ، وآيَةٌ: معناه: عِبْرَةٌ وَعَلاَمَةٌ عَلَى فَضْلِ اللهِ وقُدْرَتِه، وجَنَّتانِ: مبتدَأٌ وَخَبَرُه: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، أو خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيره: هي جنتان، وقيل: جَنَّتانِ بدل من آيَةٌ وَضُعِّفَ، ورُوِي فِي قُصَصِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي نَاحِيَةِ اليَمَنِ وَادٍ عَظِيمٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَكَانَتْ جَنَبَتَا الوادِي فَوَاكِهَ وزُرُوعاً، وكان قد بُنِيَ فِي رَأْسِ الوادِي عِنْدَ أَوَّلِ الجَبَلَينِ جِسْرٌ عَظِيمٌ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ الجَبَلِ إلَى الجَبَلِ، فَاحْتَبَسَ الماءُ فِيهِ، وصَارَ بُحَيْرَةً عَظِيمَةً، وَأُخِذَ المَاءُ من جَنَبَتَيْهَا فَمَشَى مُرْتَفِعاً يَسْقِى جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ جَنَبتَي الوادِي، قِيلَ: بَنَتْهُ بلقيس، وَقِيلَ بَنَاهُ حِمْيَرُ أَبُو القَبَائِلِ اليَمَانِيَّةِ كُلِّهَا، وكانُوا بهذهِ الحالِ فِي أرْغَدِ عَيْشِ، وَكَانَتْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ قُرٍى ظَاهِرَةٌ مُتَّصِلَة من اليَمَنِ إلى الشام، وكانوا أَرْبَابَ تِلْكَ البِلاَدِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. ت: وَقَوْلُ ع «2» : «وَكَانَ قَدْ بُنِيَ فِي رَأْسِ الوَادِي عِنْدَ أَوَّلِ الجبلين» صوابُه: وَكَانَ قَدْ بُنِيَ فِي أَسْفَلِ الوَادِي عِنْدَ آخِرِ الجَبَلَينِ، وكُلُوا: فيه حذف معناه: قيل لهم: كلوا، وطَيِّبَةٌ معناه: كريمةُ التُّربةِ حَسَنةُ الهَواءِ، ورُوِيَ أَنَّ هذهِ المقَالة مِن الأَمْرِ بالأَكْلِ وَالشُّكْرِ وَالتَّوْقِيفِ عَلى طِيبِ البَلْدَةِ وغُفْرَانِ الرَّبِّ مَعَ الإيمَانِ بِهِ هي من قول الأَنْبِياء لَهُمْ، وبُعِثَ إليهم فِيمَا رُوِيَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ نَبِيّاً فَكَفَرُوا بِهِم وأَعْرَضُوا فَبَعَثَ اللهُ عَلى ذَلِكَ السَّدِّ جُرْذاً أَعْمَى تَوالَدَ فِيه وَخَرَقَهُ شَيْئاً بَعْدَ شَيْءٍ فَانْخَرَقَ السَّدُّ وَفَاضَ المَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَجَنَّاتِهم فَغَرَّقَها وَأَهْلَكَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الفِرَارُ واخْتُلِفَ فِي الْعَرِمِ. فَقَالَ المُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ وَأَبُو مَيْسَرَةَ: هُوَ كُلُّ مَا بُنِي أَوْ سُنِّمَ لِيُمْسِك «3» المَاءَ، وَقَالَ ابن

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر» (4/ 413) . (3) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 362) رقم (28789) عن المغيرة بن حكيم، ورقم (28790) عن أبي ميسرة، كلاهما بنحوه، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 414) عنهما.

عَبَّاسٍ وَغَيره: الْعَرِمِ: اسْمُ وَادِي ذَلِكَ المَاءِ بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَ السَّدُّ بُنِي «1» لَهُ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضاً: الْعَرِمِ الشَّدِيدُ «2» . قَالَ ع «3» : فَكَأَنَّهُ صِفَةٌ لِلسَّيْلِ مِنْ العَرَامَةِ، وَالإضَافَةُ إلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةٌ وَهِي كثيرةٌ فِي كَلام العَرَبِ، وقِيل: الْعَرِمِ: صِفَةٌ للمَطَرِ الشديدِ الذي كانَ عَنْه ذَلِكَ السَّيْلُ. وقوله تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ فيه تَجُوُّزٌ واستعارة، وَذَلِكَ أَنَّ البَدَلُ- من 79 ب الخَمْطِ والأَثْلِ- لَمْ يَكُنْ جَنَّاتٍ لَكِنَّ هَذا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ جَرَّدَ ثَوْباً جَيِّداً وَضَرَبَ ظَهْرَه: هَذا الضَّرْبُ ثَوْبٌ صَالِحُ لَكَ ونحو هذا، و «الخَمْطِ» : شَجَرُ الأَرَاكِ، قَالَه ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُه «4» ، وقِيلَ: «الخَمْطُ» : كُلُّ شَجَرِ لَهُ شَوْكٌ وَثَمْرَتَهُ كَرِيهَةُ الطَّعْمِ بِمَرَارَةٍ أَو حُمُوضَةٍ أو نَحْوِه، وَمِنْه تَخَمَّطَ اللَّبَنُ إذَا تَغَيَّرَ طُعْمُه و «الأَثْلُ» : ضَرْبٌ من الطَّرْفَاءِ، هذا هو الصَّحِيحُ، و «السدر» : معروفٌ وهُو لَه نَبْقٌ شَبَهُ العُنَّابِ لكنَّه دُونَه في الطَّعْمِ بِكَثِير، وللخَمْطِ ثَمرٌ غَثُّ هُوَ البَرِيرُ، وللأَثْلِ ثَمْرٌ قَلِيلُ الغَنَاءِ غَيْرُ حَسَنِ الطَّعْمِ، وقرأ نافع «5» وابن كثير: «أُكلٌ» : - بِضَمِّ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الكَافِ-، والبَاقُونَ: - بِضَمِّهِمَا- وهُمَا بمعنى الجَنَى والثَّمْرَةِ، ومِنْه: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [سورة إبراهيم: 25] . أي: جناها، وقرأ «6» أبو عمرو: «أُكُلِ خُمْطٍ» بإضافة «أكل» إلى «خمط» .

_ (1) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 362) رقم (28792) عن ابن عباس، ورقم (28793) عن قتادة، ورقم (28794) عن الضحاك، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 414) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 437) . وعزاه لابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه. ولابن جرير عن الضحاك. ولعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (2) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 363) رقم (28795) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 414) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 414) . (4) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 364) ، رقم (28801) عن ابن عباس، ورقم (28802) عن الحسن، (28803) عن مجاهد، (28805) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (3/ 554) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 414) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 533) والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 437) . وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد، ولابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ولابن أبي حاتم عن السدي، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. [.....] (5) ينظر: «السبعة» (528) ، و «الحجة» (6/ 14) ، و «إعراب القراءات» (2/ 217) ، و «معاني القراءات» (2/ 292) ، و «العنوان» (156) ، و «إتحاف» (2/ 385) . (6) ينظر: مصادر القراءة السابقة، و «حجة القراءات» (587) ، و «شرح الطيبة» (5/ 155) ، و «شرح شعلة» (553) .

[سورة سبإ (34) : الآيات 18 إلى 19]

وقولُه تعالى: ذلِكَ إشارةٌ إلى ما أجْرَاهُ عَلَيْهِم. وقولُه: وهل يجازى، أي: يناقَشُ ويُقَارَضُ بمثلِ فعلهِ قَدْراً بقَدْرٍ، لأَنَّ جَزَاءَ المُؤْمِنِ إنَّما هُو بِتَفَضُّلٍ وَتَضْعِيفٍ ثَوَابٍ، وَأَمَّا الَّذِي لا يزاد ولا ينقص فَهُوَ الكَافِرُ، وقَرَأْ «1» حمزةُ والكسائي: «وهل نُجَازِي» - بالنون وكسر الزاي «الكفور» - بالنصب-. [سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19] وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وقولُه تعالى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ... الآية، هذه الآيةُ وَمَا بَعْدَهَا وَصْفُ حالِهم قَبْلَ مَجِيء السَّيْلِ، وَهِيَ أنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ مَا كَانَ مَنَحَهُمْ مِنَ الجَنَّتَيْنِ والنِّعْمَةِ الخَاصَّةِ بِهِمْ كَانَ قَدْ أَصْلَحَ لَهُمْ البِلاَدَ المُتَّصِلَةَ وَعَمَّرَها وجَعَلَهُمْ أَرْبَابَها وقدَّرَ السَّيرَ بأنْ قَرَّبَ القُرَى بَعْضَها مِن بَعْضٍ حَتَّى كَانَ المسَافِر من مَأْرِبَ إلَى الشَّامِ يَبِيتُ فِي قَرْيَةٍ وَيقِيلُ فِي قَريَةٍ فَلاَ يُحْتَاجُ إلى حَمْلِ زاد، والْقُرَى: المُدُنُ، والقُرَى التي بُورِكَ فِيها: هِي بِلادُ الشَّامِ بإجْماع المفسِّرِين، والقُرَى الظَّاهِرَة: هِي الَّتِي بَيْنَ الشَّامِ وَمَأْرِبَ وهِي اسم بَلَدِهِمْ. قال ابن عباس «2» وغيره: هي قُرى عَرَبيَّةٌ بَيْنَ المدِينةِ والشَّام. واختلف فِي مَعْنَى ظاهِرَةً فَقَالَت فِرقَة: معناه: مُسْتَعْلِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ فِي الآكَامِ وَهِيَ أشْرَفُ القُرَى، وَقَالَتْ فِرقَةُ: معناه: يَظْهَرُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْض فَهِي أبَداً فِي قَبْضَةِ عَيْنِ المُسَافِرِ لاَ يَخْلُو عَنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ مِنْهَا. قَال ع «3» : والذي يَظْهرُ لي أَنَّ معنى ظاهِرَةً خَارِجَةٌ عَنِ المُدنِ فَهِي عِبَارَة عَنِ القُرَى الصِّغَارِ الَّتِي هِي فِي ظَوَاهِرِ المُدُنِ والله أعلم وآمِنِينَ، أي: مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ والعَطَشِ وآفاتِ السَّفَرِ، ثم حَكَى- سُبْحانه- عَنْهُمْ مقالةً قَالُوهَا عَلَى جِهَة البَطَرِ والأَشَرِ وهِيَ طَلَبُ البُعْدِ بَيْنَ الأَسْفَارِ كَأَنَّهُمْ مَلُّوا النِّعْمَةَ فِي القُرْبِ وَطَلَبُوا استبدال الّذي

_ (1) قرأ الأخوان وحفص «نجازي» بنون العظمة وكسر الزاي أي نحن «إلّا الكفور» مفعول به. والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول «إلّا الكفور» رفع على ما لم يسمّ فاعله، ومسلم بن جندب «يجزي» مبنيا للمفعول «إلّا الكفور» رفعا وقرىء «يجزي» مبنيا للفاعل وهو الله تعالى. «الكفور» نصبا على المفعول به. ينظر: «حجة القراءات» ص 587، و «الدر المصون» (5/ 441) . (2) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 367) رقم (28818) عن ابن عباس، ورقم (28820) عن الضحاك، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 415) عنهما، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 533) . (3) ينظر: «المحرر» (4/ 416) .

[سورة سبإ (34) : الآيات 20 إلى 24]

هُو أَدْنَى بالّذِي هُو خَيْرٌ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَفَرَّقَ الله شَمْلَهُمْ وخَرَّبَ بِلادَهُمْ وجَعَلَهُمْ أَحَادِيثَ وَمِنِه المثَلُ السَّائِرُ «تَفَرَّقُوا أيادِي سَبَا وأيْدي سَبَا» يُقَالُ المَثَلُ بِالوَجْهَيْنِ وهَذَا هُو تَمْزِيقُهمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةُ قَبَائِلَ وَتَشَاءَمَتْ مِنْهُمْ أرْبَعَةٌ حَسْبَمَا فِي الحديثِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى محمّدا صلى الله عليه وسلّم وَأُمَّتَهُ عَلى جِهة التَنْبِيهِ بَأَنَّ هَذَا القَصَصَ فيه آيات وعبر لكلّ مؤمن متّصف بالصّبر والشكر. [سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 24] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ... الآية، قَرَأَ نَافِعُ وأَبُو عمرِو وابن عَامِرٍ: «ولقد صَدَقَ» بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ والكسائيِّ «1» : «صدّق» بتشديدها فالظّن 80 أعلى هذِهِ القِرَاءَةِ مَفْعُولُ «بَصدَّقَ» ومَعْنَى/ الآية: أَنَّ إبْلِيسَ ظَنَّ فِيهمْ ظَنّاً حَيْثُ قَالَ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف: 17] . وغَيْرَ ذلك فَصَدَّقَ ظَنَّهُ فِيهمْ وأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ اتَّبَعُوهُ وهُو اتِّبَاعٌ فِي كُفْرٍ لأَنَّهُ فِي قِصَّة قَوْمٍ كُفَّارٍ. وقولُه: مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ يَدُلّ عَلى ذَلكَ وَ «مِنْ» فِي قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لبيَانِ الجِنْسِ لاَ لِلتَّبْعِيضِ. وَقَوْلهُ: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي: مِنْ حُجَّةٍ، قال الحسنُ: واللهِ مَا كَانَ لهُ سَيفٌ وَلاَ سَوْطٌ وَلَكِنَّهُ اسْتَمَالَهُمْ فَمَالُوا بتزيينه «2» .

_ (1) وقرأ عاصم بتثقيلها- كما قرأ الأخوان. ينظر: «السبعة» (527) ، و «الحجة» (6/ 20) ، و «إعراب القراءات» (2/ 219) ، و «معاني القراءات» (2/ 294) ، و «شرح الطيبة» (5/ 156) ، و «العنوان» (156) ، و «حجة القراءات» (588) ، و «شرح شعلة» (554) ، و «إتحاف» (2/ 386) . (2) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 371) رقم (28835) بنحوه، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 417) بلفظه، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (3/ 535) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 440) كلاهما بنحوه. وعزاه السيوطي لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن.

وقولُه تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يريدُ: الأصْنَامَ والملائِكَةَ وذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الملائِكَةَ وَهَذِهِ آيَةٌ تَعْجِيزٍ وَإقَامَةِ حُجَّةٍ ويروى أَنَّ الآيةَ نَزَلَتْ عند الجوع الّذي أصاب قُرَيشاً، ثُمَّ جَاءَ بصِفة هؤلاَءِ الذين يَدْعُونهم آلِهَةً أنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ مُلْكَ اخْتِرَاعٍ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وأنَّهُمْ لاَ شِرْكَ لَهُمْ فِيهِمَا، وهذَانِ نَوْعَا المُلْكِ: إمّا استبداد وإمّا مشاركة فنفى عنهم جَمِيعَ ذَلِكَ وَنَفَى أنْ يَكُونَ مِنْهُم لِلَّهِ تعالى مُعِينٌ فِي شَيْءٌ، و «الظَّهِيرُ» : المُعينُ، ثُمَّ قَرَّرَ فِي الآيةِ بَعْدُ أنَّ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يْشْعَفُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ لاَ تَصِحُّ مِنْهُمْ شَفَاعَةٌ لَهُمْ إذْ هَؤلاءِ كَفَرَةٌ وَلاَ يأْذَنُ اللهُ فِي الشَّفَاعَةِ فِي كَافِرٍ، وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو عمرو «أُذِنَ» - بِضَمِّ الهَمْزَةِ- «1» . وقوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ... الآيةَ. الضَّميرُ في قُلُوبِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الملائِكَةِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ آلِهَةً. قال ع «2» : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أَنَّ هَذِهِ الآية- أَعْنِي قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ... - إنَّما هِي فِي المَلاَئِكَةِ إذَا سَمِعَتِ الوَحْيَ إلَى جِبْرِيلَ، أو الأمْرَ يَأْمُرُ اللهُ بِهِ، سَمِعَتْ كَجَرِّ سِلْسِلَةِ الحَدِيدِ عَلى الصَّفْوَانِ، فَتَفْزَعُ عِنْد ذَلِكَ تَعْظِيماً وَهَيْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وتعالى وقِيل: خَوْفاً أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَإذَا فَرَغَ ذَلِكَ، فُزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِم، أي: أُطِيرَ الفَزَعُ عَنْهَا وَكُشِفَ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لبعض ولجبريل: ماذا قال ربّكم؟ فيقول المسؤلون: قَالَ الْحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ. ت: وَلَفْظُ الحديثِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلّم قَال: «إذَا قَضَى اللهُ أَمْراً فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ على صَفْوَانٍ، فَإذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكبير» «3» انتهى.

_ (1) وحجة الباقين في فتح الهمزة قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [النبأ: 38] ، وقوله: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم: 26] فردوا ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه. ينظر: «حجة القراءات» (589) ، و «السبعة» (529- 530) ، و «الحجة» (6/ 21) ، و «إعراب القراءات» (2/ 220) ، و «معاني القراءات» (2/ 295) ، و «شرح الطيبة» (5/ 157) ، و «العنوان» (157) ، و «شرح شعلة» (554) ، و «إتحاف» (2/ 386) . (2) ينظر: «المحرر» (4/ 418) . (3) أخرجه البخاري (8/ 398) كتاب التفسير: باب حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حديث (4800) ، والترمذيّ (5/ 362) كتاب التفسير: باب ومن سورة سبأ، حديث (3223) ، وابن ماجه (1/ 69- 70) المقدمة: باب فيما أنكرت الجهمية، حديث (194) ، والطبريّ في «تفسيره» (10/ 373) رقم (28847) من حديث أبي هريرة مرفوعا. -

[سورة سبإ (34) : الآيات 25 إلى 30]

وَقَرَأَ الجُمْهُورُ «فُزع» - بِضَمِّ الفَاءِ- وَمَعْنَاهُ أُطِيرَ الفَزَعُ عَنْهُمْ وَقَوْلُهُمْ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ تَمْجِيدٌ وتحميد، ثمّ أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلّم عَلَى جِهَةِ الاحْتِجَاجِ وَإقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلى الرَّازِقِ لَهُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ مَنْ هُوَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقْتَضِبَ الاحْتِجَاجِ بِأَنْ يَأَتِيَ بِجَوَابِ السُّؤَالِ إذْ هُمْ فَي بَهْتَةٍ وَوَجْمَةٍ مِنَ السُّؤالِ وإذ لاَ جَوَابَ لَهُمْ إلاَّ أَنْ يَقُولُوا: هُو اللهُ، وهذهِ السَّبِيلُ في كلِّ سُؤَالِ جَوَابَهُ فِي غَايةِ الوُضُوحِ لأَنَّ المُحْتَجَّ يُرِيدُ أنْ يَقْتَضِبَ وَيَتَجَاوَزَ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى يوردها، وَنَظَائِرُهَا فِي القُرْآنِ كَثِيرٌ. وقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ تلطفٌ فِي الدَّعْوَةِ والمُحَاوَرَةِ والمَعْنَى: كَمَا تقولُ لِمَنْ خَالَفَكَ فِي مَسْأَلَةِ: أَحَدَنَا مخطئ تَثَبَّتْ وَتَنَبَّهُ وَالمَفْهُومُ مِنْ كَلامِكَ أنّ مُخَالِفَكَ هو المخطئ فَكَذلكَ هَذَا، مَعْنَاهُ: وَإنا لَعَلَى هَدًى أو فِي ضَلالٍ مبِينٍ وَإنَّكُمْ لَعَلَى هَدًى أوْ 80 ب فِي ضَلاَلِ مُبِينٍ فَتَنَبَّهُوا، وَالمَقْصِدُ أَنَّ الضَّلاَلَ فِي حَيِّزِهِم/ وَحَذْفُ أَحَدِ الخَبَرَيْنِ لدَلاَلةِ البَاقِي عليه. [سورة سبإ (34) : الآيات 25 الى 30] قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَوْلهُ: قُلْ لاَّ تُسْئَلُونَ الآية مُهَادَنَةَ ومُتَارَكَةٌ مَنْسُوخَةٌ. وَقَوْلهُ تَعَالَى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا إخبار بالبعث ويَفْتَحُ مَعْنَاه: يحكم: والفَتَّاحُ: القَاضِي، وهُو مَشْهُورٌ فِي لغة اليمن وأَرُونِيَ: هي رُؤْيَة قَلْبٍ، وهَذَا هُو الصَّحِيحُ، أي: أَروني بالحُجَّةِ والدَّلِيلِ. وقَوْلَهُ: كَلَّا رَدُّ لِما تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي الإشْرَاكِ. وَقَوْلُه تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ... الآية: إعْلاَمٌ من الله تعالى بأنّه بعث محمّدا صلى الله عليه وسلّم إلَى جَمِيعِ العَالَمِ وَهِي إحْدَى خَصَائِصِهِ الَّتِي خُصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الأَنْبِياءِ وبَاقِي الآية بيّن.

_ - وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 442) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» .

[سورة سبإ (34) : الآيات 31 إلى 33]

قال أبو عُبَيْدَةَ: الوعدُ والوعيدُ والميْعَادُ: بمعنًى وخُولِفَ فِي هَذا، والذِي عليه الناسُ أنَّ الوَعْدُ إذَا أُطْلِقَ فَفِي الخَيْرِ وَالوَعِيدُ فِي المكروه والميعاد يقع لهذا ولهذا. [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هذه المقالةُ قَالَها بَعْضُ قُرَيْشٍ وهي أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بالقُرْآنِ ولاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ والزَّبُورِ، فَكَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- وإنَّمَا فَعَلُوا هَذَا لَمَّا وَقَعَ الاحْتِجَاجُ عَلَيْهِم بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ السَّلام-. قَالَ الوَاحِديُّ: قوله تعالى: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ، أي: في التّلاَؤُم، انتهى. وبَاقِي الآية بَيِّنٌ. وَقَوْلَهُمْ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، المعنى: بَلْ كَفَرْنَا بمكْرِكُمْ بِنَا في الليل والنهارِ وأَضَافَ المَكْرُ إلَى الليلِ والنهارِ مِنْ حَيْثُ هُو فِيهِمَا، وَلِتَدُلَّ هَذِهِ الإضافة على الدّؤوب والدَّوَامِ، والضَّمِيرُ في أَسَرُّوا عَامٌّ لِجمِيعهِم مِن المستضعفين والمستكبرين. [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 37] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ هذه الآية تسلية للنّبي صلى الله عليه وسلّم عَنْ فِعْلِ قُرَيْشٍ وَقَوْلِها، أي: هَذِهِ يَا مُحَمَّدُ سِيرَةُ الأُمَمِ، فَلاَ يُهِمَّنَّكَ أَمْرُ قَوْمِكَ، وَالْقَرْيَةُ: المَدِينَةُ، والمُتْرَف: الغَنِيُّ المُنْعَمُ، القَلِيلُ تَعَب النَّفْسِ وَالبَدَنِ، فَعَادَتُهُمُ المبَادَرَةُ بالتَّكْذِيبِ. وقوله: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا ... الآية: يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي قالُوا عَلى المُتْرِفِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِقُرَيْشٍ، وَيَكُونُ كَلاَمُ المُتْرِفِينَ قَدْ تَمَّ قبله، وفي «صحيح مسلم» عن النّبي صلى الله عليه وسلّم أَنَّه قَالَ: «إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، ولكن يَنْظُرُ إلى

[سورة سبإ (34) : الآيات 38 إلى 43]

قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» «1» . انتهى. واعلم أَنَّ المَالَ الزَّائِدَ عَلَى قَدْرِ الحَاجَةِ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ صَاحِبُهُ مِنَ الآفَاتِ إلاَّ مَنْ عَصَمَه الله تَعالى، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] . وَقَدْ جَاءَ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «الأَكْثَرُونَ مَالاً هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» «2» - وأشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وَعَنْ شِمَالِهِ- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» اهـ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي «رَقَائِقِهِ» قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ عَن عقَيْلٍ بْنِ خَالِدٍ عَنْ سلمة بن أبي سلمة بن 81 أعبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم/: «إنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: لَنْ يَنْجُوَ مِنِّي الغَنِيُّ مِنْ إحدى ثَلاثٍ: إمَّا أنْ أُزَيِّنَ مَالَهُ فِي عَيْنَيْهِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ حَقِّهِ وَإمَّا أنْ أُسَهِّلَ لَهُ سَبِيلَهُ فَيُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَإمَّا أَنْ أُحَبِّبَهُ فَيَكْسِبَهُ بِغَيْرِ حَقِّه» «3» انتهى. و «الزّلْفَى» : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى القُرْبِ. وقَوله: إِلَّا مَنْ آمَنَ اسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعَ، وَقَرَأَ الجُمْهُورُ: «جزاء «4» الضعف» ، بِالإضَافَةِ والضِّعْفِ: هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، أي: بالتَّضْعِيفِ، إذْ بَعْضُهُم يُجَازَى إلَى عَشَرَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرُ صاعداً إلى سَبْعِ مِائَةٍ بِحَسْبِ الأَعْمَالِ وَمَشِيئَةِ اللهِ فِيها. [سورة سبإ (34) : الآيات 38 الى 43] وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 1987) كتاب البر والصلة: باب تحريم ظلم المسلم، حديث (34/ 2564) ، وابن ماجه (2/ 1388) كتاب الزهد: باب القناعة، حديث (4143) ، وأحمد (2/ 539) ، وفي «الزهد» (ص 59) ، وابن حبان (394) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 98، 7/ 124) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 354- بتحقيقنا) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (11/ 533) كتاب الأيمان والنذور: باب كيف كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حديث (6638) . (3) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 192- 193) رقم (547) ، والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (10/ 248) ، وقال الهيثمي: إسناده حسن. [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 422) ، و «البحر المحيط» (7/ 273) ، و «الدر المصون» (5/ 450) .

[سورة سبإ (34) : الآيات 44 إلى 46]

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ تقدّم تفسيره ومُحْضَرُونَ من الإحْضَارِ والإِعْدَادِ، ثُمَّ كَرَّرَ القَوْلَ بِبَسْطِ الرِّزْقِ لاَ عَلَى المَعْنَى الأَوَّلِ بَلْ هَذَا هُنَا عَلَى جِهَة الوَعْظِ، والتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، والحَضِّ عَلَى النَّفَقَةِ في الطَّاعَاتِ، ثُمَّ وَعَدَ بالخلف في ذلك. إمّا في الدنيا، وإمّا فِي الآخِرَةِ، وفي «البُخارِي» أنَّ مَلَكاً يُنادِي كُلَّ يَوْمٍ: اللَّهُمَّ، أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ مَلَكٌ آخَرُ: اللَّهُمَّ، أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً «1» . وَرَوَى التِّرمِذِيُّ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنْصَارِي: أنَّهُ سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «ثَلاَثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً فاحفظوه، قال: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزّاً، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَة إلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ، أو كَلِمَةً نَحْوَهَا» «2» الحديثَ، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، انتهى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ... الآية: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا مُكَرَّراً وفِي القُرْآنِ آيَاتٌ يَظْهَرُ مِنْها أَنَّ الجِنَّ عَبَدَتْ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ وغيرها ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ أي: يُقَال لِمَنْ عَبَدَ وَمَنْ عَبَدَ: «اليَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً ولاَ ضَرّاً» . [سورة سبإ (34) : الآيات 44 الى 46] وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) وقوله تعالى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ... الآية المعنى: أنَّ هَؤلاَءِ الكَفَرَةِ يَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ: افْتِرَاءٌ، وَذَلِكَ مِنْهُمْ تَسَوُّرٌ لاَ يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إلَى أَثَارَةِ عِلْمٍ فَإنَّا مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونُها وَمَا أرْسَلْنَا إليهم قبلك من نذير يُبَاشِرُهُمْ ويُشَافِهُهُمْ فَيُمْكِنَهُمْ أَنْ يُسْنِدُوا دَعْوَاهُمْ إلَيْهِ. وقوله تعالى: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ الضَّمِيرُ في: بَلَغُوا يَعُودُ عَلى قُرَيْشٍ، وفِي آتَيْنَاهُمْ عَلَى الأُمَمِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالمَعْنَى: من القوّة والنّعم والظهور في

_ (1) أخرجه البخاري (3/ 357) كتاب الزكاة: باب قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ... حديث (1442) ، ومسلم (2/ 700) كتاب الزكاة: باب في المنفق، حديث (57/ 1010) . (2) أخرجه الترمذيّ (4/ 562- 563) كتاب الزهد: باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، حديث (2325) . وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة سبإ (34) : الآيات 47 إلى 50]

الدُّنْيَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وابْنُ زَيْدٍ «1» : والمِعْشَارُ: العُشْرُ وَلَمْ يأتِ هَذا البِنَاءُ إلاَّ فِي العَشَرَةِ والأَرْبَعَةِ، فَقَالُوا: مِرْبَاعٌ وَمِعْشَارٌ و «النّكير» مصدر كالإنكار في المعنى، وكالعذير في الوزن، وفَكَيْفَ: تَعْظِيمٌ لِلأَمْرِ وَلَيْسَتْ اسْتِفْهَاماً مُجَرَّداً وَفِي هَذا تَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ، أي: أنهم مُتَعَرِّضُونَ لِنَكِيرٍ مِثْلِهِ، ثم أمر- تعالى- نبيَّه عليه السلام أنْ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ- تَعَالَى- وَالنَّظَرِ فِي حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ هُوَ، وَيَعِظُهُمْ بَأَمْرٍ مُقَرَّبٍ لِلأَفْهَامِ، فَقَوْلهُ: بِواحِدَةٍ معناه: بِقَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ إيجَازاً لَكُمْ وَتَقْرِيباً عَلَيْكُمْ وَهُوَ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ، أي: لأَجلِ اللهِ أو لِوَجْهِ اللهِ مَثْنَى أي: اثنين اثنين مُتَنَاظِرَيْنِ وفُرَادَى، أي: وَاحِداً وَاحِداً، ثمّ تتفكّروا، هل 81 ب بِصَاحِبِكُمْ جِنَّةُ، أو هُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكٍ، والوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ تَتَفَكَّرُوا/ فَيَجِيء: مَا بِصاحِبِكُمْ نَفْياً مُسْتَأْنِفاً، وَهُوَ عِنْدَ سِيبَوَيهِ جَوَابُ مَا تَنَزَّلُ مَنْزِلَة القَسَمِ وَقيلَ فِي الآيةِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا هُو بَعِيدٌ مِنَ أَلْفَاظِهَا فتعيّن تركه. [سورة سبإ (34) : الآيات 47 الى 50] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ مَعْنَى الآية بَيِّنٌ وَاضِح لاَ يَفْتَقِرُ إلَى بَيَانٍ. وَقَوْلهُ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يريدُ بالوَحْي وَآياتِ القُرآنِ وَاسْتَعَارَ لَه القَذْفَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الكُفَّارُ يَرمُوْنَ بآياته وَحِكَمِهِ. وَقَوْلهُ سُبْحَانَه: قُلْ جاءَ الْحَقُّ يُرِيدُ الشَّرْعَ بِجُمْلَتِهِ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ قَالَتْ فِرْقَةٌ: البَاطِلُ غَيْرُ الحَقِّ مِنَ الكَذِبِ وَالكُفْرِ وَنَحْوِه، اسْتَعَارَ لَهُ الإبْدَاءَ وَالإعَادَةَ وَنَفَاهُمَا عَنْه، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا يَصْنَعُ البَاطِلُ شَيْئاً. وَقَوْلهُ: فَبِما يُوحِي يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي أو مصدريّة. [سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

_ (1) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 384) رقم (28877) عن ابن عباس بنحوه، ورقم (28879) عن قتادة، (28880) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 424) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 542) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 450) . وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ولابن المنذر عن ابن جريج، ولعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة.

وقوله- تعالى-: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا ... الآية. قَالَ الحَسَنُ بن أبِي الحَسَنِ: ذَلِكَ فِي الكُفَّارِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ القُبُورِ فِي القِيَامَةِ «1» . قال ع «2» : وهو أرجح الأقوال هنا، وَأَمَّا معنى الآيَةِ فَهُوَ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ إذَا فَزِعُوا مِنْ أخْذِ اللهِ إيَّاهُمْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ لَهُمْ أَنْ يَفُوتَ مِنْهُمْ أَحَد وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ، أي: أنَّ الأَخْذَ يَجِيئُهُمْ من قرب في طمأنينتهم وبعقبها، بَيْنَمَا الكَافِرُ يُؤَمَّلُ ويُتَرَجَّى إذْ غَشِيَهُ الأَخْذُ، وَمَنْ غَشِيَهُ أُخِذَ مِنْ قَرِيبٍ فَلاَ حِيلةَ له ولا رويّة، وقالُوا آمَنَّا بِهِ الضَّمِيرُ في بِهِ عَائِدٌ عَلى اللهِ- تعالى-، وَقِيلَ: عَلى محمدٍ وَشَرْعِه والقُرْآنِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَامَّةُ القُرّاءَ: «التناوش» دُونَ هَمْزٍ وَمَعْنَاهُ التَّنَاوُلِ، مِن قَوْلِهِمْ نَاشَ يَنُوشُ إذَا تَنَاوَلَ، وَعِبَارَةَ الوَاحِدِيِّ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي: كَيْفَ يَتَنَاوَلُونَ التَّوْبَةَ وَقَدْ بَعُدَتْ عَنْهُمْ. انتهى. وقَرَأ أبُو عمرو وحمزة «3» والكسائي: «التناؤش» بِالهَمْزِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُه كَالْقِرَاءَةِ الأَولَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّلَبِ تَقُولُ: انْتَأَشْتُ الخَيْرَ إذَا طَلَبْته مِنْ بُعْدٍ. ت: وَقَالَ البُخَارِيُّ: التَّنَاوُشُ الرَّدُّ مِنَ الآخِرَة إلَى الدُّنْيَا، انتهى. وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أي: يَرْجُمُوْنَ بِظُنُونِهِمْ وَيَرْمُوْنَ بِهَا الرَّسُولَ وَكِتَابَ اللهِ، وَذَلِكَ غَيْبٌ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ سِحْرٌ وَافْتِرَاءٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ، قَالَه مُجَاهِدٌ «4» ، وقال قتادة: قذفهم بِالْغَيْبِ هُوَ قَوْلُهُمْ: لاَ بَعَثٌ وَلاَ جَنَّةٌ ولا نار «5» .

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 388) رقم (28894) ، وذكره ابن عطية (4/ 426) ، وابن كثير (3/ 544) ، والسيوطي (5/ 451) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن. (2) ينظر: «المحرر» (4/ 426) . (3) ينظر: «السبعة» (530) ، و «الحجة» (6/ 23) ، و «إعراب القراءات» (2/ 221) ، و «معاني القراءات» (2/ 297) ، و «شرح الطيبة» (5/ 158) ، و «العنوان» (157) ، و «حجة القراءات» (590) ، و «شرح شعلة» (555) ، و «إتحاف» (2/ 389) . (4) أخرجه الطبريّ (10/ 390) رقم (28910) ، وذكره ابن عطية (4/ 427) ، وابن كثير (3/ 545) ، والسيوطي (5/ 454) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (5) أخرجه الطبريّ (10/ 391) رقم (28911) ، وذكره ابن عطية (4/ 427) ، وابن كثير (3/ 545) ، والسيوطي (5/ 454) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَه: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ. قَالَ الحَسَنُ: مَعْنَاهُ مِنَ الإيمَانِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى الإنَابَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ «1» ، وَذَلِكَ أنَّهُمْ اشْتَهَوْهُ فِي وَقْتٍ لاَ تَنْفَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ. وَقَالَهُ أَيْضاً قَتَادَةَ «2» وَقَالَ مُجَاهِدُ: مَعْنَاه: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَعِيمٍ الدُّنْيَا «3» . وَقِيلَ: مَعَناهُ حِيلَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا كَمَا فُعِلَ بَأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قبل، والأشياع الفرق المتشابهة، فأشياع هؤلاء هم الكَفَرَةُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ. ص: قَالَ أَبُو حيّان «4» : ومُرِيبٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَرَابَ، أي: أتى بِرَيْبَةٍ وأربته أوقعته فِي رَيْبَةِ، وَنسْبَةُ الإرَابَةِ إلَى الشَّكِّ مَجَازٌ. قَالَ ع «5» : والشَّكُّ المُرِيبُ أَقْوَى مَا يَكُونُ من الشكّ وأشدّه إظلاما، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 391) رقم (28913، 28914، 8915) وذكره ابن عطية (4/ 427) ، وابن كثير (3/ 545) ، والسيوطي (5/ 454) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 391) رقم (28917) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 427) . (3) أخرجه الطبريّ (10/ 391) رقم (28916) ، وذكره ابن عطية (4/ 427) ، وابن كثير (3/ 545) ، والسيوطي (5/ 454) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. (4) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 281) . (5) ينظر: «المحرر» (4/ 427) . [.....]

تفسير سورة فاطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله تفسير سورة فاطر وهي مكيّة [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ/ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي 82 أأَجْنِحَةٍ ... الآية رُسُلًا مَعْنَاهُ: بِالْوَحْيِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أوامره سبحانه، كجبريل وميكائيل وعزرائيل رسل، والملائكة المتعاقبون رسل وغير ذلك، ومَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَلْفَاظٌ مَعْدُولَةٌ عَنْ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وثلاثة ثلاثة وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عُدِلَتْ فِي حَالَةِ التَنْكيِرِ فَتَعَرَّفَتْ بِالْعَدْلِ فَهِيَ لاَ تَنْصَرِفُ لِلْعَدْلِ وَالتَّعْرِيفِ، وَقِيلَ: لِلْعَدْلِ وَالصِّفَةِ، وَفَائِدَةُ العَدْلِ الدِّلاَلَةُ عَلَى التَّكْرَارِ لأَنَّ مَثْنَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. قَالَ قَتَادَةَ: إنَّ أَنْوَاعَ المَلاَئِكَةِ هُمُ هَكَذَا مِنْهَا ما له جناحان ومنها ما له ثَلاَثَةٌ، وَمِنْهَا مَا لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَيَشُذُّ مِنْها مَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ «1» : أَنَّ لِجِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلاَمُ- سِتَّ مِائَةَ جَنَاحٍ مِنْهَا اثْنَانِ يَبْلُغَانِ مِنَ المَشْرِقِ إلَى المَغْرِبِ. وَقَوْلُه تَعَالَى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ تَقْرِيرُ لِمَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّعَجُّبِ عِنْدَ الخَبَرِ بِالمَلاَئِكَةِ أُولِي الأَجْنِحَةِ، أي: لَيْسَ هَذَا بِبِدْعِ فِي قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، فَإنَّهُ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ؟ وَرُوِيَ عَنْ الحَسَنِ وابن شِهَابٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: المَزِيِدُ هُوَ حُسْنُ الصوت «2» ،

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 393) برقم (28923) ، وذكره البغوي (3/ 564) ، وابن عطية (4/ 429) ، والسيوطي (5/ 458) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (2) ذكره البغوي (3/ 564) ، وابن عطية (4/ 429) ، وابن كثير (3/ 546) ، والسيوطي (5/ 459) ، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الزهري.

[سورة فاطر (35) : الآيات 5 إلى 7]

قال الهيثم الفارسي: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي: أَنْتَ الهَيْثَمُ الَّذِي تُزَيِّنُ القُرْآنَ بِصَوْتِكَ جَزَاكَ اللهُ خَيْراً. وَقِيلَ مِنَ الأَقْوَالِ فِي الزِّيَادَةِ غَيْرَ هَذَا وَذَلِكَ عَلَى جِهَة المِثَالِ لاَ أَنَّ المَقْصِدَ هِيَ فَقَطْ. وَقَوْلهُ تَعَالَى: مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ ما شرط ويَفْتَحِ مَجْزُومٌ بِالشَّرْطِ. وقوله: مِنْ رَحْمَةٍ عَامٌ فِي كُلِّ خَيْرٍ يُعْطِيهِ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ. وَقَوْلُه: مِنْ بَعْدِهِ فيه حَذْفٌ مُضَافٍ، أي: مِنْ بَعْدِ إمْسَاكِهِ وَمِنْ هَذِهِ الآيةِ سَمَّتِ الصُّوفِيَّةُ مَا تُعْطَاهُ مِنَ الأَمْوَالِ وَالمَطَاعِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ «الفتوحات» . [سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابُ لِقُرَيْشٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ لِكُلِّ كَافِرٍ. وَقَوْلهُ سُبْحَانَه: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا. ت: هذهِ الآيةُ مَعَنَاهَا بَيِّنٌ، قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللهِ: يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُقَلِّلَ الدُّخُولَ فِي أسباب الدّنيا فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ قَلِيلَ الدُّنْيَا يُلْهَي عَنْ كَثِيرِ الآخِرَةِ» وقال صلى الله عليه وسلّم: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ إلاَّ وَبِجَنْبَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: يا أيّها النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإنَّ ما قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى» «1» . انتهى مِنْ «لَطَائِف المِنَنِ» . وَقَرَأَ جُمْهُورُ النَّاسِ: «الغرور» - بِفَتْحِ الغَيْنِ- وَهُوَ الشَّيْطَانُ. قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ «2» . وَقَوْلهُ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ الآية: يُقَوِّي قِرَاءَةُ الجُمْهُورِ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. أي: بالمبَايَنَةِ والمقَاطَعَةِ والمخَالَفَةِ باتّباع الشرع.

_ (1) أخرجه ابن حبان (2476- موارد) ، وأحمد (5/ 197) ، وفي «الزهد» (ص 19) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» رقم (207) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 233- 234) . والقضاعي في «مسند الشهاب» (2/ 25) رقم (810) من حديث أبي الدرداء. وذكره الهيثمي في «المجمع» (3/ 122) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 395) (28927) ، وذكره ابن عطية (4/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 547) .

[سورة فاطر (35) : الآيات 8 إلى 10]

[سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 10] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَقَوْلُهُ تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً تَوْقِيفٌ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير وأحسن التَّقْدِيرِ مَا دَلَّ اللَّفْظُ بَعْدُ عَلَيْهِ «1» وقَرَأَ الجُمْهُورُ: فَلا تَذْهَبْ- بِفَتْحِ التَّاءِ والهَاءِ-: نَفْسُكَ- بالرَّفْعِ-، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ «2» «تُذْهِبْ» - بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الهَاءِ- «نَفْسَكَ» - بِالنَّصْبِ- وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ «3» ، وَالْحَسْرَةُ هَمُّ النَّفْسِ عَلَى فَوَاتِ أَمْرِ، وَهَذِهِ الآية تسلية للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم عَنْ كُفْرِ قَوْمِه، وَوَجَبَ التَسْلِيمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إضْلاَلِ مَنْ شَاءَ وَهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ. وَقَوْلهُ سبحانه: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ هَذهِ آيَةُ احْتِجَاجِ عَلَى الكَفَرَةِ فِي إنْكَارِهِمْ البَعْثَ مِنَ القُبُورِ. وَقَوْلهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ بِمُغَالَبَةٍ فَلِلَّهِ العِزَّةُ: أي: لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ وَلاَ تَتِمُّ إلاَّ بِهِ، وَنَحَا إلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ» . قال ع «5» : وَهَذَا تَمَسُّكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم: 81] . وَيُحْتَمَلُ/ أَنْ يُرِيدَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ وَطَرِيقَهَا القَوِيمَ وَيُحِبُّ نيلها على وجهها فلله 82 ب

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 430) ، و «البحر المحيط» (7/ 288) ، و «الدر المصون» (5/ 460) . (2) ينظر: «مختصر الشواذ» ص 124، و «المحرر الوجيز» (4/ 430) ، و «البحر المحيط» (7/ 288) ، وزاد نسبتها إلى أبي حيوة، وشيبة، وحميد، والأعمش، وابن محيصن. وهي في «الدر» (5/ 460) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 430) ، و «البحر المحيط» (7/ 288) . (4) أخرجه الطبريّ (10/ 398) (28935) ، وذكره ابن عطية (4/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 549) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 461) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه. (5) ينظر: «المحرر» (4/ 431) .

[سورة فاطر (35) : الآيات 11 إلى 14]

العِزَّةِ، أي: بِهِ، وَعَنْ أَوَامِرِه، لاَ تُنَالُ عِزَّتُهُ إلاَّ بِطَاعَتِهِ، وَنَحَا إلَيْهِ «1» قَتَادَةُ. وَقَوْلهُ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أي: التوحيدُ، والتحميدُ، وذكر الله ونحوه. وقوله تعالى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قيل: المعنى يرفعه الله، وهذا أرجحُ الأقوال. وقال ابن عباس «2» وغيره: إن العملَ الصالح هو الرافعُ للكَلِم، وهذا التأويل إنما يستقيمُ بأن يتأوَّل على معنى أنه يَزِيد في رفعه وحُسْن موقعِه. ت: وعن ابن مسعودٍ قال: «إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه: «إن العبد إذا قال: «سبحان الله والحمد للَّه والله أكبر وتبارك الله» قَبَضَ عليهن ملك فضمَّهن تحت جَنَاحه وصَعَدَ بهن لا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يُجَاء بهن وجهُ الرحمن سبحانه. ثم تلا عبد الله بن مسعود: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «3» . رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإِسناد: انتهى من «السلاح» . ويَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي: المكرات السيئات. ويَبُورُ معناه: يفسد ويبقى لا نفع فيه. [سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 14] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 398) (28936) ، وذكره البغوي (3/ 566) ، وذكره ابن عطية (4/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 549) . (2) أخرجه الطبريّ (10/ 399) (28940) ، وذكره البغوي (3/ 566) ، وابن عطية (4/ 431) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 549) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 462) ، وعزاه لابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 398) (28937) ، وذكره البغوي (4/ 566) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 549) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 462) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ الآية. قيل: معنى الأزواج هنا: الأنواع، وقيل: أراد تزويجَ الرجالِ النساءَ، والضميرُ في عُمُرِهِ قال ابن عباس وغيره، ما مقتضاه: أنه عائد على مُعَمَّرٍ الذي هو اسم جنس «1» والمراد غيرُ الذي يعمر، وقال ابن جبير وغيره: بل المراد شخص واحد وعليه يعود الضمير، أي: ما يعمر إنسان ولا ينقص من عمره بأن يحصى ما مضى منه إذا مَرَّ حَوْلٌ كتب ما مضى منه، فإذا مر حول آخر كتب ذلك، ثم حول، ثم حول فهذا هو النقص. قال ابن جبير: فما مضى من عمره فهو النقص وما يستقبل فهو الذي يعمره «2» . وقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تقدم تفسير نظير هذه الآية. وقوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى الآية: الأجل المسمَّى هو قيام الساعة، وقيل: آماد الليل، وآماد النهار، والقِطْمِير: القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة. وقال الضحاك وغيره: القِطْمِير القِمَعُ الذي في رأس التمرة «3» ، والأول أشهرُ وأصوبُ. ثم بيَّن تعالى بطلانَ الأصنام بثلاثة أشياءَ: أوَّلُها: أنها لا تسمع إنْ دُعِيَتْ، والثاني: أنها لا تجيب إن لو سمعت، وإنما جاء بهذه لأن القائل متعسف أن يقول: عساها تسمع، والثالثُ: أنها تَتَبَرَّأ يوم القيامة من الكفرة. وقوله تعالى: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ قال المفسرون: الخبيرُ هنا هو الله سبحانه فهو

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 400) (28949) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (3/ 550) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 463) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 401) (28952) ، وذكره البغوي (4/ 566) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 464) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» عن سعيد بن جبير. [.....] (3) أخرجه الطبريّ (10/ 403) (28966) ، عن جويبر عن بعض أصحابه. وذكره ابن عطية (4/ 434) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 466) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك.

[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 18]

الخبيرُ الصادقُ الخبر، ونَبَأَ بهذا فلا شك في وقوعه. [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 18] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ الآية: آيةُ وعظٍ وتذكيرٍ، والإنسان فقيرٌ إلى الله- تعالى- في دقائقِ الأمورِ وجلائِلها لاَ يَسْتَغني عنه طرفة عين وهو به 83 أمستغن عن كل أحدٍ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ/ الْحَمِيدُ أي: المحمود بالإطلاق. وقوله: بِعَزِيزٍ أي: بمُمْتَنِعٍ وتَزِرُ تَحْمِلُ، وهذه الآية في الذنوب، وأُنِّثَتْ وازِرَةٌ لأنه ذهبَ بها مذهبَ النفسِ وعلى ذلك أُجريت مُثْقَلَةٌ، واسم كانَ مضمرٌ تقديره: ولو كان الداعي. ثم أخبر تعالى نبيه أنه إنما ينذر أهل الخَشْيَةَ. ثم حض على التزكي بأن رجَّى عليه غايةَ الترجية. ثم توعد بعد ذلك بقوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. قال ع «1» : وكلُّ عبارةٍ فهي مقصِّرة عن تفسير هذه الآيةِ، وكذلك كتابُ اللهِ كلُّه، ولكن يظهر الأمرُ لنا نحنُ في مواضعَ أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا. [سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 28] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) وقوله سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الآية: مُضَمَّنٌ هذه الآية الطعنُ على الكفرة وتمثيلُهم بالعمي والظلماتِ وتمثيلُ المؤمنِينَ بإزائهم بالبُصَرَاءِ والأنوارِ. والْحَرُورُ: شدة الحر.

_ (1) ينظر: «المحرر» (4/ 435) .

قال الفراء وغيره: إن السُّمُومَ يختص بالنَّهار والْحَرُورُ يقالُ فِي حِرِّ الليلِ وحرٍّ النهار. وتَأَوَّلَ قومٌ الظلَّ في هذه الآية الجنةَ والحرورَ جهنمَ، وشبَّه المؤمنين بالأحياء، والكَفَرَةَ بالأمْوَاتِ من حيثُ لا يفهمون الذكر ولا يُقْبلُون عليه. وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ تمثيلٌ بما يُحِسُّه البشرُ ويَعْهَدُه جميعاً من أن الميتَ الشخصَ الذي في القبر لا يسمعُ، وأما الأرواحُ فلا نقول إنها في القبر، بل تَتَضَمَّنُ الأحاديثُ أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديلَ وغير ذلك، وأن أرواح الكفرةِ في سجين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور فربما سمعت، وكذلك أهل قَلِيبِ بَدْرٍ إنما سمعت أرواحهم فلا تعارض بين الآيةِ وحديث القُليبِ. وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ معناه: أن دعوةَ الله تعالى قد عمَّت جميعَ الخلق، وإنْ كان فيهم مَنْ لَمْ تُبَاشِرْه النِّذَارَةُ فهو ممن بلغته لأَن آدم بُعِثَ إلى بَنِيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلّم، وبِالْبَيِّناتِ وبِالزُّبُرِ وبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ: شيء واحد لكنه أكد أوصافَ بعضِها ببعضٍ. وقوله تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ ... الآية: جمع «جُدَّة» وهي: الطريقةُ تكون من الأرض والجبلُ كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً، وحكى أبو عبيدةَ في بعض كتبه: أنه يقال: جُدَدٌ في جمع «جديد» ، ولا معنى لمدخلِ الجديد في هذه الآية، وقال الثعلبي: وقيل الجُدَدَ القِطَع جُدَدْتَ الشيء إذا قطعتَه، انتهى. وقوله: وَغَرابِيبُ سُودٌ لفظان لمعنى واحدٍ، وقَدَّمَ الوصفَ الأبلغَ، وكان حقُّه أن يتأخرَ، وكذلك هو في المعنى لكنّ كلام العربِ الفصيحَ يأتي كثيراً عَلى هذا النحو، والمعنى: ومنها، أي: من الجبال سودَ غرابيبُ، وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّ اللهَ يَبْغَضُ الشَّيْخَ الْغَرِبيبَ» «1» يعني: الذي يَخْضُبُ بالسَّوَادِ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ، أي: خلق مختلِفَ ألوانهُ. وقوله تعالى: كَذلِكَ يحتمل أن يكونَ من الكلامِ الأول فيجيءُ الوقْفُ عليهِ حَسَناً، وإلى هذا ذهب كثيرٌ من المفسرين. ويحتملُ أنْ يكونَ مِن الكَلامِ الثَّانِي خَرَجَ مخرج السببِ كأنّه قال: كما جاءتْ القدرةُ في هذا كلِّه كذلك إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ

_ (1) ذكره السيوطي في «الجامع الكبير» (5178) ، وعزاه للديلمي في «مسند الفردوس» عن أبي هريرة.

83 ب الْعُلَماءُ، أي: المحصلون لهذه العبرَ، الناظرون فيها، / وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «1» «أعلمكم بالله أشدّكم له خشية» وقال صلى الله عليه وسلّم «رَأْسُ الحِكْمَة مَخَافَةُ الله» «2» . وقال الرَّبِيع بن أنس: مِنْ لم يخشَ الله فليسَ بعالمٍ «3» ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: كفى بالزهدِ عِلما «4» ، ويقال: إن فاتحةَ الزَّبور: «رأس الحكمة خشيةُ الله» وقال ابن مسعود «5» : كفى بخشيةِ الله علماً، وبالاغترارِ به جهلاً. وقال مجاهد والشعبي «6» : إنما العالمَ مَنْ يخْشَى الله. وإِنَّما في هذه الآية تحضيض لِلعلمَاء لاَ للحصر. قال ابن عطاء الله في «الحِكم» : العلمْ النافعُ هُو الذي يَنْبَسِط في الصدر شعاعُه، ويُكْشَفُ به عن القلبِ قناعُه، خَيرُ العلم ما كانت الخشيةُ مَعَه والعلم إن قارَنَتْهُ الخشيةُ فَلَكَ وإلا فَعَلَيْكَ. وقال في «التنوير» : اعلم أنَّ العلْمَ حيثُ ما تكرَّر في الكتابِ العزيز أو في السُّنَّة فإِنما المرادُ به العِلْمُ النافِعُ الذي تقارنُهُ الخشيةُ وتَكْتَنِفُه المخَافَةُ: قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فبَيَّنَ سبحانه أنَّ الخشيةَ تُلازِمُ العلمَ، وفُهِمَ من هذا أن العلماءَ إنما هم أهل الخشية. انتهى. قال ابن عَبَاد في «شرح الحكم» : واعلم أن العلمَ النافعَ المتفقَ عليه فيما سلف وخلف إنما هو العلم الذي يؤدي صاحبَه إلى الخوفِ، والخشيةِ، وملازمةِ التَّواضُع، والذَّلَّةِ، والتخلُّقِ بأخلاق الإيمان، إلى ما يَتْبَعُ ذلك من بُغْضِ الدنيا، والزَّهَادَةِ فيها، وإيثارِ الآخرة عليها، ولزوم الأدَب بين يَدَيْ الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العَلِيَّةِ والمَنَاحِي السَّنِيَّة. انتهى. وهذه المعاني كلها مُحَصَّلة في كتب الغزالي وغيره رضي الله عن جميعهم، ونفعنا ببركاتهم.

_ (1) قال الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (3/ 152) : غريب، وذكره الثعلبي هكذا. (2) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (116) عن عقبة بن عامر، وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 470- 471) رقم (744) من حديث ابن مسعود، وضعفه البيهقي. (3) ذكره ابن عطية (4/ 437) . (4) ذكره ابن عطية (4/ 437) . (5) ذكره ابن عطية (4/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 470) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وعبد بن حميد، والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه. (6) ذكره البغوي (3/ 570) ، وابن عطية (4/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 470) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن مجاهد.

[سورة فاطر (35) : الآيات 29 إلى 31]

قال صاحب: «الكلم الفارقية والحكم الحقيقة» : العلم النافعُ ما زَهَّدَك في دنياك، ورغَّبك في أخراك، وزادَ في خوفِك وتَقْواك، وبعثَك على طاعةِ مولاك، وصَفَّاك مِن كَدَرِ هَوَاك. وقال- رحمه الله-: العلومُ النافعةُ ما كانتْ لِلْهِمَمِ رافعةً، وللأهواءِ قامِعةً، وللشكوكِ صَارِفةً دافعةً. انتهى. [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 31] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ ... الآية، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية «1» القُرَّاء. قال ع «2» : وهذا على أنْ يَتْلُونَ بمعنى: يقرؤون، وإنْ جَعَلناه بمعنى: يتبعون، صَحَّ معنى الآية وكانت في القُرَّاء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية، وكتاب الله هو القرآن، وإقامةُ الصلاة، أي: بجميع شروطها، والنفقةُ هي في الصدقات ووجوه البرّ ولَنْ تَبُورَ معناه: لن تكسد. ويَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قالت فرقة: هو تَضْعِيفُ الحسناتِ، وقالت فرقة: هو إما النظر إلى وجه الله عز وجل، وإما أن يجعلَهم شَافِعينَ في غيرهم كما قال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] . ت: وَقَدْ خَرَّجَ أبو نُعَيْمٍ بإسناده عن الثَّورِي عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: أجورهم: يدخلهم الجنة، ويزيدهم من فضله: الشفاعةُ لِمَنْ وَجَبَتْ له النار ممن صنع إليه المعروف في الدنيا. وخَرَّج ابنُ مَاجَه في «سُنَنه» عن أنس بن مالك/، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «يصفّ النّاس 84 أصفوفا» . وقال ابن نُمير: أهُلُ الجَنَّةِ- فَيَمُرُّ الرَّجُلُ مِنْ أهْلِ النَّارِ عَلَى الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ، أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ استسقيتني، فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له. ويمرّ

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 410) (28988) ، وذكره ابن عطية (4/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 554) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 471) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، ومحمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه. (2) ينظر: «المحرر» (4/ 438) .

[سورة فاطر (35) : الآيات 32 إلى 35]

الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ نَاوَلْتُكَ طَهُوراً؟ فَيَشْفَعُ لَهْ» ، قال ابن نُمَيْرٍ: «وَيَقُولُ: يَا فُلاَنٌ أَما تَذْكُرُ يَوْمَ بعَثَتْنِي لِحَاجَةِ كَذَا وَكَذَا، فَذَهَبْتُ لَكَ؟ فَيَشْفَعُ لَهُ» «1» . وخرجه الطحاوي وابن وضاح بمعناه، انتهى من «التذكرة» . [سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ... الآيةُ: أَوْرَثْنَا معناه: أعطيناه فرقةً بعد موتِ فرقة، والْكِتابَ هنا يريد به: معانيَ الكتابِ، وعلمَه، وأحكامَه، وعقائدَه، فكأن اللهَ تعالى لمّا أعطى أمَة محمد صلى الله عليه وسلّم القرآنَ وهو قد تضمَّن معانيَ الكُتُبِ المنزَّلةِ قَبْلَه فكأنه وَرَّثَ أمَّة محمد الكتابَ الذي كان في الأمم قبلَها. قال ابْنُ عَطَاءَ الله في «التنوير» : قال الشيخ أبو الحسنِ الشاذليُّ- رحمه الله تعالى-: أَكْرِمِ المؤمنين وإن كانوا عصاةً فاسقينَ، وَأَمْرُهُمْ بالمعروف، وانههم عن المنكر، واهجرهم رحمة بهم لا تعزُّزاً عليهم، فلو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي، لَطَبَّقَ السماء والأرض، فما ظنّك بنور المؤمن المطيع، ويكفيكَ في تعظيم المؤمنين- وإن كانوا عن الله غافلينَ- قولُ ربِّ العالمينَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فانظر كيف أثبت لهم الاصطفاءَ مع وجود ظلمِهم، واعلم أنّه لا بد في مملكتِه من عبادٍ هُمْ نصيبُ الحِلْم، ومحلُّ ظهور الرحمة والمغفرة، ووقوع الشفاعة، انتهى. والَّذِينَ اصْطَفَيْنا يريد بهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم. قاله ابن عباس وغيره «2» . واصْطَفَيْنا معناه: اخترنا وفضَّلنا، والعبادُ عامُّ في جميع العَالم، واخْتُلِفَ في عَوْدِ الضمير من قوله: فَمِنْهُمْ فقال ابن عباس وغيره ما مقتضاه: إن الضمير عائد على

_ (1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1215) كتاب الأدب: باب فضل صدقة الماء، حديث (3685) من طريق يزيد الرقاشي عن أنس. وقال البوصيري في «الزوائد» : في إسناده يزيد بن أبان الرقاشي، وهو ضعيف. (2) أخرجه الطبريّ (10/ 411) (28993) ، وذكره البغوي (3/ 570، 571) ، وذكره ابن عطية (4/ 438) ، وذكره ابن كثير (3/ 555) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 472) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس بنحوه.

الَّذِينَ اصْطَفَيْنا وإن الأصنَافَ الثلاثةَ هِي كلُّها في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم «1» ، فالظالمُ لنفسِه: العاصي المسرفُ، والمقتصدُ: متقي الكبائرِ، وَهُمْ جمهور الأمَّة، والسَّابق: المتقي على الإطلاق، وقالت هذه الفرقة: الأصناف الثلاثة في الجنة، وقاله أبو سعيد الخدري «2» ، والضمير في يَدْخُلُونَها عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة- رضي الله عنها- وكعب- رضي الله عنه-: دخولها كلُّهمْ ورَبِّ الكَعْبَة «3» ، وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلُّهم «4» ناجٍ. وقال ابن مسعود: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلثٌ: يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث: يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث: يجيئون بذنوب عظام فيقول الله- عز وجل-: ما هؤلاء؟ - وهو أعلم بهم- فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول- عز وجل- أدخلوهم في سعة رحمتي «5» . وروى أسامة بن زيد أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قَرَأَ هذه الآيَةَ وَقَالَ: «كُلُّهُمْ في الجَنَّةِ» وقرأ عمر هذه الآية، ثم قال/: قال 84 ب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سابِقُنَا سَابِقٌ، ومُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُور له» «6» وقال عكرمة والحسن وقتادة «7» ما مقتضاه: أن الضمير في مِنْهُمْ عائدٌ على العباد، فالظَّالِم لنفسه: الكافرُ، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق «8» . وقالوا هذه الآية نظير قوله

_ (1) أخرجه الطبريّ (10/ 411) (28993) بنحوه، وذكره البغوي (3/ 571) وذكره ابن عطية (4/ 439) ، وذكره ابن كثير (3/ 555) . [.....] (2) أخرجه الطبريّ (10/ 414) ، رقم (29012) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 439) ، وذكره ابن كثير (3/ 555) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 472) ، وعزاه للطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري. (3) أخرجه الطبريّ (10/ 411) رقم (28996، 28998) عن كعب، وذكره البغوي (3/ 571) عن عائشة، وذكره ابن عطية (4/ 439) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 472، 473) ، وعزاه للطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، عن عقبة بن صهبان عن عائشة، وعزاه أيضا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد وابن المنذر، والبيهقي عن كعب الأحبار بنحوه. (4) أخرجه الطبريّ (10/ 412) رقم (29000) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 439) . (5) أخرجه الطبريّ (10/ 411) رقم (289946) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 439) ، وذكره ابن كثير (3/ 555) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 473) ، وعزاه لابن جرير عن ابن مسعود بنحوه. (6) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 476) ، وعزاه إلى الطبراني، والبيهقي في «البعث» . (7) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 477) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث» . (8) أخرجه الطبريّ (10/ 412، 413) رقم (29007، 29008) عن الحسن وقتادة، وذكره البغوي (3/ 571) ، وابن عطية (4/ 439) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 474) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة، وله وللبيهقي عن الحسن بنحوه.

[سورة فاطر (35) : الآيات 36 إلى 41]

تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] الآية. والضمير في يَدْخُلُونَها على هذا التأويل خاصٌّ بالمُقْتَصِد والسابق، وباقي الآية بيّن، والْحَزَنَ في هذه الآية عامٌ في جميع أنواع الأحزان، وقولهم: إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وصفوه سبحانه بأنه يغفر الذنوبَ، ويجازي على القليلِ من الأعمال بالكثير من الثوابِ، وهذا هو شكره، لا ربّ سواه، ودارَ الْمُقامَةِ: الجنة، والْمُقامَةِ: الإقامةُ و «النَّصَبُ» : تعب البَدَنِ و «اللغوب» : تعب النّفس اللازم عن تعب البدن. [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 41] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ هذه الآية تؤيد التأوِيلَ الأوَّل مِن أنَّ الثَلاَثَةَ الأصْنَافِ هي كلها في الجنة، لأن ذكر الكافرين أفرد هاهنا. وقوله: لاَ يُقْضى عَلَيْهِمْ أي لا يُجْهَزُ عليهم. وقولهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا أي: يقولون هذه المقالة فيقال لهم على جهة التوبيخ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ الآية. واخْتُلِفَ في المدة التي هي حَدُّ للتذكر، فقال الحسن بن أبي الحسن: البلوغُ، يريد أنه أول حال التذكر «1» . وقال ابن عباس أربعون سنة وهذا قول حسن «2» ورويت فيه آثارُ. ورُوِيَ أن العبدَ إذا بلغ أربعينَ سنةً ولم يتب مسح الشيطانُ على وجهه، وقال: بأبي وجهٌ لا يفلح، وقيل: الستين وفيه حديث. ت: وفي «البخاري» : من بلغ ستين سنة فقد أَعْذَرَ الله إليه لقوله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ يعني: الشيب. ثم أسند عن أبي هريرة عن

_ (1) ذكره ابن عطية (4/ 441) . (2) ذكره ابن عطية (4/ 441) ، وابن كثير (3/ 558) بنحوه.

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 إلى 45]

النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أَعْذَرَ اللَّهُ امرأ أَخَّرَ أَجَلَهُ حتى بلغ ستّين سنة» «1» . انتهى. والنَّذِيرُ في قول الجمهور: الأنبياء. قال الطبري «2» : وقيل: النذيرُ: الشيبُ، وهذا أيضاً قول حَسَنٌ. وقوله: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وَبَالُ كفرِه و «المقت» : احتقارك الإنسَانَ مِن أجْلِ مَعْصِيَتهِ، والخَسَارُ: مُصَدَرُ خسر يخسر، وأَ رَأَيْتُمْ، تتنزل عند سيبويه منزلةَ أخبروني، ولذلك لا تَحْتَاجُ إلى مفعولين، والرؤية في قوله أَرُونِي رؤيةُ بَصر. ت: قال ابن هشام: قوله: مِنَ الْأَرْضِ، «من» : مرادفة «في» . ثم قال: والظاهرَ أنَّها لبيان الجِنْسِ، مثلها: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ... [البقرة 106] الآية. انتهى. ثم أضْرَبَ سبحانه عنهم بقوله: بَلْ إِنْ يَعِدُ أي: بل إنما يعدون أنفسهم غروراً. وقوله: أَنْ تَزُولا أي: لئلا تزولا، ومعنى الزوال هنا: التنقلُ من مكانها، والسُّقُوطُ من عُلُوَّهَا. وعن ابن مسعودٍ أن السَّماءَ لا تدورُ وإنما تَجْرِي فيها الكواكبُ «3» . وقوله تعالى: وَلَئِنْ زالَتا قيل: أراد يوم القيامة. وقوله تعالى: إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد تركه الإمساك. قال ص: إِنْ أَمْسَكَهُما: أن: نافية بمعنى، ما، وأمسَك: جواب القسم المقدَّرِ قبل اللام الموطئة في لَئِنْ، وهو بمعنى: يمسك لدخول أن الشرطية كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة: 145] أي: ما يتبعون/ 85 أوكقوله: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً الآية إلى قَوْلِهِ: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ [الروم: 51] أي: لَيَظُلْونَ، وحذف جواب إن في هذه المواضع لدلالة جواب القسم عليه. وقوله: مِنْ أَحَدٍ مِنْ: زائدة لتأكيد الاستغراق انتهى. [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

_ (1) أخرجه البخاري (11/ 243) كتاب الرقاق: باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر، حديث (6419) . (2) ينظر: «الطبريّ» (10/ 419) . (3) ذكره ابن عطية (4/ 442) .

وقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ يعني: قريشاً لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الآية: وذلك أَنه رُوِي: أن كُفَّارَ قريش كانت قبل الإسلام تنكر على اليهود والنصارى، وتَأْخُذُ عليهم في تكذيب بعضهم بعضاً وتقول: لو جاءنا نحنُ رَسُوْلٌ لكنا أهدى من هؤلاءِ، وإِحْدَى الْأُمَمِ: يُريدونَ: اليهود والنصارى، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو: محمد صلى الله عليه وسلّم مَّا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً وقرأ ابن مسعود «1» : و «مكرا سيئا» ، ويَحِيقُ: معناه: يحيط ويحل وينزل، ولا يستعملُ إلا في المكروه ويَنْظُرُونَ معناهُ: ينتظرون والسنة: الطريقةُ والعادَةُ. وقوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي: لتعذيبه الكفرة المكذبين، وفي هذا وَعِيدٌ بَيِّنٌ. وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ لمَّا توعدهم سبحانه بسنةِ الأولين وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديارِ ثمودَ ونحوِها، و «يعجُزه» : معناه: يفوته ويفلته. وقوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ الآية: قوله: مِنْ دَابَّةٍ: مبالغة، والمراد: بنو آدم لأنهم المُجَاوَزْنَ، وقيل: المراد الإنس والجن، وقيل: المُرادُ: كُل ما دبَّ من الحيوانِ وأكثرُهُ إنما هو لِمَنْفَعَةِ ابن آدَم، وبسببه، والضمير في: ظَهْرِها عائدٌ على الأرض، والأجل المسمى: القيامة. وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً: وعيدٌ، وفيه للمتقين وعدٌ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً والحمد لله على ما أنعم به.

_ (1) قال أبو الفتح: يشهد لتنكيره تنكير ما قبله من قول الله سبحانه: «استكبارا في الأرض» . وقراءة العامة أقوى معنى وذلك أن «المكر» فيها معرفة لإضافته إلى المعرفة، أعني السيّء» ، فكأنه قال: والمكر السيّء الذي هو عال مستكره مستنكر في النفوس. ينظر: «المحتسب» (2/ 202) ، و «الكشاف» (3/ 619) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 443) ، و «البحر المحيط» (7/ 305) ، و «الدر المصون» (5/ 473) .

محتوى الجزء الرابع من تفسير"الثعالبي"

محتوى الجزء الرابع من تفسير «الثعالبي» اسم السورة رقم الصفحة مريم 5 طه 43 الأنبياء 79 الحج 106 المؤمنون 141 النور 167 الفرقان 202 الشعراء 224 النمل 242 القصص 263 العنكبوت 288 الروم 305 لقمان 318 السجدة 326 الأحزاب 334 سبأ 363 فاطر 381

الجزء الخامس

[الجزء الخامس] تفسير سورة يس وهي مكيّة بإجماع إلا أنّ فرقة قالت: إن قوله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ نزلت في بني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى جوار مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وورد في فضل يس آثار عديدة، فعن معقل بن يسار، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قلب القرآن يس لا يقرؤها رجل يريد الله والدّار الآخرة إلّا غفر له، اقرؤوها على موتاكم» «1» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» ، وهذا لفظ النسائي، وهو عند الباقين مختصر. انتهى من «السّلاح» . [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) قوله عزّ وجلّ: يس- وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ- إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قد تقدَّم الكلام في الحروف المقَطَّعة، ويختص هذا الموضعُ بأَقوالٍ، منها: أن ابن جبير قََالَ: يس اسم من أسماء محمّد ع «2» وقال ابن عباس: معناه: يا إنسانُ، بالحبشية «3» . وقال أيضاً: هو بلغة طَيِّىءٍ «4» ، وقال قتادةُ: «يس» قسم و «الصراط» الطريق، والمعنى: إنك على طريق هدى بيِّن ومَهْيَعٍ رشاد «5» ، واختَلَفَ المفسرون في قوله تعالى:

_ (1) تقدم تخريجه. [.....] (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 445) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 424) برقم: (29048) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 454) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 484) ، كلهم عن ابن عبّاس، وعزاه السيوطي لابن مردويه عن ابن عبّاس، وذكره ابن كثير (3/ 563) عن سعيد بن جبير. (4) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 5) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 445) . (5) ينظر: «تفسير القرطبي» (15/ 5) .

[سورة يس (36) : الآيات 8 إلى 10]

ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فقال عِكْرِمَةُ: «ما» بمعنى: الذي «1» ، والتقدير: الشيءُ الذي أُنذِر آباؤهم من النارِ/ والعذابِ، ويحتملُ أن تكون «ما» مصدريةً على هذا القول، ويكونُ الآباءُ هُمُ الأَقْدَمُونَ على مر الدهرِ. وقوله: فَهُمْ مع هذا التأويل بمعنى: فإِنّهم، دخلتِ الفاءُ لِقَطْع الجملة من الجملة، وقال قتادةُ: «ما» نافيةٌ «2» ، فالآباءُ عَلى هَذا هم الأقْرَبُونَ مِنْهُمْ، وهذه الآيةُ كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [سبأ: 44] وهذه النِّذَارةُ المنفيةُ: هي نذارة المبَاشَرَة، كما قدَّمَنا، وحَقَّ الْقَوْلُ معناه: وَجَبَ العذابُ وسبَقَ القضَاءُ بهِ، وهذا فيِمَنْ لم يؤمنْ من قريشٍ كَمَنْ قتل ببدر، وغيرهم. [سورة يس (36) : الآيات 8 الى 10] إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا ... الآية. قال مكي: قيل: هي حقيقةٌ في الآخِرَة إذا دخلوا النار «3» . وقال ابن عباس وغيره: الآيةُ استعارةٌ لِحالِ الكَفَرَةِ الذين أرادوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسوءٍ، فجعلَ اللَّهُ هذهِ مثَلاً لَهُمْ في كَفِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ ومَنْعِهم مِنْ إذَايَتِهِ حينَ بَيَّتُوهُ «4» . وقالتْ فرقة: الآيةُ مُسْتَعَارَةُ المعانِي مِنْ مَنْعِ اللَّه تعالى إيَّاهم مِنَ الإيمَانِ، وَحَوْلِه بَيْنَهم وبَيْنَه، وهذا أرجح الأقوال، و «الغُلُّ» : ما أحاط بالعُنق على معنى التَّثْقِيفِ والتَّضْيِيقِ والتَّعْذِيبِ. وقوله: فَهِيَ يحتملُ أنْ تَعُودَ على الأغلالِ، أي: هي عريضة تبلَغُ بحرفِها الأذقَانَ، والذَّقَنُ: مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، فَيَضْطَرُّ المغلولُ إلى رفع وجههِ نحو السماء، وذلك هو الإقْمَاحُ، وهو نحو الإقناع في الهيئة.

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 446) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 446) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 446) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 447) .

[سورة يس (36) : الآيات 11 إلى 12]

قال قتادة: المقمح: الرافعُ رأسه «1» ، ويحتملُ- وهو قول الطبري «2» - أنْ تَعُودَ (هي) على الأيْدِي وذلك أن الغُلَّ إنما يكونُ في العُنُقِ مَعَ اليَدَيْنِ، ورُوِي أن في مصحف ابن مسعودٍ «3» وأُبيِّ «إنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ» وفي بعضها «في أَيْدِيهِمْ» ، وأرَى الناسَ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ الإقْمَاحَ فَجَعَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ لَحْيَيْهِ وأَلْصَقَهُمَا وَرَفَعَ رَأْسَهُ «4» ، وقرأ الجمهورُ: «سُدَّا» - بِضَمِّ السينِ في الموضعين-، وقرأ حمزةُ والكسائي وغيرُهما «5» (سَدَّا) - بفتح السين-، فقيل: هما بمعنًى، أي: حائلاً يَسُدُّ طَريقَهم، وقال عكرمةُ: مَا كَانَ مِمَّا يَفْعَلُه البَشرُ فهو بالضَّمِّ، وما كان خِلْقَةً فهو بالفَتْحِ «6» ، ومعنى الآية: أن طريقَ الهدى سدّ دونهم. [سورة يس (36) : الآيات 11 الى 12] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ... الآية، «إنما» ليست للحَصر هنا بل هيَ على جِهة تخصيصِ مَنْ ينفعُه الإنذارُ، «واتباعُ الذكر» هو العملُ بما في كتابِ اللَّه والاقتداءُ به. قال قتادة: الذكر: القرآن «7» . وقوله: بِالْغَيْبِ، أي: بالخَلَواتِ عِنْد مَغِيبِ الإنسانِ عَنْ أعينِ البشَرِ. ثم أخبر- تعالى- بإحيائهِ المَوْتَى ردًّا على الكَفَرةِ، ثم توعَّدَهم بذِكْرِ كُتُبِ الآثار وإحصاءِ كلِّ شَيْءٍ، وكُلِّ مَا يَصْنعهُ الإنسانُ فَيَدْخُلُ فِيما قَدَّمَ، ويَدْخَلُ فِي آثاره، لكنه سبحانه ذكرَ الأمْرَ من الجهتَينِ وليُنَبِّهَ على الآثارِ التي تَبْقَى، وتُذْكَرُ بَعْدَ الإنسانِ من خير وشر.

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 447) عن قتادة، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 564) عن أم زرع. (2) ينظر: «تفسير الطبري» (10/ 426) . (3) ينظر: «الكشاف» (4/ 6) ، و «المحرر» (4/ 447) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 447) . (5) وقرأ بها حفص عن عاصم. وفي قراءة الباقين قال قوم: ما كان من فعل بني آدم فهو السّد، وما وجد مخلوقا فهو السّدّ. وعكس أبو عمرو. ينظر: «إعراب القراءات» (2/ 229) ، و «السبعة» (539) ، و «الحجة» (6/ 37) ، و «حجة القراءات» (596) ، و «العنوان» (159) ، و «إتحاف» (2/ 397) . (6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 447) . [.....] (7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 429) برقم: (29065) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 448) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 487) . وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة يس (36) : الآيات 13 إلى 27]

وقال جابر بن عبد اللَّه وأبُو سعيد: إن هذه الآيةَ نَزَلت في بني سَلَمَةَ «1» على ما تقدم، وقول النبي ع لَهُمْ: «دِيارُكُم تكْتبُ آثاركم» ، والإمامُ المبينُ: قال قتادة وابن زيد: هو اللَّوحُ المحْفُوظُ «2» ، وقالت فرقة: أراد صحف الأعمال. [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ... الآية، رُوِي عَنْ ابن عباس والزهري وعكرمة: أن القريةَ هنا هي أنطاكيَّة «3» ، واخْتُلِفَ في هؤلاء المُرْسَلِينَ فقال قتادة وغيره: كانوا من الحواريِّينَ الذين بعثهم عيسى حِين رُفِعَ، وصُلِبَ الذي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَتَفَرَّقَ الحواريُّونَ في الآفاق، فَقَصَّ اللَّه- تعالى- هنا قصَّةَ الذين نَهَضُوا إلى أنْطَاكيَّة «4» . وقالت فرقة: بل هؤلاء أنبياء من قبل الله عزّ وجلّ.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 429) برقم: (29072) عن جابر، وعن أبي سعيد رقم: (29073) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 448) عن ابن عبّاس وجابر وأبي سعيد، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (3/ 565) عنهما، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 488) عن أبي سعيد، وعزاه لعبد الرزاق، والترمذي وحسنه، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، وعن جابر بن عبد الله، وعزاه لمسلم، وابن مردويه. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 448) عن مجاهد، وقتادة، وابن زيد. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 431) برقم: (29083) عن عكرمة، وعن ابن عبّاس وغيره رقم في «تفسيره» (3/ 566) عنهم، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 489) عن ابن عبّاس، والزهري، وعكرمة، وابن كثير للفريابي، وعن عكرمة، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 431) برقم: (29082) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 449) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 490) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.

قال ع «1» : وهذا يُرَجِّحُهُ قَوْلُ الكَفَرَةَ مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فإنها محاورةٌ إنما تقال لمن ادَّعى الرِّسَالَةَ من اللَّه تعالى، والآخرُ مُحْتَمَلٌ، وذَكِرَ المفسرون في قَصَص الآيةِ أشياء يَطُولُ ذِكْرُها والصِّحَّةُ فيها غَيْر مُتَيَقَّنَةٍ، فَاخْتَصَرْتُه واللاَّزِمُ مِنَ الآيةِ أنَّ اللَّه تعالى بَعَثَ إلَيْهَا رَسُولَيْنِ، فَدَعَيَا أهلَ القَرْيَةِ إلى عبادةِ اللَّهِ وتوحيدِه، فَكَذَّبُوهُما فَشَدَّدَ اللَّهُ أمرهما بثالثٍ، وقامت الحجةُ على أهلِ القريةِ، وآمن منهم الرجلُ الذي جاءَ يسعى، وقتلوه في آخر أمره وكفروا، وأصابتْهم صيحةٌ مِن السَّمَاء فَخَمَدُوا، وقرأ الجمهُور «2» : «فَعَزَّزْنا» بِشَدِّ الزاي، على معنى: قَوَّيْنَا، وشَدَّدْنَا وبهذا فسّره مجاهد وغيره «3» ، وهذه الأمة أنكرت النبوَّاتِ بقولِها: وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ قال بعضُ المتأولين: لما كَذَّبَ أهْلُ القرية المرسلينَ أسرع فيهم الجُذَامُ. وقال مقاتل: احْتَبَسَ عنهم المطر فلذلك قالوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ «4» ، أي: تَشاءَمْنَا بكم، والأظهر أن تَطَيُّرَ هؤلاءِ إنَّما كَانَ بِسَبَبٍ ما دخَلَ قَرْيَتَهُمْ من اخْتِلافِ كَلِمَتِهِمْ وافْتِتَان النَّاسِ. وقوله: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ جوابُه محذوف، أي: تَطَيَّرْتُم، قاله أبو حيان «5» وغيره، انتهى، وقولهُم- عليهم السلام-: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، معناه: حظُّكُمْ وَمَا صَارَ لَكُمْ من خير وشرٍّ مَعَكُمْ أي: من أَفْعَالِكم وَمِنْ تَكَسُّبَاتِكُمْ، ليس هو من أجْلنا، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ» بهمزتين «6» الثانيةُ مكسورةٌ. وقَرأ نافعٌ وغيرُه بتسهيل الثانية، وردِّها ياءً: «أَيِنْ ذُكِّرْتُمْ» . وأخبر تعالى عن حالِ رجلٍ جَاء من أقصى المدينةِ يَسْعَى سَمِعَ المرسلينَ وفَهِمَ عَن اللَّهِ تعالى، فَدَعَا عَنْد ذلكَ قومَه إلى اتّباعِهم والإيمان بِهِم، إذ هو

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 449) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 449) ، و «البحر المحيط» (7/ 313) ، و «الدر المصون» (5/ 477) . وقد قرأ أبو بكر بالتخفيف، وقرأ بها الحسن، وأبو حيوة، وأبان، والمفضل. ينظر: «السبعة» (539) ، و «الحجة» (6/ 38) ، و «إعراب القراءات» (2/ 230) ، و «معاني القراءات» (2/ 304) ، و «شرح الطيبة» (5/ 166) ، و «العنوان» (159) ، و «حجة القراءات» (597) ، و «شرح شعلة» (557) ، و «إتحاف» (2/ 398) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 431) برقم: (29085) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 449) . (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 449) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 9) ، ولم يعزه لأحد. (5) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 314) . (6) وقرأها هكذا حفص، وقرأها المفضل مثل قراءة نافع، يعني بتسهيل الهمزة الثانية. ينظر: «السبعة» (540) ، و «الحجة» (6/ 38) ، و «إعراب القراءات» (2/ 230) ، و «معاني القراءات» (2/ 306) ، و «شرح الطيبة» (5/ 167) ، و «العنوان» (159) ، و «إتحاف» (2/ 398) .

الحقُّ. فَرُوِيَ عن ابن عباس وغيره، أن اسْمَ هذا الرجلِ حبيبٌ، وكان نَجَّاراً «1» وكانَ فِيما قَال وهب بنُ مُنَبِّهٍ: قد تَجَذّم «2» . وقيل: كَان فِي غارٍ يَعْبُدُ ربَّهُ فقال: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ... الآية، وذكر الناسُ في أسماءِ الرسلِ: صَادِق، وصَدُوقٌ، وشَلُوم، وغير هذا، واللَّه أعلم بصحَّتِه، واخْتَلَفَ المفسِّرونَ في قوله فَاسْمَعُونِ فَقَال ابن عباس وغيره: خاطب بها قوْمُه» ، أي: على جهة المبَالَغَةِ والتَّنْبِيهِ. وقيل: خَاطَبَ بها الرُّسُلَ على جهة الاسْتِشْهَادِ بهم والاستحْفاظِ للأمْر عندهم. قال ع «4» : وهنا محذوفٌ تَواتَرَتْ به الأحادِيثُ والرِّوَاياتُ وهم أنهم قَتَلُوهُ فَقِيلَ له عند موته: ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَلَما أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بما رأَى من الكرَامَةِ قَالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ... الآية، قيل: / أراد بذلك الإشْفَاقَ والنصحَ لَهُمْ أي: لَو علِمُوا ذلك، لآمنوا باللَّه تعالى، وقيل: أراد أن يَعْلَمُوا ذلك فَيَنْدمُوا على فِعْلِهم به، وبخزيهم ذلك، وهذا موجود في جِبِلَّةِ البشر إذا نَال الشخصُ عزًّا وخَيْراً في أرض غُرْبةٍ وَدَّ أنْ يَعْلَم ذلك جِيرَانهُ وأتْرَابهُ الذينَ نَشَأَ فيهمْ، كما قيل: [السريع] الْعِزُّ مَطْلُوبٌ وَمُلْتَمَس وَأَحَبُّهُ مَا نِيلَ في الوَطَنِ «5» قال ع «6» : والتأويلُ الأولُ أشبهُ بهذا العبدِ الصالح وفي ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نَصَحَ قَوْمَه حَيًّا وَمَيِّتاً» وقالَ قَتَادةُ: نصَحَهُم على حالة الغضب والرضاء وَكَذِلكَ لاَ تجِدُ المؤمِنَ إلا ناصحاً للناس «7» .

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 450) ، وأخرجه الطبري (10/ 433) برقم: (29094) ، وذكره ابن كثير (3/ 568) ، والسيوطي (5/ 491) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 433) برقم: (29094) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 450) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 568) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 435) برقم: (29101) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 451) ، وابن كثير في في «تفسيره» (3/ 568) كلهم عن ابن عبّاس، وكعب، ووهب. [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 451) . (5) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (4/ 451) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 451) . (7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 436) برقم: (29106) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 451) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 568) بنحوه.

[سورة يس (36) : الآيات 28 إلى 32]

[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 32] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ ... الآية، مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيها توعُّدٌ لقرَيْشٍ وتَحْذِيرُ أنْ يَنْزلَ بهمْ مِنَ العَذَابِ مَا نَزَلَ بقَومِ حَبِيبٍ النَّجَّار. قال مجاهد: لَم يُنْزِلِ اللَّهُ عَليهم من جُنْدٍ أرادَ أنه لم يُرْسِل إليهم رَسُولاً ولاَ اسْتَعْتَبَهُمْ «1» ، قال قتادة: وَاللَّهِ، ما عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدِ قَتْلِه حَتَّى أهْلَكَهُمْ «2» . وقال ابن مسعود: أراد: لَمْ يَحْتَجْ فِي تَعْذِيبهِمْ إلى جُنْدٍ، بلْ كَانَتْ صَيْحَةٌ واحِدَةٌ لأنهم كانُوا أيْسَرَ وأهْوَنَ من ذلك «3» ، واخْتُلِفَ في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ فقالتْ فرقة: «ما» نافيةٌ، وقالت فرقة: «ما» عَطْفٌ عَلَى جندٍ، أي: من جند ومن الذي كنَّا منزلينَ على الأممِ مثلهم قبلَ ذلكَ، و «خامدون» أي: ساكنون موتى. وقوله تعالى: يا حَسْرَةً الحسرةُ التَلَهُّفُ: وذلك أن طِباعَ كُلِّ بَشَرٍ تُوجِبُ عَنْدَ سَمَاعِ حَالِهِمْ وعَذَابِهم على الكُفْرِ وَتَضْييِعِهم أمْرَ اللَّهَ، أن يُشْفِقَ وَيَتَحَسَّرَ على العِبَاد، وقال الثَّعْلَبِيُّ: قال الضَّحَّاك: إنها حسرةُ الملائِكَة على العباد في تكذيبِهمُ الرسلُ، وقال ابن عباس: حلُّوا مَحَلَّ مَنْ يَتَحَسَّرُ عَلَيْهِ، انتهى. وقرأ الأعرج «4» وأبو الزنَاد ومسلم بن جندب: (يا حَسْرَهْ) بالوقفِ على الهاء وهو أبلغ في معنى التَحَسُّرِ والتَّشْفِيقِ وهَزِّ النَفْسِ. وقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ... الآية، تمثّل لفعل قريش وإيّاهم عنى

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 437) برقم: (29111) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 452) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 569) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 437) برقم: (29113) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 452) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 569) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 437) برقم: (29114) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 452) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 569) . (4) وقد استثقلها أبو الفتح، وأطال الكلام حولها. ينظر: «المحتسب» (2/ 208، 211) ، و «مختصر الشواذ» (125) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 452) ، و «البحر المحيط» (7/ 318) ، و «الدر المصون» (5/ 481) .

[سورة يس (36) : الآيات 33 إلى 36]

بقوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا، وقرأ جمهورُ الناس «لما جَمِيعٌ» - بتخفيف الميم-، وذلك على زيادة «ما» للتأكيد والمعنى: لَجَمِيعٌ، وقرأ عاصمٌ والحسَنُ وابن جبير «1» (لمَّا) - بشدِّ الميم-، قالوا: هي بمنزلة «إلّا» ومُحْضَرُونَ قال قتادة: محشّرون يوم القيامة «2» . [سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ... الآية، وآيَةٌ: معناه وعلامةٌ على الحَشْرِ وبَعْثِ الأجْسَادِ، والضميرُ في (لهم) لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، والضميرُ في (ثَمَرِهِ) قيل هو عائدٌ على الماءِ الذي تَضَمَّنَه ذكرُ العيونِ، وقيلَ: هو عائدٌ على جميع مَا تَقَدَّمَ مُجْمَلاً: كأنه قال: مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا «وما» في قوله: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قال الطبري «3» : هي اسمٌ معطوفٌ على الثمر، أي: يقع الأكل مِن الثمرِ، ومما عملتهُ الأيدِي بالغَرْسِ والزِّراعَةِ ونحوهِ. وقالت فرقة: هي مصدريةٌ وقيل: هي نافيةٌ، والتقديرُ أنهم يأكلون من ثمره وهُو شَيْءٌ لَمْ تَعْمَلْه أيديهم بل هي نعْمَة مِنَ اللَّهِ تعالى عليهم، والأزواجُ: الأنواع من جميع الأشياء. وقوله: وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ نظيرُ قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] . [سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

_ (1) وقرأ بها ابن عامر، وحمزة، والكسائيّ. ينظر: «معاني القراءات» (2/ 305) ، و «العنوان» (159) ، و «حجة القراءات» (597) ، و «إتحاف» (2/ 400) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 452) ، و «البحر المحيط» (7/ 319) . (2) أخرجه الطبري (10/ 439) برقم: (29119) ، بلفظ: أي هم يوم القيامة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 452) ، والسيوطي في «تفسيره» (5/ 493) ، بلفظ: «يوم القيامة» ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (10/ 440) .

[سورة يس (36) : الآيات 41 إلى 46]

وقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ هذه الآياتُ جعلَها اللَّهُ عز وجل أدلة على قدرته ووجوب الألوهية له، ونَسْلَخُ معناه نَكْشِطُ ونُقَشِّرُ: فهي اسْتِعارة. قلت: قال الهروي: قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي: نخرجه منه إخراجاً لا يَبْقَى من ضَوْءِ النهار معه شيء، انتهى. ومُظْلِمُونَ داخلون في الظلام، ومُسْتَقَرِّ الشَّمْسِ: - على ما في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من طريق أبي ذَرٍّ- «بَيْنَ يَدَيِ العَرْشِ تَسْجُدُ فِيه كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ غُرُوبِها» وهو فِي البخاري «1» وفي حديثٍ آخر «أنَّهَا تَسْجُدُ/ في عين حمئة» «2» ومَنازِلَ منصوبٌ عَلى الظَّرفِ وهي المنازِلُ المعروفةُ عندَ العرَب، وهي ثمانيةٌ وعِشْرُونَ مَنْزِلَةً يَقْطَع القَمَرُ مِنها كلَّ لَيْلَةٍ مَنْزِلَةً، وعَودَتُه هي استهلالُه رَقِيقاً وحينئذ يُشْبه العُرْجُونَ، وُهو الغُصْنُ مِنَ النَّخْلَةِ الذي فيه شَمَارِيخُ التَّمْرِ، فإنَّه يَنْحَنِي وَيَصْفَرُّ إذا قَدِمَ، ويَجِيءُ أشْبَهَ شَيءٍ بِالهلال قاله الحسن «3» ، والوجود يشهد له، والْقَدِيمِ معناه: العَتِيقُ الذي قَدْ مَرَّ عَلَيْهِ زَمَنٌ طويل، ويَنْبَغِي هنا مُسْتَعْملَة فيما لا يمكنُ خِلاَفُه لأنها لاَ قُدْرَةَ لَهَا عَلى غَيْرِ ذلك، وال «فلك» فيما رُوِيَ عنِ ابْنِ عَباسٍ مُتَحَرِّك مستدير كفلكة المغزل فيه جميع الكواكب «4» ويَسْبَحُونَ معناه: يجرون ويعومون. [سورة يس (36) : الآيات 41 الى 46] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)

_ (1) أخرجه البخاري (13/ 415) كتاب «التوحيد» باب: وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم برقم: (7424) ، (8/ 402) كتاب «التفسير» باب: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (4802) ، (6/ 342- 343) ، كتاب «بدء الخلق» ، باب: صفة الشمس والقمر بِحُسْبانٍ (3199) ، ومسلم (1/ 453- 454) - الأبي، كتاب «الإيمان» باب: الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (250/ 159) ، وأبو داود (2/ 433) ، كتاب «الحروف والقراءات» باب: (1) ، (4002) نحوه، والترمذي (4/ 479) ، كتاب «الفتن» باب: ما جاء في طلوع الشمس من مغربها (2186) ، والنسائي في «التفسير» (2/ 204- 205) ، تفسير سورة يس (450) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 439) كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها (11430/ 1) . قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) ينظر: الحديث السابق. (3) أخرجه الطبري (10/ 442) برقم: (29125) ، وذكره ابن عطية (4/ 454) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 496) ، وعزاه لابن أبي حاتم. [.....] (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 443) برقم: (29137) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 454) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 573) .

[سورة يس (36) : الآيات 47 إلى 50]

وقوله تعالى: «وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم فِى الفلك» الآية، ذكرَ الذريةَ لِضَعْفِهم عن السفر، فالنعمةُ فيهم أمْكَنُ، والضمير المتصل بالذريات، هو ضميرُ الجنس، كأنه قال: ذرياتُ جنسِهم أو نوعِهم هذا أصح ما يتجه في هذا. وأما معنى الآية فقال ابن عباس وجماعةٌ: يريد بالذرياتِ المحمولينَ: أصحابَ نوحٍ في السفينةِ، ويريد بقوله: مِنْ مِثْلِهِ السفن الموجودةَ في جنسِ بني آدم إلى يوم القيامة، وإيَّاها أرَادَ بقوله: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ «1» ، وقال مجاهد وغيره: المراد بقوله: «أنا حملنا ذرياتهم فِي الفلك المشحون» : السفنُ الموجودةُ في بني آدم إلى يوم القيامة، ويريد بقوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ الإبلَ وسائرَ ما يُرْكَبُ فتكون المماثلة في أنه مركوبٌ مُبَلِّغٌ إلى الأقطار فقط، ويعودُ قولهُ: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ على السفنِ الموجودةِ في الناس «2» ، والصريخُ هنا بمعنى المُصْرِخِ المُغِيثِ. وقوله تعالى: إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا قال الكسائيُّ: نصبَ رَحْمَةً على الاسْتِثْنَاءِ، كأنه قال: إلاَّ أَنْ نَرْحَمَهُمْ. وقوله: إِلى حِينٍ يريدُ إلى آجالِهم المضروبةِ لهم، ثم ابْتَدَأَ الإخبارَ عَنْ عُتُوِّ قريشٍ بقوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ قال قتادة ومقاتل: ما بين أيديهم: هو عذابُ الأمم الذي قد سَبَقَهُمْ في الزمن «3» وهذا هو النظرُ الجيدُ: وقال الحسنُ: خُوِّفُوا بما مضَى من ذنوبِهم وبما يأتي منها «4» ، قال ع: وهذا نحوُ الأولِ في المعنى. [سورة يس (36) : الآيات 47 الى 50] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... الآية، الضمير في قوله

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 455) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 455) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 447) برقم: (29168) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 14) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 455) كلاهما عن قتادة ومقاتل، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 498) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 455) .

لَهُمْ لقريشٍ وسبب الآيةِ أن الكفارَ لمَّا أسلمَ حواشِيهم مِنَ الموالي وغيرِهِمْ، والمستضعفين، قطعوا عنهم نَفَقَاتِهم وصِلاَتِهم، وكان الأمرُ بمكةَ أوَّلاً فيه بعض الاتِّصَال في وقت نزول آيات المُوَادَعَةِ، فَنَدَبَ أولئك المؤمنونَ قَرَابَاتِهم من الكفارِ، إلى أَنْ يَصِلُوهُمْ ويُنْفِقُوا عليهم، مِمَّا رَزَقَهُم اللَّه فقالوا عند ذلك: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. وقالتْ فرقة: سبب الآيةِ أنَّ قريشاً شَحَّتْ بِسَبَبِ أزمةٍ على المساكينِ جميعا مؤمن وغير مؤمن، فندبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى النَّفَقَةِ على المساكينَ، وقولهُم يَحْتَمِلُ معنيين: أحدهما: يخرَّج على اختيارٍ لجُهَّالِ العَرَبِ، فَقَد رُوِيَ أن أعْرَابِيًّا كان يرعى إبله فيجعلُ السّمان في الخضب، والمَهَازِيلَ في المَكَانِ الجَدْبِ، فقيل له في ذلك فقال: أكْرِمُ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ وأهين ما أهانَ اللَّهُ، فيخرَّج قولُ قريشٍ على هذا المعنى، ومن أمثالهم: «كُنْ مَعَ اللَّهِ عَلَى المدبِرِ» . والتأويل الثاني: أن يكونَ كلامُهم بمعنى الاستهزاء بقول محمّد ع: إنَّ ثَمَّ إلها هو الرزَّاقُ، فكأنهم قالوا: لِمَ لاَ يَرْزُقُهم إلهك الذي تزعم، أي: نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمْتَ، لأطْعَمَهُ. وقوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ من قول الكَفَرَةِ للمؤمنين، أي: في أمركم لنا بالنفقةِ وفي غير ذلكَ من دينكم، ويحتملُ أن يكون من قولِ اللَّهِ تعالى للكفرةِ. وقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ أي: متى يوم القيامة. وقيل: أرادوا: متى هذا العذاب الذي تتهدّدنا به، وما يَنْظُرُونَ أي: يَنْتَظِرُونَ، و «ما» نافيةٌ، وهذه الصيحةُ هي صيحةُ القيامةِ وهي النَّفْخَةُ الأولَى، وفي حديثِ أبي هريرةَ «1» أن بَعْدَهَا نَفْخَةَ الصَّعْقِ، ثم نَفْخَةَ الحَشْرِ، وهي التي تَدُومُ فَمَا لها مِنْ فَوَاقٍ، وأصل يَخِصِّمُونَ: يَخْتَصِمُونَ، والمعنى: وهم يَتَحَاوَرُونَ ويتراجعونَ الأَقْوَالَ بَيْنَهُمْ، وفي مُصْحَف أُبَيِّ بن كَعْبٍ «يختصمون» «2» ، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ لإعجالِ الأمْرِ، بلْ تَفِيضُ أنفُسهم حيث ما أخذتهم الصيحة.

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 116) كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ برقم: (4604) ، ومسلم (4/ 1843) كتاب «الفضائل» باب: من فضائل موسى عليه السلام (159/ 2373) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 457) ، و «البحر المحيط» (7/ 325) ، و «الدر المصون» (5/ 487) .

[سورة يس (36) : الآيات 51 إلى 54]

[سورة يس (36) : الآيات 51 الى 54] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) وقوله سبحانه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ هذه نَفْخَةُ البعث، والأجداث: القبور، ويَنْسِلُونَ أي يَمْشُونَ مُسْرِعِين. وفي قراءة ابن مسعود «1» : «مَنْ أَهَبَّنَا مِنْ مَرْقَدِنَا» ، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وغيرهِ: أن جميعَ البَشَرِ يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الحشرِ «2» . قال ع «3» : وهذا غيرُ صحيحِ الإسْنَاد، وإنما الوجهُ في قولهم: مِنْ مَرْقَدِنا: أنها اسْتَعَارَةٌ كَمَا تَقُولُ في قتيلٍ: هذا مرقَدُه إلى يومِ القيامةِ. وقوله: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ جوَّزَ الزَّجَّاجُ أنْ يكونَ «هذا» إشارةً إلى المَرْقَدِ، ثم اسْتَأنَفَ مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ ويُضْمِرُ الخبرَ «حق» أو نحوه، وقال الجمهور: ابتداءُ الكلامِ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ واخْتُلِفَ في هذه المقَالَةِ مَنْ قالَها؟ فقال ابن زيد: هيَ مِنْ قَوْلِ الكفرةِ «4» ، وقال قتادة ومجاهد: هي من قولِ المؤمنينَ للكفارِ «5» . وقال الفراء: هي مِنْ قَوْلِ الملائكةِ «6» ، وقالت فرقة: هي مِنْ قَوْلِ اللَّهِ- تعالى- على جهة التّوبيخ، وباقي الآية بيّن.

_ (1) ينظر: «المحتسب» (2/ 214) ، و «الكشاف» (4/ 20) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 458) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 451) برقم: (29180) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 458) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 574) ، والسيوطي في «تفسيره» (5/ 499) ، وعزاه لابن الأنباري عن أبيّ بن كعب. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 458) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 451) برقم: (29186) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 458) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 574) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 451) برقم: (29184) عن مجاهد، وعن قتادة برقم: (29185) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 15) عن مجاهد، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (3/ 574) عن غير واحد من السلف، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 500) ، وعزاه لهناد في «الزهد» وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري عن مجاهد، ولعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 458) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 15) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (3/ 574) عن الحسن، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 500) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

[سورة يس (36) : الآيات 55 إلى 58]

[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 58] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وقوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قال ابن عباس وغيره: هو افْتِضَاضُ الأبكار «1» . وقال ابن عباس أيضاً: هو سماع الأوتارِ «2» . وقال مجاهد: معناهُ: نعيمٌ قَدْ شَغَلَهُمْ «3» . قال ع «4» : وهذا هو القول الصحيح وتعيينُ شَيْءٍ دونَ شَيْءٍ لا قياسَ له. وقوله سبحانه: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ جاءَ في «صحيح البخاري» وغيره عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إمامٌ عادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّه، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالمَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيه، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَال: إنِّي أخافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حتى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ تعالى خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» «5» انتهى. وهذا الظِّلُّ المذكورُ في الحديث هو في المَحْشَرِ. قال الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه) : وظِلاَلُ الآخِرَةِ، ما فيها مُباحٌ بل كلُّها قد تملكت بالأَعْمَالِ التي عملها العاملون الذين هَدَاهُم اللَّه تعالى فليسَ هناك لصعلوكِ الأَعْمَالِ ظلٌّ، انتهى وهو كما قال، فشَمِّرْ عَنْ سَاقِ الجِدِّ إن أردت الفوز أيّها الأخ والسلام. والْأَرائِكِ: السررُ المفروشةُ، قيل: ومِنْ شَرْطِها أنْ تَكُونَ عليها حجلة وإلّا

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 452) عن عبد الله بن مسعود برقم: (29187) ، وعن ابن عبّاس برقم: (29188) ، وعن سعيد بن المسيب برقم: (29191) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 15) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 458) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 575) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 500) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عبّاس. ولعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» ، وابن المنذر عن ابن مسعود. [.....] (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 458) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 575) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 452) برقم: (29192) ، بلفظ: «في نعمة» ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 458) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 458) . (5) تقدم تخريجه.

[سورة يس (36) : الآيات 59 إلى 65]

فليستْ بأرِيكةٍ وبذلك قيَّدها ابن عَبَّاسٍ وغيره «1» . وقوله: مَّا يَدَّعُونَ بمنزلةِ ما يَتَمَنَّوْنَ. قال أبو عُبَيْدَةَ: العربُ تقولُ: ادع عَلَيَّ ما شِئْتَ/ بمعنى: تَمَنَّ عَلَيَّ. وقوله: سَلامٌ قِيلَ: هي صفةٌ، أي: مُسَلَّمٌ لَهُم، وخالصٌ، وقِيل: هو مبتدأ، وقيل: هو خبر مبتدإ. [سورة يس (36) : الآيات 59 الى 65] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وقوله تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ فيه حَذْفٌ تقديره ونقول للكفرة «وامتازوا» معناه: انْفَصِلُوا وانْحَجِزُوا لأن العَالَمَ فِي الموقف إنما هم مختلطون. قُلْتُ: وهَذَا يَحْتَاجُ إلى سَنَدٍ صحيحٍ، وفي الكلام إجمال، ويومُ القيامةِ هو مواطن، ثم خاطَبَهُمْ تعالى لما تميّزوا، توبيخا وتوفيقا على عَهْدِهِ إليهم ومخالفتِهم له، وعبادةُ الشيطانِ هي طاعتُهُ والانقيادُ لإغْوائِهِ. وقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارَةٌ إلى الشرائع إذ بعَثَ اللَّهُ آدم إلى ذريتِه ثمَّ لَمْ تَخْلُ الأرْضُ من شريعةٍ إلى خَتْمِ الرسالةِ بسيدِنا محمدٍ خَاتَمِ النبيِّينَ، و «الجِبِلُّ» : الأمةُ العظيمة، ثم أخبر سبحانه نبيّه محمّدا ع أخبَاراً تُشَارِكُهُ فيه أمَّتُه بقوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وذلك أن الكفارَ يَجْحَدُونَ، ويَطْلبُون شهيداً عليهم من أنفسهم حَسْبَمَا وَرَدَ في الحديث الصحيح فعندَ ذلِك يَخْتِمُ اللَّهُ- تعالى- على أفواههم، ويأمر جوارحهم بالشّهادة فتشهد. [سورة يس (36) : الآيات 66 الى 69] وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 454) عن ابن عبّاس برقم: (29199) وعن مجاهد (29200) ، وعن عكرمة (29203) ، وعن قتادة (29205) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 459) ، وزاد نسبته للحسن، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (3/ 575) .

[سورة يس (36) : الآيات 70 إلى 76]

وقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ الضميرُ في «أعْيُنِهِمْ» لكفارِ قريش، ومعنى الآية: تَبْيِينُ أَنَّهُمْ في قَبْضَةِ القدرةِ، وبمَدْرَجِ العَذَابِ. قالَ الحَسَنُ وقتادة: أراد الأعْيُنَ حقيقة «1» ، والمعنى: لأَعْمَيْنَاهُمْ فَلاَ يَرَوْنَ كَيْفَ يَمْشُونَ ويؤيدُ هذا مجانسةُ المَسْخِ لِلْعَمَى الحَقِيقِيِّ. وقوله: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ معناه: على الفَرْضِ والتقدير، كأَنَّه قال: ولو شئنا لأعميناهم، فأحسب أو قدّر أنّهم يسبقون الصِّرَاطَ وهو الطريقُ، فَأَنَّى لَهُمْ بالإبْصَارِ، وَقَدْ أَعْمَيْنَاهُمْ، وعبارةُ الثَّعْلَبِيِّ: وقالَ الحسنُ والسدي: ولو نشاء لَتَرَكْنَاهُمْ عُمْياً يَتَرَدَّدُونَ فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ الطريقَ حينئذ، انتهى، وقال ابن عباس: أراد: أعْيُنَ البَصَائِر «2» والمَعْنَى: لو شِئْنَا لَحَتَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ فلم يهتد منهم أحدا أبداً، وبَيَّنَ تعالى في تنكِيسِه المُعَمَّرِينَ، وأن ذلك مما لا يَقْدِرُ عليه إلا هو سبحانه، وتَنْكِيسُه: تَحَوُّلُ خَلْقِه من القوةِ إلى الضَّعْفِ ومِنَ الفَهْمِ إلى البَلَهِ، ونَحْوُ ذلك. ثم أخْبَرَ تعالى عَن حالِ نبيه محمدٍ ع رَادًّا عَلى مَنْ قَال من الكفرة: إنه شَاعرٌ وإن القرآن شِعْرٌ- بقوله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ... الآية. [سورة يس (36) : الآيات 70 الى 76] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) وقوله تعالى: «لتنذر مَن كَانَ حَيّاً» أي: حيَّ القَلْبِ والبَصِيرَةِ، ولم يكن مَيِّتاً لكُفْرِهِ وهذه استعارةٌ، قال الضحاك: مَنْ كانَ حَيًّا معناه: عاقِلاً «3» ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ معناه:

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 459) عن الحسن برقم: (29217) وعن قتادة (29218) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 461) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 577) ، والسيوطي في «تفسيره» (5/ 504) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن الحسن. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 458) برقم: (29216) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 461) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (3/ 577) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 504) ، وعزاه السيوطي لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 461) برقم: (29231) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 462) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 580) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 506) ، وعزاه للبيهقي في «شعب الإيمان» .

[سورة يس (36) : الآيات 77 إلى 83]

يُحَتَّمَ العذابُ ويَجِبَ الخُلُودُ. وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا الآيةُ. مخاطَبةٌ لقريشٍ أيضاً. وقوله: أَيْدِينا عبارةٌ عَنِ القُدْرةِ، واللَّه تعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الجارِحَةِ. وقوله تعالى: فَهُمْ لَها مالِكُونَ تنبيهٌ على النِعْمَةِ. وقوله: وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي: يُحْضَرُونَ لهُمْ في الآخِرةِ على معنى التوبيخِ والنِّقْمةِ، وسَمَّى الأصْنَامَ جُنْداً إذْ هُمْ عُدَّةٌ للنِّقْمَة من الكفرة، ثم آنس الله نبيّه- عليه الصلاة والسلام- بقوله: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ وَتَوَعَّدَ الكَفَرَةَ بقوله: إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ... الآية، والصحيحُ في سببِ نزولِ الآيةِ هو ما رَوَاهُ ابنُ وَهَبْ عَنْ مَالِكٍ وقالهُ ابنُ إسْحَاقٍ وغيرهُ أن أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ جاء بعَظْمٍ/ رَمِيمٍ، فَفَتَّهُ فِي وجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَحِيَالَهُ، وقَالَ: مَنْ يُحْيِي هذا يا محمد «1» ولابيّ هذا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مقامات ومقالات إلى أن قتله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِيدهِ يومَ أحُدٍ طَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ في عنقه. وقوله: وَنَسِيَ خَلْقَهُ يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ نسيانَ الذُّهُولِ، ويحتملُ أنْ يكُونَ نسيانَ التَّرْكِ، والرَّمِيمُ: البالي المُتَفَتِّتُ، وهو الرُّفَاتُ، ثم دلَّهُم سبحانه عَلى الاعْتِبَارِ بالنَّشْأَةِ الأولى، ثم عَقَّبَ تعالى بدليل ثَالثٍ في إيجادِ النَّارِ في العُودِ الأخضر المرتوي ماء، وهذا

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 464) برقم: (29240) عن مجاهد، وبرقم: (29242) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 20) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 464) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 581) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 507) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عبّاس.

هو زِنَادُ العَرَبِ، والنارُ موجودةٌ في كل عودٍ غَيْرَ أَنَّها في المُتَخَلخِلَ المَفْتُوحِ المَسَامِّ أَوْجَدُ، وكذلك هو المَرْخُ والعَفَار، وجمعَ الضميرَ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ في قوله: مِثْلَهُمْ من حيثُ إن السمواتِ والأَرْضَ متضمِّنةٌ مَنْ يَعْقِلُ من الملائِكَةِ والثَّقَلَيْنِ هذا تأويلُ جماعةٍ، وقيل: مِثْلَهُمْ عائدٌ على الناسِ، وبَاقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.

تفسير سورة"الصافات"

تفسير سورة «الصافّات» وهي مكّيّة [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) قوله عز وجل: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الآية، أقْسَمَ تعالى في هذه الآية بأشْيَاءَ مِنْ مخلوقاتِه، قالَ ابنُ مسعودٍ وغيرُه: «الصافات» هي الملائكة تَصُفُّ في السماءِ في عبادة الله عز وجل «1» . وقالت فرقة: المرادُ: صفوفُ بني آدم في القتال في سبيل اللَّهِ، قال ع «2» : واللفظُ يَحْتَمِلُ أنْ يَعُمَّ هذه المذكوراتِ كلَّها، قال مجاهد: «وَالزاجِرات» هي الملائكة تَزْجُرُ السحابَ وغير ذلك من مخلوقاتِ اللَّه تعالى «3» ، وقال قتادة: «الزاجرات» هي آيات القرآن «4» ، وفَالتَّالِياتِ ذِكْراً معناه: القارئات، قال مجاهد: أراد الملائكة التي تتلو ذكره «5» ،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 467) عن مسروق برقم: (29247) وعن عبد الله (29248) ، وعن قتادة برقم: (29249) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 22) عن ابن عبّاس والحسن وقتادة، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 465) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 2) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 510) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 465) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 467) برقم: (29252) عن مجاهد وبرقم: (29253) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 465) عنهما، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 2) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 510) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن عبّاس. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 468) برقم: (29254) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 22) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 465) ، وابن كثير (4/ 2) عن الربيع بن أنس، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 510) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 468) برقم: (29255) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 22) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 465) . [.....]

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 إلى 13]

وقال قتادة: أراد بني آدم الذين يَتْلُونَ كُتُبَهُ المنزلةَ وتسبيحَه وتكبيرَه ونحوَ ذلك «1» ، والمُقْسَمُ عليه: قولهُ: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وقوله: مارِدٍ قال العراقيُّ: مَارِدٌ سُخِطَ عَلَيْهِ، وهكذا مَرِيدٍ [الحج: 3] انتهى وهَذَا لَفْظُهُ، والمَلأ الأعلى: أهلُ السَّمَاءِ الدنيا فما فوقها، وسُمِّيَ الكُلُّ منهم أعلى بالإضَافَةِ إلى ملإ الأرْضِ الذي هو أسفلُ، والضمير في يَسَّمَّعُونَ للشياطين، وقرأ حمزة، وعاصم في رواية حفص: «لا يَسَّمَّعُونَ» ، - بشد السين والميم «2» ، بمعنى: لا يَتَسَمَّعُونَ، فينتفي على قراءة الجمهورِ سَمَاعُهُمْ، وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيحُ، ويعْضُدُه قولهُ تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 212] وَيُقْذَفُونَ معناه: يُرْجَمُونَ، والدَّحُورُ: الإصْغار والإهانَةُ، لأن الدَّحْرَ هو الدَّفْعُ بِعُنْفٍ، وقال البخاريّ: وَيُقْذَفُونَ يرمون «3» ودُحُوراً مُطْرَدِين، وقال ابن عباسٍ: «مدحوراً» مَطْرُوداً «4» ، انتهى، والوَاصِبُ: الدائم قاله مجاهد وغيره «5» ، وقال أبو صالح: الواصبُ: المُوجِعُ «6» ، ومنه الوَصَبُ، والمعنى: هذه الحالُ هي الغالبةُ على جميع الشياطين إلا مَنْ شَذَّ فَخَطَفَ خَبَراً أو نَبَأً، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ فأحرقَه، والثَّاقِبُ، النافِذُ بضوئه وشعاعِه المنير قاله قتادة وغيره «7» . [سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 13] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13)

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 465) . (2) وقرأ بها الكسائيّ. ينظر: «السبعة» (546) ، و «الحجة» (6/ 52) ، و «إعراب القراءات» (2/ 244) ، و «معاني القراءات» (2/ 316) ، و «شرح الطيبة» (5/ 180) ، و «العنوان» (161) ، و «حجة القراءات» (605) ، و «شرح شعلة» (562) ، و «إتحاف» (2/ 408) . (3) أخرجه البخاري (8/ 405) كتاب «التفسير» باب: سورة الصافات، معلقا عن مجاهد. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 472) برقم: (29271) عن مجاهد بلفظ: «مطرودين» ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 466) عن مجاهد. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 473) برقم: (29276) عن مجاهد، وبرقم: (29277) عن ابن عبّاس وبرقم: (29278) عن عكرمة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 511) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 466) . (7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 474) برقم: (29280) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 467) عن قتادة، والسدي، وابن زيد.

[سورة الصافات (37) : الآيات 14 إلى 26]

وقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي: فلا يُمْكِنُهُمْ أن يقولوا إلا أنَّ خَلْقَ مَنْ سواهُم من الأمَمِ والملائِكَة، والجنِّ والسَّمواتِ والأرضِ والمشارِق والمغارِبِ وغير ذلك- هو أشَدُّ مِنْ هؤلاءِ المخاطَبِينَ، وبأن الضمير/ في خَلَقْنا يرادُ به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: ويُؤَيِّدُه ما في مصحف ابن مسعود «أُمْ مَنْ عَدَدْنَا» «1» وكذلك قرأَ الأَعْمَشُ «2» . وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ أي: خلقُ أصلِهم وهو آدم ع، واللاّزِبُ: اللازمُ: يَلْزَمُ ما جاورَهُ ويَلْصَقُ به، وهُوَ الصَّلْصَالُ، بَلْ عَجِبْتَ يا محمدُ مِنْ إعْرَاضِهِم عن الحق، وقرأ حمزةُ والكسائي «بل عَجِبْتُ» - بضمِ التاء- «3» وذلك على أن يكونَ تَعَالَى هو المُتَعَجِّبُ ومعنَى ذَلِكَ مِن اللَّه تعالى: أنه صفة فعل، ونحوه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يَعْجَبُ اللَّهُ مِنَ الشّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» فإنَّما هِي عِبَارَةٌ عَمَّا يُظْهِرُهُ اللَّه- تعالى- في جِانِبِ المُتَعَجَّبِ مِنْهُ من التعظيمِ أو التحقير حَتَّى يصيرَ الناسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنه، قال الثعلبي: قال الحسينُ بن الفضل: التعجبُ من اللَّهِ إنكارُ الشيء، وتعظيمهُ وهو لغة العرب، انتهى. وقوله: وَيَسْخَرُونَ أي: وهمْ يَسْخَرُونَ من نبوّتك. [سورة الصافات (37) : الآيات 14 الى 26] وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وقوله: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ يريدُ بالآية: العلامةَ والدلالة، ورُوِيَ أنَّها نزلتْ في رُكَانة وَهُوَ رَجُلٌ من المشركينَ من أهل مكة لقيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جَبَلٍ خَالٍ وهُوَ يرعى غَنَماً له وكانَ أقوى أهْلِ زَمانِه، فقال له النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَا رُكَانَةُ أَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي؟ قال: نعم، فصرعه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثَلاَثاً، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ دُعَاءِ شجرة وإقبالها،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 467) ، و «البحر المحيط» (7/ 339) . (2) يعني: مخففة الميم. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 467) ، و «البحر المحيط» (7/ 339) ، و «الدر المصون» (5/ 497) . (3) ينظر: «السبعة» (547) ، و «الحجة» (6/ 53) ، و «إعراب القراءات» (2/ 245) ، و «معاني القراءات» (2/ 317) ، و «شرح الطيبة» (5/ 181) ، و «العنوان» (161) ، و «حجة القراءات» (606) ، و «شرح شعلة» (562) ، و «إتحاف» (2/ 408) .

ونَحْوَ ذَلك مما اخْتَلَفَتْ فيه ألفاظُ الحديثِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذلكَ لَم يُؤْمِنْ، وجاءَ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا بني هَاشِمٍ، سَاخِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الأرضِ، فنزلَتْ هذه الآية فيه وفي نظرائه، ويَسْتَسْخِرُونَ قال مجاهد وقتادة: معناه: يَسْخَرُونَ «1» ، ثم أمر تعالى نبيَّه أن يُجِيبَ تَقْرِيرَهُمْ واستفهامهم عَنِ البَعْثِ ب نَعَمْ، وأن يزيدَهُمْ في الجواب، أنَّهُمْ معَ البعث في صَغَارٍ وذلَّةٍ واستكانةٍ، والدَّاخِرُ: الصَّاغِرُ الذليلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بيانهُ غيرَ ما مَرَّةٍ، والزَّجْرَةُ الواحدةُ: هِيَ نَفْخَةُ البَعْثِ، قال العراقيّ: الزّجرة: الصّيحة بانتهار، انتهى. والدِّينِ: الجزاءُ، وأجمَع المفسِّرُونَ على أن قولَه تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لَيْسَ هو من قولِ الكَفَرَةِ وإنما المعنى: يُقَالُ لهُم. وقوله: وَأَزْواجَهُمْ معناه: أنوَاعُهُم وضُرَباؤهم قاله عمر وابن عبّاس وقتادة «2» ، ومعهم ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ آدَمِيٍّ رَضِيَ بذلكَ، ومن صَنَمٍ وَوَثَنٍ توبيخاً لهم وإظهاراً لِسُوءِ حالهم، وقال الحسنُ: أَزْواجَهُمْ نساؤهم المشركاتُ: وقاله ابن عباس أيضاً «3» . وقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ معناه: قَدِّمُوهم واحملوهم على طريق الجحيم، ثم يأمر اللَّهُ تعالى بوقوفهم- على جِهَةِ التَّوْبِيخِ لهم- والسؤال، قال جمهور المفسرين: يُسْأَلُونَ عن أعمالهم ويُوقَفُونَ على قُبْحِها، وقد تقدَّم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ ... » الحديثَ، قال ع «4» : ويَحْتَمِلُ عندي أنْ يكونَ المعنى على نحوِ ما فسّره تعالى بقوله: ما لَكُمْ لا

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 477) برقم: (29302) عن قتادة وبرقم: (29303) عن مجاهد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 468) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 4) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 513) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 479) برقم: (29312) عن عمر بن الخطاب وبرقم: (29313) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 468) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 4) عن عمر، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 513) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وابن منيع في مسنده، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» من طرق النعمان بن بشير عن عمر، وللفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 469) عن الحسن وابن عبّاس، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 4) عن ابن عبّاس. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 469) . [.....]

[سورة الصافات (37) : الآيات 27 إلى 34]

تَناصَرُونَ أي: إنهم مسؤولون عن امْتِنَاعِهم عن التَّنَاصُرِ وهذا على جهة التَّوْبِيخِ، وقرأ خلق «1» «لا تَتَنَاصَرُونَ» . ت: قال عِيَاضٌ في «المدارك» : كان أبو إسْحَاقَ الجبنياني ظَاهِرَ الحُزْنِ، كثيرَ الدَّمْعَةِ يَسْرُدُ الصِّيَامَ، قال ولده أبو الطاهِر: قال لي أبي: إن إنساناً بقي في آية سنةً لَمْ يَتَجَاوَزْهَا، وهي قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ فقلتُ له: أَنْتَ هُوَ؟ فَسَكَتَ، فعلمتُ أَنَّه/ هو، وكانَ إذا دَخَلَ في الصَّلاَةِ: لَوْ سَقَطَ البيتُ الذي هو فيه، ما التَفَتَ، إقبالاً على صَلاَتِهِ، واشتغالا بمناجَاة ربِّهِ، وكانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَضْيِيقاً على نَفْسِهِ ثم عَلى أَهْلِه، وكان يأكلُ البَقْلَ البَرِّيَّ والجَرَادَ إذا وَجَدَهُ ويَطْحَنُ قُوتَهُ بِيَدِهِ شَعِيراً، ثُم يَجْعَلُهُ بِنُخَالَتِهِ دَقِيقاً في قِدْرٍ مع مَا وَجَدَ مِنْ بَقْلٍ بَرِّيٍّ وَغيرِه، حتى إِنّه رُبَّما رَمَى بِشَيْءٍ مِنْهُ لِكَلْبٍ أَو هِرٍّ فَلا يَأْكُلُهُ، وكانَ لِبَاسُهُ يَجْمَعُهُ من خرق المزابل ويرقّعه، وَكَانَ يَتَوَطَّأُ الرَّمْلَ، وَفي الشِّتَاءِ يَأْخُذُ قِفَافَ المَعَاصِرِ المُلْقَاةِ على المَزَابِلِ يجعلُها تَحْتَهُ، قال وَلَدُهُ أبو الطَّاهِرِ: وكنَّا إذا بَقِينَا بلا شَيْءٍ نَقْتَاتُهُ، كُنْتُ أَسْمَعُهُ في اللَّيْل يَقُولُ: [البسيط] مَالِي تِلاَدٌ ولاَ استطرفت مِنْ نَشَب ... وَمَا أُؤمِّلُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ إنَّ الْقُنُوعَ بِحَمْدِ اللَّهِ يَمْنَعُنِي ... مِنَ التَّعَرُّضِ للمَنَّانَةِ النكد انتهى. [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 34] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) وقوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ هذه الجماعَةُ التي يقْبِلُ بعضُها على بعضٍ هي جِنٌّ وإنْسٌ قاله قتادة «2» ، وتَسَاؤُلُهم هو على معنى التَّقْرِيعِ واللَّوْمِ والتَّسَخُّطِ، والقائلون: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا إما أنْ يكونَ الإنْسُ يقولونها للشياطينِ وهذا قول مجاهد وابن زيد «3» ، وإما أنْ يكونَ ضَعَفَةُ الإنْسِ يقولُونَهَا لِلكبراءِ والقادةِ، واضطرب

_ (1) وقع في المطبوعة: «وقرأ خالد» ، وهو تحريف، والصواب: خلق، كما أثبتناه. وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 469) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 481) برقم: (29327) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 469) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 515) ، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 481) برقم: (29328) عن مجاهد وبرقم: (29331) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 469) عنهما، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 5) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 515) ، كلاهما عن مجاهد، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

[سورة الصافات (37) : الآيات 35 إلى 39]

المُتَأَوِّلُونَ في معنى قولهم: عَنِ الْيَمِينِ فعبَّر ابنُ زيد وغيرُه عنه بطريقِ الجَنَّةِ «1» ، ونحو هذا من العباراتِ التي هي تفسيرٌ بالمعنى، ولا يختصُّ بنَفْسِ اللَّفْظَةِ، والذي يخصُّها مَعَانٍ: منها أن يريدَ باليمين: القوةَ. أي: تحملونَنَا على طريقِ الضَّلاَلَةِ بقوةٍ، ومنها أن يريدَ باليمينِ. اليُمْنَ، أي: تأتوننا من جِهَة النصائِح والعملِ الذي يُتَيَمَّنُ به، ومن المعاني التي تحتملها الآيةُ أن يريدوا: أنكم كُنتم تجيئُونَنَا من جهة الشَّهَوَاتِ، وأكثرُ ما يَتَمكَّنُ هذا التأويلُ مع إغواء الشياطين، وقيلَ: المعنى تَحْلِفونَ لنا، فاليمينُ على هذا: القَسَمُ، وقد ذَهَبَ بعضُ العلماءِ في ذكرِ إبليسَ جهاتِ بني آدم في قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 17] إلى ما ذكرناه من جهةِ الشهوات. ثم أخْبَرَ تعالى عن قول الجِنّ المجيبينَ لهؤلاءِ بقولهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، أي: ليس الأمْرُ كما ذكرتمْ بل كانَ لكمُ اكتسابُ الكُفْرِ وما كانَ لنَا عليكم حُجَّةٌ، وبنحو هذا فَسَّرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قولُ الجِنِّ إلى غاوِينَ «2» . ثم أخْبَرَ تعالى بأنهم جميعاً في العذابِ مشتركون، وأنَّ هذا فعلُه بأهل الجُرْم والكفر. [سورة الصافات (37) : الآيات 35 الى 39] إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ... الآية، قُلْتُ: جاء في فضل «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» أحاديثُ كثيرةٌ فمنها ما رواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: قَالَ موسى: يَا رَبِّ علِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ بِهِ، وأدْعُوكَ بِهِ، قال: قُلْ يَا مُوسَى: «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» قال: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا، قَالَ: قُلْ: «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» قَالَ: إنَّمَا أُرِيدُ شَيْئاً تَخُصُّنِي بِهِ، قَالَ: يَا موسى، لَوْ أَنَّ السموات السَّبْعَ والأَرْضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، و «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» في كِفَّةٍ- مَالَتْ بِهِنَّ «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» «3» - رواه النسائي وابن حبّان في

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 469) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 482) برقم: (29332) ، بلفظ: قال: قالت لهم الجن: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ حتى بلغ: قَوْماً طاغِينَ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 470) . (3) أخرجه ابن حبان (14/ 102) كتاب «التاريخ» باب: ذكر سؤال كليم الله ربه أن يعلمه شيئا يذكره، برقم: (6218) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 208- 209) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: أفضل الذكر والدعاء، برقم: (10670/ 4) ، والحاكم في «المستدرك» (1/ 528) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص 102، 103، وأبو يعلى (2/ 528) ، برقم: (420/ 1393) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 328) . -

[سورة الصافات (37) : الآيات 40 إلى 48]

«صحيحه» ، واللفظ لابن حبّان، وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «وقول لاَ إله إلاَّ اللَّهُ/ لاَ تَتْرُكُ ذَنْبَاً وَلاَ يُشْبِهُهَا عَمَلٌ» «1» ، رواه الحاكم في «المستدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وقال صحيحٌ الإسنَاد، انتهى من «السّلاح» ، والطائفة التي قالت: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ هي قريشٌ وإشارتهم بالشاعر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذينَ تَقَدَّمُوهُ، ثم أَخْبَرَ تعالى مخاطبا لهم بقوله: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ الآية. [سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 48] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) وقوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناءٌ مُنْقَطِعٌ وهؤلاءِ المؤمنون. وقوله: مَعْلُومٌ معناه: عندهُمْ. وقوله: بَيْضاءَ يَحْتَملُ أَنْ يعودَ على الكأسِ، ويحتملُ أنْ يعودَ على الخَمْرِ، وهو أظهرُ، قال الحسنُ: خَمْرُ الجَنَّةِ أَشَدُّ بياضاً مِنَ اللَّبَنِ «2» ، وفي قراءة ابن مسعود «3» : «صفراء» فهذا وصفُ الخمرِ وحدَها، والغَوْلُ: اسمٌ عامٌّ في الأذى، وقال ابن عباس وغيره: الغَوْلُ: وَجَعٌ في البطْنِ «4» ، وقال قتادةُ هو صُدَاعٌ في الرأس «5» ويُنْزَفُونَ من

_ - قال الحاكم: هذا حديث صحيح. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 85) : رواه أبو يعلى، ورجاله وثقوا، وفيهم ضعف. (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 514) ، وقال: صحيح. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 472) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 472) ، و «البحر المحيط» (7/ 344) ، و «الدر المصون» (5/ 501) ، و «مختصر الشواذ» ص: (128) ، وزاد نسبتها إلى الحسن والضحاك. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 485) برقم: (29349) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29350) عن مجاهد، وبرقم: (29351) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 472) عنهم، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 6) أيضا عنهم، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 517) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس، ولهناد، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن مجاهد، ولعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 485) برقم: (29348) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 472) عن ابن عبّاس، وقتادة، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 7) عنهما، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 516) أيضا عنهما، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس، ولعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 49 إلى 53]

قولك: نُزِفَ الرَّجُلُ إذا سَكِرَ، وبإذْهابِ العَقْلِ فَسَّره ابن عباس «1» ، وقرأ حمزة والكسائي «يُنْزِفُونَ» بكسر الزاي «2» من «أنزف» وله معنيان: [أحدهما: سَكِر. والثاني: نَفِدَ شَرَابُه. وهذا كله منفيّ عن أهل الجنّة. وقاصِراتُ الطَّرْفِ] «3» قال ابن عباس وغيره معناه على أزواجهن «4» ، أي: لا ينظرن إلى غيرهم، وعِينٌ: جَمْعُ «عَيْنَاءَ» ، وهي الكَبِيرةُ العَيْنينِ في جَمَالٍ. [سورة الصافات (37) : الآيات 49 الى 53] كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قال ابن جبير والسُّدِّيُّ: شَبَّه ألوانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ الداخليِّ، وهو المكنونُ «5» ، أي المَصُونُ، ورجَّحَه الطبريُّ «6» ، وقال الجمهور: شَبَّه أَلْوَانَهُنَّ بَلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ من النَّعَامِ، وهو بياضٌ قَدْ خالَطَتْهُ صُفْرَةٌ حسنة، ومَكْنُونٌ أي: بالريش، وقال ابن عباس فيما حَكَى الطبريّ: «البيض المكنون» أراد به الجوهر

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 486) برقم: (29356) عن ابن عبّاس وبرقم: (29358) عن مجاهد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 472) عن ابن عبّاس وقتادة، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 7) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 516) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس. (2) ينظر: «السبعة» (547) و «الحجة» (6/ 54) ، و «إعراب القراءات» (2/ 246) ، و «معاني القراءات» (2/ 318) ، و «شرح الطيبة» (5/ 183) ، و «العنوان» (161) ، و «حجة القراءات» (608) ، و «شرح شعلة» (562) ، و «إتحاف» (2/ 411) . [.....] (3) سقط في: د. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 487) برقم: (29362) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29363) عن مجاهد، وبرقم: (29364) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 473) وزاد نسبته لابن زيد وقتادة، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 7) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 517) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد عن مجاهد. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 488) برقم: (29371) عن سعيد بن جبير وبرقم: (29372) عن السدي. (6) ينظر: «تفسير الطبري» (10/ 489) .

المَصُونَ «1» ، قال ع «2» : وهذا يَرُدُّهُ لَفْظُ الآيةِ، فلا يَصِحُّ عَنِ ابن عباس. وقوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ ... الآية، هذا التَّساؤُلُ الذي بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ هو تساؤُلُ رَاحَةٍ وَتَنَعُّمٍ يَتَذَاكَرُونَ أمُورَهُمْ في الجَنَّةِ وأمْرَ الدنيا وحالَ الطَّاعَةِ والإيمَانِ فيها، ثم أخْبَرَ تعالى عَنْ قَوْلِ قائِلٍ منهم في قِصَّتِهِ، وهو مثالٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ قَرِينُ سَوْءٍ، فَيُعْطِي هَذَا المثالُ التَّحَفُّظَ مِنْ قُرَنَاءِ السوءِ، قال الثعلبيُّ: قوله: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ قال مجاهد: كان شَيْطَاناً «3» ، انتهى، وقال ابنُ عباس وغيره: كان هذانِ منَ البَشَرِ مُؤمِنٌ وكَافِرٌ «4» ، وقال فُرَاتُ بْنُ ثَعْلَبَةَ البَهْرَانِيُّ في قَصَصِ هَذَيْنِ: إنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ بثمانيةِ آلاف دينارٍ، فكَانَ أحدُهُمَا مَشْغُولاً بِعِبَادةِ اللَّهِ، وكان الآخرُ كافراً مُقْبِلاً على مَالِهِ، فَحَلَّ الشَّرِكَةَ مع المؤمِنِ وَبقيَ وَحْدَه لِتَقْصِيرِ المؤمِنِ في التِّجَارَةِ، وجَعَلَ الكَافِرُ كُلَّمَا اشْتَرَى شَيْئاً من دَارٍ أو جَاريةٍ أو بستانٍ ونحوِهِ، عرضه عَلى المؤمِنِ وفَخَرَ عليه، فَيَمْضِي المؤمِنُ عندَ ذلكَ، وَيَتَصَدَّقُ بنحوِ ذلك لِيَشْتَرِي بِه من اللَّهِ تعالى في الجَنَّةِ، فكانَ مِنْ أمرِهمَا في الآخِرَةِ ما تَضَمَّنَتْهُ هذه «5» الآية، وحكى السُّهَيْلِيُّ أن هذين الرجلَيْنِ هما المذكورانِ في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ... الآية [الكهف: 32] انتهى، و «مدينون» معناه: مجاوزون محاسبون قاله ابن عبّاس وغيره «6» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 489) برقم: (29375) بلفظ: اللؤلؤ المكنون، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 473) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 7) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 517) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 473) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 490) برقم: (29379) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 28) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 473) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 8) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 518) ، وعزاه السيوطي للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 490) برقم: (29380) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (4/ 28) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 473) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 8) ، كلاهما عن ابن عبّاس. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 490) برقم: (29381) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 473) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 8) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 519) ، وعزاه السيوطي لسعيد بن منصور. (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 491) برقم: (29382) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 474) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 8) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 521) ، وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد، ولعبد بن حميد عن قتادة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 54 إلى 61]

[سورة الصافات (37) : الآيات 54 الى 61] قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) وقوله تعالى: قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ الآية، / في الكلامِ حَذْفٌ، تقديرُه: فقالَ لِهذَا الرجلُ حاضِرُوهُ مِنَ الملائِكَةِ: إنَّ قَرِينَكَ هذا في جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ فقال عند ذلك: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يخَاطِبُ ب «أَنْتُم» الملائكةَ أو رفقاءَه في الجنةِ أو خَدَمَتَهُ وَكُلَّ هذا حَكَى المَهْدَوِيُّ، وقَرَأ أبو عمرو في رواية حُسَيْنٍ «مُطْلِعُونَ» بسكون الطاء وفتح النون «1» ، وقرِىء شاذًّا «مُطْلِعُونِ» - بسكون الطاء وكسر النون «2» -، قال ابن عباس وغيره: سَواءِ الْجَحِيمِ وَسَطُه «3» ، فقال له المؤمِنُ عند ذلك: تَاللَّهِ، إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي: لَتُهْلِكُنِي بإغْوائِكَ، والرَّدَى: الهلاكُ، وقولُ المؤمِنِ: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلى قوله: بِمُعَذَّبِينَ يحتملُ أن تكونَ مخاطبةً لِرُفَقَائِهِ في الجَنَّةِ، لمَّا رأى مَا نَزَلَ بِقَرِينِهِ، ونَظَرَ إلى حالِه في الجنَّةِ وحالِ رُفَقَائِهِ قَدَّرَ النعمةَ قَدْرَهَا، فَقَالَ لهم على جهة التوقيفِ على النِّعْمَةِ: أفما نحن بميِّتين ولا معذَّبين، ويجيء على هذا التأويل قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إلى قوله: الْعامِلُونَ مُتَّصِلاً بكَلاَمِهِ خِطَاباً لرفقائهِ، ويحتمل قوله: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أن تكون

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 474) . ووقع في رواية أبي بكر بن مجاهد أن أبا عمرو قرأها مثل قراءة الباقين، غير أنه قرأ: «فأطلع» مبنيا للمجهول. ينظر: «السبعة» (548) ، و «الحجة» (6/ 55- 56) ، و «مختصر الشواذ» ص: (128) ، و «المحتسب» (2/ 219) . (2) وقرأ بها أبو البرهسم، وعمار بن عمار. قال ابن عطية: وردّ هذه القراءة أبو حاتم وغيره ولحنوها وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم، والوجه أن يقال: «مطلعيّ» . ووجه القراءة أبو الفتح بن جني، وقال: أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع، وأنشد الطبري [الوافر] : وما أدري وظن كلّ ظن ... أمسلمني إلى قومي شراحي وقال الفراء: يريد شراحيل. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 474) ، و «المحتسب» (2/ 220) ، و «البحر المحيط» (7/ 346) ، و «الدر المصون» (5/ 503) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 491) برقم: (29385) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29387) عن الحسن، وبرقم: (29389) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 28) عن ابن عبّاس، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 8) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 521) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

[سورة الصافات (37) : الآيات 62 إلى 72]

مخاطبةً لقرينِه على جهة التوبيخ، كأنَّه يقول: أين الذي كنتَ تقولُ من أنَّا نموتُ وَلَيْسَ بَعْدَ الموتِ عِقَابٌ ولا عَذَابٌ، ويكونُ قولُه تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إلى قوله: الْعامِلُونَ يحتمل أنْ يَكُونَ من خِطَابِ المُؤْمِنِ لقرينهِ وإليه ذَهَبَ قتادة «1» ، ويحتملُ أنْ يَكُونَ من خِطَابِ اللَّه- تعالى- لمحمَّد ع وأُمَّتِه، ويُقَوِّي هذَا قَوْلُهُ: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ وهُوَ حَضٌّ عَلى العَمَلِ والآخِرَةُ لَيْسَتْ بدار عمل. [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 72] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) وقولُهُ تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ المرادُ بالآية: تقريرُ قريشٍ والكفارِ، قال ع «2» : وفي بعض البلادِ الجَدْبَةِ المجاورةِ للصَّحَارَى- شجرةٌ مُرَّةٌ مَسْمُومَةٌ لَهَا لَبَنٌ، إنْ مَسَّ جِسْمَ أَحَدٍ تَوَرَّمَ وَمَاتَ مِنْهُ في أغلب الأمْرِ تُسَمَّى شجَرَةَ الزَّقُّومِ، والتَّزَقُّمُ في كَلاَمِ العَرَب: البَلْعُ عَلَى شِدَّةٍ وَجَهْدٍ. وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قال قتادة ومجاهد والسُّدِّيُّ: يريد أبا جهل ونظراءه «3» ، وقد تقدم بيان ذلك. وقوله تعالى: كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ اخْتَلَفَ في معناه فقالت فرقة: شَبَّهَ طَلْعَها بثَمَرِ شَجَرَةٍ مَعْرُوفَةٍ يقالُ لَها «رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» ، وهي بناحِيَةِ اليَمَنِ، يقال لها: «الأَسْتَنُ» ، وقالت فرقة: شَبَّهَ برُؤُوسِ صِنْفٍ منَ الحيَّاتِ يُقَالُ لها «الشَّياطِين» ، وهي ذواتُ أعْرَافٍ، وقالت فرقة: شَبَّه بما اسْتَقَر في النُّفُوسِ مِنْ كَرَاهَةِ رؤوس الشياطين وقُبْحِهَا وإنْ كانَتْ لاَ تُرَى لأن الناسَ إذا وصفوا شَيْئاً بِغَايَةِ القُبْحِ قَالوا: كأنَّه شَيْطَانٌ ونَحوُ هذا قولُ امرئ القيس: [الطويل] .

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 475) . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 475) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 494) برقم: (29399) عن السدي، وبرقم: (29400) عن مجاهد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 475) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 10) عن مجاهد، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 522) ، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد، ولابن مردويه عن ابن عبّاس.

[سورة الصافات (37) : الآيات 73 إلى 76]

أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ «1» فإنَّما شَبَّه بما استقر في النفوس من هيئتها، والشَّوْبُ: المِزَاجُ والخَلْطُ قاله ابن عباس وقتادة «2» ، والحميم: السُّخْنُ جِدًّا مِن الماء ونحوِهِ، فيريد به هاهنا شَرَابَهُمْ الذي هو طِينةُ الخَبَالِ صَدِيدُهُمْ وَمَا يَنْماعُ مِنْهُمْ هذا قولُ جماعةٍ من المفسرين. وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ كقوله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ... الآية، تمثيل لقريش ويُهْرَعُونَ معناه: يُسْرِعُونَ قاله قتادة وغيره «3» ، وهذا تَكَسُّبُهُمْ للكفر وحرصهم عليه. [سورة الصافات (37) : الآيات 73 الى 76] فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وقوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يَقْتَضِي الإخبارَ بأنه عذَّبَهُمْ ولذلك حَسُنَ الاستثناءُ في قوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ونِداءُ نُوحٍ تَضَمَّنَ أشْياءَ كطَلبِ النصرة والدعاءِ على قومِه وغيرِ ذلك، قال أبو حيان «4» : وقوله: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ جَوابُ قَسَمٍ كقوله: [من الطويل] يمينا لنعم السّيّدان وجدتما «5» ... ............... ................

_ (1) من قصيدة أولها: ألا عم صباحا أيها الطّلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي ينظر: «ديوانه» (33) ، «معاهد التنصيص» (2/ 7) ، «الكامل» (3/ 96) ، «البحر المحيط» (7/ 363) ، و «الدر المصون» (5/ 506) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 495) برقم: (29402) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29404) عن قتادة، و (29405) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 476) عنهما، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 11) عن ابن عبّاس، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 522) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عبّاس. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 496) برقم: (29413) عن قتادة، وبرقم: (29414) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 476) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 523) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. (4) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 349) . (5) صدر بيت لزهير بن أبي سلمى وعجزه: ............. ... على كلّ حال من سجيل ومبرم البيت في «ديوانه» ص: (14) ، و «الأشباه والنظائر» (8/ 210) ، و «جمهرة اللغة» ص: (534) ، و «خزانة الأدب» (3/ 6) ، (9/ 387) ، و «الدرر» (4/ 227) ، و «شرح عمدة الحافظ» ص: (792) ، و «همع الهوامع» (2/ 42) ، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (9/ 390) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 77 إلى 82]

والمخصوصُ بالمَدْحِ محذوفٌ، أي: فَلنِعْمَ المجيبُونَ نَحْنُ، انتهى. [سورة الصافات (37) : الآيات 77 الى 82] وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وقوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال ابن عبَّاسٍ وقتادة: أهْلُ الأرضِ كلُّهُمْ من ذريةِ نوحٍ «1» ، وقالت فرقة: إنَّ اللَّه تعالى أَبْقَى ذريةَ نُوحٍ وَمَدَّ نَسْلَه، وليسَ الأمْرُ بأَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا انْحَصَرُوا إلى نَسْلِهِ، بَلْ في الأُمَمِ مَنْ لاَ يَرْجِعُ إليْه، والأول أشْهَرُ عَنْ عُلَماءِ الأمَّة، وقالوا: نوحٌ هو آدم الأصغر، قال السُّهَيْلِيُّ: ذُكِرَ عَنْ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال في قوله- عز وجل-: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ: [إنَّهم] سامٌ وحَامٌ ويافثُ «2» ، انتهى. وقوله تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ معناهُ: ثناءً حسَناً جَميلاً باقياً آخِرَ الدّهر قاله ابن عبّاس وغيره «3» ، وسَلامٌ رفعٌ بالابتداء مُسْتَأنف، سَلَّمَ اللَّهُ به عليه لِيَقْتَدِيَ بذلك البَشَرُ. ت: قال أبو عُمَرَ في «التمهيد» : قال سعيد- يعني: ابن عبد الرحمن الجُمَحِيَّ-: بلَغَني أنه مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ لَمْ تَلْدَغْهُ عَقْرَبٌ، ذَكَرَ هذا عندَ قولِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للأسْلَمِيِّ الذي لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ: «أمَا لَوْ أَنَّكَ قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ إنْ شاء الله» «4» ، قال أبو

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 498) برقم: (29420) عن قتادة، وبرقم: (29421) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 477) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 12) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 524) ، كلهم عن ابن عبّاس، وقتادة، وعزاه السيوطي لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن المنذر عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الترمذي في «سننه» (5/ 365) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الصافات برقم: (3230) ، والطبري (10/ 497) برقم: (29419) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 524) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه. قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث سعيد بن بشير. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 498) برقم: (29422) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29424) عن قتادة، وذكره ابن عطية (4/ 477) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 12) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 524) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن المنذر عن ابن عبّاس. (4) هذا الحديث روي من طريق أبي هريرة، وخولة بنت حكيم، وعمرو بن العاص، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه. أما طريق أبو هريرة: أخرجه مسلم (4/ 281) «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» ، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم: (2709) ، وأبو داود (2/ 406) كتاب «الطب» باب: كيف الرقى، برقم: (3899) ، وابن حبان (7/ 386) - الموارد برقم: (2360) ولم يذكر نبأ الأسلميّ،

[سورة الصافات (37) : الآيات 83 إلى 87]

عُمَرَ: وَرَوَى [ابنُ وَهْبٍ] «1» هذَا الحديثَ عَنْ مالكٍ يَعْني: حديثَ: «أعوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ» بإسْنَادِهِ مِثْلَ ما في «المُوطَّإ» ، إلا أنَّه قال في آخره: «لَمْ يَضُرَّكَ شَيْءٌ» «2» انتهى. وقوله تعالى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ قال جماعة من العلماء: إنَّ الغَرَقَ عَمَّ جميعَ النَّاسِ، وأسْنَدُوا في ذلك أحَادِيثَ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنِ الناسُ حينئذٍ بهذهِ الكَثْرَةِ لأنَّ عَهْدَ آدم كانَ قريباً، وكانتْ دَعْوَةُ نُوحٍ ونُبُوَّتُهُ قَدْ بَلَغَتْ جميعَهم، لِطُولِ المدَّةِ واللَّبْثِ فِيهم، فَتَمادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَقْبَلُوا مَا دَعَاهُمْ إليه من عبادةِ الرحمن فلذلكَ أغْرَقَ اللَّهُ جميعَهُمْ. [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 87] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)

_ - والنسائي في «الكبرى» (6/ 152) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا خاف شيئا من الهوام حين يمسي، برقم: (10424/ 4) ، وأبو يعلى (12/ 44) برقم: (848/ 6688) ، ومالك في «الموطأ» (2/ 951) كتاب «الشعر» باب: ما يؤمر به من التعوذ، برقم: (11) ، وأحمد (2/ 375) ، وابن ماجه (2/ 1162) كتاب «الطب» باب: رقية الحية والعقرب برقم: (3518) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 143) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (1/ 380) . أما الحديث من طريق خولة بنت حكيم: أخرجه مسلم (4/ 208) كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم: (54/ 2708) ، (55/ 2708) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 144) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، برقم: (10394/ 1- 2) ، والترمذي (5/ 496) كتاب «الدعوات» باب: ما جاء ما يقول إذا نزل منزلا، برقم: (3437) ، وابن ماجه (2/ 1174) ، كتاب «الطب» باب: الفزع والأرق وما يتعوذ منه، برقم: (3547) ، وأحمد (6/ 377) ، والبيهقي في «السنن» (5/ 253) كتاب «الحج» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، ومالك في «الموطأ» (2/ 978) كتاب «الاستئذان» باب: ما يؤمر به من الكلام في السفر، والدارمي (2/ 289) كتاب «الاستئذان» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، وعبد الرزاق في «المصنف» (5/ 166) ، كتاب «المناسك» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، رقم: (9261) ، وابن حبان (6/ 418) ، كتاب «الصلاة» باب: ذكر الشيء الذي إذا قال المسافر في منزله أمن الضرر من كلّ شيء حتى يرتحل منه، برقم: (2700) . ولم تأت من هذا الطريق قصة الأسلمي. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأما طريق عمرو بن العاص: أخرجه أبو داود (2/ 405) ، كتاب «الطب» باب: كيف الرقى؟ رقم: (3893) نحو حديث أبي هريرة. وأما طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه: أخرجه أبو داود (2/ 406) كتاب «الطب» باب: كيف الرقى؟ رقم: (3898) . (1) سقط في: د. (2) ينظر: الحديث السابق. [.....]

[سورة الصافات (37) : الآيات 88 إلى 90]

وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ وغيره: الضميرُ عائِدٌ على نوحٍ «1» ، والمعنى: في الدينِ والتَّوْحيدِ، وقَال الطبريُّ وغيره عن الفَرَّاءِ: الضميرُ عائِدٌ عَلى محمدٍ، والإشَارَةُ إليه. وقوله: أَإِفْكاً استفهام بمعنى التقرير، أي: أكذبا ومحالا، آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. وقوله: فَما ظَنُّكُمْ تَوْبِيخٌ وتحذير وتوعّد. [سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 90] فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) وقوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ رُوِيَ أنَّ قَوْمَهُ كانَ لهم عِيدٌ يَخْرُجُونَ إليه فدعوا إبراهيم ع إلى الخروجِ مَعَهُمْ، فَنَظَرَ حينَئِذٍ، واعتَذَرَ بِالسُّقْمِ، وأرادَ البَقَاءَ لِيُخَالِفَهُمْ إلى الأصْنَامِ، ورُوِيَ أنَّ عِلْمَ النُّجُومِ كانَ عندَهم مَنْظُوراً فِيه مُسْتَعْمَلاً فأوْهَمَهُم هو من تلكَ الجهة، قالت فرقة: وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ من المعاريض الجائزة. [سورة الصافات (37) : الآيات 91 الى 102] فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) وقوله تعالى: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ «راغ» معناه: مَالَ. وقوله: أَلا تَأْكُلُونَ هو على جِهَةِ الاسْتِهْزَاءِ بِعَبَدَةِ تلكَ الأصْنَامِ، ثم مَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى ضَرْبِ/ تلك الأصْنامِ بِفَأْسٍ حَتَّى جَعَلَها جُذَاذاً، واخْتُلِفَ في معنى قوله: بِالْيَمِينِ فقال ابن عَبَّاس: أراد يمنى يَدَيْهِ «2» ، وَقِيلَ: أرادَ بِقُوَّتِه لأنَّه كانَ يَجْمَعُ يَدَيْهِ مَعاً بِالفَأْسِ، وقيل: أراد باليمينِ، القَسَمَ في قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] ، والضميرُ

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 499) برقم: (29427) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 477) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 12) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 525) كلهم عن ابن عبّاس، وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 502) برقم: (29452) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 479) .

في «أقبلوا» لكفّار قومه ويَزِفُّونَ معناه: يُسْرَعُونَ، واختلف المتأَوِّلُونَ في قوله: وَما تَعْمَلُونَ فَمَذْهَبُ جماعةٍ من المفسرين: أن «ما» مصدرية، والمعنى: أنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وأَعْمَالَكُمْ، وهذه الآيةُ عندهُمْ قَاعِدَةٌ في خَلْقِ اللَّهِ تعالى أفْعَالَ العِبَادِ وهو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ «1» ، وقالت فرقة: «ما» بمعنى: الّذي، و «البنيان» قيل: كان في موضع إيقاد النار،

_ (1) المراد من أفعال العباد: المعنى الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع، أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلا، لا المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع، لأنه من الأمور اللاموجودة واللامعدودة المسماة بالحال كما ذهبت إليه مشايخ الحنفية، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين من الأشاعرة أو هو أمر اعتباري عند نفاة الحال، فلا يتعلق به خلق ولا إيجاد وإلا لزم التسلسل، وإطلاق المصدر على المعنى الحاصل بالمصدر، وإن كان مجازا من قبيل إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، إلا أنه كثير الوقوع، فلا يحتاج إلى قرينة. وتنقسم أفعال العباد إلى: اختيارية، كحركة البطش، وإلى: اضطرارية، كحركة الارتعاش، وإلى أفعال مباشرة، وإلى أفعال متولدة، كحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد، ثم إن أفعال العباد منها ما يتعلق بالجوارح، ومنها ما يتعلق بالقلوب، هذا كله بالنسبة للمستيقظ. وأما أفعال النائم فقد اختلفوا فيها، فقال بعضهم: إنها مقدورة مكتسبة للنائم، والنوم لا يضاد القدرة، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإرادات، وقال بعضهم: إنها غير مقدورة له، وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم، وبعضهم لا يقطع بكونها مكتسبة، ولا بكونها ضرورية بل كلّ من الأمرين ممكن. وقد استدل القائلون بأن أفعال النائم مقدورة له بما يأتي: «أولا» : بأن النائم كان قادرا في يقظته، وقدرته باقية، والنوم لا ينافيها، فوجب استصحاب حكمها. «ثانيا» : بأن النائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه، ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم، وهو قادر بعد الانتباه، وزوال النوم غير موجب للاقتدار، ولا وجوده نافيا للقدرة. «ثالثا» : قد يوجد من النائم، ما لو وجد منه في حال اليقظة، لكان واقعا على حسب الداعي والاختيار، والنوم، وإن نافى القصد فلا ينافي القدرة. «رابعا» : نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم، وحركة المرتعش، وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له، وحركة المرتعش غير مقدورة له. وقال النافون المقدرة: قولكم: النوم لا ينافي القدرة: دعوى كاذبة فإن النائم منفعل محضا متأثر صرفا ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه، وقولكم: لم يتجدد له أمر غير زوال النوم، غير مسلم به لأن التجدد: زوال المانع من القدرة، فعاد إلى ما كان عليه كمن أوثق غيره رباطا، ومنعه من الحركة، فإذا حلّ رباطه، تجدد زوال المانع. والتحقيق: أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة، وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه، كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ وعلى كلّ حال فالمثبتون للقدرة وهم المعتزلة وبعض الأشعرية والنافون لها وهم: أبو إسحاق وغيره، والمتوقفون في ذلك هم: جمهور الأشعرية، والقاضي أبو بكر، متفقون على أن أفعال النائم غير داخلة تحت التكليف. أما أفعال الساهر فاختيارية لأنه وإن كان يفعل الفعل مع غفلته وذهوله، فهو إنما يفعله بقدرته إذ لو كان عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكن غافل عنها فالإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر. -

وقيل: بَلْ كَان لِلْمَنْجَنِيقِ الذي رُمِي عَنْه، والله أعلم.

_ - فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها لاشتغال محل التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة، فعملت عملها، وهي غير مشعور بها، وإن كان لا بد من الشعور عند كلّ جزء. ومع كلّ فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة، وأما الشعور به بالتفصيل فلا يستلزمه. وأما زائل العقل بجنون أو سكر، فليست أفعاله اضطرارية، كأفعال الملجأ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العاقل العالم بما يفعله، بل هي نوع آخر يشبه الاضطرارية، وأفعاله كفعل الحيوان وفعل الصبي الذي لا تمييز له إذ لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها، وإرادة يقصد بها، وقدرة ينفذ بها، فهذه أفعال طبيعية، واقعة بالداعي والإرادة والقدرة، وإن كانت الداعية التي فيهم غير داعية العاقل العالم بما يفعله لأنه يتصور ما في الفعل من الغرض، ثم يريده ويفعله، ولهذا لم يكلف أحد من هؤلاء بالفعل، فأفعالهم لا تدخل تحت التكليف، وليست كأفعال الملجأ ولا المكره. وهي مضافة إليهم مباشرة، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم خلقا. فهي مفعولة وأفعال لهم. لا خلاف في أن أفعال العباد اضطرارية، مخلوقة لله تعالى، ولا في أن الكلام اللفظي القائم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم على تقدير حدوثه مخلوق له تعالى. أما عند أهل السنّة فظاهر، وأما عند المعتزلة، فإما بنفي اختياريته، أو باستثنائه من الكلية. وأما أفعال العباد الاختيارية، فقد اختلفوا في الخالق لها، فقالت الجبرية: الخالق لأفعال العباد الاختيارية هو الله فقط ولا دخل لقدرة العبد في فعله البتة، بل هو مجبور ومقهور، وأن حركته الاختيارية، لا اختيار له فيها، وأنها كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركة الأمواج، وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: فعل العبد واقع بقدرة الله، ومخلوق له، وأن قدرة العبد لها دخل في الفعل الاختياري بالكسب والاختيار، وأن الله قد جرت عادته بأن يخلق فعل العبد الاختياري مقارنا لقدرته، وهذا هو الكسب عنده. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: أصل الفعل واقع بقدرة الله تعالى، وأما وصفه فواقع بقدرة العبد، كما في لطم اليتيم تأديبا وإيذاء، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد. والظاهر أنه لم يرد أن قدرة العبد مستقلة في خلق وصف الفعل، وإلا لزم عليه ما لزم على المعتزلة، بل أراد أن القدرة لها دخل في ذلك الوصف فهو بالنسبة إلى العبد طاعة ومعصية، كذا ذكره المحقق الديواني، وقد ورد على مذهبه: أن هذه الصفات أمور اعتبارية تلزم فعل العبد باعتبار موافقتها للشرع، أو مخالفتها له، فلا وجه لكون وصف الفعل واقعا بقدرة العبد، وهذا مدفوع بأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية والإرادة الجزئية والعزم، وهي مقدورة للعبد وبسببها يكون الفعل طاعة أو معصية، وهذا بعينه ما ذهب إليه الماتريدية. وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني من أهل السنّة، وكذا النجار من المعتزلة: إن أصل الفعل ووصفه، واقع بمجموع القدرتين، قدرة الله وقدرة العبد، ثم الأستاذ إن أراد: أن قدرة العبد غير مستقلة بالتأثير وأنها إذا انضمت إليها قدرة الله تعالى صارت مستقلة بتوسط هذ الإعانة على ما قدره البعض فقريب من الحق، وإن أراد أن كلا من القدرتين مستقلة بالتأثير كما اشتهر عنه في مذهبه فباطل، لامتناع مؤثرين على أثر واحد، وإن جوز اجتماعهما كما اشتهر عنه. وقال صاحب المسايرة وهو الكمال بن الهمام: إن جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح، والنفوس من-

_ - الميل والداعية والاختيار لا تأثير لقدرة العبد فيه، وإنما محل قدرته العزم المصمم، فإذا أوجد العبد ذلك العزم المصمم خلق الله له الفعل عقبه، وهذا ينطبق على كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، لأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية، والإرادة الجزئية، والعزم عنده «أي عند القاضي» . وقال بعض المحققين من أهل السنّة: الله خالق لفعل العبد الاختياري والعبد فاعل له حقيقة. وبيان ذلك أن الله خلق قدرة العبد وأذن لها أن تتصرف في المقدور حسب اختيار العبد فيكون الفعل مخلوقا لله، لأنه واقع بالقدرة التي خلقها الله فيه، وقد جعلها تتصرف في المقدور ويكون الفعل المقدور واقعا بالقدرة الحادثة، ومضافا إلى العبد كسبا وفعلا حقيقة، «ومثال ذلك» : أن العبد لا يملك التصرف في مال سيده، ولو استبد بالتصرف في مال سيده لم ينفذ تصرفه، فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ، والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث إن سببه إذنه، ولولا إذنه لم ينفذ التصرف، ولكن العبد يؤمر بالتصرف، وينهى ويوبّخ على المخالفة، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه، وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة، وخالق فاعليته، والعبد غير مستقل بالإيجاد، لأن قدرته وإرادته جزء سبب أو شرط. وقال الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي: المختار عندنا أن عند حصول القدرة والداعية المخصوصة يجب الفعل، وعلى هذا التقدير يكون العبد فاعلا على سبيل الحقيقة، ومع ذلك فتكون الأفعال بأسرها واقعة بقضاء الله تعالى وقدره، وذلك أنا لما اعترفنا بأن الفعل واجب الحصول عند مجموع القدرة والداعي فقد اعترفنا بكون العبد فاعلا وجاعلا فلا يلزمنا مخالفة ظاهر القرآن، وإذا قلنا بأن المؤثر في الفعل مجموع القدرة والداعي، مع أن هذا المجموع حصل بخلق الله تعالى، فقد قلنا بأن الكل بقضاء الله تعالى وقدره. وقال جمهور المعتزلة: فعل العبد واقع بقدرته وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار. وقال إمام الحرمين: فعل العبد واقع بقدرته وإرادته بالإيجاب استقلالا لا بالاختيار فيكون موافقا لمذهب الحكماء وهذا ما اشتهر عنه بين القوم، ولكن تحقيق مذهبه أن الخالق لفعل العبد الاختياري هو الله تعالى كما صرح به في الإرشاد، حيث قال: «اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله تعالى ولا خالق سواه، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى من غير فرق بين ما تتعلق به قدرة العباد، وبين ما لا تتعلق به، فإن تعلق الصفة بشيء لا يستلزم تأثيرها فيه، كالعلم بالعلوم، والإرادة بفعل الغير، فالقدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها، واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم» . واحتج أهل الحق القائلون بأن الله هو الخالق لأفعال العباد الاختيارية بآيات كثيرة تدل على أن الله هو الخالق لأفعال العباد، وأنها داخلة تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه فمنها: قول الله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، [الزمر: 62] وهذا عام لا يخرج عنه شيء من العالم، أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصا بذاته وصفاته، فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له، واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته سبحانه داخلة في مسمى اسمه، فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزه عن كلّ صفة نقص ومثال، والعالم قسمان: أعيان وأفعال، وهو الخالق لأعيانه، وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته. ومنها: قول الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال لقومه: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ

_ - خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 95- 96] أي عملكم «فما» مصدرية كما قدره بعضهم والاستدلال بها ظاهر، ولكن ليس بقوي، إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم لأن الله خالق لأعمالكم من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك فالأولى: أن تكون «ما» موصولة، أي: والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم فهي مخلوقة له لا لآلهة شركاء معه، فأخبر أنه خلق معموله، وقد «خلق» عملهم وصنعهم، ولا يقال المراد مادته، فإن مادته غير معمولة لهم، وإنما يصير معمولا بعد عملهم. وقال بعضهم: لا مانع من جعل «ما» مصدرية لحصول الطباق مع المصدرية إذ المعنى: إنكم تعبدون منحوتا تصيرونه بعملكم صنما، والحال أن الله تعالى خلقكم وخلق عملكم الذي به يصير المنحوت صنما، فإنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة، وإنما عبدوها من حيث أشكالها، فهم في الحقيقة، إنما عبدوا عملهم، وبذلك تقام عليهم الحجة بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى، فكيف يعبد المخلوق مخلوقا مثله، مع أن المعبود كسب العابد وعمله. ولكن ينبغي أن يجعل هذا المصدر بمعنى المعمول أي: المعنى الحاصل بالمصدر ليصح تعلق الخلق به، ثم تحمل الإضافة بمعونة المقام على الاستغراق، لأن المقام مقام التمدح، وإن كان أصل الإضافة للعهد ليتم المقصود إذ على تقدير: ألا تكون الإضافة للاستغراق يجوز أن يكون المراد ببعض المعمولات أمثال السرير بالنسبة إلى النجار فلا يتم المقصود، وهو إثبات أن جميع أفعال العباد، ومعمولاتهم مخلوقة له تعالى. والرد على المعتزلة إذ لا خلاف لهم: في أن أمثال هذا المعمول من الجواهر مخلوقة له تعالى لا مدخل للعبد فيها، وإنما الخلاف فيما يقع بكسب العبد ويسند إليه، مثل الصوم، والصلاة، والزكاة، والأكل، والشرب، والقعود، ونحو ذلك: قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، فأخبر سبحانه: أنه هو الذي جعل السرابيل، وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا بعد صنع الآدميين لها، فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها وصورتها ومادتها وهيئاتها، ونظير هذا قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ [النحل: 80] . فأخبر سبحانه: أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة له، وهي إنما صارت بيوتا بالصنعة الآدمية، ومنها قوله تعالى- حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40] ، وقوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] ، وقوله: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَرَهْبانِيَّةً [الحديد: 7] ، وقوله: - حكاية عن زكريا- أنه قال عن ولده: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 6] . ومن السنة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلني لك شكّارا، لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطواعا، مخبتا إليك، أوّاها منيبا» . فسأل ربه أن يجعله كذلك، وهذه كلها أفعال اختيارية، واقعة بقدرة الله خلقا وبقدرة العبد كسبا. احتج أهل الحق على أن العبد فاعل مختار بالمعقول، والمنقول، أما المعقول: فإن الإنسان ليدرك إدراكا حسيا، ويعلم بضرورة العقل وبديهته، علما لا يخالجه شك، ولا يداخله مرية، أن بين صحيح الأعضاء وبين من لا صحة لأعضائه فرقا كبيرا، فإن صحيح الأعضاء بفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا غير مكره ولا يضطر ولكن سقيم الأعضاء لم يفعله أصلا، فهذا الفرق يدل على أن العبد فاعل مختار، -

وقوله: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي ... الآية، قالتْ فرقة: كان قولُهُ هذا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ، وأنَّه أَشَارَ بِذَهَابِهِ إلى هِجْرَتِهِ مِنْ [أَرْضِ] «1» بَابِلَ حَيْثُ كَانَتْ مملكةُ نُمْرُودَ، فَخَرَجَ إلى الشَّامِ، وقالت فِرْقَةٌ: قال هذه المقالةَ قَبْلَ أنْ يُطْرَحَ فِي النَّارِ وإنما أراد لِقَاءَ اللَّهِ لأنَّه ظَنَّ أنَّ النَّارَ سَيَمُوتُ فِيها، وقال: سَيَهْدِينِ أي: إلى الجَنَّةِ نَحَا إلى هذَا المعنى قتادةُ «2» ، قال ع «3» : وللعارفينَ بهذَا الذَّهَابِ تَمَسُّكٌ واحْتِجَاجٌ في الصَّفَاءِ، وهُو مَحْمَلٌ حَسَنٌ في إِنِّي ذاهِبٌ وحْدَهُ، والتأويلُ الأولُ أظْهِرَ في نَمَطِ الآيةِ، بما يأتي بَعْدُ لأنَّ الهدايةَ مَعَهُ تَتَرَتَّبُ، والدُّعَاءُ في الوَلَدِ كذلك، ولاَ يَصِحُّ مَعَ ذَهَابِ المَوْتِ، وباقي الآيةِ تَقَدَّمَ قَصَصُهَا، وأَنَّ الراجحَ أنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ، وذَكَرَ الطبريُّ «4» أنَّ ابن عباس قال: الذبيحُ، إِسماعيل «5» ، وتَزْعُمُ اليهودُ أنَّهُ إسْحَاقُ، وكَذَبَتِ اليهُودُ، وذُكِرَ أيضاً أنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيزِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَجُلاً يهوديًّا كانَ أسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، فَقَال: الذَّبِيحُ هُوَ إسْمَاعِيلُ «6» ، وإن اليهودَ لَتَعْلَمُ ذلكَ، ولكنهمْ يحسدونكم معشر العرب: أن تكون هذه

_ - وإن كان الخالق لفعله هو الواحد القهار. أما المنقول: قال الله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: 25] . فقضى سبحانه وتعالى على أننا نعمل ونفعل، فالعبد مختار والله خالق، وقال تعالى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ [الواقعة: 20] فهذا يدل على أن للإنسان اختيارا لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء، في أن الله تبارك وتعالى خالق أعمال العباد جميعا. ينظر: «أفعال العباد» لشيخنا عبد الرحمن إبراهيم ص: (2) وما بعدها. (1) سقط في: د. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 480) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 480) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (10/ 513) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 512) برقم: (29509) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 32) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 481) . (6) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 32) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 481) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 530) ، وعزاه لابن إسحاق، عن محمّد بن كعب. والحق أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وهو الذي يدل عليه ظواهر الآيات القرآنية، فلا عجب إن ذهب إليه جمهرة الصحابة والتابعين ومن بعدهم وأئمة الحديث منهم السادة العلماء: علي، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الطفيل، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والحسن البصري، ومحمّد بن كعب القرظي، وسعيد بن المسيب، وأبو جعفر محمّد الباقر، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والكلبي، وأبو عمرو بن العلاء، وأحمد بن حنبل، وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن ابن عبّاس وفي «زاد المعاد» لابن القيم: أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهذا الرأي هو المشهور عند العرب-

_ - قبل البعثة، وذكره أمية بن أبي الصلت في شعر له. وقد نقل العلامة ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية في هذا كلاما قويا حسنا، أحببت نقل خلاصته لما فيه من الحجة الدامغة قال: «ولا خلاف بينهم- أي: النسابين- أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام» ، وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه يقول: «هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم» ، فإن فيه: «أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره» وفي لفظ «وحيده» ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غرّ أصحاب هذا القول: أن في التوراة التي بأيديهم: «اذبح ابنك إسحاق» قال: وهذه الزيادة من تحريفهم، وكذبهم، لأنها تناقض قوله: «اذبح بكرك ووحيدك» ، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب ويأبي الله إلا أن يجعل فضله لأهله، وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق؟ والله تعالى قد بشر أم إسحاق به، وبابنه يعقوب فقال تعالى- حكاية لقول الملائكة لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 70- 71] . فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات (الآيات: 103، 111] . ثم قال تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] فهذه بشارة من الله تعالى له: شكرا على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه. وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل، زمانا ومكانا، ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى سمى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليما، فقال تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ... إلى أن قال: قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 24- 28] . وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته، وهي المبشّرة، وأما إسماعيل فمن السرية- يعني: هاجر- وأيضا فلأنهما بشّرا به على الكبر، واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك. وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلّى الله عليه وسلّم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة فإنها كانت جارية. فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها، ويسكنها في أرض مكة، لتبرد عن سارة حرارة الغيرة، وهذا من رحمة الله تعالى بها ورأفته وإبعاده الضرر عنها، وجبره-[.....]

الآيَاتُ وَالْفَضْلُ وَاللَّهِ في أَبِيكُمْ، والسَّعْيُ في هذه الآيةِ: العَمَلُ والعبادةُ والمَعُونَةُ، قاله ابن عَبَّاسٍ «1» وغيرُهُ، وقال قتادةُ: السَعْيُ على القَدَمِ يريدُ سَعْيَاً مُتَمَكِّنِاً «2» ، وهذا في المعنى نَحْوُ الأوَّلِ. وقوله: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ ... الآية، يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ رأى ذلِكَ بِعَيْنِهِ ورُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ، وعُيِّنَ لَهُ وقتُ الامْتِثَالِ، ويُحْتَمَلُ أنَّه أُمِرَ في نومِه بِذَبْحِهِ، فَعبَّر عَنْ ذلكَ بقوله: إِنِّي أَرى أي: أرى ما يوجبُ أنْ أذْبَحَكَ، قال ابن العَرَبِيِّ في «أحكامه» «3» : واعلم أن رُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ فَمَا أُلْقِيَ إليهم، ونَفَثَ بهِ المَلَكُ في رُوعِهِمْ، وضَرَبَ المثَلَ لَه عَلَيْهِم- فَهُو حَقٌّ ولذلكَ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أنَّهُ يُنْزلُ فِيَّ قُرْآنٌ يتلى، ولكني رَجَوْتُ أنْ يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حقيقةَ الرُّؤيا، وأن البَارِيَ- تعالى- يَضْرِبُهَا مثَلاً للناسِ، فمنها أسماءٌ وكُنًى، ومنها رُؤْيَا تَخْرُج بِصِفَتِهَا، ومنها رُؤيا تَخْرُجُ بتأويلٍ، وهُوَ كُنْيَتُهَا. ولما اسْتَسْلَمَ إبراهيمُ وولدُه إسماعيلُ- عليهما السلام- لقضاءِ اللَّهِ، أُعْطِيَ إبراهيمُ ذَبِيحاً فِدَاءً، وقيل له: هذا فداءُ وَلَدِكَ، فامْتَثِلْ فِيه مَا رَأَيْتَ فإنَّه حقيقةُ مَا خاطبناك/ فيه، وهُو كِنَايَةٌ لاَ اسم، وجَعَلَهُ مُصَدِّقاً للرؤيا بمبادَرةِ الامْتِثَال، انتهى.

_ - لها، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟!! بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم، وليري عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد- آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدا لهم إلى يوم القيامة بذلة وانكسار. ثم أيهما أشد وقعا على النفس وأعظم بلاء: أن يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق وله ولد آخر يجد فيه إبراهيم بعض المعوض عن الابن المذبوح؟ أم يؤمر بذبح ولده ووحيده وبكره الذي رزقه على كبر، وأتى بعد طول انتظار وشدة اشتياق ولم يكن هناك بارقة أمل في أن يرزق إبراهيم بولد بعده؟. إن الله تعالى قد وصف واقعة الذبح هذه بأنها البلاء المبين أي: الابتلاء والاختبار المبين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، ولا ينطبق هذا الوصف ولا يتحقق هذا البلاء إلا إذا كان الذبيح هو إسماعيل الابن الوحيد البكر. (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 506) برقم: (29469) بلفظ: العمل، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 481) عن ابن عبّاس، ومجاهد، وابن زيد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 527) ، بلفظ: العمل، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 481) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1617) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 103 إلى 124]

[سورة الصافات (37) : الآيات 103 الى 124] فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) وقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما أي: أسلما أنفسهمَا، واستسلما لله- عز وجل-، وقَرَأ ابن عبَّاس وجماعة: «سَلَّمَا» «1» ، والمعنى فَوَّضَا إليه في قضائه وقَدَرِهِ- سبحانه-، فأسْلَم إبراهيمُ ابْنَهُ، وأسْلَمَ الابْنُ نَفْسَهُ، قال بعْضُ البَصْرِيين «2» : جوابُ «لما» محذوفٌ تقديره: فلما أسْلَمَا وَتَلَّهُ للجبينِ، أُجْزِلَ أجْرُهُما، ونحوُ هذا مِمَّا يَقْتَضِيهِ المعنى، وَتَلَّهُ معناه: وَضَعَه بقوَّةٍ ومنْه الحديثُ في القدح: فتلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يده «3» ، أي: وضعه بقوّة، ولِلْجَبِينِ معناه: لتلك الجهةِ وعليها، كما يقولون في المثل: [الطويل] ............... .. ... وخرّ صريعا لليدين وللفم

_ (1) وقرأ بها ابن مسعود، والحسن، وحميد، وعلي، ومجاهد، والضحاك، والأعمش، والثوري، وجعفر بن محمّد. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (128) ، و «المحتسب» (2/ 222) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 481) ، و «البحر المحيط» (7/ 355) ، و «الدر المصون» (5/ 510) . (2) في جوابها ثلاثة أوجه: «أحدها» : - وهو الظاهر- أنه محذوف، أي: نادته الملائكة أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، وقدره بعضهم بعد الرؤيا أي: كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه. ونقل ابن عطية أن التقدير: فلما أسلما أسلما وتلّه قال كقوله: فلمّا أجزنا ساحة الحقّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل أي: فلمّا أجزنا وانتحى. ويعزى هذا لسيبويه، وشيخه الخليل، وفيه نظر من حيث اتحاد الفعلين الجاريين مجرى الشرط والجواب إلّا أن يقال: جعل التغاير فليس الآية بالعطف على الفعل، وفي البيت يعمل الثاني في ساحة والعطف عليه أيضا. والظاهر أنّ مثل هذا لا يكفي في التغاير. ينظر: «الدر المصون» (5/ 509- 510) . (3) هذا حديث متفق على صحته بلفظ: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن شماله الأشياخ- فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء» ؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا، قال: فتلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يده» عن سهل بن سعد.

وكما تقول: سَقَطَ لِشِقِّهِ الأيْسَرِ، والجَبِينانِ: ما اكتنف الجبهة من هاهنا، ومن هاهنا، و «أن» من قوله: أَنْ يا إِبْراهِيمُ مفسّرة لا موضع لها من الإعراب، وصَدَّقْتَ الرُّؤْيا يحتملُ أنْ يريدَ بقَلْبِكَ أو بِعَمَلِكَ، و «الرؤيا» اسمٌ لِمَا يرى مِن قِبَلِ اللَّهِ- تعالى-، والمَنَامُ والحُلْمُ: اسمٌ لما يرى منْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ ومنه الحديث الصحيح: «الرُّؤْيَا من الله، والحلم من الشيطان» ، والْبَلاءُ: الاخْتِبَارُ، والذَّبْحُ العظيمُ» في قول الجمهور: كَبْشٌ أبْيَضُ أعْيَنُ، وَجَدَهُ وَرَاءَهُ مَرْبُوطاً بسَمُرَةٍ، وأَهْلُ السُّنَّةِ على أَنَّ هذه الْقِصَّةَ نُسِخَ فيها العَزْمُ على الْفِعْلِ خلافاً للمعتزلة، قال أحمد بن نصر الداوديّ: وإنْ نَسَخَ اللَّهُ آيةً قَبْلَ العَمَلِ بِهَا فإنَّما يَنْسَخُها بَعْدَ اعْتِقَادِ قَبُولِها وهُوَ عَمَلٌ انتهى من تفسيره عند قوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: 106] ، قال ع «1» : ولا خلافَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ أَمَرَّ الشَّفْرَةَ على حَلْقِ ابنه فَلَمْ تَقْطَعْ، والجمهورُ أَنَّ أمْرَ الذَّبْحِ كانَ بِمِنًى، وقال الشَّعْبِيُّ: رَأَيْتُ قَرْنَيْ كَبْشِ إبْرَاهِيمَ مُعَلَّقَتَيْنِ في الكَعْبَةِ «2» ، وروى عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يَا فَاطِمَةُ، قُومِي لاٌّضْحِيَتِكِ، فاشهديها فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ، وَقُولِي: إنَّ صَلاَتِي ونُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ» قال عِمْرَانُ: قلت: يا رسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكَ وَلأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً، أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَال: «لاَ، بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» رواه الحاكم في «المستدرك» «3» انتهى من «السِّلاَح» . وقوله تعالى: وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ توعُّد لمنْ كَفَرَ من اليهودِ بمحمَّد ع، والْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: هو التوراةُ، قال قتادة وابن مَسْعُود: إلياس: هو إدريس- عليه

_ - والحديث أخرجه البخاري (10/ 89) كتاب «الأشربة» باب: هل يستأذن الرجل عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر، رقم: (5620) ، (5/ 123) كتاب «المظالم» باب: إذا أذن له أو أحله ولم يبين كم هو، (2451) ، (6/ 267) كتاب «الهبة» باب: الهبة المقبوضة وغير المقبوضة، والمقسومة وغير المقسومة (2605) ، ومسلم (3/ 1604) كتاب «الأشربة» باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما، عن يمين المبتدئ (127/ 2030) ، ومالك في «الموطأ» (2/ 926، 927) كتاب «صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم» (18) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 332) كتاب «الأشربة» باب: إيثار من على اليمين بالشرب برقم: (1681) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 286) كتاب «الصداق» باب: الأيمن فالأيمن في الشرب، وأحمد (5/ 333) ، والطبراني (6/ 170) ، (5890) . (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 491) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 513) برقم: (29522) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 483) . (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 222) ، كتاب «الأضاحي» . قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/ 38، 39) برقم: (1596) - قال: منكر.

[سورة الصافات (37) : الآيات 125 إلى 138]

السلام- «1» ، وقالت فرقة: هو مِنْ وَلَدِ هَارُونَ، وقرأ نافِعُ وابن عامِر: «على آلِ يَاسِينَ» ، وقرأ الباقون: «على إلْيَاسِينَ» - بألفٍ مكسورةٍ ولامٍ ساكنةٍ «2» -، فَوُجِّهَتِ الأولى على أنها بمعنى: «أهْل» ، و «ياسِينُ» : اسمُ لإلياسَ، وقيل: هو اسم لمحمّد ع، ووُجِّهَتِ الثانيةُ على أَنَّها جَمْعُ «إلْيَاسِيٍّ» ، وقرأ ابن مسعود والأعمش: «وإنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ، وَسَلاَمٌ على إدْرِيسِينَ» ، قال السُّهيليُّ: قال ابن جِنِّيْ: العربُ تتلاعبُ بالأسماءِ الأعجميةِ تلاعباً ف «ياسين» ، و «إلياسُ» ، و «اليَاسِينُ» شيءٌ واحدٌ، انتهى. ت: وحكى الثعلبيُّ هنا حكايةً عَنْ عَبْدِ العزيزِ بْنِ أبي رواد، عن رجلٍ لَقِي إلياسَ في أيَّام مَرْوانَ بن الحَكَمِ، وأخبَرَهُ بعَدَدِ الأبْدَالِ وعَن الخَضِرِ في حكايةٍ طويلةٍ لا ينبغي إنكارُ مثلها فأولياءُ اللَّهِ يُكاشَفُونَ بِعَجَائِبَ، فلا يُحْرَمُ الإنْسَانُ التَّصْدِيقَ بِهَا، جعلنا الله من زمرة أوليائه، انتهى. [سورة الصافات (37) : الآيات 125 الى 138] أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وقوله: أَتَدْعُونَ بَعْلًا معناه: أتعبُدُون، قَال الحسن والضَّحَّاك وابن زيد: بَعْلٌ: اسمُ صَنَمٍ: كانَ لَهُمْ، ويقال له: بَعْلَبَك «3» ، وذكر ابنُ إسحاقٍ عن فرقة: أنّ بعلا بعد اسْمُ امرأةٍ كَانَتْ أَتَتْهُمْ بضلالةٍ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «اللَّهَ ربَّكم وربَّ آبائكم» «4» كلُّ ذلك

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 520) برقم: (29569) عن قتادة وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 36) عن ابن مسعود، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 483) والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 537) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن ابن مسعود، ولعبد بن حميد عن قتادة. (2) ينظر: «السبعة» (548- 549) ، و «الحجة» (6/ 59) ، و «إعراب القراءات» (2/ 249) ، و «معاني القراءات» (2/ 322) ، و «شرح الطيبة» (5/ 184) ، و «العنوان» (162) ، و «حجة القراءات» (610) ، و «شرح شعلة» (563) ، و «إتحاف» (2/ 414) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 521) برقم: (29576) عن الضحاك، وبرقم: (29577) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 484) وزاد نسبته للحسن. [.....] (4) ينظر: «السبعة» (549) ، و «الحجة» (6/ 63) ، و «إعراب القراءات» (2/ 251) ، و «معاني القراءات» (2/ 321) ، و «شرح الطيبة» (5/ 187) ، و «العنوان» (162) ، و «حجة القراءات» (610) ، و «شرح شعلة» (564) ، و «إتحاف» (2/ 415) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 139 إلى 142]

بالنَّصبِ بَدَلاً مِن قوله: أَحْسَنَ الْخالِقِينَ وقرأ الباقونَ كلَّ ذلكَ بالرفعِ على القَطْعِ والاستئناف، والضميرُ في فَكَذَّبُوهُ عائِدٌ على قومِ إلياسَ، ولَمُحْضَرُونَ معناه: مَجْمُوعُونَ لعذابِ اللَّهِ. وقوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مخاطبةٌ لقريشٍ، ثم وبَّخَهُمْ بقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ. [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 142] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) وقوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ ... الآية/ هو يونُسُ بن متّى صلّى الله عليه وسلّم، وهُو مِنْ بنِي إسرائيل. وقوله تعالى: إِذْ أَبَقَ ... الآية، وذلك أنه لما أخْبَرَ قَوْمَهُ بِوقْتِ مجيءِ العذَابِ، وغَابَ عَنْهُمْ، ثم إنَّ قَوْمَهُ لَما رَأَوْا مَخَايِلَ العَذَابِ أنابُوا إلى اللَّهِ، فَقبلَ تَوْبَتَهُمْ، فلَمّا مَضَى وقتُ العَذَابِ، وَلَمْ يُصِبْهُمْ، قال يونسُ: لا أرْجِعُ إليهمْ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، ورُوِي أنَّه كَانَ في سيرَتِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوا الكَذَّابَ فَأَبقَ إلى الْفُلْكِ، أيْ: أَرَادَ الهُرُوبَ، ودَخَلَ في البَحْرِ، وعبَّر عَنْ هُرُوبِهِ بالإباقِ مِنْ حَيْثُ [إنَّه] فَرَّ عَنْ غَيْرِ إذْنِ مولاهُ، فَرُوِيَ عَنِ ابنِ مسعودٍ أنه لمَّا حَصَلَ في السفينةِ، وأبْعَدَتْ في البحرِ، رَكَدَتْ وَلَمْ تَجْرِ وغيرُها من السُّفُن يجري يميناً وشِمالاً، فقال أهلها إنَّ فينا لصاحب ذنب وبه يحسبنا اللَّهُ تعالى، فقالُوا: لِنَقْتَرِعْ، فأَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْماً، واقترعوا، فَوَقَعَتِ القُرْعَةُ عَلى يونُسَ، ثَلاَثَ مراتٍ، فَطَرَحَ حينَئِذٍ نَفْسَهُ، والْتَقَمَهُ الحُوتُ «1» ، ورُوي أَنَّ اللَّهَ تعالى أَوْحَى إلى الحوتِ أَني لَمْ أَجْعَلْ يُونُسَ لَكَ رِزْقاً، وإنما جَعَلْتُ بَطْنَكَ لَه حِرْزاً وسِجْناً، فهذا معنى فَساهَمَ. والمدحض: المغلوب في محاجّة أو مساهمة، وعبارة ابنِ العَرَبِيِّ في «الأحكام» «2» : «وأوْحَى اللَّه تعالى إلى الحُوتِ: إنا لَمْ نَجْعَلْ يونُسَ لَكَ رِزْقاً، وإنما جعلنا بَطْنَكَ له مَسْجِداً» الحديثَ، انتهى، ولَفْظَةُ «مَسْجِدٍ» : أَحْسَنُ من السِّجْنِ، فَرَحِمَ اللَّهُ عَبداً لَزِمَ الأَدَبَ لا سِيَّمَا مَعَ أنْبِيَائِهِ وأَصْفِيائِه، وال «مُلِيمُ» : الّذِي أتَى مَا يلام عليه

_ (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 42) عن ابن عبّاس ووهب، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 485) عن ابن مسعود. (2) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1622) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 143 إلى 144]

وبذلك فسّر مجاهد وابن زيد «1» . [سورة الصافات (37) : الآيات 143 الى 144] فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) وقوله سبحانه: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قيل: المرادُ: القائلينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ في بَطْنِ الحُوتِ قاله ابن جُرَيْجٍ «2» ، وقالتْ فِرْقَةٌ: بَلِ التَّسْبِيحُ هنا الصَّلاَةُ، قال ابن عبَّاس وغَيْره: صَلاَتُهُ في وَقْتِ الرِّخَاءِ نَفَعَتْهُ في وَقْتِ الشِّدَّةِ «3» وقال هذا جماعةٌ من العلماءِ، وقال الضَّحَّاك بن قَيْسٍ على مِنْبَرِهِ: اذْكُرُوا اللَّه عباد اللَّه في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ، إن يونس كان عبد للَّهِ ذَاكِراً له، فَلَمَّا أصابَتْهُ الشِّدَّةُ نَفَعُه ذلك، قالَ اللَّهُ- عزَّ وجلَّ-: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وإن فرعونَ كانَ طَاغِياً بَاغِياً فَلَمَّا أدْرَكَهُ الغَرَقُ، قَال: آمَنْتُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذلكَ، فاذكروا اللَّهَ في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ «4» ، وقال ابن جُبَيْرٍ: الإشارَةُ بقولهِ: مِنَ الْمُسَبِّحِينَ إلى قوله: لاَّ إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «5» [الأنبياء: 87] . [سورة الصافات (37) : الآيات 145 الى 146] فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وقوله سبحانه: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ ... الآية، «العَرَاءُ» : الأرْضُ الفيحاءُ التي لاَ شَجَرَ فيها ولاَ مَعْلَمَ، قال ابن عبّاس وغيره في قوله: وَهُوَ سَقِيمٌ: إنَّه كالطفلِ المَنْفُوسِ، بُضْعَةُ لَحْمٍ «6» ، وقال بعضهم كاللَّحْمِ النَّيْءِ، إلاَّ أنَّه لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، فأنْعَشَهُ اللَّهُ في ظِلِّ اليَقْطِينَةِ بِلَبَنِ أُرْوِيَّةٍ [كَانَتْ تُغَادِيه وتُراوِحُهُ، وقيل: بلْ كَانَ يتغذى من اليَقْطِينَةِ،

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 527) برقم: (29596) عن مجاهد، وبرقم: (29598) عن ابن زيد بلفظ: مذنب، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 43) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 486) عنهما، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 542) ، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 486) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 528) برقم: (29600) عن قتادة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 486) عن ابن عبّاس، وقتادة، وأبي العالية، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 543) ، وعزاه لأحمد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 528) برقم: (29606) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 543) ، وعزاه لابن أبي شيبة. (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 529) برقم: (29608) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 43) . (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 529) برقم: (29614) عن السدي، ورقم: (29615) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 486) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 21) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 147 إلى 157]

ويجدُ منها ألوانَ الطَّعَامِ وأنواعَ] «1» شهواتِه، قال ابن عبَّاس وأبو هريرة وعمرو بن مَيمُونٍ: اليقطين: القَرْعُ خَاصَّة «2» ، وقيل، كُلُّ مَا لاَ يَقُومُ على ساقٍ كَالبَقُولِ والقَرْعِ والبطِّيخِ ونحوِه مما يَمُوتُ من عَامِهِ، ومشهورُ اللَّغَةِ أنَّ اليقطينَ هو القَرْعُ، فَنَبَتَ لَحْمُ يونُسَ- عليه السلام- وصَحَّ، وحَسُنَ لَوْنُهُ، لأنَّ وَرَقَ القَرْعِ أنْفَعُ شيءٍ لِمَنْ تَسَلَّخَ جِلْدُهُ، وهُوَ يَجْمَعُ خِصَالاً حميدةً، بَرْدُ الظِّلِّ [ولِينُ] المَلْمَسِ، وأنَّ الذُّبَابَ لاَ يقربُها، حكى النَّقَّاشُ أن مَاءَ وَرَقِ القَرْعِ إذا رُشَّ به مَكانٌ، لَمْ يَقْرَبْهُ ذُبَابٌ، ورُوِيَ أنَّهُ كان يوماً نائِماً، فأيْبَسَ اللَّهُ تِلْكَ اليَقْطِينَةَ، وقيل: بَعَث عَلَيها الأَرَضَةَ فَقَطَعَتْ وَرَقَها، فانْتَبَهَ يُونُسُ لِحَرِّ الشَّمْسِ، فَعَزَّ عَلَيْه شَأنُها، وجَزِعَ لَه فأوحَى اللَّهُ إلَيْهِ: يا يونُسُ، جَزِعْتَ لِيُبْسِ الْيَقْطِينَةِ، وَلَمْ تَجْزَعَ لإهْلاكِ مِائَةِ ألفٍ أو يَزِيدُونَ تَابُوا فتبت عليهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 147 الى 157] وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال الجمهور: إنَّ هذه الرسالةَ هي رِسالتهُ الأولى ذكرَها اللَّهُ في آخر القَصَصِ، وقال قَتَادَةُ وغيره: هذه رسالةٌ أُخْرَى بَعْدَ أنْ نُبِذَ بالعراء، وهي إلى أهل «نينوى» من ناحِية المَوْصِلِ «3» ، وقرأ الجمهور «4» : «أو يزيدون» فقال ابن عباس: «أو» بمعنى «بل» «5» ورُوِي عَنْه أنه «6» قرأ: «بل يزيدون» / وقالت فرقة: «أو» هنا بمعنى الواو، وقرأ جعفر بن محمد «7» : «ويزيدون» وقال المبرّد، وكثير من

_ (1) سقط في: د. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 530) برقم: (29621) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29622) عن عمرو بن ميمون، وبرقم: (29625) عن أبي هريرة بلفظ: الشجرة الدّبّاء، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 43) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 487) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 21) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 546) ، وعزاه لابن جرير من طريق ابن قسيط عن أبي هريرة، ولابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود. (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 487) عن ابن عبّاس، وقتادة. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 487) ، و «البحر المحيط» (7/ 360) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 531) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 487) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 22) . [.....] (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 487) . (7) ينظر: «المحتسب» (2/ 226) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 487) ، و «البحر المحيط» (7/ 360) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 158 إلى 160]

البَصْرِيِّين: قوله: أَوْ يَزِيدُونَ المعنى: على نَظَرِ البَشَرِ وحَزْرِهم، أي: من رآهم قال: مائة ألف أو يزيدون، وروى أُبَيُّ بنِ كَعْبٍ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُمْ كانوا مائةً وعشرينَ ألفاً. ت: وعبارة أحمد بن نَصْرٍ الدَّاوودِيُّ: وعن أبي بن كعب قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الزيادتين: الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال يزيدون عشرين ألفاً، وأحسبه قال: الحسنى: الجنة، «والزيادة» النظرُ إلى وجه الله- عز وجل «1» -، انتهى، وفي قوله: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ مثالٌ لقريشٍ إنْ آمنوا، ومنْ هنا حَسُنَ انتقالُ القَوْلِ والمحاوَرَةِ إلَيْهِم بقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ فإنما يعود على ضميرِهم، على ما في المعنى من ذِكْرِهِمْ، والاستفتاءُ: السؤال وهو هنا بمعنى التَّقريعِ والتَّوْبيخِ في جعلهمُ البَنَاتِ للَّه، تعالى اللَّهُ عَنْ قولِهمْ، ثم أخبر [اللَّهُ] تعالى عن فرقةٍ منهم بلغَ بِها الإفْكُ والكَذِبُ إلى أَنْ قالتْ: ولدَ اللَّهُ الملائكةَ لأَنَّه نَكَحَ في سَرَوَاتِ الجِنِّ، تعالَى اللَّهُ عن قولهِم، وهذه فرقةٌ، مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فيما رُوِيَ، وقرأ الجمهور «2» : «أَصْطَفَى البَنَاتِ» بهمزةِ الاسْتفهامِ عَلَى جهةِ التَّقْرِيعِ «3» والتوبيخِ. [سورة الصافات (37) : الآيات 158 الى 160] وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) وقوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الجِنَّةُ هنا: قيل: همُ الملائِكَةُ: لأنها مُسْتَجِنَّةٌ، أي: مُسْتَتِرَةٌ، وقيل: الجِنَّةُ همُ الشياطينُ، والضميرُ في جَعَلُوا لفِرْقَةٍ من كفارِ قريشٍ والعَرَبِ، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: سَتَحْضُرُ أَمْرَ اللَّهِ وثوابَه وعقابَه، ثم نَزَّهَ- تعالى- نفسَه عما يصِفُهُ الكفرةُ، ومِنْ هَذا استثنى عبادَه المُخْلَصِينَ لأنّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ العُلاَ، وقالت فرقة: اسْتَثْنَاهُمْ من قوله: لَمُحْضَرُونَ وعبارة الثعلبي:

_ (1) ورد سؤال أبيّ بن كعب عن قوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فقال: يزيدون عشرون ألفا، وذلك في حديث: أخرجه الترمذي (5/ 365) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الصافات برقم: (3229) . قال الترمذي: هذا حديث غريب. أما الزيادة الثانية، وهي التي في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ فالحديث: أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 551) برقم: (17648) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 547) تفسير سورة يونس: آية رقم (26) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والدارقطني، وابن مردويه واللالكائي، والبيهقي في كتاب «الرؤية» عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 488) ، و «البحر المحيط» (7/ 361) ، و «الدر المصون» (5/ 514) . (3) في د: التقرير.

[سورة الصافات (37) : الآيات 161 إلى 173]

وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أي: الملائكة أنَّ قائِلي هذه المقالةِ مِنَ الكفرةِ لَمُحْضَرُونَ في النَّارِ، وقيل للحسابِ، والأولُ أوْلَى لأنَّ الإحْضَارَ متَى جَاء في هذه الصُّورة عُنِيَ بهِ العذابُ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنَّهُمْ ناجُونَ مِنَ النَّار، انتهى، وفي البخاريِّ لَمُحْضَرُونَ أي: سيُحْضَرُونَ للحساب، انتهى. [سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 173] فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) وقوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ بمعنى: قل لهم يا محمد، إنَّكم وأصنَامَكم مَا أَنْتُم بمضلِّينَ أَحَداً بسبَبِها وَعَلْيهَا إلاَّ مَنْ قَدْ سَبَقَ عليه القضاءُ فإنَّه يَصْلَى الجَحِيمَ في الآخرةِ ولَيْسَ لَكُمْ إضْلالُ مَنْ هَدَى اللَّهُ تعالى، وقالت فرقة: عَلَيْهِ بمعنى: «به» والفَاتِنُ: المُضِلُّ في هذا الموضعِ وكذلك فسَّره ابن عَباس وغيره «1» ، وحذفت اليَاءُ مِنْ صالِ للإضَافةِ. ثم حكى- سبحانه- قولَ الملائِكَةِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وهذا يؤيِّدُ أَن الجِنَّةَ أرادَ بِها الملائِكةَ، وتقديرُ الكلامَ وما منا ملك، وروت عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَّ السَّمَاءَ مَا فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ وَاقِفٌ يُصَلِّي» ، وَعَنِ ابن مسعود وغيره نحوه «2» . والصَّافُّونَ معناه: الواقفون صفوفا، والْمُسَبِّحُونَ، يحتملُ أن يرِيدَ بِه الصَّلاَة، ويحتملُ أنْ يريدَ قَولَ: سبحَان اللَّهِ، قال الزَّهْرَاوِيُّ: قيل: إن المسْلِمِينَ إنما اصْطَفُّوا في الصلاةِ مُذْ نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ، ولا يصطفُّ أحَدٌ من أهلِ المِلَلِ غَيْرُ المسلِمينَ، ثمَّ ذكرَ تعالى مَقَالَةَ بَعْضِ الكفارِ، قال قتادةُ وغيرُه: فإنهم قبل نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: لو كَانَ لَنَا كتابٌ أو جاءَنا رسولٌ، لَكُنا عِبَادَ اللَّهِ المخْلَصِينَ، فلما جَاءهم محمّد كفروا به، فسوف

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 536) برقم: (29661) عن ابن عبّاس بنحوه، وبرقم: (29664) عن الحسن، وبرقم: (29667) عن إبراهيم. وذكره البغوي (4/ 45) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 489) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 548) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 539) برقم: (29680) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 489) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 550) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن مسعود.

[سورة الصافات (37) : الآيات 174 إلى 182]

يَعْلَمُون «1» ، وهذا وَعِيدٌ مَحْضٌ، ثم آنَسَ تعالى نبيَّه وأولياءَه بأنَّ القَضَاء قد سَبَق، والكلمةُ قَدْ حَقَّتْ بأنَّ رُسُلَهُ سبحانه هم المنصُورُونَ، على من نَاوَأَهُمْ، وجُنْدُ اللَّهِ همُ الغزاةُ. [سورة الصافات (37) : الآيات 174 الى 182] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) وقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أمْرٌ لنبيِّهِ بالمُوَادَعَةِ، ووعد جميل، وحَتَّى حِينٍ قيل هو يومُ بَدْرٍ، وقِيل: يومُ القيامةِ. وقولهُ تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ وَعْدٌ للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وَوَعِيدٌ لهُمْ، ثم وبَّخهم على استعجالِ العذَابِ فَإِذا نَزَلَ أي: العذابُ، بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ والساحةُ الفِنَاء، وسُوءُ الصباح: أيضاً مستعملٌ في وُرُودِ «2» الغَارَاتِ، قلْتُ: ومنه قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا أَشْرَفَ على خَيْبَرَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صباح المنذرين» «3» انتهى،

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 489) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 552) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (2) في ج هنا: انتقل من سورة- ص- إلى الترقيم في المخطوط برقم: (1) وقد سرنا نحن معه على تسلسل الترقيم. (3) هذا حديث صحيح متفق على صحته: أخرجه البخاري (2/ 107) كتاب «الأذان» باب: ما يحقن بالأذان من الدماء. (610) ، (1/ 572) كتاب «الصلاة» باب: ما يذكر في الفخذ (371) ، (2/ 507- 508) كتاب «الخوف» باب: التبكير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب (947) ، (4/ 489) كتاب «البيوع» باب: بيع العبد والحيوان بالحيوان نسيئة (2228) طرفا منه، (4/ 494) كتاب «البيوع» باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها؟ (2235) ، (6/ 98) كتاب «الجهاد والسير» باب: فضل الخدمة في الغزو (2889) ، (6/ 101- 102) كتاب «الجهاد والسير» باب: من غزا بصبي للخدمة (2893) ، (6/ 130) كتاب «الجهاد والسير» باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام والنبوة (2943- 2944- 2945) ، (6/ 156) كتاب «الجهاد والسير» باب: التكبير عند الحرب (2991) ، (6/ 222- 223) كتاب «الجهاد والسير» باب: ما يقول إذا رجع من الغزو (3085- 3086) ، (6/ 223- 224) كتاب «الجهاد والسير» باب: الصلاة إذا قدم من سفر (3087) ، (6/ 732) كتاب «المناقب» باب: (28) (3647) ، (7/ 436) كتاب «المغازي» باب: أحد جبل يحبّنا ونحبه (4083- 4084) ، (7/ 534) كتاب «المغازي» باب: غزوة خيبر (4197- 4198- 4199- 4200- 4201) ، (7/ 547) كتاب «المغازي» باب: غزوة خيبر (4211- 4212- 4213) ، (9/ 29) كتاب «النكاح» باب: اتخاذ السراري، ومن أعتق جارية ثم تزوجها (5085) ، (9/ 132) كتاب «النكاح» باب: البناء في السفر (5159) ، (9/ 140) كتاب «النكاح» باب: الوليمة ولو بشاة (5169) ، (9/ 440) كتاب «الأطعمة» باب: الخبز المرقق، والأكل على الخوان-

وقَرَأَ ابن مسعود: «فَبِئْسَ صَبَاحٌ» «1» ، والعزة في قولهِ: رَبِّ الْعِزَّةِ هي العزة المَخْلُوقَةُ الكائِنَةُ للأنبياءِ والمؤمِنينَ وكذلك قال الفقهاءُ مِنْ أجْلِ أنَّها مَرْبُوبَةٌ قال محمدُ بن سُحْنُونَ وغيره: مَنْ حَلَفَ بعزَّةِ اللَّهِ، فَإنْ كَانَ أرادَ صِفَتَهُ الذَّاتِيَّةَ، فَهِي يَمينٌ، وإنْ كَانَ أَرَادَ عِزَّتَهُ الَّتِي خَلَقَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهي الَّتِي في قَوْلِه: رَبِّ الْعِزَّةِ فَلَيْسَتْ بَيَمِينٍ، ورُوِيَ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إذا سَلَّمْتُمْ عَليّ، فَسَلِّمُوا عَلَى المُرْسَلِينَ فإنَّما أَنَا أحَدُهُمْ» «2» صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وعلى آله وعلى جميع النبيّين وسلّم.

_ - والسفرة (5387) ، (9/ 465) كتاب «الأطعمة» باب: الحيس برقم: (5425) ، (9/ 466) كتاب «الأطعمة» باب: ذكر الطعام (4428) ، (9/ 570) كتاب «الذبائح والصيد» باب: لحوم الحمر الإنسية برقم: (5528) ، (10/ 26) كتاب «الأضاحي» باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها (5968) ، (10/ 584) كتاب «الأدب» باب: قول الرجل: «جعلني الله فداك» (6185) ، (11/ 177) كتاب «الدعوات» باب: التعوذ من غلبة الرجال (6363) ، (11/ 182) كتاب «الدعوات» باب: الاستعاذة من الجبن والكسل (6369) ، (13/ 316) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» باب: إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة (7333) ، ومسلم (2/ 1043- 1044) كتاب «النكاح» باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها (84/ 1365) ، والنسائي (6/ 131، 134) كتاب «النكاح» باب: البناء في السفر (3380) ، وأحمد (3/ 101، 102، 111، 163، 164، 186، 206، 246، 263، 270، 271) ، والبيهقي (2/ 230) كتاب «الصلاة» باب: من زعم أن الفخذ ليست بعورة، وما قيل في السرة والركبة (9/ 55) كتاب «السير» باب: قسمة الغنيمة في دار الحرب (9/ 79- 80) كتاب «السير» باب: قتل النساء والصبيان في التبيت والغارة من غير قصد، وما ورد في إباحة التبيت، وابن حبان (11/ 51- 52) كتاب «السير» باب: ذكر البيان على المرء إذا أتى دار الحرب أن لا يشن الغارة حتى يصبح (4747) ، ومالك في «الموطأ» (2/ 468- 469) كتاب «السير» باب: الخروج وكيفية الجهاد (4746) ، والترمذي (4/ 121) كتاب «السير» باب: في البيات والغارات (1550) . (1) ينظر: «الكشاف» (4/ 68) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 490) ، و «البحر المحيط» (7/ 364) . (2) أخرجه الطبري (10/ 543) برقم: (29704) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 294) - ط دار المعرفة، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.

تفسير سورة"ص"

تفسير سورة «ص» [وهي] مكّيّة بإجماع [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) قرأ أُبَيُّ بن كَعْبٍ والحسن وابن أبي إسحاقَ: «صَادِ» - بِكَسْرِ الدالِ «1» -، والمعنى: مَاثِلِ القرآن بِعَمَلِكَ، وقارِبْهُ بطاعَتِكَ، وكذا فسَّرهُ الحَسَن «2» ، أي: انظر أينَ عَمَلُكَ مِنْهُ، وقال الجمهورُ: إنه حَرْفُ مُعْجَمٍ يَدْخُلُه مَا يَدْخُل أوائِلَ السور مِنَ الأَقْوَالِ، وَيَخْتَصُّ هذا بأنْ قَالَ بعضُ الناس: معناه: صدق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الضَّحَّاك: معناهُ: صَدَقَ اللَّهُ «3» ، وقال محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ: هو مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ: صمد صادق، ونحوه «4» . وقوله: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قَسَمٌ قال ابن عباسٍ وغيره: معناه: ذي الشرف الباقي المخلّد «5» ،

_ (1) وقرأ بها أبو السمال. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (129) ، و «المحتسب» (2/ 230) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 491) ، و «البحر المحيط» (7/ 366) ، وزاد نسبتها إلى ابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم، وهي في «الدر المصون» (5/ 519) . [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 544) برقم: (29706) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 491) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 556) ، وعزاه لعبد بن حميد. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 545) برقم: (29712) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 47) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 491) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 556) ، وعزاه لابن جرير. (4) ذكره البغوي في «تفسيره» (10/ 47) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 491) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 546) برقم: (29717) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 47) ، وابن عطية في في «تفسيره» (4/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 556) كلهم عن ابن عبّاس.

وقالَ قتادة: ذي التذكرةِ للنَّاسِ والهداية لهم «1» ، وقالت فرقةٌ: ذي الذِّكْرِ للأُمَمِ والقَصَصِ والغُيُوبِ، ت: ولا مانَعَ [مِنْ] أَنْ يُرَادَ الجميعُ، قال- عليه السلام «2» : وأما جَوَابُ القَسَمِ، فَاخْتُلِفَ فيه فقالت فرقة: الجوابُ في قوله: ص إذ هُوَ بمعنى: صدق الله أو صدق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الكوفيُّون والزَّجَّاج «3» : الجَوَابُ في قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] ، وقَالَ بَعْضُ البصريِّين ومنهم الأخفَشُ: الجوابُ في قوله: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [ص: 14] ، قال ع «4» : وهذانِ القولانِ بَعيدانِ، وقال قتادة «5» والطبري «6» : الجواب مقدَّرٌ قَبْلَ «بل» ، وهذا هو الصحيحُ، وتقديره: والقرآن، ما الأَمْرُ كَما يَزْعُمُونَ، ونَحْوُ هَذَا مِنَ التَّقْدِير، فَتَدَبَّرْهُ، وقال أبو حَيَّان «7» : الجوابُ: إنك لمن المرسلين، وهو ما أثْبَتَ جَوَاباً للقرآن حينَ أقْسَمَ بهِ، انتهى، وهو حَسَنُ، قال أبو حيان: وقوله: فِي عِزَّةٍ هي قراءةُ الجمهور، وعن الكسائي «8» بالغين المعجمة والراء، أي: في غَفْلَةٍ، انتهى. والعِزَّةُ هنا: المُعَازَّةُ والمُغَالَبَةُ والشِّقَاقُ ونحوُهُ، أيْ: هم في شِقٍّ، والحَقُّ في شِقٍّ، وكَمْ للتكثير، وهي خَبَرٌ فِيه مثالٌ ووعيدٌ، وهِي في مَوْضِعِ نَصْبٍ ب أَهْلَكْنا. وقوله: فَنادَوْا معناهُ: مُسْتَغِيثين، والمعنى: أنهم فَعلوا ذلك بعد المُعَايَنَةِ، فَلَمْ ينْفعهم ذلك ولم يكُنْ في وَقْتِ نَفْعٍ، ولاتَ بمعنى: ليس، واسمها مقدَّرٌ عند سِيبَوَيْهِ، تقدِيره: وَلاَتَ الحِينُ حِينَ مَنَاصٍ، والمَنَاصُ: المَفَرُّ، ناصَ يَنُوصَ: إذا فَرَّ وَفَاتَ، قالَ ابن عَبَّاس: المعنى: ليسَ بِحِينِ نَزْوٍ وَلاَ فِرَارٍ ضبط القوم «9» ، والضمير في عَجِبُوا لكفار قريش.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 546) برقم: (29719) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 26) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 491) . (3) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 319) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 491) . (5) ذكره الطبري في «تفسيره» (10/ 547) عن قتادة، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 492) . (6) ينظر: «تفسير الطبري» (10/ 547) . (7) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 367) . (8) وقرأ بها حماد بن الزبرقان، وأبو جعفر، والجحدري. ينظر: «البحر المحيط» (7/ 367) ، و «الدر المصون» (5/ 520) . (9) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 548) برقم: (29725) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 492) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 556) ، وعزاه السيوطي للطيالسي، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن التميمي.

[سورة ص (38) : الآيات 6 إلى 8]

[سورة ص (38) : الآيات 6 الى 8] وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ/ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ... الآية، رُوِيَ فِي قَصَصِ هذهِ الآيةِ، أنَّ أشْرَافَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا عِنْدَ مَرَضِ أبي طالبٍ، وقالوا: إن مِنَ القبيحِ علينا أن يموتَ أبو طالب، ونُؤْذِيَ محمَّداً بَعْدَهُ، فتقولُ العربُ: تركُوهُ مُدَّةَ عَمِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ آذَوْهُ، ولكن لِنذهبْ إلى أبي طالب فَيُنْصِفَنَا مِنْهُ ويَرْبِطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رَبْطاً، فَنَهَضُوا إليه، فقالوا: يا أبا طالب: إن محمداً يَسُبُّ آلهتَنا، ويُسَفِّهُ آراءنا، ونحنُ لا نُقَارُّهُ على ذلك، ولكن افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ في حياتِكَ بأن يُقِيمَ في منزلهِ يَعْبُدُ ربَّهُ الذي يَزْعُمُ ويدعُ آلهتنا وسَبَّها، ولا يَعْرِضُ لأحَدٍ منا بشيْءٍ من هذا، فبعث أبو طالب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمَّدُ، إن قومَكَ قَد دَعَوْكَ إلى النَّصَفَةِ، وهِيَ أن تَدَعَهُمْ وتَعْبُدَ رَبَّكَ وَحْدَكَ، فَقال: أوَ غَيْرَ ذلكَ يا عَمُّ؟ قال: وما هو؟ قال: يُعْطُونَنِي كَلِمَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ بِهَا العَجَمُ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟! فَإنَّا نُبَادِرُ إلَيْهَا! قَالَ: «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» فَنَفَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا يُرْضِيكَ مِنَّا غَيْرُ هذا؟ قال: «واللَّهِ، لَوْ أَعْطَيْتُمُونِي الأَرْضَ ذَهَبَاً وَمَالاً» «1» وفي روايةِ «لَوْ جَعَلْتُمُ الشَّمْسَ فِي يَمِينِي والقَمَرَ فِي شِمَالِي مَا أرضى مِنْكُمْ غَيْرُهَا» فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ، ويُرَدِّدُونَ هذا المعنى، وعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ يقول: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، فقوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ عبارةٌ عن خروجِهم عَن أبي طالبٍ وانطلاقِهِمْ من ذلكَ الجَمْعِ، هذا قولُ جماعةٍ من المفسرين. وقوله تعالى: أَنِ امْشُوا نَقَلَ الإمامُ الفخرُ «2» أَنَّ «أنْ» بمعنى: «أي» ، انتهى، وقولهم: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ يريدون ظهورَ محمَّدٍ وعلوَّه، أي: يُرادُ مِنَّا الانقيادُ لَه، وأنْ نكونَ له أتْبَاعاً، ويريدونَ بِالمِلَّةِ الآخرةِ مِلَّةَ عيسى، قاله ابنُ عبَّاس، وغيره «3» وذلك أنها ملَّةٌ شُهِرَ فيها التثليث.

_ (1) أخرجه الطبري (10/ 553) برقم: (29750) وعن السدي برقم: (29751) ، وعن ابن عبّاس مختصرا، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 296) . ط- دار المعرفة، وعزاه إلى ابن مردويه. [.....] (2) ينظر: «تفسير الرازي» (26/ 156) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 552) برقم: (29742) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 49) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 494) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 28) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 558) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.

[سورة ص (38) : الآيات 9 إلى 14]

ثم تَوَعَدَّهُمْ- سبحانه- بقوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي: لو ذاقُوهُ، لَتَحَقَّقُوا أنَّ هذه الرسالة [حقّ] . [سورة ص (38) : الآيات 9 الى 14] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ... الآية، عبارةُ الثعلبيّ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني: مَفاتيح النبوَّة حتى يُعْطُوا مَنِ اختاروا، نظيرَهَا أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] . قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يعني: أنَّ ذلكَ للَّهِ تعالى يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فَلْيَصْعَدُوا فِيمَا يُوَصِّلُهُمْ إلى السمواتِ، فليأتوا منها بالوحي إلى مَنْ يختارونَ، وهذا أمْرُ توبيخٍ وتَعْجِيزٍ، انتهى، ونحوه كلامُ ع «1» . ثم وعدَ اللَّهُ نبيَّهُ النَّصْرَ، فقال: جُنْدٌ مَّا هُنالِكَ مَهْزُومٌ أي: مَغْلُوبٌ ممنوعٌ مِن الصُّعُودِ إلى السماء، مِنَ الْأَحْزابِ أي: من جملة الأحزابِ، قال ع «2» : وهذا تأويل قَوِيٌّ، وقالت فرقة: الإشارة ب هُنالِكَ إلى حمايةِ الأصْنَامِ وعَضْدِهَا، أي: هؤلاءِ القومُ جندٌ مهزومٌ في هذهِ السبيلِ، وقال مجاهد: الإشارةُ ب «هنالكَ» إلى يوم بدر «3» ، وهي من الأمورِ المُغَيَّبَةِ أُخْبِرَ بها عليه السلام. «وما» في قوله: جُنْدٌ مَّا زائدةٌ مؤكِّدةٌ، وفيها تخصيصٌ، وباقي الآية بيِّنٌ. وقال أبو حَيَّانَ «4» جُنْدٌ خَبَرُ مبتدإٍ محذوفٍ، أي: هُمْ جُنْدٌ وما زَائِدَة أو صِفَة أُريدَ بها التعظيمُ على سبيل الهُزْءِ بهم/ أو الاسْتِخْفَافِ لأن الصفةَ تُسْتَعْمَلُ على هذين المعنيين، وهُنالِكَ ظرفُ مكانٍ يُشَارُ بهِ إلى البَعِيدِ، في مَوْضِعِ صِفَةٍ ل جُنْدٌ، أي: كائنٌ هنالك، أو متعلّق ب مَهْزُومٌ، انتهى.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 495) . (2) ينظر: المصدر السابق. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 555) برقم: (29766) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 49) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 495) عن مجاهد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 558) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة. (4) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 370) .

[سورة ص (38) : الآيات 15 إلى 19]

[سورة ص (38) : الآيات 15 الى 19] وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وقوله تعالى: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي: ينتظرُ، إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال قتادة: تَوَعَّدَهُمْ سُبْحَانَهُ بصيحةِ القِيَامَةِ والنفخِ في الصُّور «1» ، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وقد رُوِيَ هذا التفسيرُ مرفوعاً، وقالتْ طائِفَةٌ: تَوَعَّدَهُمْ اللَّهُ بِصَيْحَةٍ يُهْلَكُونَ بِهَا في الدنيا، مَّا لَها مِنْ فَواقٍ قرأ الجمهورُ- بفتح الفاءِ-، وقَرأ حمزةُ والكسائي «فُوَاق» - بِضم الفاء «2» -، قال ابن عباس: هما بمعنًى، أي: ما لَها من انْقِطَاعٍ وَعَوْدَةٍ، بَلْ هِي مُتَّصِلَةٌ حتى تُهْلِكَهُمْ «3» ، ومنه: فُوَاقُ الحَلْبِ، وهُوَ المُهْلَةُ التي بَيْنَ «الشُّخْبَيْنِ» ، وقال ابن زَيْدٍ وغيرُهُ: المعنى مُخْتَلِفٌ «4» ، فالضَّمُّ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى فُوَاقِ النَّاقَةِ، والفتحُ بِمَعْنَى الإفَاقَةِ، أيْ: لا يُفِيقُونَ فيها كما يُفِيقُ المَرِيضُ، والمَغْشِيُّ عَلَيْهِ، والْقِطُّ: الحَظُّ والنصيبُ، والْقِطُّ أَيْضاً الصَّكُّ والكتابُ من السُّلْطَانِ بِصِلة، ونحوهِ، واختلِف في الْقِطِّ هُنَا، ما أرادوا به؟ فقال ابن جُبَيْر: أرادوا به: عَجَّلْ لَنَا نَصِيبَنَا من الخَيْرِ والنَّعيمِ في دُنْيَانا «5» ، وقال أبو العالية: أرادوا عَجِّل لنا صُحُفَنَا بأيمانِنا «6» وذلك لمَّا سَمِعُوا في القرآن أَنَّ الصُحُفَ تعطى يوم القيامةِ بالأيْمَانِ والشَّمائِل، وقال ابن عباس وغَيره: أرادوا ضِدَّ هَذَا من العذابِ ونحوهِ «7» ، وهذا نظيرُ قولهم فَأَمْطِرْ

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 495) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 558) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «السبعة» (552) ، و «الحجة» (7/ 66) ، و «إعراب القراءات» (2/ 255) ، و «معاني القراءات» (2/ 325) ، و «شرح الطيبة» (5/ 190) ، و «العنوان» (163) ، و «حجة القراءات» (613) ، و «شرح شعلة» (564) ، و «إتحاف» (2/ 419) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 558) برقم: (29777) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 50) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 559) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 558) برقم: (29782) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 560) برقم: (29789) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 50) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) . (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 560) عن آخرين، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) عن أبي العالية، والكلبي. (7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 559) برقم: (29783) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 50) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 29) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 559) ، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس.

عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] قال ع «1» : وعلى كل تأويل، فكَلاَمُهُم خَرَجَ عَلى جِهَةِ الاستخفاف والهزء. وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أَي: فَتَأَسَّ به ولاَ تَلْتَفِتْ إلى هؤلاءِ، «والأيْدِ» القُوَّةُ في الدين والشرع والصَّدْعُ به، وال أَوَّابٌ الرَّجَّاعُ إلى طَاعةِ اللَّهِ، وقاله مجاهد وابن زيد «2» وفسَّره السُّدِّيُّ: بالمسبّح «3» ، وتسبيح الجبال هنا حقيقة، والْإِشْراقِ: ضياءُ الشَّمْسِ وارتفاعُها، وفي هذين الوَقْتَيْنِ كانت صلاَةُ بنِي إسرائيل، قال الثعلبيُّ: وليس الإشْرَاقُ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وإنما هو صَفَاؤُها وضوءها، انتهى. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «4» : قال [ابن عباس] «5» : ما كنتُ أعْلَمُ صلاةَ الضحى في القرآن حتى سمعتُ اللَّهَ تعالى يقول: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «6» قال ابن العربي «7» : أما صلاةُ الضحى فَهِي في هذه الآيةِ نافلةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، ولا ينبغي أنْ تصلى حتى تتبينَ الشمسُ طَالعةً قَدْ أشْرَقَ نُورُهَا، وفي صلاةِ الضحى أحاديثُ أُصُولُهَا ثلاثةٌ: الأولُ حديثُ أبي ذَرٍّ وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «يُصْبِحُ على كُلِّ سلامى مِنِ ابن آدَمَ صَدَقَةٌ تَسْليمُهُ على مَنْ لَقِيَ صَدَقَةٌ، وأَمْرُهُ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، ونَهْيُهُ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وإمَاطَتُهُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وبُضْعُهُ أهْلَهُ صَدَقَةٌ، ويجزىء مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ من الضّحى» «8» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 496) . [.....] (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 561) برقم: (29796) عن مجاهد، وبرقم: (29800) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) عنهما، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 560) ، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 562) برقم: (29799) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 51) عن سعيد بن جبير، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) عن السدي، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 560) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس، ولابن جرير عن مجاهد، ولابن أبي حاتم عن عمرو بن شرحبيل. (4) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1624) . (5) سقط في: د. (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 562) برقم: (29803) ، و (29804) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 51) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 496) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 30) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 561) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن عطاء الخرساني عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد عن عكرمة عن ابن عبّاس، ولابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عبّاس. (7) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1625) . (8) تقدم تخريجه.

الثَّانِي: حديثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجهنيّ عن أبيه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ قَعَدَ في مُصَلاَّهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حتى يُسَبِّحَ رَكْعَتَيْ الضحى لاَ يَقُولُ إلاَّ خَيْراً، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وإنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ» «1» . الثالثُ: حَدِيثُ أمّ هانىء أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلى يَوْمَ الفَتْحِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ «2» ، انْتَهَى. ت: وَرَوَى أبو عيسى/ الترمذيُّ وغَيْرُهُ عن أَنَسٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تعالى، حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تَامَّةٍ» «3» ، قَالَ الترمذيُّ: حديثٌ حَسَنٌ، انتهى. قال الشَّيْخُ أَبو الحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ في شرحه للبُخَارِيِّ: وعن زيدِ بْنِ أسْلَمَ قَال: سمعتُ عَبد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يقولُ لأبي ذَرٍّ: أوْصِنِي يَا عَمُّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: «مَنْ صَلَّى الضحى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافِلِينَ، وَمَنْ صلى أَرْبَعَاً، كتب من

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 411) كتاب «الصلاة» باب: صلاة الضحى برقم: (1287) ، وأحمد (3/ 439) ، والبيهقي (3/ 49) كتاب «الصلاة» باب: من استحب أن لا يقوم من مصلاه حتى تطلع الشمس. (2) أخرجه البخاري (1/ 469) كتاب «الصلاة» باب: الصلاة في الثوب الواحد، حديث (357) ، ومسلم (1/ 498) كتاب «صلاة المسافرين» باب: استحباب صلاة الضحى، حديث (82/ 336) ، وأبو داود (1/ 412) كتاب «الصلاة» باب: صلاة الضحى، حديث (1290- 1291) ، والنسائي (1/ 126) كتاب «الطهارة» باب: ذكر الاستتار عند الاغتسال، حديث (225) ، والترمذي (5/ 73- 74) كتاب «الاستئذان» باب: ما جاء في مرحبا، حديث (2734) ، وابن ماجه (1/ 439) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في صلاة الضحى، حديث (1379) ، ومالك (1/ 152) كتاب «قصر الصلاة في السفر» باب: صلاة الضحى، حديث (27- 28) ، وأحمد (6/ 341- 342- 343- 423- 425) ،، وأبو عوانة (2/ 269- 270) ، والدارمي (1/ 338- 339) كتاب «الصلاة» باب: صلاة الضحى، والحميدي (1/ 158، 160) برقم: (331- 332- 333) ، والبيهقي (3/ 48) كتاب «الصلاة» باب: ذكر من رواها ثمان ركعات، والبغوي في «شرح السنة» (2/ 517) - بتحقيقنا من طرق عن أم هانىء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلّى ثمان ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) أخرجه الترمذي (2/ 481) كتاب «الصلاة» باب: ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، من حديث أنس. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وفي الباب من حديث أبي أمامة: أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 209) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 107) كتاب «الأذكار» باب: ما يفعل بعد صلاة الصبح والمغرب. قال الهيثمي: إسناده جيد.

[سورة ص (38) : الآيات 20 إلى 22]

العَابِدِينَ، ومَنْ صلى ستًّاً، لَمْ يَلْحَقْهُ ذَلِكَ اليَوْمَ ذَنْبٌ، وَمَنْ صلى ثَمانياً، كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ صلى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» «1» انتهى. وَالطَّيْرَ: عطف على الجبال، أي: وسخّرنا الطير، ومَحْشُورَةً معناهُ مجموعةً، والضميرُ في «لهُ» قَالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائد على الله. عزّ وجلّ- ف كُلٌّ على هذا، يُرَادُ بهِ: دَاوُدُ والجبالُ والطيرُ، وقالت فرقة: هو عائدٌ على داودَ ف كُلٌّ على هذا يُرَادُ بهِ الجبالُ والطير. [سورة ص (38) : الآيات 20 الى 22] وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) وقوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ: عبارةٌ عامَّةٌ لجميعِ مَا وَهَبَه اللَّه تَعالى من قوَّةٍ وجندٍ ونعمةٍ، وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عباس وغيره: هو فَصْلُ القَضَاءِ بَيْنَ الناسِ بالحقِ وإصابتُه وفَهْمُه «2» ، وقال الشعبي: أرادَ قَوْلَ «أمَّا بَعْدُ» فإنه أَوَّلُ مَنْ قَالَها «3» ، قال ع «4» : والذَّي يُعْطِيهِ اللفظُ أنَّه آتاه فَصْلَ الخطابِ، بمعنى أنَّه إذا خَاطَبَ في نَازِلةٍ، فَصَلَ المعنى وأوْضَحَهُ، لا يأْخذُهُ في ذلك حَصَرٌ وَلا ضعف.

_ (1) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 239- 240) كتاب «العيدين» باب: صلاة الضحى، وعزاه إلى البزار. قال الهيثمي: فيه حسين بن عطاء ضعفه أبو حاتم، وغيره، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: يخطىء ويدلس. ا. هـ. وفي الباب من حديث أبي أمامة: ذكره الهيثمي أيضا في «مجمع الزوائد» (2/ 240) ، وعزاه إلى الطبراني في «الكبير» . قال الهيثمي: فيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه المديني وغيره، وبقية رجاله ثقات. اهـ. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 564) برقم: (29814) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29815) عن مجاهد، و (29816) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 52) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 497) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 30) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 563) ، وعزاه للحاكم عن السدي، ولابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، ولابن المنذر، عن مجاهد، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، عن أبي عبد الرحمن، ولعبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 565) برقم: (29826) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 52) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 497) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 30) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 564) ، وعزاه لابن جرير عن الشعبي، ولابن أبي حاتم، والديلمي عن أبي موسى الأشعري. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 497) . [.....]

[سورة ص (38) : الآيات 23 إلى 25]

وقوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ... الآية مخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، واسْتُفْتِحَتْ بالاسْتِفْهَام تَعْجِيباً مِنَ القصَّةِ وتفخيماً لها، والخصم يوصف به الواحد والاثنان والجمع، وتَسَوَّرُوا معناه: عَلَوْا سُورَهُ، وهو جَمْعُ «سُورَةٍ» وهي القطعةُ من البناء، وَتَحْتَمِلُ هذه الآيةُ أن يكون المتسوّر اثنين فَقَطْ، فَعَبَّرَ عَنْهُما بلَفْظِ الجَمْعِ، ويحتملُ أن يكونَ معَ كلِّ واحدٍ منَ الخَصْمَيْنِ جَمَاعَةٌ، والْمِحْرابَ المَوْضِعُ الأرْفَعُ مِنَ القَصْرِ أو المَسْجِدِ، وهو موضع التعبُّد، وإنما فَزِعَ منهم مِنْ حَيْثُ دَخَلُوا من غير الباب، ودون استئذان، ولا خلافَ بَيْن أهلِ التأويلِ أنَّ هذا الخَصْمَ إنما كانوا ملائكةً بَعَثَهُمْ اللَّهُ ضَرْبَ مَثَلٍ لداودَ، فاختصموا إليه في نازلةٍ قَدْ وَقَعَ هُو في نَحْوِهَا، فأَفْتَاهُمْ بِفُتْيَا هِي وَاقِعَةٌ عليه في نازلته، ولَمَّا شَعَرَ وَفَهِمَ المُرَادَ، خَرَّ رَاكِعاً وأَنَابَ، واسْتَغْفَرَ، وأمَّا نَازِلَتُهُ الَّتي وَقَع فِيها، ففيها للقُصَّاصِ تَطْوِيلٌ، فَلَمْ نَرَ سَوْقَ جَمِيعِ ذلكَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ. ورُوِيَ فِي ذلكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ما معناه أن دَاوُدَ كَانَ في مِحْرَابِهِ يَتَعَبَّدُ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ طَائِرٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، فَمَدَّ يَدَهُ إليْه ليأخذه، فزال مطمعا لَه مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى امْرَأَةٍ لَهَا مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ أنْ لَوْ كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ، وَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ أَنَّهَا امْرَأَةُ أُورِيَّا، وَكَانَ في الجِهَادِ فَبَلَغَهُ أنَّه اسْتُشْهِدَ فَخَطَبَ المَرْأَةَ، وَتَزَوَّجَهَا، فَكَانَتْ أُمَّ سُلَيْمَانَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ الخَصْمَ لِيُفْتِيَ «1» ، قَالَتْ فرقةٌ من العلماء: وإنما وَقَعَتْ المعَاتَبَةُ على/ هَمِّهِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْه شَيْءٌ سِوَى الهَمِّ، وكانَ لِدَاوُدَ فِيما رُوِيَ تِسْعٌ وتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَفي كُتُبِ بَنِي إسرائيل في هذه القصة صُوَرٌ لاَ تَلِيقُ، وقد قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ حَدَّثَ بِما قَالَ هؤلاءِ القُصَّاصُ في أَمْرِ دَاوُدَ، جَلَدْتُهُ حَدَّيْنِ لما ارتكب مِنْ حُرْمَةِ مَنْ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ «2» . وقوله: خَصْمانِ تقديره: نحن خصمان، وبَغى معناه: اعتدى واسْتَطَالَ، وَلا تُشْطِطْ معناه: وَلاَ تتعدّ في حكمك، وسَواءِ الصِّراطِ معناه: وسطه. [سورة ص (38) : الآيات 23 الى 25] إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 570) عن ابن عبّاس برقم: (29852) ، وبرقم: (29853) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 52) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 498) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 564) ، وعزاه لابن أبي شيبة في «المصنف» ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 499) .

وقوله: إِنَّ هَذَا أَخِي [إعرابُ «أخي» ] «1» عَطْفُ بَيَانٍ، وذلك أن مَا جرى من هذه الأشياء صِفةً كالخَلْقِ والخُلُقِ وسَائِر الأوْصَافِ، فَإنَّه نَعْتٌ مَحْضٌ، والعاملُ فيه هو العاملُ في الموصوفِ، وما كان مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ يُوصَفُ بهِ بَتَّةً، فهو بَدَلٌ والعَامِلُ فيه مُكَرَّرٌ أي: تقديراً يقال: جَاءَنِي أخوك زيدٌ، فالتقديرُ: جَاءَنِي أَخُوكَ، جَاءَنِي زَيْدٌ، ومَا كَان مِنْها مِمَّا لاَ يُوصَفُ بهِ واحتيج إلى أنْ يُبَيَّنَ بِه، وَيَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ. «والنعجة» في هذه الآيةِ عَبَّرَ بِهَا عَنِ المَرْأَةِ، والنعجةُ في كلام العرب: تقعُ على أنثى بَقَرِ الوَحْشِ، وعلى أُنْثَى الضَّأْنِ، وتُعَبّرُ العَرَبُ بِهَا عن المَرْأَةِ. وقوله: أَكْفِلْنِيها أي: رُدَّهَا في كَفَالَتِي، وقال ابنُ كَيْسَانَ: المعنى: اجعلها كِفْلِي، أي: نَصِيبي، وَعَزَّنِي معناه: غَلَبَنِي، ومنه قول العربِ: «مَنْ عَزَّ بَزَّ» أي: مَنْ غَلَبَ، سَلَبَ، ومعنى قوله: فِي الْخِطابِ أي: كان أوْجَهَ مِنِّي، فإذَا خَاطَبْتُهُ، كانَ كلامُه أقوى من كلامي، وقُوَّتُهُ أعْظَمَ مِنْ قُوَّتِي. ويروى أنَّه لَمَّا قَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ، تَبَسّما عند ذلكَ، وَذَهَبَا، وَلَمْ يَرَهُما لحِينه، فَشَعَرَ حينئذ للأمْرِ، ويروى أنّهما ذهبا نحو السّماء بمرأى منه. والْخُلَطاءِ: الشُّرَكَاءِ في الأمْلاَكِ، والأُمُورِ، وهذا القَوْلُ مِنْ دَاوُدَ وَعْظٌ لِقَاعِدَةِ حَقٍّ، ليُحَذِّرَ الخَصْمَ مِنَ الوُقُوعِ في خلافِ الحقِّ. وقوله تعالى: «إِلاَّ الذين ءامنوا وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ» : قال أبو حيان «2» : وَقَلِيلٌ خبرٌ مقدَّم، و «مَا» زائِدةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، انتهى. وَرَوَى ابْنُ المبارَكِ في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أشَدُّ الأعْمَالِ ذِكْرُ اللَّهِ على كُلِّ حَالٍ، والإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاةُ الأخِ في المال» «3» انتهى. وقوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ معناه: شعر للأمر وعلمه، وفَتَنَّاهُ أي: ابْتَلَيْنَاهُ وامْتَحَنَّاهُ، وقال البخاريُّ: قال ابن عبّاس: فَتَنَّاهُ أي: اختبرناه، وأسند البخاريّ

_ (1) سقط في: د. (2) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 377) . (3) ذكره الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (6/ 326) من طريق الشافعي عن مالك، عن نافع، عنِ ابن عمر، وقال: وهذا موضوع على هؤلاء رقم: (1163) .

[سورة ص (38) : الآيات 26 إلى 28]

عن مجاهدٍ قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عَنْ سجدة «ص» أين تَسْجُدُ، فَقَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الأنعام: 84] إلى قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] فَكَانَ داوُد مِمَّن أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أنْ يَقْتَدِيَ بهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» ، انتهى، فتأمَّلَهُ وما فيه مَنَ الْفِقْهِ، وقَرأ أبو عمرٍو في رِوَاية علي بن نَصْرٍ: «فَتَنَاهُ» - بتخفيفِ التاء والنون- على إسنادِ الفعلِ للخَصْمَيْنِ «2» ، أي: امتحناه عَنْ أَمْرِنَا، قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: «رأيتُنِي في النوم أكتُبُ سورَة «ص» فَلَما بَلَغْتُ/ قَوْلَهُ: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ سَجَدَ القلمُ، ورَأيتُنِي في مَنامٍ آخَرَ، وشَجَرَةٌ تَقْرَأُ سورة «ص» فلما بَلَغَتْ هَذَا، سَجَدَتْ، وَقَالَتْ: اللَّهُمَّ، اكْتُبْ لِي بِهَا أجْراً، وَحُطَّ عَنِّي بِهَا وِزْراً، وارزقني بِهَا شُكْراً، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَها من عبدك داود، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَسَجَدْتَ أنْتَ يَا أَبا سَعِيد؟ قُلْتُ: لاَ، قال: أَنْتَ كُنْتَ أَحَقَّ بالسَّجْدَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، ثم تَلاَ نبيُّ اللَّهِ الآياتِ حتى بَلَغَ: وَأَنابَ، فَسَجَدَ، وقَالَ كَمَا قَالَتِ الشَّجَرَةُ» . وَأَنابَ مَعْنَاهُ: رَجَعَ، ت: وحديثُ سجودِ الشجرةِ رواهُ الترمذيُّ وابن ماجَه والحاكمُ وابنُ حِبَّان في «صحيحَيْهما» ، وقال الحاكم: هو منْ شَرْطِ الصِّحَّةِ، انتهى من «السلاح» . والزُّلْفَى: القُرْبَةُ والمكانةُ الرفيعةُ، والمآب: المرجع في الآخرة من آب يؤوب: إذا رجع. [سورة ص (38) : الآيات 26 الى 28] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) وقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ تقديرُ الكلامِ: وقُلْنَا لَهُ يا داوُدُ، قال ع «3» : ولاَ يُقَالُ: خليفةُ اللَّهِ إلا لرسولِه، وأما الخلفاءُ، فكل واحد

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 405) كتاب «التفسير» باب: سورة ص: (4807) ، (4806) نحوه، وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 370) كتاب «الصلاة» باب: من قال في- ص- سجدة وسجد فيها (4255، 4259، 4268) عن ابن عبّاس نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 571) . (2) ينظر: «السبعة» (553) ، و «الحجة» (6/ 70) ، و «معاني القراءات» (2/ 327) ، و «إتحاف» (2/ 421) ، وذكرها الأخير عن الشنبوذي. وينظر: «المحتسب» (2/ 232) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 502) .

[سورة ص (38) : الآيات 29 إلى 33]

خَليفَةٌ للذي قَبْلَهُ، ومَا يَجِيءُ في الشِّعْرِ مِنْ تَسْمِيَة أحدهِم خليفةَ اللَّه! فذلك تجوُّزٌ وَغُلُوٌّ أَلا ترى أن الصَّحابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- حَرَزُوا هذا المعنى، فقالوا لأبي بَكْرٍ: خليفةُ رسولِ اللَّهِ، وبهذا كَانَ يدعى مدةَ خلافَتِه، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قالُوا: يا خليفةَ خليفةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَطالَ الأمْرُ، وَرأَوْا أنَّهُ في المُسْتَقْبَلِ سَيَطُولُ أكْثَرَ فَدَعَوْهُ أَمِيرَ المُؤمنينَ، وقُصِرَ هَذا الاسْمُ عَلى الخُلَفَاءِ. وقوله: فَيُضِلَّكَ قالَ أبو حيان «1» : منصوبٌ في جوابِ النَّهْي، (ص) أبو البقاءِ وقيل: مجزومٌ عَطْفاً عَلَى النَّهْيِ وفُتِحَتِ [اللامُ] «2» لالْتِقَاءِ الساكنين، انتهى. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ: اعْتِرَاضٌ فصيحٌ بين الكلامينِ من أمرِ داود وسليمان، وهو خطاب لنبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وعظة لأمّته، ونَسُوا في هذه الآية مِعْنَاهُ تَرَكُوا، ثم وقفَ تَعالى عَلى الفَرْقِ عندَه بيْنَ المؤمِنينَ العامِلينَ بالصَّالِحَاتِ وبَيْنِ المفْسِدِينَ الكَفَرَةِ وبَيْنَ المتَّقِينَ والفُجَّارِ، وفي هَذَا التوقيفِ حَضٌّ عَلَى الإيمانِ والتقوى، وتَرْغِيبٌ في عَمَل الصالحات، قَال ابنُ العَرَبِيِّ «3» : نَفَى اللَّهُ تَعَالَى المساواةَ بَيْنَ المؤمِنينَ والكافِرِينَ، وبَيْنَ المتقينَ والفُجَّار فلا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ في الآخرةِ، كَما قَالهُ المفَسِّرون ولاَ في الدُّنْيَا أيْضاً لأنَّ المؤمنينَ المتقينَ معصومُونَ دَماً ومالاً وعرْضاً، والمُفْسِدُونَ في الأرض والفُجَّارُ مُبَاحُو الدَّمِ والمالِ والعِرْضِ، فَلاَ وَجْهَ لِتَخْصِيصِ المفسِّرِينَ بِذَلِكَ في الآخرة دون الدُّنْيَا، انتهى من «الأحكام» وهذا كما قال، وقوله تعالى في الآية الأخرى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ [الجاثية: 21] يشهد له، وباقي الآية بيّن. [سورة ص (38) : الآيات 29 الى 33] كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وقوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ قال الغَزَّالِيُّ في «الإحْيَاءِ» : اعْلَمْ أن القرآن مِنْ أَوَّلِه إلى آخِرِه تحذيرٌ وتخويفٌ لاَ يَتَفَكَّرُ فيه مُتَفَكِّرٌ إلا وَيَطُولُ حُزْنُهُ، وَيَعْظُمُ خَوْفُه إنْ كَانَ مُؤْمِناً بِمَا فِيه، وَتَرى النَّاسَ يَهْذُّونَهُ هَذًّا، يُخْرِجُونَ الحُروفَ مِنْ مُخَارِجِها، ويَتَنَاظَرُونَ على خَفْضِها ورَفْعِها وَنَصْبِها، لاَ يَهُمُّهُمْ الالتفات إلى معانيها والعمل

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 378) . (2) سقط في: د. (3) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1646) .

96- ب بما فِيها، وَهَلْ/ في العِلم غُرُورٌ يَزِيدُ على هذا، انتهى من كِتَابِ ذَمِّ الغُرُور. واختلفَ المتأولونَ في قَصَصِ هذهِ الخيل المَعْرُوضَةِ على سليمان ع فقال الجمهور: إنّ سليمان ع عُرِضَتْ عليه آلافٌ مِنَ الخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ، فأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عِشَاءً، فَتَشَاغَلَ بجريها وَمَحَبَّتِهَا، حتى فَاتَهُ وَقْتُ صَلاَةِ العَشِيِّ، فَأَسِفَ لِذَلِكَ وَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الخَيْلَ فَطَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعْنَاقَها بالسَّيْفِ، قَالَ الثَّعْلَبيُّ وغيره، وجَعَل يَنْحَرُهَا تَقَرُّباً إلى اللَّهِ تعالى حيثُ اشْتَغَل بِهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وكان ذلكَ مُبَاحاً لَهُمْ كما أُبِيحَ لَنا بهيمةُ الأنْعَامِ، قال ع «1» : فَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَبْدَلَهُ مِنْهَا أَسْرَعَ منها، وهي الرِّيحُ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «2» : والْخَيْرِ هنا هي الخيل وكذلكَ قَرأَها ابنُ مَسْعُود: «إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْلِ» «3» انتهى، و «الصَّافِنُ» : الذي يَرْفَعُ إحدى يديه وقَدْ يَفْعَلُ ذلكَ برِجْلِهِ وهي علامةُ الفَرَاهِيَة وأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ «4» : [الكامل] أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّه ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسِيرَا «5» قالَ بَعْضُ العلَماء: الْخَيْرِ هنَا أرادَ به الخَيْلَ، والعَرَبُ تُسَمي الخَيْلَ، الخَيْرَ، وفي مِصْحَفِ ابْن مَسْعُودٍ: «حُبَّ الخَيْلِ» باللامِ. والضميرُ في تَوارَتْ للشمسِ، وإن كَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْرٌ، لأنَّ المعنى يَقْتَضِيهَا، وأيضاً فَذِكْرُ العَشِيِّ يَتَضَمَّنُهَا، وقالَ بعضُ المفسرينَ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، أَي: الخيلُ دَخَلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، وقال ابنُ عبَّاسٍ والزُّهْرِيُّ: مَسْحُهُ بالسُّوقِ والأَعْنَاقِ لَمْ يَكُنْ بالسَّيْفِ بل بيدهِ تَكْرِيماً لَها ورَجَّحَهُ الطبريُّ «6» ، وفي البخاري: فَطَفِقَ مَسْحاً يمسحُ أعْرَافَ الخَيلِ وعَرَاقِيبَهَا انتهى، وعن بعضِ العلماءِ أَنَّ هذهِ القصةَ لَمْ يَكُنْ فيها فَوْتُ صلاةٍ، وقالوا: عُرِضَ على سليمانَ الخيلُ وهو في الصلاةِ، فأشَارَ إليهم أي: إني في صلاة،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 503) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1648) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 504) . [.....] (4) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 330) . (5) البيت بلا نسبة في «الأزهية» ص: (87) ، و «أمالي ابن الحاجب» (2/ 635) ، و «شرح شواهد المغني» (2/ 729) ، و «لسان العرب» (13/ 248) (صفن) ، و «مغني اللبيب» (1/ 318) ، وينظر: «الكشاف» (2/ 284) ، و «البحر المحيط» (7/ 388) ، و «الدر» (5/ 534) . (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 579) برقم: (29892) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 61) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 504) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 34) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 580) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

[سورة ص (38) : الآيات 34 إلى 35]

فأزَالُوهَا عَنْهُ حتى أَدْخَلُوها في الإصْطَبْلاَتِ، فقالَ هو، لَمَّا فَرَغَ من صلاته: إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخيرِ، أي: الذي عِنْدَ اللَّهِ في الآخِرةِ بسببِ ذِكْرِ ربي، كَأَنه يقول: فَشَغَلَنِي ذلكَ عَنْ رُؤْيَةِ الخيلِ، حتى أُدْخِلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا، رُدُّوهَا عَليّ، فَطَفِقَ يَمْسَحُ أعْرَافَهَا وسُوقَهَا، تَكْرمةً لها، أي: لأَنَّها معدَّةٌ للجهَادِ، وهذا هو الراجحُ عند الفخر «1» ، قال: ولو كانَ معنى مَسْحِ السُّوقِ والأعناقِ قَطْعَهَا لَكَانَ معنى قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] قطعَهَا ت: وهَذَا لا يلزمُ للقرينَةِ في الموضعين، اهـ. قال أبو حَيَّان «2» : وحُبَّ الْخَيْرِ قال الفراء: مفعول به، وأَحْبَبْتُ مُضَمَّنٌ معنى آثَرْتُ، وقيلَ: منصوبٌ على المصدرِ التَّشْبِيهِي، أي: حبًّا مِثْلَ حُبِّ الخير، انتهى. وقوله تعالى: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي «عن» على كُلِّ تَأويلٍ هنا للمُجَاوَزَةِ من شيءٍ إلى شَيْءٍ، وَتَدَبَّرْهُ فإنه مطّرد. [سورة ص (38) : الآيات 34 الى 35] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) وقوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ... الآية، ت: اعْلَمْ- رَحِمَكَ اللَّهُ- أن الناسَ قَدْ أَكْثَرُوا في قَصَصِ هذهِ الآيةِ بما لاَ يُوقَفُ على صِحَّتِه، وحكى الثعلبي في بعض الروايات أنّ سليمان ع لَما فُتِنَ، سَقَطَ الخَاتَمُ مِنْ يَدِه، وَكَانَ فِيه مُلْكُهُ، فأعاده إلى يده، فَسَقَطَ وأَيْقَنَ بالفتنة، وأَنَّ آصِف بْنَ بَرْخِيَّا قال له: يا نبيَّ اللَّهِ، إنَّكَ مَفْتُونٌ ولذلكَ/ لاَ يَتَمَاسَكُ الخَاتَمُ فِي يَدِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْماً فَفِرَّ إلى اللَّهِ تعالى تَائِباً مِنْ ذَنْبِكَ، وَأَنَا أَقُومُ مَقَامَكَ في عَالَمِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى إلى أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ تعالى عَلَيْكَ، فَفَرَّ سُلَيْمَانُ هَارِباً إلى رَبِّهِ مُنْفَرِداً لِعِبَادَتِهِ، وأَخَذَ آصِفُ الخَاتَمَ، فَوَضَعَهُ في يدِه، فَثَبَتَ، وقيلَ: إن الجَسَدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هُو آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وهو الذي عندَه عِلْمٌ مِن الكتَابِ، وأقام آصِفُ في ملكِ سليمانَ وعيالِهِ يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ الحسَنةِ، ويَعْمَلُ بِعَمَلِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يوماً إلى أَنْ رَجَعَ سليمانُ إلى منزله تائِباً إلى اللَّه تعالى، ورَدَّ اللَّه تعالى عليه مُلْكَهُ، فأَقَامَ آصِفُ عن مجلسهِ، وجَلَسَ سليمانُ على كُرْسِيِّهِ، وأعادَ الخاتَمَ، وقالَ سَعِيدُ بن المسيِِّب: إن سليمانَ بنَ دَاوُدَ- عليهمَا السلامُ- احتجب عنِ الناسِ ثلاثةَ أَيَّامٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: أَنْ يا سُلَيْمَانُ، احتجبت عنِ الناس ثلاثة أيّام، فلم

_ (1) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (26/ 179) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 380) .

تَنْظُرْ في أمُورِ عِبَادِي، ولم تُنْصِفْ مَظْلُوماً مِنْ ظَالِمٍ، وذكر حديثَ الخاتم كما تقدَّم، انتهى، وهذَا الذي نقلناه أشْبَهُ ما ذُكِرَ، وأَقْرَبُ إلى الصَّوَابِ واللَّه أعلم، وقال عِيَاضٌ: قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ معناه: ابتَلَيْنَاهُ، وابتلاؤه: هُو مَا حُكِي في الصحيحِ أنه قال: «لأَطُوفَنَّ الليلةَ على مِائَةِ امرأة كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجِاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يقل: «إن شاء الله» فلم تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلا امرأةٌ جاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ» «1» ، الحديث، قال أصحابُ المعانِي: والشِّقُّ هو الجسدُ الذي أُلْقِيَ على كرسيه حين عُرِضَ عليه وهي كانتْ عقوبتُهُ ومحنته، وقيل: بَلْ مَاتَ، وألْقِيَ على كُرْسِيِّهِ مَيِّتاً، وأما عَدَمُ استثْنَائِه فأحْسَنُ الأجوبةِ عنه، ما رُوِيَ في الحديثِ الصحيح أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إنْ شَاءَ اللَّهُ» ، ولاَ يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الإخباريُون من تَشَبُّه الشيطانِ به وتسَلُّطِهِ على مُلْكِهِ، وتصرُّفِه في أمَّتِه لأن الشَيَاطِينَ لاَ يُسَلَّطُونَ على مِثْلِ هذا، وقد عُصِمَ الأنبياءُ من مثله، انتهى، ت: قالَ ابن العربي: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يَعني جسدَه لا أجْسَادَ الشَّيَاطينِ كما يقولُه الضعفاءُ، انتهى من «كتاب تفسير الأفعال» له، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامَه» : وما ذكره بعضُ المفسِّرينَ مِنْ أن الشيطان أخذَ خاتَمَهُ، وجَلَسَ مجلسَه، وحَكمَ الخَلْقَ على لسانِه- قولٌ باطلٌ قَطْعاً- لأن الشياطينَ لا يَتَصَوَّرُونَ بِصُوَرِ الأَنْبِيَاءِ ولا يُمَكَّنُونَ من ذلك حتى يظنَّ الناسُ أنَّهم مع نبيِّهم في حَقٍّ، وهم مَعَ الشياطينِ في بَاطِلٍ ولو شاءَ ربُّكَ لوَهَبَ من المعرفةِ [والدِّينِ] لمنْ قَالَ هذا القولَ ما يَزَعُهُ عن ذِكْرِهِ، ويَمْنَعُهُ مِن أَنْ يَسْطُرَهُ في دِيوَان من بعده، انتهى. وقوله: وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ ... الآية، قال ع «2» : من المقطوعِ به أنّ سليمان ع إنما قَصَدَ بذلكَ قَصْداً بِرًّا لأن للإنسان أن يرغبَ من فضلِ اللَّهِ فيما لا يَنَالهُ أحدٌ لا سيما بِحَسَبِ المَكَانَةِ والنبوَّةِ.

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 41) كتاب «الجهاد والسير» باب: من طلب الولد للجهاد (2819) ، (6/ 528) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: قول الله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (3424) ، (9/ 250) كتاب «النكاح» باب: قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي (5242) ، (11/ 533) كتاب «الأيمان والنذور» باب: كيف كانت يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ (6639) ، (11/ 610) كتاب «كفارات اليمين» باب: الاستثناء في الأيمان (6720) ، (13/ 455) كتاب «التوحيد» باب: في المشيئة والإرادة (7469) ، ومسلم (3/ 1275، 1276) ، كتاب «الأيمان» (7469) باب: يمين الحالف على نية المستحلف (23/ 1654- 25/ 1654) والنسائي (7/ 25، 26) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب: إذا حلف فقال له رجل إن شاء الله، هل له استثناء؟ (3831) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 505) .

[سورة ص (38) : الآيات 36 إلى 48]

[سورة ص (38) : الآيات 36 الى 48] فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) وقوله تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ ... الآية، كَانَ لسليمانَ كُرْسِيٌّ فيه جنودُهُ، وتأتي/ عليه الريحُ الإعصارُ، فَتَنْقُلُهُ من الأرضِ حتى يَحْصُلَ في الهواء، ثم تتولاَّهُ الرُّخَاءُ وهي اللَّيِّنَةُ القويَّةُ لا تَأْتِي فيها دُفْعٌ مُفْرِطَةٌ فَتَحْمِلُهُ غُدُوُّهَا شهر ورواحها شهر، وحَيْثُ أَصابَ: معناه: حيثُ أراد قاله وهْبٌ وغيره «1» ، قال ع «2» : وَيُشْبِهُ أنَّ (أَصَابَ) معدى «صَابَ يَصُوبُ» ، أي: حيث وَجَّه جنودَه، وقال الزَّجَّاج «3» : معناه: قصدَ، قلت: وعليه اقْتَصَرَ أبو حيَّان فإنه قال: أصاب: أي قَصَدَ وأنْشَد الثعلبيُّ: [المتقارب] أَصَابَ الكَلاَمَ فَلَمْ يَسْتَطِع ... فَأَخْطَا الجواب لَدَى المَفْصِلِ «4» انتهى. وقوله: كُلَّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ من الشَّياطِينَ ومُقَرَّنِينَ معناه: موثقين قد قرن بعضهم ببعض، والْأَصْفادِ القيودُ والأغْلاَلُ، قال الحَسَنُ: والإشارةُ بقوله: هذا عَطاؤُنا ... الآية، إلى جميع ما أعطاهُ اللَّه سبحانه مِنَ الملكِ «5» وأمرَه بأن يَمُنَّ عَلى من يشاءُ ويُمْسِكُ عَمَّنْ يشاء، فكأنه وَقَفَهُ على قَدْرِ النِّعمة، ثم أباح له التصرُّفَ فيه بمشيئته وهذا أصح الأقوال وأجمعها لتفسير الآية، وتقدَّمت قصة أَيُّوبَ في سورة الأنبياء.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 584) برقم: (29917) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29919) عن مجاهد، وبرقم: (29920) عن الحسن، و (29923) عن وهب بن منبه، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 65) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 506) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 587) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، ولابن المنذر عن الضحاك. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 506) . (3) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 333) . (4) ينظر: البيت في «البحر المحيط» (7/ 382) ، و «الدر المصون» (5/ 536) والقرطبي (15/ 134) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 585) برقم: (29929) عن الحسن، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 506) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 588) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

وقوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ ... الآية، النُّصْبُ: المَشَقَّةُ، فيحتمل أن يشيرَ إلى مسّه حين سلَّطَهُ اللَّه على إهلاكِ مالِه وولدِه وجِسْمِه حَسْبَما رُوِيَ في ذلك، وقِيلَ: أشار إلى مسِّه إياه في تعرُّضِه لأَهْلِه وطلبهِ منْهَا أنْ تُشْرِكَ باللَّه فكأَنَّ أَيُّوبَ تشكى هذا الفَصْلَ، وكان عليه أشدَّ مِن مَرَضه، وهنا في الآية محذوفٌ تقديرُه: فاسْتَجَابَ له وقَال: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرُوِيَ أَن أيوب رَكَضَ الأرض فَنَبَعَتْ له عينُ ماءٍ صافيةٌ باردةٌ فشرِبَ منها، فذهَبَ كُلُّ مَرَضٍ في دَاخِلِ جَسَدهِ، ثم اغْتَسَلَ فذهبَ ما كانَ في ظاهِر بَدَنِه، ورُوِيَ أن اللَّه تعالى وَهَبَ له أهلَه ومالَه في الدنيا، ورَدَّ من ماتَ منهم، وما هلكَ من ماشيته وحالِه، ثم باركَ له في جميعِ ذلك، ورُوِيَ أن هذا كلَّه وُعِدَ به في الآخِرَة، والأول أكْثَرُ في قول المفسِّرين. ت: وعن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ، إذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنُ: اللَّهُمَّ، إني عَبْدُكَ وابْنُ عَبْدِكَ وابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسم هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوِ استأثرت بهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إلاَّ أذْهَبَ اللَّهُ غَمَّه وَأبدَلَه مكَانَ حُزْنِهِ فَرَحَاً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: يَنْبَغي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ؟ قَالَ: أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ» «1» . قال صاحب «السِّلاَح» : رواه الحاكمُ في «المُسْتَدْرَكِ» ، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» . ت: وروينَاهُ من طريقِ النوويِّ عنِ ابن السُّنِّيِّ بسندهِ عن أبي موسى الأشعريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «أنا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابنُ أَمَتِكَ في قَبْضَتِكَ» ، وفيه: «فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إنَّ المَغْبُونَ لَمَنْ غُبِنَ هَؤُلاَءِ الكلماتِ، فَقَالَ: أَجَلْ، فَقُولُوهُنَّ/ وَعَلِّمُوهُنَّ مَنْ قَالَهُنَّ، التماس مَا فِيهِنَّ أَذْهَبَ اللَّهُ تعالى حُزْنَهُ وَأَطَالَ فَرَحَه» «2» انتهى.

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 452) ، وابن حبان في «صحيحه» (3/ 253) كتاب «الرقائق» باب: الأدعية ذكر الأمر لمن أصابه هم أو حزن أن يسأل الله ذهابه عنه وإبداله إياه فرحا (972) ، وابن حبان (7/ 404، 405) - الموارد باب: ما يقول إذا أصابه هم أو حزن (2372) ، وأبو يعلى (9/ 198- 199) (331/ 5297) ، والحاكم (1/ 509) كتاب «الدعاء» والشجري في «أماليه» (1/ 299) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 139) ، (10/ 189- 190) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلّم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه. ا. هـ. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 139) رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. (2) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (334) . [.....]

وقوله: وَذِكْرى معناه: موعِظَةٌ وتذكرةٌ يَعْتَبِرُ بها أُولُو العقولِ، وَيَتَأَسَّوْنَ بِصَبْرِهِ في الشدائدِ، ولا يَيْئَسُونَ من رحمة اللَّه على حال. ورُوِي أن أيّوب ع كانت زوجَتُهُ مدَّةَ مَرَضِه تَخْتَلِفُ إلَيْه فيتلقَّاها الشيطانُ في صورة طَبِيبٍ، ومرةً في هيئة نَاصِح وعلى غير ذلك، فيقول لها: لو سَجَدَ هذَا المريضُ للصَّنَمِ الفُلاَنِيِّ لَبَرِىءَ، لَوْ ذَبَحَ عَنَاقاً للصَّنَمِ الفُلاَنِيِّ لَبِرىءَ، ويَعْرِضُ عليها وجوهاً من الكفر، فكانَتْ هي ربَّما عرضت شَيْئاً من ذلك على أيوب، فيقولُ لها: لقيتِ عَدُوَّ اللَّهِ في طريقك، فلمَّا أغْضَبَتْهُ بهذا ونحوِهِ حلَفَ عليها لَئِن برىء من مرضِه ليضربنَّها مائةَ سَوْطٍ، فلما بَرِىءَ أَمَرَه اللَّه تعالى أن يأخُذَ ضِغْثاً فيه مائةُ قَضِيبٍ، «والضغثُ» : القبضةُ الكبيرةُ من القضبانِ ونحوِها مَنَ الشجرِ الرَّطْبِ قاله الضَّحَّاكُ «1» وأهلُ اللغة، فيضربُ بهِ ضربةً واحدةً، فَتَبَرُّ يمينُهُ وهذا حكمٌ قد وَرَدَ في شرعِنا عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم [مِثلُه في حدِّ الزنا لرجُلِ زَمِنٍ، فأمَرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] «2» بِعِذْقِ نَخْلَةٍ فِيهِ شَمَارِيخُ مِائَةٌ أو نَحْوُهَا، فَضُرِبَ ضَرْبَةً «3» ، ذكر الحديثَ أبو داود، وقال بهذا بعضُ فقهاء الأمة، وَلَيْسَ يرى ذلك مالكُ بنَ أنس وأصحابه، وكذلك جمهورُ العلماء على ترك القول به، وأن الحدودَ والبِرَّ في الأيمانِ لا تقع إلا بتمام عَدَدِ الضَّرَبَاتِ، وقرأ الجمهور «أولي الأيدي» «4» يعني: أولي القوة في طاعةِ اللَّه قاله ابن عباس ومجاهد «5» ، وقالت فرقة: معناه: أولى الأيدي والنِّعَمِ الَّتي أسْدَاها اللَّهُ إليهم من النبوَّة والمكانةِ، وَالْأَبْصارِ عبارةٌ عن البصائِر، أي: يُبْصرونَ الحقائِقَ وينظرونَ بنورِ اللَّهِ تعالى، وقرأ نافع وحده: «بخالصة ذكرى الدّار» «6» ، على

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 591) برقم: (29956) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 508) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 591) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عبّاس. (2) سقط في: د. (3) أخرجه أبو داود (2/ 567) كتاب «الحدود» باب: في إقامة الحد على المريض (4472) ، وابن ماجه (2/ 859) كتاب «الحدود» باب: الكبير والمريض يقام عليه الحد (2574) ، وأحمد (5/ 222) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 509) ، و «البحر المحيط» (7/ 385) ، و «الدر المصون» (5/ 537) . (5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 592) برقم: (29960) عن ابن عبّاس، وبرقم: (29963) عن مجاهد، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 66) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 509) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 40) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 593) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد عن مجاهد. (6) ينظر: «السبعة» (554) ، و «الحجة» (6/ 72) ، و «معاني القراءات» (2/ 328) ، و «شرح الطيبة» (5/ 192) ، و «العنوان» (163) ، و «حجة القراءات» (613) ، و «شرح شعلة» (565) ، و «إتحاف» (2/ 422) .

[سورة ص (38) : الآيات 49 إلى 54]

الإضافة، وقرأ الباقون «بِخَالِصَةٍ» على تنوينِ «خالِصَةٍ» ف «ذكرى» على هذه القراءةِ بدلٌ من خالِصَةٍ فيحتملُ أنْ يكونَ معنى الآية: أنا أخلصناهم بأن خَلُصَ لهم التذكيرُ بالدارِ الآخرةِ ودعاءِ الناس إليها وهذا قول قتادةَ «1» ، وقيل المعنى: أنا أخْلَصْنَاهم، بأنْ خَلُصَ لهم ذكرَهم للدارِ الآخرة وخوفُهم لها والعملُ بحسب ذلك وهذا قول مجاهد «2» ، وقال ابن زيد: المعنى أنا وَهَبْنَاهُمْ أَفْضَلَ مَا في الدارِ الآخرةِ، وأخْلَصْناهم به، وأعطيناهم إياه «3» ، ويحتمل أن يريدَ بالدارِ دارَ الدنيا على معنى ذكر الثناءِ والتعظيم من الناس. [سورة ص (38) : الآيات 49 الى 54] هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) وقوله تعالى: هذا ذِكْرٌ يحتملُ معنييْنِ: أحدهما: أن يشيرَ إلى مَدْحِ مَنْ ذُكِرَ وإبقاءِ الشَّرَفِ له، فيَتأيَّدُ بهذا قولُ مَنْ قَال: إن الدارَ يرادُ بها الدنيا. والثاني: أن يُشيرَ بهذا إلى القرآن، أي: ذكرٌ للعالم. وجَنَّاتِ بدل من لَحُسْنَ مَآبٍ ومُفَتَّحَةً نعت ل جَنَّاتِ، والْأَبْوابُ مفعولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعله، وباقي الآيةِ بيِّن. [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 61] هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 593) برقم: (29969) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 66) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 509) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 593) ، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 593) برقم: (29970) عن مجاهد، و (29971) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 66) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 509) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 40) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 593) ، وعزاه لابن المنذر. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 594) برقم: (29972) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 66) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 509) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 593) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.

وقوله سبحانه: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ... الآية، التقديرُ: الأمرُ/ هذا، ويحتمل أنْ يكونَ التقديرُ: هذا واقعٌ أو نحوَهُ، و «الطغيان» هنا في الكُفْرِ. وقوله تعالى: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ قرأ الجمهورُ: «غَسَاق» - بتخفيف السينِ «1» - وهو اسم بمعنى السائِل، قال قتادةُ: الغَسَاقُ: ما يَسِيلُ من صديدِ أهلِ النار «2» ، قال- ص-: الغَسَاقُ السَّائِل، وعن أبي عبيدةَ أيضاً: الباردُ المُنْتِنُ بلُغَةِ التُّرْكِ «3» ، انتهى، قال الفخرُ «4» : هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فيه وجْهَانِ: الأول على التقديمِ والتأخير، والتقديرُ: هذا حميمٌ وغساقٌ أي: منه حميمٌ وغساقٌ، انتهى، ت: والوجهُ الثاني: أنَّ الآيةَ لَيْسَ فيها تقديمٌ ولا تأخير وهو واضح، وقرأ الجمهور وَآخَرُ بالإفرادِ، ولَهُمْ عذابٌ آخَرُ، ومعنى مِنْ شَكْلِهِ أي: من مِثْلِهِ وضَرْبِهِ، وقرأ أبو عمرو وحده: «وأخر» على الجمع «5» ، وأَزْواجٌ معناه: أنواع، والمعنى: لهم حميمٌ وغساقٌ، وأغذية أُخَرُ من ضَرْبِ ما ذُكِرَ. وقوله تعالى: هذا فَوْجٌ هو مِمَّا يُقَالُ لأهْلِ النارِ، إذا سِيقَ عامَّةُ الكفَّارِ والأتباعِ إليها لأن رؤساءَهم يَدْخلونَ النارَ أولاً، والأظهرُ أنَّ قائلَ ذلكَ لَهُمْ ملائكةُ العذابِ، وهو الذي حكَاه الثعلبيُّ وغَيْرُهُ، ويحتملُ أنْ يكونَ ذلكَ من قولِ بعضِهم لبعض، فيقولُ البعضُ الأخرُ: لاَ مَرْحَباً بِهِمْ أي، لا سَعَةَ مَكَانٍ، ولا خَيْرَ يَلْقَوْنَهُ. وقوله: بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ حكايةٌ لقولِ الأتبَاعِ لرؤسائِهم، أي: أنتم قَدَّمْتُمُوهُ لنا بإغوائِكم وأسلفتم لنا ما أوجب هذا، قال العراقيّ: [الرجز]

_ (1) وقرأ حمزة، والكسائيّ، وحفص بتشديد السين. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 510) ، و «السبعة» (555) ، و «الحجة» (6/ 78) ، و «معاني القراءات» (2/ 330) ، و «شرح الطيبة» (5/ 193) ، و «العنوان» (163) ، و «حجة القراءات» (615) ، و «شرح شعلة» (565) ، و «إتحاف» (2/ 423) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 598) برقم: (29990) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 67) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 510) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 594) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد عن أبي رزين، ولهناد عن عطية. (3) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 67) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 594) ، وعزاه لابن جرير عن عبد الله بن بريدة. (4) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (26/ 192) . (5) ينظر: «السبعة» (555) ، و «الحجة» (6/ 78) ، و «معاني القراءات» (5/ 193) ، و «العنوان» (163) ، و «حجة القراءات» (615) ، و «شرح شعلة» (566) ، و «إتحاف» (2/ 423) . [.....]

[سورة ص (38) : الآيات 62 إلى 69]

مُقْتَحِمٌ أَيْ دَاخِلٌ بِشِدَّه ... مُجَاوَزٌ لِمَا اقتحم بالشَّدَّهْ انتهى. وقوله تعالى: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا ... الآية، هو حكايةٌ لقول الأتباعِ أيضاً دَعَوْا على رؤسائِهم بأن يكونَ عذابهم مضاعفا. [سورة ص (38) : الآيات 62 الى 69] وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) وقوله تعالى: وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ... الآية: الضميرُ في قالُوا لأشْرَافِ الكفارِ ورؤسائِهم، وهذا مطَّرِدٌ في كل أمة، ورُوِيَ أن قائِلي هذه المقالةِ أهْلُ القَلِيبِ كأبِي جَهْلٍ وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ وعُتْبَةَ بن رَبيعةِ، ومَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وأنَّ الرجالَ الذين يشيرون إليهم هم كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وبِلاَلٍ وصُهَيْبٍ، ومَنْ جرى مجراهم، قاله مجاهد» وغيره، والمعنى: كنا في الدنيا نَعُدُّهم أشْرَاراً، وقرأ حمزةُ والكسائي وأبو عمرو «اتخذناهم» بِصِلَةِ الألِف «2» ، على أن يكونَ ذلك في موضِع الصفةِ لرجال، وقرأ الباقونَ «أَتَّخَذْنَاهُمْ» بهمزةِ الاسْتِفْهَامِ، ومعناها: تقريرُ أنفسِهِم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسفِ، أي: اتخذناهم سِخْرِيًّا ولم يكونوا كذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سُخْرِيًّا» - بضم السين- من السُّخْرةِ، والاستخدامِ، وقرأ الباقون: «سِخْرِيًّا» - بكسر السين «3» -، ومعناها المشهورُ من السَّخْرِ الذي هو بمعنى الهُزْءِ، وقولُهُمْ: أَمْ زاغَتْ معادلةٌ لما في قولِهِمْ: مَا لَنا لاَ نَرى والتقديرُ في هذه الآيةِ: أمَفْقُودُونَ هم أَمْ هُمْ معنا، ولكن زاغَتْ عنهم أبصارنا، فلا نراهم، والزَّيْغُ: المَيْلُ. ثم أخْبَرَ تعالى نبيَّه بقوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ والإشارة

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 602) برقم: (30014) وبرقم: (30015) عن مجاهد، وذكره البغوي (4/ 68) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 512) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 42) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 595) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عن مجاهد. (2) ينظر: «السبعة» (556) ، و «الحجة» (6/ 82) ، و «معاني القراءات» (2/ 331) ، و «شرح الطيبة» (5/ 193) ، و «العنوان» (163) ، و «حجة القراءات» (617) ، و «شرح شعلة» (566) ، و «إتحاف» (2/ 423) . (3) ينظر: «الحجة» (6/ 85) ، و «العنوان» (163) ، و «حجة القراءات» (618) ، و «إتحاف» (2/ 424) .

[سورة ص (38) : الآيات 70 إلى 76]

بقوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ إلى التوحيد والمَعَادِ، فهي إلى القرآن وجميعِ ما تَضَمَّنَ، وعِظَمُهُ أنَّ التصديقَ بهِ نجاةٌ والتكذيبُ به هَلَكَةٌ، ووبَّخَهُمْ بقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، ثم أمر ع أن يقولَ محتجًّا على صِحَّةِ رسالتِه: «مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى لولا أنْ اللَّه أخْبَرَنِي بذلك» والملأ الأعلى أَرَادَ بِهِ: الملائكةَ، واخْتُلِفَ في الشَّيْءِ الذي هُوَ اخْتِصَامُهُمْ فِيه فقالت فرقةٌ: اختصامهم في شأن آدَمَ: كقولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَيَدُلُّ على ذلك ما يأتي من الآياتِ، وقالت فرقة: بل اختصَامُهم في الكفَّارَاتِ وَغَفْرِ الذُّنُوبِ، ونحوه فإن العَبْدَ إذا فعل حسنَةً، اختلفت الملائكةُ في قَدْرِ ثوابِهِ في ذلك، حتى يَقْضِيَ اللَّهُ بما شاء، وروي في هذا حديثٌ فَسَّرَهُ ابنُ فُورَكَ يتضمَّنُ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ له ربُّهُ- عزَّ وجلَّ- في نومه: «أتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأعلى؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: اختصموا في الْكَفَّارَاتِ والدَّرَجَاتِ، فَأَمَّا الكَفَّارَاتُ: فَإسْبَاغُ الوُضُوءِ في الغَدَوَاتِ البارِدَةِ، ونَقْلُ الأَقْدَامِ إلَى الجَمَاعَاتِ، وانتظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وأَمَّا الدَّرَجَاتُ: فَإفْشَاءُ السَّلامِ، وَإطْعَامُ الطَّعَامِ، وَالصَّلاَةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» الحديثِ «1» قال ابنُ العَرَبي في «أحكامِه» : وقَدْ رَوَاهُ الترمذيُّ صحيحاً، وفيه «قال: سَلْ قَالَ: اللَّهُمَّ، إنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً في قَوْمٍ، فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَعَمَلاً يُقَرِّبُ إلَيَّ حُبِّكَ» قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «إنّها حقّ فارسموها، ثم تعلّموها» ، انتهى. [سورة ص (38) : الآيات 70 الى 76] إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) وقوله: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ قال الفراء: إن شئْتَ جَعَلْتَ «أَنَّما» في موضِعِ رفعِ، كأنَّهُ قَالَ: مَا يوحى إليَّ إلا الإنْذَارُ، أو: ما يوحى إلَيَّ إلا أَنِّي نَذِيرٌ مُبينٌ، انتهى، وهكذا قال أَبو حَيَّان «2» : «إن» بمعنى: «ما» وباقي الآيةِ بَيِّنٌ مِمَّا تَقَدَّمَ في «البَقَرَةِ» وغيرِها.

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 243) عن معاذ بن جبل. وفي الباب من حديث ابن عبّاس أخرجه الترمذي (5/ 366- 367) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة ص (3233- 3234) ، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. (2) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 391) .

[سورة ص (38) : الآيات 77 إلى 86]

وقوله تعالى: بِيَدَيَّ عبارةٌ عن القُدْرَةِ والقُوَّةِ. وقوله: أَسْتَكْبَرْتَ: المعنى: أَحَدَثَ لك الاسْتكبارُ الآن أم كنتَ قديماً مِمَّنْ لا يليق أنْ تُكَلَّفَ مِثْلَ هذا لِعَلُوِّ مَكَانِك وهذا على جهة التوبيخ له. [سورة ص (38) : الآيات 77 الى 86] قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) وقوله تعالى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الآية، «الرّجيم» أي: المرجوم بالقول السّيّئ، واللعنةَ: الإبْعَادُ. وقوله سبحانه: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ قال مجاهدٌ، المعنى: فالحقُّ أنا «1» ، وقرأ الجمهور: «فالْحَقَّ وَالحَقَّ» بِنَصْبِ الاثْنَيْنِ، فأما الثاني، فمنصوبٌ ب «أقول» وأما الأوَّلُ فَيَحْتَمِلُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الإغْرَاءِ، ويحتملُ أنْ ينتصبَ على القَسَمِ، على إسقاط حرف القسم، كأنه قال: فو الحقّ ثم حَذَفَ الحَرْفَ كَمَا تَقُولُ: اللَّهَ، لأَفْعَلَنَّ، تريدُ واللَّهِ ويقوِّي ذلك قولُه: لَأَمْلَأَنَّ وقد قال سِيبَوَيْهِ: قلتُ للخَلِيلِ: ما معْنَى: «لأَفْعَلَنَّ» إذا جاءتْ مبتدأَةً؟ فقال: هي بتقديرِ قَسَمٍ مَنْوِيٍّ، وقالَتْ فرقةٌ: «الحَقَّ» الأول/ منصوبٌ بفعلِ ومُضمر، وقرأ ابن عباس: «فَالحَقُّ وَالحَقُّ» «2» برفعِ الاثنين، وقرأ عاصمٌ وحمزة: «فَالحَقُّ» بالرفع، وَ «الحقّ» - بالنصب «3» -، وهي قراءة مجاهد وغيره «4» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 607) برقم: (30033) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 70) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 516) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 44) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 600) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (2) وبها قرأ الأعمش ومجاهد. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (131) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 516) ، و «البحر المحيط» (7/ 393) ، و «الدر المصون» (5/ 547) . (3) ينظر: «السبعة» (557) ، و «الحجة» (6/ 87) ، و «معاني القراءات» (2/ 333) ، و «شرح الطيبة» (5/ 194) ، و «العنوان» (164) ، و «حجة القراءات» (618) ، و «شرح شعلة» (566) ، و «إتحاف» (2/ 425) . (4) وقرأ بها الأعمش وأبان بن تغلب. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 516) ، و «البحر المحيط» (7/ 393) ، وزاد نسبتها إلى طلحة، وخلف، والعبسي، وحمزة، وعاصم.

[سورة ص (38) : الآيات 87 إلى 88]

ثم أمر تعالى نبيَّه [أنْ] يخبرَهم بأنه ليس بسائلٍ منهم عليه أجراً وأنه ليس ممن يتكَلَّفُ ما لم يُجْعَلْ إليه، ولا يَخْتَلِي بغيرِ ما هُوَ فيه، قال الزُّبَيْرُ بن العوّام: نادى منادي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِلَّذِينَ لاَ يَدَّعُونَ، ولاَ يَتَكَلَّفُونَ أَلاَ إنِّي بَرِيءٌ مِنَ التَّكَلُّفِ وَصَالِحُو أُمَّتِي» . [سورة ص (38) : الآيات 87 الى 88] إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) وقوله: إِنْ هُوَ يريد القرآن وذِكْرٌ بمعنى تَذْكِرَة، ثم توعَّدَهُمْ بقوله: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ وهذَا على حَذْفٍ تقديرُه: لتعلمنَّ صِدْقَ نَبئه بعد حين، قال ابن زيد: أشار إلى يوم القيامة «1» ، وقال قتادة والحَسَن: أشار إلى الآجالِ الَّتي لهم «2» لأن كُلَّ واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 609) برقم: (30041) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 70) عن عكرمة، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 516) ، وابن كثير في «تفسيره» عن عكرمة، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 601) ، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 608) برقم: (30039) عن قتادة والحسن، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 70) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 516) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 44) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 601) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.

تفسير سورة الزمر

تفسير سورة الزّمر [وهي] مكّيّة بإجماع غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشيّ قاتل حمزة بن عبد المطّلب، وهي قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... الآيات، وقالت فرقة: إلى آخر السورة هو مدني، وقيل: فيها مدني سبع آيات. [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ ... الآية، تَنْزِيلُ رفعُ بالابتداءِ، والخبرُ قوله: مِنَ اللَّهِ وقالتْ فرقَة: تَنْزِيلُ خَبَرُ مبتدإ محذوفٍ، تقديرُه: هذا تنزيلٌ، والإشَارَةُ إلى القرآنِ قاله المفسرون، ويظهرُ لِي أَنَّه اسمٌ عامٌ لجميعِ ما تَنَزَّلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فكأنَّه أخْبَرَ إخباراً مجرَّداً أَنَّ الكُتُبَ الهاديةَ الشارِعَة إنما تَنْزيلُهَا من اللَّه تعالى، وجَعَلَ هذا الإخْبَارَ تَقْدِمَةً وتَوْطِئَةً لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ. وقوله: بِالْحَقِّ معناه: متضمِّناً الحَقَّ، أي: بالحقِّ فيه، وفي أحْكَامِهِ وأخباره، والدِّينَ هنا يَعُمُّ المُعْتَقَدَاتِ وأعمالَ الجَوَارِحِ، قال قتادة: والدِّينُ الْخالِصُ: «لا إله إلّا الله» «1» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 611) برقم: (30046) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 71) ، وابن عطية (4/ 518) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 45) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 602) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ... الآية، أي: يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ إلا ليُقَرِّبُونَا إلى اللَّه زلفى، وفي مصحف ابن مسعودٍ: «قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ» «1» وهي قراءة ابن عبَّاس وغيرِه، وهذه المقالة شائعةٌ في العرب في الجاهلية يقولون في معبوداتِهم منَ الأصْنام وغيرها: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه، قال مجاهد: وقد قال ذلك قومٌ من اليهودِ في عزيز، وقوم من النصارى في عيسى «2» . وزُلْفى بمعنى قُرْبَةٍ وتَوْصِلَةٍ، [كأنهم] قَالُوا ليقرِّبونا إلى اللَّه تَقْرِيباً، وكأنَّ هذه الطوائفَ كلَّها تَرَى نُفُوسَها أقلَّ من أن تَتَّصِلَ هي باللَّه، فكانت ترى أن تتّصل بمخلوقاته. وزُلْفى عند سيبَوَيْهِ، مَصْدَرٌ في موضع الحال كأَنَّه تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ «مُتَزَلِّفِينَ» والعاملُ فيه لِيُقَرِّبُونا، وقرأ الجَحْدَرِيُّ «3» «كذَّابٌ كَفَّارٌ» بالمبالَغَةِ فيهما، وهذه المبالغةُ إشارةٌ إلى التَوَغُّلِ في الكُفْرِ. وقوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً معناه: اتِّخَاذُ التشريفِ والتبنِّي وعلى هذا يستقيمُ قولُه تعالى: لَاصْطَفى / مِمَّا يَخْلُقُ وأمَّا الاتخاذُ المعهودُ في الشاهدِ فَمُسْتَحِيلٌ أن يُتَوَهَّمَ في جهة اللَّه تعالى، ولا يستقيمُ عليه معنى قوله: لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ، وقوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [مريم: 92] لفظٌ يعمُّ اتخَاذَ النسلِ واتخاذَ الاصطِفاء، فأما الأول فمعقولٌ، وأمَّا الثاني فمعروفٌ بخبر الشرع، ومما يدل على أن مَعْنى قوله: أَنْ يَتَّخِذَ إنما المقصودُ به اتخاذُ اصطفاء، وَتَبَنٍّ- قولُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ أي: مِنْ موجوداتِه ومُحْدَثَاتِه- ثم نَزَّهَ سبحانه نفسَه تنزيهاً مطلقاً عن كلِّ ما لاَ يَلِيقُ بهِ سبحانه. وقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ... الآية، معناه: يُعِيدُ مِنْ هَذَا على هذا، ومنه كُورُ العِمَامَة التي يَلْتَوِي بعضُها على بعض، فكأن الذي يطولُ من النهار أو الليل

_ (1) وقرأ بها مجاهد وابن جبير. ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 518) ، و «الكشاف» (4/ 111) ، و «البحر المحيط» (7/ 398) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 611) برقم: (30048) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 518) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 603) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. [.....] (3) ينظر: «مختصر الشواذ» (131) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 518) ، وزاد نسبتها إلى أنس بن مالك، ثم قال: ورويت عن الحسن، والأعرج، ويحيى بن يعمر. وينظر: «البحر المحيط» (7/ 399) ، و «الدر المصون» (6/ 5) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 6 إلى 7]

يصيرُ مِنْه على الآخرِ جُزْءٌ فيستُرُهُ، وكأن الآخرَ الذي يَقْصُرُ يَلِجُ في الذي «1» يَطولُ، فيستتر فيه. [سورة الزمر (39) : الآيات 6 الى 7] خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وقوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها قيل: «ثُمَّ» هنا: لترتيب الإخْبَارِ لا لترتِيبِ الوُجُودِ «2» ، وقيل: قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ: هو أخذ الذريةَ مِن ظهر آدم، وذلك شيءٌ كان قبل خلق حَوَّاءَ، ت: وهذا يحتاج إلى سندٍ قاطعٍ. وقوله سبحانه: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قالت فرقة: الأولى هي ظَهْرُ الأَبِ، ثم رَحِمُ الأمِّ، ثم المَشِيمَةُ في البَطْن، وقال مجاهد وغيره: هي المَشِيمَةُ والرَّحِمُ والبَطْنُ «3» ، وهذه الآياتُ كلُّها فيها عِبَرٌ وتنبيهٌ على تَوْحِيدِ الخالِق الذَّي لاَ يَسْتَحِقُّ العبادةَ غَيْرُهُ وتوهينٌ لأمْرِ الأصنام. وقوله سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ... الآية، قال ابن عبّاس: هذه

_ (1) من هنا انتقلنا بالترقيم من على المخطوط من النسخة (د) . (2) في (ثمّ) هذه أوجه: «أحدها» : أنها على بابها من الترتيب بمهلة، وذلك أنه يروى أنه تعالى أخرجنا من ظهر آدم كالذّر ثم خلق حوّاء بعد ذلك بزمان. «الثاني» : أنها على بابها أيضا، ولكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله «واحدة» إذ التقدير من نفس وحدت أي: انفردت ثم جعل منها زوجها. «الثالث» : إنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل: كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها. ينظر: «الدر المصون» (6/ 5- 6) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 615) برقم: (30069) عن عكرمة، و (30071) عن ابن عبّاس، و (30072) عن مجاهد، وبرقم: (30073) عن قتادة، وبرقم: (30074) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 72) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 520) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 46) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 603) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، ولعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.

[سورة الزمر (39) : الآيات 8 إلى 9]

هذه الآيةُ مخاطبَةٌ للكفارِ «1» ، قال ع «2» : وتحتملُ أن تكونَ مخاطبةً لجميع الناس، لأن اللَّهَ سبحانه غنيٌّ عَن جميعِ الناسِ، وهم فقراءُ إليه، واخْتَلَفَ المتأولونَ مِن أهْلِ السنةِ في تأويل قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فقالت فرقة: «الرِّضا» بمعنى الإرادَةِ، والكلامُ ظاهرُه العمومُ، ومعناه الخصوصُ فيمن قَضَى اللَّهُ له بالإيمان، وحتَّمَهُ له، فعبادُه على هذا ملائكتُهُ ومؤمِنو الإنْسِ والجِنِّ، وهذا يتركَّبُ على قول ابن عباس «3» ، وقالت فرقة: الكلامُ عُمُومٌ صحيحٌ، والكُفْرُ يقعُ مِمَّنْ يَقَعُ بإرادَةِ اللَّهِ تعالى، إلا أنه بَعْدَ وُقُوعِهِ لاَ يَرْضَاهُ دِيناً لهم، ومعنى لا يرضاه: لا يشكرُه لهُمْ، ولا يثيبهم به خيرا، فالرضا: على هذا هو صفةُ فِعْلٍ بمعنى القَبُولِ، ونحوِه، وتأمَّلِ الإرَادَةَ فإنما هي حقيقةٌ فيما لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، والرِّضا، فإنما هُو حقيقةٌ فِيمَا قَدْ وَقَعَ، واعْتَبِرْ هذا في/ آيات القرآن تجِدْهُ، وإنْ كانت العربُ قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوُّز هذا بَدَلَ هذا. وقوله تعالى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عمومٌ، والشكرُ الحقيقيُّ في ضِمْنِهِ الإيمانُ، قال النوويُّ: وَرُوِّينَا في «سُنَنِ أبي دَاوُدَ» عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبّاً وبِالإسْلاَمِ دينا وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم رسولا، وجبت له الجنّة» «4» انتهى. [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) وقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ ... الآية: الْإِنْسانَ هنا: الكافرُ، وهذه الآيةُ بَيَّنَ تعالى بها عَلَى الكُفَّارِ، أنَّهُمْ على كلّ حال يلجؤون إليه في حال الضرورات، وخَوَّلَهُ معناه مَلكه وحكَّمَه فيها ابتداءً من اللَّهِ لاَ مُجَازَاةً، ولا يقالُ في الجزاء «خَوَّلَ» .

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 617) برقم: (30079) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 520) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 604) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 521) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 521) . (4) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 518) كتاب «الدعاء» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقوله تعالى: نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ قالت فرقة: «ما» مصدريةٌ، والمعنى: نسِيَ دعاءَه إليه في حالِ الضَّرُورَةِ، وَرَجَعَ إلى كُفْرِهِ، وقالت فرقة: «ما» بمعْنَى الذي، والمرادُ بها اللَّه تعالى، أي: نسي اللَّه، وعبارة الثعلبي: قوله: نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي: تَرَكَ عبادَة اللَّه تعالى والتضرُّعَ إليهِ من قَبْلُ في حال الضُّرِّ انتهى» وباقي الآية بيِّنٌ. وقوله تعالى: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ» بتخفيف الميمِ، هي قراءة نافعٍ وابنِ كَثِيرٍ وحمزة «1» ، والهَمْزةُ للتقرير والاستفهام، وكأنه يقولُ: أهذا القانتُ خَيْرٌ أم هذا المذكورُ الذي يتمتَّعُ بكُفْرِهِ قليلاً، وهو من أَصْحَاب النار، وقرأ الباقونَ: «أَمَّنْ» بتشديدِ الميمِ، والمعنى: أهذا الكافرُ خَيْرٌ أمَّنْ هُو قَانِتٌ؟ والقانتُ: المطِيعُ وبهذا فسَّره ابنُ عبَّاس- رضي اللَّه عنهما «2» -، والقُنُوتُ في الكلام يَقَع عَلى القِراءةِ وَعَلى طُولِ القيامِ في الصلاةِ وبهذا/ فسَّره ابنُ عُمَرَ- رَضِي اللَّه عنهما «3» - قال الفَخْرُ «4» : قيل: إن المراد بقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ: عُثْمَانُ بْنُ عفَّانَ لأنَّه كَان يُحْيِي الليل، والصحيحُ أنها عامَّةٌ في كلِ من اتَّصَفَ بهذه الصِّفَةِ، وفي هذه الآية تنبيهٌ على فضلِ قيامِ الليلِ، انتهى، ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ أَنَّه قالَ: «مَنْ أحَبَّ أَنْ يُهَوِّنَ اللَّهُ عليه الوقوفَ يوم القيامةِ، فَلْيَرَهُ اللَّهُ في سَوَادِ اللَّيْلِ سَاجِداً وقائِماً» «5» ، ت قال الشيخ عبدُ الحَقِّ في «العَاقِبَةِ» : وعن قَبِيصَةَ بْنِ سُفْيَانَ قال: رأيتُ سُفْيانَ الثَّوْرِيَّ في المنام بعد موته فقلتُ له: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: [الطويل] نَظَرْتُ إلى رَبِّي عِيَاناً فَقَالَ لِي ... هَنِيئاً رِضَائي عَنْكَ يَا بْنَ سَعِيدِ لَقَدْ كُنْتَ قَوَّاماً إذَا اللَّيْلُ قَدْ دَجَا ... بِعَبْرَةِ مَحْزُونٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ فَدُونَكَ فاختر أَيَّ قَصْرٍ تُرِيدُه ... وَزُرْنِي فَإنِّي مِنْكَ غَيْرُ بَعِيدِ «6» وكَانَ شُعْبَة بن الحَجَّاج، ومِسْعَرُ بْن كِدَامٍ، رجلَيْنِ فَاضِلَيْنِ، وكانَا مِنْ ثِقَاتِ المُحَدِّثينَ وحُفَّاظِهِم، وكان شُعْبَةُ أَكْبَرَ فَمَاتَا، قال أبو أحمد اليزيديّ، فرأيتهما في النوم،

_ (1) ينظر: «الحجة» (6/ 92) ، و «معاني القراءات» (2/ 335) ، و «شرح الطيبة» (5/ 196) ، و «العنوان» (165) ، و «حجة القراءات» (620) ، و «شرح شعلة» (567) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 428) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 621) برقم: (30088) عن ابن عبّاس وبرقم: (30089) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 523) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 47) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 621) برقم: (30087) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 73) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 523) (4) ينظر: «تفسير الرازي» (26/ 219) . (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 523) . (6) ينظر: الأبيات في «العاقبة» (137) . [.....]

وكنتُ إلى شُعْبَةَ أَمْيَلَ مِنِّي إلى مِسْعَرٍ، فقلتُ: يا أبا بِسْطَامَ ما فَعَلَ اللَّهُ بك؟ فقال: وَفَّقَكَ اللَّه يا بُنَيَّ، احفظ ما أقُولُ: حَبَانِي إلهي فِي الْجِنِانِ بِقُبَّة ... لَهَا أَلْفُ بَابٍ مِنْ لُجَيْنٍ وَجَوْهَرَا وَقَالَ لِيَ الْجَبَّارُ: يَا شُعْبَةُ الَّذِي ... تَبَحَّرَ في جَمْعِ الْعُلُومِ وَأَكْثَرَا تَمَتَّعْ بِقُرْبِي إنَّنِي عَنْكَ ذُو رِضاً ... وَعَنْ عَبْدِيَ القَوَّامِ في اللَّيْلِ مِسْعَرَا كفى مِسْعَراً عِزًّا بِأنْ سَيَزُورُنِي ... وَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِي وَيَدْنُو لِيَنْظُرَا وهذا فِعَالِي بِالَّذِينَ تَنَسَّكُوا ... وَلَمْ يَأْلَفُوا في سَالِفِ الدَّهْرِ مُنْكَرَا «1» انتهى. «والآناء» : الساعاتُ واحدها/ «إنًى» كَ «مِعًى» ويقال: «إِنْيٌ» - بكسر الهمزة وسكون النون-، و «أَنًى» على وزن «قَفاً» . وقوله سبحانه: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قال ابْنُ الجوزيِّ في «المُنْتَخَبِ» : يقولُ اللَّه تعالى: «لاَ أجْمَعُ على عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلاَ أَمْنَيْنِ مَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا، أَمَّنْتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ أَمِنَنِي في الدُّنْيَا خَوَّفْتُهُ في الآخِرَةِ» ، يَا أَخِي امتطَى القَوْمُ مَطَايَا الدجى على مَرْكَبِ السَّهَرِ، فَمَا حَلُّوا وَلاَ حَلُّوا رِحَالَهُمْ حَتَّى السَّحَرْ، دَرَسُوا القُرآن فَغَرَسُوا بِأَيْدِي الْفِكْرِ أَزْكَى الشَّجَرْ، وَمَالُوا إلى النُّفُوسِ بِاللَّوْمِ فَلاَ تَسْأَلْ عَمَّا شَجَرْ، رَجَعُوا بِنَيْلِ القَبُولِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرْ، وَوَقَفُوا على كَنْزِ النَّجَاةِ وَمَا عِنْدَكَ خَبَرْ، فإذا جَاء النَّهَارُ قَدَّمُوا طَعَامَ الجُوعِ، وَقَالُوا لِلنَّفْسِ: هَذَا الَّذِي حَضَرْ، حَذَوْا عزَمَاتٍ طَاحَتِ الأَرْضُ بَيْنَهَا، فَصَارَ سُرَاهُمْ في ظُهُورِ العَزَائِمْ، تَرَاهُمْ نُجُومَ اللَّيْلِ مَا يَبْتَغُونَهُ على عَاتِقِ الشعرى وَهَامِ النَّعَائِمْ، مَالَتْ بِالقَوْمِ رِيحُ السَّحَرِ مَيْلَ الشَّجَرِ بِالأَغْصَانْ، وَهَزَّ الخَوْفُ أَفْنَانْ القُلُوبِ فانتشرت الأَفْنَان، فَالقَلْبُ يَخْشَعُ واللِّسَانُ يَضْرَعُ وَالعَيْنُ تَدْمَعُ وَالوَقْتُ بُسْتَانْ، خَلَوْتُهُمْ بِالحَبِيبِ تَشْغَلُهُمْ عَنْ نُعْمٍ وَنَعْمَانْ، سُرُورُهُمْ أَسَاوِرُهُمْ وَالخُشُوعُ تِيجِانْ، خُضُوعُهُمْ حُلاَهُمْ وَمَاءُ دَمْعِهِمْ دُرٌّ وَمَرْجَانْ، بَاعُوا الْحِرْصَ بِالقَنَاعَةِ فَمَا مُلكُ أَنُوشِرْوَان، فَإذَا وَرَدُوا القِيَامَةَ تَلَقَّاهُمْ بَشَرٌ: لَوْلاَكُمْ مَا طَابَ الجِنَانْ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانْ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْهُمْ يَا نَائِمُ كَيَقْظَانْ، كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَيْنَ الشُّجَاعُ مِنَ الجَبَانْ، مَا لِلْمَوَاعِظِ فِيكَ نُجْحٌ، مَوْضِعُ القَلْبِ/ بِاللَّهْوِ مِنْكَ مَلآنْ، يَا أَخِي، قِفْ على بَابِ النَّجَاحِ ولكن وُقُوفَ لُهْفَانْ، واركب سُفُنَ الصَّلاَحِ، فهذا المَوْتُ طُوفَانْ، إخْوَانِي، إنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلْ وَمَرْكَبُ العُمْرِ قَدْ قَارَبَ السَّاحِلْ، فانتبه لِنَفْسِكَ وازدجر يَا غَافِلْ، يَا هَذَا، أَنْتَ مُقِيمٌ فيَّ مُنَاخِ الرَّاحِلِينَ ويحك اغتنم أيّام القدرة قبل

_ (1) ينظر: الأبيات في «العاقبة» (138) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 10 إلى 16]

صَيْحَةِ الانْتِزَاعِ، فَما أقْرَب مَا يُنْتَظَرْ، وَمَا أقلّ المكث فيما يزول ويتغيّر. انتهى. [سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 16] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ يُرْوَى أنَّ هذهِ الآيةَ نزلتْ في جَعْفَرِ بن أبي طالب وأصحابِهِ، حِينَ عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة «1» ، ووعد سبحانه بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ فقولهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق ب أَحْسَنُوا، والمعنى: إنَّ الذين يُحْسِنُونَ في الدنيا لَهُمْ حَسَنَةٌ في الآخِرَة، وهي الجنةُ والنعيمُ قاله مقاتلٌ» ويحتملُ أنْ يريدَ: أن الذينَ يُحْسِنُونَ لهُم حسَنَةٌ في الدنيا، وهي العافيةُ والظهورُ وولايةُ اللَّهِ تعالى قاله السُّدّيُّ «3» ، والأَوَّلُ أرجح أن الحسَنَةَ هِي في الآخِرة. وقوله سبحانه: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ حَضٌّ عَلى الهجرةِ، ثم وَعَدَ تعالى على الصَّبْرِ على المكارِهِ، والخروج مِنَ الوَطَنِ ونُصْرَةِ الدينِ وجميعِ الطاعات- بِتَوْفِيَةِ الأجورِ بغير حِسَابٍ، وهذا يحْتَمِلُ معنيين: أحدهما: أن الصابرَ يؤتى أَجْرَهُ وَلاَ يحاسَبُ على نعيمٍ ولا يُتَابَعُ بذنوبٍ، ويكونُ في جملة الذين يدخلون الجنةَ بغير حساب. والثاني من المعنيين: أن أجورَ الصابرينَ توفى بغَيْرِ حَصْر وَلا عَدٍّ، بلْ جُزَافاً، وهذه استعارةٌ للكثرةِ التي لا تحصى وإلى هذا التأويلِ ذَهَبَ جمهورُ المفسرينَ، حتى قال قتادةُ: لَيْسَ ثَمَّ واللَّهِ/ مِكْيَالٌ ولا ميزان «4» ، وفي الحديث أَنَّهُ لما نزلت وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261]

_ (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 74) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 523) . (2) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 73) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 523) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 622) برقم: (30094) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 73) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 523) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 622) برقم: (30096) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 74) عن علي رضي الله عنه، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 524) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 48) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 605) ، وعزاه لعبد بن حميد.

[سورة الزمر (39) : الآيات 17 إلى 18]

قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ، زِدْ أُمَّتِي» ، فَنَزَلَتْ بَعْدَ ذلِكَ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] فقال: «اللَّهُمَّ زِدْ أُمَّتِي» حتى نزلَتْ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ، قال: «رَضِيتُ يَا رَبِّ» . وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ من المعلوم أنه ع معصومٌ من العِصْيَانِ، وإنما الخطابُ بالآيةِ لأِمَّتِهِ يَعُمُّهُمْ حكمُهُ، ويحفُّهم وعيدُهُ. وقوله: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ هذه صيغةُ أَمْرٍ على جِهَةِ التهْدِيدِ، وهذا في القرآنِ كثيرٌ، و «الظُّلَّة» ما غَشِيَ وعَمَّ كالسَّحَابَةِ وَسَقْفِ البيت، ونحوِه. [وقوله سبحانه: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يريد: جميع العالم] . [سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 18] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ... الآية، قال ابن زيد: إن سببَ نزولِها زيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَسَلْمَانُ الفَارِسِيُّ وأبُو ذَرٍّ الغِفَارِيُّ، والإشارةُ إليهم «1» . ت: سُلَيْمَانُ إنما أسلم بالمدينةِ، فَيَلْزَمُ على هذا التأويلِ أن تكونَ الآيةُ مدنيةً، وقال ابن إسْحَاق: الإشَارةُ بِها إلى عَبْدِ الرحمنِ بْنِ عَوْفٍ، وسَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، والزُّبَيْرِ، وذَلك أنه لما أسْلم أَبو بَكْرٍ سَمِعُوا ذلك فَجَاؤُوهُ، فقالوا: أَأَسْلَمْتَ؟ قال: نَعَمْ وذَكَّرَهُمْ باللَّه سبحانه، فآمَنُوا بأجمعهم، فنزلَتْ فيهم هذه الآية، وهي على كلِّ حالٍ عامَّةٌ في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها، والطَّاغُوتَ: كل ما عبد من دون الله. وقوله سبحانه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ: كَلاَمٌ عامٌّ في جميع الأقوال، والمَقْصِدُ الثناءُ على هؤلاءِ في نفوذِ بصائرهم، وقوام نَظَرِهِم، حتى إنهم إذا سمعوا قولاً مَيَّزوه واتبعوا أحْسَنه، قال أبو حيَّان «2» : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ صفةٌ/ ل عِبادِ، وقيلَ: الوَقْفُ على عباد، وَالَّذِينَ مبتدأٌ خبره أُولئِكَ وما بعده، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 625) برقم: (30108) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 75) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 525) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 48) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 607) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم. (2) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 404) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 19 إلى 21]

[سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 21] أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) وقوله تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ [مَن فِى النار] قالت فرقةٌ: معنى الآيةِ: أَفَمَنْ حَقَّتْ عَلَيْه كلمةُ العَذَابِ فَأَنْتَ تُنْقِذهُ] ، لكنَّه زَادَ الهَمْزَةَ الثانيةَ تَوْكِيداً، وأظْهرَ الضميرَ تَشْهيراً لهؤلاءِ القَومِ وإظهاراً لِخِسَّةِ منازِلهم. وقوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ ... الآية مُعَادَلَةٌ وتَحْضِيضٌ على التقوى، وعَادَلَتْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ما تَقَدَّمَ مِنَ الظُّلَلِ فَوْقَهُمْ وَتَحْتَهُمْ، والأحاديثُ الصحيحةُ في هذا البابِ كثِيرةٌ، ثُمَّ وَقَفَ تعالى نبيَّه- عليه السلام- وأُمَّتَهُ على مُعْتَبَرٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً ... الآية، قال الطبريُّ «1» : الإشارةُ إلى ماءِ المطر ونبع العيون منه، وفَسَلَكَهُ معناه: أجراه وأدخله في الأرض، ويَهِيجُ معناه: يَيْبَسُ، وهاجَ الزَّرْعُ والنباتُ: إذَا يَبِسَ، والحُطَامُ: اليابِسُ المُتَفَتِّتُ، ومعنى لَذِكْرى أيْ: للبَعْث من القبورِ وإحياء الموتى على قياسِ هذا المثال المذكور. [سورة الزمر (39) : آية 22] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) وقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... الآية، رُوِيَ أنَّ هذهِ الآيةَ نزلَتْ في عَلِيٍّ وحمزةَ، وأبي لَهَبٍ وابنه وهمَا اللذان كَانا من القَاسِيَةِ قلوبُهُمْ «2» ، وفي الكلامِ محذوفٌ يدلُّ عليه الظاهِرُ تقديره: أفمن شَرَحَ اللَّه صدره كالقاسِي القَلْبِ المُعْرِضِ عن أمرِ اللَّه، وشَرْحُ الصدرِ: استعارةٌ لتحصيلهِ للنظر الجَيِّدِ والإيمانِ باللَّه، والنُّورُ: هدايةُ اللَّه تعالى، وهي أشبهُ شيء بالضّوء، قال ابن مسعود: قلنا يا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ انشراح الصَّدْرِ؟ قال: إذا دَخَلَ النُّورُ القَلْبَ، انشرح وَانْفَسَحَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَا عَلاَمَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: الإنَابَةُ إلَى دَارِ/ الخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والتَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ «3» ، والقسوةُ: شِدَّةُ القَلْب، وهي مأخوذةٌ من قَسْوَةِ الحَجَرِ، شَبَّهَ قَلْبَ الكافرِ به في

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (10/ 626) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 527) . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 609) ، وعزاه إلى ابن مردويه.

[سورة الزمر (39) : آية 23]

صَلاَبَتِهِ وقِلَّةِ انفعاله، للوَعْظِ، وَرَوَى الترمذيُّ عن ابن عمر قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإنَّ كَثْرَةَ الكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وإنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ القَلْبُ القَاسِي» «1» ، قال الترمذيُّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ. انتهى وقال مالكُ بن دِينَارٍ: مَا ضُرِبَ عَبْدٌ [بعقوبةٍ] أعْظَمَ من قَسْوَةِ قلبهِ، قال ابن هِشَامٍ: قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ «من» هنا: مرادِفَةٌ «عَنْ» ، وقيل: هي للتعليلِ، أي: مِنْ أجْلِ ذكر اللَّه لأنه إذا ذُكِرَ اللَّه، قَسَتْ قلوبُهُمْ عياذاً باللَّه، وقيل: هي للابتداءِ، انتهى من «المغني» . قال الفَخْرُ «2» : اعلم أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ سببٌ لحصولِ النُّورِ والهدايةِ وزيادةِ الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، وقد يُوجِبُ القَسْوَةَ والبُعْدَ عنِ الحَقِّ في النفوسِ الخبيثة الشيطانية، فإذا عَرَفْتَ هذا، فنقول: إنَّ رأسَ الأدْوِيَةِ التي تفيدُ الصحةَ الروحانيةَ ورُتْبَتَها هو ذِكْرُ اللَّهِ، فإذا اتفق لبعضِ النفوسِ أنْ صَارَ ذِكْرُ اللَّهِ سبباً لازْدِيادِ مَرَضِها، كانَ مَرَضُ تلكَ النفوسِ مَرَضاً لا يرجى زوالُهُ، ولا يُتَوَقَّعُ علاجُهُ، وكانَتْ في نِهَايَةِ الشَّرِّ والرَّدَاءَةِ، فلهذا المعنى قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهذا كَلاَمُ كامل محقّق، انتهى. [سورة الزمر (39) : آية 23] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يريد القرآن، وروي عَنِ ابْنِ عبَّاس أن سبَبَ هذه الآيةِ أنَّ قَوْماً من الصحابةِ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا بِأَحَادِيثَ حِسَانٍ، / وَأَخْبِرْنَا بأخبار الدّهر، فنزلت الآية «3» .

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 607) ، كتاب «الزهد» باب: منه برقم: (2411) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 245) باب: في حفظ اللسان (4951) من طريق عبد الله بن عمر، وأخرجه مالك مرسلا، قال: إنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: «لا تكثروا الكلام ... » الحديث نحوه. قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب. (2) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (26/ 232) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 629) برقم: (30125) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 527) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 609) ، وعزاه لابن جرير.

وقوله: مُتَشابِهاً معناه مُسْتَوِياً لا تَنَاقُضَ فيه ولا تَدَافُعَ، بل يُشْبِهُ بَعْضُهُ بعضاً في رَصْفِ اللَّفْظِ، ووَثَاقَةِ البراهينِ، وشَرَفِ المعاني إذْ هِيَ اليَقِينُ في العقائدِ في اللَّهِ وصفاته وأفعاله وشرعه، ومَثانِيَ معناه: مَوْضِعُ تَثْنِيَةٍ للقصَصِ والأقضيةِ والمَوَاعِظِ تثنى فيهِ ولاَ تُمَلُّ مَع ذلك ولا يَعْرِضُهَا ما يَعْرِضُ الحديثَ المَعَادَ، وقال ابن عباس، ثنى فِيه الأَمْرَ مِرَاراً «1» ، ولا ينصرفُ مَثانِيَ لأنه جمعٌ لا نَظِيرَ له في الواحد. وقوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عبارة عن قفّ شعر الإنسان عند ما يُدَاخِلُهُ خَوْفٌ ولِينُ قَلْبٍ عند سماعِ موعظةٍ أو زَجْرِ قرآن ونحوهِ، وهذه علامةُ وقوعِ المعنى المُخْشِعِ في قلبِ السامعِ، وفي الحديث أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قرأ عند النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فرّقت القلوب فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اغتنموا الدُّعَاءَ عِنْدَ الرِّقَّةِ فإنَّهَا رَحْمَةٌ» «2» وقال العبّاس بن عبد المطّلب: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنِ اقشعر جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تعالى، تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا» ، وَقَالَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: «كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وتقشعرُّ جلودُهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقواماً اليومَ إذا سَمِعوا القرآن خَرَّ أحدُهم مَغْشِياً عليه، فقالت: أعوذُ باللَّهِ من الشيطانِ» «3» ، وعن ابن عمر نحوُه، وقال ابن سيرين: بينَنَا وبين هؤلاء الذين يُصْرَعُونَ عند قراءة القرآن أن يُجْعَلَ أحَدُهم عَلى حَائِطٍ [مَادًّا] رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُقْرأُ عَلَيْه القرآن كلُّه/، فإن رمى بِنَفْسِهِ، فهو صَادِقٌ «4» . ت: وهذا كله تغليظٌ على المُرَائِينَ والمتصنِّعين، ولا خلاف أعلمهُ بين أربابِ القلوبِ وأئمَّةِ التصوُّفِ أن المُتَصَنِّعَ عندهم بهذه الأمور مَمْقُوتٌ، وأما مَنْ غَلَبَه الحالُ لِضَعْفِهِ وقَوِيَ الوارِدُ عليه حتى أذْهَبَهُ عَنْ حِسِّه فهو إن شاء اللَّهُ مِن السادةِ الأخْيارِ والأولياء الأبرار، وقَد وَقَعَ ذلك لكثير من الأخْيارِ يَطُولُ تَعْدَادُهم كابن وهب وأحمد بن مُعَتِّبٍ المالكيَّيْنِ، ذكرهما عياض في «مداركه» ، وأنهما ماتا من ذلك وكذلك مالك بن دينار مات

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 628) برقم: (30121) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 527) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 610) بنحوه، وعزاه لابن مردويه. [.....] (2) القضاعي في «مسند الشهاب» ، (692) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (2/ 102) (3341) ، والعجلوني في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» (1/ 168) (440) . (3) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 77) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 610) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير عن جدته أسماء. (4) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 77) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 528) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 24 إلى 28]

مِنْ ذلك ذكره عبد الحَقِّ في «العاقبة» ، وغيرهم ممن لا يحصى كثرةً، ومن كلام عزِّ الدين بن عَبْدِ السَّلامِ- رحمه اللَّه- في قواعده الصغرى قال: وقَدْ يَصِيحُ بَعْضُهُمْ لِغَلَبَةِ الحَالِ عَلَيْهِ، وَإلْجَائِهَا إِيَّاهُ إلى الصِّيَاحِ، وهو في ذلك مَعْذُورٌ، ومَنْ صَاحَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمُتَصَنِّعٌ لَيْسَ مِنَ القَوْمِ في شَيْءٍ، وكذلِكَ من أظهر شيئاً من الأحوال رياءً أو تسميعاً، فإنه ملحَقٌ بالفجَّار دونَ الأبْرَارِ، انتهى. وقوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يحتملُ أَنْ يشيرَ إلى القرآن ويحتملُ أنْ يشير إلى الخَشْيَةِ واقشعرار الجُلُودِ، أيْ: ذلك أَمَارَةُ هدَى اللَّهِ. قال الغَزَّالِيُّ في «الإحياء» : والمُسْتَحَبُّ من التالِي للقرآن أن يَتأثر قلبهُ بآثار مختلفةٍ بحسْبِ اخْتِلاَفِ الآيات، فيكون له بحسَبِ كُلِّ فهمٍ حالٌ يَتَّصِفُ به قلبُهُ من الحُزْن والخَوْفِ والرجاءِ وغَيْرِ ذلك، ومَهْمَا تَمَّتْ معرفتُهُ كانَتِ الخشْيَةُ أَغْلَبَ الأحْوَالِ على قلبهِ، انتهى، قال الشيخ الوليُّ عبد اللَّه بن أبي جمرة: وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قيامِهِ يَكْسُوهُ من كل آية يَقْرَؤُهَا حَالٌ يُنَاسِبُ معنى تلكَ الآية، وكذلك يَنْبَغِي أن تَكُونَ تلاوةُ/ القرآن وألاَّ يكونَ تالِيهِ كمثل الحمار يحمل أسفارا، انتهى. [سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 28] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) وقوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ ... الآية، تقريرٌ بمعنى التَّعْجِيبِ، والمعنى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بوجْهِهِ سُوءَ العَذَابِ كَالمُنَعَّمِينَ في الجنةِ، قال مجاهد «1» : يَتَّقِي بِوَجْهِهِ، أي: يُجَرُّ على وَجْهِه في النَّارِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: ذلك لِمَا رُوِيَ أنَّ الكافرَ يلقى في النارِ مكتُوفاً مربوطةً يداه إلى رِجْلَيْهِ مَعَ عُنُقِهِ، ويُكَبُّ على وجهِه، فليس له شَيْءٌ يَتَّقِي به إلا وَجْهَهُ، وقالت فرقَة: المعنى في ذلك صفةُ كَثْرَةِ مَا يَنَالُهُمْ من العذابِ يتَّقِيهِ بِكَلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُ حتى بِوَجْهِهِ الذي هُوَ أشْرَفُ جوارحِهِ، وهذا المعنى أَبْيَنُ بلاغةً، ثم مَثَّلَ لقريشٍ بالأمم الذين مِنْ قبلهم، وما نالَهُمْ من

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 630) برقم: (30127) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 611) ، وعزاه السيوطي للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

[سورة الزمر (39) : الآيات 29 إلى 31]

العذابِ في الدنيا المتَّصِلِ بعذابِ الآخرةِ الذي هو أكبر، ونَفَى اللَّهُ سبحانه عن القرآن العِوَجَ لأنَّهُ لا اخْتِلاَفَ فيه، ولا تناقُضَ، ولا مغمز بوجه. [سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 31] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) وقوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ... الآية، هَذا مَثَلٌ ضربَه اللَّهُ سبحانه في التوحيدِ، فَمَثَّلَ تعالى الكافرَ العابِدَ للأوثانِ والشياطينِ بِعَبْدٍ لرِجَالٍ عِدَّةٍ في أَخْلاَقِهِم شَكَاسَةٌ وَعَدَمُ مُسَامَحَةٍ فهم لذلك يُعَذِّبُونَ ذلك العَبْدَ بتضايقهم في أوقاتهم، ويضايِقُون العبدَ في كثْرَةِ العَمَلِ فهو أبَداً في نَصَبٍ منهم وعناءٍ، فكذلك عَابِدُ الأوْثَانِ الذي يَعْتَقِدُ أَنَّ ضُرَّهُ ونَفْعَهُ عِنْدَهَا هو معذَّبُ الفِكْرِ بِهَا وبحراسَةِ حَالِهِ مِنْهَا، ومتى تَوَهَّمَ أنه أرضى صَنَماً بالذبحِ له في زعمِه، تَفَكّر فيما يصنعُ معَ الآخرِ فهو أبداً تَعِبٌ في ضلالٍ، وكذلك هو المُصَانِعُ للنَّاس المُمْتَحَنُ بخدمةِ الملوكِ، / ومَثَّلَ تَعالى المُؤْمِنَ باللَّهِ وحدَهُ بعَبْدٍ لرجُلٍ واحدٍ يُكَلِّفُه شُغْلَهُ فهو يعمله على تُؤدَةٍ وقَدْ سَاسَ مَوْلاَهُ، فالمولى يَغْفِر زَلَّتهُ ويشكُرُه على إجادةِ عمله، ومَثَلًا مفعول ب ضَرَبَ ورَجُلًا نصب على البدل ومُتَشاكِسُونَ معناه: لا سَمْحَ في أخلاقِهم بل فيها لَجَاجٌ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سالماً» «1» أي: سالماً من الشّرْكَة، ثم وَقَفَ تعالى الكفارَ بقوله: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ونَصْبُ مَثَلًا على التمييز وهذا التوقيفُ لا يجيبُ عَنْهُ أحدٌ إلاَّ بأنهما لا يستويان فلذلك عَامَلَتْهُمُ العِبَارَةُ الوجيزةُ على أنهم قد أجابوا، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: على ظهور الحجَّةِ عليكم من أقوالِكم، وباقي الآية بيِّن. والاخْتِصَامُ في الآية قيلَ: عَامٌّ في المؤمنِين والكَافِرين، قال ع «2» : ومعنى الآيةِ عندي: أن اللَّه تعالى تَوَعَّدَهُم بأنهم سيَتَخاصَمُونَ يَوْمَ القيامةِ في معنى ردِّهم في وجهِ الشريعةِ وتكذيبِهمْ لرسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، وَرَوَى الترمذيُّ من حديث عبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ قال: «لما نَزَلَتْ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزُّبَيْرُ: يا رسول الله: أتكرّر

_ (1) ينظر: «السبعة» (562) ، و «الحجة» (6/ 94) ، و «معاني القراءات» (2/ 338) ، و «شرح الطيبة» (5/ 197) ، و «العنوان» (165) ، و «حجة القراءات» (622) ، و «شرح شعلة» (567) ، و «إتحاف» (2/ 429) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 530) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 32 إلى 35]

عَلَيْنَا الخُصُومَةُ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا في الدُّنْيَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إنَّ الأَمْرَ إِذَنْ لشديد» «1» انتهى. [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) وقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ... الآية، الإِشارةُ بهذا الكذبِ إلى قولهم: «إن للَّه صاحبةً وولداً» وقولِهِمْ: هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ، افتراءً على اللَّه، ونحوَ ذلك، وكذَّبُوا أيضاً بالصِّدْقِ، وذلك تكذيبُهم بما جاءَ به محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ثم توعَّدَهم سبحانه تَوَعُّداً فيه احتقارُهم بقوله: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وقرأ ابن مسعود: «والَّذِينَ جَاءُوا/ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ» «2» والصدقُ هنا القرآن والشَّرْعُ بجُمْلَتِهِ وقالتْ فرقةٌ «الذي» يراد بِهِ: «الذين» ، وحُذِفَتِ النونُ، قال ع: وهذا غيرُ جَيِّدٍ وَترْكِيبُ «جاء» عليه يَرُدُّ ذلك، بل «الذي» هاهنا هي للجنس، والآيةُ مُعَادِلة لقولهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ. قال قتادة وغَيْرُهُ: الذي جاء بالصِّدْقِ هو محمَّدُ- عليه السلام- والَّذي صَدَّقَ به همُ المؤمنونَ «3» وهذا أَصْوَبُ الأقْوالِ، وذَهَبَ قومٌ إلى أن الذي صدَّقَ به أبو بكرٍ، وقيل: عليٌّ وتَعْمِيمُ اللفظ أَصْوَبُ. وقولهُ سبحانه: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قال ابن عبَّاس: اتَّقَوُا الشِّرْكَ «4» .

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 370) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الزمر (3236) ، والحاكم (2/ 435) كتاب «التفسير» ، والحميدي (1/ 33- 34) (62) ، وأحمد (1/ 164، 167) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 613- 614) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن منيع، وابن مردويه، وأبو نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «البعث والنشور» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه. (2) ينظر: «الكشاف» (4/ 128) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 531) ، و «البحر المحيط» (7/ 411) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 5) برقم: (30145) عن قتادة، وبرقم: (30146) عن ابن زيد وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 79) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 531) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 53) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 615) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 6) برقم: (30150) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 532) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 53) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 615) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» .

[سورة الزمر (39) : الآيات 36 إلى 44]

وقوله تعالى: لِيُكَفِّرَ يحتملُ أن يَتَعَلَّقَ بقوله: الْمُحْسِنِينَ أي: الذين أحسنوا، لكَيْ يُكَفِّرَ وقاله ابن زيد «1» ، ويحتملُ أن يتعلَّقَ بفعلٍ مُضْمَرٍ مَقْطُوعٍ مما قَبْلَهُ تقديرهُ: يَسَّرَهُمُ اللَّهُ لذلكَ لِيُكَفِّرَ، لأنَّ التَّكْفِيرَ لاَ يكونُ إلا بَعْدَ التّيسير للخير. [سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 44] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تقوِيَةٌ لنفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: «عباده» «2» يريد الأنبياءَ، وأنتَ يَا محمدُ أحدُهُمْ، فيدخلُ في ذلكَ المُؤْمِنُونَ المطيعُونَ والمتوكِّلُونَ على اللَّه سُبْحَانَهُ. وقوله سبحانه: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أيْ: بالذين يَعْبُدُونَ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وقد تقدَّم تفسيرُ نظيرِهِ. وقوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، أيْ: فلنفسه عَمِلَ وسعى، ومَنْ ضَلَّ فَعَلَيْهَا جنى، ثم نبَّه تعالى على آية مِنْ آياته الكبرى، تدِلُّ الناظِرَ على الوحدانيَّةِ، وأنَّ ذلك لا شِرْكَةَ فيه لِصَنَمٍ، وهي حالةُ التَّوَفِّي، وذلكَ أَنَّ ما تَوَفَّاهُ اللَّهُ تعالى على الكَمَالِ، فهو الذي يَمُوتُ، وما تَوَفَّاهُ تَوفِّياً غَيرَ مُكَمَّلٍ فهو الذي يكونُ في النَّوْم، قال ابن زيد: النوم وفاة

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 532) . (2) ينظر: «السبعة» (562) ، و «الحجة» (6/ 95) ، و «معاني القراءات» (2/ 338) ، و «شرح الطيبة» (5/ 198) ، و «العنوان» (165) ، و «حجة القراءات» (622) ، و «شرح شعلة» (567) ، و «إتحاف» (2/ 429) .

والموتُ وفاة «1» وكثَّرَ الناسُ في هذه الآية، وفي الفَرْقِ بَيْنَ النَّفْسِ والرُّوحِ، وَفَرَقَ قَوْمٌ بَيْنَ نَفْسِ التمييزِ ونفس التخيُّل إلى غير ذلك مِن الأقوال التي هي غَلَبةُ ظَنٍّ، وحقيقةُ الأمْرِ في هذا هي مما استأثر اللَّه به وَغَيَّبَهُ عن عِبَادِهِ في قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] ، ويكفيكَ أن في هذه الآية يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ، وفي الحديثِ الصحيحِ: إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أرْوَاحَنَا حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْنَا حِينَ شَاءَ «2» . وفي حديث بلالٍ في الوَادي فقد نطقتِ الشريعةُ بقَبْضِ الرُّوحِ والنَّفْس، وقد قال تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي والظاهرُ أنَّ الخَوْضَ في هذا كُلِّهِ عَنَاءٌ، وإنْ كَان قَد تعرَّضَ للقَوْلِ في هذا ونحوه أئمةٌ، ذَكَرَ الثعلبيُّ عن ابن عباس أنه قال: «في ابن آدم نَفْسٌ ورُوحٌ بَيْنَهُمَا مِثْلُ شُعَاعِ الشَّمْسِ، فالنَّفْسُ هِيَ الَّتي بها العَقْلُ والتمييزُ، والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحَرُّكُ، فإذا نام العَبْدُ قَبَضَ اللَّهُ تعالى نَفْسَهُ ولم يَقْبِضْ رُوحَه» «3» ، وجاءَ في آداب النَّوم وأذكار النائِم أحاديثُ صحيحةٌ ينبغي للعبدِ ألاَّ يُخْلِيَ نفسَه مِنها، وقد روى جابرُ بن عبد اللَّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إذا أَوَى الرَّجُلُ إلى فِرَاشِهِ، ابتدره مَلَكٌ وَشَيْطَانٌ، فيقُولُ المَلَكُ: اختم بِخَيْرٍ، ويقُولُ الشَّيْطَانُ: اختم بِشَرٍّ، فَإنْ ذَكَرَ اللَّهَ تعالى، ثُمَّ نَامَ بَاتَ المَلَكُ يَكْلَؤُهُ، فَإنِ استيقظ قال الملكُ: افتح بِخَيْرٍ، وَقَالَ الشَّيْطَانُ: افتح بِشَرٍّ، فإنْ قَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي رَدَّ إلَيَّ نَفْسِي، وَلَمْ يُمِتْهَا في مَنَامِهَا، الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَلَئِنْ زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ/ إلاَّ بِإذْنِهِ، إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، فإن وَقَعَ مِنْ سَرِيرهِ، فَمَاتَ، دَخَلَ الجنة» «4» ، رواه

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 10) برقم: (30163) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 533) . (2) أخرجه البخاري (2/ 79- 80) كتاب «مواقيت الصلاة» باب: الأذان بعد ذهاب الوقت برقم: (595) ، (13/ 455) كتاب «التوحيد» باب: في المشيئة والإرادة (7471) ، وأحمد (5/ 307) ، والبيهقي (1/ 403- 404) كتاب «الصلاة» باب: الأذان والإقامة للفئة، (2/ 216) كتاب «الصلاة» باب: لا تفريط على من نام عن صلاة أو نسيها، وأبو داود (1/ 174) كتاب «الصلاة» باب: من نام عن صلاة أو نسيها (439) ، والنسائي (2/ 105- 106) كتاب «الإمامة» باب: الجماع للفائت من الصلاة برقم: (846) ، وابن حبان في «صحيحه» (4/ 448) كتاب «الصلاة» باب: ذكر خبر أوهم غير المتبحر في صناعة العلم: أن الصلاة الفائتة لا تؤدى عند طلوع الشمس حتى تبيض، (1579) ، وذكره البغوي في «شرح السنة» (2/ 86) كتاب «الصلاة» باب: الأذان للفائتة والإقامة لها (439) . كلهم عن أبي قتادة عن أبيه، إلا أن بعضهم زاد، وبعضهم رواه مختصرا. [.....] (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 534) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 616) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 548) كتاب «الدعاء» ، وابن حبان (7/ 389- 390) - الموارد

النسائي، واللفظ له، والحاكمُ في «المستدرك» وابن حِبَّانَ في «صحيحه» ، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ، وزاد آخره: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» انتهى من «السِّلاح» ، وفيه عن أبي هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: مَنْ قَالَ حِينَ يَأوِي إلى فِرَاشِهِ: «لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، - غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَوْ خَطَايَاهُ- شَكَّ مِسْعَرٌ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» «1» رواه ابن حِبَّان في «صحيحه» ، ورواه النسائي موقوفاً، انتهى، وروى التِّرمذيُّ عن أبي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: «مَنْ أوى إلى فِرَاشِهِ طَاهِراً يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ، لَمْ يَنْقَلِبْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ يسألُ اللَّهَ شَيْئاً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاهُ» «2» ، انتهى، والأجَلُ المسمّى

_ (3362) ، وابن حبان في «صحيحه» (2/ 343) كتاب «الزينة والتطيب» باب: آداب الطعام ذكر الشيء الذي إذا قاله المرء عند استيقاظه من النوم دخل الجنة بقوله ذلك إن أدركته منيته (5533) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 213) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا انتبه من منامه (10689/ 1) ، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 469) ، كتاب «النوافل» باب: الترغيب في كلمات يقولهن حين يأوي إلى فراشه، وما جاء فيمن نام ولم يذكر الله تعالى (881) ، والهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 123) كتاب «الأدعية» باب: ما يقول إذا أوى إلى فراشه وإذا انتبه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. اهـ. وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى، وهو عنده (3/ 326- 327) برقم: (1791) ، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة. اهـ بتصرف. (1) أخرجه ابن حبان (7/ 394) - الموارد (2365) ، وابن حبان (12/ 338) كتاب «الزينة والتطيب» باب: آداب الطعام، وذكر الشيء الذي يغفر الله ذنوب قائله إذا أوى إلى فراشه (5528) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (727) ، وأبو نعيم في «أخبار أصفهان» (1/ 267) ، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 468) كتاب «النوافل» باب: الترغيب في كلمات يقولهن حين يأوي إلى فراشه وما جاء فيمن نام ولم يذكر الله تعالى، برقم: (879) ، والهندي في «كنز العمال» (15/ 347- 348) (41323) وفي الباب من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد في «المسند» (2/ 10) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 540) كتاب «الدعوات» باب: (93) (3526) والطبراني في «المعجم الكبير» (8/ 147) (7568) ، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 463) ، كتاب «النوافل» باب: الترغيب في أن ينام الإنسان طاهرا ناويا للقيام (869) ، والنووي في «الأذكار» (134) كتاب «ما يقوله إذا دخل في الصلاة» باب: ما يقرأ في الوتر وما يقوله بعدها (26/ 242) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وللحديث شاهد نحوه من حديث معاذ بن جبل: أخرجه ابن ماجه (2/ 1277) كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا انتبه من الليل (3881) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 201) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ثواب من أوى طاهرا إلى فراشه يذكر الله تعالى حتى تغلبه عيناه (10642/ 2) ، وأبو داود (2/ 370) كتاب «الأدب» باب: في النوم على طهارة (5042) ، وأحمد (5/ 234، 235، 241، 244) ، وذكره

[سورة الزمر (39) : الآيات 45 إلى 52]

في هذه الآيةِ: هُوَ عُمْرُ كُلِّ إنْسَانٍ، والضمائرُ في قوله تعالى: أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ: للأصنام. [سورة الزمر (39) : الآيات 45 الى 52] وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) وقوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ... الآية، قال مجاهد وغيره «1» نزلت في قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سورةُ النَّجم عِنْدَ الكَعْبَةِ بِمَحْضَرٍ من الكُفَّارِ، وقرأ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ... [النجم: 19] الآية، وألقى الشيطانُ يَعْنِي في أسْمَاعِ الكفارِ (تلك الغَرِانِقَةَ العلى) عَلَى مَا مَرَّ في سُورَةِ الحَج، فَاسْتَبْشَرُوا، واشمأَزَّتْ نُفُوسُهُمْ: معناه: تَقَبَّضَتْ كِبْراً وأَنَفَةً وكَرَاهِيَةً ونَفُوراً. وقوله/ تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ ... الآية، أَمْرٌ لنبيهِ- عليه السلام- بالدعاءِ إليه وَرَدِّ الحُكْم إلى عَدْلِهِ، ومعنى هذا الأَمْرِ تَضمُّنُ الإجابةِ. وقوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ قال الثعلبيُّ: قال السُّدِّيُّ: ظَنُّوا أشياءَ أَنَّهَا حسناتٌ فبدَتْ سَيِّئاتٍ «2» ، قال ع: قال سفيانُ الثوريُّ: ويلٌ لأهل الرياءِ مِن هذه الآية «3» ، وقال عكرمة بن عَمَّار: جَزع محمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ عند الموت، فقيل

_ المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 462) كتاب «النوافل» باب: الترغيب في أن ينام الإنسان طاهرا ناويا للقيام (867) . (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 81) عن مجاهد ومقاتل، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 534) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 618) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد. (2) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 82) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 535) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 53 إلى 54]

له: ما هَذَا؟ فقال: أخافُ هذه الآيةَ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ «1» . وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ... الآية، قال الزَّجَّاجُ «2» : التَّخْوِيلُ العطاءُ عَنْ غَيْرِ مُجَازَاةٍ، والنِّعْمَةُ هنا عامَّةٌ في المالِ وغيرِه، وتَقْوَى الإشارةُ إلى المالِ بقوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ قال قتادة: يريد إنما أُوتيتُهُ على علْمٍ مِنِّي بوجهِ المَكَاسِبِ والتِّجاراتِ «3» ، ويحتملُ أن يريد: على عِلْمٍ من اللَّهِ فيّ واستحقاق حزنه عندَ اللَّه، ففي هذا التأويلِ اغترارٌ باللَّه، وفي الأول إعْجَابٌ بالنَّفْسِ، ثم قال تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: ليس الأمْرُ كما قَال بل هذه الفَعْلَةُ بهِ فِتْنَةٌ له وابتلاء، ثم أَخْبَرَ تعالى عمَّنْ سَلَفَ من الكَفَرَةِ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا هذه المقالَةَ كَقَارُونَ وغيره، فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ مَنَ الأمْوَالِ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ المعاصرينَ لَكَ، يا مُحَمَّدُ، سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا. قال أبو حَيَّان: فَما أَغْنى يحتملُ أن تَكونَ «ما» نافيةً أو استفهاميةً فيها معنى النّفي، انتهى. [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 54] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ... الآية، هذه الآيةُ عامَّةٌ في جميع النَّاسِ إلى يوم القيامةِ، فتَوْبَةُ الكَافِرِ تَمْحُو ذَنْبَهُ، وتوبة العاصي تمحو/ ذنبَهُ على ما تقدَّم تفصيلُهُ، واختُلِفَ في سبب نزولِ هذه الآيةِ، فقال عطاءُ بن يَسَارٍ: نزلَتْ في وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حمزة «4» ، وقال ابن إسحاق وغيره: نزلَتْ في قومٍ بمكَّةَ آمنوا، ولم يُهَاجِرُوا وفَتَنَتْهُمْ قُرَيْشٌ، فافتتنوا، ثم نَدِمُوا وَظَنُّوا أنهم لا تَوْبَةَ لَهم، [فنزلَتِ] الآيةُ فِيهِم، منهم الوَلِيدُ بْنُ الوَلِيدِ وَهِشَامُ بْنُ العَاصي «5» وهذا قولُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وأنه كَتَبَهَا بِيدِهِ إلى هشامِ بْنِ العَاصِي، الحديثَ، وقالتْ فرقةٌ: نزلَتْ في قومٍ كُفَّارٍ مِنْ أهْلِ الجاهليَّةِ، قالوا: وَمَا يَنْفَعُنَا الإسْلاَمُ، وَنَحْنُ قد زنينا وقتلنا النّفس، وأتينا كلّ كبيرة،

_ (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 82) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 535) . (2) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 357) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 536) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 14) برقم: (30176) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 83) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 537) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 621) ، وعزاه لابن جرير عن عطاء بن يسار. (5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 537) عن قتادة والسدي، وابن أبي إسحاق. [.....]

[سورة الزمر (39) : الآيات 55 إلى 60]

فَنَزَلَتِ الآيةُ فِيهمْ، وقالَ عليُّ بْنُ أبي طَالِبِ، وابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عُمَرَ: هذِهِ أرْجَى آية في القرآن «1» ، ورَوَى ثَوْبَانُ عَنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لي الدُّنْيَا وَمَا فيها بهذه الآية «2» قُلْ يا عِبادِيَ ... » وأَسْرَفُوا معناه أَفْرَطُوا، والقَنَطُ أعْظَمُ اليَأْسِ، وقرأ نافعٌ والجمهورُ «تَقْنَطُوا» بفتح النون «3» ، قال أبو حاتم: فيلزمهم أن يقرؤوا «مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُواْ» [الشورى: 28]- بكسرها- ولم يقرأْ بهِ أحَدٌ، وقرأ أبو عمرو «تَقْنِطُوا» - بالكسر «4» -. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عمومٌ بمعنى الخصوصِ لأن الشِّرْكَ لَيْسَ بداخلٍ في الآيةِ إجماعاً، وهي أيضاً في المعاصِي مقيَّدةٌ بالمشيئةِ، ورُوِيَ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ: «إن اللَّه يغفرُ الذنوبَ جَميعاً ولاَ يُبَالِي» «5» وقَرَأَ ابنُ مَسْعُودٍ «6» : «إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَنْ يَشَاءُ» وَأَنِيبُوا معناه: ارجعوا. [سورة الزمر (39) : الآيات 55 الى 60] وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 15) برقم: (30181) عن ابن مسعود وبرقم: (31084) عن علي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 537) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 59) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 621) . (2) أخرجه أحمد (5/ 275) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 423) باب: في معالجة كل ذنب بالتوبة (7137) ، والطبري (11/ 16) (30187) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 331) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 537) . (4) وقرأ بها حمزة والكسائيّ، ويعقوب، وخلف. ينظر: «العنوان» (165) ، و «إتحاف» (2/ 430) . (5) أخرجه الحاكم (2/ 249) كتاب «التفسير» ، والترمذي (5/ 370) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الزمر (3237) . قال الحاكم: هذا حديث غريب عال، ولم أذكر في كتابي هذا عن شهر غير هذا الحديث الواحد. اهـ. قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب قال: وشهر بن حوشب يروي عن أم سلمة الأنصارية وأم سلمة الأنصارية هي أسماء بنت يزيد. (6) ينظر: «الشواذ» ص: (132) ، و «الكشاف» (4/ 135) ، وزاد نسبتها إلى ابن عبّاس. وينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 537) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 61 إلى 66]

وقوله سبحانه: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ معناه: أن القرآن العزيزَ تضمَّنَ عقائدَ نيرةً وأوامرَ ونواهيَ مَنْجِيَةً وَعِدَاتٍ على الطاعاتِ، والبِرِّ، وتضمَّن أيضاً حدوداً على المعاصِي وَوَعِيداً على بَعْضِها/ فالأحسنُ للمرءِ أنْ يسلك طَريق الطاعةِ والانتهاءِ عن المعصيةِ والعفوِ في الأمورِ ونحوِ ذلك مِنْ أنْ يسلكَ طريقَ الغَفْلَةِ والمعصيةِ فَيُحَدُّ أو يَقَعَ تَحْتَ الوعيدِ، فهذا المعنى هو المقصود ب أَحْسَنَ، وليس المعنى: أنَّ بعضَ القرآن أحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ منْ حيثُ هو قرآن، ت: وروى أبو بكرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده عن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: قال رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: في قولِ اللَّهِ- عزَّ وجَلَّ-: يَا حَسْرَتى قال: الحسرةُ أن يرى أهلُ النارِ منازِلَهُمْ من الجنة، قال: فهي الحسرةُ «1» ، انتهى. وقوله: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي: في جِهَةِ طاعتهِ وتضييعِ شريعتِه والإيمانِ به، وقال مجاهدٌ: فِي جَنْبِ اللَّهِ أي: في أمر اللَّه «2» ، وقولُ الكافِر: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ نَدَامَةً على استهزائه بِأَمْرِ اللَّهِ- تعالى-، و «كرة» مصدرٌ مِنْ كَرّ يَكُرُّ، وهذا الكونُ في هذه الآيةِ داخلٌ في التَّمَنِّي، وباقي الآيةِ أنوارُهُ لائحةٌ، وحُجَجُهُ واضحةٌ، ثم خاطبَ تعالى نبيَّه بِخَبَرِ مَا يَرَاهُ يومَ القيامةِ من حالَةِ الكُفّار، وفي ضِمْنِ هذَا الخبرِ وَعِيدٌ بَيِّنٌ لمعاصريه- عليه السلام- فقال: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ تَرَى من رؤيةِ العينِ، وظاهرُ الآية أنَّ وجوههم تسودّ حقيقة. [سورة الزمر (39) : الآيات 61 الى 66] وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وقوله سبحانه: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ... الآية، ذَكَر تعالى حَالَةَ المُتَّقينَ ونجاتهم لِيُعَادِلَ بِذَلِكَ ما تَقَدَّمَ من شَقَاوَةِ الكَافِرِينَ، وفي ذلك تَرْغِيبٌ في حالةِ المتقين لأن الأشياء تَتَبَيَّنُ بِأضْدَادِها، و «مفازتهم» مصدَرٌ مِن الفَوْزِ، وفي الكلام حَذْفُ مضافٍ، تقديرُهُ: ويُنَجِّي اللَّهُ الذين اتقوا بأسْبَابِ مفازَتِهِمْ، وال مَقالِيدُ: المفاتيح وقاله

_ (1) أخرجه الطبري في (5/ 178) برقم: (13189) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (3/ 389) برقم: (1502) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 9) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 19) برقم: (30195) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 85) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 538) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 67 إلى 72]

ابن عباس «1» ، «واحدها «مِقْلاَدُ» ك «مِفْتَاحٍ» ، وقال عثمان بن عفّان: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال: «هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّة إِلاَّ بالله العلي العظيم هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ يُحْيِي ويُمِيتُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» «2» . وقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ قالت فرقة: المعنى: ولقد أوحِي إَلى كُلِّ نبيٍّ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، ت: قد تقدَّمَ غيرُ مَا مَرَّةٍ، بأنَّ ما وَرَدَ مِن مِثْلِ هذا، فهو محمولٌ على إرادةِ الأمّة لعصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإِنما المرادُ مَنْ يمكنُ أنْ يَقَعَ ذلكَ منه، وخوطب هو صلّى الله عليه وسلّم تعظيماً للأمْرِ، قال- ص-: لَيَحْبَطَنَّ جوابُ القَسَمِ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة جواب القسم عليه، انتهى. [سورة الزمر (39) : الآيات 67 الى 72] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ معناهُ وما عَظَّمُوا اللَّه حقَّ عظَمتهِ، ولا وَصَفُوهُ بصفاتِهِ، ولا نَفَوْا عَنْهُ مَا لاَ يليقُ به، قال ابْنُ عَبَّاس: نزلَتْ هذه الآيةُ في كُفَّارِ قُرَيْشٍ الذينَ كَانَتْ هذهِ الآياتُ كلُّها محاورةً لهم، وردًّا عليهم «3» ، وقالت فرقة: نزلت في

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 22) برقم: (30205) عن ابن عبّاس، وبرقم: (30206) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 86) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 539) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 625) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد. (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 526) ، وعزاه إلى أبي يعلى، ويوسف القاضي في «سننه» ، وأبي الحسن القطان في «المطولات» ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 24) برقم: (30209) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 540) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 62) عن مجاهد.

قومٍ من اليهودِ تَكَلَّمُوا في صفاتِ اللَّه تعالى، فَأَلْحَدُوا وَجَسَّمُوا وَأَتَوْا بِكُلِّ تَخْلِيطٍ. وقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ معناه: في قَبْضَتِهِ، واليمينُ هنا، والقبضةُ عِبارةٌ عَنِ القُدْرَةِ والقُوَّةِ، وما اختلج في الصُّدُورِ من غَيْرِ ذَلِكَ باطل، وفَصَعِقَ في هذه الآية، معناه: خَرَّ مَيِّتاً، والصُّورِ: القَرنُ، ولا يُتَصَوَّرُ هنا غَيْرُ هذا، ومَنْ يَقُولُ: الصُّورِ جمع صُورَةٍ، فإنما يَتَوجَّهُ قولهُ فِي نَفْخَةِ البَعْثِ، وقد تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِ هذه/ الآيةِ في غَيْرِ هذا المَوْضِعِ. وقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى هي نفخةُ البَعْثِ، وفي الحديث: «أَنَّ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ أربعين» لاَ يَدْرِي أبو هريرةَ سَنَةً أو شَهْراً أَوْ يَوْماً أَوْ سَاعَةً ت: ولفظُ مُسْلِمٌ: عن أبي هريرةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم ومَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، قَالُوا: يَا أَبا هُرَيْرَةَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْراً؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَربَعُونَ يَوماً؟ قالَ: أَبَيْتُ الحَدِيثَ، قال صَاحِبُ «التَّذْكِرَةِ» «1» : فقيل: معنى قوله: «أَبَيْتُ» أي: امتنعت من بَيَانِ ذلك إذْ ليس هو مِمَّا تَدْعُو إليه حاجةٌ، وعلى هذا كانَ عِنده عِلْمُ ذلك، وقيل: المعنى: أبيت أن أسأل «2» النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ ذلك، وعلى هذا: فلاَ عِلْمَ عِنْدَهُ، والأَوَّلُ أظْهَرُ، وقد جاء أَنَّ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَاماً، انتهى، وقد تَقَدَّمَ أنَّ الصحيحَ في المستثنى في الآيةِ أَنَّهُمُ الشُّهَدَاءُ قَال الشيخُ أبو محمَّدِ بْنُ بُزَيزَةَ في «شرح الأحكام الصغرى» لعبد الحَقِّ: الذي تلقيناه من شيوخنا المحققين أن العَوالِمَ التي لاَ تفنى سَبْعَةٌ: العَرْشُ، والكُرْسِيُّ، واللَّوْحُ، والقلم، والجَنَّةُ، والنَّارُ، والأَرْوَاحُ. انتهى. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها معناه: أضاءت وعظم نورها، والْأَرْضُ في هذه الآية: الأرض المُبَدَّلَةُ من الأرْضِ المَعْرُوفَةِ. وقوله: بِنُورِ رَبِّها إضَافَةُ مُخلوق «3» إلى خالق، والْكِتابُ كتاب حساب

_ (1) ينظر: «التذكرة» (1/ 231) . (2) أخرجه البخاري (8/ 414) كتاب «التفسير» باب: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (4814) ، (8/ 558) كتاب «التفسير» باب: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (4935) ، ومسلم (4/ 2270) كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب: ما بين النفختين (141/ 2955) ، (143/ 2955) ، وأخرجه مختصرا مالك (1/ 239) كتاب «الجنائز» باب: جامع الجنائز (48) ، والنسائي (4/ 111- 112) ، كتاب «الجنائز» باب: أرواح المؤمنين برقم: (2077) ، وابن ماجه (2/ 1425) ، كتاب «الزهد» باب: ذكر القبر والبلى (4266) . (3) في د: خلق. [.....]

[سورة الزمر (39) : الآيات 73 إلى 75]

الخلائِقِ، وَوَحَّدَهُ على اسم الجِنْسِ لأنَّ كلَّ أحد له كتاب على حدة، «وجيء بالنبيئين» أي: ليشهدوا على أممهم، والشُّهَداءِ قيل: هو جمع «شَاهِد» وقيل: هو جمع «شَهِيدٍ» في سبِيلِ اللَّهِ، والأولُ أبْيَنُ في معنى التَّوَعُّدِ، والضميرُ في قوله بَيْنَهُمْ عائدٌ على العالم بِأجْمَعِهِ، إذِ الآيةُ تدلُّ عليهم، وزُمَراً مَعْنَاهُ: جماعاتٍ متفرقةً، واحدتها: زُمْرَة. وقوله: فُتِحَتْ جوابُ «إذَا» ، والكَلاَمُ هنا يَقْتَضِي أن فَتْحَها إنما يكُونَ بَعْدَ مجِيئِهم، وفي وُقوفِهِم قَبْل فَتْحِها مَذَلَّةٌ لهُمْ، وهَكَذا هي حالُ السُّجُونِ ومَواضِعِ الثِّقَافِ والعَذَابِ بِخلافِ قولِهِ في أَهْلِ الجَنَّةِ وَفُتِحَتْ، فالواو مؤذِنَةٌ بأنهم يَجِدُونَها مَفْتُوحَةً كَمَنَازِلِ الأَفْرَاحِ والسُّرُورِ. وقوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ... الآية، في قوله: مِنْكُمْ أعْظَمُ في الحُجَّةِ، أي: رُسُلٌ مِنْ جِنْسِكُمْ لا يَصْعُبُ عليكم مرامهم، ولا فهم أقوالهم. [سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ: لَفْظٌ يعمُّ كُلَّ مَنْ يدخلُ الجنةَ من المؤمنينَ الذين اتقوا الشِّرْكَ، والواو في قوله: وَفُتِحَتْ مؤذِنَةٌ بأنها قَدْ فتحت قبل وصولهِم إليها، وقالتْ فِرْقَةٌ: هي زائدةٌ وقالَ قَوْمٌ: أشَارَ إلَيْهِمُ ابن الأنباريِّ، وضَعَّفَ قولَهُم: هذه واو الثمانيةِ، وقد تقدَّم الكلامُ عليها، وجَوابُ «إذا» فُتِحَتْ، وعَنِ المُبَرِّدِ: جوابُ «إذا» محذوفٌ، تقديره بعد قوله: خالِدِينَ: سُعِدُوا وسقطَتْ هذه الواوُ في مصحف ابن مسعود، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ تحيةٌ، وطِبْتُمْ معناه: أعمالاً ومُعْتَقَداً وَمُسْتَقَرّاً وجَزَاءً، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريد: أرض الجنّة، ونَتَبَوَّأُ معناه: نتخذ أَمْكِنَةٌ ومَسَاكِنَ، ثم وَصَفَ تعالى حَالَةَ الملائِكَةِ مِنَ العَرْشِ وَحُفُوفَهُمْ به والحفُوفُ الإحْدَاقُ بالشَّيْءِ، وهذه اللفظة مأخوذةٌ من الحِفَافِ، وهو الجانبُ، قال ابن المبارِك في «رقائقه» : أخبرنا مَعْمَرٌ عن أبي إسحاق/ عن عاصم بن ضَمْرَةَ عن علي أنه تلا هذه الآية: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها قال: وَجَدُوا عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ شَجَرَةً يخرجُ مِنْ ساقها عَيْنَانِ، فَعَمَدُوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها، فاغْتَسَلُوا بها، فَلَمْ تَشْعَثْ رُؤُوسُهم بَعْدَها أبداً، ولم تَتَغَيَّرْ جُلُودُهُمْ بَعْدَهَا أبداً كأنما دُهِنُوا بِالدُّهْنِ، ثم عمدوا إلى الأخرى، فشربوا منها،

فَطَهُرَتْ أجوافُهم، وغَسَلَتْ كُلَّ قَذِرٍ فيها، وَتَتَلَقَّاهُمْ على كلِّ بَابٍ مِنْ أبوابِ الجَنَّةِ ملائكةٌ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، ثم تتلقَّاهم الوِلْدَانُ يُطِيفُونَ بهم كما يُطِيفُ وِلْدَانُ الدُّنْيا بالحَمِيمِ، يجيءُ من الغَيْبَةِ يقولونَ: أَبْشِرْ، أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، وأَعَدَّ اللَّهُ لَكَ كَذَا، ثم يَذْهَبُ الغُلاَمُ مِنْهُمْ إلى الزَّوْجَةِ مِنْ أزْوَاجِهِ، فيقولُ: قَدْ جَاءَ فُلاَنٌ باسمه الَّذِي كَانَ يَدَّعِي به في الدنيا، فَتَقُولُ لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَيَسْتَخِفُّها الفَرَحُ حتى تَقُومَ على أُسْكُفَّةِ بَابِها، ثم ترجِعُ، فيجيءُ، فَيَنْظُرُ إلى تَأْسِيسِ بنيانِهِ من جَنْدَلِ اللؤلؤ أخضَرَ وأصْفَر وأحْمَر مِنْ كُلِّ لَوْنٍ ثم يجلسُ فينظُرُ فإذا زَرَابِيُّ مبثُوثَةٌ، وأكوابٌ موضوعَةٌ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ- فَلَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ، لأَذْهَبَ بَصَرَهُ- إنَّما هُوَ مِثْلُ البَرْقِ ثم يقول: الحمدُ لِلَّهِ الذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، انتهى. وقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قَالَتْ فرقَةٌ معناه: أَنَّ تَسْبِيحَهُمْ يتأتى بِحَمْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، وقالَتْ فرقةٌ: تسبيحُهُمْ هُوَ بتردِيدِ حَمْدِ اللَّهِ، وتَكْرَارِهِ، قال الثعلبيُّ: مُتَلَذِّذِينَ لاَ مُتَعَبِّدِينَ مُكَلَّفِينَ «1» . وقوله تعالى: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خَتْمٌ للأمرِ، وقولٌ جَزْمٌ عِنْدَ فصلِ القَضَاءِ، أي: أن هذا المَلِكَ/ الحَاكِمَ العادلَ ينبغي أن يُحْمَدَ عِنْدَ نفوذِ حكمه وإكمال قضائِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَمِنْ هذه الآيةِ جُعِلَتْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خَاتمةَ المجالِسِ والمُجْتَمَعَاتِ في الْعِلْمِ، قال قَتَادَةُ: فَتَحَ اللَّهُ أَوَّلَ الخَلَقِ بالحمد، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 1] وخَتَمَ القيامَةَ بالحَمْدِ في هذه الآية «2» . قال ع «3» : وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتِحَةَ كتابهِ فَبِه يُبْدَأ كلُّ أمْرٍ وَبِه يُخْتَمُ، وحَمْدُ اللَّهِ تعالى وتقديسُهُ ينبغي أن يكونَ مِن المؤمنِ كما قيل: [الطويل] وَآخِرُ شَيْءٍ أَنْتَ في كُلِّ ضَجْعَةٍ ... وَأَوَّلُ شَيْءٍ أنت عند هبوبي «4»

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 544) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 36) برقم: (30264) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 544) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 69) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 642) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 544) . (4) ينظر: المصدر السابق (4/ 544) .

تفسير"سورة غافر"

تفسير «سورة غافر» [وهي] مكّية روى أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: الحواميم ديباج القرآن «1» ، ومعنى هذه العبارة: أنّها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزّجر وطرق الآخرة محضا، وعن ابن مسعود أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنّة، فليقرإ الحواميم» «2» . [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) قوله تعالى: حم: تقدَّم القولُ في الحُرُوفِ المقطَّعَةِ، ويَخْتَصُّ هذا المَوْضِعُ بقولٍ آخرَ قاله الضَّحَّاكُ والكسائي أنَّ حم هِجَاءُ (حُمَّ) - بضم الحاء وتشديد الميم المفتوحةِ- كأنه يقولُ: حُمَّ الأَمْرُ وَوَقَعَ تنزيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ «3» ، وقال ابن عَبَّاسٍ: الر، وحم، ون، هي حروفُ الرحمن مقطَّعةٌ في سُورٍ «4» ، وسأَل أعرابيٌّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عن حم ما هو؟ فقال: بدء أسماء، وفواتح سور، وذِي الطَّوْلِ معناه: ذي/ التَطَوُّلِ والمَنِّ بكلِّ نعمةٍ، فَلاَ خَيْرَ إلاَّ مِنْهُ سبحانَهُ، فَتَرَتَّبَ في هذه الآيةِ وعيدٌ بَيْنَ وَعْدَيْنِ، وهكذا رحمتُهُ سبحانه تَغْلِبُ غَضَبَهُ، قال ع «5» : سمعتُ هذه النَّزْعَةَ مِنْ أبي- رحمه اللَّه- وهُوَ نحوٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ- رضي اللَّه عنه-: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» «6» ت: هو حديثٌ، والطَّوْلُ: الإنْعَامُ، وعبارةُ البخاريِّ: الطَّوْلُ: التَّفَضُّلُ، وَحَكَى الثعلبيُّ عن أهل الإشارة أنّه

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 643) ، وعزاه إلى أبي الشيخ، وأبي نعيم، والديلمي. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 545) . (3) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 90) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 545) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 37) برقم: (30265) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 90) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 545) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 546) . (6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 546) .

[سورة غافر (40) : الآيات 6 إلى 9]

تعالى: غافرُ الذَّنْبِ فَضْلاً، وقابِلُ التَّوْبِ وَعْداً، شَدِيدُ العقابِ عَدْلاً، لا إلَهَ إلاَّ هو إليه المصيرُ فَرْداً، وقال ابن عبَّاس: الطَّولُ: السَّعَةُ، والغِنى «1» ، وتقلب الذين كفروا في البلاد: عبارَةٌ عَنْ تَمَتُّعِهِمْ بالمَسَاكِنِ والمَزَارِعِ والأَسْفَارِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي: لِيُهْلِكُوهُ، كما قال تعالى: فَأَخَذْتُهُمْ، والعربُ تقولُ لِلْقَتِيلِ: أُخِذَ، ولِلأَسيرِ كَذَلِكَ قال قتادة: لِيَأْخُذُوهُ معناه: ليقتلوه «2» ، ولِيُدْحِضُوا معناهُ ليُزْلِقُوا ويَذْهَبُوا، والمَدْحَضَةُ: المَزَلَّةُ، والمَزْلَقَةُ. وقوله: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ: تَعْجِيبٌ وتعظيمٌ، وليس باسْتفهامٍ عن كيفيّة وقوع الأمر. [سورة غافر (40) : الآيات 6 الى 9] وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وقوله سبحانه: «وكذلك حَقَّتْ كلمات رَبِّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ» الآية، في مصحفِ ابن مسعودٍ «وَكَذَلِكَ سَبَقَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» «3» والمعنى: وَكَمَا أَخَذَتْ أولئك المَذْكُورِينَ فَأَهْلَكَتْهُمْ، فكذلك حَقَّتْ كلماتي على جميعِ الكُفَّارِ، مَنْ تَقَدَّمَ منْهُمْ ومَنْ تَأَخَّرَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّار. وقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ... الآية، أَخْبَرَ اللَّهُ سبحانَهُ بِخَبَرٍ يتضمَّنُ تَشْرِيفَ المؤمنِينَ، ويُعظِّمُ الرَّجاءَ لهم، وهو أنَّ الملائِكَةَ الحَامِلِينَ لِلْعَرْشِ والذينَ/ حَوْلَ العَرْشِ وهؤلاءِ أفضلُ الملائِكَةِ يستغْفِرُونَ للمؤمنين، ويسألون اللَّهَ لَهُمُ الرَّحْمَةَ والجَنَّةَ وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا [الفرقان: 16] أي سأَلَتْهُ الملائكةُ، قال ع «4» : وفَسَّرَ

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 39) برقم: (30271) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 90) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 546) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 70) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 645) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 40) برقم: (30277) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 91) عن ابن عبّاس، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 547) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 646) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 547) ، و «البحر المحيط» (7/ 432) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (547) . [.....]

في هذه الآية المُجْمَلَ الذي في قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] لأَنَّ الملائِكَةَ لا تستغفرُ لكافرٍ، وقد يجوز أن يُقَال: إنَّ استغفارَهم لهمُ بمعنى طَلَبِ هدايتِهم، وبلغني أنَّ رجُلاً قال لبعض الصالحين: ادع لي، واستغفر لي، فقالَ لَهُ: تُبْ، واتبع سَبِيلَ اللَّهِ يَسْتَغْفِرْ لَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وتلا هذه الآيَةَ، وقال مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: وَجَدْنَا أَنْصَحَ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ المَلاَئِكَةَ، وأغَشَّ العِبَادِ لِلْعِبَادِ الشَّياطِينَ «1» ، وتلا هذه الآية، وروى جابر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة «2» ، قال الداوديّ: وعن هارونَ بْنِ ريابٍ قال: حملةُ العَرْش ثمانيةٌ يَتَجاوبُونَ بصوْتٍ حَسَنِ، فأرْبَعَةٌ يقولونَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ على حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ وبِحَمْدِكَ على عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، انتهى. وروى أبو داودَ عن جَابِرِ بن عبدِ الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلَى عَاتِقِهِ [مَسِيرَةَ] سَبْعِمَائَةِ عَامٍ» «3» ، انتهى، وقد تقدَّم. وقولهم: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً معناه: وسِعتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ. وقوله: «ومَنْ صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم» : رُوِيَ عن سعِيدِ/ بْنِ جُبَيْرٍ في ذلك: أنَّ الرَّجُلَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَبل قَرَابَتِهِ، فَيَقُولُ: أَيْنَ أَبِي؟ أَيْنَ أُمِّي، أَيْنَ ابني، أَيْنَ زَوْجِي، فيلحقونَ بِهِ لصلاحهم ولتنبيه عليهم، وطَلَبِهِ إيَّاهُمْ، وهذه دَعْوَةُ المَلاَئِكَةِ «4» . وقولهم: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ معناه: اجْعَلْ لهم وِقَايَةً تقيهمُ السيئات، واللّفظ يحتمل

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 43) برقم: (30284) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 93) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 548) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 72) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 649) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. (2) أخرجه أبو داود (2/ 645) كتاب «السنة» باب: في الجهمية والمعتزلة (4727) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (10/ 194- 195) (5334) . وقال أبو نعيم في «الحلية» (3/ 158) : غريب من حديث محمّد عن ابن عبّاس، لم نكتبه إلا من حديث جعفر عن ابن عجلان، وحديث جابر قد رواه عن محمّد غيره. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» : رواه الطبراني في «الأوسط» ورجاله رجال «الصحيح» . (3) ينظر: المصدر السابق. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 42) برقم: (30282) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 93) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 548) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 72) .

[سورة غافر (40) : الآيات 10 إلى 11]

أَنْ يكونَ الدعاءُ في أن يدفعَ اللَّهُ عنهم أنْفُسَ السيئاتِ حتى لاَ يَنَالَهُمْ عذابٌ مِن أَجْلِهَا، ويحتملُ أَنْ يكونَ الدعاءُ في دَفْعِ العَذَابِ اللاَّحِقِ من السيئاتِ، فيكونُ في اللَّفْظِ على هذا حذْفُ مضافٍ، كأنه قال: وقِهِمْ جَزَاءَ السيِّئاتِ، قال الفَخْرُ «1» : وقوله تعالى: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني: من تِقِ السيئاتِ في الدنيا، فَقَدْ رَحِمْتَهُ في يوم القيامةِ، انتهى، وهذا رَاجِعٌ إلى التأويل الأول. [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 11] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... الآية، رُوِي أنَّ هذه الحالَ تَكُونُ للكُفَّارِ عِنْدَ دخولِهِمُ النَّارَ فإنَّهم إذا دَخَلُوا «2» فيها مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ وتُنَادِيهِمْ مَلاَئِكَةُ العَذَابِ على جهة التوبيخِ: لَمَقْتُ اللَّهِ إيَّاكُمْ في الدُّنْيَا إذْ كُنْتُمْ تُدْعَوْنَ إلى الإيمانِ فتكفرونَ، أكْبَرُ مِنْ مقتِكُمْ أنْفُسَكُمْ اليَوْمَ، هذا هو معنى الآية وبه فسَّر مجاهد وقتادة وابن زيد «3» ، واللامُ في قوله: لَمَقْتُ يحتملُ أنْ تكونَ لامَ ابتداءٍ، ويحتملُ أن تكون لام قسم، وهو أصوب، وأَكْبَرُ خبر الابْتِدَاءِ، واختلف في مَعْنَى قَوْلِهِم: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ... الآية، فقال ابن عبَّاس وغَيره: أرادوا مَوْتَةً كَوْنَهُمْ في الأَصْلاَبِ، ثم إحياءَهم في الدنيا، ثم إماتَتَهم الموتَ المعروفَ، ثم إحياءَهم يوم القيَامَةِ، وهي كالتي في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ... «4» [البقرة: 28]

_ (1) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (27/ 34) . (2) في د: ادخلوا. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 43) برقم: (30286) عن مجاهد، وبرقم: (30287) عن قتادة، وبرقم: (30289) عن ابن زيد، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 93) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 549) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 72) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 649) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن، ولعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد. (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 44) برقم: (30290) عن قتادة، وبرقم: (30292) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 93) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 549) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 73) عن ابن مسعود، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 650) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود، ولابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد عن أبي مالك، ولعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة.

[سورة غافر (40) : الآيات 12 إلى 14]

الآية، وقال السُّدِّيُّ: أرادوا أنه/ أحيَاهم في الدنيا، ثم أماتهم، ثم أحْياهم في القبر وقتَ السُّؤال، ثم أماتَهم فيه، ثم أحياهم في الحَشْر «1» ، قال ع «2» : هذا فيه الإحياءُ ثلاثَ مِرَارٍ، والأول أثْبَتُ، وهذه الآية متَّصلةُ المعنى بالتي قَبْلَهَا، وبَعْدَ قولهم: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ محذوفٌ يَدُلُّ عليه الظاهِرُ، تقديرهُ: لا إسْعَافَ لِطَلبَتِكُمْ، أو نَحْوَ هذا من الردّ. [سورة غافر (40) : الآيات 12 الى 14] ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) وقوله تعالى: ذلِكُمْ يحتملُ أنْ يكونَ إشارةً إلى العذابِ الذي هُمْ فيه، أو إلى مَقْتِهِمْ أنْفُسَهُمْ أو إلى المَنْعِ والزَّجْرِ والإهانةِ. وقوله تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ معناه بحَالَةِ تَوْحِيدٍ ونَفْيٍ لِمَا سِوَاهُ، كَفَرْتُمْ، وإنْ يُشْرَكْ به اللاَّتَ والعزى وغَيْرَهُمَا، صَدَّقْتُمْ، فالحُكْمُ اليومَ بعذابِكم وتخليدِكم في النارِ للَّهِ لا لتلكَ التي كنتم تُشْركُونَها معه في الألوهيَّةَ. وقوله سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... الآية مخاطَبَةٌ للمؤمنِينَ أصْحَابِ نبيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم و «ادعوا» معناه: اعبدوا. [سورة غافر (40) : الآيات 15 الى 18] رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) وقوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يحتمل أن يريد بالدرجات صفاته العلى، وعبَّر بما يَقْرُبُ من أفهامِ السامعينَ، ويحتمل أنْ يريدَ: رفيعُ الدرجاتِ التي يُعْطِيها للمؤمنينَ، ويتفضَّلُ بها على عبادِهِ المُخْلِصِينَ في جَنَّتِهِ، والْعَرْشِ هو الجِسْمُ المخلوقُ الأعْظَمُ الذي السموات السَّبْعُ والكرسيُّ والأَرَضُونَ فيه كالدنانيرِ في الفَلاَةِ من الأرض.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 45) برقم: (30296) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 93) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 549) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 73) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 549) .

وقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال الضَّحَّاك: الرُّوحُ هنا هُو: الوَحْيُ القُرْآنُ وغيره مما لَمْ يُتْلَ «1» وقال قَتَادَةُ والسُّدِّيُّ: الرُّوحُ: النُّبُوَّة «2» ومكانتُها كما قال تعالى: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وسمى هذا رُوحَاً لأنه تَحْيَا به/ الأمَم والأزمانُ كما يَحْيَا الجَسَدُ برُوحِهِ، ويحتملُ أَن يكونَ إلقاءُ الرُّوحِ عامًّا لِكُلِّ ما يُنْعِمُ اللَّهُ بِهِ على عبادِهِ المهتَدِينَ في تفهيمه الإيمانَ والمعقولاتِ الشريفةَ، والمُنْذِرُ بيومِ التَّلاقِ على هذا التأويلِ هو اللَّهُ تعالى، قال الزَّجَّاج: الرُّوحُ كُلُّ ما فيهِ حَيَاةُ النَّاسِ، وكُلُّ مُهْتَدٍ حَيٌّ، وكلُّ ضَالٍّ كالمَيتِ. وقوله: مِنْ أَمْرِهِ إنْ جعلته جِنْساً للأمورِ ف «مِنْ» للتَّبعيضِ أو لابتداءِ الغَايَةِ، وإنْ جَعَلْتَ الأمْرَ مِنْ معنى الكلامِ ف «مِنْ» إما لابتداءِ الغايةِ، وإمَّا بمعنى الباءِ، ولا تكونُ للتبعيضِ بَتَّةً، وقرأ الجمهور: «لتنذر» بالتاء على مخاطبةِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وجماعةٌ: «لينذر» «3» بالياء، ويَوْمَ التَّلاقِ معناه: تلاقِي جميعِ العالمِ بعضِهم بعضاً، وذلك أمرٌ لَمْ يَتَّفِقْ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. وقوله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ معناه في براز من الأرض يسمعهم الدّاعي وينفذهم البَصَرُ. وقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ رُوِيَ أَنَّ اللَّه تعالى يُقَرِّرُ هذا التقريرَ، ويَسْكُتُ العالم هيبة وجزعا، فيجيب- هو نفسُهُ بقوله: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، ثم يُعْلِمُ اللَّهُ تعالى أَهْلَ المَوْقِفِ بأنَّ اليَوْمَ تجزى كُلُّ نفسٍ بما كسبتْ، وَبَاقِي الآيةِ تَكَرَّر مَعْنَاهُ، فانْظُرْهُ في مواضِعه. ثم أمر الله تعالى نبيّه ع بإنْذارِ العَالَمِ وتحذيرِهِمْ مِنْ يومِ القيامةِ وأهوالِه، و «الآزِفَة» : القريبةُ مِنْ أَزِفَ الشيءُ إذا قرب، والْآزِفَةِ في الآية: صِفَةٌ لمحذوفٍ قَدْ عُلِمَ واسْتَقَرَّ في النفوس هولُه، والتقديرُ يَوم الساعة الآزفة، أو الطّامة: الآزفة، ونحو هذا.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 46) برقم: (30301) عن الضحاك، وبرقم: (30300) عن قتادة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 550) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 650) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة. (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 47) برقم: (30303) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 550) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 551) ، و «البحر المحيط» (7/ 437) ، و «الدر المصون» (6/ 33) .

[سورة غافر (40) : الآيات 19 إلى 20]

وقوله سبحانه-: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ معناه: عندَ الحناجِر، أي/ قد صَعِدَتْ من شِدَّةِ الهولِ والجزع، والكَاظِمُ الَّذِي يردُّ غيظَهُ وجزعَهُ في صَدْرِهِ، فمعنى الآية: أنهم يَطْمَعُونَ في رَدِّ ما يجدونه في الحناجر، والحال تغالبهم، ويُطاعُ في مَوْضِعِ الصفةِ ل شَفِيعٍ لأن التقدير: ولا شفيعٍ مطاعٍ، قال أبو حيان «1» يُطاعُ في مَوْضِعِ صفة ل شَفِيعٍ، فيحتملُ أنْ يكونَ في موضعِ خَفْضٍ على اللفظِ، أو في موضِع رفعٍ على الموضِعِ، ثم يحتملُ النَّفيُ أنْ يكونَ مُنْسَحِباً على الوصْفِ فقَطْ، فيكونُ ثَمَّ شَفِيعٌ، ولكنَّه لا يُطَاعُ، ويحتملُ أن يَنْسَحِبَ على الموصوفِ وصفتهِ، أي: لا شفيعَ فيطاعَ، انتهى. وهذا الاحتمالُ الأخير هو الصوابُ، قال ع «2» : وهذهِ الآيةُ كُلُّها عندي اعتراض في الكلام بليغ. [سورة غافر (40) : الآيات 19 الى 20] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) وقوله: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ مُتَّصِلٌ بقوله: سَرِيعُ الْحِسابِ [غافر: 17] وقالتْ فرقة: يَعْلَمُ متصلٌ بقوله: لاَ يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر: 16] وهذا قولٌ حسنٌ يقوِّيهِ تَنَاسُبُ المَعْنَيينِ، ويُضَعِّفُه بُعْدُ الآيةِ من الآيةِ وكَثْرَةُ الحائِل، والخائنةُ: مصدرٌ كالخِيَانَةِ، ويحتمل أن تكونَ خائِنَةَ اسمَ فاعِل، أي: يعلم الأعين إذا خانتْ في نظَرِها، قال أبو حَيَّان «3» : والظاهرُ أن: خائِنَةَ الْأَعْيُنِ من إضافةِ الصفةِ إلى الموصوفِ، أي: الأَعْيُنِ الخائنة، كقوله: [البسيط] ................ ... وَإنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فاسقينا «4» أي: الناسَ الكرامَ، وجوَّزُوا أن يكونَ خائِنَةَ مصدراً، ك «العافية» أي: يعلم خِيانَةَ الأعينِ، انتهى، وهذه الآيةُ عِبَارَةٌ عَن عِلم اللَّهِ- تعالى- بجميعِ الخفيَّاتِ، فمِنْ ذَلِكَ كسر

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 438) . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 552) . (3) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 439) . (4) عجز بيت لبشامة بن حزن النهشلي وصدره: إنا محيوك يا سلمى فحينا ... ...... ينظر: «خزانة الأدب» (8/ 302) ، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي ص: (100) ، و «المقاصد النحوية» (3/ 370) ، و «البحر» (7/ 457) ، و «الدر المصون» (6/ 136) ، والشاهد في قوله: «كرام الناس» حيث أضاف الصفة إلى الموصوف.

[سورة غافر (40) : الآيات 21 إلى 25]

الجُفُونِ والغَمْزُ بالعَيْنِ، أو النظرةُ التي تُفْهِمُ معنى ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم [لأصحابِه في شَأْنِ رَجُلٍ ارتد ثمَّ جَاء لِيُسْلِمَ: «هَلاَّ قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْكُمْ حِينَ تَلَكَّأْتُ عَنْهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ؟ فقالُوا: يَا رَسُولَ الله، ألا أو مأت إلينا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم] «1» : مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ» «2» ، وفي بعضِ الكتبِ المنزَّلةِ مِنْ قَولِ اللَّه عزَّ وجلَّ/: أَنَا مِرْصَادُ الْهِمَمِ أَنَا العَالِمُ بِمَجَالِ الْفِكْرِ وَكَسْرِ الجُفُونِ، وقال مجاهدٌ: «خائنة الأعين» : مُسَارَقَةُ النظرِ إلى مَا لاَ يَجُوزُ «3» ، ثم قَوَّى تعالى هذا الإخبارَ بقولهِ: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ مما لمْ يَظْهَر على عينٍ ولا غَيْرِهَا، وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ عن مولى أمِّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةِ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو: «اللهمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ، وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ، وَلِسَانِي مِنَ الكَذِبِ، وعَيْنِي مِنَ الخِيَانَةِ فإنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُدُورُ» «4» ، انتهى. قال القُشَيْرِيُّ في: «التحبير» وَمَنْ عَلِمَ اطِّلاَعَ الحقِّ- تعالى عليه- يكونُ مُرَاقِباً لربِّهِ وعلامتُه أنْ يكونَ مُحَاسِباً لِنَفْسِهِ، ومَنْ لم تَصِحَّ محاسبتُهُ، لم تصحَّ مراقبتُهُ، وسُئِلَ بعضُهُمْ عَمَّا يَسْتَعِينُ به العبدُ على حفظِ البصر، فقال: يَسْتَعِينُ عليه بعلمِه أنَّ نظرَ اللَّه إليه سَابِقٌ على نظرِهِ إلى مَا ينظرُ إليه، انتهى. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي: يجازي الحسنةَ بعَشْرٍ والسيئةَ بمثلِها، ويُنْصِفُ المظلومَ من الظالمِ إلى غير ذلك من أقضية الحقِّ والعدلِ، والأصْنامُ لا تقضي بشيء، ولا تنفّذ أمرا، ويَدْعُونَ معناه: يعبدون. [سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 25] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)

_ (1) سقط في: د. (2) أخرجه النسائي (7/ 105) كتاب «تحريم الدم» باب: الحكم في المرتد برقم: (4067) ، والحاكم (2/ 54) ، والدارقطني (3/ 59) ، والبيهقي (8/ 202) من حديث سعد بن أبي وقاص. (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 50) برقم: (30317) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 95) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 553) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 653) ، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن المنذر. (4) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 268) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (2/ 184) (3660) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 349) ، وعزاه إلى الحكيم الترمذي.

[سورة غافر (40) : الآيات 26 إلى 33]

وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ الضميرُ في: يَسِيرُوا لكفارِ قُرَيْشٍ، والآثارُ في الأرضِ هي المبانِي والمآثِرُ والصِّيتُ الدُّنْيَوِيُّ، وذُنُوبُهُمْ كانَتْ تكذيبَ الأنبياءِ، والواقي الساترُ المانعُ مأخوذٌ مِن الوِقَايةِ، وباقي الآيةِ بيِّن، وخصَّ تعالى هَامَانَ وقَارُونَ بالذِّكْرِ تَنْبِيهاً على مكانِهِما من الكُفْرِ ولكَوْنِهِمَا أشْهَر رِجَالِ فرعونَ، / وقيل: إن قارونَ هذا لَيْسَ بقارون بني إسرائيل، وقيلَ: هو ذلكَ، ولكنَّه كانَ منقطعاً إلى فرعونَ خادماً له مُسْتَغْنِياً معه. وقوله: ساحِرٌ أي: في أمر العصا، وكَذَّابٌ في قوله: إني رسولُ اللَّهِ، ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لما جَاءَهُمْ موسى بالنبوّة والحقِّ من عند اللَّهِ قال هؤلاءِ الثَّلاثَةُ وأَجْمَعَ رَأْيُهم على أَنْ يُقَتَّلَ أَبْنَاءُ بني إسرائيلَ أَتْبَاعِ موسى، وشُبَّانُهُمْ وَأَهْلُ القُوَّةِ مِنْهُمْ، وأن يُسْتَحْيَا النساءُ لِلْخِدْمَةِ وَالاسْتِرْقَاقِ، وهذا رجوعٌ منهم إلى نحو القتل الأولِ الذي كان قَبْلَ ميلادِ موسى، ولكنَّ هذا الأخيرَ لم تتمّ لهم فيه عزمة، ولا أعانَهُمُ اللَّه تعالى على شَيْءٍ منه، قال قتادة: هذا قَتَلٌ غيرُ الأولِ الذي [كانَ] حَذَرَ المولودِ «1» ، وسَمَّوْا مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ بني إسرائيلَ أَبْنَاءَ كما تقولُ لأَنْجَادِ القبيلةِ أو المدينةِ وأَهْلِ الظُّهُورِ فِيها: هؤلاءِ أبناءُ فُلاَنَةٍ. وقوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ عبارةٌ وَجِيزَةٌ تُعْطي قوَّتُها أنَّ هؤلاءِ الثلاثةَ لَمْ يُقْدِرْهُمُ اللَّهُ تعالى على قتلِ أحدٍ مِنْ بني إسرائيل، ولاَ نَجَحَتْ لهم فيهم سعاية. [سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 33] وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 52) برقم: (30321) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 95) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 554) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 76) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 654) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد.

وقوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ... الآية، الظاهرُ مِنْ أمرِ فِرْعَوْنَ أنه لمَّا بهرتهم آيات موسى ع انهد رُكْنُهُ، واضطربت معتقداتُ أَصْحَابِهِ، ولم يَفْقِدْ مِنْهُمْ من يجاذبُهُ الْخِلاَفُ في أمْرِه، وذلك بَيِّنٌ مِنْ غَيرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّتهما، وفي هذه الآية على ذلك دَلِيلاَنِ: أحدُهما: قوله: ذَرُونِي فليستْ هذه مِنْ ألفاظِ الجَبَابِرَةِ المتمكِّنِينَ مِنْ إنفاذ أوامِرِهمْ. والدليل الثاني: مَقَالَةُ المُؤْمِنِ وَمَا صَدَعَ به، وإنَّ مكاشَفَتَهُ لِفِرْعَوْنَ أكْثَرُ مِنْ مُسَاتَرَتِهِ، وحُكْمُه بِنُبُوَّةِ موسى أظْهَرُ/ من تَوْرِيَتِهِ في أَمْرِهِ، وأَمَّا فِرْعَوْنُ فإنما نَحا إلى المَخْرَقَةِ والتَمْوِيهِ والاضْطرابِ، ومن ذلك قوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي: إني لا أبالي بربِّ موسى، ثم رجَعَ إلى قومِه يُرِيهُم النَّصِيحَةَ والحمايةُ لهم، فقالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ والدين: السلطانُ ومنه قولُ زُهَيْرٍ: [البسيط] لَئِنْ حَلَلْتَ بِحَيٍّ في بَنِي أَسَدٍ ... في دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ «1» وقرأ حمزةُ والكسائي وعاصم: «أَوْ أَنْ يُظْهِرَ» وقرأ الباقون: «وَأَنْ يُظْهِرَ» «2» فعلَى القراءةِ الأولى: خافَ فِرْعَوْنُ أَحَدَ أمْرَيْنِ، وعلى الثانيَةِ: خَافَ الأَمْرَيْنِ معاً، ولَمَّا سَمِعَ موسى مقالةَ فِرْعَوْنَ دَعَا، وقال: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ... الآية، ثم حكَى اللَّهُ سبحانه مقالةَ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ شرَّفَه بالذكْرِ وخلَّدَ ثَنَاءَه في الأُمَمِ غَابِرَ الدَّهْرِ، قال ع «3» : سمعتُ أبي- رحمه اللَّه- يقول: سمعتُ أَبا الفَضْلِ ابْنَ الجَوْهَرِيِّ على المنبر يقول وَقَدْ سُئِلَ أن يتكلَّمَ في شيءٍ من فضَائِل الصحابةِ، فأَطْرَقَ قليلاً، ثُمَّ رَفَع رأْسَهُ، وأنشد: [الطويل]

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 555) . (2) ينظر: «السبعة» (569) ، و «الحجة» (6/ 107) ، و «إعراب القراءات» (2/ 265) ، و «معاني القراءات» (2/ 344) ، و «شرح الطيبة» (5/ 205) ، و «العنوان» (167) ، و «حجة القراءات» (629) ، و «شرح شعلة» (570) ، و «إتحاف» (2/ 436) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 555) .

عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُقْتَدِ «1» مَاذَا تُرِيدُ من قومٍ قَرَنَهُمُ اللَّهُ بنبيِّه، وخصَّهم بمشاهدةِ وَحْيِهِ، وقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تعالى على رَجُلٍ مُؤْمِنٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، كَتَمَ إيمانَهُ وأَسَرَّهُ، فجعلَه تعالى في كتابهِ، وأثْبَتَ ذِكْرَهُ في المصاحِفِ، لكلامٍ قَالَه في مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْكُفْرِ، وأَيْنَ هُوَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ- رضي اللَّه عنه- إذْ جَرَّدَ سَيْفَهُ بمكَّةَ، وقال: واللَّهِ، لاَ أَعْبُدُ اللَّهَ سِرًّا بَعْدَ اليَوْمِ، قال مقاتل: كان هذا المؤمنُ ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ «2» ، قال الفَخْرُ «3» : قيل: إنَّه كانَ ابْنَ عَمٍّ لِفِرْعَوْنَ، وكانَ جَارِياً مجرى وَلِيِّ العهدِ له، ومجرى صاحبِ السِّرِّ لَه، وقيلَ: كانَ قِبْطِيًّا مِنْ قومِ/ فرعونَ، وقيل: إنه كانَ من بني إسرائيل، والقولُ الأولُ أَقْرَبُ لأن لَفْظَ الآلِ يقعُ على القَرَابَةِ والعشيرةِ، انتهى. قال الثعلبيُّ: قال ابنُ عباس وأكْثَرُ العُلَمَاءِ: كانَ اسمُهُ «حَزْقِيلَ» «4» ، وقيل: حَزِيقَال، وقيل: غير هذا، انتهى. وقوله: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قال أبو عُبَيْدَةَ وغَيْره: بَعْضُ هنا بمعنى: «كل» «5» ، وقال الزَّجَّاج: هو إلْزَامُ الحُجَّةِ بِأَيْسَرِ ما في الأمرِ «6» ، وليسَ فيه نَفْيُ إصَابَةِ الكُلِّ، قال ع «7» : ويظهرُ لي أنَّ المعنى: يُصِبْكُمُ القَسْمُ الواحدُ مما يَعِدُ بِهِ، [لأنَّه ع وَعَدَهُمْ إنْ آمَنُوا بالنَّعِيمِ، وإنْ كَفَرُوا بالعذابِ الأَلِيمِ، فإن كانَ صادِقاً، فالعذابُ بَعْضُ مَا وعد به] «8» ، وقول المؤمن: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ اسْتِنْزَالٌ لهم وَوَعْظٌ. وقوله: فِي الْأَرْضِ يريدُ أرْضَ مِصْرَ، وهذه الأقوالُ تَقْتَضِي زَوالَ هَيْبَةِ فرعونَ

_ (1) البيت ذكره الخطابي في «العزلة» ص: (69) . ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 556) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 54) برقم: (30323) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 96) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 556) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 77) . (3) ينظر: «الفخر الرازي» (27/ 50) . [.....] (4) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 96) عن ابن عبّاس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 655) ، وعزاه لابن المنذر. (5) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 96) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 556) . (6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 556) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 556) . (8) سقط في: د.

ولذلكَ اسْتَكَانَ هُوَ، وَرَاجَعَ بقوله: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى واخْتَلَفَ الناسُ مِنَ المُرَادِ بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ، فقالَ الجمهورُ: هو المُؤْمِنُ المَذْكُورُ قَصَّ اللَّهُ تعالى أقاويله إلى آخر الآيات، وقالت فرقةٌ: بلْ كَلاَمُ ذلك المُؤْمِنِ قد تَمَّ وإنما أراد تعالى: ب الَّذِي آمَنَ موسى ع مُحْتَجِّينَ بقوَّةِ كَلاَمِهِ، وذكْرِ عذابِ الآخرةِ وغير ذلك ولم يَكُنْ كَلاَمُ الأوَّلِ إلا بملاينةٍ لهم. وقوله: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي: مثلَ يَوْمٍ منْ أَيَّامِهِمْ لأنَّ عذابَهُمْ لم يكُنْ في عَصْرٍ واحِدٍ، والمرادُ بالأحزابِ المُتَحَزِّبُونَ على الأنبياء، ومِثْلَ الثاني: بدلٌ مِن الأوَّل، والدَّأْبُ: العادةُ، «ويوم التنادي» معناه: يَوْمَ يُنَادِي قَومٌ قَوْماً، ويناديهمُ الآخرُونَ واختلف في التنادِي المُشَارِ إلَيْهِ، فقال قتادةُ: هو نِدَاءُ أهْلِ الجَنَّةِ أَهْلَ النارِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا «1» [الأعراف: 44] وقيل: هو النداءُ الذي يَتَضَمَّنهُ قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] قال ع «2» : ويحتملُ/ أَنْ يكُونَ المُرَادُ التَّذْكِيرَ بِكُلِّ نِدَاءٍ في الْقَيَامَةِ فيه مَشَقَّةٌ على الكُفَّار والعُصَاةِ وذلك كثِيرٌ. وقرأ ابن عبَّاس والضَّحَّاك وأبو صَالِحٍ: «يوم التَنَادِّ» بشدِّ الدال «3» وهذا معنًى آخرُ لَيْسَ من النداءِ، بل هُو مِنْ: نَدَّ البعيرُ: إذا هَرَبَ وبهذا المعنى فسَّر ابنُ عبَّاسٍ والسُّدِّيُّ هذه «4» الآيةَ، وَرَوَتْ هذه الفِرْقَةُ، في هذا المعنى حَدِيثاً أنَّ اللَّهَ تعالى إذا طَوَى السَّمَوَاتِ نَزَلَتْ مَلاَئِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ، فكانَتْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مستديرةً بالأرْضِ التي عليها الناسُ لِلْحِسَابِ فَإذَا رَأَى الخَلْقُ هولَ القيامةِ، وأخْرَجَتْ جَهَنَّمُ عنقاً إلى أصحابها، فَرَّ الكُفَّارُ ونَدُّوا مدْبِرينَ إلى كل جهةٍ، فتردُّهم الملائِكَةُ إلَى المَحْشَرِ لا عَاصِمَ لهم، والعاصم: المنجي.

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 56) برقم: (30331) ، (30332) عن قتادة، (30333) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 558) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 656) ، وعزاه لعبد بن حميد. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 558) . (3) وقرأ بها الكلبي. ينظر: «المحتسب» (2/ 243) ، و «الشواذ» ص: (133) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 558) ، و «البحر المحيط» (7/ 444) ، وزاد نسبتها إلى ابن مقسم، والزعفراني. وهي في «الدر المصون» (6/ 39) . (4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 57) برقم: (30335) عن الضحاك، (30336) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 97) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 558) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 79) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 656) ، وعزاه لابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن الضحاك.

[سورة غافر (40) : الآيات 34 إلى 40]

[سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 40] وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وقوله: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ ... الآية، قالت فرقةٌ منهمُ الطبريُّ «1» : يوسفُ المذكورُ هنا هو يوسفُ بنُ يَعْقُوبَ- عليهما السلام- وَرُوِيَ عن وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أن فرعونَ موسى هُو فِرْعَوْنُ يُوسُفَ عُمِّر إلى زَمَنِ موسى «2» ، وروى أَشْهَبُ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَمَّرَ أرْبَعْمِائَةِ سَنَةٍ وأرْبَعِينَ سَنَةً، وقالَتْ فرقةٌ: بل هُو فِرْعَونٌ آخر. وقوله: كَبُرَ مَقْتاً أي: كَبُرَ مَقْتاً جِدَالُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فاختصر ذِكْرَ الْجِدَالِ لدلالة تقدُّمِ ذِكْرِهِ عليه، وقرأ أبو عَمْرٍو وَحْدَهُ: «على كُلِّ قَلْبٍ» بالتنوينِ، وقرأ الباقونَ بغيرِ تنوينٍ «3» ، وفي مصحف ابن مسعود «4» : «على قَلْبِ [كُلِّ] «5» مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» ، ثم إن فرعونَ لما أعْيَتْهُ الْحِيَلُ في مُقَاوَمَةِ موسى، نحا إلى المَخْرَقَةِ، ونادى هَامَانَ وزيرَهُ أنْ يَبْنِيَ لَهُ صُرْحاً فيروى أنه طَبَخَ الآجُرَّ لهذا الصَّرْحِ، ولم يُطْبَخْ قبْلَهُ، وبناه ارتفاعَ أربعمائةِ ذراعٍ، فبعثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَمَسَحَهُ/ بجَنَاحِه، فكسَرَهُ ثَلاَثَ كِسَرٍ، تَفَرَّقَتِ اثنتانِ، ووقَعَتْ ثالثةٌ في البحر، والْأَسْبابَ الطّرق قاله السّدّيّ «6» ،

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 58) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 559) . (3) وقرأ بها: ابن ذكوان عن ابن عامر. ينظر: «إعراب القراءات» (2/ 268) ، و «حجة القراءات» (630) ، و «السبعة» (570) ، و «الحجة» (6/ 109) ، و «معاني القراءات» (2/ 346) ، و «شرح الطيبة» (5/ 206) ، و «العنوان» (167) ، و «شرح شعلة» (571) ، و «إتحاف» (2/ 437) . (4) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (133) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 559) . (5) سقط في: د. [.....] (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 60) برقم: (30342) عن أبي صالح، و (30343) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 560) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 80) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 657) ، وعزاه لعبد بن حميد عن أبي صالح.

[سورة غافر (40) : الآيات 41 إلى 56]

وقال قتادةُ: أرادَ الأبوابَ «1» ، وقيل عَنَى لعلَّه يَجِدُ مَعَ قُرْبِه مِنَ السَّمَاءِ سَبَباً يَتَعَلَّقُ به. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «وَصُدَّ عنِ السَّبِيلِ» - بضم الصاد وفتح الدالِ-، عطفاً على زُيِّنَ، والباقونَ- بفَتْحِ الصاد «2» - والتَّبَابُ: الخُسْرَانُ ومنه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] وبه فَسَرها مجاهدٌ وقتادة «3» ، ثم وعظهمُ الذي آمن، فَدَعا إلى اتباع أَمْرِ اللَّهِ. وقوله: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ يقَوِّي أنَّ المتكلمَ موسى، وإنْ كان الآخرُ يُحْتَملُ أنْ يقولَ ذلك، أي: اتبعوني في اتباع موسى، ثم زَهَّدَهُمْ في الدنيا، وأنَّهَا شَيْءٌ يُتَمَتَّعُ بِهِ قليلاً، ورَغَّبَ في الآخرةِ إذْ هي دَارُ الاستِقْرَارِ، قال الغَزَّالِيُّ في «الإحْياءِ» : مَنْ أَرَادَ أنْ يدخلَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ، فليستَغْرِقْ أوقَاته في التلاوةِ والذكرِ والتفكُّرِ في حسن المآبِ، ومَنْ أرادَ أن تَرْجُحَ كفَّةُ حَسَنَاتِهِ وتَثْقُلَ موازينُ خَيْرَاتِهِ، فليستوعبْ في الطاعةِ أَكْثَرَ أوقاتِهِ، فإنْ خَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، فأمْرُهُ في خَطَر، لكنَّ الرجاءَ غَيْرُ منْقَطِعٍ، والعفوُ من كَرَمِ اللَّهِ منتَظَرٌ، انتهى. [سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 56] وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

_ (1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 60) برقم: (30344) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 560) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 80) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 657) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد. (2) ينظر: «السبعة» (570) ، و «الحجة» (6/ 111) ، و «إعراب القراءات» (2/ 270) ، و «العنوان» (167) ، و «حجة القراءات» (632) ، و «إتحاف» (2/ 437) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 61) برقم: (30347) عن ابن عبّاس، وبرقم: (30348) عن مجاهد، و (30349) عن قتادة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 560) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 80) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 657) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة، ولابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

وقوله تعالى: وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ ... الآية، قد تقَدَّمَ ذِكْرُ الخِلاَفِ، هل هذهِ المقالاتُ لموسى أو لمؤمنِ آل فرعون، والدعاءُ إلى النجاةِ هو الدعاءُ إلى سبَبِها وهو توحيدُ اللَّهِ تعالى وطاعتُه، وباقي الآية بيِّنٌ. وقوله: أَنَّما تَدْعُونَنِي المعنى: وإنَّ الذي تدعونَني إليه من عبادةِ غيرِ اللَّهِ لَيْسَ له دعوة، أي: قَدْرٌ وَحَقٌ يجب أنْ يدعى أحدٌ إليه ثم توعَّدَهم بأنَّهم سَيَذْكُرُونَ قولَه عند حُلُولِ/ العذابِ بهم، والضميرُ في فَوَقاهُ يحتملُ أنْ يعودَ على موسى، أو على مؤمنِ آل فرعون علَى ما تقدَّم من الخلاف. وقال القائلون بأنه مؤمن آل فرعون: إن ذلك المؤمن نجا مع موسى ع في البَحْرِ، وَفَرَّ في جملةِ مَنْ فَرَّ معَه مِنَ المتَّبِعينَ. وقوله تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ... الآية، قوله: النَّارُ رَفْعٌ على البَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: سُوءُ وقيلَ رفعٌ بالابتداءِ، وخَبَرُهُ يُعْرَضُونَ قالت فرقةٌ: هذا الغُدُوُّ والعَشِيُّ هو في الدنيا، أي: في كل غُدُوٍّ وَعَشِيٍّ من أيام الدنيا يُعْرَضُ آلُ فِرْعَوْنَ على النَّارِ، قال القرطبيُّ في «التذكرة» «1» : وهذا هو عذابُ القَبْرِ في البَرْزَخِ، انتهى وكذا قال الإمام الفخر «2» ، ورُوِيَ في ذلك أنَّ أرواحَهُمْ في أجوافِ طَيْرٍ سُودٍ تَرُوحُ بِهِمْ وَتَغْدُو إلى النارِ وقالَهُ الأوزاعِيُّ «3» - عافانا اللَّه من عذابه-، وخرَّج البخاريُّ ومسلم عن

_ (1) ينظر: «التذكرة» (1/ 191) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (27/ 64) . (3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 66) برقم: (30370) عن الأوزاعي، وبرقم: (30368) عن الهذيل بن شرحبيل (30369) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 99) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 562) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 82) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 659) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل، ولعبد بن حميد عن الضحاك، ولعبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود.

ابن عمر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمنْ أَهْلِ النَّارِ، يقالُ لَهُ: هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «1» ، انتهى. وقوله [تعالى] وَيَوْمَ [تَقُومُ السَّاعَةُ] «2» أي: وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ وآل فرعون: أتْبَاعُهُ وأهْلُ دينهِ، والضميرُ في قولهِ: يَتَحاجُّونَ لجميعِ كفارِ الأُمَمِ، وهذا ابتداءُ قصص لا يَخْتَصُّ بآل فرعونَ، والعامِلُ في: «إذ» فَعْلٌ مضمرٌ، تقديره: اذْكُرْ، ثم قال جميعُ مَنْ في النارِ لخَزَنَتِهَا: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فراجَعَتْهُمُ الخَزَنَةُ على مَعْنَى التَّوبِيخِ والتقريرِ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ، فأقَرَّ الكُفَّارُ عند ذلك، وقالُوا/ بَلى، أي: قَدْ كَانَ ذلك، فقالَ لهم الخَزَنَةُ عِنْدَ ذلك: ادعوا أنتم إذن، وهذا على معنى الهُزْءِ بهِم. وقوله تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ قيل: هو من قول الخَزَنَةِ، وقيل: هو من قول الله تعالى إخبارا منه لمحمّد ع، ثم أخبَر تعالى أنه ينصر رسلَه والمؤمنينَ في الدنيا والآخرةِ، ونصرُ المؤمِنينَ داخلٌ في نَصْرِ الرُّسُلِ، وأَيْضاً، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ للمؤمنينَ الفضلاءِ وُدًّا، وَوَهَبَهُمْ نَصْراً إذا ظُلِمُوا، وَحَضَّتِ الشريعة على نصرهم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ رَدَّ عَنْ أخِيهِ في عِرْضِهِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جهنّم» «3» ،

_ (1) أخرجه البخاري (3/ 286) كتاب «الجنائز» باب: الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي (1379) ، (6/ 366) كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3240) ، (11/ 369) كتاب الرقاق، باب: سكرات الموت (6515) ، ومسلم (4/ 2199) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (65- 66/ 2866) ، وابن حبان (7/ 400- 401) ، كتاب «الجنائز» باب: ذكر الإخبار بأن أهل القبور تعرض عليهم مقاعدهم التي يسكنونها في كلّ يوم مرتين (3130) ، ومالك (1/ 239) كتاب «الجنائز» باب: جامع الجنائز (47) ، وأحمد (2/ 113، 116) ، والترمذي (3/ 375) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في عذاب القبر (1072) ، والترمذي (4/ 107) كتاب «الجنائز» باب: وضع الجريدة على القبر (2072) ، وابن ماجه (2/ 1427) كتاب «الزهد» باب: ذكر القبر والبلى (4170) ، والطيالسي (1/ 153) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في حسن الظن بالله والكشف لكل إنسان عن مصيره (736) . قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. (2) في د: ويوم القيامة. (3) أخرجه البيهقي (8/ 168) كتاب «قتال أهل البغي» باب: ما جاء في الشفاعة والذب عن عرض أخيه المسلم من الأجر، وأحمد (6/ 450) ، والترمذي (4/ 327) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في الذب عن عرض المسلم برقم: (1931) ، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 501) كتاب «الأدب وغيره» باب: الترهيب من الغيبة والبهت وبيانهما، والترغيب في ردهما برقم: (4194) عن أبي الدرداء

[سورة غافر (40) : الآيات 57 إلى 59]

وقوله ع: «مَنْ حمى مُؤْمِناً مِنْ مُنَافِقٍ يَغْتَابُهُ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَاً يَحْمِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «1» . وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يريدُ يَوْمَ القيامةِ، قال الزّجّاج «2» ، والْأَشْهادُ: جَمْعُ شَاهِدٍ، وقال الطبري «3» : جمع شَهِيدٍ، كَشريفِ وأشراف، ويَوْمَ لاَ يَنْفَعُ بَدَلٌ من الأوَّلِ، والمَعْذِرَةُ، مَصْدَرٌ، كالعُذْرِ، ثم أخبرَ تعالى بقصَّةِ موسى ومَا آتاه منَ النُّبوَّةِ، تأنيساً لمحمَّدٍ، وضَرْبَ أُسْوَةٍ وتذكيراً بما كانتِ العربُ تَعْرفُه مِنْ أمرِ موسى، فبيَّنَ ذلكَ أن محمداً لَيْسَ ببِدْعٍ من الرسل، والهُدَى: النُّبُوَّةُ والحكمةُ التوراةُ تَعُمُّ جميعَ ذلك. وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ قال الطبريُّ «4» : الْإِبْكارِ: من طلوع الفَجْرِ إلى طلُوعِ الشَّمْسِ، وقيلَ: مِنْ طلوعِ الشمْسِ إلى ارْتِفَاعِ الضحى، وقال الحَسَنُ: بِالْعَشِيِّ يريدُ صلاةَ العَصْرِ، وَالْإِبْكارِ يريدُ صلاةَ الصُّبْحِ «5» . وقوله تعالى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [أي: ليسُوا على شَيْءٍ، بَلْ في صُدُورِهُمْ كِبْر] «6» وأَنَفَةٌ عليك، ثُمَّ نفى أنْ يكونُوا يَبلغُون آمالهم بِحَسَبِ ذلكَ الكِبْرِ، ثم أمَرَهُ تعالى بالاسْتِعَاذَةِ باللَّهِ في كل أمره من كلّ مستعاذ منه. [سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 59] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ: فيه توبيخٌ لهؤلاء

_ كلهم بنحوه. قال الترمذي: هذا حديث حسن. (1) أخرجه أبو داود (2/ 687) ، كتاب «الأدب» باب: من رد عن مسلم غيبته برقم: (4883) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 377) برقم: (1195) . (2) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 376) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 70) . [.....] (4) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 71) . (5) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 101) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 565) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 661) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة. (6) سقط في: د.

[سورة غافر (40) : آية 60]

الكفرةِ المتكبِّرينَ، كأنه قال: مخلوقاتُ اللَّهِ أَكْبَرُ وأَجَلُّ قَدْراً مِنْ خَلْقِ البَشَرِ، فما لأحدٍ منْهم يَتَكَبّرُ على خالقِه، ويحتملُ أنْ يكونَ الكلامُ في مَعْنَى البَعْثِ، وأنَّ الذي خلقَ السمواتِ والأرْضَ قادِرٌ على خَلْقِ الناسِ تَارَةً أخرى، والخَلْقُ هنا: مَصْدَرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعادلهم قوله: وَلَا الْمُسِيءُ وهو اسم جنس يعمّ المسيئين. [سورة غافر (40) : آية 60] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) وقوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ آية تفضّل ونعمة ووعد لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم بالإجابَةِ عنْدَ الدُّعَاءِ قال النوويُّ: ورُوِّينَا في «كتابِ التِّرمذيِّ» عَنْ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ تعالى بدعوة إلّا آتاه الله إيَّاهَا أَوْ صَرَفَ [عَنْهُ] مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، فقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إذَنْ نُكْثِرَ، قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ» «1» : قَال الترمذيُّ: حَديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وَرَوَاهُ الحاكِم في «المستدرك» من رواية أبي سعيد الخُدَرِيِّ، وزاد فيه: «أَو يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَهَا» «2» ، انتهى، قال ابنُ عَطَاءِ اللَّهِ: لاَ يَكُنْ تَأَخّرُ أمَدِ العَطَاءِ مَعَ الإلْحَاحِ في الدُّعَاءِ مُوجِباً لِيَأْسِكَ فهُو ضَمِنَ لَكَ الإجَابَةَ فِيمَا يختارُ لكَ لاَ فِيمَا تختَارُ لنفسِكَ، وفي الوَقْتِ الذي يُرِيدُ لاَ في الوَقْتِ الذي تُرِيدُ، انتهى، وعن أبي هُرَيْرة قال: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «يَقُولُ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ/ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إذَا دَعَاني» رواه الجماعةُ إلاَّ أَبا داود «3» : واللفظ لِمُسْلِمٍ، انتهى من «السِّلاَح» ، وقالت فرقة: معنى ادْعُونِي: اعبدوني، وأَسْتَجِبْ معناه: بِالنَّصْرِ والثوابِ ويدلُّ على هذا قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ...

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 566) كتاب «الدعوات» باب: في انتظار الفرج وغير ذلك، برقم: (3573) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (2) أخرجه الحاكم (1/ 493) كتاب «الدعاء» ، وأحمد (3/ 18) . قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، إلا أن الشيخين لم يخرجاه عن علي بن علي الرفاعي. (3) أخرجه البخاري (13/ 395) كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وقوله عز وجل: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ برقم: (7405) ، وطرفاه في (7505، 7537) ، ومسلم (4/ 2061) كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» باب: الحث على ذكر الله تعالى، وبرقم: (2/ 2576) ، (4/ 2068) (21/ 2675) ، والترمذي (5/ 581) كتاب «الدعوات» باب: في حسن الظن بالله عز وجل، برقم: (3603) ، وأحمد (2/ 251) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة غافر (40) : الآيات 61 إلى 66]

الآية، ت: وهذا التأويلُ غَيْرُ صحيحٍ، والأولُ هو الصَّوَابُ- إن شاء اللَّه- للحَدِيثِ الصحيحِ فَقَدْ رَوَى النعمانُ بنُ بَشِيرٍ- رضي اللَّه عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» . وقرأ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ «1» رواه أبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجه والحاكمُ وابنُ حِبَّانَ في «صحيحيهما» وقال الترمذيُّ، - واللفظ له-: حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ، وقال الحاكم: صحيحُ الإسناد، انتهى من «السِّلاَح» والدّاخر، الصّاغر الذّليل. [سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 66] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ... الآياتِ، هذا تنبيهٌ على آياتِ اللَّهِ وعِبَرِهِ، متى تأمَّلَهَا العَاقِلُ أدَّتْهُ إلى توحيد الله سبحانه، والإقرار بربوبيّته، وتُؤْفَكُونَ معناه: تُصْرَفُونَ عن طريقِ النظرِ والهُدَى، كَذلِكَ يُؤْفَكُ أي: على هذه الهيئةِ وبهذهِ الصفةِ صَرَفَ اللَّه تعالى الكُفَّارَ الجاحدينَ بآياتِ اللَّهِ من الأمم المتقدّمة عن طريق الهدى. [سورة غافر (40) : الآيات 67 الى 68] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 374- 375) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة المؤمن، برقم: (3247) ، وابن ماجه (2/ 1258) ، كتاب «الدعاء» باب: فضل الدعاء، برقم: (3828) ، وأحمد (4/ 267، 271، 276، 277) ، والطيالسي (1/ 253) كتاب «الأذكار والدعوات» باب: ما جاء في فضل الدعاء وآدابه، برقم: (1252) ، والحاكم في «المستدرك» (1/ 491) كتاب «الدعاء» ، وابن حبان (8/ 32) - الموارد باب: ما جاء في فضل الدعاء، برقم: (2396) . قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد رواه شعبة، وجرير عن منصور عن ذر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة غافر (40) : الآيات 69 إلى 77]

وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ الآية، تنبيهٌ على الوُحْدَانِيَّةِ بالعبْرة في ابن آدم وتدريج خَلْقِهِ. وقوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ عبارة/ تُرَدَّدُ في الأَدْرَاجِ المذكورةِ، فمن الناسِ مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ طِفْلاً وآخرون قَبْلَ الأَشُدِّ، وآخرون قبلَ الشيخوخةِ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى، أي: ليبلغَ كلُّ واحدٍ أجلا مسمّى لا يتعدّاه، ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الحقائقَ إذا نَظَرْتم في هذا وتَدَبَّرْتُمْ حكمة الله تعالى. [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ ... الآيَةُ في الكُفَّارِ المُجَادِلِينَ في رِسَالَةِ نبيّنا محمّد ع ويُسْحَبُونَ معناه يُجَرُّونَ، والسَّحْبُ: الجَرُّ، والحَمِيمُ الذائبُ الشديدُ الحرّ من النار، ويُسْجَرُونَ: قال مجاهد «1» : معناه تُوَقَدُ النَّارُ بهِم، والعَرَبُ تَقُول سَجَرْتُ التَّنُّورَ: إذا مَلأْتَهُ نَاراً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُسْجَرُونَ: يَحْرَقُونَ «2» ، ثم أخْبَرَ تعالى أنهم يُقَالُ لهم: أين الأصْنَامُ التي كُنْتُم تَعْبُدونَ في الدنيا؟ فيقولون: ضَلُّوا، أي: تلفوا لنا وغَابوا، ثُمَّ تضْطَرِبُ أَقْوَالُهُمْ ويَفْزَعُونَ إلى الكَذِبِ، فيقولونَ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ثم يقال لهؤلاءِ الكفَّارِ المعذبين: ذلِكُمْ: العذابُ الذي أنتم فيه بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الدنيا بالمعاصي والكفر، وتَمْرَحُونَ قال مجاهد: معناه: الأشر والبطر «3» .

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 78) برقم: (30401) ، وذكره البغوي» (4/ 105) ، وزاد نسبته لمقاتل، وابن عطية (4/ 569) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 670) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (11/ 78) برقم: (30402) ، وذكره ابن عطية (4/ 569) . (3) أخرجه الطبري (11/ 79) برقم: (30405) ، وذكره البغوي (4/ 105) ، وابن عطية (4/ 570) ، -

[سورة غافر (40) : الآيات 78 إلى 81]

وقوله تعالى: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ معناه: يقالُ لَهُمُ قبل هذهِ المحاورةِ في أول الأمْرِ: ادْخُلُوا لأنَّ هذه المخاطبةَ إنما هي بعدَ دُخولهمِ، ثم آنَسَ تعالى نبيَّه، وَوَعَدَهُ بقَولهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: في نصرك وإظهار أمرِك فإنَّ ذلك أَمْرٌ إما أنْ ترى بَعْضَهُ في حياتِكَ، فَتَقَرَّ عَيْنُكَ به، وإما أنْ تَمُوتَ قَبْلَ ذلك، فإلى أمرنا وتَعْذِيبِنَا يَصِيرُونَ ويَرْجِعُونَ. قال أبو حيَّان «1» : و «ما» في «إمَّا» زائدةٌ لتأكِيدِ معنى الشرط، انتهى. [سورة غافر (40) : الآيات 78 الى 81] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ هذِه الآيةُ رَدٌّ عَلى العربِ الذينَ استبعدوا أنْ يبعثَ اللَّه بشراً رَسُولاً. وقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ... الآية، يحتمل أن يريدَ بأمر اللَّه القيامة، فتكونَ الآيةُ توَعُّداً لهم بالآخرةِ، ويحتمل أن يريدَ بأمر اللَّهِ إرسالَ رَسُولٍ وبَعْثَةَ نبيٍّ قضى ذلكَ وأَنْفَذَهُ بِالحَقِّ وخَسِرَ كُلُّ مُبْطِلٍ. ت: والأول أَبْيَنُ. وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ... الآية، هذه آيات فيها عبر وتعديد نعم، والْأَنْعامَ: الأزواج الثمانية، ومِنْها الأولى للتبعيضِ، وقال الطبري «2» في هذه الآية: الأَنعامُ تَعُمُّ الإبلَ والبَقَرَ والغَنَمَ والخَيْلَ والبِغَالَ والحَمِيرَ، وغَيْرَ ذلك مما يُنْتَفَعُ به من البهائمِ، ف مِنْها في الموضعين على هذا للتّبعيض. [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

_ - والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 670) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (1) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 456) . (2) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 80) .

وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ ... الآية، هذا احتجاجٌ على قريشٍ بما أظهر سبحانه في الأمم السالفةِ من نِقمَاتِهِ في الكفارِ الذين كانوا أَكْثَرَ منهم، وأشَدَّ قُوَّةً قال أبو حيان «1» : فَما أَغْنى «مَا» نافيةٌ أو استفهامية بمعنى النفي، انتهى. وقوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الآية، الضميرُ في (جاءتهم) عائدٌ على الأمم المذكورةِ، واخْتَلفَ المفسِّرونَ في الضميرِ في فَرِحُوا على مَنْ يَعُودُ؟ فقال مجاهدٌ وغيره: هو عائد على الأممِ المذكُورِينَ «2» ، أي: فَرِحُوا بما عِنْدَهُمْ من الْعِلْمِ في ظَنِّهِمْ ومُعْتَقَدِهِمْ من أنهم لا يُبْعَثُونَ ولا يحاسَبُونَ، قال ابن زيد: واغترُّوا بعلمِهِم بالدنيا والمعاش، وظنوا أنه لا آخرة فَفَرِحُوا «3» وهذا كقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 7] وقالت فرقة: الضميرُ في فَرِحُوا عائدٌ على الرُّسُلِ، وفي هذا التأويلِ حَذْفٌ وتقديره: فلما جَاءتهم رسُلُهم بالبيناتِ، كذَّبُوهُمْ فَفَرِحَ الرُّسُلُ بما عندَهم من العلمِ باللَّهِ والثقةِ به، وبأنه سينصُرُهُمْ، والضمير في بِهِمْ عائدٌ على الكفارِ بلا خِلافٍ، ثم حكى سبحانَهُ حالةَ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ بَعْدَ تَلَبُّسِ العذابِ بهِم، فَلمْ يَنْفَعْهم ذلك وفي ذكر هذا حضٌّ على المبادرة. وسُنَّتَ نصبٌ على المصدرِ، ت: وقيل: المعنى: احْذَرُوا سُنَّةَ اللَّهِ كقوله: ناقَةُ اللَّهِ [الشمس: 13] قَالَ الفَخْرُ، وقوله: هُنالِكَ: اسْمُ مَكَانٍ مُسْتَعَارٌ للزَّمَانِ، أي: وخَسِرُوا وقتَ رؤية البأْس، انتهى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليما.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 457) . [.....] (2) أخرجه الطبري (11/ 82) برقم: (30413) ، وذكره البغوي (4/ 106) ، وابن عطية (4/ 571) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 89) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 670) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد. (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 571) .

تفسير سورة فصلت

تفسير سورة فصلت وهي مكّيّة [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) رُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ ذَهَبَ إلَى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليحْتَجَّ عَلَيْهِ، وَيُبَيِّنَ لَهُ أَمْرُ مُخَالَفَتِهِ لِقَوْمِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنْ كَلاَمِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ» : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [السجدة: 13] فَأُرْعِدَ الشَّيْخُ، وقَفَّ شَعْرُهُ، وأَمْسَكَ على فَمِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ أنْ يُمْسِكَ «1» ، وقَالَ حِينَ فَارَقَهُ: وَاللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ شَيْئاً مَا هُوَ بالشِّعْرِ، وَلاَ هُوَ بِالكَهَانَةِ، وَلاَ هُوَ بِالسِّحْرِ، ولَقَدْ ظننت أنّ صاعقة العذاب على رأسي، والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: صِفَتَا رَجَاءٍ ورحمةٍ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وفُصِّلَتْ معناه بيّنت آياتُهُ أي: فُسِّرَتْ معانيه، / فَفُصِّلَ بين حلاله وحرامه، ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ، وقيل: فُصِّلَتْ في التنزيلِ، أي: نزل نجوماً، ولم ينزلْ مرةً واحدةً، وقيل: فُصِّلَتْ بالمواقف وأنواعٍ أَوَاخِرِ الآيِ، ولم يكن يرجعُ إلى قافية ونَحْوِها كالسَّجْعِ والشِّعْرِ. وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قالت فرقة: يعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل، فكأنَّ القرآن فُصِّلَتْ آياته لهؤلاء إذ هم أهل الانتفاع بها، فَخُصُّوا بالذكر تشريفا، وقالت فرقة:

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 673) ، وعزاه إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن عساكر.

يَعْلَمُونَ: متعلِّقٌ في المعنى بقوله: عَرَبِيًّا: أي: لقوم يعلمون ألفاظه، ويتحقَّقون أنَّها لم يخرجْ شيْءٌ منها عن كلام العرب، وَكأَنَّ الآيَةَ على هذا التأْويلِ رَادَّةٌ على مَنْ زَعَمَ أنَّ في كتابِ اللَّهِ ما لَيْسَ في كلامِ العَرَبِ، والتأويلُ الأوَّلُ أَبْيَنُ وأَشْرَفُ مَعْنًى وبَيِّنٌ أنَّه ليس في القرآن إلاَّ ما هو مِنْ كَلاَمِ العَرَبِ، إمَّا مِنْ أصْلِ لغتِها، وإمَّا مِمَّا عرَّبته من لغة غيرها، ثم ذُكِرَ في القرآن وهو مُعَرَّبٌ مُسْتَعْمَلٌ. وقوله تعالى: فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ نفي لسماعهم النافِعِ الذي يُعْتَدُّ به، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كُلَّ المباعدة، وأرادوا أن يُؤْيِسُوهُ من قبولهم ما جاء به، وهي: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وأكِنَّةً: جمع كِنَانٍ، والوَقْر: الثِّقْلُ في الأذن الذي يمنع السمع. وقوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ... الآية: قال الحسن: المراد بالزكاة: زكاة المال «1» ، وقال ابن عباس والجمهور: الزكاة في هذه الآية: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ التَّوْحِيدُ «2» كما قال موسى لفرعَوْنَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] ويُرَجِّحُ هذا التأويل أَنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، وزكاة المال إنما نزلَتْ بالمدينة وإنَّما هذه زكاة القلب والبدن، أي: تطهيره من المعاصي وقاله مجاهد والربيع «3» ، وقال الضَّحَّاكُ ومقاتلُ: معنى الزكاة هنا: النفقة في الطاعة «4» ، وغَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس: معناه: غَيْر منقوصٍ «5» ، وقالت فرقة: معناه: غَيْر مَقْطُوعٍ يقال: مَنَنْتُ الحَبْلَ: إذا قَطَعْتَهُ، وقال مجاهد: معناه: غير محسوب «6» ، قال ع «7» : ويظهر في الآية أَنَّهُ وصفه بعدم المَنِّ والأذى من حيثُ هو من جهة اللَّه تعالى، فهو شرِيفٌ لا مَنَّ فيه، وأُعْطِيَاتُ البشر هي التي يدخلها المَنُّ، والأنداد: الأشباهُ والأَمثَالُ، وهي إشارةٌ إلى كلّ ما عبد من دون الله.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 86) برقم: (30424) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 107) آية رقم: (7) ، وذكره ابن عطية (5/ 4) . (2) أخرجه الطبري (11/ 86) برقم: (30422) ، وذكره البغوي (4/ 107) ، وابن عطية (5/ 5) ، وابن كثير (4/ 92) ط الحلبي، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 675) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (3) ذكره ابن عطية (5/ 5) . (4) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 108) ، وابن عطية (5/ 5) . (5) أخرجه الطبري (11/ 86) برقم: (30427) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 108) ، وابن عطية (5/ 5) . (6) أخرجه الطبري (11/ 86) برقم: (30428) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 108) آية رقم: (8) ، وابن عطية (5/ 5) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 5) .

وقوله تعالى: وَبارَكَ فِيها أي: جعلها منبتَّةً للطَّيِّبات والأطعمة، وجعلها طهوراً إلى غير ذلك من وجوه البركة، وفي قراءةِ ابن مسعود: «وَقَسَّمَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا» «1» واخْتُلِفَ في معنى قوله: أَقْواتَها فقال السُّدِّيُّ: هي أقواتُ البَشَرِ وأرزاقُهُمْ، وأضافها إلى الأرض، من حيثُ هي فيها وَعَنْهَا «2» ، وقال قتادة: هي أقواتُ الأرض: من الجبال، والأنهار، والأشجار، والصُّخُور، والمعادن، والأشياءِ التي بها قِوَامُ الأَرْضِ ومَصَالِحُها «3» ، وروى ابنُ عباس في هذا حديثاً مرفوعاً، فشبَّهها بالقُوتِ الذي به قِوَامُ الحيوان، وقال مجاهَدٌ أراد أقواتَهَا من المَطَرِ والمياه، وقال الضَّحَّاكُ وغيره: أراد بقوله: أَقْواتَها: خصائصها التي قَسَّمها في البلاد من المَلْبُوسِ والمطعومِ «4» ، فجعل في بَلَدٍ وفي قُطْرٍ ما ليس في الآخِرِ، لِيَحْتَاجَ بعضُهم إلى بعضٍ، ويُتَقوَّت مِنْ هذه في هذه، وهذا قريبٌ من الأَوَّلِ. وقوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يريد: باليومين الأولين، وقرأ الجمهور: «سَوَاءً» بالنصب على الحال «5» ، أي: سَوَاءً هي وما انقضى فيها، وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاعِ: «سَوَاءٌ» «6» - بالرفع-، أي: هِيَ سَوَاءٌ، وقرأ الحسن «7» : «سَوَاءٍ» بالخفض على نعت الأيَّامِ، واخْتُلِفَ في معنى: «للسائلين» : فقال قتادة معناه: سواءٌ لِمَنْ سَأَلَ واستفهم/ عن الأمْرِ وحقيقةِ وُقُوعِهِ، وأراد العِبْرَةَ فيه، فإنَّه يجده «8» ، كما قال تعالى، وقال ابن زيد وجماعة: معناه: مستوٍ مُهَيَّأٌ أمر هذه المخلوقات ونَفْعُهَا للمحتاجِينَ إلَيْهَا من البشر، فعبّر عنهم ب السَّائِلِينَ بمعنى «الطالبين» لأَّنَّهُ من شَأْنهم، ولاَ بُدَّ طَلَبَ ما ينتفعون به، فهم في حُكْمِ مَنْ سَأَلَ هذه الأشياء، إذ هُمْ أهل حاجة إليها، ولفظة «سواء» تجري مَجْرَى عَدْل وزَوْر، في أنْ تَرِدَ على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث.

_ (1) ينظر: «الكشاف» (4/ 188) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 6) . (2) أخرجه الطبري (11/ 89) برقم: (30436) ، وذكره ابن عطية (5/ 6) . (3) أخرجه الطبري (11/ 89) برقم: (30438- 30439) ، وذكره ابن عطية (5/ 6) . (4) أخرجه الطبري (11/ 90) برقم: (30446) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 108) آية رقم: (10) ، وابن عطية (5/ 6) . [.....] (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 6) ، و «البحر المحيط» (7/ 465) ، و «الدر المصون» (6/ 57) . (6) وذكرت عن يعقوب. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (134) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 6) ، و «البحر المحيط» (7/ 465) . (7) وقرأ بها عيسى، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد، وزيد بن علي، ويعقوب. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 6) ، و «البحر المحيط» (7/ 465) ، و «الدر المصون» (6/ 75) . (8) أخرجه الطبري (11/ 91) برقم: (30448- 30449) ، وذكره ابن عطية (5/ 6) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 677) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.

[سورة فصلت (41) : الآيات 12 إلى 15]

وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ معناه: بقدرته واختراعه إلى خلق السماء وإيجادها. وقوله تعالى: وَهِيَ دُخانٌ رُوِيَ: أنَّها كانت جسماً رخْواً كالدُّخَانِ أوِ البُخَارِ، ورُوِيَ: أَنَّه ممَّا أَمَرَهُ اللَّه تعالى أنْ يَصْعَدَ مِنَ الماء، وهنا محذوفٌ، تقديرهُ: فأوجَدَهَا، وأتقنها، وأكمل أمْرهَا، وحينئذٍ قال لها وللأرْضِ أئتيا بمعنى ائتيا أمري وإرادتي فيكما، وقرأ ابن عباس: «آتِيَا» «1» بمعنى: أعطيا مِنْ أنْفُسِكُمَا من الطاعة ما أردتُهُ منكما «2» ، والإشارةُ بهذا كلِّه إلى تسخيرهما وما قَدَّرَهُ اللَّه من أعمالهما. وقوله: أَوْ كَرْهاً فيه محذوف تقديره ائتيا طَوْعاً وإلاَّ أتيتما كرهاً. وقوله سبحانه: قالَتا أراد الفرقتَيْنِ جعل السمواتِ سماءً والأرضِينَ أرْضاً، واختلف في هذه المقالةِ مِنَ السموات والأرضِ، هَلْ هُوَ نُطْقٌ حقيقةٌ أو هو مجازٌ؟ لما ظهر عليها من التذلُّل والخضوعِ والانقيادِ الذي يتنزل منزلة النطق، قال- عليه السلام «3» : والقول الأَوَّل: أَنَّه نُطْقٌ حقيقة- أَحْسَنُ لأَنه لا شَيْءَ يدفعه-، وأَنَّ العبرة به أَتَمُّ والقدرة فيه أظهر. [سورة فصلت (41) : الآيات 12 الى 15] فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ معناه: فَصَنَعَهُنَّ وأَوْجَدَهُنَّ، ومنه قول أبي ذُؤَيْبٍ: [الكامل] وَعَلَيْهِمَا/ مسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... داوود أو صنع السّوابغ تبّع «4»

_ (1) وقرأ بها سعيد بن جبير، ومجاهد. ينظر: «المحتسب» (2/ 245) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 7) ، و «البحر المحيط» (7/ 466) ، و «الدر المصون» (6/ 58) . (2) أخرجه الطبري (11/ 92) برقم: (30452) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 109) آية رقم (11) ، وابن عطية (5/ 7) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 7) . (4) وهو لأبي ذؤيب «في سرّ صناعة الإعراب» (2/ 760) ، و «شرح أشعار الهذليين» (1/ 39) ، و «شرح المفصل» (3/ 59) ، و «لسان العرب» (8/ 31) (تبع) ، (8/ 209) (صنع) ، (15/ 186) (قضى) ، و «المعاني الكبير» ص: (1039) ، وبلا نسبة في «شرح المفصل» (3/ 58) .

وقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال مجاهد وقتادة: أوحى إلى سُكَّانِها وَعَمَرَتِها من الملائكة وإليها هي في نَفْسِهَا- ما شاء الله تعالى- مِنَ الأَمُورِ التي بها قوامها وصلاحها «1» . وقوله: ذلِكَ إشارة إلَى جَمِيعِ ما ذكر، أي: أوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ، وأحكمه بِعِلْمِهِ. وقوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا يعني: قريشاً، والعرب الذين دَعَوتَهُم إلى عبادة اللَّه تعالى عن هذه الآيات البَيِّنَات فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقرأ النّخعي وغيره: صعقة فيهما «2» ، وهذه قراءة بَيِّنَةُ المعنى لأنَّ الصعقة الهلاكُ الوَحيُّ، وأمَّا الأولى فهي تشبيهٌ بالصاعقةِ، وهي الوقعة الشديدة من صوت الرعد، فشُبِّهَتْ هنا وقعةُ العذاب بها لأنَّ عاداً لم تُعَذَّبْ إلاَّ بِرِيحٍ، وإنَّما هذا تشبيهٌ واستعارة، وعبارةُ الثعلبيِّ: صاعِقَةً أي: واقعةٌ وعقوبةٌ مِثْلُ صاعقةِ عَادٍ وثَمُودَ، انتهى، قال ع «3» : وَخَصَّ عاداً وثَمُودَ بالذِّكْر لوقوفِ قُرَيْشٍ على بلادها في اليمن وفي الحِجْرِ في طريق الشام، قال الثعلبيّ: ومِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني: قبلهم وبعدهم، وقامت الحُجَّةُ عليهم في أَنَّ الرسالة والنذارة عمتهم خبراً ومباشرة، وقال ع «4» قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي: جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تَقَدُّمِ وجودهم في الزَّمَنِ، فلذلك قال: وَمِنْ خَلْفِهِمْ ولا يتوجه أنْ يجعل وَمِنْ خَلْفِهِمْ عبارة عَمَّا أتى بعدهم لأنَّ ذلك لا يلحقهم منه تقصير. ت: وما تقدم للثعلبيِّ وغيره أَحْسَنُ لأَنَّ مقصد الآية اتصال النذارة بهم وبمن قبلهم وبمن بعدهم إذ ما من أُمَّةٍ إلاَّ وفيها نذير، وكما قال تعالى: رُسُلَنا تَتْرا ... [المؤمنون: 44] وأيضاً فإنَّه جمع في اللفظ عاداً وثمود وبالضرورة أَنَّ/ الرسولَ الذي أُرْسِلَ إلى ثمودَ هو بَعْدَ عادٍ، فليس لِرَدِّ ع: وَجْهٌ فتأمله.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 92- 93) برقم: (30455- 30456) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 7) ، وذكره ابن كثير (4/ 93) ولم يعزه لأحد، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 678) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، والفريابي عن مجاهد، وعبد بن حميد عن قتادة. (2) وقرأ بها: ابن الزبير، والسلمي، وابن محيصن. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (134) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 8) ، و «البحر المحيط» (7/ 468) ، و «الدر المصون» (6/ 59) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 8) . (4) ينظر: المصدر السابق.

[سورة فصلت (41) : الآيات 16 إلى 21]

[سورة فصلت (41) : الآيات 16 الى 21] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً ... الآية، تقدَّم قَصَصُ هؤلاء، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير: نَحِساتٍ- بسكون الحاء «1» -، وهي جمعُ «نَحْس» وقرأ الباقون: نَحِساتٍ- بكسر الحاء- جمع «نَحِسٍ» على وزن حَذِرٍ، والمعنى في هذه اللفظة: مشائيم من النَّحْسِ المعروفِ، قاله مجاهد وغيره «2» ، وقال ابن عبَّاس: نَحِساتٍ معناه مُتَتَابِعَاتٍ «3» ، وقيل: معناه: شديدة، أي: شديدة البَرْدِ. وقوله تعالى: فَهَدَيْناهُمْ معناه: بَيَّنَّا لهم قاله ابن عَبَّاس وغيره، وهذا كما هي الآن شريعةُ الإسلامُ مُبَيَّنَةٌ لليهودِ والنصارَى المُخْتَلِطِينَ بنا، ولكِّنهم يعرضون ويشتغلون بالضّدّ، فذلك استحباب العمى على الهدى، والْعَذابِ الْهُونِ هو الذي معه هَوَانٌ وإذلالٌ قال أبو حَيَّان «4» : «الهون» مصْدَرٌ بمعنى «الهَوَانِ» ، وُصِفَ به العذاب، انتهى، وأَعْداءُ اللَّهِ هم الكفار المخالفون لأمر اللَّه سبحانه، ويُوزَعُونَ معناه: يُكَفُّ أَوَّلُهُمْ حَبْساً على آخرهم قاله قتادة، والسُّدِّيُّ «5» ، وأهل اللغة، وهذا وصف حال من أحوال الكفرة في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جَهَنَّمَ، فإنَّه سبحانه يستقرهم عند ذلك على أنفسهم، ويسألون سؤالَ توبيخ عن كُفْرهم فيجحدُونَ، ويحسبون أَنْ لا شاهد

_ (1) ينظر: «السبعة» (576) ، و «الحجة» (6/ 116) ، و «إعراب القراءات» (2/ 275) ، و «إعراب القراءات» (2/ 351) ، و «شرح الطيبة» (5/ 210) ، و «العنوان» (169) ، و «حجة القراءات» (635) ، و «شرح شعلة» (572) ، و «إتحاف» (2/ 442) . (2) أخرجه الطبري (11/ 96) برقم: (30468) ، (30470) عن مجاهد، (30471) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 9) . [.....] (3) أخرجه الطبري (11/ 95) برقم: (30467) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 9) ، وابن كثير (4/ 95) ولم يعزه لأحد. (4) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 471) . (5) أخرجه الطبري (11/ 98- 99) برقم: (30483- 30484) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 112) آية رقم (19) ، وابن عطية (5/ 10) .

[سورة فصلت (41) : الآيات 22 إلى 25]

عليهِم، ويطلبون شهيداً عليهم من أنفسهم، وفي الحديث الصحيح: «إنَّ الْعَبْدَ- يَعْنِي الكَافِرَ- يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَيْسَ وَعَدْتَنِي أَلاَّ تَظْلِمَنِي؟ قَالَ: فَإنَّ ذَلِكَ لَكَ، قَالَ: فَإنِّي لاَ أَقْبَلُ عَلَيَّ شَاهِداً إلاَّ مِنْ نَفْسِي، قَالَ فَيُخْتَمُ على فِيهِ، وَتَتَكلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُنَّ: بُعْداً لَكُنَّ، وَسُحْقاً، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أَدَافِعُ» «1» الحديثَ، قال أبو حَيَّان «2» : حَتَّى إِذا ما جاؤُها: «ما» بعد «إذا» زائدة للتوكيد، انتهى. [سورة فصلت (41) : الآيات 22 الى 25] وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وقوله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يحتمل أنْ يكون من كلام الجلود، ويحتمل أنْ يكون من كلام الله عز وجل، وجمهور الناس على أَنَّ المراد بالجلود الجلودُ المعروفةُ، وأمَّا معنى الآية فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد وما كنتم تَتَصَاونُونَ وتَحْجِزُونَ أَنْفُسَكُمْ عن المعاصي والكُفْر خوفَ أَنْ يشهد، أو لأَجْلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ... الآية، وهذا هو منحى مجاهد «3» ، والمعنى الثاني أنْ يريد: وما يمكنكم ولاَ يسَعُكُمْ الاخْتفاءُ عن أَعْضَائِكُمْ، والاستتارُ عنها بكُفْرِكُمْ ومعاصيكم، وهذا هو مَنْحَى السُّدِّيِّ «4» ، وعن ابن مسعود قال: «إِنِّي لمستترٌ بأستارِ الكعبةِ، إذْ دَخَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ: قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، فَتَحَدَّثُوا بِحَدِيثٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَترَى اللَّهَ يَسْمَعُ مَا قُلْنَا؟ فَقَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إذَا رفَعْنَا، وَلا يَسْمَعُ إذَا أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً فإنّه يسمعه كلّه، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ، وقرأ حتى بلغ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» «5» .

_ (1) ينظر: «الدر المنثور» (5/ 35) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 471) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 11) . (4) أخرجه الطبري (11/ 100) برقم: (30493) ، وابن عطية (5/ 11) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 680) . (5) أخرجه البخاري مختصرا (8/ 424) كتاب «التفسير» باب: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (4816) ، (8/ 424- 425) -

قال الشيخ أبو محمَّدِ بْنُ أبي زَيْدٍ في آخر: «مُخْتَصَرِ المُدَوَّنَةِ» له: واعلم أنَّ [الأجساد التي أطاعت أو عصت، هي التي تُبْعَثُ يومَ القيامة لتجازى، والجلودُ التي كانَتْ في الدنيا، والألسنةُ] «1» ، والأيْدِي، والأرجُلُ هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على مَنْ تشهَدُ، انتهى. قال القرطبيُّ في «تذكرته» «2» : واعلم أَنَّ عند أهل السنة أَنَّ تلك الأجسادَ الدُّنْيَوِيَّةَ تُعَادُ بأعيانها وأعراضِهَا بلا خلافٍ بينهم في ذلك، انتهى، ومعنى أَرْداكُمْ: أهلككم، والرَّدَى: الهَلاَكُ وفي صحيحُ «البخاريِّ» و «مسلم» عن جابر قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ قبل وفاته بثلاثٍ: «لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» «3» وذكره ابن أبي الدنيا في «كتابٍ حَسَنِ الظنّ بالله عز وجلّ» ، وزاد فيه: «فَإنَّ قَوْماً قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ انتهى، ونقله أيضاً صاحب «التذكرة» . وقوله تعالى: فَإِنْ يَصْبِرُوا مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: فإنْ يصبروا أوْ لا يَصْبِرُوا، واقتصر لدلالة الظاهِرِ على ما ترك. وقوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا معناه: وإنْ طَلَبُوا العتبى، وهي الرضَا فما هم مِمَّنْ يُعْطَاها ويَسْتَوْجِبُهَا قال أبو حَيَّان «4» : قراءة الجمهور: «وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا» مبنيًّا للفاعل «5» ، و: مِنَ الْمُعْتَبِينَ مبنيًّا للمفعول، أي: وإِنْ يعتذروا فما هم من المَعْذُورِينَ، انتهى.

_ - كتاب «التفسير» باب: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (4817) ، (13/ 504) كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (7521) ، ومسلم (4/ 2141) كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: (5/ 2775) ، وابن حبان (2/ 116) كتاب «البر والإحسان» باب: الإخلاص وأعمال السر (390) ، والحميدي (1/ 47) (87) ، والترمذي (5/ 375) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة حم السجدة، (3248- 3249) ، وأحمد (1/ 381، 408، 426، 442، 443) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (1) سقط من: د. (2) ينظر: «التذكرة» (1/ 227) . (3) أخرجه مسلم (4/ 2204) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، حديث (81/ 2877) من حديث جابر. (4) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 472) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 12) ، و «البحر المحيط» (7/ 472) ، و «الدر المصون» (6/ 64) . [.....]

[سورة فصلت (41) : الآيات 26 إلى 29]

ثم وصف تعالى حالهم في الدنيا وما أصابهم به حِينَ أعرضوا، فَحْتَّمَ عليهم، فقال: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، أي: يَسَّرْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ سَوْءٍ من الشياطين وغُوَاةِ الإنْسِ. وقوله: فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي: عَلَّمُوهم، وقَرَّروا لهم في نفوسهم معتقداتِ سوءٍ في الأمور التي تقدَّمتهم من أمر الرسُلِ والنُبُوَّاتِ، ومَدْحِ عبادةِ الأصنامِ، واتباع فعل الآباء، إلى غير ذلك مِمَّا يُقَالُ: إنَّه بين أيدِيهِمْ، وذلك كلُّ ما تقدَّمهم في الزَّمَنِ، واتصل إليهم أثره أو خَبَرُهُ، وكذلك أعطُوهُمْ معتقداتِ سوءٍ فيما خَلْفهم، وهو كلُّ ما يأتي بَعْدَهُمْ من القيامة والبعث ونَحْوِ ذلك وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: سبق عليهم القضاءُ الحَتْمُ، وأَمَرَ اللَّهُ بتَعْذِيبِهِمْ في جملةِ أُمَمٍ مُعَذِّبِينَ، كُفَّارٍ من الجنِّ والإنس. وقالت فرقة: «في» بمعنى «مع» ، أي: مع أمم، قال ع «1» : والمعنى/ يتأدى بالحرفين، ولا نحتاج أنْ نجعل حرفاً بمعنى حَرْفٍ، إذ قد أبى ذلك رؤساءُ البصريّين. [سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 29] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ... الآية: حكاية لما فعله بعض كفار قريش، كأبي جَهْلٍ وغيره، لما خافوا استمالَةَ القُلُوبِ بالقُرْآنِ، قالوا: متى قرأَ محمد فالغطوا بالصَّفِيرِ والصِّيَاحِ وإنشادِ الشِّعْرِ حتى يخفى صَوْتُهُ، فهذا الفعلُ منهم هو اللغو، وقال أبو العالية: أرادوا: قَعُوا فيه وعَيِّبوه، وقولهم: لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي: تطمسون أمر محمد، وتُمِيتُون ذكره، وتَصْرِفُون عنه القلوبَ، فهذه الغاية التي تمنوها، ويأبى اللَّه إلاَّ أنْ يتم نوره ولو كره الكافرون. وقوله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ... الآية، قوله: فَلَنُذِيقَنَّ: الفاء دخلَتْ على لام القسم، وهي آيةُ وعيدٍ لقريشٍ، والعذابُ الشديدُ: هو عذابُ الدنيا في بَدْرٍ وغيرها، والجزاء بأسوإ أعمالهم هو عذابُ الآخرة. ت: حَدَّثَ أبو عُمَرَ في «كتاب التمهيد» قال: حدَّثنا أحمد بن قَاسِمٍ، قال: حدَّثنا محمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بْنُ موسَى بن جميل، قال: حدّثنا

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 12) .

عبد اللَّه بن محمَّد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا العَتَكِيُّ. قال: حدثنا خالد أبو يزيد الرَّقِّيُّ عن يحيى المَدَنِيِّ، عن سالمِ بنِ عبد اللَّهِ عَنْ أبيه قال: خرجْتُ مرةً، فمررْتُ بِقَبْرٍ مِنْ قُبُورِ الجاهِلِيَّةِ، فإذا رجلٌ قد خرج من القَبْرِ، يَتَأَجَّجُ ناراً، في عُنُقِهِ سلسلةٌ، ومعي إدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَلَمَّا رآني قال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسقني، قال: فَقُلْتُ: عَرِّفْنِي، فَدَعَانِي باسمي، أو كلمة تقولها العَرَبُ: يِا عَبْدِ اللَّهِ، إذْ خَرَجَ على أَثَرِهِ رَجُلٌ من القَبْرِ، فقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَسْقِهِ، فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ أَخَذَ السِّلْسِلَةَ فاجتذبه، فَأَدْخَلَهُ القَبْرَ، قال: ثم أَضَافَنِي اللَّيْلَ إلى بَيْتِ عَجُوزٍ، إلى جَانِبِهَا قَبْرٌ، فسمعْتُ مِنَ القَبْرِ صَوْتاً يَقُولُ: / بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ، شَنٌّ وَمَا شَنٌّ، فقلتُ للعَجُوزِ: ما هذا؟ قالَتْ: كَانَ زَوْجاً لِي، وكان إذَا بَالَ لَمْ يَتَّقِ البَوْلَ، وكُنْتُ أَقُولُ لَهُ: وَيْحَك! إنَّ الجَمَلَ إذَا بَالَ تَفَاجّ، وكان يأبى، فهو يُنَادِي من يَوْم مَاتَ: بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ، قلتُ: فما الشَّنُّ؟ قالت: جاء رجل عطشان فقال: اسقني! فقال: دُونَكَ الشَّنَّ، فإذا لَيْسَ فيه شَيْءٌ فخَرَّ الرَّجُلُ مَيِّتاً، فهُو ينادي مُنْذُ ماتَ: شَنٌّ وَمَا شنٌّ، فلما قَدِمْتُ على رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرتُهُ، فنهى: أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ. قال أبو عمر: هذا الحديث في إسناده مجهولُونَ، ولم نُورِدْهُ لِلاحتجاجِ به ولكنْ لِلاعتبار، وما لم يكنْ حكم، فقد تسامح الناسُ في روايته عن الضعفاء، انتهى من ترجمة عبد الرحمن بن حَرْمَلَةَ، وكلامه على قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الشَّيْطَانُ يَهُمُّ بِالْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ، فَإذَا كَانُوا ثَلاَثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ» «1» وقد ذكرنا الحكاية الأولى عن الوَائِليِّ في سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ بغير هذا السند، وأَنَّ الرجُلَ الأَوَّلَ هو أبو جَهْلٍ، انتهى، ثم ذكر تعالى مقالة كُفَّارِ يومِ القيامة إذا دَخَلُوا النار فإنَّهم يَرَوْنَ عظيمَ ما حَلَّ بِهِمْ وسُوء مُنْقَلَبِهِمْ، فَتَجُولُ أَفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم ومبادي ضلالتهم، فيعظم غيظهم وَحَنَقُهُمْ عليه، وَيَوَدُّونَ أنْ يَحْصُلَ في أشدِّ عذابٍ، فحينئذٍ يقولُونَ: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وظاهر اللفظ يقتضِي أَنَّ الذي في قولهم: الَّذِينَ إنما هو لِلْجِنْسِ، أي: أَرنا كلَّ مُغْوٍ من الجنِّ والإنْسِ، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقيل: طلبوا ولد آدم الذي سَنَّ القَتْلَ والمعصية من البَشَرِ، وإبليسَ الأبالسة من الجِنِّ، وهذا قولٌ لا يخفى ضعفه، والأَوَّلُ هو/ القويُّ، وقولهم: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يريدون في أسفل طبقة في النار وهي أشدُّ عذابا.

_ (1) أخرجه مالك (2/ 978) كتاب «الاستئذان» باب: ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء (36) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 218) . قال الهيثمي: رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف.

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 إلى 32]

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا قال سفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيُّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ استقم» «1» . ت: هذا الحديث خَرَّجه مسلم في «صحيحه» ، قال صاحب «المُفْهِمِ» : جوابه صلّى الله عليه وسلّم من جوامع الكَلِم، وكأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ من قول اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ... الآية، وتلخيصه: اعْتَدَلُوا على طاعته قولاً وفعلاً وعقداً، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً» لاِبْنِ الفَاكِهَانِيِّ، قال ع «2» : واخْتَلَفَ النَّاسُ في مقتضى قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا فذهب الحَسَنُ وجماعةٌ إلى أَنَّ معناه: استقاموا بالطاعاتِ واجتناب المعاصِي، وتلا عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هذه الآيةُ على المِنْبَرِ، ثم قال: استقاموا- واللَّهِ- بطاعتهِ، ولم يروغوا روِغانَ الثَّعَالِبِ، قال ع «3» : فذهب- رحمه اللَّه- إلى حَمْلِ الناس على الأَتَمِّ الأفْضَلِ، وإلاَّ فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أَلاَّ تتنزل الملائكةُ عِنْدَ الموت على غير مستقيمٍ على الطاعَةِ، وذهب أبو بكْرٍ- رضي اللَّه عنه- وجماعةٌ معه إلى أَنَّ المعنى: ثم: استقاموا على قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ، فلم يختلَّ توحيدُهُمْ، ولا اضطرب إيمانهم، قال ع «4» : وفي الحديث الصحيح: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه، دخل الجنّة» «5»

_ (1) أخرجه مسلم (1/ 222) - الأبي كتاب «الإيمان» باب: جامع أوصاف الإسلام (62/ 38) ، والترمذي (4/ 607) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في حفظ اللسان (2410) ، وابن ماجه (2/ 1314) كتاب «الفتن» باب: كف اللسان في الفتنة (3972) ، والدارمي (2/ 298) كتاب «الرقاق» باب: في حفظ اللسان، وابن حبان (8/ 237) - الموارد (2543) ، وأخرجه الحاكم (4/ 313) ، والطبراني (7/ 78) (6396) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 65) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (9/ 234) (4877) . وأخرجه ابن حبان (3/ 221- 222) كتاب «الرقائق» باب الأدعية: ذكر ما يجب على المرء من سؤال الباري تعالى الثبات والاستقامة على ما يقربه إليه بفضل الله علينا بذلك (942) ، بلفظ: «قل آمنت بالله ... » الحديث، وأحمد (3/ 413) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 14) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 14) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 14) . (5) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 351، 500) ، وأبو داود (2/ 207) كتاب «الجنائز» باب: في التلقين برقم: (3116) ، وأحمد (5/ 233، 247) من حديث معاذ بن جبل. -

وهذا هو الْمُعْتَقَدُ إن شاء اللَّه، وذلك أَنَّ العصاة من أُمَّةِ محمَّد وغيرها فرقتان: فأَمَّا مَنْ غفر اللَّه له، وترك تعذيبه، فلا محالة أَنَّه مِمَّن/ تتنزَّل عليهم الملائكة بالبشارة، وهو إنَّما استقام على توحيده فَقَطْ، وأَمَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ مُدَّةً، ثم [يأمر] بإدخاله الجَنَّةَ، فلا محالة أَنَّه يلقى جميعَ ذلك عند مَوْتِهِ وَيَعْلَمُهُ، وليس يَصِحُّ أنْ تكون حاله كحالة الكافر واليائِسِ مِنْ رحمة اللَّه، وإذا كان هذا فقَدْ حَصَلَتْ له بشارة بأَلاَّ يخافَ الخُلُودَ، ولا يحزنَ منه، ويدخل فيمن يقال لهم: أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ومع هذا كله فلا يختلف في أَنَّ المُوَحِّدَ المستقيمَ عَلَى الطَّاعَةِ أَتَمُّ حالاً وأَكمل بشارةً، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر- رضي اللَّه عنه-، وبالجملة، فكُلَّما كان المرءُ أشَدَّ استعدادا، كان أسْرَعَ فوزاً بفَضْلِ اللَّه تعالى قال الثعلبيُّ: قوله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أي: عند الموت أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا قال وَكِيعٌ: والبشرى في ثلاثة مَوَاطِنَ: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وفي البخاريّ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أي: عند الموت «1» ، انتهى، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «2» : تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ قال المُفَسِّرُونَ: عند الموت، وأنا أقول: كُلَّ يَوْم، وأَوْكَدُ الأيام: يومُ الموت، وحينَ القَبْرِ، ويَوْمُ الفزع الأكبر، وفي ذلك آثار بَيَّنَّاها في موضعها، انتهى، قال ع «3» : قوله تعالى: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا: أَمَنَةٌ عامَّةٌ في كُلِّ هَمِّ مستأنفٍ، وتسليةٌ تَامَّةٌ عن كُلِّ فَائِتٍ مَاضٍ، وقال مجاهدٌ: المعنى: لا تخافُونَ ما تَقْدُمُونَ عليه، ولا تحزنوا على ما خلّفتم من دنياكم.

_ - قال الحاكم (1/ 351) : هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد كنت أمليت حكاية أبي زرعة وآخر كلامه كان سياقه هذا الحديث. قال ابن حجر في «تلخيص الحبير» (2/ 211) كتاب «الجنائز» ، أعله ابن القطان بصالح بن أبي عريب، وأنه لا يعرف، وتعقب بأنه روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في «الثقات» . وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه ابن حبان (2/ 463) - الموارد (917) نحوه، وابن حبان (7/ 272) كتاب «الجنائز» باب: فصل في المحتضر، ذكر العلة التي من أجلها أمر بهذا الأمر (3004) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (3/ 387) كتاب «الجنائز» باب: تلقنة المريض (6045) نحوه. وأخرجه مختصرا: مسلم (2/ 631) كتاب «الجنائز» باب: تلقين الموتى لا إله إلّا الله (2/ 917) ، وأبو يعلى (11/ 44) (344/ 6184) ، وابن ماجه (1/ 464) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في تلقين الميت لا إله إلّا الله (1444) ، والبيهقي (3/ 383) كتاب «الجنائز» باب: ما يستحب من تلقين الميت إذا حضر، وابن الجارود في «المنتقى» (136) ، (513) . (1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 418) كتاب «التفسير» باب: سورة حم السجدة. (2) ينظر: «الأحكام» (4/ 1661) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 15) .

ت: وذكر أبو نُعَيْمٍ عن ثابتٍ البُنَانيِّ أَنَّه قرأ: حم السجدةِ حَتَّى بلغ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ/ الْمَلائِكَةُ، فوقف، وقال: بلغنا أنَّ العَبْدَ المؤمن حين يُبْعَثُ من قبره يتلقَّاه المَلَكَانِ اللَّذانِ كانا معه في الدنيا، فيقولانِ له: لاَ تَخَفْ، ولا تَحْزَنْ، وأبشر بالجنة التي كنت تُوْعَدُ، قال: فَأَمَّنَ اللَّه خوفَه، وأَقَرَّ عينه، الحديث «1» . انتهى. قال ابن المبارك في «رقائقه» : سمعتُ سفيانَ يَقُولُ في قوله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ: أي عند الموت أَلَّا تَخافُوا: ما أمامكم وَلا تَحْزَنُوا: على ما خلفتم من ضَيْعَاتِكُمْ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ قال: يُبَشَّرُ «2» بثلاث بشاراتٍ: عند الموت، وإذا خرج من القبر، وإذا فَزِعَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال: كانوا معهم، قال ابن المبارك: وأخبرنا رَجُلٌ عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال: قُرَنَاؤُهُمْ يلقونهم يوم القيامة، فيقولون: لا نفارقكم حتّى تدخلوا الجنة، ا. هـ. وقوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ المتكلم ب نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ هم الملائكة القائلون: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا أي: يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق: نحن كُنَّا أولياءَكُمْ في الدنيا، ونحن هُمْ أولياؤكم في الآخرة قال السُّدِّيُّ: المعنى: نحن حَفَظَتُكُم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة «3» ، والضمير في قوله: فِيها عائد على الآخرة، وتَدَّعُونَ معناه: تَطْلُبُونَ قال الفَخْرُ «4» : ومعنى كونِهِمْ أولياءَ للمؤمنين، إشارةٌ إلى أَنَّ للملائكة تأثيراتٍ في الأرواح [البشريّة، بالإلهامات والمكاشفات اليقينيّة والمناجاة الخفيَّةِ كما أَنَّ للشياطينِ تَأْثيراتٍ في الأرواحِ] «5» بإلقاء الوسَاوِسِ، وبالجملة، فَكَوْنُ الملائكةِ أولياءَ للأرواح الطَّيِّبَةِ الطاهرةِ، حاصِلٌ من جهاتٍ كثيرةٍ معلومةٍ لأربابِ المكاشفاتِ والمشاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كما أَنَّ تلك الولاياتِ حاصلةٌ في الدنيا، فهي تكونُ باقيةً في الآخرة فإنَّ تلك العلائِقَ ذاتِيَّةٌ/ لازمة، غير مائلة إلى الزوال بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى وذلك لأَنَّ جوهر النفْسِ من جنس الملائكة، وهي كالشُّعْلَةِ بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر، وإنَّما التّعلّقات الجسدانيّة

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 683) ، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. (2) في د: يبشرهم. (3) أخرجه الطبري (11/ 109) برقم: (30538) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 114) ، وابن عطية (5/ 15) . [.....] (4) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (14/ 106) . (5) سقط في: د.

[سورة فصلت (41) : الآيات 33 إلى 35]

والتدبيراتُ البدنيَّةُ هي الحائلة بَيْنَهَا وبين الملائكة، فإذا زالَتْ تلك العلائِقُ، فقد زَالَ الْغِطَاءُ، واتَّصَلَ الأثر بالمؤثر، والقطرةُ بالبَحْرِ، والشعلةُ بالشمْسِ، انتهى. ت: وقد نقل الثعلبيُّ من كلام أرباب المعاني هنا كلاماً كثيراً حَسَناً جِدًّا، موقظاً لأربابِ الهِمَمِ، فانظره إنْ شِئْتَ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ المُؤْمِنِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عمله: إنّ هذا قد كان لَنَا أَخاً وَصَاحِباً، وَقَدْ حَانَ الْيَوْمَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، أَوْ قَالَ: دَعُونَا نُثْنِ على أَخِينَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ، فَيَقُولاَنِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَغَفَرَ لَكَ، وأَدْخَلَكَ الجَنَّةَ فَنِعْمَ الأَخُ كُنْتَ والصَّاحِبُ مَا كَانَ أَيْسَرَ مُؤْنَتَكَ، وَأَحْسَنَ مَعُونَتَكَ على نَفْسِكَ، مَا كَانَتْ خَطَايَاكَ تَمنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا، فَنُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوْحُ الطَّيِّبُ إلى خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَنِعْمَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَجَنَّاتِ النعيم وربّ عليك غير غضبان، وفنيت أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، فَيَقُولُ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ كَانَا يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا صَاحِباً، وَقَدْ حَانَ مِنْهُ فِرَاقٌ/، فَأْذَنُوا لَنَا، وَدَعُونَا نُثْنِ على صَاحِبِنَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ فَيَقُولاَن: لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ غَفَرَ لَهُ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ ما كان أشدّ مؤنته، ونقدّس ما كَانَ يُعِينُ على نَفْسِهِ إنْ كَانَتْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ لَتَمْنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا فَنُسَبِّحَ لَهُ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوحُ الخَبِيثُ إلى شَرِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الحَمِيمِ وَتَصْلِيَةِ الجَحِيمِ وَرَبٍّ عليك غضبان» «1» ، انتهى. [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 35] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ ... الآية ابتداء توصية لنبيّه ع، وهو لفظ يَعُمُّ كلَّ مَنْ دعا قديماً وحديثاً إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ هذه حاله، وإلى العموم ذهب الحسن

_ (1) أخرجه نعيم بن حماد في «زوائد الزهد» (40- 41) باب: ما يبشر به الميت عند الموت، وثناء الملكين عليه.

[سورة فصلت (41) : الآيات 36 إلى 39]

ومقاتلٌ وجماعةٌ «1» ، وقيل: إنَّ الآية نزلَتْ في المُؤَذِّنينَ، وهذا ضعيفٌ لأَنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، والأذانُ شُرِعَ بالمدينةِ، قال أبو حَيّان «2» : وَلَا السَّيِّئَةُ «لا» زائدة للتوكيدِ، انتهى. وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ آية جَمَعَتْ مكارمَ الأخلاقِ وأنواعَ الحِلْمِ، والمعنى: ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أَحْسَنُ، قال ابن عبَّاس: أمره اللَّه تعالى في هذه الآية بالصَّبْر عند الغَضَبِ، وَالحِلْمِ عند الجَهْل، والعَفْوِ عِنْدَ الإسَاءَةِ، فإذا فعل المؤمنُونَ ذلك، عَصَمَهُمُ اللَّه من الشيطان، وخضع لهم عَدُوُّهم، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «3» البخاريُّ: «وليُّ حميم» أي: قريب، انتهى،، وفسَّر مجاهدٌ وعطاءٌ هذه الآية بالسَّلاَمِ عند اللِّقاء «4» ، قال ع «5» : ولا شَكَّ أنَّ السلام هو مبدأُ الدَّفْعِ بالتي هي أحسن، وهو جزء منه، والضمير في قوله: يُلَقَّاها عائد على هذه الخُلُقِ التي يقتضيها قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وقالت فرقة: / المراد: وما يُلَقَّى «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» ، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ. وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا: مدح بليغ للصابرين، وذلك بَيِّنٌ للمتأَمِّلِ لأنَّ الصَّبْرَ على الطاعات وعنِ الشهوات جامع لخصَالِ الْخَيْر كلِّها، والحظُّ العظيمُ: يَحْتَمِلُ أن يريد من العقل والفضلِ فتكونَ الآية مدحاً لِلْمُتَّصِفِ بذلك، ويحتمل أن يريد: ذو حظ عظيم من الجنة وثواب الآخرة، فتكونَ الآية وعداً، وبالجنة فسر قتادة الحظّ هنا «6» . [سورة فصلت (41) : الآيات 36 الى 39] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 109- 110) برقم: (30539) عن الحسن، و (30540) عن قتادة بنحوه، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 114) عن الحسن، وابن عطية (5/ 15) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 476) . (3) أخرجه الطبري (11/ 111) برقم: (30544) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 115) ، وابن عطية في «تفسيره» (5/ 16) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 685) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (11/ 111) برقم: (30545- 30546) ، وذكره ابن عطية (5/ 16) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 685) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 16) . (6) أخرجه الطبري (11/ 112) برقم: (30549) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 115) ، وابن عطية (5/ 16) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 685) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.

وقوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «إِمَّا» : شرطٌ وجوابُ الشرطِ قوله: فَاسْتَعِذْ والنَّزْغُ: فِعْلُ الشيطانِ في قَلْبٍ أو يدٍ من إلقاءِ غَضَبٍ، أو حقدٍ، أو بطشٍ في اليد. فمن الغضب هذه الآية، ومن الحقد قوله: نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: 100] ، ومن البطش قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ عَلَى أخِيهِ بالسِّلاَح لاَ يَنْزَغُ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ فَيُلْقِيَهُ في حُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» «1» . ومن دعاء الشيخِ الوليِّ العارف باللَّه سبحانه، محمَّد بن مَسَرَّة القُرْطُبِيِّ: اللَّهُمَّ، لاَ تَجْعَلْ صدري للشيطان مَرَاغاً، ولا تُصَيِّرْ قلبي له مجالاً، ولا تَجْعَلْنِي، مِمَّنِ استفزَّهُ بصوته، وأجلب عليه بخيله ورَجْلِهِ، وكُنْ لي من حبائله مُنْجِياً، ومن مصائده مُنْقِذاً، ومن غَوَايَتِهِ مُبْعِداً، اللهم إنَّه وَسْوَسَ في القلب، وألقى في النَّفْس ما لا يطيقُ اللِسانُ ذِكْرَهُ، ولا تستطيعُ النَّفْس نشره مِمَّا نَزَّهَك عنه عُلُوُّ عِزِّكَ، وسُمُوُّ مجدك، فَأَزِلْ يا سيِّدِي ما سَطَرَ، وامح ما زَوَّرَ بوَابِلِ من سحائِبِ عَظَمَتِكَ وطُوفَانٍ مِنْ بِحَارِ نُصْرَتِكَ، واسلل عليه سيفَ إبعادك، وارشقه بسهام إقصائِكَ، وأحْرِقْهُ بنار/ انتقامك، واجعل خَلاَصِي منه زائداً في حُزْنِهِ، وَمُؤَكِّداً لأسفه، ثم قال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّه ربما كان العبد في خَلْوَتِهِ مشتغلاً بتلاوته، ويجدُ في نفسه من الوسوسة ما يحولُ بينه وبين رَبِّه، حتى لا يَجِدَ لطعمِ الذِّكْرِ حلاوةً، ويجدَ في قلبه قساوةً، وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته وعِلَّةُ ذلك أَنَّ الذِّكْرَ ذِكْرَانِ: ذكرُ خَوْفٍ ورهبةٍ، وذكْرُ أَمْنٍ وغفلةٍ، فإذا كان [الذِّكْرُ بالخَوْفِ والرهبة، خَنَسَ الشيطانُ، ولم يحتملِ الحَمْلَةَ، وأذهب الوسوسة لأنَّ الذكر إذا كان] «2» باجتماع القلب وصِدْقِ النية، لم يكُنْ للشيطانِ قُوَّةٌ عند ذلك، وانقطعَتْ علائقُ حِيَلِهِ وإنَّما قُوَّتُهُ ووسوستُهُ مع الغَفْلَة، وإذا كان [الذِّكْرُ بالأَمْنِ والغَفْلَةِ لَمْ تفارقْهُ الوَسْوَسَةُ، وإنِ استدام العَبْدُ الذِّكْرَ والقراءةَ لأَنَّ على قلب الغافلِ غشاوةً ولا يجد] «3» صاحبها لطعم الذكْرِ حلاوةً، فَتَحَفَّظْ على دينك من هذا العدوّ، وليس لك أن تزيله عن

_ (1) أخرجه البخاري (13/ 26) كتاب «الفتن» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (7072) ، ومسلم (4/ 2020) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم (16/ 2617) ، وأحمد (2/ 317) . (2) سقط في: د. (3) سقط في: د.

مرتبته، ولا أَنْ تزيحَهُ عن وطنه، وإنما أُبِيحَ لك مجاهدته، فاستعنْ باللَّه يُعِنْك، وثِقْ باللَّه فإنَّهُ لا يَخْذُلُكَ قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] ، انتهى من تصنيفه- رحمه اللَّه-. وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق، ووعد على ذلك، وعَلِمَ سبحانه أَنَّ خِلْقَةَ البشر تغلب أحياناً وتَثُورُ بِهِمْ سَوْرَةُ الغضب ونَزْغُ الشيطان فَدَلَّهُمْ في هذه الآية على ما يُذْهِبُ ذلك، وهي الاستعاذة به عزَّ وجلَّ، ثم عَدَّدَ سبحانه آياته ليعتبر فيها، فقال: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، ثم قال تعالى: لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ: وإِنْ كانت لكم فيهما منافع لأَنَّ النفع منهما إنَّما هو بتسخير اللَّهِ إيَّاهما، فهو الذي ينبغي أَنْ يُسْجَدَ له، والضمير في خَلَقَهُنَّ قيل: هو عائد على الآيات المتقدم ذكرُهَا، وقيل: عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وأيضاً جمع ما لاَ يَعْقِلُ يُؤنَّثُ/، فلذلك قال: خَلَقَهُنَّ ومن حيث يقال: شُمُوسٌ وأقمار لاِختلافهما بالأَيَّامِ ساغ أنْ يعود الضميرُ مجموعاً، وقيل: هو عائد على الأربعة المذكورة. ت: ومن كتاب «المستغيثين باللَّه» لأبي القاسم بن بَشْكَوَال حَدَّثَ بسنده إلى أَنس بن مالك، قال: تقرأ «حم السجدة» ، وتَسْجُدُ عند السجدة، وتَدْعُو فإنَّه يُسْتَجَابُ لك، قال الراوي: وَجَرَّبْتُهُ فوجدته مُسْتَجاباً، انتهى،، ثم خاطب جل وعلا نَبِيَّهُ- عليه السلام- بما يتضمَّن وعيدهم وحقارَة أمرهم، وأَنَّهُ سبحانه غَنِيٌّ عن عبادتهم بقوله: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ... الآية، وقوله: فَالَّذِينَ يعني بهم الملائكة هم صَافُّونَ يسبحون، وعِنْدَ هنا ليست بظرف مكان وإِنَّما هي بمعنى المنزلة والقربةِ [كما تقول: زَيْدٌ عنْدَ الْمَلِكِ جليلٌ، ويروى أَنَّ تَسبيحَ الملائكة قد صار لهم كالنّفس لبني آدم، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ معناه: لا] «1» يَملُّون، ثم ذكر تعالى آيةً منصوبةً ليعتبر بها في أمر البعث من القبور، ويستدِلَّ بما شُوهِدَ من هذه على ما لم يشاهد، فقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ... الآية، وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشَعَثٍ بالجَدْبِ، فهي عابسةٌ كما الخاشِعُ عَابِسٌ يكاد يَبْكِي، واهتزاز الأرض: هو تَخَلْخُلُ أجْزَائِهَا وَتَشَقُّقُهَا للنبات، ورُبُوُّهَا: هو انتفاخها بالماء وعُلُوُّ سطحِها به، وعبارة البخاريِّ: اهتزت بالنبات، ورَبَت: ارتفعَت اهـ، ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أنْ يُقَاسَ على هذه الآية، والعبرة، وذلك إحياء الموتى، فقال: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والشيء في اللغة: الموجود.

_ (1) سقط في: د.

[سورة فصلت (41) : الآيات 40 إلى 43]

[سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 43] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَّا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ... الآية، آيةُ وعيدٍ، والإلحاد: المَيْلُ، وهو هنا ميل عن الحَقِّ/ ومنه لَحْدُ المَيِّتِ لأنَّه في جانب، يقال: لَحَدَ الرَّجُلُ، وألحد بمَعْنًى. واختلف في إلحادهم هذا: ما هو؟ فقال قتادة وغيره: هو إلحاد بالتكذيب «1» ، وقال مجاهد وغيره «2» : هو بالمُكَاءِ والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه، وقال ابن عباس: إلحادهم: وَضْعُهُمْ للكَلاَمِ غَيْرَ موضعه، ولفظة «3» الإلحاد تَعُمُّ هذا كُلَّه، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وعيدٌ في صيغة الأمر بإجماع من أهل العلم. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ... الآية: يريد ب الَّذِينَ كَفَرُوا قريشا، والذكر: القرآن بإجماع. واختُلِفَ في الخبر عنهم: أين هو؟ فقالت فرقة: هو في قوله: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] ، ورُدَّ بكثرة الحائل، وأنَّ هنالك قوماً قد ذكروا بحسن رد قوله: «أولئك ينادون عليهم» ، وقالت فرقة: الخبر مُضمَرٌ، تقديره: إنَّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم، هَلَكُوا أو ضَلُّوا، وقيل: الخبر في قوله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وهذا ضعيف لا يتجه، وقال عمرو بن عُبَيْدٍ: معناه في التفسير: إنَّ الذين كفروا بالذِّكْرِ لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب عزيز قال ع «4» : والذي يَحْسُنُ في هذا هو إضمار الخبر، ولكِنَّهُ عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدَّره هؤلاء فيه وإنَّمَا هو بعد حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وهو أشدّ

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 115) برقم: (30562) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 116) ، وابن عطية (5/ 18) ، وابن كثير (4/ 102) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 688) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. [.....] (2) أخرجه الطبري (11/ 115) برقم: (30561) ، والبغوي في «تفسيره» (4/ 116) ، وابن عطية (5/ 18) . (3) أخرجه الطبري (11/ 115) برقم: (30565) ، وابن عطية (5/ 18) ، وابن كثير (4/ 102) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 687) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (7/ 19) .

[سورة فصلت (41) : الآيات 44 إلى 46]

إظهاراً لِمَذَمَّةِ الكُفَّارِ به وذلك لأَنَّ قوله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ داخل في صفة الذكر المُكَذَّبِ بهِ فلم يتم ذكر المُخْبَر عنه إلاَّ بعد استيفاء وصفِهِ، ووصفَ اللَّه تعالى الكتابَ بالعِزَّةِ لأنه بصحة معانيه مُمْتَنِعٌ الطَّعْنُ فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من اللَّه تعالى قال ابن عباس: معناه: كريمٌ على اللَّه تعالى «1» . وقوله تعالى: لاَّ يَأْتِيهِ/ الْباطِلُ قال قتادة والسُّدِّيُّ: يريد: الشيطان «2» ، وظاهر اللفظَ يَعُمُّ الشيطان، وأنْ يجيء أمْرٌ يُبْطِلُ منه شَيْئاً. وقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ معناه: ليس فيما تقدم من الكتب ما يُبْطِلُ شَيْئاً منه. وقوله: وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي: ليس يأتي بعده من نَظَرِ ناظر وفِكْرَةِ عاقل ما يبطل شيئا منه، والمراد باللفظة على الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات. وقوله: تَنْزِيلٌ خبر مبتدإٍ، أي: هو تنزيلٌ. وقوله تعالى: مَّا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن مقالات، قومه وما يلقَاهُ من المكروه منهم. والثاني: أنْ يكون المعنى: ما يقال لك من الوحي، وتُخَاطَبُ به من جهة اللَّه تعالى إلاَّ ما قد قيل للرُّسُلِ من قبلك. [سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 46] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا ... الآية، الأَعْجَمِيُّ: هو الذي لا يفصح، عربيًّا كان أو غير عربيٍّ، والعَجَمِيُّ: الذي ليس من العرب، فصيحاً كان أو غيرَ فصيحٍ، والمعنى: ولو جعلنا هذا القرآن أعجمِيّاً، لا يبين لقالوا واعترضوا: لولا بينت

_ (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 116) ، وابن عطية (5/ 19) . (2) أخرجه الطبري (11/ 117) برقم: (30571- 30572) ، وذكره البغوي (4/ 116) ، وابن عطية (5/ 19) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 689) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن الضريس.

آياته، وهذه الآية نزلت بسبب تخليطٍ كان من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في القرآن، وهي مِمَّا عُرِّبَ من كلام العجم كسِجِّينٍ وإسْتَبْرَق ونحوه، وقرأ الجمهور: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف، وقَرَأَ حمزةُ والكسائيُّ وحَفْصٌ: «أَأَعْجَمِيٌّ» بهمزتين «1» ، وكأنهم يُنْكِرُونَ ذلك، ويقولون: أأعجمي وعربي مُخْتَلِطٌ؟ هذا لا يحسن [ثم قال تعالى] «2» : قُلْ هُوَ يعني القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ واختلف الناس في قوله: وَهُوَ عَلَيْهِمْ/ عَمًى فقالت فرقة: يريد ب «هو» القرآن، وقالت فرقة يريد ب «هو» الوَقْرَ، وهذه كلُّها استعاراتٌ، والمعنى: أَنَّهم كالأعمى وصاحب الوقر وهو الثِّقْلُ في الأذن، المانِعُ من السمع وكذلك قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يحتمل معنيين، وكلاهما مَقُولٌ للمفسِّرين: أحدهما: أنَّها استعارة لِقِلَّة فِهمهم، شَبَّهَهُمْ بالرجل ينادى على بُعْدٍ، يَسْمَعُ منه الصوت، ولا يفهمُ تفاصيلَهُ ولا معانيه، وهذا تأويلُ مجاهد «3» . والآخر: أنَّ الكلام على الحقيقة، وأَنَّ معناه: أَنَّهم يوم القيامة يُنَادَوْنَ بكفرهم وقبيحِ أعمالهم من بعد حتى يَسْمَعَ ذلك أهلُ الموقف ليُفْضَحُوا على رؤوس الخلائق، ويكونَ أعظمَ لتوبيخهم وهذا تأويل الضَّحَّاكِ «4» . قال أبو حَيَّان «5» : عَمًى- بفتح الميم- مصدر عَمِيَ، انتهى. ثم ضرب الله تعالى أمر موسى مثلا للنبي ع ولقريش، أي: فَعَلَ أولئك كأفعال هؤلاء، حين جاءهم مِثْلُ ما جاء هؤلاءِ، والكلمةُ السابقةُ هي حَتْمُ اللَّهِ تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قوله: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يحتمل أنْ يعودَ على موسى، أو على كتابه. وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ... الآية: نصيحةٌ بليغةٌ لِلْعَالَمِ، وتحذيرٌ وترجيَةٌ.

_ (1) بل قراءة عاصم بالهمزتين، إنما هي من رواية أبي بكر عنه، لا من رواية حفص، وقرأ الأخير بالمد كقراءة الباقين. ينظر: «السبعة» (576) ، و «الحجة» (6/ 119) ، و «إعراب القراءات» (2/ 278) ، و «معاني القراءات» (2/ 352) ، و «العنوان» (169) ، و «حجة القراءات» (637) ، و «إتحاف» (2/ 444) . (2) سقط في: د. (3) أخرجه الطبري (11/ 120) برقم: (30587) ، وذكره ابن عطية (5/ 21) ، وابن كثير (4/ 103) . (4) أخرجه الطبري (11/ 120) برقم: (30590) ، وذكره ابن عطية (5/ 21) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 481) .

[سورة فصلت (41) : الآيات 47 إلى 50]

[سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 50] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وقوله تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ... الآية، المعنى: إنَّ علم الساعة ووقتَ مجيئها يَرُدُّهُ كلّ مؤمن متكلّم فيه إلى الله عز وجل. وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي ... الآية، التقدير: واذكر يوم يناديهم، والضمير في يُنادِيهِمْ الأظهر والأسبق فيه للفهم: أنَّه يريد الكفارَ عَبَدَةَ الأوثان، ويحتمل أنْ يريد كلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه من إنسانٍ وغَيْرِهِ، وفي هذا ضَعْفٌ، وأَمَّا الضمير/ في قوله: وَضَلَّ عَنْهُمْ فلا احتمال لِعَوْدَتِهِ إلاَّ على الكفار، وآذَنَّاكَ قال ابن عباس وغيره: معناه: أعلمناك ما مِنَّا مَنْ يشهدُ، ولا مَنْ شَهِدَ بأنَّ لك شريكاً وَضَلَّ عَنْهُمْ أي: نَسُوا ما كانوا يقولُونَ في الدنيا، ويَدْعُونَ من الآلهة والأصنام، ويحتمل أن يريد: وضَلَّ عنهم الأصنام، أي: تلفت، فلم يجدوا منها نَصْراً، وتلاشى لهم أمْرُهَا. وقوله: وَظَنُّوا يحتمل أنْ يكونَ متَّصِلاً بما قبله، ويكون الوقْفُ عليه، ويكون قوله: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ استئنافاً، نفَى أنْ يكُونَ لهم مَلْجَأً أو موضِعَ رَوَغَانٍ، تقول: حَاصَ الرَّجُلُ: إذَا رَاغَ لِطَلَبِ النجاةِ مِنْ شَيْءٍ ومنه الحديثُ: «فَحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلَى الأَبْوَابِ» «1» ، ويكونَ الظَّنُّ على هذا التأويل على بابه، أي: ظَنُّوا أَنَّ هذه المقالة مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ مَنْجَاةٌ لهم، أو أمر يموِّهون به، ويحتمل أنْ يكون الوقف في قوله: مِنْ قَبْلُ، ويكون وَظَنُّوا متصلاً بقوله: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين، وقد تقدَّم البحثُ في إطلاق الظن على اليقين. ت: وهذا التأويلُ هو الظاهرُ، والأوَّلُ بعيدٌ جدًّا. وقوله تعالى: لاَّ يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ هذه آياتٌ نزلَتْ في كفّار، قيل: في

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 42- 43- 44) كتاب «بدء الوحي» باب: (6) (7) ، (8/ 62- 63) ، كتاب «التفسير» باب: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ (4553) .

[سورة فصلت (41) : الآيات 51 إلى 54]

الوليد بن المُغِيرَةِ، وقيل: في عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وجُلُّ الآية يُعْطِي أَنَّها نزلَتْ في كُفَّارٍ، وإنْ كان أَوَّلُها يتضمن خُلُقاً ربما شارك فيها بعض المؤمنين. ودُعاءِ الْخَيْرِ إضافته إضافة المصدر إلى المفعول، وفي مصحف ابن مسعود «1» : «مِنْ دُعَاءٍ بالْخَيْرِ» والخيرُ في هذه الآية المالُ والصحَّةُ، وبذلك تليق الآية بالكفَّار. وقوله تعالى: لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي: بعملي وبما سعيت/ ولا يرى أَنَّ النِّعَمَ إنَّما هي فَضْلٌ من اللَّهِ تعالى قال- ص-: لَيَقُولَنَّ قال أبو البقاءِ: هو جَوَابُ الشَّرْطِ، والفاء محذوفةٌ، وقيل: هو جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، قال- ص-: قُلْتُ: هذا هو الحَقُّ، والأَوَّلُ غلَطٌ لأَنَّ القَسَمَ قد تقدَّم في قوله: وَلَئِنْ فالجواب له، ولأَنَّ حذف الفاء في الجواب لا يجوزُ، انتهى، وفي تغليط الصَّفَاقُسِيِّ لأبي البقاء نظر. وقوله: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً قولٌ بَيِّنٌ فيه الجَحْدُ والكُفْر، ثم يقول هذا الكافر: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي: كما تقولُونَ: «إن لي عنده للحسنى» أي: حالاً ترضيني من مال، وبنين، وغيرِ ذلك، قال ع «2» : والأمانيُّ على اللَّه تعالى، وتركُ الجِدِّ في الطاعةِ مذمومٌ لكُلِّ أحد فقد قال عليه السلام: «الكَيِّسُ مَنْ دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى الله» «3» . [سورة فصلت (41) : الآيات 51 الى 54] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) وقوله تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ... الآية، ذَكَرَ سبحانه الخُلُقَ الذميمة من الإنسان جملةً، وهي في الكافر بَيِّنَةٌ متمكِّنة، وأَمَّا المُؤْمِنُ، ففي الأغلب يَشْكُرُ على النعمة، وكثيرا ما يصبر عند الشدة، ونَأى معناه: بَعُدَ ولم يَمِلْ إلى شُكْر ولا طَاعَةٍ. وقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي: وطويلٍ أيضا، وعبارة الثعلبيّ: عَرِيضٍ أي:

_ (1) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (135) ، و «الكشاف» (4/ 205) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 22) ، و «البحر المحيط» (7/ 482) ، و «الدر المصون» (6/ 71) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 22) . (3) تقدم. [.....]

كثير، والعربُ تستعملُ الطُّولَ والعَرْضَ كليهما في الكَثرة من الكلام، انتهى. ثم أمر تعالى نبيَّهُ أنْ يوقِّف قريشاً على هذا الاحتجاج، وموضع تغريرهم بأنفسهم، فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وخالفتموه ألستم على هلكة؟ فمن أَضَلَّ مِمَّنْ يبقى على مِثْلِ هذا الغَرَرِ مَعَ اللَّهِ وهذا هو الشقاق ثم وعد تعالى/ نبيّه ع بأَنَّهُ سَيُرِي الكُفَّارَ آياته، واختلف في معنى قوله سبحانه: فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فقال المِنْهَالُ والسُّدِّيُّ وجماعةٌ: هو وَعْدٌ بما يفتحه اللَّه على رسوله من الأقطارِ حَوْلَ مَكَّةَ، وفي غيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَرْضِ كخَيْبَرَ ونحوها وَفِي أَنْفُسِهِمْ: أراد به فَتْحَ مَكَّةَ «1» قال ع «2» : وهذا تأويلٌ حَسَنٌ، يتضمَّن الإعلام بِغَيْبٍ ظَهَرَ بَعْدَ ذلك، وقال قتادةُ والضَّحَّاكُ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ: هو ما أصاب الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ في أقطار الأرض قديماً «3» ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ: يوم بدر، والتأويلُ الأَوَّلُ أرْجَحُ، واللَّه أعلم، والضمير في قوله تعالى: أَنَّهُ الْحَقُّ عائد على الشرع والقرآن فبإظهار اللَّهِ نَبِيَّهُ وفتحِ البلاد عليه يتبيَّن لهم أَنَّه الحَقُّ. وقوله: بِرَبِّكَ قال أبو حَيَّان «4» : الباء زائدة، وهو فاعل يَكْفِ أي: أو لَمْ يَكْفِهِمْ رَبُّكَ، انتهى، وباقي الآية بيّن.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 125) برقم: (30604) عن السدي، وذكره ابن عطية (5/ 23) ، وابن كثير (4/ 105) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 23) . (3) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 118) عن مجاهد، والحسن، والسدي، والكلبي، وابن عطية (5/ 118) . (4) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 483) .

تفسير سورة الشورى

تفسير سورة الشورى وهي مكّيّة وقال مقاتل: فيها مدني [قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى الصُّدُورِ] «1» . [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) قوله تعالى: حم عسق قال الثعلبيّ: قال ابن عبّاس: إنّ حم عسق هذه الحروف بأعيانِهَا نزلَتْ في كُلَّ كُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ على كُلِّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ عليه كتاب ولذلك قال تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ «2» ، وقرأ الجمهور: يُوحِي بإسناد الفعل إلى اللَّه تعالى، وقرأ ابن كثير وحده: «يوحَى» - بفتح الحاء- على بناء الفعل لِلْمَفْعُولِ «3» ، والتقدير: يُوحِي إليكَ القرآنَ. وقوله تعالى: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: يريدُ من الأنبياءِ الذين نَزَلَ عليهم/ الكتابُ، وقرأ نافع والكسائيُّ «يَتَفَطَّرْنَ» ، وقرأ أبو عمرو، وعاصم: «يَنْفَطِرْنَ» «4» والمعنى فيهما: يتصدَّعْنَ ويتشقَّقْنَ، خضوعاً وخشيةً من الله تعالى، وتعظيما وطاعة.

_ (1) سقط في: د. (2) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 119) ، وذكره ابن عطية (5/ 25) . (3) ينظر: «السبعة» (580) ، و «الحجة» (6/ 126) ، و «إعراب القراءات» (2/ 281) ، و «معاني القراءات» (2/ 355) ، و «شرح الطيبة» (5/ 212) ، و «العنوان» (170) ، و «حجة القراءات» (639) ، و «شرح شعلة» (574) ، و «إتحاف» (2/ 448) . (4) يعني من رواية أبي بكر، وأما رواية حفص فمثل الباقين. ينظر: «السبعة» (580) ، و «الحجة» (6/ 127) ، و «إعراب القراءات» (2/ 283) ، و «العنوان» (170) ، و «حجة القراءات» (640) ، و «إتحاف» (2/ 448) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 6 إلى 8]

وقوله: مِنْ فَوْقِهِنَّ أي: من أعلاهن، وقال الأخفشُ، عليُّ بْنُ سُلَيْمَان: الضمير في مِنْ فَوْقِهِنَّ للكُفَّار، أي: من فوق الجماعاتِ الكافرةِ والفِرَقِ المُلْحِدَةِ مِنْ أجْلِ أقوالها تَكادُ السموات يتفطَّرْنَ، فهذه الآية على هذا كالتي في «كهيعص» : تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم: 90] الآية، وقالت فرقة: معناه: من فوق الأرضين، إذْ قد جرى ذِكْرُ الأرض. وقوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ قالَتْ فرقةٌ: هذا منسوخٌ بقوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7] قال ع «1» : وهذا قولٌ ضعيفٌ، لأَنَّ النَّسْخ في الأخبار لاَ يُتَصَوَّرُ، وقال السَّدِّيُّ ما معناه: إنَّ ظاهر الآية العمومُ، ومعناها الخصوصُ في المؤمنين، فكأنَّه قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين «2» ، وقالت فرقة: بل هِيَ على عمومها: لكنَّ استغفارَ الملائكة ليس بطَلَبِ غفرانٍ للكفرة مَعَ بقائهم على كُفْرهم، وإنَّما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تُؤَدِّي إلى الغفران لهم، وتأويل السُّدِّيِّ أرجحُ. [سورة الشورى (42) : الآيات 6 الى 8] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ هذه آية تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ووعيد للكافرين، والمعنى: ليس عليك إلاَّ البلاغ فقطْ، فلا تَهْتَمَّ بعدم إيمان قريشٍ وغيرهم، اللَّه هو الحفيظُ عليهم كُفْرَهُمْ المُحْصِي لأعمالهم، المُجَازِي عليها، وأَنْتَ لَسْتَ بوكيلٍ عليهم، وما في هذه الألفاظِ مِنْ موادَعَةٍ فمنسوخٌ قال الإِمامُ الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه/ الحسنى، عند كلامه على اسمه سبحانه «الحفيظ» : قال بعضهم: ما من عبد حَفِظَ جوارِحَه إلاَّ حَفِظَ اللَّه عليه قَلْبَهُ، وما من عبد حَفِظَ اللَّهُ عليه قلبه إلاَّ جعله حُجَّةً على عباده، انتهى، ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا [المعنى: وكما قضينا أمرك هكذا، وأمضيناه في هذه السورةِ كذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً] «3» مبيناً لهم، لا يحتاجُونَ إلى آخَرَ سِوَاهُ إِذْ فَهْمُهُ مُتَأَتِّ لَهُمْ، ولم نكلِّفْكَ إلّا إنذار من ذكر، وأُمَّ الْقُرى هي مكة، ويَوْمَ الْجَمْعِ هو يوم القيامة، أي: تخوفهم إيَّاهُ.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 26) . (2) أخرجه الطبري (11/ 129) برقم: (30615) . (3) سقط في: د.

وقوله: فَرِيقٌ مرتَفِعٌ على خبر الابتداء المُضْمَرِ كأنَّه قال: هُمْ فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السَّعِيرِ، ثم قوى تعالى تسليةَ نَبِيِّه بأَنْ عَرَّفَه أَنَّ الأمر موقوفٌ على مشيئة اللَّه من إيمانهم أو كُفْرهم، وأَنَّه لو أراد كونهم أُمَّةً واحدةً على دينٍ واحدٍ، لجمعهم عليه ولكِنَّه سبحانه يدخل مَنْ سبقَتْ له السعادةُ عنده في رحمته، ويُيَسِّره في الدنيا لعمل أهل السعادة، وأَنَّ الظالمين بالكفر المُيَسَّرِينَ لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير، قال عبدُ الحَقِّ- رحمه اللَّه- في «العاقبة» : وقد علمتَ (رحمك اللَّه) أَنَّ الناس يوم القيامة صنفان: صنف مُقَرَّبٌ مُصَانٌ. وآخر مُبْعَدٌ مُهَانٌ. صنف نِصِبَت لهم الأَسِرَّة والحِجَال والأرائكُ والكِلاَل وجُمِعَتْ لَهُمُ الرغائبُ والآمالُ. وآخَرُونَ أُعِدَّتْ لهم الأراقمُ والصِّلاَلِ والمقامعُ والأغلالِ وضروبُ الأهوال والأنْكَال، وأنْتَ لا تعلم من أَيِّهما أنْتَ ولا في أَيِّ الفريقَيْن كُنْتَ: [الكامل] نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قَبَائِلِ نَوْفَل ... وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ وَتَقَلَّبُوا فَرِحِينَ تَحْتَ ظِلاَلِهَا ... وَطُرِحْتُ بِالصَّحْرَاءِ غَيْرَ مُظَلَّلِ وَسُقُوا مِنَ الصَّافي الْمُعَتَّقِ رِيُّهُم ... وَسُقِيتُ دَمْعَةَ/ وَالِهٍ مُتَمَلْمِلِ بكى سفيانُ الثوريُّ- رحمه اللَّه- ليلةً إلى الصَّبَاحِ، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تِبْنَةً من الأرض، وقال: الذنوبُ أَهْوَنُ من هذا إنَّما أَبْكِي خوفَ الخاتمةِ، وبَكَى سفيان، وغير سفيان، وَإنَّهُ لِلأَمْر يبكى عليه وَيصرف الاهتمام كلّه إليه. وقد قيل: لا تَكُفَّ دَمْعَك حتى ترى في المعاد رَبْعَك. وقيل: يا ابن آدم، الأقلام عليك تَجْرِي وأنْتَ في غفلة لا تدري، يا ابن آدمَ دَعِ التنافُسَ في هذه الدار حتى ترى ما فَعَلَتَ في أمرِكَ الأَقْدَار، سمع بعض الصالحينَ مُنْشِداً ينشد: [الطويل] أَيَا رَاهِبِي نَجْرَانَ مَا فَعَلَتْ هِنْد ... ..... فبكى ليلةً إلى الصباح، فَسُئِلَ عن ذلك فقال: قلتُ في نفسي: ما فعلَتِ الأقدار فيّ وماذا جَرَتْ به عليّ؟ انتهى.

[سورة الشورى (42) : الآيات 9 إلى 12]

[سورة الشورى (42) : الآيات 9 الى 12] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ... الآية، قوله: أَمِ اتَّخَذُوا: كلامٌ مقطوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وليستْ بمعادلةٍ، ولكنَّ الكلام كأَنَّه أَضْرَبَ عن حُجَّةٍ لهم أو مقالةٍ مُقَرَّرَةٍ، فقال: بَلِ اتخذوا هذا مشهورُ قولِ النَّحْوِيِّينَ في مِثْلِ هذا، وذهب بعضهم إلى أَنَّ «أم» هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضرابٍ، ثم أثبت الحكم بأنّه عز وجل هو الوليُّ الذي تنفع ولايته. وقوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ... الآية، المعنى: قل لهم يا محمَّد: وما اختلفتم فيه، أَيُّها الناس، مِنْ تكذيبٍ وتصديقٍ، وإيمانٍ وكفرٍ، وغَيْرِ ذلك فالحُكْمُ فيه والمجازاةُ عنه لَيْسَتْ إلَيَّ ولا بيدي وإنَّما ذلك إلى اللَّه تعالى، الذي صفاته ما ذُكِرَ من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء. وقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يريد: زوجَ الإنسان الأنثى، وبهذه/ النعمة اتفق الذرء، وليست الأزواج هاهنا الأنواع. وقوله: وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً الظاهر أيضاً فيه والمُتَّسِقُ أَنَّهُ يريد إناث الذَّكْرَان، ويحتمل أنْ يريد الأنواع، والأوَّل أظهر. وقوله: يَذْرَؤُكُمْ أي: يخلقكم نسلاً بعد نَسْلٍ، وقرناً بعد قَرْنٍ قاله مجاهد والناس، فلفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخرَ ليس في «خلق» ، وهو توالي طبقات على مَرِّ الزمان. وقوله: فِيهِ الضمير عائد على الجَعْلِ يتضمَّنه قوله: جَعَلَ لَكُمْ وهذا كما تقول: كَلَّمْتُ زَيْداً كلاماً أكرمته فيه، وقال القُتَبِيُّ: الضمير للتزْوِيجِ، ولفظة «في» مشتركة على معانٍ، وإنْ كان أصلها الوعاء، وإليه يردها النظر في كل وجه. وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الكاف مؤكِّدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكَدُ مَا يكُونُ وذلك أَنّك تقول: زيدٌ كعمرو، وزيْدٌ مِثْلُ عمرو، فإذا أردتَ المبالغة التامَّة قلتَ: زيدٌ كَمِثْلِ عَمْرٍو، وجرتِ الآية في هذا الموضع على عُرْفِ كلامِ العَرَبِ، وعلى هذا المعنى

[سورة الشورى (42) : الآيات 13 إلى 15]

شواهِدُ كثيرة، وذهب الطَّبَرِيُّ «1» وغيره إلى أَنَّ المعنى: ليس كهو شيء، وقالوا: لفظة مَثَلُ في الآية توكيدٌ، وواقعةٌ موقع «هو» ، و «المقاليد» : المفاتيحُ قاله ابن عبَّاس وغيره «2» ، وقال مجاهد هذا أصلها بالفارسيّة «3» ، وهي هاهنا استعارة لوقوعِ كُلِّ أمرٍ تَحْتَ قدرته سبحانه، وقال السُّدِّيُّ: المقاليدُ: الخزائن «4» ، وفي اللفظ على هذا حذفُ مضافٍ، قال قتادة: مَنْ ملك مقاليد خزائن، فالخزائن في ملكه «5» . [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 15] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وقوله سبحانه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ... الآية، المعنى: شرع لكم وبَيَّنَ مِنَ المعتقدات والتوحيدِ ما وصى به نوحاً قَبْلُ. وقوله: وَالَّذِي عطف على مَا، وكذلك ما ذكر بَعْدُ مِنْ إقامة الدِّينِ مشروعٌ اتفقت النُّبُوَّاتُ فِيهِ وذلك في المعتَقَدَاتِ، وأَمَّا الأحكامُ بانفرادها فَهِيَ في الشرائعِ مختلفةٌ، وهي المرادُ في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وإقامة الدين هو توحيدُ اللَّهِ ورَفْضُ سِوَاهُ. وقوله تعالى: وَلا تَتَفَرَّقُوا: نَهْيٌ عن المُهْلَكِ مِنْ تفرُّق الأنحاء والمذاهب، والخيرُ كُلُّه في الأُلْفَةِ واجتماع الكلمة، ثم قال تعالى لنبيّه ع: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: من توحيد اللَّه ورَفْضِ الأوثان قال قتادة: كَبُرَ عليهم «لا إله إلا اللَّه» وأبى اللَّه إلاَّ نَصْرها «6» ، ثم سَلاَّه تعالى عنهم بقوله: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ... الآية،

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 133) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 29) . (3) أخرجه الطبري (11/ 133، 134) برقم: (30630) ، وذكره ابن عطية (5/ 29) . [.....] (4) أخرجه الطبري (11/ 134) برقم: (30632) ، وذكره ابن عطية (5/ 29) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 29) . (6) أخرجه الطبري (11/ 135) برقم: (30640) ، وذكره ابن عطية (5/ 29) .

أي: يختار ويصطفي قاله مجاهد وغيره «1» ويُنِيبُ يرجع عنِ الكُفْرِ ويحرص على الخير ويطلبه. وَما تَفَرَّقُوا يعني: أوائل اليهود والنصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ. وقوله: بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: بغى بعضُهم على بَعْضٍ، وأدَّاهم ذلك إلى اختلاف الرأْي وافتراقِ الكلمةِ، والكلمة السابقة قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاءَ بأَنَّ مجازاتهم إنَّما تقع في الآخرة، ولولا ذلك لَفَصَلَ بينهم في الدنيا، وغَلَّبَ المُحِقَّ على المُبْطِلِ. وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ إشارة إلى معاصري نَبِيِّنا محمد- عليه السلام- من اليهود والنصارى. وقيل: هو إشارة إلى العرب والكتاب على هذا هو القرآن، والضمير في قوله: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يحتمل أنْ يعودَ على الكتاب، أو على محمد، أو على الأجل المسمى، أي: في شَكٍّ من البعث على قول مَنْ رأى أَنَّ الإشارة إلى العرب، ووَصَفَ الشَّكّ ب مُرِيبٍ مبالغة فيه، واللام في قوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ قالت فرقة: هي بمنزلة «إلى» كأنه قال: فإلى ما وَصَّى به الأنبياءَ من التوحيدِ فادع، وقالت فرقة: بل هي بمعنى «من أجل» كأنه قال: من أجلِ أَنَّ الأمر كذا وكذا، ولكونه كذا فادع أَنْتَ إلى ربك، وبَلِّغْ ما أُرْسِلْتَ به، وقال الفخر «2» : يعني فلأجلِ ذلك التفرُّقِ، ولأجْلِ ما حَدَثَ من الاختلافاتِ الكثيرةِ في الدينِ فادع إلى الاتفاقِ على المِلَّةِ الحنيفيَّة، واستقِمْ عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك اللَّه، ولا تتّبع أهواءهم الباطلة، انتهى، وخوطب ع بالاستقامة، وهو قد كان مستقيماً بمعنى: دُمْ على استقامتك، وهكذا الشَّأْنُ في كُلِّ مأمورٍ بشيءٍ هو مُتَلَبِّسٌ به، إنَّما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نُصْبَ عَيْنَي النبيِّ ع، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، لأنَّها جملة تحتها جمِيعُ الطاعاتِ وتكاليفُ النبوَّة، وفي هذا المعنى- قال عليه السلام-: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها» ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّه؟ فَقَالَ: لأَنَّ فِيهَا: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «3» [هود: 112] وهذا الخطاب له ع بحسب قوّته في أمر الله عز وجل، وقال: هو لأُمَّتِهِ بحسب ضعفهم: استقيموا ولن تحصوا.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 29) . (2) ينظر: «الفخر الرازي» (14/ 136) . (3) تقدم.

[سورة الشورى (42) : الآيات 16 إلى 19]

وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني: قُرَيْشاً. ت: وفَرَضَ الفَخْرُ هذه القَضِيَّةَ في أهْلِ الكتاب، وذكر ما وقع من اليهود ومحاجَّتهم في دفع الحقِّ وجَحْدِ الرسالة، وعلى هذا فالضمير في: أَهْواءَهُمْ عائدٌ عليهم، واللَّه أعلم. اهـ. ثم أَمَرَهُ تعالى أَنْ يَقُولَ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وهو أَمْرٌ يَعُمُّ سائِرَ أمته. وقوله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قالت فرقة: اللام في لِأَعْدِلَ بمعنى: أنْ أعدل بينكم، وقالت فرقة: المعنى وَأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به من التبليغ والشَّرْعِ لِكَيْ أعدلَ بينكم. وقوله: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ إلى آخر الآية- ما فيه من مُوَادَعَةٍ منسوخٌ بآية السَّيْفِ. وقوله: لاَ حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي: لا جدال، ولا مناظرةَ قد وَضَحَ الحق، وأنتم تعاندون، وفي قوله: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا: وعيد بيّن. [سورة الشورى (42) : الآيات 16 الى 19] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ ... الآية، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل هَمَّتْ بردِّ الناس عن الإسلام وإضلالهم «1» ، وقيل: نزلت في قريشٍ لأنَّها كانت أبدا تحاول هذا المعنى، ويُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ معناه: في دين اللَّه أو توحيدِ اللَّه، أي: يحاجُّون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبهه، والضمير في لَهُ يحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تبارك وتعالى، ويحتمل أنْ يعودَ على الدِّينِ والشرع، ويحتمل أنْ يعودَ على النبي ع وداحِضَةٌ معناه: زاهقة، والدَّحْضُ الزَّهقُ، وباقي الآية بَيِّن.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 138- 139) برقم: (30649، 30651) ، وذكره ابن عطية (5/ 31) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 696- 697) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد نحوه.

[سورة الشورى (42) : الآيات 20 إلى 22]

وقوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ معناه: مضمناً الحق، أي: بالحق في أحكامه، وأوامره، ونواهيه، وأخباره، وَالْمِيزانَ هنا: العدل قاله ابن عباس ومجاهد «1» ، والناس، وحكى الثعلبيُّ عن مجاهد أَنَّهُ قال: هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس «2» ، قال ع «3» : ولا شَكَّ أَنَّه داخل في العدل وجزء منه. وقوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ وعيدٌ للمشركين، وجاء لفظ قَرِيبٌ مُذَكَّراً من حيثُ تأنيثُ السَّاعَةِ- غيرُ حقيقيٍّ-، وإذْ هي بمعنى الوقت. ت: ينبغي للمؤمن العاقل أنْ يتدبَّر هذه الآيةَ ونظائرها، ويقدِّر في نفسه أَنَّه المقصود بها: [البسيط] لاَهٍ بِدُنْيَاهُ وَالأَيَّامُ تَنْعَاهُ ... وَالْقَبْرُ غَايَتُهُ وَاللَّحْدُ مَأْوَاهُ يَلْهُو فَلَوْ كَانَ يَدْرِي مَا أُعِدَّ لَه ... إذَنْ لأَحْزَنَهُ مَا كَانَ أَلْهَاهُ قال الغَزَّاليُّ في «الإحياء» قال أبو زكريَّا التَّيْمِيُّ: بينما سليمانُ بنُ عبد الملك في المسجد الحرام إذ أُوتِيَ بحَجَرٍ منقوشٍ، فَطَلَبَ مَنْ يَقْرَؤُهُ، فأوتي بِوهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فإذا فيه: ابنَ آدمَ، إنك لو رأيْتَ قُرْبَ ما بَقِيَ من أَجْلِك، لَزَهِدْتَ في طول أملك وَلَرَغِبْتَ في الزيادَةِ مِنْ عَمَلِك، وَلَقَصَّرْتَ مِنْ حِرْصِكَ وحِيَلِكَ، وإنما يلقاك غَداً نَدَمُك لو قد زَلَّتْ بك قَدَمُك، وأسلمك أَهلُكَ وَحْشَمُك، فَفَارَقَكَ الوَلَدُ والقَرِيب وَرَفَضَكَ الوَالِدُ والنَّسِيب، فلا أَنْتَ إلى دُنْيَاك عائد ولا في حَسَنَاتِك زَائِد، فاعمل ليومِ القيامهْ، قبل الحسرة والندامهْ. فبكى سليمان بكاءً شديداً، انتهى،، وباقي الآية بيِّن. ثم رَجَّى تبارك وتعالى عباده بقوله: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ ولَطِيفٌ هنا بمعنى رفيق مُتَحَفٍّ، والعباد هنا المؤمنون. [سورة الشورى (42) : الآيات 20 الى 22] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 139) برقم: (30655) عن مجاهد، وذكره البغوي (4/ 123) عن قتادة، ومجاهد، ومقاتل، وابن عطية (5/ 31) ، وابن كثير (4/ 111) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 697) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (2) ذكره ابن عطية (5/ 31) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 31) .

وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ معناه: إرادة مُسْتَعِدٍّ عاملٍ، لا إرادةُ مُتَمَنٍّ مُسَوِّفٍ، والحَرْثُ في هذه الآية: عبارةٌ عن السَّعْيِ والتكسُّبِ والإعْدَاد. وقوله تعالى: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَعْدٌ مُتَنَجَّزٌ قال الفَخْرُ «1» : وفي تفسير قوله: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قولان: الأوَّلُ: نزد له في توفيقه وإعانته، وتسهيلِ سبيل الخيرات والطاعات عليه، وقال مقاتل: نزد له في حَرْثِهِ بتضعيفِ الثواب قال تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: 30] انتهى، وقوله: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها معناه: ما شئنا منها ولمن شئنا، فَرُبَّ مُمْتَحَنٍ مُضَيَّقٌ عليه حريصٌ على حَرْثِ الدنيا، مريدٌ له، لا يَحُسُّ بغيره، نعوذُ بالله من ذلك! وهذا الذي لا يعقل غيرَ الدنيا هو الذي نفى أنْ يكون له نصيبٌ في الآخرة. وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ «أم» هذه منقطعةٌ لا معادلةٌ، وهي بتقدير «بل» ، وألف الاستفهام، والشركاء في هذه الآية يحتمل أنْ يكونَ المراد بهم الشياطين والمُغْوِينَ من أسلافهم، ويكون الضمير في لَهُمْ للكفار المعاصرين لمحمّد ع فالاشتراك هاهنا هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك باللَّه- ويحتمل أنْ يكون المراد بالشركاء: الأصنام والأوثان على معنى: أم لهم أصنام جعلوها شركاءَ للَّه في أُلُوهِيَّتِهِ، ويكون الضمير في شَرَعُوا لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم، والضمير في لَهُمْ للأصنام الشركاء، وشَرَعُوا معناه: أثبتوا، ونهجوا، ورسموا والدِّينِ هنا: العوائدُ والأحكامُ والسِّيرَةُ، ويَدْخُلُ في ذلك أيضاً المُعْتَقَدَاتُ السُّوء لأَنَّهُم في جمِيع ذلك وضعوا ذلك أوضاعاً فاسدة وكلمة الفصل هي ما سبق من قضاء اللَّه تعالى بأَنَّهُ يُؤخِّرُ عقابهم للدار الآخرة، والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم. وقوله تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ هي رؤية بصر، ومُشْفِقِينَ حال، وليس لهم في هذا الإشفاق مدح لأنَّهم إنَّما أشفقوا حين نزل بهم، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مُشْفِقُون من أمر الساعة، كما تقدم، وهو واقع بهم.

_ (1) ينظر: «الفخر الرازي» (14/ 140) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 23 إلى 26]

أبو حيان «1» : ضمير هُوَ عائد على العذاب، أو على ما كسبوا بحذف مضاف، أي: وبال ما كسبوا، انتهى، والروضات: المواضع المونقة النضرة. [سورة الشورى (42) : الآيات 23 الى 26] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وقوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] . وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى اختلف الناسُ في معناه فقال ابن عباس وغيره: هي آية مَكِّيَّةٌ نزلت في صدر الإسلام، ومعناها: استكفاف شَرِّ الكفار ودفع أذاهم، أي: ما أسألكم على القرآن إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابةٍ بيني وبينكم فَتَكُفُّوا عَنِّي أذاكم «2» ، قال ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة: ولم يكن في قريش بطن إلّا وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه نسب أو صِهْرٌ «3» ، فالآية على هذا فيها استعطافٌ مَّا، ودفع أذًى، وطلبُ سلامة منهم، وذلك كله منسوخ بآية السيف، ويحتمل هذا التأويل أنْ يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم، أي: لا أسألكم غرامة ولا شيئاً إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابتي منكم، وأنْ تكونوا أولى بي من غيركم، قال ع «4» : وقُرَيْشٌ كُلُّها عندي قربى، وإنْ كانت تتفاضل، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ شَهِيداً، ومَنْ مَاتَ على بُغْضِهِم، لَمْ يَشمَّ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» «5» ، وقال ابن عَبَّاس أيضاً: ما يقتضي أَنَّ الآية مَدَنِيَّةٌ، وأَنَّ

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (7/ 493) . (2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 33) . (3) أخرجه البخاري (8/ 426) كتاب «التفسير» باب: إلا المودة في القربى (4818) عن ابن عبّاس، والترمذي (5/ 377) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة حم عسق (3251) ، وابن جرير في «تفسيره» (11/ 142) (30662- 30663) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 125) عن ابن عبّاس جميعهم، وابن عطية (5/ 33) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 699) ، وعزاه إلى مسلم وابن مردويه، وعبد بن حميد، وأحمد عن ابن عبّاس. [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 34) . (5) ينظر: القرطبي (16/ 23) تفسير سورة الشورى.

الأنصار جمعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالاً وساقَتْهُ إليه، فَرَدَّهُ عليهم، وَنَزَلَتِ الآيةُ في ذلك «1» ، وقيلَ غَيْرُ هذا، وعلى كُلِّ قول، فالاستثناء منقطع، وإِلَّا بمعنى «لكن» ويَقْتَرِفْ معناه: يَكْتَسِب، ورَجُلٌ قُرَفَةٌ إذا كان محتالاً كسوبا وغَفُورٌ معناه: ساتر عيوب عباده، وشَكُورٌ معناه: مُجِازٍ على الدقيقة من الخير، لا يضيع عنده لعاملٍ عَمَلٌ. وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «أم» هذه مقطوعةٌ مضمنة إضراباً عن كلام متقدِّم، وتقريراً على هذه المقالة منهم. وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ معناه في قول قتادة وفرقة من المفسرين: ينسيك/ القرآن «2» ، والمراد الرَّدُّ على مقالة الكُفَّار، وبيانُ إبْطَالِهَا، كأَنَّهُ يقُولُ: وكيف يَصِحُّ أنْ تكون مفترياً، وأنت من اللَّه بمرأًى ومَسْمَعٍ؟ هو قَادِرٌ لو شاء أَنْ يختم على قلبك فلا تَعْقِلُ، ولا تنطق، ولا يستمرُّ افتراؤك فمقصد اللفظ: هذا المعنى، وحُذِفَ ما يَدُلُّ عليه الظاهر اختصاراً واقتصاراً، وقال مجاهد: المعنى: فإن يشإ اللَّه يختمْ على قلبك بالصبر لأذى الكفار، ويربطْ عليك بالجَلَدِ «3» ، فهذا تأويل لا يتضمَّن الردَّ على مقالتهم قال أبو حَيَّان: وذكر القُشَيْرِيُّ أنَّ الخطاب للكفار، أي: يختم على قلبك أَيُّهَا القائلُ فيكون انتقالاً من الغيبة للخطاب، وَيَمْحُ: استئنافُ إخبارٍ لا داخل في الجواب، وتسقط الواو من اللفظ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف حملاً على اللفظ، انتهى. وقوله تعالى: وَيَمْحُ فعل مستقبل، خبر من اللَّه تعالى أَنَّهُ يمحو الباطل، ولا بُدَّ إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، وهذا بحسب نازلة نازلة، وكتب يَمْحُ في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] إلى غير ذلك مِمَّا ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار. وقوله: بِكَلِماتِهِ معناه: بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء، فالكلمات: المعاني القائمة القديمة التي لا تبديلَ لها، ثم ذكر تعالى النعمة في تَفَضُّلِهِ بقبول التوبة من عباده، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله- مقطوعٌ به بهذه الآية، وأمَّا ما سلف من أعماله فينقسم، فأمَّا التوبة من الكفر فَمَاحِيَةٌ كُلَّ ما تَقَدَّمَها من مظالم العباد

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 34) . (2) أخرجه الطبري (11/ 146) برقم (30691) ، وذكره ابن عطية (5/ 34) والسيوطي (5/ 703) وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد. (3) ذكره ابن عطية (5/ 35) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 27 إلى 29]

الفائتة وغير ذلك، وأمَّا التوبة من المعاصي فلأهل السُّنَّةِ فيها قولان: هل تُذْهِبَ المعاصيَ السالفةَ للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة: هي مُذْهِبَةٌ لها، وقالت فرقة: هي في مشيئة اللَّه تعالى، / وأجمعوا أَنَّها لا تُذْهِبُ مظالم العباد، وحقيقةُ التوبة: الإقلاعُ عن المعاصِي، والإقبالُ، والرجوعُ إلى الطاعات، ويلزمها النَّدَمُ على ما فَاتَ والعَزْمُ على ملازمة الخَيْرَات. وقال سَرِيٌّ السِّقَطِيُّ: التوبة: العَزْمُ على ترك الذنوب والإقبالُ بالقَلْبِ على عَلاَّم الغيوب، وقال يحيى بن مُعَاذٍ: التائبُ: مَنْ كَسَرَ شَبَابَهُ على رأسه، وكَسَرَ الدنيا على رأسِ الشيطان، [ولزم الفِطام] «1» حتى أتاه الحِمَام «2» . وقوله تعالى: عَنْ عِبادِهِ بمعنى مِنْ عباده، وكأنه قال: التوبة الصادرة عن عباده، وقرأ الجمهور: «يَفْعَلُونَ» بالياء على الغَيْبَة، وقرأ حمزة والكسائيُّ: «تَفْعَلُونَ» بالتاء على المخاطبة «3» ، وفي الآية توعُّد. وقوله تعالى: «ويستجيب» قال الزَّجَّاجُ وغيره: معناه: يجيبُ، والعَرَبُ تقول: أجاب واستجاب بمعنى، والَّذِينَ على هذا التأويل: مفعول «يستجيب» ، وروي هذا المعنى عن معاذِ بن جَبَلٍ، ونحوه عن ابن عباس «4» ، وقالت فرقة: المعنى: ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحات، ودَلَّ قوله: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على أنَّ المعنى: فيجيبهم، والَّذِينَ على هذا القول فَاعِلُ يَسْتَجِيبُ،، وقالتْ فرقة: المعنى: ويجيبُ المؤمنونَ رَبَّهم، ف الَّذِينَ فاعلٌ بمعنى: يجيبُونَ دَعْوَةَ شَرْعِهِ ورسالتِهِ، والزيادة من فضله هي تضعيفُ الحسنات، ورُوِيَ عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «هِيَ قَبُولُ الشَّفَاعَاتِ في المُذْنِبِينَ، والرضوان» . [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 29] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)

_ (1) سقط في: د. (2) ذكره ابن عطية (5/ 35) . (3) وقرأ بها حفص عن عاصم. ينظر: «السبعة» (580) ، و «الحجة» (6/ 128) ، و «إعراب القراءات» (2/ 283) ، و «معاني القراءات» (2/ 356) ، و «شرح الطيبة» (5/ 212) ، و «العنوان» (170) ، و «حجة القراءات» (641) ، و «إتحاف» (2/ 450) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 35) .

وقوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ قال عمرو بن حُرَيْثٍ وغيره: إنَّها نزلت لأَنَّ قوماً من أهل الصفَّة طلبوا من رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم أنْ يُغْنِيَهُمُ/ اللَّه، ويبسطَ لهم الأموالَ والأرزاق، فأعلمهم اللَّه تعالى أنَّه لو جاء الرِّزْقُ على اختيار البَشَر واقتراحهم، لكان سَبَبَ بغيهم وإفسادهم ولكنّه عز وجل أعلمُ بالمَصْلَحَةِ في كُلِّ أحدٍ: إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ: بمصالحهم، فهو ينزل لهم من الرزق القَدْرَ الذي بِهِ صَلاَحُهُمْ فرُبَّ إنْسَانٍ لاَ يَصْلُحُ، وتَنْكَفُّ عاديته إلاَّ بالفقر. ت: وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديثَ كثيرةً مختارةً في فضل الفقراء الصابرين- ما فيه كفايةٌ لمن وُفِّق، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن سعيد بن المُسَيِّبِ قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِجُلَسَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال: هُمُ الخَائِفُونَ، الخَاضِعُونَ، المُتَوَاضِعُونَ، الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهُمْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؟ قال: لا، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قال: الفُقَرَاءُ يَسْبِقُونَ النَّاسَ إلَى الجَنَّةِ، فَتَخْرُجُ إلَيْهِمْ مِنْهَا مَلاَئِكَةٌ، فَيَقُولُونَ: ارجعوا إلَى الْحِسَابِ، فَيَقُولُونَ: عَلاَمَ نُحَاسَبُ، وَاللَّهِ مَا أُفِيضَتْ عَلَيْنَا الأَمْوَالُ في الدُّنْيَا فَنَقْبِضَ فِيهَا وَنَبْسُطَ، وَمَا كُنَّا أُمَرَاءَ نَعْدِلُ وَنَجُورُ وَلَكِنَّا جَاءَنَا أَمْرُ اللَّهِ فعبدناه حتّى أتانا اليقين» «1» انتهى. وقوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ... الآية، تعديدُ نِعَمِ اللَّه تعالى الدَّالَّةِ على وَحْدَانِيَّتِهِ، وأَنَّه المولى الذي يستحقُّ أَنْ يُعْبَدُ دونَ ما سواه من الأنداد، وقرأ الجمهور: «قَنَطُوا» بفتح النون، وقرأ الأعمش: «قَنِطُوا» بكسرها، وهما لغتان «2» ، ورُوِيَ أَنَّ عمر- رضي اللَّه عنه- قيل له: أجدبت الأرض، وقَنِطَ النَّاس، فقال: مُطِرُوا إذَنْ، بمعنى أنَّ الفرج عند الشِّدَّةِ. وقوله تعالى: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ قيل: أراد بالرحمة: المطر، وقيل: أراد بالرحمة هنا: الشمْسَ، فذلك تعديد نعمة غير الأولى، وذلك أَنَّ المطر إذا أَلَمَّ بعد القنط حَسُنَ موقعُهُ، فإذا دَامَ سُئِمَ، فتجيء الشمْسُ بعده عظيمة الموقع.

_ (1) أخرجه أبو نعيم بن حماد في «زوائده» على الزهد (80) (283) . (2) وقرأ بها يحيى بن وثاب. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 36) ، و «البحر المحيط» (7/ 495) ، و «الدر المصون» (6/ 81) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 30 إلى 33]

وقوله تعالى: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي: مَنْ هذه أفعاله هو الذي ينفع إذا والى، وتُحْمَدُ أفعاله ونعمه، قال القُشَيْرِيُّ: اسمه تعالى: «الولي» ، أي: هو المتولِّي لأحوال عباده، وقيل: هو من الوالي، وهو الناصر، فأولياءُ اللَّه أنصار دينه، وأشياعُ طاعته، والوليُّ: في- صفة العبد- مَنْ يُوَاظِبُ على طاعة رَبِّه، ومِنْ علاماتِ مَنْ يكونُ الحَقُّ سبحانه وَلِيَّهُ- أنْ يصونه، ويكفِيَهُ في جميع الأحوال، ويُؤَمِّنَهُ، فيغارَ على قلبه أنْ يتعلَّقَ بمخلوقٍ في دفع شَرٍّ أو جَلْبِ نَفْعٍ بل يكونُ سبحانه هو القائِمَ على قلبه في كُلِّ نَفَسٍ، فيحقِّق آماله عند إشاراته، ويعجِّل مَآرِبَهُ عند خَطَرَاتِهِ، ومن أماراتِ ولايته لِعَبْدِهِ: أنْ يُدِيمَ توفيقَهُ حتى لو أرادَ سُوءاً، أو قصد محظوراً- عَصَمَهُ عن ارتكابه، أو لو جنح إلى تقصير في طاعة، أبى إلاَّ توفيقاً وتأييداً، وهذا من أماراتِ السعادَةِ، وعَكْسُ هذا مِنْ أماراتِ الشقاوة، ومن أمارات ولايته أيضاً أنْ يرزقه مَوَدَّةً في قُلُوب أوليائه، انتهى من «التحبير» . ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الدَّالَّةَ على الصَّانِعِ، وذلك خَلْقُ السموات والأرضِ. وقوله [تعالى] : وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ يتخرَّجُ على وجوهٍ: منها: أنْ يريدَ إحْدَاهُمَا، وهو ما بَثَّ في الأرض دونَ السموات، ومنها: أنْ يكون تعالى قد خلق في السموات وبَثَّ دوابَّ لا نعلَمُهَا نَحْنُ، ومنها: أنْ يريد الحيواناتِ التي تُوجَدُ في السحاب، وقد تَقَعُ أحياناً كالضفادع/ ونحوها فَإنَّ السَّحَابَ داخل في اسم السماء. وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ يريد: يومَ القيامة عند الحشر من القبور. [سورة الشورى (42) : الآيات 30 الى 33] وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) وقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ قرأ جمهور القُرَّاء: «فَبِمَا» بفاء، وكذلك هي في جُلِّ المصاحف، وقرأ نافع وابن عامر: «بِمَا» دون فاء «1» ، قال أبو علي الفارسيُّ: أصاب من قوله: وَما أَصابَكُمْ يحتمل أنْ يكون في موضع جَزْمٍ، وتكون «ما» شرطيةً، وعلى هذا لا يجوزُ حَذْفُ الفاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وجوّز حذفها أبو الحسن الأخفش، وبعض

_ (1) وقراءة الجمهور أجود في العربية، لأن الفاء مجازاة جواب الشرط، والمعنى: ما يصيبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم. ينظر: «حجة القراءات» (642) ، و «السبعة» (581) ، و «الحجة» (6/ 128) ، و «معاني القراءات» (2/ 356) ، و «شرح الطيبة» (5/ 214) ، و «العنوان» (170) ، و «شرح شعلة» (574) ، و «إتحاف» (2/ 450) .

البغداديِّينَ على أَنَّها مُرَادَةٌ في المعنى، ويحتمل أنْ يكون «أصاب» صلة ل «مَا» ، وتكون «ما» بمعنى «الذي» ، وعلى هذا يتجه حذفُ الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي: لولا كَسْبُكُمْ ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنَّما هي بكسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أنْ يعرى منه، قال ع «1» : وأَمَّا في هذه الآية، فالتلازم مُطَّرِدٌ مع الثبوت والحذف، وأمَّا معنى الآية، فاختلف الناسُ فيه، فقالت فرقة: هو إخبار من اللَّه تعالى بأَنَّ الرزايا والمصائبَ في الدنيا إِنَّما هي مجازات من اللَّه تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأنَّ اللَّه تعالى يعفو عن كثير، فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ، أوْ عَثْرَةُ قَدَمٍ، وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَرُ» «2» ، وقال مُرَّةُ الهَمَدَانِيُّ: رأيتُ على ظهر كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةً، فقلتُ: ما هذا؟ فقال: هذا بما كَسَبَتْ يَدَيَّ، ويعفو [اللَّه] «3» عن كثير، وقيل لأبي سليمانَ الدَّارَانِيِّ: ما بالُ الفضلاء لا يَلُومُونَ مَنْ أساءَ/ إليهم؟ فقال: لأَنَّهُمْ يعلَمُونَ أَنَّ اللَّه تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم، ورَوَى عليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، أوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا- فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ بَعْدَ عَفْوِهِ» «4» وقال الحَسَنُ: معنى الآية في الحُدُودِ، أي: ما أصابكم من حَدٍّ من حُدُودِ اللَّه، فبما كسبَتْ أيديكم، ويعفو اللَّه عن كثير، فيستره على العبد حتى لا يُحَدَّ عليه، ثم أَخبر تعالى عن قُصُورِ ابن آدَمَ وَضَعْفِهِ، وأَنَّه في قبضة القدرة لا يعجز طَلَب رَبِّه، ولا يُمْكِنُه الفِرَارُ منه، و «الجواري» : جمع جارية وهي السفينة، وكَالْأَعْلامِ: الجبال، وباقي الآية بَيِّنٌ، فيه الموعظةُ وتشريفُ الصبّار الشكور.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 37) . (2) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 153) (9815) عن قتادة، وذكره الهندي في «كنز العمال» (3/ 341) (6849) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور. [.....] (3) سقط في: د. (4) أخرجه أحمد (1/ 85) ، وأبو يعلى (1/ 352) (193/ 453) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 107) . قال الهيثمي: رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه أزهر بن راشد وهو ضعيف. وله شاهد من طريق آخر منه: أخرجه الترمذي (5/ 16) كتاب «الإيمان» باب: ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن (2626) ، وابن ماجه (2/ 868) كتاب «الحدود» باب: الحد كفارة (2604) ، وأحمد (1/ 99، 159) ، والحاكم (2/ 445) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[سورة الشورى (42) : الآيات 34 إلى 37]

[سورة الشورى (42) : الآيات 34 الى 37] أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وقوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا: أوْبَقْتُ الرَّجُلَ: إذا أَنْشَبْتَهُ في أمْرٍ يَهْلِكُ فِيهِ، وهو في السفن تغريقها وبِما كَسَبُوا أي: بذنوب رُكَّابها، وقرأ نافع، وابن عامر: «وَيَعْلَمُ» بالرفع على القطع والاستئناف، وقرأ الباقون والجمهور: «وَيَعْلَمَ» بالنصب «1» على تقدير «أنْ» ، و «المَحِيصُ» : المنجى، وموضعُ الرَّوَغَانِ. ثم وعَظَ سبحانه عبادَهُ، وحَقَّر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورَغَّبَهُمْ فيما عنده من النعيم والمنزلة الرفيعة لديه، وعَظَّم قَدْرَ ذلك في قوله: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [وزينتها] وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وقرأ الجمهور «2» : كَبائِرَ على الجمع قال الحسن: هي كُلُّ ما تُوُعِّدَ فيه بالنار «3» ، وقد تقدَّم ما ذَكَرَهُ/ الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وَالْفَواحِشَ: قال السُّدِّيُّ «4» : الزنا، وقال مقاتل: مُوجِبَاتُ الحدود «5» . وقوله تعالى: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ حَضٌّ على كسر الغضب والتدرُّب في إطفائه إذ هو جمرةٌ من جَهَنَّمَ، وبَابٌ مِنْ أبوابها، وقال رجل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدْني، قَال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب» «6» ، ومن جاهد

_ (1) ينظر: «السبعة» (581) ، و «الحجة» (6/ 130) ، و «إعراب القراءات» (2/ 285) ، و «معاني القراءات» (2/ 357) ، و «شرح الطيبة» (5/ 214) ، و «العنوان» (170) ، و «حجة القراءات» (643) ، و «إتحاف» (2/ 450) . (2) وقد قرأ حمزة والكسائيّ بالإفراد «كبير» . ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 39) ، و «السبعة» (581) ، و «الحجة» (6/ 132) ، و «إعراب القراءات» (2/ 286) ، و «معاني القراءات» (2/ 358) ، و «شرح الطيبة» (5/ 215) ، و «العنوان» (170) ، و «حجة القراءات» (643) ، و «شرح شعلة» (574) ، و «إتحاف» (2/ 451) . (3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 39) . (4) أخرجه الطبري (11/ 154) برقم: (30722) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 129) ، وابن عطية (5/ 39) . (5) أخرجه البغوي (4/ 129) ، وذكره ابن عطية (5/ 39) . (6) أخرجه البخاري (10/ 535) كتاب «الأدب» باب: الحذر من الغضب (6116) ، والبيهقي (10/ 105) كتاب «آداب القاضي» باب: لا يقضي وهو غضبان، نحوه من حديث أبي هريرة، والترمذي (4/ 371) كتاب «آداب القاضي» باب: لا يقضي وهو غضبان، نحوه من حديث أبي هريرة، والترمذي (4/ 371) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في كثرة الغضب (2020) ، نحو حديث البخاري والبيهقي عنه. -

[سورة الشورى (42) : الآيات 38 إلى 41]

هذا العَارِضَ مِنْ نَفْسِهِ حتى غَلَبَهُ، فقدْ كُفِيَ هَمًّا عظيماً في دنياه وآخرته. ت: وروى مالكٌ في «المُوَطَّإ» أَنَّ رجُلاً أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فأنسى، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَغْضَبْ» «1» قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أراد: عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي بكلماتٍ قليلةٍ لئلاَّ أنسى إنْ أكْثَرْتَ عَلَيَّ، ثم أسند أبو عُمَرَ من طُرُقٍ عن الأحنفِ بن قَيْسٍ عن عَمِّه جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ، أَنَّه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وأَقْلِلْ لِي لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، قَال: «لاَ تَغْضَبْ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِراراً، كُلُّها يُرَجِّعُ إليه رسُولُ اللَّه: لاَ تَغْضَبْ» ، انتهى «2» من «التمهيد» ، وأسند أبو عُمَرَ في «التمهيد» أيضاً عن عبد اللَّه بن أبي الهُذَيْلِ قال: لما رأى يحيى أَنَّ عيسى مُفَارِقُهُ قال له: أَوْصِنِي، قَالَ: لا تَغْضَبْ، قال: لاَ أَسْتَطِيعُ، قال: لا تَقْتَنِ مَالاً، قال عَسَى. انتهى. وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ أقال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ عَنْهُمْ، وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «3» ، قال ابن المُبَارَكِ: وأخبرنا/ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ قال: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى يَقُولُ: «مَنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإِ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ ذَكَرَنِي حِينَ يَغْضَبُ ذَكَرْتُهُ حِينَ أَغْضَبُ فَلَمْ أَمْحَقْهُ فيمن أمحق «4» » انتهى. [سورة الشورى (42) : الآيات 38 الى 41] وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)

_ - قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وفي الباب من حديث جارية بن قدامة التيمي رضي الله عنه: أنه قال: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قُلْ لي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وأَقْلِلْ لعلي لا أغفله، قال: «لا تغضب ... » الحديث. أخرجه ابن حبان (12/ 502) كتاب «الحظر والإباحة» باب: الاستماع المكروه وسوء الظن والغضب والفحش، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ذم النفس عن الخروج إلى ما لا يرضي الله- جلّ وعلا- بالغضب (5689- 5690) ، وأحمد (3/ 484) ، (5/ 34) ، والحاكم (3/ 615) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 237) (2309) ، والطبراني (2/ 262) (2094) (2107) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (3/ 108) (1110) . (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 906) كتاب «حسن الخلق» باب: ما جاء في الغضب (11) . (2) أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 246) ، وانظر الحديث قبل السابق. (3) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (257) (745) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (3/ 354) (6902) ، وعزاه إلى الديلمي. (4) تقدم تخريج هذا الحديث مسندا.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا مَدْحٌ لكلِّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ، وقَبِلَ شَرْعَهُ، ومَدَحَ اللَّهُ تعالى القَوْمَ الذين أَمْرُهُمْ شورى بينهم لأنَّ في ذلك اجتماعَ الكلمة، والتَّحَابُّ، واتصالَ الأيْدِي، والتَّعَاضُدَ على الخير، وفي الحديث: «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إلاَّ هُدُوا لأَحْسَنِ، مَا بِحَضْرَتِهِمْ «1» . وقوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ معناه: في سبيل اللَّه، وبِرَسْمِ الشَّرْعِ وقال ابن زيد قوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ... الآية، نزلت في الأَنصار «2» ، والظاهر أَنَّ اللَّه تعالى مدح كلَّ مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفةِ كائناً مَنْ كَانَ، وهل حَصَلَ الأنصارُ في هذه الصفة إلا بعد سَبْقِ المهاجرين إليها- رضي اللَّهُ عَنْ جميعهم بمنّه وكرمه-. وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ: مدح سبحانه في هذه الآية قوماً بالانتصار مِمَّنْ بَغَى عليهم، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا: الانتصار بالواجب تغيير منكر، قال الثعلبيُّ: قال إبراهيم [النَّخَعِيُّ] في هذه الآية: كانوا يكرهون أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فإذا قدروا عفوا، انتهى. وقوله سبحانه: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها قيل: سُمِّي الجزاء باسم الابتداء، وإن لم يكن سيئة، لتشابههما في الصورة، قال ع «3» : وإنْ أخذنا السيِّئة هنا بمعنى المصيبة في حَقِّ البشر، أي: يسوء هذا هذا ويسوءه الآخر- فلسنا نحتاج إلى أنْ نقول: سمى العقوبة باسم الذنب بل الفعل الأَوَّلِ والآخر سيئة، قال الفخر: اعلم أَنَّهُ تعالى/ لما قال: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أردفه بما يَدُلُّ على أَنَّ ذلك الانتصار يجب أَنْ يكون مُقَيَّداً بالمثل فإنَّ النقصان حَيْفٌ، والزيادة ظلم، والمساواة هو العدل فلهذا السبب قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها انتهى وَيَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ونحوه من الآي، واللام في قوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ لام التقاء القسم. وقوله: مِنْ سَبِيلٍ يريد: من سبيل حرج ولا سبيل حكم، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار، والخلاف فيه: هل هو بين المؤمن والمُشْرِكِ، أو بين المؤمنين؟.

_ (1) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (81) باب: المشورة (253) نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 707) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. [.....] (2) أخرجه الطبري (11/ 154) برقم: (30723) ، وذكره ابن عطية (5/ 39) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 40) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 42 إلى 45]

[سورة الشورى (42) : الآيات 42 الى 45] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ... الآية، المعنى: إنما سبيل الحكم والإثم على الذين يظلمون الناس، روى التَّرْمِذِيُّ عن كعب بن عُجْرَةَ قال: قال لي النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم،: «أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا كَعْبُ مِنْ أُمَرَاءٍ يَكُونُونَ، فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ في كَذِبِهِمْ، وأَعَانَهُمْ على ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلاَ يَرِدُ عَلَي الْحَوْضِ، يا كَعْبُ، الصَّلاَةُ بُرْهَانٌ، والصبر جنّة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطْفِىءُ الماءُ النَّارَ، يا كَعْبُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلاَّ كَانَتِ النَّارُ أولى بِهِ» . قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، وخرَّجه أيضاً في «كتاب الفتن» وصحَّحه «1» ، انتهى. وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ إلى قوله: أَلِيمٌ: اعتراضٌ بَيْنَ الكلامَيْنِ، ثم عاد في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ إلى الكلام الأول، كأنَّه قال: ولمنِ انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِكَ ما عليهم من سبيل، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ ... الآية، واللام في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ يصِحُّ أنْ تكون لام قَسَمٍ، ويصح أنْ تكون لام الابتداء، وعَزْمِ الْأُمُورِ: مُحْكَمُهَا ومُتْقَنُهَا، والحميدُ العاقبةِ منها، فمَنْ رأى أَنَّ هذه الآية/ هي فيما بين المؤمنين والمشركين، وأنَّ الصبر للمشركين كان أفضل قال: إنَّ الآية نسخت بآية السيف، ومَنْ رأى أَنَّ الآية بين المؤمنين، قال: هي مُحْكَمَةٌ، والصبر والغفران أفضل إجماعاً، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقَيَامَةِ، نادى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَيَقُومُ عَنَقٌ مِنَ النَّاسِ كَبِيرٌ، فَيُقَالُ: مَا أَجْرُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا في الدُّنْيَا» «2» . وقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ تحقير لأمر الكَفَرَةِ، أي: فلا يُبَالي بهم أحدٌ من المؤمنين لأنَّهم صائرون إلى ما لا فلاحَ لهم معه، ثم وصف تعالى

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 525) ، كتاب «الفتن» باب: (72) (2259) ، والنسائي (7/ 160- 161) كتاب «البيعة» باب: من لم يعن أميرا على الظلم (4208) ، وابن حبان (5/ 141) (1569) ، وأحمد (3/ 399) كلهم نحوه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب، لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه. (2) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (3/ 265) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 46 إلى 48]

لنبيِّه حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب، وقولهم: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ومرادهم: الرَّدُّ إلى الدنيا، والرؤية هنا رؤيةُ عَيْنٍ، والضميرُ في قوله: عَلَيْها عائدٌ على النار، وإنْ لم يتقدَّم لها ذِكْرٌ من حيثُ دَلَّ عليها قوله: رَأَوُا الْعَذابَ. وقوله: مِنَ الذُّلِّ يتعلق ب خاشِعِينَ. وقوله تعالى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قال قتادة والسُّدِّيُّ «1» : المعنى: يسارقون النَّظَرَ لما كانوا فيه من الهَمِّ وسوء الحال لا يستطيعون النَّظَرَ بجميعِ العَيْنِ وإنَّما ينظرون ببعضها قال الثعلبيُّ: قال يونس: مِنَ بمعنى الباء، ينظرون بطرف خَفِيٍّ، أي: ضعيف من أجل الذُّلِّ والخوف، ونحوُه عن الأخفش، انتهى، وفي البخاريِّ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، أي: ذليل. وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية، وقول الَّذِينَ آمَنُوا هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار وسوء مُنْقَلَبِهِمْ. وقوله تعالى: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين/ يومئذ، حكاه اللَّه عنهم، ويحتمل أَنْ يكون استئنافاً من قول الله عز وجل وأخباره لنبيه محمّد ع. [سورة الشورى (42) : الآيات 46 الى 48] وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) وقوله تعالى: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية، إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها، واعتقدَتْ ذلك دِيناً، ثم أَمَرَ تعالى نِبِيَّه أنْ يأمرهم بالاستجابة لدعوة اللَّه وشريعته من قبل إتيان يوم القيامة الذي لا يُرَدُّ أحد بعده إلى عمل، قال ع «2» : في الآية الأخرى في سورة «آلم غلبت الروم» : ويحتمل أن يريد: لا يَرُدُّه رَادٌّ حتى لا يقع، وهذا ظاهر بحسب اللفظ، و «النكير» : مصدر بمعنى الإنكار

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 159) برقم: (30738- 30739) ، وذكره ابن عطية (5/ 41) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 42) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 49 إلى 51]

قال الثعلبيُّ: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ: أي مَعْقِل، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي: من إنكارٍ على ما ينزل بكم من العذاب بغير ما بكم، انتهى. وقوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا ... الآية تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والإنسان هنا اسم جنس، وجَمَعَ الضمير في قوله: تُصِبْهُمْ وهو عائد على لفظ الإنسان من حيث هو اسم جنس. [سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 51] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وقوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ ... الآية، هذه آية اعتبار دَالٍّ على القُدْرَةِ والمُلْكِ المحيط بالجميع، وأَنَّ مشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه وفي كُلِّ أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإنَّ الذي يخلق ما يشاء هو اللَّه تبارك وتعالى، وهو الذي يقسم الخلق فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الأولاد الذكور، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي: ينوعهم ذكراناً وإناثا، وقال محمّد ابن الحنفيّة: يريد بقوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ التّوأم، أي: يجعل في بطن زوجاً من الذُّرِّيَّة ذكراً وأنثى «1» ، و «العقيم» : الذي لا يُولَدُ له، وهذا كله مُدَبَّرٌ بالعلم والقدرة/ وبدأ في هذه الآية بذكر الإناث تأنيساً بِهِنَّ ليهتمّ بصونهنّ والإحسان إليهنّ، وقال النبيّ ع: «مَنِ ابتلي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ» «2» ، وقال واثلةُ بْنُ الأَسْقَعِ: مِنْ يُمْنِ المَرْأَةِ تبكيرُها بالأنثى قبل الذكر «3» لأنَّ اللَّه تعالى بدأ بِذِكْرِ الإناث حكاه عنه الثعلبيُّ قال: وقال

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 43) . (2) أخرجه البخاري (3/ 332) كتاب «الزكاة» باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (1418) ، (10/ 440) كتاب «الأدب» باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5995) ، ومسلم (4/ 2027) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: فضل الإحسان إلى البنات (147/ 2629) ، والترمذي (4/ 319) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في النفقة على البنات والأخوات (1913) ، وابن حبان (7/ 201) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في الصبر وثواب الأعمال، ذكر الاستتار من النار- نعوذ بالله منها- للمسلم إذا ابتلي بالبنات فأحسن صحبتهن (2939) ، وأحمد (6/ 33) ، والبيهقي (7/ 478) كتاب «النفقات» باب: النفقة على الأولاد. قال الترمذي: هذا حديث حسن. (3) ذكره ابن عطية (5/ 43) .

[سورة الشورى (42) : الآيات 52 إلى 53]

إسحاق بن بِشْرٍ: نزلَتْ هذه الآيةُ في الأَنبياء «1» ، ثم عَمَّتْ ف يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني: لوطا ع، ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يعني إبراهيم ع، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني: نِبِيَّنَا محمَّداً ع، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يعني: يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاء- عليهما السلام-. وقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ... الآية، نزلَتْ بسبب خَوْضٍ كان للكفار في معنى تكليم اللَّه موسى ونحو ذلك، ذهَبَ قريشٌ واليهودُ في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مُبَيِّنَةً صورةَ تكليم اللَّه عبادَهُ، كيف هو، فَبَيَّنَ اللَّه تعالى أَنَّهُ لا يكُونُ لأَحَدٍ مِنَ الأنبياءِ، ولا ينبغِي له، ولا يمكنُ فيه أنْ يُكَلِّمه اللَّه إلاَّ بأَنْ يوحي إليه أحَدَ وجوه الوَحْيِ من الإلهام قال مجاهد: أوِ النَّفْثِ في القَلْبِ «2» ، أو وَحْيٍ في منام، قال النَّخَعِيّ: وكانَ من الأنبياء مَنْ يُخَطَّ له في الأرض ونحو هذا، أو بأنْ يُسْمِعَهُ كلامه دون أن يعرف هو للمتكلِّم جهةً ولا حَيِّزاً كموسى- عليه السلام-، وهذا معنى مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي: من خفاء عن المُكَلَّم لا يحدُّه ولا يتسوَّر بذهنه عليه، وليس كالحجابِ في الشاهد، أو بأنْ يرسِلَ إليه مَلَكاً يُشَافِهُهُ بوحي الله/ عز وجل، قال الفخر «3» : قوله: فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ أي: فيوحى ذلك المَلَكُ بإذن اللَّه ما يشاءُ اللَّه انتهى، وقرأ جمهور القُرَّاءِ والناس: «أَوْ يُرْسِلَ» بالنصب «فَيُوحَى» بالنصب أيضاً، وقرأ نافع، وابن عامر، وابن عباس، وأهل المدينة: «أَوْ يُرْسِلُ» بالرفع فيوحي- بسكون الياء «4» -، وقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «مِنْ» متعلِّقةٌ بفعْلٍ يَدُلُّ ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلِّمه من وراء حجاب، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الرسالة من أنواع التكليم، وأَنَّ مَنْ حَلَفَ: لا يُكَلِّم فلاناً، وهو لم ينو المشافهة، ثم أرسل رسولا حنث. [سورة الشورى (42) : الآيات 52 الى 53] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) وقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... الآية، المعنى: وبهذه الطرق، ومن هذا الجنس أوحينا إليك، أي: بالرسول، و «الرُّوحُ» في هذه الآية: القرآن

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 43) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 43) . (3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (27/ 163) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 43) ، و «البحر المحيط» (7/ 504) ، و «الدر المصون» (6/ 88) .

آن وهدى الشريعة، سَمَّاه رُوحاً من حيث يُحْيي به البَشَرَ والعَالَم كَما يُحْيِي الجسدَ بالروح، فهذا على جهة التشبيه. وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِنا أي: واحد من أُمورنا، ويحتمل أَنْ يكون الأمر بمعنى الكلام، ومِنْ لابتداء الغاية. وقوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ توقيفٌ على مِقْدَارِ النعمةِ، والضمير في جَعَلْناهُ عائد على الكتاب، ونَهْدِي بمعنى: نُرْشِدُ، وقرأ جمهور الناس: «وإنَّكَ لَتَهْدِي» - بفتح التاء وكسر الدال-، وقرأ حَوْشَبٌ: «لتهدى» - بضم التاء وفتح الدال-، وقرأ عاصم: «لَتُهْدِي» - بضم التاء وكسر الدال-. وقوله: صِراطِ اللَّهِ يعني: صراط شرع اللَّه، ثم استفتح سبحانه القَوْلَ في الإخبار بصيرورة الأمور إليه سبحانه مبالغةً وتحقيقاً وتثبيتاً، فقال: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ قال الشيخُ/ العارفُ باللَّه أبو الحسن الشاذليُّ رحمه اللَّه: إنْ أردتَ أَنْ تغلب الشَّرَّ كُلَّه، وتلحق الخيرَ كُلَّه، ولا يَسْبِقَكَ سَابِق، وإنْ عمل ما عمل- فقل: يا مَنْ له الخَيْرُ كُلُّهُ، أسألك الخيرَ كُلَّه، وأعوذ بك من الشَّرِّ كُلِّه، فإنَّك أنت اللَّه الغَنِيُّ الغفُورُ الرَّحِيم، أَسْأَلُكَ بالهادِي محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى صراطٍ مستقيمٍ، صراطِ اللَّهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا في الأرض، أَلاَ إلى اللَّه تصيرُ الأمور، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مَغْفِرَةً تَشْرَحُ بها صَدْرِي، وتَضَعُ بها وِزْرِي، وترفعُ بها ذِكْرِي، وتُيَسِّرَ بها أمري، وتُنَزِّهَ بها فكري، وتُقَدِّسَ بها سِرِّي، وتكشفَ بها ضُرِّي، وترفَعَ بها قَدْرِي إنَّك على كُلِّ شَيْءٍ قدير، اهـ. - قلت-: قوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ: هذا بَيِّنٌ، وقوله: وَلَا الْإِيمانُ: فيه تأويلات: قيل معناه: ولا شرائع الإيمان ومعالمَه قال أبو العالية: يعني: الدعوةَ إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفَضْل: يعني أهل الإيمان، مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن، وقال ابن خُزَيْمَةَ: الإيمان هنا الصلاة دليله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] قال ابن أبي الجَعْدِ وغيره: احترق مُصْحَفٌ فلم يبقَ منه إلاَّ: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وغَرِقَ مصحفٌ فامحى كُلُّه إلاَّ قولَه: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ نقله الثعلبيُّ وغيره «1» ، انتهى. قال العبد الفقير إلى الله تعالى، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي لطف الله به في الدارين: قد يَسَّر اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في تحرير هذا المختصر، وقد أودعته بحمد الله

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 44) . [.....]

التعريف برحلة المؤلف

جزيلا من الدرر، قد استوعبت فيه بحمد اللَّه مُهِمَّاتِ ابْنِ عطيَّةَ، وزدته فوائدَ جليلةً من غيره، وليس الخَبَرُ كالْعِيَانِ، تَوَخَّيْتُ فيه بحمد/ اللَّه الصَّوَاب وجعلته ذخيرةً عند اللَّه لِيَوْمِ المآبِ، لا يَسْتَغْنِي عنه المُنْتَهِي وفيه كفايةٌ للْمُبَتِدي، يستغني «1» به عن المُطَوَّلاَت إذْ قد حَصَّل منها لُبَابَهَا وكَشَفَ عن الحقائقِ حِجَابَهَا. التَّعْرِيفُ بِرِحْلَةِ المُؤَلِّف رحلْتُ في طَلَبِ العِلْمِ في أواخر القَرْنِ الثَّامِنِ، ودخلْتُ بِجَايَةَ في أوائل القرن التاسع، فلقيتُ بها الأَئمةَ المقتدى بهم، أَصحابَ سيِّدِي عبد الرحمنِ الوغليسيِّ متوافرِين، فحضَرْتُ مجالسَهُمْ، وكانَتْ عُمْدَةُ قراءتي بها على سيدي [علي بن] «2» عثمان المَانْجِلاَتِيِّ- رحمه اللَّه- بمَسْجِدِ عَيْنِ البَرْبَرِ، ثم ارتحلْتُ إلى تُونُسَ، فلقيت بها سيدي عيسى الغبريني والأُبِّيَّ، والبرزليَّ، وغيرهم، وأخذْتُ عنهم، ثم ارتحلْتُ إلى المشرق، فلقيتُ بِمِصْرَ الشيْخَ وَلِيَّ الدِّينِ العِرَاقِي، فأخذْتُ عنه علوماً جَمَّةً مُعْظَمُهَا عِلْمُ الحديث، وفتح اللَّه لي فيه فتحاً عظيماً، وكتب لي وأَجَازَنِي جميعَ ما حضَرْتُهُ عليه، وأطلق في غيره، ثم لقيتُ بمَكَّةَ بعض المحدِّثين، ثم رجعتُ «3» إلى الديار المصرية وإلى تُونُسَ، وشاركْتُ مَنْ بها، ولقيت بها شيخَنَا أبا عبد اللَّه محمَّدَ بْنَ مَرْزُوقٍ قادماً لإرادة الحَجِّ، فأخذتُ عنه كثيراً، وأجازني [التدريسَ] في أنواع الفُنُونِ الإسلاميَّةِ، وحَرَّضَنِي على إتمام تقييدٍ وضعتُه على ابن الحاجِبِ الفرعيِّ. قلت: ولما فرغْتُ من تحرير هذا المختَصَرِ وافَقَ قدومَ شيخِنَا أبي عبد اللَّهِ محمد بن مرزوقٍ علينا في سَفْرَةٍ سافرها من تِلْمِسَانَ متوجِّهاً إلى تُونُسَ، ليصلح/ بَيْنَ سلطانها وبين صَاحِبِ تِلْمِسَانَ، فأوقفته على هذا الكتاب، فنظر فيه وأمعن النظر، فَسُرَّ به سروراً كثيراً ودعا لنا بخير، والله الموفّق بفضله.

_ (1) في د: يستعين. (2) سقط في: د. (3) في د: رجعنا.

تفسير سورة الزخرف

تفسير سورة الزّخرف وهي مكّيّة [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ وَالْكِتابِ: خُفِضَ بواو القَسَمِ، والضمير في جَعَلْناهُ عائد على الكتاب، وَإِنَّهُ عطف على جَعَلْناهُ، وهذا الإخبارُ الثَّانِي وَاقِعٌ أيضا تحت القسم، وأُمِّ الْكِتابِ: اللوح المحفوظ، وهذا فيه تشريفٌ للقرآن، وترفيع، واخْتَلَفَ المُتَأَوِّلُون: كيف هو في أُمِّ الكتاب؟ فقال قتادة وغيره: القرآن بأجمعه فيه منسوخ، ومنه كان جبريل ينزل، وهنالك هو عَلِيٌّ حكيم «1» ، وقال جمهور الناس: إنَّما في اللوح المحفوظ ذِكْرُهُ ودرجته ومكانته من العُلُوِّ والحكمة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 5 الى 8] أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وقوله سبحانه: أَفَنَضْرِبُ بمعنى: أفنترك تقول العرب: أَضْرَبْتُ عن كذا وضَرَبْتُ: إذا أَعْرَضْتَ عنه وتركته، والذِّكْرَ هو: الدعاء إلى اللَّه، والتذكير بعذابِه، والتخويف من عقابه، وقال أبو صالح: الذِّكْرُ هنا أراد به العذاب نفسه «2» ، وقال الضَّحَّاكُ ومجاهد: الذكر القرآن «3» . وقوله: صَفْحاً: يحتمل أَنْ يكون بمعنى العفو والغفر للذنوب، فكأَنَّهُ يقول: أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفواً عنكم، وغفراً لإجرامكم من أجل أنْ كنتم قوماً مسرفين، أي: هذا لا يصلح وهذا قول ابن عباس ومجاهد «4» ويحتمل قوله: صَفْحاً أن يكون

_ (1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 45) . (2) ينظر: المصدر السابق. (3) ينظر: المصدر السابق. (4) أخرجه الطبري (11/ 167) برقم: (30770- 30771) عن قتادة نحوه، والبغوي في «تفسيره» (4/ 134) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 إلى 14]

بمعنى مغفولاً عنه، أي: نتركه يَمُرُّ لا تؤخذون/ بقبوله ولا بتدبُّره، فكأَنَّ المعنى: أفنترككم سُدًى، وهذا هو منحى قتادةَ وغيره، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «إنْ كُنْتُمْ» بكسر الهمزة «1» ، وهو جزاءً دَلَّ ما تقدَّمه على جوابه، وقرأ الباقون بفتحها بمعنى: من أجل أَنْ، والإسراف في الآية هو كُفْرُهُمْ. «وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ» أي: في الأُمَمِ الماضية، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ وغيرهم. «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» أي: كما يستهزىء قومك بك، وهذه الآية تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتهديد بأَنْ يصيبَ قريشاً ما أصاب مَنْ هو أَشَدُّ بَطْشاً منهم. وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: سلف أمرهم وسُنَّتُهُم، وصاروا عبرةً غَابِرَ الدَّهْرِ، أنشد صاحبُ «عنوان الدِّرَايَةِ» لشيخه أبي عبد اللَّه التَّمِيميِّ: [البسيط] يَا وَيْحَ مَنْ غَرَّهُ دَهْرٌ فَسُرَّ بِهِ ... لَمْ يَخْلُصِ الصَّفْوُ إلاَّ شِيبَ بِالْكَدَرِ هُوَ الْحِمَامُ فَلاَ تُبْعِد زِيَارَتَه ... وَلاَ تَقُلْ لَيْتَنِي مِنْهُ على حَذَرِ انْظُرْ لِمَنْ بَادَ تَنْظُرْ آيَةً عَجَباً ... وَعِبْرَةً لأولي الأَلْبَابِ وَالْعِبَرِ أَيْنَ الألى جَنَبُوا خَيْلاً مُسَوَّمَةً ... وَشَيَّدُوا إرَماً خَوْفاً مِنَ الْقَدَرِ لَمْ تُغْنِهِمْ خَيْلُهُمْ يَوْماً وَإنْ كَثُرَتْ ... وَلَمْ تُفِدْ إِرَمٌ لِلْحَادِثِ النُّكُرِ بَادُوا فَعَادُوا حَدِيثاً إنَّ ذَا عَجَبٌ ... مَا أَوْضَحَ الرَّشْدَ لَوْلاَ سَيِّىءُ النَّظَرِ تَنَافَسَ النَّاسُ في الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا ... أنّ المقام بها كاللّمح بالبصر انتهى. [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

_ (1) ينظر: «السبعة» (584) ، و «الحجة» (6/ 138) ، و «إعراب القراءات» (2/ 292) ، و «معاني القراءات» (2/ 361) ، و «شرح الطيبة» (5/ 217) ، و «العنوان» (171) ، و «حجة القراءات» (644) ، و «شرح شعلة» (575) ، و «إتحاف» (2/ 453) .

وقوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ: الآيةُ ابتداءُ احتجاجٍ على قُرَيْشٍ/ يوجبُ عليهم التناقُضَ من حيث أَقرّوا بالخَالِقِ، وعَبَدُوا غيره، وجاءتِ العبارةُ عنِ اللَّه ب الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ليكونَ ذلك تَوْطِئَةً لما عَدَّدَ سبحانه من أوصافه التي ابتدأَ الإخبار بها، وقَطَعَهَا من الكلام الذي حكى معناه عن قُرَيْشٍ. وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الآية، هذه أوصافُ فِعْلٍ، وهي نِعَمٌ من اللَّه سبحانه على البَشَرِ، تقوم بها الحُجَّةُ على كُلِّ مُشْرِكٍ. وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ليس هو مِنْ قَوْلِ المسئولين، بل هو ابتداء إخبارٍ من اللَّه تعالى. وقوله سبحانه: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءَ بِقَدَرٍ قيل: معناه: بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فَيَفْسُدَ، ولا قِلَّة فيقصر بل غيثاً مُغِيثاً، وقيل: بِقَدَرٍ أي: بقضاء وحَتْمٍ، وقالت فرقة: معناه: بتقديرٍ وتحريرٍ، أي: قدر ماء معلوماً، ثم اختلف قائلُو هذه المقالة فقال بعضهم: ينزل في كلِّ عامٍ ماءً قَدْراً واحداً، لا يَفْضُلُ عامٌ عاماً، لكن يكثر مرّة هاهنا ومرة هاهنا، وقال بعضهم: بل ينزل تقديراً مَّا في عَامٍ، وينزل في آخرَ تقديراً مَّا، وينزل في آخر تقديراً آخرَ بِحَسَبِ ما سَبَقَ به قضاؤه لا إله إلا هو. قُلْتُ: وبعض هذه الأقوالِ لا تُقَالُ من جهة الرأْيِ، بل لا بُدَّ لها من سَنَدٍ، وفَأَنْشَرْنا معناه: أَحْيَيْنَا يقال: نُشِرَ المَيِّتُ وأَنْشَرَهُ اللَّهُ، والأزواج هنا الأنواع من كلّ شيء، ومِنَ في قوله: مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ للتبعيض، والضمير في ظُهُورِهِ عائدٌ على/ النوع المركوبِ الذي وقَعَتْ عليه «ما» ، وقد، بَيَّنَتْ آية أخرى ما يقال عند ركوب الفُلْكِ، وهو: «بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» [هود: 41] وإنما هذه خاصَّةٌ فيما يُرْكَبُ من الحيوان، وإنْ قَدَّرنا أَنَّ ذِكْر النعمة هو بالقَلْبِ، والتذكُّر بدء الراكِبُ ب سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا، وهو يرى نعمة اللَّه في ذلك وفي سواه ومُقْرِنِينَ أي: مطيقين، وقال أبو حيَّان مُقْرِنِينَ: خبر كان، ومعناه غالبين ضابطين، انتهى، وهو بمعنى الأَوَّل، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أَمْرٌ بالإقرار بالبعث.

ت: وعن حمزة بن عمرو الأسلميِّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «على ظَهْرِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، فَإذَا رَكِبْتُمُوهَا فَسَمُّوا اللَّهَ» رواه ابن حِبَّان في «صحيحه» «1» ، انتهى من «السلاح» ، وينبغي لمن مَلَّكَهُ اللَّه شيئاً من هذا الحيوانِ أنْ يَرْفُقَ به ويُحْسِنَ إليه لينالَ بذلك رضا اللَّه تعالى، قال القُشَيْرِيُّ في «التحبير» : وينبغي لِلْعَبْدِ أنْ يكُونَ مُعَظِّماً لِرَبِّه، نَفَّاعاً لخلقه، خيراً في قومه، مُشْفِقاً على عباده فَإنَّ رأس المعرفة تعظيمُ أمر اللَّه سبحانه، والشفقَةُ على خَلْقِ اللَّه، انتهى، وروى مالكٌ في «المُوَطَّإ» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ إذِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْراً فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، فَخَرَجَ فَإذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثرى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقَى فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإنَّ لَنَا في الْبَهَائِمِ أَجْرَاً؟! / فَقَالَ: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» «2» . قال أبو عُمَرَ في «التهميد» : وكذا في الإساءة إلى الحيوان إثْمٌ، وقد روى مالكٌ، عن نافع، عن ابنِ عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا، ولاَ هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» «3» ، ثم أسند أبو عُمَرَ «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل حائطا من

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 494) ، وابن حبان (4/ 602- 603) كتاب «الصلاة» باب: شروط الصلاة، ذكر البيان بأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإنها خلقت من الشياطين» لفظة أطلقها على المجاوزة لا على الحقيقة برقم: (1703) ، والطبراني (3/ 1706) (2993) . قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 134) : رواه أحمد والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ورجالهما رجال الصحيح غير محمّد بن حمزة، وهو ثقة. (2) أخرجه البخاري (5/ 136) كتاب «المظالم» باب: الآبار التي على الطريق إذا لم يتأذّ بها (2466) ، ومسلم (4/ 1761) كتاب «السلام» باب: فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (153/ 2244) . (3) أخرجه البخاري (6/ 409) كتاب «بدء الخلق» باب: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وخمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318) ، ومسلم (4/ 1760) كتاب «السلام» باب: تحريم قتل الهرة (151/ 2242) ، و (4/ 2022) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها (123/ 2242) ، (134/ 2242) ، وابن حبان (2/ 305) كتاب «البر والإحسان» باب: فصل من البر والإحسان، ذكر استحباب الإحسان إلى ذوات الأربع رجاء النجاة من العقبى به (546) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (115) (379) ، والدارمي (2/ 330- 331) كتاب «الرقاق» باب: دخلت امرأة النار في هرة، البيهقي (5/ 214) كتاب «الحج» باب: كراهية قتل النملة للمحرم وغير المحرم، وكذلك ما لا ضرر فيه مما لا يؤكل، (8/ 13) كتاب «النفقات» باب: نفقة الدواب، وأحمد (2/ 159، 188) . وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم (4/ 2023) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها، من الحيوان الذي لا يؤذى برقم: (135/ 2619) ، وأحمد (2/ 261، 269، 286، 317، 424، 457، 467، 479، 501، 507، 519) ، وابن ماجه (2/ 1421) كتاب-

[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 إلى 19]

حِيطَانِ الأَنْصَارِ، فَإذَا جَمَلٌ قَدْ أُتِيَ فَجُرْجِرَ، وذرفت عيناه، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ: مَنْ صَاحِبُ الجَمَلِ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ في هذه البهيمة الّتي ملّكت اللَّهُ إنَّهُ شَكَا إلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وتُدْئِبُهُ» «1» ومعنى ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، أي: قَطَرَتْ دموعُهما قطراً ضعيفاً، والسَّرَاةُ الظَّهْرُ، «والذفرى» : ما وراءَ الأذنَيْن عن يمين النقرة وشمالها، انتهى. [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 19] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وقوله سبحانه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أيْ: جَعَلَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ والعربِ للَّه جزءاً، أي: نصيباً وحَظًّا، وهو قولُ العَرَبِ: «الملائكة بنات اللَّه» هذا قول كثير من المتأولين، وقال قتادة: المراد بالجُزْء: الأَصنَامُ وغيرها «2» ف جُزْءاً معناه: نِدًّا. ت: وباقي الآية يُرَجِّحُ تأويلَ الأكثرِ. وقوله: أَمِ اتَّخَذَ: إضرابٌ وتقريرٌ وتوبيخٌ إذِ المحمود المحبوبُ من الأولاد قد خَوَّلَهُ اللَّه بني آدم، فكيفَ يتَّخِذُ هو لنفسه النصيب الأدنى، وباقي الآية بَيِّنٌ مِمَّا ذُكِرَ في «سورة النحل» وغيرها. ثم زاد سبحانه في توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ التقدير: أو مَنْ يُنَشَّأُ في الحلية هو الذي خصصتم به الله عز وجل، والحلية: الحلي من الذهب/ والفضة والأحجار، ويُنَشَّؤُا معناه: ينبت ويكبر، والْخِصامِ: المحاجَّةُ ومجاذبة المحاورة، وقَلَّ ما تجد امرأة إلاَّ تُفْسِدُ الكلام وتخلط المعاني، وفي مصحف ابن مسعود «3» : «وَهُوَ في الكَلاَمِ غَيْرُ مُبِينٍ» والتقدير: غير مُبِينٍ غَرَضاً أو منزعاً ونحو هذا،

_ «الزهد» باب: ذكر التوبة برقم: (4256) ، وابن حبان (12/ 438- 439) كتاب «الحظر والإباحة» باب: فصل فيما يتعلق بالدواب، ذكر الخبر الدال على أن المسيء إلى ذوات الأربع قد يتوقع له دخول النار في القيامة بفعله ذلك، برقم: (5621) . (1) أخرجه أحمد (1/ 204) . (2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 172) برقم: (30789- 30790) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 48- 49) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 717) ، وعزاه إلى ابن حميد، وعبد الرزاق، وابن المنذر. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 49) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 20 إلى 25]

وقال ابن زيد: المراد ب مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ: الأصنامُ والأوثان، لأنَّهم كانوا يجعلون الحلي على كثير منها، ويتخذون كثيراً منها من الذهب والفضة «1» ، وقرأ أكثر السبعة: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وقرأ الحَرَمِيَّانِ وابنُ عَامِرٍ: «عِنْدَ الرحمن إناثاً» وهذه القراءة أَدَلُّ على رفع المنزلة «2» . وقوله تعالى: «أأشهدوا خَلْقَهُمْ» معناه أَأُحْضِرُوا خَلْقَهُمْ، وفي قوله تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وعيدٌ مُفْصِحٌ، وأسند ابن المبارك عن سليمان بن راشِدٍ أنه بلغه أَنَّ امرأ لا يشهدُ شهادةً في الدنيا إلاَّ شَهِدَ بها يومَ القيامة على رؤوس الأشهاد، ولا يمتدح عبداً في الدنيا إلاَّ امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، قال القرطبيُّ في «تذكرته» : وهذا صحيح يَدُلُّ على صِحَّتِهِ قوله تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وقوله: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] انتهى. [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25] وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وقوله سبحانه: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ ... الآية، أي: ما عبدنا الأصنام. ت: وقال قتادة وغيره: يعني: ما عبدنا الملائكة «3» ، وجعل الكفارُ إمهالَ اللَّه لهم دليلاً على رضاه عنهم، وأنَّ ذلك كالأمرِ به، ثم نفى سبحانه علمهم بهذا، وليس عندهم كتاب مُنَزَّلٌ يقتضي ذلك وإنَّما هم يَظُنُّونَ ويحدسون/ ويُخَمِّنُون، وهذا هو الخَرْصُ والتخرُّص، والأُمَّة هنا بمعنى الملَّة والديانة، والآية على هذا تُعِيبُ عليهم التقليد،

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 147) برقم: (30800) ، وذكره ابن عطية (5/ 49) . (2) ينظر: «السبعة» (585) ، و «الحجة» (6/ 140) ، و «إعراب القراءات» (2/ 295) ، و «معاني القراءات» (2/ 362) ، و «شرح الطيبة» (5/ 218) ، و «العنوان» (171) ، و «حجة القراءات» (647) ، و «شرح شعلة» (576) ، و «إتحاف» (2/ 454) . (3) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 136) آية رقم: (20) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 719) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 إلى 28]

وذكر الطبريُّ «1» عن قوم أَنَّ الأمَّة الطريقة، ثم ضرب الله المثل لنبيّه محمّد ع وجعل له الأُسْوَةَ فيمن مضى من النذر والرسل وذلك أَنَّ المُتْرَفِينَ من قومهم، وهم أهل التنعُّم والمال، قد قابلوهم بِمِثْلِ هذه المقالة، وفي قوله عز وجل: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ... الآية: وعيدٌ لقريشٍ، وضَرْبُ مَثَلٍ لهم بِمَنْ سَلَفَ من الأمم المُعَذَّبَةِ المُكَذِّبَةِ لأنبيائها. [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ المعنى: واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ أي: فافعل أنْتَ فِعْلَهُ، وتَجَلَّدْ جلده، وبَراءٌ: صفة تجري على الوَاحِدِ والاثْنَيْنِ والجَمْعِ كَعَدْلٍ وَزَوْرٍ، وقرأ ابن مسعود: «بَرِيءٌ» «2» . وقوله: «إلا الذي فطرني» قالت فرقة: الاستثناء مُتَّصِلٌ، وكانوا يعرفون اللَّه ويُعَظِّمُونه، إلاَّ أَنَّهم كانوا يشركون معه أصنامهم، فكأَنَّ إبراهيم قَالَ لهم: أنا لا أوافقكم إلاَّ على عبادة اللَّه الذي فطرني، وقالت فرقة: الاستثناء مُنْقَطِعٌ، والمعنى: لكنَّ الذي فطرني هو معبودي الهادي المُنْجي من العذاب، وفي هذا استدعاءٌ لهم، وترغيبٌ في طاعةِ اللَّه، وتطميع في رحمته. والضمير في قوله: وَجَعَلَها كَلِمَةً ... الآية، قالت: فرقة: هو عائد على كلمته بالتوحيد في قوله: إِنَّنِي بَراءٌ وقال مجاهد وغيره: المراد بالكلمة: لا إله إلا اللَّه «3» ، وعاد عليها الضمير، وإنْ كان لم يجر لها ذكر لأَنَّ اللفظ يتضمَّنها، والعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ، ووَلَدُ الوَلَدِ ما امتدَّ فرعهم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 29 الى 35] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 176) . (2) وقرأ بها الأعمش. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (136) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 51) ، و «البحر المحيط» (8/ 13) ، و «الدر المصون» (6/ 96) . (3) أخرجه الطبري (11/ 179) برقم: (80818- 80819) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 137) ، وابن عطية (5/ 52) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 720) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

وقوله: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ يعني قريشاً حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ، وذلك هو شرع الإسلام، والرسول [هو] محمّد صلّى الله عليه وسلّم ومُبِينٌ أي: يبين لهم الأحكام، والمعنى في الآية: بل أمهلتُ هؤلاءِ وَمَتَّعْتُهُمْ بالنعمة وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ. وَقالُوا يعني قريشا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعني: من إحدى القريتين، وهما مَكَّةُ والطَّائِفُ، ورجل مَكَّةَ هو الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في قول ابن عباس وغيره «1» ، وقال مجاهد: هو عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ «2» ، وقيل غير هذا، ورجل الطائف: قال قتادة: هو عُرْوَةُ بْنُ مسعود «3» ، وقيل غير هذا، قال ع «4» : وإنَّما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسّنّ، وإلّا فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أعظمَ من هؤلاء إذ كان المسمى عندهم «الأمين» ، ثم وَبَّخَهُم سبحانه بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ و «الرحمة» اسم عامٌّ يشمل النُّبُوَّةَ وغيرها، وفي قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تزهيدٌ في السعايات، وعون على التّوكّل على الله عز وجل وللَّه دَرُّ القائل: [الرجز] [كَمْ جَاهِلٍ يَمْلِكُ دورا وقرى ... [وعالم يسكن بيتا بالكرى] «5» لَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ سُبْحَانَه ... نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ زَالَ المِرَا «6» وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً أَرْضَاهُ بِمَا قَسَمَ لَهُ، وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَإذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْراً، لَمْ يُرْضِهِ بِمَا قَسَمَ لَهُ، وَلَمْ يُبَارِكْ لَهُ فِيهِ» «7» انتهى، وسُخْرِيًّا بمعنى التسخير، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 181) برقم: (30829) ، وذكره ابن عطية (5/ 52) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 126- 127) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 721) ، وعزاه إلى ابن مردويه، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (11/ 181) برقم: (30830) ، وذكره البغوي (4/ 137) ، وابن عطية (5/ 52) ، وابن كثير (4/ 127) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 721) ، وعزاه إلى ابن عساكر. (3) أخرجه الطبري (11/ 181) برقم: (30831) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 137) ، وابن عطية (5/ 52) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 721) ، وعزاه إلى عبد بن حميد. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 53) . (5) سقط في: د. (6) ذكر بعضه ابن عطية في «المحرر» (5/ 53) . (7) ذكره السيوطي في «الجامع الكبير» (1117) ، وعزاه للديلمي عن أبي هريرة. [.....]

وقوله تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ قال قتادة والسُّدِّيُّ: يعني الجنة «1» ، قال ع «2» : ولا شَكَّ أَنَّ الجنة هي الغاية، ورحمة اللَّه في الدنيا بالهداية والإيمان خير من/ كُلِّ مال، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا، وتزهيد فيها، ثم استمرَّ القولُ في تحقيرها بقوله سبحانه: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... الآية وذلك أَنَّ معنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانه أبقى على عباده، وأنعم عليهم بمراعاة بقاء الخير والإيمان، وشاء حفظه على طائفة منهم بَقِيَّةَ الدهر، ولولا كراهيةُ أنْ يكونَ الناسُ كُفَّاراً كُلُّهم، وأَهْلَ حُبٍّ في الدنيا وتجرُّدٍ لها- لوسَّعَ اللَّه على الكفار غايةَ التوسعة، ومَكَّنَهم من الدنيا وذلك لحقارتها عنده سبحانه، وأنها لا قَدْرَ لها ولا وزنَ لفنائها وذَهَابِ رسومها، فقوله: أُمَّةً واحِدَةً معناه في الكُفْرِ قاله ابن عباس وغيره «3» ، ومن هذا المعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سقى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» «4» وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن عَلْقَمَةَ عن عبد اللَّه قال: «اضطجع رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ الحَصِيرُ في جَنْبِهِ، فَلَمَّا استيقظ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ عَنْهُ، وَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ آذَنْتَنِي قَبْلَ أَنْ تَنَامَ على هَذَا الحَصِيرِ، فَأَبْسُطَ لَكَ عَلَيْهِ شَيْئاً يَقِيكَ منه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَا لِيَ ولِلدُّنْيَا، وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَا لِي مَا أَنَا وَالدُّنْيَا إلاَّ كَرَاكِبٍ استظل في فَيْءِ أَوْ ظِلِّ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» «5» انتهى، وقد خَرَّجه التِّرمذيُّ، وقال: حديثٌ حَسَنٌ صحيح، وسُقُفاً جمع

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 184) برقم: (30841- 30842) ، وذكره ابن عطية (5/ 53) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 722) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 53) . (3) أخرجه الطبري (11/ 184) برقم: (30843) ، وذكره ابن عطية (5/ 53) ، وابن كثير (4/ 127) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 722) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عبّاس، ولعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة، وابن المنذر عن مجاهد. (4) أخرجه الترمذي (4/ 560) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل (2320) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 253) . قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. (5) أخرجه الترمذي (4/ 588- 589) كتاب «الزهد» باب: (44) (2377) ، وأحمد (1/ 391، 441) ، وابن ماجه (2/ 1376) كتاب «الزهد» باب: مثل الدنيا (4109) ، وأخرجه في «دلائل النبوة» (1/ 337- 338) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 311) (10415) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 234) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال أبو نعيم: غريب من عمرو وإبراهيم، تفرد به المسعودي، ورواه المعافي بن عمران، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون عن المسعودي مثله، وحدث به جرير عن الأعمش عن إبراهيم، وهو غريب. -

سَقْف، والمعارج: الأدراج التي يُطْلَعُ عليها قاله ابن عبّاس وغيره «1» ، ويَظْهَرُونَ معناه: يعلون ومنه حديث عائشةَ- رضي اللَّه عنها- والشمس في حجرتها لم تظهر/ بعد، والسُّرُرُ: جمع سرير، والزُّخْرُفُ: قال ابن عَبَّاس، والحسن، وقتادة والسُّدِّيُّ: هو الذهب «2» ، وقالت فرقة: الزُّخْرُفُ: التزاويق والنَّقْش ونحوه وشاهده: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها [يونس: 24] وقرأ الجمهور: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا- بتخفيف الميم- من «لما» ف «إنْ» مُخَفَّفَةٌ من الثقيلة، واللام في «لما» داخلةٌ لتَفْصِلَ بين النفي والإيجاب، وقرأ عاصم، وحمزة، وهشام بخلافٍ عنه- بتشديد الميم- من «لمَّا» «3» ف «إنْ» نافيةٌ بمعنى [ «مَا» ، و «لَمَّا» بمعنى] «4» «إلاَّ» ، أي: وما كُلُّ ذلك إلاَّ متاعُ الحياة الدنيا، وفي قوله سبحانه: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وعْدٌ كريمٌ، وتحريض على لزوم التقوى، إذ في

_ - وفي الباب من حديث ابن عبّاس نحوه: أخرجه ابن حبان (8/ 209) - الموارد (2526) ، وابن حبان (14/ 265) كتاب «التاريخ» باب: صفته صلّى الله عليه وسلّم وأخباره، ذكر ما مثل المصطفى صلّى الله عليه وسلّم نفسه والدنيا بمثل ما مثل به (6352) ، وأحمد (1/ 301) ، والحاكم (4/ 309، 310) والطبراني (11/ 327) (11898) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 312) (7/ 104) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. اهـ. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 329) : ورجال أحمد رجال الصحيح غير هلال بن خباب، وهو ثقة. اهـ. وفي الباب من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى فاطمة رضي الله عنها فوجد على بابها سترا ... إلى أن قال: «وما أنا والدنيا وما أنا والرقم ... » الحديث. أخرجه البخاري (5/ 270) كتاب «الهبة» باب: هدية ما يكره لبسها (2613) ، وأبو داود (2/ 470) كتاب «اللباس» باب: في اتخاذ الستور (4149) ، وأحمد (2/ 21) ، وابن حبان في «صحيحه» (14/ 267) كتاب «التاريخ» باب: صفته صلّى الله عليه وسلّم وأخباره، وذكر ما مثل به المصطفى صلّى الله عليه وسلّم نفسه والدنيا بمثل ما مثل به. (6353) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 312) (10416) . (1) أخرجه الطبري (11/ 186) برقم: (30850، 30854) عن ابن عبّاس، و (30851) عن قتادة، و (30852) عن السدي، و (30853) عن قتادة، و (30855) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (5/ 54) ، وابن كثير (4/ 127) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 722) ، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري (11/ 186- 187) برقم: (30858، 30862) ، وذكره ابن عطية (5/ 54) ، وابن كثير (4/ 127) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 722) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة. (3) ينظر: «السبعة» (586) ، و «الحجة» (6/ 149) ، و «إعراب القراءات» (2/ 297) ، و «معاني القراءات» (2/ 364) ، و «شرح الطيبة» (5/ 220) ، و «العنوان» (171) ، و «حجة القراءات» (649) ، و «إتحاف» (2/ 456) . (4) سقط في: د.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 إلى 42]

الآخرة هو التباينُ الحقيقيُّ في المنازل قال الفخر «1» : بَيَّنَ تعالى أَنَّ كُلَّ ذلك متاع الحياة الدنيا، وأَمَّا الآخرة فهي باقيةٌ دائمةٌ، وهي عند اللَّه وفي حُكْمِهِ للمتَّقِينَ المُعْرِضِينَ عَنْ حُبِّ الدنيا، المقبلين على حُبِّ المَوْلَى، انتهى. [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 42] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) وقوله عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ الآية، وعَشَا يَعْشُو معناه: قَلَّ الإبصارُ منه، ويقال أيضاً: عَشِيَ الرجلُ يعشى: إذا فَسَدَ بَصَرُه، فلم يَرَ، أَو لَمْ يَرَ إلاَّ قليلاً، فالمعنى في الآية: ومَنْ يَقِلُّ بَصَرُهُ في شرع اللَّه، ويغمضُ جفونه عن النَّظَرِ في ذِكْرِ الرحمن، أي: فيما ذكَّر به عباده، أي: فيما أنزله من كتابه، وأوحاه إلى نَبِيِّه. وقوله: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي: نُيَسِّرْ له، ونُعِدَّ، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدمِ الفلاحِ، وهذا كما يقال: إنَّ اللَّه تعالى يُعَاقِبُ على المعصية بالتزيُّد في المعاصي، ويجازي على الحسنة بالتزيُّد من الحَسَنَاتِ، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً. قال- ص-: وَمَنْ يَعْشُ الجمهور بضم الشين «2» ، أي: يتعام ويتجاهل، ف مَنْ شرطية، ويَعْشُ مجزوم بها، ونُقَيِّضْ جوابُ مَنْ، انتهى، والضمير في قوله: وَإِنَّهُمْ عائد على الشياطين، وفيما بعده عائد على الكُفَّارِ، وقرأ نافع وغيره «3» : «حَتَّى إذَا جَاءَانَا» على التثنية، يريد: العاشي والقرين قاله قتادة وغيره «4» ، وقرأ أبو عمرو وغيره: «جَاءَنا» يريد العاشي وحدَه «5» ، وفاعل قالَ هو العَاشِي، قال الفخر «6» : وروي أنّ الكافر

_ (1) ينظر: «الرازي» (27/ 182) . (2) ينظر: «الدر المصون» (6/ 98) . (3) وقرأ بها ابن كثير وابن عامر، وأبو بكر. ينظر: «السبعة» (586) ، و «الحجة» (6/ 150) ، و «إعراب القراءات» (2/ 297) ، و «معاني القراءات» (2/ 365) ، و «شرح الطيبة» (2/ 222) ، و «العنوان» (171) ، و «حجة القراءات» (650) ، و «شرح شعلة» (577) ، و «إتحاف» (2/ 456) . (4) أخرجه الطبري (11/ 189) برقم: (30869) ، وذكره ابن عطية (5/ 55) . [.....] (5) ينظر: مصادر القراءة السابقة. (6) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (27/ 183) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 43 إلى 45]

إذا بُعِثَ يوم القيامة من قبره أَخَذَ شَيْطَانٌ بيده، فلم يُفَارِقْهُ حتى يصيِّرهما اللَّه إلى النار، فذلك حيث يقول: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ انتهى. وقوله: بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ يحتمل مَعَانِيَ: أحدها: أن يريد بُعْدَ المشرق من المغرب، فَسَمَّاهما مَشْرِقَيْنِ كما يقال القَمَرَانِ، والعُمَرَانِ. والثاني: أنْ يريد مشرق الشمس في أطول يوم، ومشرقها في أقصر يوم. والثالث: أنْ يريد بعد المشرقَيْنِ من المغربين، فاكتفى بذكر المشرقين. قلت: واستبعد الفَخْرُ التأويل الثاني قال: لأنّ المقصود من قوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ المبالغةُ في حصول البُعْدِ، وهذه المبالغة إنَّما تحصل عند ذكر بُعْدٍ لا يمكن وُجُودُ بُعْدٍ أزيدَ منه، والبُعْدُ بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف ليس كذلك، فَيَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عليه قال: والأكْثَرُونَ عَلَى التأويل الأَوَّلِ، انتهى. وقوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ ... الآية، حكايةٌ عن مقالة تُقَالُ لهم يوم القيامة، وهي مقالة مُوحِشَةٌ فيها زيادةُ تعذيبٍ لهم ويأْسٍ من كل خير، وفاعل يَنْفَعَكُمُ الاشتراك، ويجوز أنْ يكون فاعل يَنْفَعَكُمُ التّبرّي الذي يدل عليه قوله: يا لَيْتَ. وقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ... الآية، خطاب للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وباقي الآية/ تكرَّر معناه غيرَ ما مَرَّةٍ. [سورة الزخرف (43) : الآيات 43 الى 45] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وقوله تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ أي: بما جاءك من عند اللَّه من الوحي الْمتلوِّ وغيره. وقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ يحتمل أَنْ يريد: وإنَّهُ لشرف في الدنيا لكَ ولِقَوْمِكَ يعني: قُرَيْشاً قاله ابن عباس وغيره «1» ، ويحتمل أنْ يريد: وإنَّه لتذكرة وموعظة، ف «القومُ» على هذا أُمَّتُهُ بأجمعها، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن «2» .

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 191) برقم: (30877) ، وذكره ابن عطية (5/ 57) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (2) ذكره ابن عطية (5/ 57) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 إلى 51]

وقوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ قال ابن عباس وغيره: معناه: عن أوامر القرآن ونواهيه «1» ، وقال الحسن: معناه: عن شكر النعمة فيه «2» ، واللفظ يحتمل هذا كلَّه ويعمُّه. وقوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ... الآية، قال ابن زيد، والزّهريّ: أما إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يَسْأَلِ الرُّسُلَ ليلةَ الإسْراءِ عن هذا لأَنَّهُ كان أَثْبَتَ يقيناً مِنْ ذلك، ولم يكُنْ في شَكٍّ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: أراد: واسأل أَتْبَاعَ مَنْ أرسلنا وحَمَلَةَ شرائعهم «3» ، وفي قراءة ابن مسعود وأبيّ: «وسئل الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ» «4» . ت: قال عِيَاضٌ: قوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ... » الآية: الخطاب مواجهة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد المشركون قاله القُتَبِيُّ، ثم قال عِيَاضٌ: والمراد بهذا، الإعلامُ بأَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يأذنْ في عبادة غيره لأحد رَدًّا على مُشْرِكي العرب وغيرهم في قولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] انتهى. [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 51] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ... الآية، ضرب مثل وأسوة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بموسى ع ولِكُفَّارِ قريشٍ بقوم فرعونَ. وقوله: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي: كالطوفان والجراد والقُمَّلِ والضفادع، / وغير ذلك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: يتوبون ويرجعون عن كفرهم، وقالوا لما عاينوا العذاب لموسى: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ [أي] : العَالِمُ، وإنَّما قالوا هذا على جهة التعظيم والتوقير لأَنَّ عِلْمَ السحر عندهم كان علماً عظيماً، وقيل: إنَّما قالوا ذلك على جهة الاستهزاء، والأَوَّلُ أرجَحُ، وقولهم: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي: إن نفعتنا دعوتك.

_ (1) ينظر: المصدر السابق. (2) ينظر: المصدر السابق. (3) أخرجه الطبري (11/ 192) برقم: (30887) عن ابن زيد نحوه، وذكره ابن عطية (5/ 57) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 57) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 52 إلى 56]

وقوله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ... الآية: مِصْرُ من بحر الإسكندريَّة إلى أُسْوَان بطول النيل، والأنهار التي أشار إليها هي الخُلْجَانُ الكِبَارُ الخارجة من النيل. [سورة الزخرف (43) : الآيات 52 الى 56] أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وقوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ قال سِيبَوَيْهِ: «أَمْ» هذه المعادلةُ، والمعنى: أفأنتم لا تبصرون؟ أم تبصرون، وقالت فرقة: «أم» بمعنى «بل» ، وقرأ بعض الناس «1» : «أَمَا أَنَا خَيْرٌ» حكاه الفَرَّاءُ، وفي مصحف أُبَيِّ بن كعب «2» : «أَمْ أَنا خير أم هذا» ومَهِينٌ معناه: ضعيف، وَلا يَكادُ يُبِينُ إشارةٌ إلى ما بقي في لسان موسى من أَثَرِ الجَمْرَة، وكانت أحدثَتْ في لسانه عُقْدَةً، فَلَمَّا دعا في أَنْ تُحَلَّ لِيُفْقَهَ قولُهُ، أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، لكِنَّهُ بقي أثرٌ كان البيانُ يقع معه، فَعَيَّرَهُ فرعونُ به. وقوله: وَلا يَكادُ يُبِينُ يقتضى أَنَّه كان يُبِين. وقوله: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ: يريد من السماء، على معنى التكرمة، وقرأ الجمهور: «أَسَاوِرَةٌ» وقرأ حفص عن عاصم: «أَسْوِرَةٌ» «3» وهو ما يجعل في الذِّرَاعِ من الحلي، وكانت عادة الرجال يومئذ لُبْسَ ذلك والتَّزَيُّنَ به. ت: وذكر بعض المفسرين عن مجاهد أَنَّهم كانوا إذا سَوَّدُوا رجلاً سَوَّرُوهُ بِسِوَارٍ، وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ من ذهب علامةً لسيادته، فقال فرعون: هلا/ ألقى رَبُّ موسى على موسى أساورةً من ذهب، أو جاء معه الملائكةُ مقترنين مُتَتَابعين، يُقَارِنُ بعضُهُمْ بَعْضاً، يمشون معه شاهدين له، انتهى، وقال ع «4» : قوله: مُقْتَرِنِينَ: أي: يحمونه، ويشهدون له، ويقيمون حُجَّتَهُ. ت: وما تقدَّم لغيره أحسنُ، ولا يُشَكُّ أنْ فرعونَ شَاهَدَ مِنْ حماية اللَّه لموسى

_ (1) ينظر: «الكشاف» (4/ 258) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 59) ، و «البحر المحيط» (8/ 23) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 59) . (3) ينظر: «الحجة» (6/ 151) ، و «إعراب القراءات» (2/ 300) ، و «معاني القراءات» (2/ 366) ، و «شرح الطيبة» (5/ 222) ، و «العنوان» (171) ، و «حجة القراءات» (651) ، و «شرح شعلة» (577) ، و «إتحاف» (2/ 457) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 60) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 إلى 59]

أموراً لم يَبْقَ معه شَكٌّ في أنَّ الله قد منعه منه. وقوله سبحانه: آسَفُونا معناه: أغضبونا بلاَ خِلاَفٍ. وقوله: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً «السلف» : الفارط المُتَقَدِّمُ، أي: جعلناهم متقدِّمين في الهلاك لِيَتَّعِظَ بهم مَنْ بعدهم إلى يوم القيامة، وقال البخاريّ: قال قتادة: مَثَلًا لِلْآخِرِينَ عظة «1» ، انتهى. [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 59] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وقوله سبحانه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ... الآية، روي عن ابن عباس وغيره في تفسيرها أَنَّهُ لما نَزَلَتْ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: 59] الآية، وكَوْنُ عيسى من غير فَحْلٍ- قالت قريشٌ: ما يريد محمدٌ من ذكر عيسى إلاَّ أَنْ نعبده نَحْنُ كما عَبَدَتِ النصارى عيسى، فهذا كان صدودُهُمْ «2» . وقوله تعالى: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ ... هذا ابتداء معنى ثان، وذلك أَنَّهُ لما نزل: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] الآية، قال [ابن] الزِّبَعْرَى ونظراؤه: يا محمد، أآلهتنا خير أم عيسى؟ فنحن نرضى أنْ تكُونَ آلهتنا مع عيسى إذْ هُوَ خَيْرٌ منها، وإذْ قد عُبِدَ، فهو من الحَصَبِ إذَنْ، فقال اللَّه تعالى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ومغالطةً، ونَسُوا أَنَّ عيسى لم يُعْبَدْ برضاً منه، وقالتْ فرقةٌ: المراد ب هُوَ محمَّد صلّى الله عليه وسلّم وهو قولُ قتادة «3» ، وفي مصحف [أُبَيٍّ] : «خَيْرٌ أم هذا» «4» فالإشارة إلى/ نبيّنا محمّد ع، وقال ابن زيد وغيره: المراد ب هُوَ عيسى «5» ، وهذا هو الراجح، ثم أخبر تعالى عنهم أَنَّهم أهلُ خصامٍ ولَدَدٍ، وأخبر عن عيسى بقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي: بالنبوّة والمنزلة العالية.

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 428) كتاب «التفسير» باب: سورة الزخرف، معلقا، ووصله الفريابي عن مجاهد، وزاد لمن بعدهم، والحديث: أخرجه الطبري (11/ 200) برقم: (30917) عن قتادة. (2) أخرجه الطبري (11/ 200) برقم: (30917- 30918- 30919) عن مجاهد وقتادة، وذكره ابن عطية (5/ 60) . [.....] (3) ذكره ابن عطية (5/ 61) . (4) تقدمت. (5) أخرجه الطبري (11/ 202) برقم: (30937) ، وذكره ابن عطية (5/ 61) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 60 إلى 62]

ت: ورُوِّينَا في «جامع الترمذيِّ» عن أبي أُمَامة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ، ثم تلا هذه الآية: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » «1» قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، انتهى. وقوله: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي: عبرةً وآية لِبَنِي إِسْرائِيلَ والمعنى: لا تستغربوا أَنْ يُخْلَقَ عيسى مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ فَإنَّ القدرة تقتضي ذلك، وأكثر منه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 60 الى 62] وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وقوله: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ معناه: لجعلنا بدلاً منكم، أي: لو شاء اللَّهُ لَجَعَلَ بَدَلاً من بني آدم ملائكةً يسكُنُونَ الأَرْضَ، ويخلفون بني آدم فيها، وقال ابن عباس ومجاهد: يخلف بعضهم بعضاً «2» ، والضمير في قوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ قال ابن عَبَّاس وغيره: الإشارة به إلى عيسى «3» ، وقالت فرقة: إلى محمد، وقال قتادة وغيره: إلى القرآن «4» . ت: وَكَذَا نقل أبو حيَّان «5» هذه الأقوالَ الثلاثة، ولو قيل: إنَّه ضميرُ الأمر والشَّأن استعظاماً واستهوالاً لأَمْرِ الآخِرَةِ ما بَعُدَ، بل هو المتبادَرُ إلى الذِّهْنِ، يَدُلُّ عليه: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها، واللَّه أعلم، وقرأ ابن عباس «6» ، وجماعة: «لَعَلَمٌ» - بفتح العين

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 378- 379) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الزخرف (3253) ، وابن ماجه (1/ 19) المقدمة: باب: (7) (48) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 112) ، والطبراني في «الكبير» (8/ 333) (8067) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار، وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه: حزوّر. اهـ. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ. قال الذهبي: صحيح. (2) أخرجه البخاري (8/ 428) كتاب «التفسير» باب: سورة الزخرف، معلقا وهو موصول عند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، والطبري (11/ 204) (30944) عن ابن عبّاس، (30947) عن قتادة، وابن عطية (5/ 61) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 61) . (4) أخرجه الطبري (11/ 205) برقم: (30961) عن قتادة، والحسن، وذكره ابن عطية (5/ 61) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 26) . (6) وقرأ بها أبو هريرة، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، وأبو نضرة، ومالك بن دينار. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (136) ، و «الكشاف» (4/ 261) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 61) ، و «البحر المحيط» (8/ 26) ، و «الدر المصون» (6/ 106) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 إلى 65]

واللام- أي: أمارة، وقرأ عِكْرِمَةُ «1» : «لَلْعِلْمُ» بلامين الأولى مفتوحة، وقرأ أُبيٌّ: «لَذِكْرٌ لِلسَّاعَةِ» «2» فمن قال: إنَّ الإشارة إلى عيسى حَسَنٌ مع تأويله «عِلْم» و «عَلَم» ، أي: هو إشعارٌ بالساعة، وشَرْطٌ/ من أَشراطها، يعني: خروجه في آخر الزمان، وكذلك مَنْ قال: الإشارة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي: هو آخر الأنبياء، وقد قال: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» يعني السبابة والوسطى، ومَنْ قال: الإشارة إلى القرآن حَسُنَ قوله مع قراءة الجمهور، أي: يعلمكم بها وبأهوالها. وقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ: إشارة [إلى] الشرع. [سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 65] وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ يعني: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، وباقي الآية تكرَّر معناه. وقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ حكاية عن عيسى ع، إذ أشار إلى شرعه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 67] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) وقوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ يعني: قريشاً، والمعنى: ينتظرون وبَغْتَةً معناه: فجأة، ثم وَصَفَ سُبْحَانَه بَعْضَ حالِ القيامة، فقال: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وذلك لهولِ مطلعها والخوف المُطِيفِ بالناس فيها يتعادى ويتباغضُ كُلُّ خليل كان في الدنيا على غير تُقًى لأَنَّه يرى أَنَّ الضَّرَرَ دخل عليه من قِبَلِ خليله، وأَمَّا المُتَّقُونَ فَيَرَوْنَ أَنَّ النفْعَ دخَلَ من بعضهم على بعض، هذا معنى كلام عليٍّ- رضي اللَّه عنه- وخَرَّجَ البَزَّارُ عن ابن عَبَّاس قال: «قيل: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ ذَكَّرَكُمْ باللَّهِ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَكُمْ في عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ عَمَلُهُ» «3» اهـ، فمِنْ مثل هؤلاء تصلح الأخوّة

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 61) ، و «البحر المحيط» (8/ 26) ، و «الدر المصون» (6/ 106) . (2) ينظر: «الكشاف» (4/ 261) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 61) . (3) أخرجه أبو يعلى (4/ 326) (2437) من حديث ابن عبّاس، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 81) ، وقال: رواه البزار عن شيخه علي بن حرب ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا. وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (3233) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي يعلى.

الحقيقية، واللَّه المستعانُ، ومن كلام الشيخ أبي مَدْيَنَ- رضي اللَّه عنه-: دليلُ تخليطِكَ صُحْبَتُكَ للمخلِّطين، ودليلُ انقطاعك صُحْبَتُكَ لِلمُنْقَطِعِين، وقال ابن عطاء اللَّه في «التنوير» : قَلَّ ما تَصْفُو لَكَ الطَّاعَات، أو تَسْلَمُ/ من المخالَفَات، مع الدخول في الأسباب، لاِستلزامها لمعاشرة الأضداد ومخالطة أَهْلِ الغَفْلة والبِعَاد، وأَكْثَرُ ما يعينك على الطاعات رؤيةُ المُطِيعين، وأَكْثَرُ ما يُدْخِلُكَ في الذّنب رؤية المذنبين، كما قال ع: «المَرْءُ على دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» «1» والنفس من شأنها التَّشَبُّهُ والمحاكَاةُ بصفَاتِ مَنْ قارَنَهَا، فصحبةُ الغافلين مُعِينَةٌ لها على وجود الغَفْلَةِ، انتهى، وفي «الحِكَمِ الفارقيَّة» : مَنْ ناسب شَيْئاً انجذب إليه وظَهَرَ وَصْفُهُ عليه، وفي «سماع العُتْبِيَّةِ» قال مالك: لا تصحبْ فاجراً لئلاَّ تتعلمَ من فجوره، قال ابن رُشْدٍ: لا ينبغي أنْ يصحب إلاَّ مَنْ يُقْتَدَى به في دينه وخيره لأَنَّ قرينَ السوء يُرْدِي قال الحكيم: [الطويل] [إذَا كُنْتَ في قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُم ... وَلاَ تَصْحبِ الأردى فتردى مَعَ الرَّدِي] عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي انتهى. ت: وحديث: «المَرْءُ على دِينِ خَلِيلهِ» أخرجه أبو داود، وأبو بكر بن الخطيب وغيرهما، وفي «المُوَطَّإ» من حديث معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال اللَّه تبارك وتعالى: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ والمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ» «2» قال أبو عمر: إسناده صحيحٌ عن أبي إدريس الخولانيِّ عن معاذ، وقد رواه جماعة عن معاذٍ، ثم أسند أبو عُمَر من طريقِ أبي مسلم الخولاني، عن معاذ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المُتَحَابُّونَ في اللَّه على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ في ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ» «3» ، قال أبو مسلم: فخرجت فلقيتُ عبادة بن الصامت، فذكرت له حديث

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 589) كتاب «الزهد» باب: (45) (2378) ، وأحمد (2/ 303) ، والحاكم (4/ 171) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال الحاكم: حديث أبي الحباب صحيح إن شاء الله تعالى ولم يخرجاه. اهـ. قال الذهبي: صحيح إن شاء الله. قال أبو نعيم في «الحلية» (3/ 165) : غريب من حديث سعيد وصفوان تفرد به عنه فيما قيل محمّد بن إبراهيم الأسلمي. (2) أخرجه مالك (2/ 953- 954) كتاب «الشعر» باب: ما جاء في المتحابين في الله (16) ، وأحمد (5/ 247) . [.....] (3) أخرجه الحاكم (4/ 420) ، وأحمد (5/ 236- 237) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 68 إلى 73]

معاذ، فقال: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ: قَالَ: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى المُتَحَابِّينَ فِيَّ، وحَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى المُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتي عَلَى المُتَبَاذِلِينَ فيَّ،، والمُتَحَابُّونَ في الله على منابر من نور في ظل الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ» «1» انتهى من «التمهيد» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 68 الى 73] يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) وقوله تعالى: يا عِبادِ المعنى: يقال لهم، أي: للمتقين، وذكر الطبريُّ «2» عن المعتمر عن أبيه أنه قال: سمعت أَنَّ الناس حين يُبْعَثُونَ ليس منهم أَحَدٌ إلاَّ فَزِعَ، فينادي منادٍ: يا عبادي، لا خوفٌ عليكم اليوم، ولا أنتم تحزنون، فيرجوها الناس كلّهم، فيتبعها: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ قال: فَيَيْئَسُ منها جميعُ الكُفَّار. وقوله: الَّذِينَ آمَنُوا نعت للعباد، وتُحْبَرُونَ معناه: تنعمون وتُسَرُّونَ، و «الحبرة» : السرور، و «الأكواب» : ضَرْبٌ من الأَواني كالأباريق، إلاَّ أنها لا آذان لها ولا مقابض. [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 77] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) وقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني: الكُفَّارَ، و «المُبْلِسُ» : المُبْعَدُ اليائسُ من الخير قاله قتادة وغيره «3» ، وقولهم: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: لِيُمِتْنَا رَبُّك فنستريحَ، فالقضاء في هذه الآية: الموتُ كما في قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15] ، وروي في تفسيره هذه الآية عن ابن عباس أَنَّ مالكاً يقيم بعد سؤالهم ألف سنة، ثم حينئذ

_ (1) أخرجه الحاكم (4/ 169) ، وأحمد (5/ 239) ، وابن حبان (8/ 191) (2510) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 131) . قال الحاكم: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه اهـ. ووافقه الذهبي. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 282) : رواه عبد الله بن أحمد، والطبراني باختصار، والبزار بعد حديث عبادة فقط، ورجال عبد الله، والطبراني وثقوا. (2) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 209) . (3) أخرجه الطبري (11/ 212) برقم: (30989) ، وذكره ابن عطية (5/ 64) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 78 إلى 83]

يقول لهم: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ «1» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 78 الى 83] لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وقوله سبحانه: لَقَدْ جِئْناكُمْ يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ تَمَامِ قول مالِكٍ لهم، ويحتمل أنْ يكون من قول اللَّه تعالى لقريشٍ، فيكونُ فيه تخويفٌ فصيحٌ بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم؟!. وقوله تعالى: أَمْ/ أَبْرَمُوا أَمْراً أي: أحكموا أمرا في المكر بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي: مُحْكِمُون أمراً في نَصْرِهِ ومجازاتهم، والمراد ب «الرسل» هنا: الحَفَظَةُ من الملائكة يكتبون أعمال العباد، وتَعُدُّ للجزاء يوم القيامة. «واخْتُلِفَ في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فقال مجاهد: المعنى إنْ كان للَّه ولد في قولكم، فأنا أَوَّل مَنْ عَبَدَ اللَّه وَوَحَّدَهُ وكَذَّبكم «2» ، وقال ابن زيد وغيره: «إن» : نافية بمعنى «ما» فكأَنَّه قال: قل ما كان للرحمن ولد «3» ، وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدىء قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَال أبو حاتم قالت فرقةٌ: العابِدُونَ في الآية: مِنْ عَبِدَ الرجلُ: إذا أَنِفَ وأنكر، والمعنى: إنْ كان للرحمن ولد في قولكم، فأنا أَوَّلُ الآنفين المُنْكِرِينَ لذلك، وقرأ أبو عبد الرحمن: «فَأَنَا أَوَّلُ الْعَبِدِينَ» قال أبو حاتم: العَبِدُ- بكسر الباء-: الشَّدِيدُ الغضب، وقال أبو عُبَيْدَةَ: معناه: أول الجاحدين «4» ، والعَرَبُ تقولُ: عَبَدَني حَقِّي، أي: جَحَدَنِي، وباقي الآية تنزيه لله سبحانه، ووعيد للكافرين، ويَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ هو يوم القيامة، هذا قول الجمهور، وقال عِكْرَمَةُ وغيره: هو يوم بَدْرٍ «5» .

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 213) برقم: (30991) ، وذكره ابن عطية (5/ 64) . (2) أخرجه الطبري (11/ 215) برقم: (31006) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 65) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 136) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 735) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. (3) أخرجه الطبري (11/ 215) برقم: (31009) ، وذكره ابن عطية (5/ 65) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 66) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 66) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 84 إلى 89]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) وقوله جَلَّتْ عظمته: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ... الآية، آيةُ تعظيمٍ وإخبارٍ بأُلُوهِيَّتِهِ سبحانه، أي: هو النافذ أَمْرُهُ في كُلِّ شيء، وقرأ عمر بن الخَطَّاب، وأُبَيٌّ، وابنِ مسعود، وغيرهم «1» : «وَهُوَ الَّذِي في السَّمَاءِ اللَّهُ وَفي الأَرْضِ اللَّهُ» وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم [أَعْلَمَ سبحانه] أَنَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه لا يملك شفاعةً يَوْمَ القيامة، إلاَّ مَنْ شَهِدَ بالحق، وهم الملائكة، وعيسى/ وعُزَيْرٌ فإنَّهُمْ يملكون الشفاعة بأنْ يُمَلِّكُها اللَّه إيَّاهم إذ هم مِمَّنْ شَهِدَ بالحقِّ، وهم يعلمونه، فالاستثناء على هذا التأويل مُتَّصِلٌ، وهو تأويل قتادة «2» ، وقال مجاهد وغيره: الاستثناء في المشفوع فيهم «3» ، فكأَنَّه قال: لا يشفع هؤلاءِ الملائكةُ، وعيسى، وعُزَيْرٌ إلاَّ فيمن شَهِدَ بالحق، أي: بالتوحيد فآمن على عِلْمٍ وبَصِيرةٍ، فالاستثناء على هذا التأويل مُنْفَصِلٌ، كأَنَّه قال: لكن مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ فيشفع فيهم هؤلاءِ، والتأويل الأَوَّلُ أصوب، وقرأ الجمهور: «وَقِيلَهُ» بالنصب «4» ، وهو مصدر كالقَوْلِ، والضّمير فيه لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، واخْتُلِفَ في الناصب له، فقالت فرقة: هو معطوف على قوله: سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ولفظ البخاريِّ وَقِيلِهِ يا رَبِّ: تفسيرُهُ: أيحسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْوَاهُمْ [و] لا نَسْمَعُ قِيلَهُ يا رَبِّ، انتهى، وقيل: العامل فيه يَكْتُبُونَ ونزل قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ بمنزلة شكوى محمّد ع واستغاثَتِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وعُتُوِّهم، وقرأ حمزةُ وعاصمٌ: «وقيله» بالخفض «5» عطفا على الساعة.

_ (1) وقرأ بها علي ويحيى بن يعمر، واليماني. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (137) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 66) ، وزاد نسبتها إلى جابر بن زيد، وأبي الشيخ، والحكم بن أبي العاصي، وبلال بن أبي بردة، وابن السميفع. وزاد أبو حيان (8/ 29) : عمر بن عبد العزيز، وحميد، وابن مقسم، وهي في «الدر المصون» (6/ 109) . (2) أخرجه الطبري (11/ 218) برقم: (31019) ، وذكره ابن عطية (5/ 66) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 66) . (4) وقرأ برفعه الأعرج، وأبو قلابة، ومجاهد. ينظر: «المحتسب» (2/ 258) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 67) ، و «البحر المحيط» (8/ 30) ، وزاد نسبتها إلى الحسن، وقتادة، ومسلم بن جندب. وينظر: «الدر المصون» (6/ 110) ، وقراءة السبعة ستأتي. (5) وقرأ الباقون بالنصب. قال السمين، وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه: -[.....]

وقوله سبحانه: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ: مُوَادَعَةٌ منسوخةٌ وَقُلْ سَلامٌ تقديره: أَمْرِي سلامٌ، أيْ: مسالمة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

_ - «أحدها» : أنه منصوب على محل «السّاعة» كأنه قيل: إنه يعلم السّاعة ويعلم قيله كذا. «الثاني» : أنه معطوف على «سرّهم ونجواهم» ، أي: لا يعلم سرّهم ونجواهم ولا يعلم قيله. «الثالث» : عطف على مفعول «يكتبون» المحذوف، أي: يكتبون ويكتبون قيله كذا أيضا. «الرابع» : أنه عطف على مفعول «يعلمون» المحذوف، أي: يعلمون ذلك ويعلمون قيله. «الخامس» : أنه مصدر أي: قال قيله. «السادس» : أن ينتصب بإضمار فعل، أي: الله يعلم قيل برسوله وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم. «السابع» : أن ينتصب على محل «بالحقّ» ، أي: شهد بالحقّ وبقيله. «الثامن» : أن ينتصب على حذف حرف القسم كقوله: ............. ... فذاك أمانة الله الثّريد ينظر: «الدر المصون» (6/ 109- 110) ، و «السبعة» (589) ، و «الحجة» (6/ 159) ، و «إعراب القراءات» (2/ 304) ، و «معاني القراءات» (2/ 369) ، و «شرح الطيبة» (5/ 227) ، و «العنوان» (172) ، و «حجة القراءات» (655) ، و «شرح شعلة» (579) ، و «إتحاف» (2/ 460) .

تفسير سورة الدخان

تفسير سورة الدّخان وهي مكّيّة [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ... الآية، قوله: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قَسَمٌ أقسم اللَّه تعالى به، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يحتمل أنْ يقَعَ القَسَمُ عليه، ويحتملُ أَنْ يكون وصفاً للكتاب، ويكون الذي وقع القَسَمُ عليه إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، / واخْتُلِفَ في تعيين الليلة المباركة، فقال قتادَةُ، والحسن، وابن زيد: هي ليلة القَدْرِ «1» ، ومعنى هذا النزول أَنَّ ابتداء نزوله كان في ليلة القَدْرِ وهذا قول الجمهور،، وقال عِكْرَمَةَ: الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان «2» ، قال القرطبيّ: الصحيح أَنَّ الليلةَ التي يُفْرَقُ فِيهَا كُلَّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، ليلةُ القَدْرِ مِنْ شَهْر رمضانَ، وهي الليلة المباركة، انتهى من «التذكرة» ، ونحوُهُ لابن العربيّ. [سورة الدخان (44) : الآيات 4 الى 17] فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) وقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ معناه يُفْصَلُ من غيره وَيَتَخَلَّصُ، فعن عِكْرِمَةَ أَنَّ اللَّه تعالى يَفْصِلُ ذلك للملائكة في ليلة النصف من شعبان «3» ، وفي بعض

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 220) برقم: (31026، 31028) عن قتادة، وابن زيد، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 148) عنهما، وابن عطية (5/ 68) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 738) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة. (2) ذكره ابن عطية (5/ 68) . (3) أخرجه الطبري (11/ 223) برقم: (31039) .

[سورة الدخان (44) : الآيات 18 إلى 24]

الأحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «تُقْطَعُ الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ، حتى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ، وَلَقَدْ خَرَجَ اسمه في الموتى «1» » وقال قتادة، والحسن، ومجاهد: يُفْصَلُ في ليلة القدر كُلُّ ما في العامِ المُقْبِلِ، من الأقدار، والأرزاقِ، والآجال، وغير ذلك، وأَمْراً نُصِبَ على المصدر «2» . وقوله: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يحتمل أنْ يريدَ الرُّسُلَ والأَشْيَاءَ، ويحتمل أَنْ يريدَ الرحمة التي ذكر بَعْدُ، واختلف الناس في «الدخان» الذي أمر اللَّه تعالى بارتقابه، فقالت فرقة منها عليٌّ، وابن عباس، وابن عمر، والحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ، وأبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: هو دُخَانٌ يجيء قَبْلَ يومِ القيامة، يُصِيبُ المؤمنَ منه مِثْلُ الزكام، ويَنْضَحُ رُؤُوسَ المنافِقِينَ والكافِرِينَ، حتى تكونَ كأنَّها مَصْلِيَّةٌ حنيذة «3» ، وقالت فرقة، منها ابن مسعود: هذا الدخان قد رأته قريشٌ حين دعا عليهم النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فكان الرجُلُ يرى من الجُوع دُخَاناً بينه وبين السماء «4» وما/ يأتي من الآيات يُؤَيِّدُ هذا التأويلَ، وقولهم: إِنَّا مُؤْمِنُونَ كان ذلك منهم مِنْ غَيْرِ حقيقةٍ، ثم قال تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: من أين لهم التَّذَكُّرُ وَالاتعاظُ بعد حُلُولِ العذاب؟ وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلّم ف تَوَلَّوْا عَنْهُ، أي: أعرضوا وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. وقوله: إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي: إلى الكفر، واختلف في يوم البَطْشَةِ الكبرى، فقالتْ فرقةٌ: هو يوم القيامة، وقال ابن مسعود وغيره: هو يوم بدر «5» . [سورة الدخان (44) : الآيات 18 الى 24] أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)

_ (1) أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» (2/ 115) (2228) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 26) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (15/ 694) (42780) وكلاهما عزاه إلى ابن زنجويه. (2) أخرجه الطبري (11/ 222) برقم: (31035) عن مجاهد، (31036- 31037) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 148) ، وابن عطية (5/ 68) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن نصر، والبيهقي عن قتادة. (3) ذكره ابن عطية (5/ 69) . (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 744) ، وعزاه إلى البيهقي في «دلائل النبوة» . (5) أخرجه الطبري (11/ 230) برقم: (31070) عن ابن مسعود، (31071) عن مسروق، (31072) عن ابن مسعود، (31073- 31074) عن مجاهد، (31075) عن أبي العالية، (31076) عن ابن عبّاس، (31079) عن أبي بن كعب، (31080) عن الضحاك، وذكره ابن عطية (5/ 70) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 745) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه.

وقوله: أَنْ أَدُّوا مأخوذ من الأداء، كأنَّه يقول: أنِ ادْفَعُوا إليَّ، وأعطوني، ومَكِّنُوني من بني إسرائيل، وَإيَّاهم أراد بقوله: عِبادَ اللَّهِ، وقال ابن عباس: المعنى: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحَقِّ «1» ، فعباد اللَّه على هذا مُنَادًى مضافٌ، والمؤدى هي الطاعة، والظاهر من شرع موسى ع أَنَّهُ بُعِثَ إلى دعاء فرعونَ إلَى الإيمَان، وأَنْ يرسل بني إسرائيل، فلمَّا أبى أَنْ يُؤمن ثبتت المكافحة في أنْ يرسل بني إسرائيل، وقوله بعد: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ كالنَّصَّ في أَنَّه آخر الأمرِ، إنَّما يطلب إرسال بني إسرائيل فقط. وقوله: وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ... الآية: المعنى: كانت رسالته، وقوله: أَنْ أَدُّوا وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أيْ: على شرع اللَّه، وَعَبَّرَ بالعلوّ عن الطغيان والعتوّ، وأَنْ تَرْجُمُونِ معناه: الرجم بالحجارة المُؤَدِّي إلى القتل قاله قتادة وغيره «2» ، وقيل: أراد الرجم بالقول، والأول أظهر لأنَّه الذي عاذَ منه، ولم يَعُذْ من الآخر. - قلت-: وعن ابن عمر قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنِ استعاذ باللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ باللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ استجار باللَّهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ أتى إلَيْكُمْ بِمَعْرُوفٍ/ فَكَافِئوهُ، فَإنْ لَمْ تَقْدِرُوا فادعوا لَهُ حتى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ «3» » ، رواه أبو داود، والنسائيُّ، والحاكم، وابن حِبَّانَ في «صحيحيهما» ، واللفظ للنِّسَائِيِّ، وقال الحاكم: صحيحٌ على شَرْطِ الشيخَيْنِ- يعني البخاريَّ ومسلماً- اهـ من «السلاح» . وقوله: فَاعْتَزِلُونِ متاركَةٌ صريحةٌ، قال قتادة: أراد خلّوا سبيلي.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 70) . (2) أخرجه الطبري (11/ 233) برقم: (31098- 31099) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 151) عنه، وابن عطية في «تفسيره» (5/ 71) ، وابن كثير (4/ 141) . (3) أخرجه أبو داود (1/ 524) كتاب «الزكاة» باب: عطية من سأل بالله عز وجل (1672) ، (2/ 750) كتاب «الأدب» باب: في الرجل يستعيذ من الرجل (5109) ، وأحمد (2/ 68، 127) ، والنسائي (5/ 82) كتاب «الزكاة» باب: من سأل بالله عز وجل (2567) ، والحاكم (1/ 412) ، وابن حبان (8/ 199) كتاب «الزكاة» باب: المسألة والأخذ وما يتعلق به من المكافأة والثناء والشكر، ذكر الأمر بالمكافأة لمن صنع إليه معروف (3408) ، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 56) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، قد تابع عمار بن زريق على إقامة هذا الإسناد: أبو عوانة، وجرير بن عبد الله الحميد، وعبد العزيز بن مسلم القملي عن الأعمش.

[سورة الدخان (44) : الآيات 25 إلى 36]

وقوله: فَدَعا رَبَّهُ قبله محذوفٌ، تقديرُهُ: فما أجابوه لِمَا طُلِبَ منهم. وقوله: فَأَسْرِ قبله محذوفٌ، أي: قَالَ اللَّهُ له فَأَسْرِ بِعبادِي، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «1» : السرى: سَيْرُ الليل، و «الإدْلاَجُ» سَيْرُ السَّحَرِ، و «التَّأْوِيبُ» : سير النهار، ويقال: سرى وأسرى، انتهى. واخْتُلِفَ في قوله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة: هو كلامٌ مُتَّصِلٌ بما قبله، وقال قتادَةُ وغيره: خُوطِبَ به بعد ما جاز البحر «2» ، وذلك أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يضرب البَحْر ليلتئم خَشْيَةَ أن يدخل فرعون وجنوده وراءه، ورَهْواً معناه: ساكناً كما جُزْتَهُ، قاله ابن عباس «3» ، وهذا القول هو الذي تؤيِّده اللغَةُ ومنه قول القُطَامِيِّ: [البسيط] يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَاذِلَة ... وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ «4» ومنه: [البسيط] وَأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عِيد ... ...... أي: خرجوا في سكون وتمهّل. فقيل لموسى ع: اترك البَحْرَ سَاكِناً على حاله من الانفراق ليقضي الله أمرا كان مفعولا. [سورة الدخان (44) : الآيات 25 الى 36] كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36)

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1691) . (2) أخرجه الطبري (11/ 234) برقم: (31101- 31102) عن قتادة نحوه، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 151) ، وابن عطية (5/ 72) . [.....] (3) أخرجه الطبري (11/ 234- 235) برقم: (31103، 31105) ، وذكره ابن عطية (5/ 72) ، وابن كثير (4/ 141) . (4) البيت في «ديوانه» ص: (4) ، وينظر: «البحر المحيط» (8/ 31) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 72) ، و «الدر المصون» (6/ 115) ، في «المحرر» : «يمشون» .

وقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا «كم» للتكثير، أي: كَمْ تَرَكَ هؤلاءِ المُغْتَرُّونَ من كثرة الجنَّات والعيونِ، فَرُوِيَ أَنَّ الجناتِ كَانَتْ مُتَّصِلَةً/ ضِفَّتَيِ النيلِ جميعاً من رشيد إلى أُسْوَانَ، وأَمَّا العيونُ فيحتملُ أَنَّه أراد الخُلْجَانَ، فشبهها بالعيون، ويحتمل أَنَّها كانت ونَضِبَتْ، ذكر الطُّرْطُوشِيُّ في «سِرَاجِ الملوك» له، قال: قال أبو عبد اللَّه بن حَمْدُونَ: كنت مع المُتَوَكِّلِ لما خرج إلى دمشقَ، فركِبَ يوماً إلى رُصَافَةِ هشام بن عبد الملك، فنظر إلى قُصُورِها، ثم خرج، فنظر إلى دَيْرٍ هناك قديمٍ حَسَنِ البناءِ بين مزارعَ وأشجارٍ، فدخله، فبينما هو يطوفُ به إذ بَصُرَ برُقْعَةٍ قد أُلْصِقَتْ في صدره فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوبٌ هذه الأبياتُ: [الطويل] أَيَا مَنْزِلاً بالدَّيْرِ أَصْبَحَ خَالِياً ... تَلاَعَبُ فِيهِ شَمْأَلٌ وَدَبُورُ كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بِيضٌ أَوانِسٌ ... وَلَمْ تَتَبَخْتَرْ في قِبَابِكَ حُورُ وَأَبْنَاءُ أَمْلاَكٍ غَوَاشِمُ سَادَةٌ ... صَغِيرُهُمُو عِنْدَ الأَنَامِ كَبِيرُ إذَا لَبِسُوا أَدْرَاعَهُمْ فَعَوَابِس ... وَإنْ لَبِسُوا تِيجَانَهُمْ فَبُدُورُ على أَنَّهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ ضَرَاغِمٌ ... وَأَنَّهُمُو يَوْمَ النَّوَالِ بُحُورُ لَيَالِي هِشَامٌ بالرُّصَافَةِ قَاطِنٌ ... وَفِيكَ ابنه يَا دَيْرُ وَهْوَ أَمِيرُ إذِ الْعَيْشُ غَضٌّ وَالخِلاَفَةُ لَذَّةٌ ... وَأَنْتَ طَرُوبٌ وَالزَّمَانُ غَرِيرُ وَرَوْضُكَ مُرْتَادٌ وَنَوْرُكَ مُزْهِرٌ ... وَعَيْشُ بَنِي مَرْوَانَ فِيكَ نَضِيرُ بلى فَسَقَاكَ الْغَيْثُ صَوْبَ سَحَائِب ... عَلَيْكَ لَهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ بُكُورُ تَذَكَّرْتُ قَوْمِي فِيكُمَا فَبَكَيْتُهُمْ ... بِشَجْوٍ وَمِثْلِي بِالْبُكَاءِ جَدِيرُ فَعَزَّيْتُ نَفْسِي وَهْيَ نَفْسٌ إذَا جرى ... لَهَا ذِكْرُ قَوْمِي- أَنَّةٌ وَزَفِيرُ لعلّ زمانا جار يوما عليهم و ... لَهُمْ بِالَّذِي تَهْوَى النُّفُوسُ- يَدُورُ فَيَفْرَحَ مَحْزُونٌ وَيَنْعَمَ بَائِسٌ ... وَيُطْلَقَ مِنْ ضِيقِ الوَثَاقِ أَسِيرُ رُوَيْدَكَ إنَّ/ الدَّهْرَ يَتْبَعُهُ غَدٌ ... وَإنَّ صُرُوفَ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ فلما قرأها المتوكِّل، ارتاع، ثم دعا صاحب الدَّيْرِ، فسأله عَمَّن كتبها، فقال: لا عِلْمَ لي به، وانصرف، انتهى، وفي هذا وشبهه عِبْرَة لأولِي البصائر المستَيْقِظِينَ، اللهم، لا تجعلْنَا مِمَّنْ اغتر بزَخَارِفِ هذه الدارِ!!. [من الطويل]

أَلاَ إنَّما الدُّنْيَا كَأَحْلاَمِ نَائِم ... وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لاَ يَكُونُ بِدَائِمِ وقرأ جمهور الناس: «ومَقَامٍ» - بفتح الميم- «1» قال ابن عباس وغيره: أراد المنابر «2» . وعلى قراءة ضم الميم «3» قال قتادة: أراد: المواضِعَ الحِسَانَ من المساكِنِ وغيرِهَا «4» ، والقولُ بالمنابرِ بعيدٌ جدًّا، و «النَّعْمَةُ» - بفتح النون-: غَضَارَةُ العيشِ ولَذَاذَةُ الحياة، «والنِّعْمَةُ» - بكسر النون-: أَعَمُّ من هذا كُلُّه، وقد تكون الأمراضُ والمصائبُ نِعَماً، ولا يقال فيها: «نَعْمَةٌ» - بالفتح-، وقرأ الجمهور: «فاكهين» «5» ومعناه: فَرِحينَ مسرورين كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ أي: بعد القِبْطِ، وقال قتادة: هم بنو إسرائيل «6» ، وفيه ضعف، وقد ذكر الثعلبيُّ عن الحَسَنِ أَنَّ بني إسرائيل رَجَعُوا إلى مِصْرَ بعد هلاك فِرْعَوْنَ «7» ، واختلف المتأوِّلُون في معنى قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، فقال ابن عباس وغيره: وذلك أَنَّ الرجُلَ المؤمنَ إذا مَاتَ، بكى عليه من الأرض موضِعُ عباداتِهِ أربعين صَبَاحاً، وبكى عليه من السماءِ مَوْضِعُ صُعُودِ عمله، قالوا: ولم يكن في قوم فرعونَ مَنْ هذه حَالُهُ، فَتَبْكِي عليهم السماء والأرض «8» ، قال- عليه السلام «9» -: والمعنى الجَيِّدُ في الآية: أَنَّها استعارةٌ فصيحةٌ تَتَضمَّن تحقير أمرهم، وأَنَّه لم يتغير لأجل هلاكهم شيء، ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ» ، وفي الحديثِ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ أنّه قال: «ما مات

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 72) ، و «البحر المحيط» (8/ 36) ، و «الدر المصون» (6/ 115) . (2) أخرجه الطبري (11/ 236) برقم: (31115- 31116) عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وذكره ابن عطية (5/ 72) ، وابن كثير (4/ 141) عن مجاهد، وسعيد بن جبير، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 747) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (3) وقرأ بها ابن هرمز، وقتادة، وابن السميفع، ونافع في رواية خارجة. ينظر: «البحر المحيط» (8/ 36) ، و «الدر المصون» (6/ 115) . (4) أخرجه الطبري (11/ 236) برقم: (31117) عن قتادة نحوه، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 151) ، وابن عطية (5/ 72) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 747) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 73) ، و «البحر المحيط» (8/ 36) ، و «الدر المصون» (6/ 115) . (6) أخرجه الطبري (11/ 139) برقم: (31119) ، وذكره ابن عطية (5/ 73) . (7) ذكره ابن عطية (5/ 73) . (8) أخرجه الطبري (11/ 237- 238) برقم: (31122، 31127) ، وذكره ابن عطية (5/ 73) ، وابن كثير (4/ 142) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 747) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (9) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 73) .

مُؤْمِنٌ في غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ، إلاَّ بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والأَرْضُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآية، وَقَالَ: إنَّهُمَا لاَ يَبْكِيَانِ على كافر» «1» قال الداوديّ. وعن مجاهد: ما مات مؤمنٌ إلاَّ بكَتْ عليه السماءُ والأرضُ، وقال: أفي هذا عجبٌ؟! وما للأرضِ لا تَبْكِي على عبدٍ كانَ يَعْمُرُها بالرُّكُوعِ والسجودِ، وما للسماء لا تَبْكِي على عبدٍ كان لتسبيحِهِ وتكبيرِهِ فيها دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ؟! «2» انتهى. وروى ابنُ المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا الأوْزاعيُّ قال: حدَّثني عطاءٌ الخُرَاسَانِيُّ، قال: مَا مِنْ عَبْدٍ يسجد للَّهِ سَجْدَةً في بُقْعَةٍ من بِقَاعِ الأرضِ، إلاَّ شَهِدَتْ له يَوْمَ القيامةِ، وبَكَتْ عليه يَوْمَ يَمُوتُ، انتهى، وروى ابن المبارك أَيْضاً عن أبي عُبَيْدٍ صاحبِ سليمانَ «أَنَّ العبد المؤمن إذا مات تنادَتْ بِقَاعُ الأرضِ: عَبْدُ اللَّهِ المُؤْمِنُ مَاتَ قَالَ: فَتَبْكِي عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، فيقولُ الرحمن تبارَكَ وتعالى: مَا يُبْكِيكُمَا على عَبْدِي؟ فَيَقُولاَنِ: يَا رَبَّنَا، لَمْ يَمْشِ على نَاحِيَةٍ مِنَّا قَطُّ إلاَّ وَهُوَ يَذْكُرُكَ» . اهـ. ومُنْظَرِينَ أي: مؤخّرين والْعَذابِ الْمُهِينِ: هو ذبح الأبناءِ، والتَّسْخِيرُ، وغيْرُ ذلك. وقوله: عَلى عِلْمٍ أي: على شَيْءٍ قد سَبَقَ عندنا فِيهِمْ، وثَبَتَ في علمنا أَنَّه سَيَنْفُذُ، ويحتملُ أنْ يكون معناه: على علمٍ لهم وفضائلَ فيهم على العالمين، أي: عَالِمِي زمانهم بدليل أَنَّ أُمَّةَ محمد خير أُمَّةٍ أخرجت للناس وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ: لفظ جامع لما أجرى اللَّه من الآيات على يدي موسى، ولما أنعم به على بني إسرائيل، والبلاء في هذا الموضع: الاختبارُ والاِمتحانُ كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] الآية، ومُبِينٌ بمعنى: بَيِّنٌ ثم ذَكَرَ تعالى قريشاً على جهة الإنكار لقولهم وإنكارهم للبَعْثِ، فقال: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ أي: ما هي إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي: بمبعوثين، وقول قريش: فَأْتُوا بِآبائِنا مخاطبة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم طلبوا منه أَنْ يُحْيَي اللَّهُ لَهُمْ بَعْضَ آبائِهِمْ، وَسَمَّوْا له قُصَيًّا وغيره، كي يسألوهم عمّا رأوا في آخرتهم.

_ (1) أخرجه ابن جرير (11/ 238) برقم: (31129) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 748) ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا. (2) أخرجه الطبري (11/ 238) برقم: (31125، 31128) عن مجاهد، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 142) .

[سورة الدخان (44) : الآيات 37 إلى 42]

[سورة الدخان (44) : الآيات 37 الى 42] أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) وقوله سبحانه: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ... الآية، آية تقرير ووعيد، وتُبَّعٍ: مَلِكٌ حِمْيَرِيٌّ، وكان يقال لكل ملك منهم: «تُبَّع» إلاَّ أَنَّ المُشَارَ إليه في هذه الآية رجل صالح روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طريق سَهْلِ بنِ سَعْدٍ «أَنَّ تُبَّعاً هَذَا أَسْلَمَ وَآمَنَ بِاللَّهِ» «1» ، وقد ذكره ابن إسْحَاقَ في السيرة، قال السُّهَيْلِيُّ: وبَعْدَ ما غزا تُبَّعٌ المدينة، وأراد خَرَابَهَا أُخْبِرَ بِأَنَّها مُهَاجَرُ نَبِيٍّ اسمه أَحْمَدُ، فانصرف عَنْهَا، وقال فيه شعراً وأودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر، إلى أَنْ هاجر إليهم النبي ع فَأَدَّوْهُ إليه، ويقال: إنَّ الكتاب والشعر [كانا] عند أبي أيوبَ الأنصاريِّ [ومنه] : [من المتقارب] شَهِدتُّ على أَحْمَدٍ أَنَّهُ ... رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إلى عُمْرِهِ ... لَكُنْتُ وَزِيراً لَهُ وابن عَمّ «2» وذكر الزَّجَّاجُ «3» ، وابن أبي الدنيا: أَنَّه حُفِرَ قَبْرٌ ب «صنعاء» في الإِسلام، فَوُجِدَ فيه امرأتانِ صحيحتان، وعند رأسهما لَوْحٌ من فِضَّةٍ مكتوبٌ فيه بالذَّهَبِ: هذا قَبْرُ حبى ولَمِيسَ، ويروى: وتُماضِرَ ابنتي تُبَّعٍ، ماتتا وهما تَشْهَدَانِ أَنْ لاَ إله إلاَّ اللَّه، ولا تُشْرِكَانِ به شَيْئاً، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما، انتهى، ويَوْمَ الْفَصْلِ: هو يَوْمُ القيامة وهذا هو الإخْبَارُ بِالبَعْثِ، و «المولى» في هذه الآية: يَعُمُّ جميع الموالي. [سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 49] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) وقوله سبحانه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ روي عن ابن زيد أنّ الأثيم

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 749) ، وعزاه إلى الطبراني، وابن مردويه. [.....] (2) وبعدها: وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرّجت عن صدره كلّ هم ينظر: «الروض الأنف» (1/ 35) . (3) ينظر: «معاني القرآن» (4/ 427) .

[سورة الدخان (44) : الآيات 50 إلى 54]

المشار إليه أَبُو جَهْلٍ، ثم هي بالمعنى تتنَاوَلُ كُلَّ أثيمٍ، وهو كُلُّ فاجر، رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ، جَمَعَ أبو جَهْلٍ عَجْوَةً وَزُبْداً، وقال لأصحابه: تَزَقَّمُوا، فهذا هو الزَّقُّومُ، وهو طَعَامِي الذي حَدَّثَ به محمَّدٌ، قال ع «1» : وإنَّما قصد بذلك ضَرْباً من المغالطة والتلبيس عَلَى الجَهَلَةِ. وقوله سبحانه: كَالْمُهْلِ قال ابن عباس، وابن عمر «2» : «المُهْلُ» : دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وعَكَرُهُ، وقال ابن مَسْعُودٍ وغيره «3» : «المُهْلُ» : ما ذاب مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، والمعنى: أَنَّ هذه الشجَرَةَ إذا طَعِمَهَا الكافِرُ في جَهَنَّمَ، صارَتْ في جوفه تَفْعَلُ كما يفعل المُهْلُ المذاب من الإحراق والإفساد،، والْحَمِيمِ: الماءُ السُّخْنُ الذي يتطايَرُ من غليانه. وقوله: خُذُوهُ ... الآية، أي: يقال يومئذ للملائكة: خذوه، يعني الأثيم فَاعْتِلُوهُ و «العَتْلُ» : السَّوْقُ بعُنْفٍ وإهانةٍ، ودَفْعٌ قَوِيٌّ مُتَّصِلٌ، كما يُسَاقُ أبداً مرتكبُ الجرائمِ، و «السَّوَاء» : الوَسَط، وقيل: المُعْظمُ، وذلك متلازِمٌ. وقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ مخاطبة على معنى التّقريع. [سورة الدخان (44) : الآيات 50 الى 54] إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) وقوله سبحانه: إِنَّ هذا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ: عبارة عن قولٍ يُقَالُ للكَفَرَةِ، ثم ذكر تعالى حالة المُتَّقِينَ، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي: مأمون، «والسُّنْدُسُ» : رقيقُ الحَرِيرِ، و «الإسْتَبْرَقُ» : خَشِنُهُ. وقوله: مُتَقابِلِينَ: وَصْفٌ لمجالسِ أهل الجَنَّةِ، لأَنَّ بعضهم لا يستدبر بعضاً في المجالس، وقرأ الجمهور: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وقرأ ابن مسعود: «بعِيسٍ عِينٍ» ، وهو جمع «عَيْسَاءَ» ، وهي البيضاء «4» وكذلك هي من النوق، وروى أبو قرصافة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «إخْرَاجُ القُمَامَةِ مِنَ المَسْجِدِ مُهُورُ الحُورِ العِينِ» قال الثعلبيُّ: قال مجاهد: يَحَارُ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 76) . (2) أخرجه الطبري (11/ 243- 244) برقم: (31152- 31155) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 76) . (3) أخرجه الطبري (8/ 218) برقم: (23040) ، وذكره ابن عطية (5/ 76) . (4) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (138) ، و «المحتسب» (2/ 261) ، و «الكشاف» (4/ 283) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 78) .

[سورة الدخان (44) : الآيات 55 إلى 59]

فِيهِنَّ الطَّرْفُ من بياضهنَّ وصفاء لونهنَّ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ من وراء ثيابِهِنَّ، ويَرَى الناظر وَجْهَهُ في كعب إحداهُنَّ كالمرآة من رِقَّةِ الجلد وصفاء اللون «1» ، انتهى. [سورة الدخان (44) : الآيات 55 الى 59] يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) وقوله سبحانه: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي: يدعون الخَدَمَةَ والمتصرِّفين. قال أبو حيان «2» : إِلَّا الْمَوْتَةَ: استثناء مُنْقَطِعٌ، أي: لكن الموتة الأولى ذَاقُوهَا، انتهى،، والضمير في يَسَّرْناهُ عائدٌ على القرآن بِلِسانِكَ أي: بِلُغَة العرب قال الوَاحِدِيُّ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ: أي: يَتَّعِظُون، انتهى، وفي قوله تعالى: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد للكافرين.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 248) برقم: (31176) ، عن ابن نجيح عن مجاهد، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 155) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 41) .

تفسير سورة الجاثية

تفسير سورة الجاثية وهي مكّيّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) قوله عزَّ وجلَّ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ قال أبو حيَّان «1» : أجاز الفَخْرُ الرَّازِي في الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أنْ يكونا صفتينِ ل «اللَّه» ، وهو الراجح، أو ل «الكتاب» ورُدَّ بأنَّه لا يجوز أنْ يكونا صفتين للكتاب من وجوهٍ، انتهى. وذكر تبارَكَ وتعالى هنا الآياتِ الَّتِي في السموات والأرضِ مُجْمَلَةً غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ، فكأَنَّها إحالةٌ على غوامِضَ تُثِيرُها الفِكَر، ويُخْبِرُ بكثير منها الشَّرْعُ فلذلك جعلها للمؤمنين، ثم ذكر سبحانه خلق البشر والحيوان، وكأَنَّه أَغْمَضَ فجعله/ للموقنين الذين لهم نظر يُؤَدِّيهم إلى اليقين، ثم ذكر اختلاف الليل والنهار، والعِبْرَة بالمطرِ والرياحِ، فجعل ذلك لقومٍ يعقلون إذ كُلُّ عاقلٍ يُحَصِّلُ هذه ويفهم قَدْرَهَا. قال ع «2» : وإنْ كان هذا النَّظَرُ لَيْسَ بلازِمٍ وَلاَ بُدَّ، فإن اللفظ يعطيه، والرزق المُنَزَّلُ من السماء هو: المَاءُ، وسَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِزْقاً بمآلِهِ، لأَنَّ جَمِيعَ ما يَرْتَزِقُ، فَعَنِ الماءِ هُوَ. وقوله: نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي: بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها. وقال جلَّتْ عظمته: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ آية تقريع وتوبيخ، وفيها

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 43) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 79) .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 9 إلى 10]

قُوَّةُ تهديدٍ، والأَفَّاكُ: الكَذَّابُ الذي يقَعُ منه الإفْكُ مِرَاراً، والأَثِيمُ: بناءُ مُبَالَغَةٍ، اسمُ فاعلٍ من أَثِمَ يأْثَمُ، ورُوِيَ أَنَّ سبب الآية أبو جَهْلٍ، وقيل: النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، والصواب أَنَّها عامَّةٌ فيهما وفي غيرهما، وأَنَّها تَعُمُّ كُلَّ مَنْ دخل تحت الأوصافِ المذكورة إلى يوم القيامة ويُصِرُّ معناه: يَثْبُتُ على عقيدته من الكُفْرِ. وقوله: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: مؤلم. [سورة الجاثية (45) : الآيات 9 الى 10] وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) وقوله تعالى: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً أي: أُخْبِرَ بشيْءٍ من آياتنا، فعلم نَفْسَ الخبر لا المعنى الذي تضمَّنه الخَبَرُ، ولو عَلِمَ المعانِيَ الَّتِي تَضَمَّنَها أخبارُ الشَّرْعِ، وَعَرَفَ حقائِقَهَا- لكان مؤمناً. ت: وفي هذا نظر لأَنَّه ينحو إلى القَوْلِ بأَنَّ الكفر لا يُتَصَوَّرُ عناداً مَحْضاً، وقد تَقَدَّمَ اختيارُهُ- رحمه اللَّه- لذلك في غير هذا المَحَلِّ، فَقِفْ عليه، وخَشْيَةُ الإطالة منَعَتْنِي مِنْ تَكْرَارِهِ هنا. [سورة الجاثية (45) : الآيات 11 الى 13] هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) وقوله سبحانه: هذا هُدىً إشارة إلى القرآن. وقوله: لَهُمْ عَذابٌ بمنزلة قولك: لهم حَظٌّ، فَمِنْ هذه الجهةِ/ ومِنْ جِهَةِ تَغَايُرِ اللفظَيْنِ حَسُنَ قوله: عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ، إذ الرِّجْزُ هو العذابُ. وقوله: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أَقَامَ القُدْرَةَ والإذْنَ مُنَابَ أَنْ يَأْمُرَ البَحْرَ والنَّاسَ بذلك، وقرأ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ «1» : «جَمِيعاً مِنْه» بضم التاء، وقرأ أيضاً: «جَمِيعاً مَنُّهُ» [بفتح الميم وشد النون والهاء] «2» وقرأ ابن عبّاس: «منّة» بالنصب على المصدر «3» .

_ (1) أما الأولى فذكرها ابن عطية في «البحر الوجيز» (5/ 82) ، وأما القراءة الثانية عنه، فقد ذكرها ابن عطية أيضا، وكذلك ابن خالويه في «مختصر الشواذ» ص: (139) ، وابن جني في «المحتسب» (2/ 262) ، والزمخشري في «الكشاف» (4/ 288) . (2) سقط في: د. (3) وقرأ بها عبيد بن عمير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والجحدري.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 إلى 17]

وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قال الغَزَّاليُّ في «الإحياء» : الْفِكْرُ والذِّكْرُ أعلى مقامَاتِ الصالحين، وقال- رحمه اللَّه-: اعلم أَنَّ الناظرين بِأنوار البصيرة عَلِمُوا أنْ لا نجاةَ إلاَّ في لقاء اللَّه عزَّ وجلَّ، وأَنَّه لا سبيل إلى اللقاء إلاَّ بأَنْ يَمُوتَ العبد مُحِبًّا للَّه تعالى، وعارِفاً به، وأَنَّ المحبَّةَ والأُنْسَ لا يتحصَّلانِ إلاَّ بدوامِ ذِكْرِ المحبوب، وأَنَّ المعرفة لا تحصل إلاَّ بدوام الفِكْرِ، ولن يتيسَّر دوامُ الذِّكْرِ والفِكْر إلاَّ بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقَدْرِ البُلْغَةِ والضَّرُورَةِ، ثم قال: والقرآنُ جامعٌ لفَضْلِ الذِّكْرِ والفِكْرِ والدُّعَاءِ مَهْمَا كان بِتَدَبُّرٍ، انتهى. [سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 17] قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ... الآية، قال أَكْثَرُ النَّاسِ: هذه الآيةُ منسوخٌة بِآية القتال، وقالَتْ فرقةٌ: بل هي مُحْكَمَةٌ قال ع «1» : الآية تتضمَّن الغُفْرَانَ عُمُوماً، فينبغي أَنْ يقال: «إنَّ الأُمور العظام، كالقتل والكُفْرِ مُجَاهَرَةً ونحو ذلك- قد نَسَخَتْ غفرانَهُ، آيةُ السَّيْفِ والجِزْيَةِ، وما أحكمه الشَّرْعُ لا محالة، وأَنَّ الأُمورَ الحقيرةَ كالجَفَاءِ في القول ونحوِ ذلك تحتملُ أنْ تبقى مُحْكَمَةً، وأنْ يكونَ العفْوُ عنها أقربَ إلى التقوى. وقوله أَيَّامَ اللَّهِ قالت فرقة: معناه: أيام إنعامه، ونَصْرِهِ، وتنعيمه/ في الجنة، وغَيْرُ ذلك، وقال مجاهد: أَيَّامَ اللَّهِ: أيامُ نِقَمِهِ وعَذَابِهِ «2» ، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله سبحانه: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ... الآيةُ، قَدْ تَقَدَّم بيان نظيرها في سورة يونس وغيرها. [سورة الجاثية (45) : الآيات 18 الى 20] ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

_ - ينظر: «الشواذ» ص: (139) ، و «المحتسب» (2/ 262) ، و «الكشاف» (4/ 288) ، و «المحرر» (5/ 82) . [.....] (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (8/ 82) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 83) .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 إلى 22]

وقوله سبحانه: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ... الآية: «الشريعةُ» لُغَةً: مَوْرِدُ المياه، وهي في الدين من ذلك لأَنَّ الناس يَرِدُونَ الدينَ ابتغاءَ رحمةِ اللَّهِ والتقرُّبِ منه، و «الأمر» وَاحدُ الأمور، ويحتمل أنْ يكون وَاحِدَ الأوامر، والَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ هم: الكُفَّارُ، وفي قوله تعالى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ تحقيرٌ للكفرة من حيث خروجُهم عن ولاية الله تعالى. ت: وقد قال صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ أُحُدٍ: «أَجِيبُوهُمْ فَقُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مولى لَكُمْ» «1» ، وذلك أَنَّ قريشاً قالوا للصحابة: لنا العزّى، ولا عزّى لكم. وقوله عز وجل: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ يريد: القرآن، وهو جمع «بَصِيرَةٍ» ، وهو المُعْتَقَدُ الوثيقُ في الشيء، كأَنَّه من إبصار القلب قال أبو حيّان: وقرىء: «هذه» أي: هذه الآيات، انتهى. [سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 22] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ قيل: إنَّ الآية نزلَتْ بسبب افتخار كان للكُفَّارِ على المؤمنين، قالوا: لَئِنْ كَانَتْ آخِرَةٌ، كما تزعمون، لَنُفَضَّلَنَّ عليكم فيها، كما فُضِّلْنَا في الدّنيا. واجْتَرَحُوا معناه: اكتسبوا، وهذه الآية متناولة بلفظها حالَ العُصَاةِ من حال أهل التقوى، وهي موقف للعارفين يَبْكُونَ عنده، ورُوِيَ عن الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، أَنَّهُ كانَ يُرَدِّدُهَا ليلةً حتَّى أَصْبَحَ «2» ، وكذلك عن الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ «3» ، وكان يقول لنفسه: لَيْتَ/ شِعْرِي! مِنْ أيِّ الفَرِيقَيْنِ أَنْتَ؟ وقال الثعلبيُّ: كانت هذه الآية تُسَمَّى مَبْكَاةَ العابدين «4» ، قال ع «5» : وأَمَّا لفظها فيعطى أَنَّه اجتراحُ الكُفْرِ، بدليل معادلته بالإِيمان، ويحتمل أَنْ تكون

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ذكره ابن عطية (5/ 85) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 85) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 85) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 85) .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 23 إلى 24]

المعادلة بَيْنَ الاِجتراحِ وَعَمَلِ الصالحات، ويكونَ الإيمانُ في الفريقَيْنِ، ولهذا بكى الخائفون- رضي اللَّه عنهم-. ت: وروى ابن المُبَارك في «رقائقه» بسنده أنَّ تَمِيماً الدَّارِيَّ- رضي اللَّه عنه- باتَ ليلةً إلى الصَّبَاحِ، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَيُرَدِّدُ هذه الآية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ الآية، ويبكي- رضي اللَّه عنه-، انتهى. وقوله: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ : «ما» مصدريةٌ، والتقدير: ساء الحكم حكمهم. [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 24] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وقوله سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ... الآية: تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي: لا تَهْتَمَّ بأمر الكَفَرَةِ من أجل إعراضهم عن الإيمان، وقوله: إِلهَهُ هَواهُ إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يَهْوَوْنَ من الحجارة، وقال قتادة: المعنى: لا يَهْوَى شيئاً إلا رَكِبَهُ، لا يخافُ اللَّه «1» فهذا كما يقال: الهوى إله مَعْبُودٌ، وهذه الآية وإنْ كانت نزلَتْ في هَوَى الكُفْر فهِي مُتَنَاوِلَةٌ جميعَ هوى النفس الأَمَّارَةِ قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنى عَلَى اللَّهِ» «2» ، وقال سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: هَوَاكَ دَاؤُكَ فَإنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُك،، وقال وهْبٌ: إذا عَرَضَ لك أمران، وشككْتَ في خَيْرِهِمَا، فانظر أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ ومن الحكمة في هذا قول القائل: [الطويل] إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الهوى قَادَكَ الهوى ... إلى كُلِّ مَا فيهِ عَلَيْكَ مَقَالُ قال الشيخ ابن أبي جَمْرَةَ: قولُهُ/ صلّى الله عليه وسلّم: «فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلِيَتْبَعْهُ» «شيئاً» يعم جَمِيعَ الأشياء، مُدْرَكَةً كانَتْ أو غَيْرَ مُدْرَكَةٍ، فالمُدْرَكُ: كالشمس والقمر، وَغَيْرُ المُدْرَكِ، مِثْلُ: الملائكة والهوى لقوله عزَّ وجَلَّ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، وما أشبه ذلك، انتهى، قال القُشَيْرِيُّ في «رسالته» : وحُكِيَ عن أبي عمران الواسطيِّ قال: انكسرت بنا السفينةُ، فَبَقِيتُ أنا وامرأتي على لَوْحٍ، وقد وَلَدَتْ في تِلْكَ الحَالِ صَبِيَّةٌ، فصَاحَتْ بي، وقالت: يَقْتُلُنِي العَطَشُ، فقلْتُ: هو ذا يرى حالَنَا، فرفعتُ رَأْسِي، فإذا رجُلٌ في الهواء جالِسٌ في يده سِلْسِلَةٌ من ذَهَبٍ، وفيها كُوزٌ من ياقوت أحمر، فقال: هاك،

_ (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 159، 160) آية رقم: (21) . (2) تقدم.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 25 إلى 29]

اشربا، قال: فأخذتُ الكُوزَ فَشَرِبْنَا منه، فإذا هو أطيبُ مِنَ المِسْكِ، وأبردُ مِنَ الثَّلْجِ، وأحلى من العَسَلِ، فقلت: مَنْ أَنْتَ- رَحِمَكَ اللَّه؟ - فقال: عبدٌ لمولاكَ، فقلْتُ له: بِمَ وَصَلْتَ إلى هذا؟ فقال: تركْتُ هَوَايَ لمَرْضَاتِهِ، فأجلَسَنِي في الهواء، ثُمَّ غَابَ عَنِّي، ولم أره، انتهى. وقوله تعالى: عَلى عِلْمٍ قال ابن عباس «1» : المعنى: على عِلْمٍ من اللَّه تعالى سَابِقٍ، وقالت فرقة: أي: على عِلْمٍ من هذا الضَّالِّ بتَرْكِهِ للحَقِّ وإعراضِهِ عنه، فتكُونُ الآية على هذا التأويل من آيات العِنَادِ من نحو قوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] . وقوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً استعاراتٌ كُلُّهَا. وقوله: مِنْ بَعْدِ اللَّهِ فِيهِ حَذْفُ مضافٍ، تقديره: مِنْ بعدِ إضلالِ اللَّهِ إيَّاه، واخْتُلِفَ في معنى قولهم: نَمُوتُ وَنَحْيا فقالت فرقة: المعنى: يَمُوتُ الآباء، ويحيا الأبناء، وقالت فرقة: المعنى: نَحْيَا ونَمُوتُ، / فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، وقولهم: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي: طول الزمان. [سورة الجاثية (45) : الآيات 25 الى 29] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَّا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يعني: قريشاً، مَّا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا أي: يا محمَّد، أَحْيِ لنا قُصَيًّا حتى نَسْأَلَهُ، إلى غَيْرِ ذلك من هذا النحو، فنزلت الآية في ذلك، ومعنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: في قولكُمْ أَنَّا نُبْعَثُ بعد الموت. ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّه أنْ يخبرَهم بالحال السابقة في علم اللَّه التي لا تُبَدَّلُ بأَنَّه يحيي الخلق ثم يميتهم ... إلى آخر الآية، وباقي الآية بيّن.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 262) برقم: (31203) ، وذكره ابن عطية (5/ 86) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 758) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، واللالكائي في «السنة» ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 إلى 33]

والْمُبْطِلُونَ: الداخلون في الباطل. وقوله سبحانه: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً هذا وصفُ حالِ القيامة وهولها، والأُمَّةُ: الجماعة العظيمة من الناس، وقال مجاهد «1» : الأُمَّةُ: الواحد من الناس قال ع «2» : وهذا قلق في اللغة، وإنْ قيل في إبراهيمَ «أُمَّة» وفي قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، فذلك تَجوُّزٌ على جهة التشريف والتشبيه، وجاثِيَةً معناه: على الرُّكَب قاله مجاهد وغيره «3» ، وهي هَيْئَة المُذْنِبِ الخَائِفِ، وقال سُلَيْمَانُ: في القيامة ساعَةٌ قَدْرُ عَشْرِ سنين، يَخِرُّ الجميعُ فيها جُثَاةً على الرُّكَبِ. وقوله: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا قالت فرقة: معناه: إلى كتابها المنزّل عليها، فتحاكم إِليه، هل وافقته أو خالفته؟ وقالت فرقة: أراد إلى كتابها الذي كتبته الحَفَظَةُ على كل واحد من الأُمَّةِ. وقوله سبحانه: هذا كِتابُنا يحتمل أنْ تكون الإشارة إلى الكتب المُنَزَّلَةِ، أو إلى اللوح المحفوظ أو إلى كُتُبِ الحَفَظَةِ وقال ابن قُتَيْبَةَ: إلى القرآن. وقوله سبحانه: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال الحَسَنُ: هو كُتُبُ الحَفَظَةِ على بني آدمَ «4» ، وروى ابن عباس وغيره حديثاً أَنَّ اللَّه تَعالى يَأْمُرُ/ بِعَرْضِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَيُنْقَلُ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ تَرَفَعُ الحَفَظَةَ- كُلُّ مَا هُوَ مُعَدٌّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَيُلْغَى الباقي فهذا هو النسخ من أصل. [سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 33] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وقوله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي: في جنّته.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 88) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 88) . (3) أخرجه الطبري (11/ 265) برقم: (31213) عن مجاهد، (31214) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (5/ 88) ، وابن كثير (4/ 152) . (4) ذكره البغوي (4/ 161) آية رقم: (29) ، وابن عطية (5/ 89) . [.....]

[سورة الجاثية (45) : الآيات 34 إلى 37]

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ أي: فيقال لهم: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ وقرأ حمزة وحده: «وَالسَّاعَةَ» «1» - بالنصب- عطفاً على قوله: وَعْدَ اللَّهِ، وقرأ ابن مسعود «2» : «وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا» ، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا ... الآية، حكايةُ حالِ يوم القيامة وَحاقَ معناه: نزل وأحَاطَ، وهي مُسْتَعْمَلَة في المَكْرُوهِ، وفي قوله: مَّا كانُوا حذفُ مضافٍ، تقديره: جزاءَ ما كانوا به يستهزئون. [سورة الجاثية (45) : الآيات 34 الى 37] وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) وقوله عز وجل: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ معناه: نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا، وآياتِ اللَّهِ هنا: لفظ جامعٌ لآِيات القرآن وللأدِلَّةِ التي نَصَبَهَا اللَّهُ تعالى، للنَّظَرِ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يُطْلَبُ منهم مراجعةٌ إلى عملٍ صَالِحٍ. وقوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ... إلى آخر السورة- تحميدٌ للَّه عزَّ وجلَّ، وتحقيقٌ لأُلُوهِيَّتِهِ، وفي ذلك كَسْرٌ لأمرِ الأصنام وسائر ما تعبده الكفرة، والْكِبْرِياءُ: بناء مبالغة.

_ (1) وعلى قراءة الباقين فيها ثلاثة أوجه: الابتداء، وما بعدها من الجملة المنفية خبرها. «الثاني» : العطف على محل اسم «إن» لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء. «الثالث» : أنه عطف على محل «إن» واسمها معا، لأن بعضهم- كالفارسي والزمخشري- يرون: أن ل «إن» واسمها موضعا، وهو الرفع بالابتداء. ينظر: «الدر المصون» (6/ 132) ، و «السبعة» (595) ، و «الحجة» (6/ 179) ، و «إعراب القراءات» (2/ 315) ، و «معاني القراءات» (2/ 377) ، و «شرح الطيبة» (5/ 235) ، و «العنوان» (174) ، و «حجة القراءات» (662) ، و «شرح شعلة» (582) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 468) . (2) وينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 89) .

تفسير سورة الأحقاف

تفسير سورة الأحقاف وهي مكّيّة إلّا آيتين، وهما قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ... الآية، وقوله سبحانه: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ الآية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) قوله سبحانه: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ يعني: القرآن. وقوله سبحانه: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ: هذه الآية موعظة، وزَجْرٌ، المعنى: فانتبهوا أَيُّهَا الناسُ، وانظروا ما يُرَادُ بكم ولِمَ خُلِقْتُمْ، «والأَجَلُ المسمى» : هو يَوْمُ القيامةِ. وقوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ [معناه «1» :] ما تَعْبُدُونَ، ثم وقفهم على السموات هَلْ لهم فيها شِرْكٌ، ثم استدعى منهم كتاباً مُنَزَّلاً قبل القرآن يتضمَّن عبادَةَ الأَصْنَامِ، قال ابنُ العَرَبَيِّ في «أحكامه» «2» : هذه الآيةُ مِنْ أَشْرَفِ آية في القرآن فإنَّها استوفَتِ الدَّلالَةَ على الشرائع عَقْلِيِّهَا وسَمْعِيِّها لقوله- عزَّ وجلَّ-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ فهذا بيانٌ لأدِلَّة العَقْلِ المتعلِّقة بالتوحيدِ، وحُدُوثِ العالم، وانفراد البارِي تعالى بالقدرة والعِلْمِ والوجُودِ والخَلْقِ، ثم قال: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا: على ما تقولون، وهذا بيان لأدلَّة السَّمْعِ فَإنَّ مدرك الحق إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع، حسبما بَيَّنَّاهُ من مراتب الأدلّة في كتب الأصول،

_ (1) سقط في: د. (2) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1696) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 6 إلى 9]

ثم قال: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يعني: أو عِلْمٍ يؤْثَرُ، أي: يروى ويُنْقَلُ، وإنْ لم يكن مكتوباً، انتهى. وقوله: أَوْ أَثارَةٍ معناه: أو بَقِيَّةٍ قديمةٍ من عِلْمِ أحد العلماءِ، تقتضي عبادة الأصنام، و «الأثارة» البَقِيَّةُ من الشيء، وقال الحسنُ: المعنى: من عِلْمٍ تستَخْرِجُونَهُ فتثيرونه «1» ، وقال مجاهدٌ: المعنى: هل مِنْ أَحَدٍ يأثر علماً في ذلك «2» ، وقال القرطبيُّ: هو الإسناد ومنه/ قول الأعشى: من [السريع] إنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا ... بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالآثِرِ «3» أي: وللمُسْنِدِ عن غيره، وقال ابن عباس «4» : الأثارة: الخَطُّ في التراب، وذلك شيْءٌ كانَتِ العَرَبُ تفعله، والضمير في قوله: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ هو للأصنام في قول جماعة، ويحتمل أن يكون لعبدتها. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 6 الى 9] وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) وقوله سبحانه: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَصْفُ ما يكون يومَ القيامةِ بَيْنَ الكُفَّار وأصنامهم من التَّبَرِّي والمُنَاكَرَةِ، وقد بُيِّنَ ذلك في غير هذه الآية. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي: آيات القرآن، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ يعني: القرآن هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: يُفَرِّقُ بين المرءِ وَبَنِيهِ. وقوله سبحانه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً المعنى: إن افتريته،

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 772) برقم: (31228) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (5/ 92) ، وابن كثير (4/ 154) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 92) . (3) البيت في «ديوانه» (92) ، «اللسان» (أثر) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 92) ، والآثر: الذي يحفظ الأثر، أي: الرواية. (4) أخرجه الطبري (11/ 272) برقم: (31223) ، وذكره ابن عطية (5/ 92) ، وابن كثير (4/ 154) ، والسيوطي (6/ 4) ، وعزاه إلى ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والفريابي، وعبد بن حميد.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 إلى 14]

فاللَّه حَسْبِي في ذلك، وهو كان يعاقبني ولا يُمْهِلُنِي، ثم رجَعَ القَوْلُ إلى الاستسلامِ إلى اللَّه، والاستنصارِ به عليهم، وانتظارِ ما يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ بما يُفِيضُونَ فيه مِنَ البَاطِلِ ومُرَادَّة الحَقِّ، وذلك يقتضي مُعَاقَبَتَهُمْ ففي اللفظ تهديد، والضمير في بِهِ عائدٌ على اللَّه عزَّ وجَلَّ. وقوله سبحانه: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَرجيةٌ واستدعاءٌ إلى التوبة، ثم أمره عزَّ وجلَّ أنْ يحتجَّ عليهم بأَنَّه لم يكن بِدْعاً من الرسل، والبِدْعُ والبَدِيعُ من الأشياءِ ما لم يُرَ مِثْلُهُ، المعنى: قد جاء قَبْلِي غيري قاله ابن عَبَّاس وغيره «1» . ت: ولفظ البخاريِّ: وقال ابن عباس: بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: لَسْتُ بأوَّلِ الرُّسُلِ «2» ، واختلف الناسُ في قوله: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فقال ابن عباس وجماعةٌ: كان هذا في صَدْرِ الإسْلاَمِ، ثم بعد ذلك عَرَّفَهُ/ اللَّه عزَّ وجلَّ بأَنَّه قد غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأخر، وبأَنَّ المؤمنين لهم من اللَّه فضلٌ كبيرٌ، وهو الجَنَّةُ، وبأَنَّ الكافرين في نار جَهَنَّمَ «3» والحديثُ الصَّحِيحُ الذي وقع في جنازة عُثْمانَ بنِ مَظْعُونٍ يُؤَيِّدُ هذا «4» ، وقالت فرقة: معنى الآية: وما أدري ما يُفْعَلُ بي ولا بكم من الأوامر والنواهي، وقيل غير هذا. وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ معناه: الاِستسلامُ والتَّبَرِّي من عِلْمِ المُغَيَّبَاتِ، والوقوفُ مع النذارةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 14] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 439) كتاب «التفسير» باب: سورة الأحقاف تعليقا، وقال ابن حجر: وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس، وللطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، والطبري (11/ 275) (31223) ، وذكره ابن عطية (5/ 93) . (2) انظر السابق. (3) ذكره ابن عطية (5/ 94) . (4) ينظر: «مجمع الزوائد» (9/ 305) ، كتاب «المناقب» باب: فضل عثمان بن مظعون رضي الله عنه.

وقوله عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية، جوابُ هذا التوقيفِ محذوفٌ، تقديره: أَلَيْسَ قد ظلمتم؟! ودَلَّ على هذا المُقَدَّرِ قولُهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال مجاهد وغيره: هذه الآية مدنية «1» ، والشاهد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ، وقد قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: فيَّ نَزَلَتْ، وقال مَسْرُوقُ بْنُ الأجْدَعِ والجمهورُ: الشاهد موسَى بْنُ عِمْرَانَ ع، والآية مكية «2» ، ورَجَّحَه الطَّبْرِيُّ «3» . وقوله: عَلى مِثْلِهِ يريد بالمثل التوراةَ، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن، أي: جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله أَنَّه من عند اللَّه سبحانه. وقوله: فَآمَنَ، على هذا التأويل، يعني به تصديقَ موسى وتبشيره بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقوله سبحانه: وَمِنْ قَبْلِهِ أي: مِنْ قَبْلِ القرآنِ كِتابُ مُوسى يعني: التوراة وَهذا كِتابٌ يعني القرآن مُصَدِّقٌ للتوراة التي تَضَمَّنَتْ خبره، وفي مصحف ابن مسعود «4» : «مُصَدِّقٌ لِّمَا بَيْنَ يديه» والَّذِينَ ظَلَمُوا هم: الكفار، وعَبَّرَ عن المؤمنين بالمحسنين ليناسِبَ لفظ «الإحسان» في مقابلة «الظلم» . ثم أخبر تعالى عن حُسْنِ [حال] المستقيمين، وذهب كَثِيرٌ من الناس إلى أَنَّ المعنى: ثم استقاموا بالطاعات والأعمال الصالحات، وقال أبو بكر الصديق- رضي اللَّه عنه- المعنى: ثم استقاموا بالدَّوَامِ على الإيمان «5» قال ع «6» : وهذا أَعَمُّ رجاءً وأَوْسَعُ، وإن كان في الجملة المؤمنة من يُعَذَّبُ وَيَنْفُذُ عليه الوعيد، فهو مِمَّنْ يَخْلُدُ في الجَنَّةِ، وينتفي عنه الخوفُ والحُزْنُ الحَالُّ بالكَفَرَةِ. وقوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قد جعل اللَّه سبحانه الأعمالَ أَمَارَاتٍ على ما سَيَصِيرُ إليه العَبْدُ، لا أَنَّهَا توجب على الله شيئا.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 94) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 94) . [.....] (3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 281) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 95) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 96) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 96) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 إلى 16]

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وقوله سبحانه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ يريد: النوع، أي: هكذا مَضَتْ شرائِعِي وكُتُبِي، فَهِيَ وَصِيَّةٌ من اللَّه في عباده، وبِرُّ الوالدَيْنِ واجبٌ، وعُقُوقُهُمَا كبيرة، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ إلاَّ شَهَادَةَ أَنْ لاَ إله إلاَّ اللَّه، وَدَعْوَةَ الْوَالِدَيْنِ «1» قال ع «2» : ولن يَدْعُوَا في الغالب إلاَّ إذا ظلمَهُمَا الوَلَدُ، فهذا يَدْخُلُ في عُمُومِ قوله- عليه السلام-: «اتَّقُوا دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» «3» ثم عَدَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَى الأبْنَاءِ مِنَنَ الأُمَّهَاتِ. وقوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً قال مجاهد، والحسن، وقتادة: حملته مَشَقَّةً، ووضعته مَشَقَّةً، قال أبو حَيَّان «4» : وَحَمْلُهُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: مدَّة حمله، انتهى. وقوله: ثَلاثُونَ شَهْراً يقتضى أَنَّ مُدَّة/ الحمل والرَّضَاعِ هي هذه المُدَّةُ، وفي البقرة: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233] فيترتب من هذا أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةُ أَشهر، وأقلَّ ما يَرْضَعُ الطفْلُ عَامٌ وتسعَةُ أشْهُرٍ، وإكمال الحولَيْنِ هو لمن أراد أَنْ يُتِمَّ الرضاعة، وهذا في أمد الحَمْلِ، هو مذهب مالك وجماعة من الصحابة، وأقوى الأقوال في بلوغ الأَشُدِّ ستةٌ وثلاثُونَ سنَةً، قال ع «5» : وإنَّما ذكر تعالى الأربعين لأَنَّها حَدٌّ للإنسان في فلاحه ونَجَابَتِهِ، وفي الحديث: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجُرُّ يَدَهُ على وَجْهِ مَنْ زادَ عَلَى الأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَتُبْ، فَيَقُولُ: بِأَبِي، وَجْهٌ لاَ يُفْلِحُ» . ت: وحَدَّثَ أبو بَكْرِ ابْنُ الخَطِيبِ في «تاريخِ بَغْدَادَ» بسنده المُتَّصِلِ عن أنس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنَ البَلاَيَا الثَّلاَثِ: الجُنُونِ، وَالجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، فَإذا بَلَغَ خَمْسِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُ الحِسَابَ، فإذا بلغ ستّين سنة رزقه

_ (1) ذكره الهندي في «كنز العمال» (3318) ، وعزاه إلى ابن النجار في «التاريخ» . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 96) . (3) أخرجه أحمد (3/ 153) من طريق أنس. (4) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 61) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 97) .

اللَّهُ الإنَابَةَ لِمَا يُحِبُّ، فَإذَا بَلَغَ سَبْعِينَ سَنَةً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَشُفِّعَ في أَهْلِ بَيْتِهِ، وَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: هَذَا أَسِيرُ اللَّهِ في أَرْضِهِ» «1» انتهى، وهذا- واللَّه أعلم- في العبد المُقْبِلِ على آخرته، المشتغل بطاعة ربه. وقوله: رَبِّ أَوْزِعْنِي معناه: ادفع عني الموانع، وأَجِرْنِي من القواطع لأجل أنْ أشكرَ نعمتك، ويحتمل أنْ يكون أَوْزِعْنِي بمعنى: اجعل حَظِّي ونصيبي، وهذا من التوزيع. ت: وقال الثعلبيُّ وغيره أَوْزِعْنِي: معناه: ألهمني، وعبارة الفَخْر «2» : قال ابن عباس أَوْزِعْنِي: معناه: ألهمني «3» ، قال صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» استوزعت/ اللَّهَ فَأَوْزَعَنِي، أي: استَلْهَمْتُهُ فألْهَمَنِي، انتهى، قال ابن عبّاس نِعْمَتَكَ: في التوحيد

_ (1) أخرجه أحمد (2/ 89) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (15/ 670) (42662) ، وعزاه إلى الديلمي عن أنس، قال ابن حجر في «القول المسدد» في الذب عن مسند الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا أنس بن عياض حدثني يوسف بن أبي ذرة عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء: الجُنُونِ، وَالجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، فَإذا بَلَغَ خَمْسِينَ سَنَةً لين الله عليه الحساب، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ سبعين أحبه الله، وأحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته، وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وسمي أسير الله في أرضه، وشفع لأهل بيته» . ورواه أحمد أيضا موقوفا على أنس: قال: حدثنا أبو النضر، ثنا الفرج، ثنا محمّد بن عامر، عن محمّد بن عبيد الله، عن جعفر بن عمرو، عن أنس بن مالك قال: إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة أمنه الله من أنواع من البلاء: من الجنون، والجذام، والبرص، وإذا بلغ الخمسين لين الله عز وجل عليه حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليه، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته، ومحا عنه سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي: أسير الله في الأرض، وشفع في أهله. وعلة الحديث المرفوع يوسف بن أبي ذرة، وفي ترجمته أورده ابن حبان في «تاريخ الضعفاء» وقال: يروي المناكير التي لا أصل لها من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا يحل الاحتجاج به بحال. روي عن جعفر بن عمرو عن أنس ذاك الحديث، وأورد ابن الجوزي في «الموضوعات» هذا الحديث من الطريقين: المرفوع والموقوف، وقال: هذا الحديث لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأعل الحديث الموقوف بالفرج بن فضالة، وحكى أقوال الأئمة في تضعيفه، قال: وأما محمّد بن عامر فقال ابن حبان: يقلب الأخبار ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم. وأما محمّد بن عبيد الله فهو العرزمي، قال أحمد: ترك الناس حديثه. قلت: وقد خلط فيه الفرج بن فضالة فحدث به هكذا وقلب إسناده مرة أخرى فجعله من حديث ابن عمر مرفوعا أيضا، رواه أحمد أيضا. ينظر: «القول المسدد» (7- 8) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (28/ 18) . (3) أخرجه الطبري (11/ 284) برقم: (31262، 31264) ، وذكره ابن عطية (5/ 97) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 إلى 19]

وصالِحاً تَرْضاهُ: الصلواتِ، والإصلاحُ في الذُّرِّيَّةِ: كونُهم أَهْلَ طاعة وخير «1» ، وهذه الآية معناها: أن هكذا ينبغي للإنسان أنْ يَكُونَ، فهي وَصِيَّةُ اللَّه تعالى للإنسان في كُلِّ الشرائع، وقولُ مَنْ قال: إنَّها في أبي بكر وأبويه- ضعيف لأَنَّ هذه الآية نزلت بمَكَّةَ بلاَ خِلاَفٍ، وأبو قُحَافَةَ أَسْلَمَ عامَ الفتح، وفي قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ... الآية: دليلٌ على أَنَّ الإشارة بقوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ إنما أراد بها الجِنْسَ. وقوله: فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ يريد: الذين سبقت لهم رحمةُ اللَّه، قال أبو حَيَّان «2» فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ قيل: فِي على بابها، أي: في جملتهم كما تقول: أَكْرَمَنِي الأمِيرُ في نَاسٍ، أي: في جملةِ مَنْ أَكْرَمَ، وقيل: فِي بمعنى مع، انتهى. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 19] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وقوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ قال الثعلبيُّ: معناه: إذ دَعَوَاهُ إلى الإيمان «3» ، أُفٍّ لَكُما ... الآية، انتهى، والَّذِي يعنى به الجِنْسِ على حَدِّ العموم في التي قبلها في قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ هذا قول الحسن وجماعة «4» ، ويشبه أَنَّ لها سبباً من رَجُلٍ قال ذلك لأبويه، فلما فرغ من ذكر المُوَفَّقِ، عَقَّبَ بذكر هذا العَاقِّ، وقد أنكرتِ عائِشَةُ أنْ تكونَ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بَكْر، وقالت: مَا نَزَلَ في آلِ أبي بَكْرٍ مِنَ القُرْآنِ غَيْرُ بَرَاءَتِي «5» . ت: ولا يُعْتَرَضُ عليها بقوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة: 40] ، ولا بقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ [النور: 22] كما بَيَّنَّا ذلك في غير هذه الآية، قال ع «6» :

_ (1) ذكره ابن كثير ولم يعزه إلى أحد. (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 61) . [.....] (3) ذكره ابن عطية (5/ 98) . (4) ينظر: المصدر السابق. (5) أخرجه الحاكم (4/ 481) ، والنسائي في «التفسير» (511) ، والخطابي في «غريب الحديث» (2/ 517) من طريق محمّد بن زياد عن عائشة. وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: محمّد لم يسمع من عائشة. (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 99) .

والأَصوبُ أنْ تكونَ الآية عامَّةً في أَهل هذه الصفات، والدليلُ القاطعُ على ذلك: قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ/ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ وكان عبدُ الرحمن بن أبي بكر- رضي اللَّه عنه- من أفاضل الصحابة، ومن أبطال المسلمين، ومِمَّنْ له في الإسلام غَنَاءٌ يوم اليمامة وغيره، وأُفٍّ بالتنوين قراءة نافع وغيره «1» ، والتنوينُ في ذلك عَلاَمَةُ تنكيرٍ كما تَسْتَطْعِمُ رَجُلاً حَدِيثاً غَيْرَ مُعَيَّنٍ فتقول: «إيهٍ» منونةً، وإنْ كان حديثاً مُشَاراً إليه قلت: «إيهِ» بغير تنوين. وقوله: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ المعنى: أَنْ أُخْرَجَ مِنَ القَبْرِ إلى الحَشْرِ، وهذا منه استفهامٌ بمعنى الهُزْءِ والاِستبعاد. وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي معناه: هَلَكَتْ ومَضَتْ، ولم يخرجْ منهم أحد، وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يعني: الوالدَيْنِ يقُولاَنِ له: وَيْلَكَ آمِنْ. وقوله: مَا هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: ما هذا القول الذي يتضمَّنُ البَعْثَ من القبور إلاَّ شيءٌ سَطَرَهُ الأَوَّلُون في كتبهم، يعني: الشرائعَ، وظاهر ألفاظ هذه الآية أَنَّها نزلَتْ في مُشَارٍ إليه، قال: وقِيلَ له، فنعى اللَّه إلينا أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها. وقوله: أُولئِكَ ظاهره أَنَّها إشارة إلى جنس، وحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: قول اللَّه: إنَّهُ يُعَذِّبُهُم قال أبو حَيَّان «2» فِي أُمَمٍ أي: في جملة أُمَمٍ ف «في» على بابها، وقيل: فِي بمعنى مع، وقد تقدم ذلك، انتهى. وقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يقتضى أَنَّ الجِنَّ يموتون، وهكذا فَهِمَ الآية قتادة «3» ، وقد جاء حديثٌ يقتضى ذلك. وقوله سبحانه: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ يعني: المحسنين والمُسِيئِين، قال ابن زيد: ودرجات المحسنين تذهبُ/ عُلْواً، ودرجاتُ المسيئين تذهب سُفْلاً «4» ، وباقي الآية بَيِّنٌ في أنّ كلّ امرئ يجتني ثَمَرَةَ عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أو شَرٍّ، ولا يظلم في مجازاته.

_ (1) وقرأ بها حفص. ينظر: «السبعة» (597) ، و «الحجة» (6/ 185) ، و «إعراب القراءات» (2/ 317) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 471) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 62) . (3) أخرجه الطبري (11/ 288) برقم: (31278) ، وذكره ابن عطية (5/ 100) . (4) أخرجه الطبري (11/ 288) برقم: (31278) ، وذكره ابن عطية (5/ 100) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 20 إلى 22]

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 20 الى 22] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) وقوله عز وجل: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ... الآية، المعنى: واذكر يومَ يُعْرَضُ، وهذا العرض هو بالمباشرة أَذْهَبْتُمْ أي: يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا و «الطَّيِّبَاتُ» هنا: المَلاَذُّ، وهذه الآية، وإنْ كانت في الكُفَّار، فهي رادعة لأُولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمالِ الطَّيِّبَاتِ ومن ذلك قولُ عُمَرَ- رضي اللَّه عنه-: أتَظُنُّونَ أَنَّا لا نَعْرِفُ طَيِّبَ الطَّعَامِ؟ ذلك لُبَابُ البُرِّ بِصِغَارِ المعزى، ولكنِّي رأيتُ اللَّه تعالى نعى على قومٍ أَنَّهم أَذْهَبُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حياتِهِمُ الدنيا، ذكَرَ هذا في كلامِهِ مع الرَّبيع بْنِ زِيَادٍ «1» ، وقال أيضاً نحو هذا لخالد بن الوَلِيدِ حينَ دَخَلَ الشَّامَ، فَقُدِّمَ إليه طعام طَيِّبٌ، فقال عمر: هذا لنا، فما لفقراءِ المسلمينَ الَّذِينَ ماتوا ولم يَشْبَعُوا من خُبْزِ الشَّعِير؟ فقال خالدٌ: لَهُمُ الجَنَّةُ، فبكى عُمَرُ، وقال: لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا في الحُطَامَ، وذَهَبُوا بالجَنَّةِ- فَقَدْ بَانُوا بُوْناً بَعِيداً «2» ، وقال جابرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: اشتريت لحماً بدرهم، فرآني عمر، فقال: أو كلّما اشتهى أَحَدُكم شَيْئاً اشتراه فأكَلَهُ؟! أما تخشى أنْ تكون من أهل هذه الآية، وتلا: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا «3» ت: والآثار في هذا المعنى كثيرةٌ جِدًّا، فمنها ما رواه أبو داود في سُنَنِهِ، عن عبد اللَّه بن بُرَيْدَةَ أَنَّ رجُلاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رَحَلَ إلى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وهو بِمَصْرَ، فَقَدِمَ عليه، فقال: أَمَا إنِّي لم آتِكَ زَائِراً/ ولكنْ سَمِعْتُ أَنا وأَنْتَ حَدِيثاً مِنْ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رَجَوْتُ أَنْ يكونَ عندَكَ منْهُ عِلْمٌ، قال: ما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: فمالي أَرَاكَ شَعْثاً وأَنْتَ أَمِيرُ الأَرْضِ؟! قال: إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان ينهى عن كثيرٍ من الإرفَاهِ «4» ، قال: فما لي لا أرى عَلَيْكَ حِذَاءً؟ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يأمرنا أَنْ نَحْتَفِيَ أحياناً، وروى أبو داوُدَ عَنْ أَبي أُمَامَةَ قال: ذكر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، يوما عنده الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَلاَ تَسْمَعُونَ أَنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ؟ إِنَّ البذاذة من

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 101) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 101) . (3) ينظر: المصدر السابق. (4) أخرجه أبو داود (2/ 474) كتاب «الترجل» باب: (1) (4160) .

الإيمَانِ، إن الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ» «1» قال أبو داوُدَ: يعني: التَّقَحُّلَ، وفسر أبو عمر بن عبد البَرِّ: «البَذَاذَةَ» بِرَثِّ الْهَيْئَةِ، ذكر ذلك في «التمهيد» ، وكذلك فَسَّرَهَا غيره، انتهى، وروى ابن المبارك في «رَقَائِقِهِ» من طريق الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ خَرَجَ في أَصْحَابِهِ إلَى بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَقَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنْهُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُم! ثُمَّ أَقْبَلَ على أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: هَؤُلاَءِ خَيْرٌ مِنْكُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إخْوانُنَا، أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا، وَهَاجَرْنَا كَمَا هَاجَرُوا، وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا، وَأَتَوا على آجَالِهِمْ فَمَضَوْا فِيهَا وَبَقِينَا في آجالِنَا، فَمَا يَجْعَلُهُمْ خَيْراً مِنَّا؟! قال: هَؤُلاَءِ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَخَرَجُوا وَأَنا الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ، وإنَّكُمْ قَدْ أَكَلْتُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ، وَلاَ أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قال: فَلَمَّا سَمِعَهَا الْقَوْمُ عَقَلُوهَا وَانْتَفَعُوا بِهَا، وَقَالُوا: إنَّا لَمُحاسَبُونَ بِمَا/ أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا، وَإنهُ لَمُنْتَقَصٌ بِهِ مِنْ أُجُورِنَا» «2» انتهى،، ومنها حديثُ ثَوْبَانَ في «سنن أَبي دَاوُدَ» : قال ثَوْبَانُ: كانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذَا سَافَرَ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ بِإنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ فَاطِمَةَ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَاطِمَةَ، فَقَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ، وَقَدْ عَلَّقَتْ مِسْحاً أوْ سِتْراً على بَابِهَا، وَحَلَّتِ الحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قُلْبَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَظَنَّتْ أَنَّما مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَا رأى فَهَتَكَتِ السِّتْرَ، وَفَكَّتِ القُلْبَيْنِ عَنِ الصَّبِيَّيْنِ وَقَطَعَتْهُمَا عَنْهُمَا، فانطلقا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَبْكِيَانِ، فَأَخَذَهُمَا مِنْهُمَا، وَقَالَ: يَا ثَوْبَانُ، اذهب بِهِمَا إلَى آلِ فُلاَنٍ إنَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حَيَاتِهُمْ الدُّنْيَا، يَا ثَوْبَانُ، اشتر لِفَاطِمَةَ قَلاَدَةً مِنْ عَصْبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» انتهى «3» ، - ص-: قرأ الجمهور: «أَذْهَبْتُمْ» على الخبر، أي: فيقال لهم: أذهبتم طَيِّبَاتكم، وابن كثير بهمزة بعدها مَدَّة مُطَوَّلَةً، وابن عامر بهمزتين حقّقها ابن ذَكْوَانَ، ولَيَّنَ الثانيةَ هشامٌ وابن كثير في روايةٍ «4» ، والاستفهامُ هنا على معنى التوبيخ والتقريرِ، فهو خبر في المعنى، ولهذا حَسُنَتِ الفاء في قوله: فَالْيَوْمَ، ولو كان استفهاما محضا لما دخلت الفاء، انتهى، وعَذابَ الْهُونِ هو الذي اقترن به هوانٌ، فالهُونُ والهوان بمعنى.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 474) كتاب «الترجل» باب: (1) (4161) ، والحميدي (1/ 173) (357) ، وابن ماجه (2/ 1379) كتاب «الزهد» باب: من لا يؤبه له (4118) ، والحاكم (1/ 9) . (2) أخرجه ابن المبارك (1/ 171) برقم: (498) . [.....] (3) أخرجه أبو داود (2/ 486- 487) كتاب «الترجل» باب: ما جاء في الانتفاع بالعاج، (4213) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 43) ، وعزاه إلى أحمد، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (4) ينظر: «الحجة» (6/ 188) ، و «إعراب القراءات» (2/ 320) ، و «معاني القراءات» (2/ 381) ، و «العنوان» (175) ، و «حجة القراءات» (665) ، و «إتحاف» (2/ 472) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 23 إلى 26]

ثم أمر تعالى نِبِيَّه بذكر هود وقومه عادٍ على جهة المثال لقريشٍ، وقد تقدَّم قَصَصَ عادٍ مُسْتَوفًى في «سورة الأعراف» ، فلينظر هناك، والصحيحُ من الأقوال أَنَّ بلادَ عادٍ كانت باليمن، ولهم كانَتْ إرَمُ ذاتُ العمادِ، وبِالْأَحْقافِ: جَمْعُ «حِقْفٍ» وهو الجبل المستطيل المُعْوَجُّ/ من الرَّمْلِ. وقوله سبحانه: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ خَلَتِ معناه: مضت إلى الأرض الخلاء، والنُّذُرُ جمع نَذِيرٍ، وقولهم: لِتَأْفِكَنا معناه: لِتَصْرِفَنَا، وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا تصميم منهم على التكذيب، وتعجيز له في زعمهم. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 23 الى 26] قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وقوله سبحانه: قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ... الآية، المعنى: قال لهم هود: إنَّ هذا الوعيد ليس من قِبَلِي، وإنما الأمر فيه إلى اللَّه، وعِلْمُ وقته عنده، وإنَّما عَلَيَّ أَنْ أُبَلِّغَ فقطْ، والضميرُ في رَأَوْهُ يحتمل أنْ يعودَ على العذاب، ويحتمل أنْ يعودَ على الشيء المرئِيِّ الطالِعِ عليهم، وهو الذي فَسَّرَهُ قوله: عارِضاً و «العَارِض» : هو ما يَعْرِضُ في الجَوِّ من السحاب المُمْطِر قال ابن العربيِّ في «أحكامه» عند تفسيره قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] : كلَّ شيء عرضٌ، فقد مَنَعَ، ويقال لِمَا عَرَضَ في السَّمَاء من السحَابِ: «عَارِضٌ» لأَنَّه مَنَعَ من رؤيتها ومن رؤية البدر والكواكب، انتهى، ورُوِيَ في معنى قوله: مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أَنَّ هؤلاء القومَ كانوا قد قَحَطُوا مُدَّةً، فطلع هذا العارض من جهة كانوا يُمْطَرُونَ بها أبداً، جاءهم من قِبَلِ وادٍ لهم يسمونه المُغِيثَ، قال ابن عباس: ففرحوا به، وقالوا: هذا عارضٌ مُمْطِرُنا، وقد كذب هودٌ فيما أوعد به، فقال لهم هود ع: ليس الأمر كما رأيتم، بل هو ما/ استعجلتم به في قولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأحقاف: 22] ، ثم قال: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ وفي قراءة ابن مسعود «1» : «مُمْطِرُنَا قَالَ هُودٌ: بل هو ريح» بإظهار المقدّر وتُدَمِّرُ معناه:

_ (1) ينظر: «المحتسب» (2/ 265) ، و «الكشاف» (4/ 307) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 102) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 27 إلى 28]

تُهْلِكُ، و «والدمار» : الهلاك، وقوله: كُلَّ شَيْءٍ ظاهره العموم، ومعناه الخُصُوصُ في كُلِّ ما أُمِرَتْ بتدميره، وروي أَنَّ هذه الريح رمتهم أجمعين في البَحْرِ. ثم خاطب جلَّ وعلا قريشاً على جهة الموعظة بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ فَ «مَا» بمعنى «الذي» ، و «إن» نافية وقعتْ مكان «مَا» لمختلف اللفظ، ومعنى الآية: ولقد أعطيناهُمْ من القُوَّةِ والغنى والبَسْطِ في الأموال والأجسامِ- ما لم نُعْطِكُمْ، ونالهم بسَبَبِ كُفْرِهِمْ هذا العَذَابُ فأنتم أحرى بذلك إذا تماديتم في كفركم، وقالت فرقة: «إنْ» شرطية، والجواب محذوف، تقديره: في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طغيتم، وهذا تَنَطُّعٌ في التأويل، و «ما» نافية في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ ويقوِّي ذلك دخولُ «مِنْ» في قوله: مِنْ شَيْءٍ، وقالت فرقةٌ: بل هي استفهام على جهة التقرير ومِنْ شَيْءٍ- على هذا- تأكيدٌ وهذا على غير مذهب سيبَوَيْهِ في دخول «مِنْ» في الجواب. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 27 الى 28] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وقوله عز وجل: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ... الآية، مخاطبة لقريشٍ على جهة التمثيلِ وَصَرَّفْنَا الْآياتِ يعني: لهذه القرى. وقوله سبحانه: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ ... الآية، يعني: فهلا نَصَرَتْهُمْ أصنامُهُمْ، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: انتلفوا عنهم وقت/ الحاجة وَذلِكَ إِفْكُهُمْ إشارةٌ إلى قولهم في الأصنامِ: إنها آلهةٌ. وقوله: وَما كانُوا يَفْتَرُونَ يحتمل أَنْ تكون «ما» مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائد، ويحتمل أَنْ تكون بمعنى «الذي» فهناك عائد محذوف، تقديره: يفترونه. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 33] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لاَّ يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ... الآية، ابتداءُ وَصْفِ قِصَّةِ الجِنِّ ووفادتهم على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختلفت الرُّوَاةُ هِنَا: هَلْ هذا الجِنُّ هُمُ الوَفْدُ أوِ

المُتَجَسِّسُونَ؟ واختلفتِ الرواياتُ أيضاً عنِ ابنِ مَسْعُودٍ وغيرهِ في هذا الباب. والتحرير في هذا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاءه نَفَرٌ من الجِنِّ دون أَنْ يَشْعُرَ بهم، وهم المتجسِّسون المتفرِّقون من أَجْلِ رَجْمِ الشُّهُبِ الذي حَلَّ «1» بِهِمْ، وهؤلاءِ هُمُ المرادُ بقوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ... [الجن: 1] الآية، ثم بعد ذلك وفد عليه وَفْدُهُمْ حَسْبَمَا وَرَدَ في ذلك من الآثار «2» . وقوله: نَفَراً يقتضي أَنَّ المصروفين كانوا رجالاً لا أنثى فيهم، والنَّفَرُ والرَّهْطُ هم: القوم الذين لا أنثى فيهم. وقوله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فيه تَأَدُّبٌ مع العلم، وتعليم كيف يُتَعَلَّمُ فَلَمَّا قُضِيَ أي: فرغ من تلاوة القرآنِ واستماع الجن، قال جابر بن عبد الله وغيره: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا قرأ عليهم سورة «الرحمن» فكان إذَا قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] قالوا: لا بشَيْءٍ مِنْ آلائك نُكَذِّبُ، رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، ولَمَّا وَلَّتْ هذه الجملةُ تفرَّقَتْ/ على البلاد مُنْذِرَةً لِلْجِنِّ، وقولهم: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً يَعْنُونَ: القرآن. ت: وقولهم: مِنْ بَعْدِ مُوسى يحتمل أَنَّهُمْ لم يعلموا بِعِيسَى قاله ابن عباس «3» ، أوْ أَنَّهم على دِينِ اليهودِ، قاله عطاء «4» نقل هذا الثعلبيّ، ويحتمل ما تقدّم ذكره

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 537- 538) كتاب «التفسير» باب: سورة قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ (4921) ، ومسلم (2/ 403) - النووي، كتاب «الصلاة» باب: الجهر بالقراءة في الصبح (149، 449) ، والترمذي (5/ 426) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الجن (3323) ، وأحمد (1/ 252) . (2) أخرجها البخاري (7/ 208) كتاب «مناقب الأنصار» باب: ذكر الجن، وقول الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ (3860) . وعن عامر أنه سأل علقمة: «هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن؟ ... » الحديث. أخرجه مسلم (2/ 404) - النووي، كتاب «الصلاة» باب: الجهر بالقراءة في الصبح (150/ 450) ، وأبو داود (1/ 69) كتاب «الطهارة» باب: الوضوء بالنبيذ (85) نحوه، والترمذي (1/ 29) كتاب «الطهارة» باب: ما جاء في كراهية ما يستنجى به (18) نحوه، (5/ 382) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الأحقاف (3258) نحوه. وروي من حديث ابن عبّاس: أخرجه مسلم (2/ 405) - النووي، كتاب «الصلاة» باب: الجهر بالقراءة في الصبح (151/ 450) ، وأخرجه أحمد (1/ 398) ، وابن ماجه (1/ 135) ، كتاب «الطهارة وسننها» باب: الوضوء بالنبيذ (384) نحوه، وأبو داود (1/ 69) كتاب «الطهارة» باب: الوضوء بالنبيذ (84) مختصرا نحوه. (3) ذكره ابن عطية (5/ 106) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 105) .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 34 إلى 35]

في غير هذا، وأَنَّهم ذكروا المُتَّفَقَ عليه، انتهى. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وهي التوراة والإنجيل، وداعي الله هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم وَآمِنُوا بِهِ أي: باللَّه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ... الآية. ت: وذكر الثعلبيُّ خلافاً في مُؤمني الجِنِّ، هل يُثَابُونَ على الطاعةِ ويدخُلُونَ الجَنَّة، أو يُجَارُونَ من النار فقطْ؟ اللَّه أعلم بذلك، قال الفخر: والصحيحُ أَنَّهم في حُكْمِ بني آدم يستحِقُّون الثوابَ على الطاعة، والعقابَ على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى قال الضَّحَّاكُ: يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون «1» ، انتهى، وقد تَقَدَّمَ ما نقلناه عن البخاريِّ في سورة الأنعام أَنَّهُمْ يُثَابُونَ. وقوله سبحانه: وَمَنْ لاَّ يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ ... الآية: يحتملُ أَنْ يكون مِنْ تمامِ كلام المُنْذِرِين، ويحتمل أَنْ يكونَ من كلام اللَّه عزَّ وجلَّ، و «المُعْجِزُ» : الذاهبُ في الأَرض الذي يُعْجَزُ طالِبَهُ فلا يَقْدِرُ عليه. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا الضمير لقريش وذلك أَنَّهم أنكروا البعث وعَوْدَ الأجساد، وهُمْ مع ذلك معترِفُونَ بأَنَّ اللَّه تعالى خَلَقَ السموات والأَرْضَ، فَأُقِيمَتْ عليهم الحُجَّةُ مِنْ أقوالهم- ص-: قال أبو حَيَّان «2» : والباء في قوله: بِقادِرٍ زائدة، انتهى. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 34 الى 35] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ المعنى: واذكرْ يومَ، وهذا وعيدٌ لكفَّار قريشٍ وغيرهم، / وهذا عَرْضُ مباشرةٍ. وقوله: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ أي: يقال لهم: أليس هذا بالحق؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا فصدَّقوا بذلك حيث لا ينفعهم التصديقُ، فَرُوِيَ عن الحَسَنِ أنه قال: إنَّهم لَيُعَذَّبُونَ في النارِ، وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أَنَّهُ العَدْل «3» . واخْتُلِفَ في تعيين أُولى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، ولا محالةَ أنّ لكل نبيّ ورسول عزما وصبرا.

_ (1) ينظر: «تفسير البغوي» (4/ 175) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 66) . (3) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 107) .

وقوله: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ معناه: ولا تستعجلْ لهم عذاباً فإنَّهم إليه صائرون، ولا تَسْتَطِلْ تعميرَهُمْ في هذه النِّعْمَةِ فَإنَّهم يوم يَرَوْنَ العذاب كأنهم لَم يَلْبَثُوا في الدنيا إلاَّ ساعةً لاِحتقارهم ذلك لأَنَّ المنقضيَ من الزمان يصير عَدَماً. ت: وإذا علمتَ- أَيُّها الأخُ- أَنَّ الدنيا أضغاثُ أحْلاَم، كان من الحزم اشتغالُكَ الآنَ بتَحْصِيلِ الزادِ لِلْمَعَاد، وحِفْظِ الحَواسِّ، ومراعاةِ الأنفاس، ومراقبة مَوْلاَك، فَآتَّخِذْهُ صاحباً، وذَرِ الناس جانباً قال أبو حامد الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه-: اعلم أَنَّ صاحبك الذي لا تفارقُهُ في حَضَرِكَ وسَفَرِكَ، ونَوْمِكَ ويَقَظَتِكَ، بل في حياتك، وموتك- هو رَبُّك، ومولاك، وسَيِّدُك، وخالقك، ومهما ذكرتَهُ فهو جَلِيسُكَ إذ قال تعالى: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» ، ومهما انكسر قلبُكَ حُزْناً على تَقْصِيرِكَ في حق دِينِكَ، فهو صَاحِبُكَ ومُلاَزِمُكَ إذْ قال: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبهمْ مِنْ أَجْلِي» «1» فلو عرفته يا أخي حَقَّ معرفتِهِ لاَتَّخذْتَهُ صَاحِباً، وتركْتَ الناَّسَ جانباً، فإنْ لم تَقْدِرْ/ على ذلك في جميع أوقاتك، فَإيَّاكَ أنْ تُخْلِيَ ليلَكَ ونهارَكَ عَنْ وَقْتٍ تخلُو فيه بموْلاَكَ، وتَلذَّذُ بمناجاتِهِ، وعند ذلك فعليكَ بآدَابِ الصُّحْبَةِ مع اللَّه تعالى، وآدابُهَا: إطراقُ الطَّرْفِ، وجَمْعُ الهَمِّ، ودَوَامُ الصَّمْتِ، وسُكُونُ الجَوَارِحِ، ومُبَادَرَةُ الأَمْرِ، واجتنابُ النَّهْي، وقِلَّةُ الاِعتراضِ عَلَى الْقَدَرِ، ودَوَامُ الذِّكْرِ باللسان، ومُلاَزَمَةُ الفِكْر، وإيثارُ الحَقِّ، واليَأْسُ من الخَلْقِ، والخضوعُ تحْتَ الهيبَةِ والانْكِسَارُ تحت الحياء، والسُّكُونُ عن حِيَلِ الكَسْب ثِقَةً بالضَّمَان، والتَوَكُّلُ على فَضْل اللَّه معرفةً بحسن اختياره وهذا كله ينبغي أنْ يكون شعارَكَ، في جميع لَيْلِكَ ونَهَارِك، فإنَّهُ آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كُلُّهم يفارقُونَكَ في بَعْضِ أوقاتك، انتهى من «بداية الهداية» . وقوله: بَلاغٌ يحتمل معانيَ: أحدُهَا: أَنْ يكون خبر مبتدإ محذوفٍ، أي: هذا إنذارٌ وتبليغٌ. ويحتمل أنْ يريد: كأنْ لم يلبثوا إلاَّ ساعةً كانَتْ بلاغَهُمْ، وهذا كما تَقُولُ: متاعٌ قليلٌ، وقيل غَيْرُ هذا، وقرأ أبو مجلز وغيره «2» : بَلاغٌ على الأمر، وقرأ الحسن بن أبي

_ (1) ينظر: «إتحاف السادة المتقين» للزبيدي (63) . (2) وقرأ بها أبو سراج الهذلي. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (140) ، و «المحتسب» (2/ 268) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 108) ، و «البحر المحيط» (8/ 68) ، و «الدر المصون» (6/ 145) .

الحَسَنِ: بَلاغٌ بالخفْضِ نعتاً ل نَهارٍ «1» . وقوله سبحانه: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ وقُرِىءَ شَاذاً «2» : فَهَلْ يُهْلَكُ ببناء الفعل للفاعل، وفي هذه الآية وعيدٌ مَحْضٌ، وإنذارٌ بَيِّنٌ وذلك أنّ الله عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئةَ بمثلها، وغفر الصغائر باجتنابِ الكبائرِ، ووعد الغفرانَ على التوبة، فلن يهلك على اللَّه إلاَّ هالَكَ كما قال صلّى الله عليه وسلّم، قال الثعلبيُّ: يقال: إن قوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أرجى آية في كتاب الله/ عزّ وجلّ للمؤمنين.

_ (1) وقرأ بها عيسى. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 108) ، و «البحر المحيط» (8/ 68) ، و «الدر المصون» (6/ 145) . (2) قرأ بها ابن محيصن، وروي عنه كسر اللام. قال أبو الفتح: وأما «يهلك» بفتح الياء واللام جميعا فشاذة، ومرغوب عنها، لأن الماضي هلك، فعل مفتوحة العين، ولا يأتي يفعل، بفتح العين فيهما جميعا إلا الشاذ. ينظر: «المحتسب» (2/ 268) ، و «مختصر الشواذ» ص: (141) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 108) ، و «البحر المحيط» (8/ 68) ، و «الدر المصون» (6/ 145) . [.....]

تفسير سورة محمد

تفسير سورة محمّد وهي مدنيّة [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) قوله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا: إشارةٌ إلى أهل مكّة الذين أخرجوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الآية: إشارةٌ إلى الأنصار الذين آووا، ونصروا، وفي الطائفتين نزلتِ الآيتان قاله ابن عباس ومجاهد «1» ، ثم هي بَعْدُ تَعُمّ كُلَّ مَنْ دخل تحت ألفاظها. وقوله: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أيْ: أَتْلَفَهَا، ولم يجعلْ لها نَفْعاً. ت: وقد ذكَرْنا في سورة «الصف» أنَّ اسم محمّد صلّى الله عليه وسلّم لم يَتَسَمَّ به أحدٌ قبله إلاَّ قَوْمٌ قليلُونَ، رجاءَ أَنْ تكونَ النُّبُوَّةُ في أبنائهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، قال ابن القَطَّانِ: وعن خَلِيفَةَ وَالِدِ أَبِي سُوَيْدٍ قال: سألْتُ محمَّدَ بْنَ عَدِيِّ بن أبي رَبِيعَةَ: كيف سَمَّاكَ أبوك محمَّداً؟ قال: سأَلتُ أبي عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فقال لي: كُنْتَ رَابِعَ أربعةٍ من بني غَنْمٍ أنا فيهم، وسفيانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ جَرِيرٍ، وأُمَامَةُ بْنُ هِنْدِ بْنِ خِنْدِف. ويزيدُ بنُ رَبِيعَةَ، فخرجْنا في سَفْرَةٍ نُرِيدُ ابنَ جَفْنَةَ مَلِكَ غَسَّانَ، فلما شارفنا الشام، نزلنا على غَدِيرٍ فيه شجراتٌ، وقُرْبَهُ شَخْصٌ نائمٌ، فتحدَّثْنَا فاستمع كلاَمَنَا، فَأَشْرَفَ علَيْنَا، فقال: إنَّ هذه لُغَةٌ، ما هي لغة هذه البلاد، فقلنا: نَحْنُ قومٌ من مُضَرَ، فقال: مِنْ أَيَّ المُضَرِيِّينَ؟ قلنا: من خِنْدِف، قال: إنَّهُ يُبْعَثُ فيكم خاتَمُ النبيِّين، فَسَارِعُوا إلَيْه، وخُذُوا بحظِّكُمْ منه تَرْشُدُوا، قلنا: ما اسمه؟ قال: محمَّد، فَرَجَعْنَا، فَوُلِدَ لِكُلِّ واحدٍ مِنَّا ابْنٌ سَمَّاه محمَّداً، وذكره

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 304) برقم: (31334) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 177) عن ابن عبّاس، وابن عطية (5/ 109) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 19) ، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه.

[سورة محمد (47) : الآيات 4 إلى 9]

المدائنيُّ، / انتهى. وقوله تعالى في المؤمنين: وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قال قتادة: معناه: حالهم «1» ، وقال ابن عباس: شأنهم «2» . وتحريرُ التفسيرِ في اللفظة أَنَّها بمعنى الفِكْرِ والموضعِ الذي فيه نظرُ الإنْسَانِ، وهو القلب، فإذا صَلُحَ ذلك منه، فقد صَلُحَ حالُهُ، فكأَنَّ اللفظة مُشِيرَةٌ إلى صلاح عقيدتهم، وغيرُ ذلك من الحال تَابِعٌ، فقولك: خَطَرَ في بالي كذا، وقولك: أصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ: المرادُ بهما واحدٌ ذكره المُبَرِّدُ، والبَالُ: مصدر كالحال والشأن، ولا يُسْتَعْمَلُ منه فِعْلٌ، وكذلك عُرْفُهُ لا يثنى ولا يُجْمَعُ، وقد جاء مجموعا شاذّا في قولهم: «بآلات» . والْباطِلَ هنا: الشيطانُ، وكُلُّ ما يأمر به قاله مجاهد «3» ، والْحَقَّ هنا: الشرع ومحمّد ع. وقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ: الإشارة إلى الأتباع المذكورين من الفريقين. [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) وقوله سبحانه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ... الآية: قال أَكْثَرُ العلماءِ: إنَّ هذه الآية وآيةَ السَّيْفِ، وهي قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] مُحْكَمَتَانِ، فقوله هنا: فَضَرْبَ الرِّقابِ بمثابة قوله هنالك: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وصرَّح هنا بذكر المَنِّ والفداء، ولم يُصَرِّحْ به هنالك، فهذه مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ، وهذا هو القولُ القويُّ، وقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ مصدر بمعنى

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 305) برقم: (31337- 31338) ، وذكره ابن عطية (5/ 109) ، وابن كثير (4/ 172) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 19) ، وعزاه إلى عبد بن حميد. (2) أخرجه الطبري (11/ 304) برقم: (31335) بمعناه، (31336) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (5/ 109) ، وابن كثير (4/ 172) . (3) أخرجه الطبري (11/ 305) برقم: (31340) ، وذكره ابن عطية (5/ 110) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 20) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

الفِعْل، أي: فاضربوا رقابهم وعَيَّنَ مِنْ أنواع القَتْلِ أَشْهَرَهُ، والمراد: اقتلوهم بأَيِّ وجه أَمكَنَ وفي «صحيح مسلم» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلهُ في النَّارِ أبدا» «1» . وفي «صحيح البخاري» عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا اغْبَرَّتْ/ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» «2» انتهى. والإثخان في القوم أنْ يكثر فيهم القتلى والجرحى، ومعنى: فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي: بمن لم يُقْتَلْ، ولم يترتَّب فيه إلاَّ الأسْرُ، ومَنًّا وفِدَاءً: مصدران منصوبانِ بفعلَيْن مُضْمَرَيْنِ. وقوله: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها معناه: حتى تذهبَ الحربُ وتزولَ أثقالُهَا، والأوزار: الأثقال ومنه قول عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكرِبَ: [من المتقارب] وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورَا «3» واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحربُ أوزارها، فقال قتادة: حتى يُسَلِّمَ الجميعُ «4» ، وقال حُذَّاقُ أهل النظر: حتى تغلبوهم وتَقْتُلُوهُمْ، وقال مجاهد: حتى ينزلَ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ «5» ، قال ع «6» : وظاهر اللفظ أَنَّهُ استعارةٌ يُرَادُ بها التزامُ الأمْرِ أبداً وذلك أَنَّ الحربَ بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلى يَوْمِ القيامةِ، وإنَّما تريد أنّك تفعله دائما.

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1505) كتاب «الإمارة» باب: من قتل كافرا ثم سدد، حديث (130/ 1891) ، وأحمد (2/ 397) ، والبيهقي (9/ 165) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (6/ 35) كتاب «الجهاد والسير» باب: من اغبرت قدماه في سبيل الله، وقول اللَّهَ عَزَّ وجلَّ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120] (2811) ، والبيهقي (9/ 162) كتاب «السير» باب: فضل المشي في سبيل الله. (3) البيت للأعشى ميمون بن قيس، وهو في «ديوانه» (71) ، «مشاهد الإنصاف» (1/ 251) ، «التهذيب» (13/ 244) (وزر) ، «اللسان» (وزر) ، و «البحر المحيط» (8/ 75) منسوبا لعمرو بن معدي كرب، وقال: أنشده ابن عطية لعمرو هذا، وأنشده الزمخشري للأعشى. ينظر: «الكشاف» (4/ 317) ، و «الدر المصون» (6/ 147) . (4) أخرجه الطبري (11/ 308) برقم: (31354- 31355) ، وذكره ابن عطية (5/ 111) ، وذكره ابن كثير (4/ 173) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 21) ، وعزاه إلى عبد بن حميد. (5) أخرجه الطبري (11/ 308) برقم: (31353) ، وذكره ابن عطية (5/ 111) ، وابن كثير (4/ 183) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 21) ، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد. (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 111) .

وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي: بعذابٍ مِنْ عنده، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين، وأنْ يَبْلُوَ بعضَ الناس ببعضٍ، وقرأ الجمهور: قاتلوا وقرأ عاصم بخلاف عنه: قتلوا- بفتح القاف والتاء-، وقرأ أبو عمرو وحَفْصٌ: قُتِلُوا- بضم القاف وكسر التاء «1» -، قال قتادة: نزلَتْ هذه الآيةُ فيمَنْ قُتِلَ يوم أُحُدٍ من المؤمنين «2» . وقوله سبحانه: سَيَهْدِيهِمْ أي: إلى طريقِ الجَنَّةِ. ت: ذكر الشيخ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ أنَّ مَيْسَرَةَ الخادمَ قال: غزونا في بعض الغَزَوَاتِ، فإذا فتًى إلى جانِبي، وإذا هو مُقَنَّعٌ بالحديد، فَحَمَلَ على/ المَيْمَنَةِ، فَثَنَاها، ثُمَّ على المَيْسَرَةِ حتى ثَنَاهَا، وحَمَلَ عَلَى القَلْبِ حتى ثناه، ثم أنشأ يقول: [الرجز] أَحْسِنْ بِمَوْلاَكَ سَعِيدُ ظَنَّا ... هَذا الَّذِي كُنْتَ لَهُ تمنى تَنَحِّ يَا حُورَ الْجِنَانِ عَنَّا ... مَالَكِ قَاتَلْنَا وَلاَ قُتِلْنَا لَكِنْ إلى سَيِّدِكُنَّ اشتقنا ... قَدْ عَلِمَ السِّرَّ وَمَا أَعْلَنَّا قال: فحمل، فقاتل، فقتل منهم عددا، ثم رجع إلى مَصَافِّهِ، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ، فإذا هو- رضي اللَّه تعالى عنه- قد حمل على الناس، وأنشأ يقول: [الرجز] قَدْ كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائِي لَمْ يَخِبْ ... أَلاَّ يَضِيعَ الْيَوْمَ كَدِّي وَالطَّلَبْ يَا مَنْ مَلاَ تِلْكَ الْقُصُورَ باللُّعَبْ ... لَوْلاَكَ مَا طَابَتْ وَلا طَابَ الطَّرَبْ ثم حَمَلَ- رضي اللَّه عنه- فقاتل، فَقَتَلَ منهم عَدَداً، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو فحَمَلَ- رضي اللَّه عنه- في المرة الثالثة، وأنشأ يقول: [الرجز] يَا لُعْبَةَ الخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسمعي ... مَالَكِ قَاتَلْنَا فَكُفِّي وارجعي ثُمَّ ارجعي إلَى الْجِنَانِ واسرعي ... لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي فقاتل- رضي اللَّه عنه- حتى قُتِلَ،، انتهى من ابن عَبَّاد شارح «الحكم» .

_ (1) ينظر: «السبعة» (600) ، و «الحجة» (6/ 190) ، و «إعراب القراءات» (2/ 323) ، و «معاني القراءات» (2/ 385) ، و «شرح الطيبة» (6/ 7) ، و «العنوان» (176) ، و «حجة القراءات» (666) ، و «شرح شعلة» (585) ، و «إتحاف» (2/ 475) . (2) أخرجه الطبري (11/ 309) برقم: (31358- 31359) ، وذكره ابن عطية (5/ 111) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 23) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.

وقوله تعالى: عَرَّفَها لَهُمْ قال أبو سعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وقتادة، ومجاهد «1» : معناه: بَيَّنَهَا لهم، أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّة أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ في الدّنْيَا» «2» قال القرطبيُّ في «التذكرة» : وعلى هذا القولِ أكثرُ المفسِّرين قال: وقيل: إنَّ هذا التعريفَ إلى المنازِلِ هو بالدليلِ، وهو المَلَكُ المُوَكَّلُ بِعَمَلِ العَبْدِ، يمشي بين يَدَيْهِ،، انتهى، وقالت فرقة: معناه: سَمَّاها لهم، ورَسَمَهَا كُلُّ منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة: معناه/ شَرَّفَهَا لهم ورفعها وعلاَّها، وهذا من الأَعْرَافِ التي هي الجبال، ومنه أعرافُ الخَيْلِ، وقال مُؤَرِّجٌ وغيره: معناه: طَيَّبَهَا مأخوذٌ من العَرْفِ، ومنه طَعَامٌ مُعَرَّفٌ، أي: مُطَيَّبٌ، وعَرَّفْتُ القِدْرَ: طَيَّبْتُها بالمِلْحِ والتَّابِلِ، قال أبو حيَّان «3» : «وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ» البال: الفِكْرُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، انتهى. وقوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: دينَ اللَّه يَنْصُرْكُمْ بخلق القوَّةِ لكم وغَيْرِ ذلك من المعاون، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أي: في مواطن الحَرْبِ، وقيل: على الصراط في القيامة. وقوله: فَتَعْساً لَهُمْ معناه: عِثَاراً وهَلاَكاً لهم، وهي لفظة تقالُ للعَاثِرِ، إذا أُرِيدَ به الشَّرُّ قال ابن السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أنْ يَخِرَّ على وجهه. وقوله تعالى: كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يريد: القرآن فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ قال ع «4» : ولا خلافَ أَنَّ الكافر له حَفَظَةٌ يكتبون سَيِّئاتِهِ، واختلف الناسُ في حَسَنَاتِهِمْ، فقالت فرقة: هي مُلْغَاةٌ يثابُونَ عليها بِنِعَمِ الدنيا فقَطْ، وقالت فرقة: هي مُحْصَاةٌ من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أَنَّهُ قد يُسْلِمُ فينضافُ ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحدُ التأويلَيْنِ في قوله صلّى الله عليه وسلّم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «أَسْلَمْتَ على مَا سَلَفَ لك من خير» «5» .

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 309- 310) برقم: (31360، 31362) ، وذكره ابن عطية (5/ 111) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 23) ، وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد، وقتادة. (2) أخرجه البخاري (11/ 403) كتاب «الرقاق» باب: القصاص يوم القيامة، وهي الحاقة، لأن فيها الثواب، وحواقّ الأمور، برقم: (6535) . [.....] (3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 70) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 112) . (5) أخرجه البخاري (4/ 480) كتاب «البيوع» باب: شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (2220) ، (5/ 200) كتاب «العتق» باب: عتق المشرك (2538) ، (3/ 354) كتاب «الزكاة» باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم (1436) ، (10/ 438) كتاب «الأدب» باب: من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم-

[سورة محمد (47) : الآيات 10 إلى 12]

[سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 12] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وقوله عز وجل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ: توقيف لقريش، وتوبيخٌ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريدُ: ثمودَ وقَوْمَ شُعَيْبٍ وغيرهم، والدمار: الإفساد، وهَدْمُ البناء، وإذهابُ العُمْرَانِ، والضميرُ في قوله: أَمْثالُها يَصِحُّ أَنْ يعودَ على العَاقِبَةِ، ويَصِحُّ أَنْ يعود على الفَعْلَةِ التي يتضمَّنها قوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية، المَوْلَى: الناصِرُ المُوَالِي، قال قتادة: نزلَتْ هذه/ الآيةُ يَوْمَ أُحُدٍ «1» ، ومنها انتزع النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم رَدَّهُ على أبي سُفْيَانَ حينَ قال: «قُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مولى لَكُمْ» «2» . وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي: أكلاً مجرَّداً عن الفِكْرِ والنظر، وهذا كما تقول: الجاهلُ يعيشُ كما تعيشُ البهيمةُ، والمعنى: يعيشُ عَدِيمَ الفَهْمِ والنَّظَرِ في العَوَاقِبِ. [سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 15] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وقوله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ يعني: مَكَّة الَّتِي أَخْرَجَتْكَ معناه: وَقْتَ الهِجْرَةِ، ويقال: إنَّ هذه الآيةَ نزلت إثر خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّة،

_ - (5992) ، ومسلم (1/ 387- 388) - الأبي، كتاب «الإيمان» باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده (194/ 123) ، وأحمد (3/ 402، 434) ، والبيهقي (9/ 123) كتاب «السير» باب: ترك أخذ المشركين بما أصابوا، وابن حبان (2/ 37- 38) كتاب «البر والإحسان» باب: ما جاء في الطاعات وثوابها، ذكر إطلاق اسم الخير على الأفعال الصالحة إذا كانت من غير المسلمين (329) ، والحميدي (1/ 253) (554) ، والطبراني في «الكبير» (3/ 210) (3076) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (10/ 453- 454) ، كتاب «الجامع» باب: حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم (19685) . (1) ذكره ابن عطية (5/ 113) . (2) تقدم.

وقيل غَيْرُ هذا «1» . وقوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ... الآية، توقيفٌ وتقريرٌ، وهي معادلةٌ بين هذين الفريقين، واللفظ عامّ لأهل هاتين الصفتين غابر الدّهر، وعَلى بَيِّنَةٍ أي: على يقين وطريق واضحةٍ وعقيدة نَيِّرَةٍ بَيِّنَةٍ. وقوله سبحانه: مَثَلُ الْجَنَّةِ ... الآية، قال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ وغيره مَثَلُ معناه: صفةٌ كأَنَّهُ قال: صفة الجنة: ما تسمَعُونَ فيها كذا وكذا. وقوله: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ معناه: غيرُ مُتَغَيِّرٍ قاله ابن عباس وقتادة «2» ، وسواءٌ أنتن أو لم يُنْتِنْ. وقوله في اللبن: لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ: نَفْيٌ لجميعِ وجوهِ الفَسَادِ فيه. وقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ جمعتْ طِيبَ الطَّعْمِ وَزَوالَ الآفاتِ من الصُّدَاعِ وغيره، وتصفيةُ العَسَلِ مُذْهِبَةٌ لمومه وَضَرَره. ت: ورُوِّينَا في «كتاب التِّرْمِذِيِّ» عن حَكِيمِ بن مُعَاوِيَةَ عنِ أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ في الجَنَّةِ بَحْرَ المَاءِ، وَبَحْرَ الْعَسَلِ، وَبَحْرَ اللَّبَنِ، وَبَحْرَ الخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الأَنْهَارُ بَعْدُ» «3» قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، انتهى. وقوله: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي: من هذه الأنواع/ لكنها بعيدة الشبه تلك لا عَيْبَ فيها ولا تَعَبَ. وقوله: وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ معناه: وتنعيمٌ أعطته المغفرةُ وَسَّبَّبَتْهُ، وإلاَّ فالمغفرة إنَّما هي قبل دخول الجنّة.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 313) برقم: (31372) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 24) ، وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (11/ 313- 314) برقم: (31373- 31347) بمثله ومعناه، وذكره ابن عطية (5/ 114) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 25) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة بمعناه. (3) أخرجه الترمذي (4/ 699) كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء في صفة أنها الجنة (2571) ، وأحمد (5/ 5) ، والبيهقي في «البعث والنشور» (264) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 25) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن مردويه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة محمد (47) : الآيات 16 إلى 21]

وقوله سبحانه: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ... الآية، قبله محذوفٌ، تقديره: أَسُكَّانُ هذه، أو تقديره: أهؤلاءِ المتقون كَمَنْ هو خالد في النار. [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 21] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ يعني بذلك: المنافقين حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً عَلَى جِهَةِ الاسْتِخْفَاف، ومنهم مَنْ يقوله جهالةً ونسيانا، وآنِفاً معناه: مبتدئاً، كأَنَّه قال: ما القولُ الذي ائتنفه الآنَ قَبْلَ انفصالنا عَنْهُ، والمفسِّرون يقولون: آنِفاً معناه: الساعةَ الماضيةَ، وهذا تفسيرٌ بالمعنى. ت: وقال الثعلبيّ: آنِفاً أي: الآنَ، وأصله الابتداء، قال أبو حَيَّان «1» : آنِفاً بالمدِّ والقَصْرِ: اسمُ فاعِل، والمُسْتَعْمَلُ من فعله: ائتنفت، ومعنى: آنِفاً مبتدئاً، فهو منصوبٌ على الحال، وأعربه الزَّمْخَشْرِيُّ ظَرْفاً، أي: الساعةَ، قال أبو حَيَّان «2» : ولا أعلم أحداً من النحاة عَدَّه مِنَ الظُّرُوفِ، انتهى، وقال العراقيّ: آنِفاً أي: الساعة. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً أي: زادهم اللَّه هدى، ويحتمل: زادهم استهزاءُ المنافقين هُدًى، قال الثعلبيُّ: وقيل: زَادَهُمْ ما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هُدًى قال ع «3» : الفاعل في وَآتاهُمْ يتصرَّفُ القولُ فيه بحسب التأويلاتِ المذكورةِ، وأقواها أنَّ الفاعِلَ اللَّهُ تعالى، وَآتاهُمْ معناه: أعطَاهُمْ، أي: جعلهم مُتَّقِينَ. وقوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ يريد: المنافقين، والمعنى: فهل ينتظرون؟ وبَغْتَةً معناه/ فجأة. وقوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي: فينبغي الاستعدادُ والخوفُ منها، والذي جاء من

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 79) . (2) ينظر: المصدر السابق. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 115) .

أشراط الساعة: محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأنّه آخر الأنبياء، وقال ع: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» «1» والأحاديثُ كثيرةٌ في هذا الباب. وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ... الآية: إضرابٌ عن أمْرِ هؤلاء المنافقين، وذكر الأَهَمِّ من الأمر، والمعنى: دُمْ على عِلْمِكَ، وهذا هو القانُونُ في كُلَّ مَنْ أُمِرَ بشيْء هو مُتَلَبِّسٌ به، وكُلُّ واحدٍ مِنَ الأُمَّةِ داخلٌ في هذا الخِطابِ، وعن أبي هُرَيْرة قال: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا قَالَ عَبْدُ: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، حتى تُفْضِيَ إلَى الْعَرْشِ مَا اجتنبت الكَبَائِرُ» «2» ، رواه الترمذي والنسائيّ، وقال

_ (1) يروى هذا الحديث عن جمع من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وسهل بن سعد. فأما حديث أنس رضي الله عنه: أخرجه البخاري (11/ 355) كتاب «الرقائق» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» (6504) ، ومسلم (4/ 2268) ، كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب: قرب الساعة (133- 134/ 2951) ، والترمذي (4/ 496) كتاب «الفتن» باب: ما جاء في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ- يعني السبابة والوسطى-» (2214) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 281) ، وأحمد (3/ 123، 124، 130، 131، 193، 218، 222، 237، 274) ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أما طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجه مسلم (3/ 418) - النووي كتاب «الجمعة» باب: تخفيف الصلاة والخطبة (43/ 867) ، والنسائي (3/ 188) كتاب «الخطبة» باب: كيف الخطبة (1578) ، وابن ماجه (1/ 17) «المقدمة» باب: (7) (45) ، وابن حبان (1/ 186) المقدمة: باب: الاعتصام بالسنة (10) ، وأبو يعلى (4/ 85) (346/ 2111) ، وابن خزيمة (3/ 143) كتاب «جماع أبواب الآذان والخطبة في الجمعة» باب: صفة خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبدؤه فيها بحمد الله والثناء عليه (1785) ، والبيهقي (3/ 206) ، كتاب «الجمعة» باب: رفع الصوت في الخطبة (9/ 213) ، كتاب «الجمعة» باب: كيف يستحب أن تكون الجمعة، وأحمد (3/ 310- 311) . وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (11/ 355) ، كتاب «الرقاق» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» (6505) ، وابن ماجه (2/ 134) ، كتاب «الفتن» باب: أشراط الساعة (4040) ، وابن حبان (15/ 13- 14) ، كتاب «التاريخ» باب: إخباره صلّى الله عليه وسلّم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث (6641) . أما من طريق سهل بن سعد الساعدي: أخرجه البخاري (11/ 355) كتاب «الرقاق» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» (6503) ، (9/ 348) ، كتاب «الطلاق» باب: اللعان (5302) ، وأحمد (4/ 330، 331، 335، 338، 309) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 575) ، كتاب «الدعوات» باب: دعاء أم سلمة (3590) ، والنسائي (6/ 208) - «الكبرى» ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: أفضل الذكر وأفضل الدعاء (10669/ 3) ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (2/ 392) (2255) كلهم قال: « ... أبواب السماء ... » ، وليس أبواب الجنة. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (11/ 394) (6271) نحوه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. [.....]

الترمذيُّ واللفظ له: حديث حسن غريب، انتهى من «السلاح» . وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي: لِتَسْتَنَّ أُمَّتُكَ بِسُنَّتِكَ. ت: هذا لفظ الثعلبيِّ، وهو حَسَنٌ، وقال عِيَاضٌ: قال مَكِّيٌّ: مخاطبةُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هاهنا هي مخاطبةٌ لأُمَّتِهِ، انتهى. قال ع «1» : وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَليَسْتَغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ» «2» وبَوَّبَ البخاريُّ- رحمه اللَّه- العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ لقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ... الآية: وواجبٌ على كل مؤمن أنْ يستغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنَّها صَدَقَةٌ، وقال الطبريُّ وغيره «3» : مُتَقَلَّبَكُمْ: مُتَصَرَّفَكُمْ في يقظتكم وَمَثْواكُمْ منامكم، وقال ابن عباس: مُتَقَلَّبَكُمْ تَصَرُّفُكُمْ في حياتكم الدنيا وَمَثْواكُمْ: إقامتكم في قبوركم، وفي آخرتكم «4» . وقوله عز وجل: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ... الآية: هذا ابتداءُ وَصْفِ حالِ المؤمنينَ على جهة المَدْحِ لهم، ووصفِ حالِ المنافقين على جهة الذَّمِّ وذلك أَنَّ المؤمنين كان حرصهم على الدين يبعثهم على تَمَنِّي ظهور الإسلامِ وتمنِّي قتال العدوِّ، وكانوا يأنسونَ بالوحي، ويستوحشون/ إذا أبطأ، وكان المنافقون على العكس من ذلك. وقوله: مُحْكَمَةٌ معناه: لا يقعُ فيها نسخ، وأَمَّا الإحكام الذي هو الإتقان، فالقرآن كلُّه سواءٌ فيه، والمرض الذي في قلوب المنافقين هو فَسَادُ مُعْتَقَدِهِمْ، ونظر الخائف المولَّه قريبٌ من نظر المَغْشِيِّ عليه، وَخَسَّسَهُمْ هذا الوصف والتشبيه. وقوله تعالى: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ «أولى» : وزنها أَفْعَلُ، من وَلِيَكَ الشَّيْءُ يَلِيكَ، والمشهورُ من استعمال أولى أَنَّك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي: أَحَقُّ، وقد تَسْتَعْمِلُ العرب «أولى لكِ» فقطْ على جهة الاختصار، لما معها من القول على جهة الزّجر والتّوعّد،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 116) . (2) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 213) كتاب «التوبة» باب: الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات. قال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه من لم أعرفهم. (3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 318) . (4) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 183) برقم: (19) ، وابن عطية (5/ 116) .

[سورة محمد (47) : الآيات 22 إلى 24]

فتقول: أولى لَكَ يا فُلاَنُ، وهذه الآية من هذا الباب ومنه قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: 34] وقالت فرقة: فَأَوْلى رُفِعَ بالابتداء، وطاعَةٌ خبره، قال ع «1» : وهذا هو المشهورُ منِ استعمال «أولى» ، وقيل غير هذا، قال أبو حيَّان «2» : قال صاحب «الصِّحَاحِ» : أولى لَكَ: تهديدٌ ووعيدٌ، قال أبو حَيَّان «3» : والأكثر على أَنَّه اسم مُشْتَقٌّ من الوَلي، وهو القُرْبُ، وقال الجُرْجَانِيُّ: هو مأخوذ من الوَيْلِ، فَقُلِبَ، فوزنه «أَفْلَعْ» ، انتهى. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ: ناقضوا وعصَوْا، قال البخاريُّ: قال مجاهد: عَزَمَ الْأَمْرُ جَدَّ الأمر «4» . انتهى. [سورة محمد (47) : الآيات 22 الى 24] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) وقوله سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ مخاطبةٌ لهؤلاءِ الذينَ في قلوبهم مرضٌ، والمعنى: فهل عسى أَنْ تفعلُوا إنْ تولَّيتم غيرَ أنْ تُفْسِدُوا في الأرض، وتُقَطِّعُوا أرحامكم، ومعنى إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي: إنْ أعرضتم عن الحَقِّ، وقيل المعنى: إنْ توليتم أمور الناس من الولاية وعلى هذا قيل: إنَّها نزلَتْ في بني هاشِمٍ، وبني أُمَيَّةَ ذكره الثعلبيُّ. ت: وهو عندي بعيدٌ لقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فتعيَّن التأويل/ الأَوَّل، واللَّه أعلم. وفي البخاريِّ عن جُبَيْرِ بن مطعم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنّة قاطع» «5»

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 117) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 81) . (3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 81) . (4) أخرجه البخاري (8/ 442) كتاب «التفسير» باب: سورة محمّد صلّى الله عليه وسلّم معلقا بصيغة الجزم، ووصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه. (5) أخرجه البخاري (10/ 428) كتاب «الأدب» باب: إثم القاطع (5984) ، ومسلم (4/ 1981) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (18- 19/ 2556) ، وأبو داود (1/ 530) ، كتاب «الزكاة» باب: في صلة الرحم (1696) ، والترمذي (4/ 316) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في صلة الرحم (1909) ، والبيهقي (7/ 27) ، كتاب «الصدقات» باب: الرجل يقسم صدقته على قرابته وجيرانه، إذا كانوا من أهل السهمان، كما جاء في صلة الرحم وحق الجار، وأحمد (4/ 80، 83، 84) ، وابن حبان (2/ 199) ، كتاب «البر والإحسان» باب: صلة الرحم وقطعها، ذكر نفي دخول الجنة عن قاطع رحمه (454) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (11/ 169- 170) ، كتاب «الجامع» باب: صلة

يعني: قاطعَ رحِمٍ، وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ- فَليَصِلْ رَحِمَهُ» «1» . اهـ، وفي «صحيح مسلم» عن عائشةَ قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» «2» وفي رواية: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» «3» وفي طريق: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَيُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» «4» وخرَّجه البخاريُّ من طريق أبي هريرةَ «5» على ما تقدَّم، وخرَّج البخاريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مُقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ، وأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكَ؟ قَالَتْ: بلى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ «6» ، وفي رواية: قال الله «مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ» «7» انتهى. وروى أبو داودَ في «سُنَنَهِ» عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنا الرحمن، وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي، مَنْ وصلها وصلته، ومن قطعها بتّته» «8» . انتهى.

_ الرحم (20229) ، والطبراني (2/ 118، 120) (1509، 1519) ، والحميدي (1/ 254) (557) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (27) باب: إثم قاطع الرحم (64) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (7/ 308) . (1) روى هذا الحديث أنس بن مالك، وأبو هريرة رضي الله عنهما. فأما حديث أنس: أخرجه البخاري (4/ 353) كتاب «البيوع» باب: من أحب البسط في الرزق (2067) ، ومسلم (4/ 1982) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (20- 21/ 2557) ، وأبو داود (1/ 529) كتاب «الزكاة» باب: في صلة الرحم (1693) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 438) ، كتاب «التفسير» باب: سورة فاطر (11429/ 1) . وأما من طريق أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري (10/ 429) ، كتاب «الأدب» باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5985) . (2) أخرجه مسلم (4/ 1981) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (17/ 2555) عن عائشة. (3) تقدم. (4) تقدم. [.....] (5) تقدم. (6) أخرجه البخاري (10/ 430) ، كتاب «الأدب» باب: من وصل وصله الله، برقم: (5987) . (7) أخرجه البخاري (10/ 430) ، كتاب «الأدب» باب: من وصل وصله الله، (5998) . (8) أخرجه أبو داود (1/ 530) ، كتاب «الزكاة» باب: في صلة الرحم (1695) ، والترمذي (4/ 315) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في قطيعة الرحم (1907) ، والبيهقي (7/ 26) ، كتاب «الصدقات» باب: الرجل يقسم صدقته على قرابته وجيرانه إذا كانوا من أهل السهمين لما جاء في صلة الرحم وحق الجار.

[سورة محمد (47) : الآيات 25 إلى 29]

وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إشارة إلى المرضى القلوب المذكورين. وقوله: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ: استعارةٌ لعدم فهمهم. وقوله عزَّ منْ قائل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ/ الْقُرْآنَ ... الآية: توقيفٌ وتوبيخٌ، وتَدَبُّرُ القرآن زعيم بالتبيين والهدى لمتأمِّله. ت: قال الهرويُّ: قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ معناه: أفلا يتفكَّرُون فيعتبرون يُقَالُ: تَدَبَّرْتُ الأمر: إذا نظرتَ في أدباره وعواقبه، انتهى. وقوله تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها معناه: بل على قلوب أَقفالها، وهو الرَّيْنُ الذي منعهم من الإيمان، ورُوِيَ أَنَّ وَفْدَ اليَمَنِ وَفَدَ على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيهم شابّ، فقرأ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآيةَ، فقال الفتى: عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا حتى يَفْتَحَها اللَّهُ تعالى ويُفَرِّجَهَا، قَالَ عُمَرُ: فَعَظُمَ في عَيْنِي، فما زَالَتْ في نَفْس عُمَرَ- رضي اللَّه عنه- حتى وَلِيَ الخلاَفَة فاستعان بذلك الفتى. [سورة محمد (47) : الآيات 25 الى 29] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ... الآية: قال قتادة: نزلَتْ في قَوْمٍ من اليهود «1» ، وقال ابن عباس وغيره: نَزَلَتْ في منافقين كانوا أَسْلَمُوا، ثم نافَقَتْ قُلُوبُهُم «2» ، والآيةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ دخل في ضمن لفظها غابر الدّهر، وسَوَّلَ معناه: رجَّاهم سؤلهم وأمانِيهم، ونقل أبو الفتح عن بعضهم أَنَّهُ بمعنى دلاَّهم مأخوذٌ من السَّوَلِ، وهو الاسترخاء والتَّدَلِّي، وقال العراقيُّ سَوَّلَ أي: زيّن سوء الفعل.

_ قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (1) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 184) ، وابن عطية في «تفسيره» (5/ 119) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 53) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري (11/ 322) برقم: (31412) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 184) ، وابن عطية (5/ 119) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 53) .

[سورة محمد (47) : الآيات 30 إلى 32]

وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ... الآية، قيل: إنَّها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدَّم ذِكْرُهم الآن، ورُوِيَ أَنَّ قوماً من قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ كانوا يَعِدُونَ المنافقين في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والخلافِ علَيْهِ بنَصْرٍ ومؤازرةٍ فذلك قولهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وقرأ الجمهور: «أَسْرَارَهُمْ» - بفتح الهمزة-، وقرأ حمزة والكسائيُّ وحفص: «إسْرَارَهُمْ» - بكسرها «1» -. وقوله سبحانه: فَكَيْفَ إِذا/ تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَعْنِي: مَلَكَ المَوْتِ وأعوانه، والضمير في يَضْرِبُونَ للملائكة، وفي نحو هذا أحاديثُ تقتضي صفة الحالِ، وما أَسْخَطَ اللَّهَ: هو الكفر، والرِّضْوَانُ: هنا الحَقُّ والشَّرْعُ المُؤَدِّي إلى الرضوان. وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... الآية، توبيخٍ للمنافقين وَفَضْحٌ لسرائرهم، والضِّغْنُ: الحقد، وقال البخاريُّ: قال ابن عبّاس: «أضغانهم» حسدهم «2» ، انتهى. [سورة محمد (47) : الآيات 30 الى 32] وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) وقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ... الآية، لم يُعَيِّنْهُم سبحانه بالأسماء والتعريف التامّ إبقاءً عليهم وعلى قراباتهم، وإنْ كانوا قد عُرِفُوا بلحن القول، وكانوا في الاشتهار على مراتبَ كابنِ أُبَيٍّ وغيره، والسِّيما: العلامة، وقال ابن عباس والضَّحَّاكُ: إنَّ اللَّه تعالى قد عَرَّفَهُ بهم في سورة براءة بقوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً «3»

_ (1) وحجة من أفرد قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ [التوبة: 78] فلما أفرد السر ولم يجمع فكذلك قال: «إسرارهم» . وأما الآخرون، فكأنهم جمعوا للاختلاف في ضروب السر، وقد قيل: إنه جمع فأخرج الأسرار بعددهم، كما قال بعدها: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. ينظر: «حجة القراءات» (669) ، و «السبعة» (601) ، و «الحجة» (6/ 196) ، و «إعراب القراءات» (2/ 326) ، و «معاني القراءات» (2/ 387) ، و «شرح الطيبة» (6/ 10) ، و «العنوان» (176) ، و «حجة القراءات» (669) ، و «شرح شعلة» (586) ، و «إتحاف» (2/ 478) . (2) أخرجه البخاري (8/ 442) ، كتاب «التفسير» باب: سورة محمّد صلّى الله عليه وسلّم معلقا بصيغة الجزم، ووصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 185) ، والسيوطي (6/ 54) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (11/ 324) برقم: (31416- 31417) ، وذكره ابن عطية (5/ 120) .

[سورة محمد (47) : الآيات 33 إلى 35]

[التوبة: 84] وفي قوله: «قل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عَدُوًّا» [التوبة: 83] قال ع: وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تامٍّ، ثم أخبر تعالى أَنَّهُ سيعرفهم في لحن القول، أي: في مذهب القول ومنحاه ومَقْصِدهِ، واحتجَّ بهذه الآية مَنْ جعل الحَدَّ في التعريض بالقذف. - ص-: قال أبو حيان «1» : «ولتعرفنهم» اللام جواب قسم محذوف، انتهى. وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر. وقوله سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ... الآية، كان الفُضَيْلُ بن عِيَاضٍ إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إنْ بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ... الآية، قالت فرقة: نزلت في بني إسرائيل، وقالت/ فرقة: نَزَلَتْ في قوم من المنافقين، وهذا نحو ما تقدم، وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين في سفرة بدر «2» ، وقالت فرقة: بل هِي عامَّةٌ في كل كافر. وقوله: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تحقيرٌ لهم. [سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ رَوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلت في بني أَسَدٍ من العرب، وذلك أَنَّهم أسلموا، وقالوا للنبي- صلّى الله عليه وسلّم-: نحن آثرناك على كُلِّ شيء، وجئناك بأنفسنا وأهلينا، كأَنَّهم يمنُّون بذلك، فنزل فيهم: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ... «3» الآية، ونزلت فيهم هذه الآية وظاهر الآية العموم. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ...

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 84) . (2) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 176) ، وابن عطية (5/ 121) . (3) أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 467) ، كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا (11519/ 1) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 113) ، وعزاه إلى البزار، وابن مردويه.

[سورة محمد (47) : الآيات 36 إلى 38]

الآية، رُوِيَ أَنَّها نزلت بسبب أَنَّ عديَّ بن حاتم قال: يا رسول اللَّه، إنَّ حَاتِماً كَانَتْ لَهُ أَفْعَالُ بِرٍّ فَمَا حَالُهُ؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هُوَ في النَّارِ فَبَكَى عَدِيُّ، وَوَلَّى فَدَعَاهُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ لَهُ: «أَبي وَأَبُوكَ وَأَبُو إبْراهِيمَ خَلِيلِ الرحمن في النَّارِ» ونزلت هذه الآية في ذلك «1» ، وظاهر الآية العموم في كُلِّ ما تناوَلته الصفة. وقوله سبحانه: فَلا تَهِنُوا معناه: لا تَضْعُفُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي: إلى المسالمة، وقال قتادة: معنى الآية: لا تكونوا أُولَى الطائفتين ضَرَعَتْ للأخرَى «2» : قال ع «3» وهذا حَسَنٌ مُلْتئِمٌ مع قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61] . وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: في موضع الحال، المعنى: فلا تَهِنُوا وأنتم في هذه الحال، ويحتمل أنْ يكون إخباراً بمغيب أبرزه الوجودُ بعد ذلك، والأعلون: معناه الغالبون والظاهرون من العُلُوِّ. وقوله: وَاللَّهُ مَعَكُمْ معناه: / بنصره ومَعُونَتِهِ وَيتِرُ معناهُ: يُنْقِصُ ويُذْهِبُ، والمعنى: لن يتركم ثواب أعمالكم. [سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) وقوله سبحانه: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تحقير لأمر الدنيا. وقوله: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ معناه: هذا هو المطلوب منكم، لا غيره لا تُسْأَلُون أموالكم، ثم قال سبحانهُ مُنَبِّهاً على خُلق ابن آدم: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا والإحفاء هو أشدُّ السؤال، وهو الذي يستخرج ما عند المسئول كرها.

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 258) بلفظ: قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، قال: «إن أباك أراد أمرا فأدركه» . [.....] (2) أخرجه الطبري (11/ 326، 327) برقم: (31426، 31428) ، وذكره ابن عطية (5/ 122) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 122) .

ت: وقال الثعلبيُّ: فَيُحْفِكُمْ أي: يجهدكم ويلحف عليكم. وقوله: تَبْخَلُوا جزماً على جواب الشرط وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي: يخرج اللَّه أضغانكم، وقرأ يعقوب: «وَنُخْرِجْ» بالنون، والأضغان: مُعْتَقَدَاتُ السوء «1» ، وهو الذي كان يخاف أنْ يعترِيَ المسلمين، ثم وقف اللَّه تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم بقوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ وكرر «هاء» التنبيه تأكيداً. وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي: بالثواب وَاللَّهُ الْغَنِيُّ أي: عن صدقاتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلى ثوابها. ت: هذا لفظ الثعلبيِّ، قال ع: يقال: بَخِلْتُ عليك بكذا، وبخلت عنك بمعنى أمسكت عنك، وروى التِّرْمِذِيُّ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. غريبٌ، انتهى «2» . وقوله سبحانه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ قالت فرقة: هذا الخطاب لجميعِ المسلمين والمشركين والعرب حينئذٍ، والقوم الغير هم فارس، وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ هذا وَكَانَ سَلْمَانُ إلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَقَالَ: «قَوْمُ هَذَا

_ (1) وقرأ بها ابن عبّاس. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (142) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 123) ، و «البحر المحيط» (8/ 85) ، و «الدر المصون» (6/ 158) . (2) أخرجه الترمذي (4/ 302) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في السخاء، حديث (1961) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 117) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 429) (10852) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 180) - بتحقيقنا، كلهم من طريق سعيد بن محمّد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعا. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمّد، وقد خولف سعيد بن محمّد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إنما يروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل. اهـ. وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى ولا غيره وقال ابن الجوزي: لا يصح، المتهم به سعيد بن محمّد الوراق، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال البيهقي: تفرد به سعيد بن محمّد وهو ضعيف. -

_ - وقال السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (2/ 91) (قلت) أخرجه الترمذي، وابن حبان في «روضة العقلاء» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، والخطيب في كتاب «البخلاء» من طريق عن سعيد الوراق به، وقال ابن حبان: غريب، وقال البيهقي: تفرد به سعيد بن محمّد الوراق وهو ضعيف، والله أعلم. اهـ. وللحديث شواهد من حديث عائشة، وأنس، وجابر. حديث عائشة: أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «اللآلئ» (2/ 92) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 428- 429) (10850) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 181) - بتحقيقنا، من طريق سعيد بن مسلمة، حدثنا يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن عائشة مرفوعا بلفظ: «السخي قريب من الله قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من العاقل البخيل» . قال ابن الجوزي: سعيد بن مسلمة، قال يحيى: ليس بشيء، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا فاحش الخطأ، وقال ابن عدي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى بن سعيد ولا غيره، وقال الدارقطني: لهذا الحديث طرق لا يثبت منها شيء بوجه اهـ. وللحديث طريق آخر عن عائشة: أخرجه الخطيب في كتاب «البخلاء» كما في «اللآلئ» (2/ 92) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 181) من طريق خالد بن يحيى القاضي عن غريب بن عبد الواحد القرشي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عائشة مرفوعا. وقال ابن الجوزي: خالد وغريب مجهولان. وقال السيوطي: أقره صاحب «الميزان» على أن اسمه غريب، والذي في كتاب «البخلاء» للخطيب: عنبسة بن عبد الواحد. اهـ. وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 428) (10847) من طريق تليد بن سليمان، وسعيد بن مسلمة عن يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عائشة مرفوعا. وقال البيهقي: تليد وسعيد ضعيفان. وأقره صاحب «اللآلئ» (2/ 92) . حديث أنس: أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 180) - بتحقيقنا، من طريق محمّد بن تميم، حدثنا قبيصة بن محمّد عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا: «لما خلق الله الإيمان قال: «إلهي، قوني، فقواه بحسن الخلق، ثم خلق الكفر فقال الكفر: إلهي قوني، فقواه بالبخل، ثم خلق الجنة، ثم استوى على العرش، ثم قال: ملائكتي فقالوا: ربنا، لبيك وسعديك قال: السخي قريب من جنتي قريب من ملائكتي بعيد من النار، والبخيل بعيد مني بعيد من ملائكتي قريب من النار» . قال ابن الجوزي: المتهم به محمّد بن تميم قال ابن حبان: كان يضع الحديث. وقال السيوطي في «اللآلئ» (2/ 92) محمّد بن تميم يضع. حديث جابر: أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 428) (10848) من طريق سعيد بن مسلمة، عن جعفر بن محمّد عن أبيه، عن جابر مرفوعا.

لَوْ كَانَ الدِّينُ في الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ من أهل فارس» «1» .

_ - وقد تقدم ضعف سعيد: وللحديث شاهد أيضا من حديث ابن عبّاس: أخرجه تمام في فوائده كما في «اللآلئ» (2/ 93) ، وفيه محمّد بن زكريا الغلابي. قال الدارقطني: يضع الحديث. ينظر: «تنزيه الشريعة» (1/ 105) . والحديث: ذكره السيوطي في «الجامع الصغير» (4/ 138) - فيض، برقم: (4804) ، من حديث أبي هريرة، وجابر، وعائشة، ورمز له بالضعف، ووافقه المناوي في «شرحه» وقال المناوي في «الفيض» (4/ 138- 139) : (السخي قريب من الله) أي: من رحمته وثوابه، فليس المراد قرب المسافة، تعالى الله عنه، إذ لا يحل الجهات، ولا ينزل الأماكن، ولا تكتنفه الأقطار، (قريب من الناس) أي: من محبتهم فالمراد: قرب المودة، (قريب من الجنة) لسعيه فيما يدنيه منها، وسلوكه طريقها، فالمراد هنا قرب المسافة، وذلك جائز عليها لأنها مخلوقة، وقربه منها: برفع الحجاب بينه وبينها، وبعده عنها: كثرة الحجب، فإذا قلّت الحجب بينك وبين الشيء. قلت مسافته، أنشد بعضهم: يقولون لي دار الأحبة قد دنت ... وأنت كئيب إن ذا لعجيب فقلت وما تغني ديار قريبة ... إذا لم يكن بين القلوب قريب والجنة والنار محجوبتان عن الخلق بما حفتا به من المكاره والشهوات، وطريق هتك هذه الحجب مبينة في مثل: «الإحياء» ، و «القوت» من كتب القوم، (بعيد من النار والبخيل بعيد من الله) أي: من رحمته، (بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار) ، وقال الغزالي: والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا، والسخاء ثمرة الزهد والثناء على الثمرة ثناء على المثمر لا محالة، والسخاء: ينشأ من حقيقة التوحيد والتوكل والثقة بوعد الله وضمانه للرزق، وهذه أغصان شجرة التوحيد التي أشار إليها الحديث، والبخل: ينشأ من الشرك وهو الوقوف مع الأسباب والشك في الوعد، قال الطيبي: التعريف في السخي والبخيل للعهد الذهني وهو ما عرف شرعا أن السخي من هو والبخيل من هو، وذلك أن من أدى الزكاة فقد امتثل أمر الله، وعظمه، وأظهر الشفقة على خلقه، وواساهم بماله، فهو قريب من الله وقريب من الناس، فلا تكون منزلته إلا الجنة، ومن لم يكن كذلك فبالعكس ولذلك كان جاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، كما قال: (ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) فخولف ليفيد أن الجاهل غير العابد السخي أحب إلى الله من العابد العالم البخيل، فيالها من حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها من سيئة حطت حسنتين خطيرتين، على أن الجاهل السخي سريع الانقياد بما يؤمر به من نحو تعلم، وإلى ما ينهى عنه بخلاف العالم البخيل، (تنبيه) قال الراغب: من شرف السخاء والجود، أن الله قرن اسمه بالإيمان، ووصف أهله بالفلاح، والفلاح أجمع لسعادة الدارين، وحق للجود أن يقترن بالإيمان، فلا شيء أخص منه به ولا أشد مجانسة له فمن صفة المؤمن: انشراح الصدر فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً، وهما من صفة الجواد والبخيل لأن الجواد يوصف بسعة الصدر والبخيل بضيقه اهـ. (1) أخرجه البخاري (8/ 510) كتاب «التفسير» باب: قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (4897) ، ومسلم (4/ 1972) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: فضل فارس (230- 231/ 2546) ، وأحمد (2/ 309) .

وقوله سبحانه: ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ معناه: في الخلاف والتوَلى والبُخْلِ بالأموال ونحوِ هذا، وحكى الثعلبيُّ قولاً أَنَّ القوم الغير هم الملائكة. ت: وليس لأحد مع الحديث: إذا صَحَّ نظر، ولولا الحديثُ لاحتمل أن يكون الغير ما يأتي من الخَلَفِ بعد ذهاب السَّلَفِ، على ما ذكر في غير هذا الموضع.

تفسير سورة الفتح

تفسير سورة الفتح وهي مدنيّة هذه السورة نزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من الحديبيّة، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس «1» وابن مسعود غيرهما «2» ، وفي تلك السفرة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «لقد أنزلت عليّ اللّيلة سورة هي أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها» خرّجه البخاريّ وغيره. [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) قوله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... الآية، قال قوم: يريد فَتْحَ مَكَّةَ، وقال جمهور الناس، وهو الصحيح الذي تَعْضُدُهُ قصة الحديبية: إنَّ قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ إنَّما معناه هو ما يسرّ الله عز وجل لنبيِّه في تلك الخرجة من الفتح البَيِّنِ الذي استقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين لأَنَّهم كانوا استوحشوا من رَدِّ قريشٍ لهم ومن تلك المهادنة التي جعلها/ اللَّه سبباً للفتوحات، واستقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تلك السفرة أَنَّهُ هَادَنَ عَدوَّه ريثما يَتَقَوَّى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه

_ (1) أخرجه البخاري (7/ 516) كتاب «المغازي» باب: غزوة الحديبية، قول الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] (4172) ، (8/ 447) كتاب «التفسير» باب: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (4834) ، ومسلم (3/ 413) كتاب «الجهاد والسير» باب: صلح الحديبية في الحديبية (97، 97/ 1786) ، والترمذي (5/ 385- 386) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الفتح (3263) ، وأحمد (3/ 173) ، وابن ماجه (2/ 92، 94) كتاب «البر والإحسان» باب: ما جاء في الطاعات وثوابها (370- 371) ، والبيهقي (5/ 217) كتاب «الحج» باب: المحصر يذبح ويحل حيث أحصر. (2) أخرجه البخاري (8/ 446) كتاب «التفسير» باب: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (4833) ، والترمذي (5/ 385) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الفتح (3262) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 461) ، كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1499/ 1) ، وأحمد (1/ 31) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (4/ 154) كلهم عن عمر بن الخطاب. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، رواه بعضهم عن مالك مرسلا.

[سورة الفتح (48) : الآيات 5 إلى 7]

سهمه، وثاب الماء حتى كَفَى الجيش، واتَّفَقَتْ بيعةُ الرضوان، وهي الفتح الأعظم قاله جابر بن عبد اللَّه والبَرَاءُ بن عازب «1» ، وبلغ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ قاله الشَّعْبِيُّ «2» ، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين، وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس، فكانت من جملة الفتح فسرّ بها صلّى الله عليه وسلّم هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس، وشَرَّفَه اللَّه بأنْ أخبره أَنَّه قد غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأخر، أي: وإِنْ لم يكن ذنب. ت: قال الثعلبيُّ: قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال أبو حاتم: هذه لام القسم، لما حُذِفَتِ النون من فعله كُسِرَتْ، ونُصِبَ فعلها تشبيهاً بلام «كي» ، انتهى. قال عياض: ومقصد الآية أَنَّك مغفور لك، غيرَ مؤاخذ بذنب، إنْ لو كان، انتهى. قال أبو حيان «3» : لِيَغْفِرَ اللام لِلْعِلَّةِ، وقال ع: هي لام الصيرورة، وقيل: هي لام القسم، ورُدَّ بأنَّ لام القسم لا تُكْسَرُ وَلا يُنْصَبُ بها، وأُجِيبَ بأَنَّ الكَسْرَ قد عُلِّلَ بالحمل على «لام كي» وأَمَّا الحركة فليست نصباً بل هي الفتحة الموجودة مع النون، بَقِيَتْ بعد حذفها دَالَّةً على المحذوف، ورُدَّ باَّنَّهُ لم يُحْفَظْ من كلامهم: واللَّهِ ليقوم ولا باللَّه ليخرج زيد، انتهى. وفي «صحيح البخاريِّ» عن أنس بن مالك: «إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً» : الحديبية «4» ، انتهى. وقوله سبحانه: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي: / بإظهارك وتغليبك على عَدُوِّك، والرُّضْوَانُ في الآخرة والسَّكِينَةُ فعيلة من السكون، وهو تسكين قلوبهم لتلك الهُدْنَةِ مع قريش حتَّى اطمأَنَّتْ، وعلموا أنّ وعد الله حق. [سورة الفتح (48) : الآيات 5 الى 7] لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 334) برقم: (31461- 31462) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 188) عن البراء بن عازب، وذكره ابن عطية (5/ 125) ، وابن كثير (4/ 182) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 58) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 125) . (3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 90) . (4) أخرجه البخاري (8/ 447) كتاب «التفسير» باب: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (4834) ، والطبري (11/ 333) (31458) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 188) ، وابن عطية، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 58) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والبيهقي.

[سورة الفتح (48) : الآيات 8 إلى 9]

وقوله سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... الآية، رُوِيَ في معنى هذه الآية أَنَّه لَمَّا نزلت: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: 9] تَكَلَّمَ فيها أهل الكفر، وقالوا: كيف نَتَّبِعُ مَنْ لا يعرف ما يفعل به وبالناس؟! فَبَيَّنَ اللَّه في هذه السورة ما يفعل به بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فَلَمَّا سمعها المؤمنون قالوا: هنيئاً لك يا رسول اللَّه، لقد بَيَّنَ اللَّه لك ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ إلى قوله: مَصِيراً فعرَّفه اللَّه ما يفعل به وبالمؤمنين وبالكافرين، وذكر النقاش أَنَّ رجلاً من «عَكَّ» قال: هذا الذي لرسول الله، فما لنا؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هِيَ لِي وَلامَّتِي كَهَاتَيْنِ، وَجَمَعَ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ» . وقوله: وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ هو من ترتيب الجمل في السرد، لا ترتيب وقوع معانيها لأَنَّ تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة. وقوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ قيل: معناه: من قولهم: لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ ... [الفتح: 12] الآية، وقيل: هو كونهم يعتقدون اللَّه بغير صفاته العلى. وقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [أي: دائرة السوء] «1» الذي أرادوه بكم في ظَنِّهم السوءَ، ويقال للأقدار والحوادث التي هي في طَيِّ الزمان: دائرة، / لأنّها تدور بدوران الزمان. [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 9] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) وقوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ... الآية، مَنْ جعل الشاهِدَ مُحَصِّلَ الشهادة من يوم يحصلها، فقوله: شاهِداً حال واقعة، ومَنْ جعل الشاهد مُؤَدِّي الشهادةَ فهي حال مستقبلة، وهي التي يسميها النحاة المُقَدَّرَةَ، والمعنى: شاهداً على الناس بأعمالهم، وأقوالهم حين بَلَّغْتَ، وَمُبَشِّراً: أهلَ الطاعة برحمة اللَّه، وَنَذِيراً: من عذاب اللَّه أهلَ المعصية، ومعنى تُعَزِّرُوهُ تعظموه وتكبروه قاله ابن عباس «2» ، وقرأ ابن عبّاس

_ (1) سقط في: د. [.....] (2) أخرجه الطبري (11/ 337) برقم: (31468) ، وذكره ابن عطية (5/ 129) .

[سورة الفتح (48) : آية 10]

وغيره: تعزّزوه بزاءين من العِزَّةِ «1» ، قال الجمهور: الضمير في تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي تُسَبِّحُوهُ لله عز وجل، والبكرة: الغدوّ، والأصيل: العشيّ. [سورة الفتح (48) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ: يريد في بيعة الرضوان، وهي بيعة الشجرة، حين أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأهبة لقتال قريش، لِمَا بَلَغَهُ قتل عثمانَ بن عفانَ، رسولِهِ إليهم، وذلك قبل أن ينصرفَ من الحُدَيْبِيَّةِ، وكان في ألف وأربعمائة، وبايعهم صلّى الله عليه وسلّم على الصبر المتناهي في قتال العَدُوّ إلى أقصى الجهد حتى قال سَلَمَةُ بن الأكوع وغيره: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت «2» ، وقال عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه: بايعنا رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم على أَلاَّ نَفِرّ «3» ، والمبايعة في هذه الآية مُفَاعَلَةٌ من البيع لأنَّ اللَّه تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأَنَّ لهم الجنة، ومعنى إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أَنَّ صفقتهم إنما يمضيها ويمنح/ الثمن اللَّه تعالى. ت: وهذا تفسير لا يَمَسُّ الآية، ولا بُدَّ، وقال الثعلبيُّ: «إنما يبايعون اللَّه» أي: أخذك البيعة عليهم عقد اللَّه عليهم، انتهى، وهذا تفسير حسن. وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ قال جمهور المتأولين: اليد بمعنى النعمة، إذْ نعمة اللَّه في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها «فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» : التي مَدُّوها لبيعتك، وقيل: المعنى: قُوَّةُ اللَّه فوقَ قُوَاهُمْ في نصرك. ت: وقال الثعلبيُّ: «يد اللَّه فوق أيديهم» أي: بالوفاء والعهد، وقيل: بالثواب، وقيل: «يد اللَّه» : في المِنَّةِ عليهم «فوق أيديهم» : في الطاعة عند المبايعة، وهذا حَسَنٌ قريب من الأول. وقوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ أي: فَمَنْ نقض هذا العهد، فإنما يجني على نفسه ومَنْ

_ (1) وقرأ بها محمّد بن السميفع اليماني. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 129) ، و «البحر المحيط» (8/ 92) . وقال السمين: وقرأ الجحدري «تعززوه» كالعامة إلا أنه بزاءين من العزة. «الدر المصون» (6/ 160) . (2) أخرجه الطبري (11/ 348) برقم: (31520) عن عمرو بن الأشج. (3) أخرجه الطبري (11/ 349) برقم: (31527) عن قتادة، وذكره ابن كثير (4/ 186) عن جابر بن عبد الله.

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 إلى 17]

أَوفى بما عاهد عليه اللَّهَ فسنؤتيه أجراً عظيما، وهو الجنة. [سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 17] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) وقوله سبحانه: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال مجاهد وغيره «1» : هم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ، ومَنْ كان حول المدينة من الأعراب وذلك أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسيرَ إلى مَكَّة عام الحديبية مُعْتَمِراً، استنفر مَنْ حولَ المدينة من الأعراب وأَهلِ البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش، وأحرم بالعمرة، وساق معه الهَدْيَ ليعلمَ الناس أنه لا يريد حرباً، فتثاقل عنه هؤلاء المُخَلَّفُونَ، ورأوا أَنَّهُ [يستقبل] «2» عدوّاً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، ولم يكن تَمَكَّنَ إيمانُ هؤلاءِ المُخَلَّفِينَ، فقعدوا/ عن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وتخلَّفُوا وقالوا: لَنْ يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم اللَّه في هذه الآية، وأعلم نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم بقولهم، واعتذارهم قبلَ أَنْ يَصِلَ إليهم، فكان كما أخبر اللَّه سبحانه، فقالوا: «شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا عَنْكَ فَاسْتَغْفِرْ لَنَا» وهذا منهم خُبْثٌ وإبطال، لأَنَّهم قالوا ذلك مُصَانَعَةً من غير توبة ولا ندم فلذلك قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ثم قال تعالى لنبيّه ع: قُلْ: لَهُمْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي: مَنْ يحمي منه أموالكم وأهليكم إنْ أراد بكم فيها سوءاً، وفي مصحف ابن مسعود «3» : إنْ أراد بكم سوءا

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 340) برقم: (31484) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 161) ، وابن عطية (5/ 130) . (2) سقط في: د. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 130) .

ثم رَدَّ عليهم بقوله: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ثم فَسَّرَ لهم العِلَّةَ التي تخلَّفُوا من أجلها بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ ... الآية، وبُوراً معناه: هلكى فاسدين، والبوار الهلاك، والبور في لغة «أَزْد عمان» : الفاسد، ثم رجى سبحانه بقوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ثم إنَّ اللَّه سبحانه أَمَرَ نَبِيَّه [على] ما رُوِيَ [بغزو] خيبرَ، ووعده بفتحها، وأعلمه أَنَّ المُخَلَّفِينَ إذا رأوا مسير رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إلى يهود- وهم عَدُوٌّ مُسْتَضْعَفٌ- طلبوا الكونَ معه رغبةً في عَرَضِ الدنيا والغنيمة، فكان كذلك. وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ معناه: أنْ يغيروا وعده لأهلِ الحُدَيْبِيَّةِ بغنيمة/ خيبرَ، وقال ابن زيد «1» : كلام اللَّه هو قوله تعالى: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، قال ع: وهذا ضعيف لأَنَّ هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في آخر عمره صلّى الله عليه وسلّم وآية هذه السورة نزلت عامَ الحديبية، وأيضاً فقد غَزَتْ جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ بعد هذه المُدَّةِ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني غزوة الفتح، فتح مَكَّة. ت: قال الثعلبي: وعلى التأويل الأَوَّل عامَّةُ أهل التأويل، وهو أصوب من تأويل ابن زيد. وقوله: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يريد وعده قبل باختصاصهم بها، وباقي الآية بين. وقوله سبحانه: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال قتادة وغيره: هم هوازن وَمَنْ حارب النبيّ ع يومَ حُنَيْنٍ «2» ، وقال الزُّهْرِيُّ وغيره «3» : هم أهل الرِّدَّةِ وبنو حنيفة باليمامة، وحكى الثعلبيُّ عن رافع بن خديج أَنَّهُ قال: واللَّهِ لقد كُنَّا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم مَنْ هم حَتَّى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أَنَّهُمْ هم المراد «4» ، وقيل: هم فارس والروم، وقرأ الجمهور: «أو يسلمون» «5» على القطع أي: أو

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 343) برقم: (31492) ، وذكره ابن عطية (5/ 131) . (2) أخرجه الطبري (11/ 345) برقم: (31504- 31505) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 192) ، وابن عطية (5/ 132) . (3) أخرجه الطبري (11/ 345) برقم: (31506) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 192) ، وابن عطية (5/ 132) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 66) ، وعزاه إلى ابن المنذر، والطبراني. (4) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 192) ، وابن عطية (5/ 176) . (5) وقرأ أبي بن كعب فيما حكى الكسائيّ: «أو يسلموا» بنصب الفعل على تقدير: أو يكون أن يسلموا، -

[سورة الفتح (48) : الآيات 18 إلى 20]

هم يسلمون دونَ حرب، قال ابن العربي «1» : والذين تَعَيَّنَ قتالُهم حتى يسلموا مِنْ غير قبول جزية، هم العرب في أَصَحِّ الأقوال، أوِ المرتدون، فأَمَّا فارس والروم فلا يُقَاتَلونَ إلى أَنْ يسلموا بل إنْ بذلوا الجزية قُبِلَتْ منهم، وهذه الآية إخبار بمغيب فهي من معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم، انتهى من «الأحكام» . وقوله: فَإِنْ تُطِيعُوا أي: فيما تُدعون إليه، وباقي الآية بَيِّنٌ. ثم ذكر تعالى أهل/ الأعذار، ورَفَعَ الحرج عنهم، وهو حكم ثابت لهم إلى يوم القيامة، ومع ارتفاع الحَرَج فجائز لهم الغزوُ، وأجرهم فيه مُضَاعَفٌ، وقد غزا ابن أُمِّ مكتوم [وكان يُمْسِكُ الرَايةَ في بعض حروب القادسية، وقد خَرَّجَ النسائِيُّ هذا المعنى، وذكر ابنَ أمّ مكتوم] «2» رحمه الله. [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 20] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وقوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ... الآية، تشريف لهم- رضي اللَّه عنهم- وقد تَقَدَّمَ القولُ في المبالغة ومعناها، وكان سببَ هذه المبايعة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أَنْ يبعث إلى مَكَّةَ رجلاً يُبَيِّنُ لهم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يريد حرباً وإنَّما جاء مُعْتَمِراً، فبعث إليهم خداش بن أميّة الخزاعيّ، وحمله صلّى الله عليه وسلّم على جَمَلٍ له يقال له: الثعلب، فلما كَلَّمَهُمْ عَقَرُوا الجمل، وأرادوا قتل خداش فمنعته الأحابيش، وبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأراد بَعْثَ عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول اللَّه، إنِّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بِمَكَّةَ من بني عَدِيٍّ أَحَدٌ يحميني، ولكنِ ابعث عثمان فهو أَعُزُّ بمكّة منّي، فبعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم فذهب، فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دَابَّتِهِ فحمله عليها، وأجاره حتى بلغ

_ - ومثله قول امرئ القيس [الطويل] : فقلت له لا تبك عينك إنما ... تحاول ملكا أو تموت فتعذرا ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 132) ، و «البحر المحيط» (8/ 94) ، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (6/ 162) . (1) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1705) . [.....] (2) سقط في: د.

الرسالة، فقالوا له: إنْ شِئْتَ يا عثمانَ أَنْ تطوف بالبيت فَطُفْ به، فقال: ما كنت لأطوف حتى يطوف به النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم إنَّ بَنِي سعيد بن العاصي حَبَسُوا عثمانَ على جهة المبرة، فأبطأ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وكانتِ الحُدَيْبِيَّةُ من مَكَّةَ على نحو عَشَرَةِ أميال، فصرخ صارخ من عسكر رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: قتل عثمان، فجثا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم/ والمؤمنون، وقالوا: لا نبرحُ- إنْ كان هذا- حتى نُنَاجِزَ القوم، ثم دعا الناسَ إلى البيعة فبايعوه صلّى الله عليه وسلّم ولم يَتَخَلَّفْ عنها إلاَّ الجد بن قيس المنافق، وجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَدَهُ على يَدِهِ، وقال: هذه يَدٌ لعثمانَ «1» ، وهي خير، ثم جاءَ عثمانُ سالماً والشجرة سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين. وقوله سبحانه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ قال الطبريُّ «2» ، ومنذر بن سعيد: معناه: من الإيمان وصِحَّتِهِ، والحبِّ في الدين والحِرْصِ فيه، وقرأ الناس: «وَأَثَابَهُمْ» «3» قال هارون: وقد قرأت: «وَآتَاهُمْ» بالتاء بنقطتين «4» ، والفتح القريب: خيبر، والمغانم الكثيرة: فتح خيبرَ. وقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ ... الآية، مخاطبة للمؤمنين، ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة قاله مجاهد وغيره «5» . وقولهُ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يريد خيبَر، وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة: خيبر «6» ، وهذه إشارة إلى البيعة والتَّخَلُّصِ من أمر قريش، وقاله ابن عبّاس «7» .

_ (1) ورد ذكر البيعة في حديث ابن عمر، أخرجه البخاري (6/ 271) كتاب «فرض الخمس» باب: إذا بعث الإمام رسولا في حاجة أو أمره بالمقام هل يسهم له؟ (3130) وأطرافه في (3698، 3704، 4066، 4513، 4514، 4650، 7095) ، والترمذي (5/ 629) ، كتاب «المناقب» باب: في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (3706) ، وأحمد (2/ 120) ، وأبو يعلى في «مسنده» (9/ 450) (185/ 5599) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 350) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 134) ، و «البحر المحيط» (8/ 96) . (4) قرأ بها الحسن ونوح القارئ. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (142) ، و «البحر المحيط» (8/ 96) . (5) أخرجه الطبري (11/ 351) برقم: (31533) ، وذكره ابن عطية (5/ 134) ، وابن كثير (4/ 191) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 70) . (6) أخرجه الطبري (11/ 351) برقم: (31534) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (5/ 135) . (7) أخرجه الطبري (11/ 351) برقم (31537) وذكره ابن عطية (5/ 135) ، وابن كثير (4/ 191) .

[سورة الفتح (48) : الآيات 21 إلى 26]

وقوله سبحانه: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ قال قتادة: يريد كَفَّ أَيديهم عن أهل المدينة في مغيب النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين «1» ، وَلِتَكُونَ آيَةً أي: علامة على نصر المؤمنين، وحكى الثعلبيُّ عن قتادة أَنَّ المعنى: كَفَّ اللَّه غطفان ومن معها حين جاؤوا لنصر خيبر «2» ، وقيل: أراد كفّ قريشا. [سورة الفتح (48) : الآيات 21 الى 26] وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) وقوله سبحانه: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال ابن عباس: الإشارة إلى بلاد فارس والروم «3» ، وقال قتادة والحسن: الإشارة إلى مَكَّةَ «4» ، وهذا قول يَتَّسِقُ معه المعنى ويتأيَّد/. وقوله: قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا معناه: بالقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ لأهلها، أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أَنَّهم لم يقدروا عليها. ت: قوله: وظهر فيها إِلى آخرهِ كلامٌ غير محصل، ولفظ الثعلبيِّ: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها، قد أحاط اللَّه بها لكم حَتَّى يفتحها عليكم، وقال ابن عباس «5» : علم اللَّه أَنَّه يفتحها لكم، قال مجاهد «6» : هو ما فتحوه حتى اليوم، ثم ذكر بَقِيَّةَ الأقوال، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 352) برقم: (31538- 31539) ، وذكره ابن عطية (5/ 135) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 177) ، وعزاه إلى عبد بن حميد. (2) ذكره ابن عطية (5/ 135) . (3) أخرجه الطبري (11/ 353) رقم (31541) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 198) وابن عطية (5/ 135) . (4) أخرجه الطبري (11/ 354) برقم: (31551- 31552) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 198) ، وابن عطية (5/ 135) ، وابن كثير (4/ 191) عن قتادة، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 71) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. (5) ذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 198) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 192) . (6) أخرجه الطبري (11/ 353) برقم: (31545) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 198) . [.....]

وقوله سبحانه: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني «1» : كفار قريش في تلك السنة لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وقوله: سنة اللَّه أي: كَسُنَّةِ اللَّه، إشارةً إلى وقعة بدر، وقيل: إشارة إلى عادة اللَّه من نصر الأنبياء، ونصب «سنة» على المصدر. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... الآية، رُوِيَ في سببها أَنَّ قريشاً جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عِكْرِمَةَ بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرَّةً في عسكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واختلف الناسُ في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً فلذلك اختصرته، فلمَّا أَحَسَّ بهم المسلمون بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أَثَرِهِمْ خالدَ بنَ الوليد، وسَمَّاهُ يومئذٍ سَيْفَ اللَّه في جملة من الناس، فَفَرُّوا أمامهم، حَتَّى أدخلوهم بُيُوتَ مَكَّةَ، وأَسَرُوا منهم جملة، فسيقوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَنَّ عليهم وأطلقهم «2» قال الوَاحِدِيُّ: وكان ذلك سَبَبَ الصلح بينهم، انتهى. وقوله سبحانه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: منعوكم من العمرة، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من المدينة إلى الحديبية في/ ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ثم بعث صلّى الله عليه وسلّم إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالاً آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلّى الله عليه وسلّم ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير، والْهَدْيَ معطوف على الضمير في «صدوكم» [أي] وصدوا الهدي، ومَعْكُوفاً حال، ومعناه: محبوساً، تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونَظَرِهِمْ في أَمرهم لأجل أَنْ يبلغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ، وهو مَكَّةُ والبَيْتُ، وهذا هو حَبْسُ المسلمين، وذكر تعالى العِلَّةَ في أَنْ صَرَفَ المسلمين، ولم يمكنهم من دخول مَكَّةَ في تلك الوجهة، وهي أَنَّهُ كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خَفِيَ إيمانهم، فَلَوِ استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين قال قتادة «3» : فدفع الله عن المشركين بأولئك

_ (1) في د: يبتغي. (2) أخرجه الطبري (11/ 356) برقم: (31560) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 75) ، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبزي. (3) أخرجه الطبري (11/ 363) برقم: (31573) ، وذكره البغوي (4/ 204) ، وابن عطية (5/ 136) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 76) ، وعزاه لابن جرير.

المؤمنين، والوَطْءُ هنا: الإهلاك بالسيف وغيره ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ «1» » قال أبو حيَّان «2» : وَلَوْلا رِجالٌ جوابها محذوف لدلالة الكلام عليه، أي: ما كَفَّ أيديَكم عنهم، انتهى، والمَعَرَّةُ: السوء والمكروه اللاحق مأخوذ من العُرِّ والعُرَّة وهو الجَرَبُ الصَّعْبُ اللاَّزِمُ، واختلف/ في تعيين هذه المَعَرَّةِ، فقال الطبريُّ «3» : وَحَكَاهُ الثعلبيُّ: هي الكَفَّارة، وقال مُنْذِرٌ: المَعَرَّة: أنْ يعيبهم الكُفَّار، ويقولوا: قتلوا أهل دينهم، وقال بعضُ المفسِّرين: هي المَلاَمُ، والقولُ في ذلك، وتألمَ النفْسِ في باقي الزمان، وهذه أقوالٌ حِسَانٌ، وجواب «لولا» محذوفٌ، تقديره: لولا هؤلاءِ لدخلتم مكَّةَ، لكن شرَّفْنَا هؤلاءِ المؤمنِينَ بأنْ رَحِمْنَاهُمْ، ودفعنا بسببهم عن مَكَّةَ ليدخل اللَّه، أي: لِيُبَيِّنَ للناظر أنَّ اللَّه يدخُلَ من يشاء في رحمته أو، أي: لِيقعَ دخولهم في رحمة اللَّه ودفعه عنهم. ت: وقال الثَّعْلَبِيُّ: قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» يحتمل أنْ يريد بغير علم مِمَّنْ تكلَّم بهذا، والمَعَرَّةُ: المشقة «لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ» أي: في دين الإِسلام «مَنْ يَشَاءُ» : من أهل مكة قبل أن تدخلوها، انتهى. وقوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا أي: لو ذهبوا عن مَكَّةَ تقول: زِلْتُ زيداً عن موضعه إزالة، أي: أذهبته، وليس هذا الفعل من «زَالَ يَزُولُ» ، وقد قيل: هو منه، وقرأ أبو حيوة

_ (1) أخرجه البخاري (2/ 572) كتاب «الاستسقاء» باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (1006) ، (6/ 481) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: قول الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (3386) ، (10/ 596) كتاب «الأدب» باب: تسمية الوليد (6200) ، (11/ 197) كتاب «الدعوات» باب: تكرير الدعاء (6393) ، ومسلم (3/ 190- 191) كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة (294، 294/ 675) ، (295/ 675) ، وابن حبان (5/ 301) كتاب «الصلاة» باب: صفة الصلاة (1969، 1972) ، باب: فصل في القنوت (1986) ، وأبو داود (10/ 457) كتاب «الصلاة» باب: القنوت في الصلاة (1442) ، وأحمد (2/ 239، 255، 271، 396، 407، 418، 502، 521) ، وابن ماجه (1/ 394) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها: باب: ما جاء في القنوت في صلاة الفجر (1244) ، والبيهقي (2/ 197، 198، 200) كتاب «الصلاة» باب: القنوت في الصلاة عند النازلة، (2/ 207) كتاب «الصلاة» باب: الدليل على أنه يقنت بعد الركوع، (2/ 244) كتاب «الصلاة» باب: ما يجوز من الدعاء في الصلاة، (9/ 14) كتاب «السير» باب: ما جاء في عذر المستضعفين، والدارقطني (2/ 38) كتاب «الوتر» ، وأنه ليس بفرض، والوتر على البعير، باب: صفة القنوت وبيان موضعه برقم: (7) ، والحميدي (2/ 419) (939) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (4/ 176) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 97) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 363) .

وقتادة: «تَزَايَلُوا» بألف «1» ، أي: ذهب هؤلاء عن هؤلاء، وقال النَّحَّاس: وقد قيل: إنَّ قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ... الآية: يريدُ: مَنْ في أصلاب الكافرين مِمَّنْ سيُؤْمِنُ في غابر الدهر، وحكاه الثعلبيُّ والنَّقَّاش عن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ- رضي اللَّه عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرفوعاً، والحَمِيَّةُ التي جعلوها هي حَمِيَّةُ أَهل مكة في الصَّدِّ قال الزُّهْرِيُّ: وهي حمية سُهَيْلٍ ومَنْ شَاهَدَ مِنْهُمْ عقدَ الصُّلْحِ، وجعلها سبحانه حَمِيَّةً جاهلية، لأَنَّها كانت منهم بغير حجّة، إذ لم يأت صلّى الله عليه وسلّم مُحِارِباً لهم، وإنما جاء معتمراً معظِّماً لبيت اللَّه، والسكينة: هي الطَّمْأَنِينَةُ إلى أَمْرِ رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، والثقةُ بوعد اللَّه، والطاعةُ، وزوالُ/ الأَنَفَةِ التي لحقت عُمَرَ وغيره، «وكَلِمَةُ التَّقْوَى» : قال الجمهور: هي لا إله إلا اللَّه، ورُوِيَ ذلك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي مصحف ابن مسعود «2» : «وَكَانُوا أَهْلَهَا [وَأَحَقَّ بِهَا» والمعنى: كانوا أهلها] على الإطلاق في علم اللَّه وسابق قضائه لهم، وروى أبو أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ، فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ المُنَادِيَ، فَإذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصادِقَةِ المُسْتَجَابِ لَهَا، دَعُوَةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التقوى، أَحْيِنَا عَلَيْهَا، وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا، وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَاً، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَتَهُ» رواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح الإِسناد «3» ، انتهى من «السّلاح» . فقد بيّن صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث معنى «كلمة التقوى» على نحو ما فسرَ به الجمهور، والصحيحِ أنه يعوض عن الحَيْعَلَةِ الحَوْقَلَةُ ففي «صحيح مسلم» ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَلاَةِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ، ثم قال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ «4» » الحديث، انتهى. وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية فيروى أنّه لما انعقد

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 137) ، و «البحر المحيط» (8/ 98) ، وزاد نسبتها إلى ابن أبي عبلة، وابن مقسم، وابن عون. وهي في «الدر المصون» (6/ 164) . (2) وهي في مختصر ابن خالويه ص: (143) هكذا: وكانوا أهلها أحق من غير واو. ونسبها إلى أصحاب عبد الله بن مسعود. وكما أثبتها «المصنف» عند ابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 138) . (3) أخرجه الحاكم (1/ 546- 547) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (10/ 213) . (4) أخرجه مسلم (2/ 321) كتاب «الصلاة» باب: استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم: (12/ 385) .

[سورة الفتح (48) : الآيات 27 إلى 28]

الصلحُ أَمِنَ الناسُ في تلك المُدَّةِ الحربَ والفتنةَ، وامتزجوا وعَلَتْ دعوةُ الإسلام، / وانقاد إلى الإسلام كُلُّ مَنْ له فهم، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أَضعافَ ما كان قبلَ ذلك قال ع «1» : ويقتضى ذلك أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان في عام الحديبيةِ في أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائة، ثم سار إلى مَكَّةَ بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس- صلّى الله عليه وسلّم-. ت: المعروف عَشَرَةُ آلاف، وقوله فارس ما أظنّه يصحّ فتأمله في كتب السيرة. [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) وقوله سبحانه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... الآية: «رُوِيَ في تفسيرها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في مَنَامِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْعُمْرَةِ أَنَّهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، بَعْضُهُمْ مُحَلِّقُونَ، وَبَعْضُهُمْ مُقَصِّرُونَ» «2» وقال مجاهد: رأى ذلك بالحديبية فأخبر الناسَ بهذه الرؤيا، فَوَثِقَ الجميعُ بأَنَّ ذلك يكون في وجهتهم تلك، وقد كان سَبَقَ في علم اللَّه أنَّ ذلك يكون، لكن ليس في تلك الوجهة، فَلَمَّا صَدَّهُمْ أهلُ مَكَّةَ قال المنافقون: وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء من ذلك، فأجابهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأَنْ قَالَ: «وَهَلْ قُلْتُ لَكُمْ: يَكُونُ ذَلِكَ فِي عَامِنَا هَذَا» ، أَوْ كَمَا قَالَ، ونطق أبو بكر قبل ذلك بنحوه «3» ، ثم أنزل الله عز وجل: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... الآية، واللام في: لَتَدْخُلُنَّ لامُ القَسَمِ. وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ اخْتُلِفَ في هذا الاستثناء، فقال بعض العلماء: إنَّما استثنى من حيثُ إنَّ كل واحد من الناس متى رَدَّ هذا الوعد إلى نفسه، / أمكن أَنْ يتمّ الوعد فيه وأَلاَّ يتمّ إذ قد يموت الإنسان أو يمرض لحينه، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة إذ فيهم- ولا بُدَّ- مَنْ يموتُ أو يمرض. ت: وقد وقع ذلك حسبما ذكر في السِّيَرِ، وقال آخرون: هو أخذ من

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 138) . (2) أخرجه الطبري (11/ 367) برقم: (31602) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 79) . (3) أخرجه الطبري (11/ 367) برقم: (31601) ، وذكره ابن عطية (5/ 139) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 79) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «الدلائل» .

[سورة الفتح (48) : آية 29]

اللَّه تعالى [على عباده] «1» بأدبه في استعمال الاستثناء في كل فعل. ت: قال ثعلب: استثنى اللَّه تعالى فيما يعلم ليستثنيَ الخَلْقُ فيما لا يعلمون، وقيل غير هذا، ولما نزلت هذه الآية عَلِمَ المسلمون أَنَّ تلك الرؤيا ستخرج فيما يستأنفونه من الزمان، فكان كذلك، فخرج صلّى الله عليه وسلّم في العام المُقْبِلِ واعتمر. وقوله سبحانه: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا يريد ما قَدَّرَهُ من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه. وقوله: مِنْ دُونِ ذلِكَ أي: من قبل ذلك، وفيما يدنو إليكم، واختلف في الفتح القريب، فقال كثير من العلماء: هو بيعة الرضوان وصُلْحُ الحديبية، وقال ابن زيد «2» : هو فتح خيبر. [سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) وقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قال جمهور الناس: هو ابتداء وخبر، استوفى فيه تعظيمَ منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ ابتداء، وخبره: أَشِدَّاءُ ورُحَماءُ خبر ثانٍ، وهذا هو الراجح لأَنَّهُ خبر مضاد لقول الكفار: «لا تكتب مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ، وَالَّذِينَ مَعَهُ إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور، وحكى الثعلبيُّ عن ابن عباس أَنَّ الإشارة إلى مَنْ شَهِدَ الحديبية «3» . ت: ووصف تعالى الصحابة بأَنَّهُمْ رحماء بينهم، وقد جاءت أحاديثُ صحيحةٌ في تراحم المؤمنين حدثنا الشيخ وليُّ الدين العراقيُّ بسنده عن عبد اللَّه بن عمرو بن/ العاصي أَنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرحمن ارْحَمُوا مَنْ في الأرض

_ (1) سقط في: د. [.....] (2) أخرجه الطبري (11/ 368) برقم: (31610) ، وذكره ابن عطية (5/ 140) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 79) ، وعزاه لابن جرير. (3) ذكره ابن عطية (5/ 147) .

يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» «1» وأخرج الترمذيُّ من طريق أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلاَّ مِنْ [قَلْبٍ] شَقِيٍّ» «2» وخَرَّجَ عن جرير بن عَبْدِ اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ، لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ» «3» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث خَرَّجه مسلم عن جرير، وخَرَّجَ مسلم أيضاً من طريق أبي هريرةَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ» «4» انتهى، وبالجملة: فأسباب الألفة والتراحم بين المؤمنين كثيرةٌ، ولو بأَنْ تَلْقَى أخاك بوجه طَلْقٍ، وكذلك بَذْلُ السلام وَطيِّبُ الكلام، فالمُوَفَّقُ لا يحتقر من المعروف شيئاً، وقد روى الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له بسنده عن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ كَان أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَحْسَنُهُمَا بِشْراً بِصَاحِبِهِ» أوْ قَالَ: «أكثرهما [بشرا] بصاحبه، فإذا

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 703) كتاب «الأدب» باب: في الرحمة (4941) ، والترمذي (4/ 323- 324) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في رحمة المسلمين (1924) ، وأحمد (2/ 160) ، والحاكم في «المستدرك» (4/ 159) ، والبيهقي (9/ 41) كتاب «السير» باب: ما على الوالي من أمر الجيش، والحميدي (2/ 269) (591) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) أخرجه أبو داود (2/ 703) كتاب «الأدب» باب: في الرحمة (4942) ، والترمذي (4/ 323) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في رحمة المسلمين (1923) . قال الترمذي: هذا حديث حسن. (3) أخرجه البخاري (10/ 452) كتاب «الأدب» باب: رحمة الناس والبهائم (6013) ، ومسلم (4/ 1809) كتاب «الفضائل» باب: رحمته صلّى الله عليه وسلّم الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك (66، 66/ 2319) ، والطبراني (2/ 354- 355) (2491- 2492- 2493- 2495) ، والبيهقي (8/ 161) كتاب «قتال أهل البغي» باب: ما على السلطان من القيام فيما ولي بالقسط والنصح للرعية، والرحمة بهم، والشفقة عليهم والعفو عنهم ما لم يكن حدا، والحميدي (2/ 351) (802) ، وأحمد (4/ 358، 360، 361، 362، 365، 366) . (4) أخرجه البخاري (10/ 440) كتاب «الأدب» باب: من ترك صبية غيره حتى تلعب به، أو قبلها أو مازحها (5997) ، ومسلم (4/ 1808- 1809) كتاب «الفضائل» باب: رحمته صلّى الله عليه وسلّم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (65، 65/ 2318) ، وأبو داود (2/ 777) كتاب «الأدب» باب: في قبلة الرجل ولده (5218) ، والترمذي (4/ 318) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في رحمة الولد (1911) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (35) (91) ، وابن حبان (2/ 202) كتاب «البر والإحسان» باب: الرحمة (457، 463) ، (12/ 406- 407) كتاب «الحظر والإباحة» باب: ذكر الإباحة أن يقبل الرجل ولده، وولد ولده وما بعده (5594، 5596) ، (15/ 431) كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: ذكر ملاعبة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (6975) ، وأحمد (2/ 228، 241، 269، 514) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

تَصَافَحَا، أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ» «1» ، انتهى. وقوله: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أي: ترى هاتين الحالتين كثيرا فيهم ويَبْتَغُونَ: معناه: يطلبون. وقوله سبحانه: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال مالك بن أنس: كانت جِبَاهُهُم مَتْرِبَةً من كثرة السجود في التراب وقاله عِكْرِمَةُ، ونحوه لأبي العالية «2» ، وقال ابن عباس وخالد الحنفي/ وعطية: هو وعد بحالهم يومَ القيامة من اللَّه تعالى، يجعل لهم نوراً من أَثر السجود «3» ، قال ع «4» : كما يجعل غُرَّةً من أثر الوضوء، حسبما هو في الحديث، ويؤيد هذا التأويلَ اتصالُ القولِ بقوله: «فَضْلاً مِنَ اللَّهِ» وقال ابن عباس: السَّمْتُ الحَسَنُ هو السيما، وهو خشوع يبدو على الوجه «5» ، قال ع «6» : وهذه حالةُ مُكْثِرِي الصلاةَ لأَنَّها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وقال الحسن بن أبي الحسن، وشِمْرُ بن عَطِيَّةَ: «السيما» : بَيَاضٌ وصُفْرَةٌ وتَبْهِيجٌ يعتري الوجوهَ من السَّهَرِ» ، وقال عطاء بن أبي رباح، والربيع بن أنس: «السّيما» : حسن يعتري وجوه المصلّين «8» ، قال- عليه السلام «9» -: ومن هذا الحديثُ الذي في «الشِّهاب» : «مَنْ كثرت صلاته باللّيل حسن وجهه

_ (1) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (9/ 114) (25245) ، وعزاه لأبي الشيخ، والحكيم الترمذي عن عمر. (2) أخرجه الطبري (11/ 371) عن عكرمة برقم: (31632) ، وذكره البغوي (4/ 206) عن عكرمة، وأبي العالية، وابن عطية (5/ 141) . (3) أخرجه الطبري (11/ 370) عن ابن عبّاس برقم: (31613) ، وعن خالد الحنفي برقم: (31614) ، وذكره البغوي (4/ 206) عن ابن عبّاس، وابن عطية (5/ 141) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 82) ، وعزاه للبخاري في «تاريخه» ، وابن نصر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 141) . (5) أخرجه الطبري (11/ 370) برقم: (31621) ، وذكره البغوي (4/ 206) ، وابن عطية (5/ 141) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 204) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 81) ، وعزاه لمحمّد بن نصر في كتاب «الصلاة» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 141) . (7) أخرجه الطبري (11/ 371) عن الحسن برقم: (31628) ، وعن شمر بن عطية برقم: (31630) ، وذكره ابن عطية (5/ 141) . (8) ذكره البغوي (4/ 206) ، وذكره ابن عطية (5/ 141) . [.....] (9) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 141) .

بِالنَّهَارِ» «1» قال ع «2» : وهذا حديث غَلِطَ فيه ثابت بن موسى الزاهد، سَمِعَ شَرِيكَ بنَ عبد اللَّه يقول: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عن أبي سفيانِ، عن جابر، ثم نزع شريك لما رأى ثابتاً الزاهد فقال يعنيه: مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، فَظَنَّ ثابت أَنَّ هذا الكلام حديث متركِّب على السند المذكور، فَحَدَّثَ به عن شريك. ت: واعلم أَنَّ اللَّه سبحانه جعل حُسْنَ الثناء علامةً على حسن عُقْبَى الدار، والكون في الجنة مع الأبرار، جاء بذلك صحيح الآثار عن النبي المختار ففي «صحيح البخاريّ» و «مسلم» عن أنس قالَ: «مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خيرا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بأخرى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: / وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ؟ فَقَالَ: هَذا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْراً فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأَرْضِ» «3» ، انتهى، ونقل صاحب «الكوكب الدُّرِّيِّ» من مسند البَزَّارِ عنِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «يُوشِكُ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بم؟ قال: بالثّناء الحسن والثّناء السّيّئ» «4» ، انتهى، ونقله صاحب كتاب «التشوُّف إلى رجال التصوُّف» وهو الشيخ الصالح أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي، عن ابن أبي شيبة، ولفظه: وخرّج

_ (1) أخرجه ابن ماجه (1/ 422) كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: ما جاء في قيام الليل (1333) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (1/ 341) (257) ، (13/ 38) (6995) ، وابن الشجري في «أماليه» (1/ 205، 208) . قال العجلوني في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» (2/ 338) (2587) : لا أصل له، وإن روي من طرق عند ابن ماجه بعضها عن جابر، وأورد الكثير منها عن القضاعي وغيره، قال: ولكن قرأت بخط شيخنا في بعض أجوبته أنه ضعيف، بل قواه بعضهم والمعتمد الأول، وأطنب ابن عدي في رده، قال ابن طاهر: ظن القضاعي أن الحديث صحيح لكثرة طرقه، وهو معذور لأنه لم يكن حافظا انتهى. واتفق أئمة الحديث: ابن عدي، والدارقطني، والعقيلي، وابن حبان، والحاكم على أنه من قول شريك لثابت، وقال ابن عدي: سرقه جماعة من ثابت، كعبد الله بن شبرمة الشريكي، وعبد الحميد بن بحر، وغيرهما، وقال ابن حجر المكي في «الفتاوى» : أطبقوا على أنه موضوع، مع أنه في «سنن ابن ماجه» . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 141) . (3) أخرجه البخاري (3/ 270) كتاب «الجنائز» باب: ثناء الناس على الميت (1367) (5/ 299) كتاب «الشهادات» باب: تعديل كم يجوز؟ (2642) ، ومسلم (2/ 655) كتاب «الجنائز» باب: فيمن يتسنى عليه خير أو شر (60، 60/ 949) ، وابن ماجه (1/ 478) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في الثناء على الميت (1491) . (4) أخرجه ابن ماجه (2/ 1411) كتاب «الزهد» باب: الثناء الحسن (4221) ، والبيهقي (10/ 123) كتاب «آداب القاضي» باب: اعتماد القاضي على تزكية المشركين وجرحهم، والحاكم (1/ 120) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.

أبو بكر بن أبي شيبةَ أَنَّهُ قال صلّى الله عليه وسلّم في خُطْبَتِهِ: «تُوشِكُوا أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ قَالَ: خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بالثّناء الحسن، وبالثّناء السّيّئ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» «1» . ومن كتاب «التشوُّف» قال: وخَرَّجَ البزَّارُ عن أنس قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَهْل الجَنَّةِ؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى تُمْلأَ مَسَامِعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ، قِيلَ: فَمَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى تملأ مسامعه مِمَّا يَكْرَهُ» قال: وخَرَّج البَزَّارُ عن أبي هريرةَ «أَنَّ رجلاً قال: يا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: متى أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: إذَا قَالَ جِيرَانُكَ: إنَّكَ مُحْسِنٌ، فَإنَّكَ مُحْسِنٌ، وَإذَا قَالُوا: إنَّكَ مُسِيءٌ، فَإنَّكَ مُسِيءٌ» «2» انتهى، ونقل القرطبي في «تذكرته» عن عبد اللَّه بن السائب قال: مَرَّتْ جنازةٌ بابن مسعود فقال لرجُلٍ: قُمْ فانظرْ أمن أهل الجنة هو أم من أهل النَّارِ، فقال الرجل: ما يُدْرِينِي أمِنْ أهل الجنة هو أَمْ مِنْ أهل النار؟ قال: انظر ما ثَنَاءُ الناسِ عليه، فأنتم شهداءُ اللَّه في الأرض، / انتهى وباللَّه التوفيق، وإياه نستعين. وقوله سبحانه: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ... الآية: قال مجاهد وجماعة من المتأولين: المعنى: ذلك الوصف هو مَثَلُهُمْ في التوراة ومثلهم في الإنجيل «3» ، وتم القول، وكَزَرْعٍ ابتداءُ تمثيل، وقال الطبريُّ وحكاه عن الضَّحَّاك «4» : المعنى: ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة، وتَمَّ القولُ، ثم ابتدأ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ «5» . ت: وقيل غير هذا، وأبينها الأَوَّلُ، وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشكِ. وقوله تعالى: كَزَرْعٍ على كل قول هو مثل للنبيّ ع وأصحابه في أنّ النبي ع بُعِثَ وَحْدَهُ فكان كالزرع حَبَّةً واحدة، ثم كَثُرَ المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السُّنْبُلَةِ التي تنبت حول الأصل يقال: أشطأتِ الشجرةُ إذا أخرجت غُصُونَها، وأشطأ الزرع: إذا أخرج شطأه، وحكى النقاش عن ابن عباس أَنَّهُ قال: الزّرع: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَآزَرَهُ: عليُّ بن أبي طالب، فَاسْتَغْلَظَ بأبي بكر، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعمر بن الخطاب.

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 466) ، والبيهقي (10/ 123) كتاب «آداب القاضي» باب: اعتماد القاضي على تزكية المشركين وجرحهم. (2) تقدم تخريجه شاهدا لحديث: «لا تغضب» . (3) أخرجه الطبري (11/ 373) برقم: (31641) ، وذكره ابن عطية (5/ 142) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 372) . (5) أخرجه الطبري (11/ 372) برقم: (31635) ، وذكره ابن عطية (5/ 142) .

ت: وهذا لَيِّنُ الإسناد والمتن، كما ترى، واللَّه أعلم بِصِحَّتِهِ «1» . وقوله تعالى: فَآزَرَهُ له معنيان: أحدهما: ساواه طولاً. والثَّاني: أنَّ: «آزره» و «وَازَرَهُ» بِمعنى: أعانه وَقَوَّاهُ مأخوذٌ من الأَزَرِ، وفَاعِلُ «آزر» يحتملُ أنْ يكون الشَّطْءَ، ويحتمل أَنْ يكون الزَّرْعَ. وقوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ابتداء كلام قبله محذوف، تقديره: جعلهم اللَّه بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار، قال/ الحسن: مِنْ غَيْظِ الكُفَّارِ قولُ عُمَرَ بِمَكَّةَ: لاَ يُعْبَدُ اللَّهُ سِرّاً بَعْدَ الْيَوْمِ «2» . وقوله تعالى: مِنْهُمْ هي لبيان الجنس، وليست للتبعيض لأنّه وعد مرج للجميع.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 142) . (2) ذكره البغوي (4/ 206) ، وابن عطية (5/ 143) .

تفسير سورة"الحجرات"

تفسير سورة «الحجرات» وهي مدنيّة بإجماع [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: قال ابن زيد: معنى: لاَ تُقَدِّمُوا لا تمشوا «1» ، وقرأ ابن عباس، والضَّحَّاكُ، ويعقوب: - بفتح التاءِ والدال «2» -، على معنى: لا تَتَقَدَّمُوا، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد، والمعنى على ضم التاء: بين يدي قولِ اللَّه ورسوله، ورُوِيَ أَنَّ سَبَبَ هذه الآية أَنَّ وفد بني تميم لما قَدِمَ، قال أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي اللَّه عَنْهُ-: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ الْقَعْقَاعَ بنَ مَعْبَدٍ؟ وَقَالَ عُمَرُ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إلا خِلافي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَتِ الآيةُ، وذهب بعض قَائِلِي هذه المَقَالَةِ إلى أَنَّ قوله: لاَ تُقَدِّمُوا: أي: وُلاَةً، فهو من تقديم الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي: اجعلوه مبدأ في الأَقوال والأَفعال، وعبارة البخاريِّ: وقال مجاهد: «لا تقدموا» : لا تفتاتوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يقضي الله عز وجل على لسانه، انتهى «3» . وقوله سبحانه: لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية، هي أيضاً في هذا الفنِّ المتقدِّم فرُويَ أَنَّ سببها ما تقدم عن أبي بكر وعمر- رضي اللَّه عنهما- والصحيح أَنَّها نزلت بسبب عادة الأَعراب من الجَفَاءِ وعُلُوِّ الصَّوْتِ، وكان ثابت بن قيس بن شماس- رضي الله عنه- ممّن

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 144) . (2) ينظر: «المحتسب» (2/ 278) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 144) ، و «البحر المحيط» (8/ 105) ، وزاد نسبتها إلى أبي حيوة، وابن مقسم، وهي في «الدر المصون» (6/ 168) . [.....] (3) أخرجه الطبري (11/ 377) برقم: (31659) ، وذكره البغوي (4/ 209) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 205) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 86) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» .

في صوته/ جهارة فلما نزلت هذه الآية اهْتَمَّ وخاف على نفسه، وجلس في بيته لم يخرج، وهو كئيب حزين حتى عَرَفَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خبره فبعث إليه، فآنسه، وقال له: «امْشِ في الأَرْضِ بَسْطاً فإنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» ، وَقَالَ لَهُ مَرَّةً: «أَمَا ترضى أَنْ تَعِيشَ حَمِيداً، وَتَمُوتَ شَهِيداً؟» «1» فعاش كذلك، ثم قُتِلَ شَهِيداً بِاليَمَامَةِ يَوْمَ مُسَيْلَمَةَ. ت: وحديث ثابت بن قيس وتبشيره بالجنة خَرَّجَهُ البخاريُّ، وكذلك حديث أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما خَرَّجه البخاريُّ أيضاً، انتهى. وقوله: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: كحال أحدكم في جفائه، فلا تنادوه باسمه: يا محمد، يا أحمد قاله ابن عباس وغيره «2» ، فأمرهم اللَّه بتوقيره، وأنْ يدعوه بالنبوَّةِ والرسالة، والكلام اللَّيِّنِ، وكَرِهَ العلماءُ رفعَ الصوت عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبحضرة العَالِمِ وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «3» : وحُرْمَةُ النبي صلّى الله عليه وسلّم مَيِّتاً كحرمته حَيًّا، وكلامه المأثور بعد موته في الرِّفْعَةِ مِثْلُ كلامه المسموع من لفظه، فإذا قُرىءَ كلامُه وجب على كل حاضر أَلاَّ يرفعَ صوتَهُ عليه، ولا يُعْرِضَ عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تَلَفُّظِهِ بِه، وقد نَبَّهَ اللَّه تعالى على دوام الحُرْمَةِ المذكورة على مرور الأزمنة بقوله: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: 204] وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم هو من الوحي، وله من الحُرْمَةِ مِثْلُ ما للقرآن، انتهى. وقوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ مفعول من أجله، أي: مخافةَ أَنْ تحبطَ، ثم مدح سبحانه الذين يَغُضّون/ أصواتهم عند رسول اللَّه، وغَضُّ الصوت خَفْضُهُ وكَسْرُهُ، وكذلك البصر، ورُوِيَ: أَنَّ أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلّمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا كأخي السّرار، وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ لأَنَّهُ كان لا يسمعه من إخفائه إيّاه «4» ، وامْتَحَنَ معناه: اختبر وطَهَّرَ كما يُمْتَحَنُ الذهبُ بالنار، فَيَسَّرَهَا وهَيَّأها للتقوى، وقال عمر بن الخطاب: امتحنها للتقوى: أذهب عنها الشهوات «5» .

_ (1) أخرجه الحاكم (3/ 234) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) ذكره ابن عطية (5/ 145) . (3) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1714- 1715) . (4) أخرجه الطبري (11/ 380) برقم: (31673) ، وذكره البغوي (4/ 210) ، وابن عطية (5/ 145) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 206) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 86) ، وعزاه للبزار، وابن عدي، والحاكم، وابن مردويه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (5) ذكره ابن عطية (5/ 145) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 206) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 89) ، وعزاه لأحمد في «الزهد» عن مجاهد.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 إلى 8]

قال ع «1» : من غَلَبَ شهوتَه وغضبَه فذلك الذي امتحن اللَّه قلبه للتقوى، وبذلك تكونُ الاستقامة، وقال البخاريّ: امْتَحَنَ: أخلص، انتهى. [سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ نزلت في وفد بني تميم وقولِهِمْ: يا محمدُ، اخرج إلينا، يا محمد، اخرج إلينا، وفي مصحف ابن مسعود: «أَكْثَرُهُمْ بَنُو تَمِيمٍ لاَ يَعْقِلُونَ» وباقي الآية بيّن. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا وقُرِىءَ «فَتَثَبَّتُوا» روي في سبب الآية: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ أبي مُعَيْطٍ إلَى بَنِي المُصْطَلِقِ مُصَدِّقاً، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ خَرَجُوا إلَيْهِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ، وظَنَّ بِهِمْ شَرًّا، فرجع، وقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قَدْ مَنَعُونِي الصَّدَقَةَ، وَطَرَدُونِي، وارتدوا، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَهَمَّ بِغَزْوِهِمْ، فَوَرَدَ وَفْدُهُمْ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ» «2» ، ورُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ نُعْطِيهِ الصَّدَقَةَ وَلا نُطِيعُهُ، فقال ما ذكرناه فنزلت الآية، وأَنْ تُصِيبُوا معناه: مخافة أنْ/ تصيبوا، قال قتادة: وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما نزلت هذه الآية: «التَّثَبُّتُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ من الشيطان» «3» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 146) . (2) أخرجه الطبري (11/ 383- 384) برقم: (31686) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 92) ، وعزاه إلى ابن منده، وابن مردويه. (3) أخرجه البيهقي (10/ 104) كتاب «آداب القاضي» باب: التثبت في الحكم، وأبو يعلى (7/ 247- 248) ، (1501/ 4256) . قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 22) : رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح. قلت: فيه سعد بن سنان، ويقال له: سنان بن سعد، وقد قال المزي في «تهذيب الكمال» : وقال أبو حاتم بن حبّان في كتاب «الثقات» : حدّث عنه المصريّون، وهم مختلفون فيه، وأرجو أن يكون الصحيح سنان بن سعد، وقد اعتبرت حديثه، فرأيت ما روي عن سنان بن سعد يشبه أحاديث الثّقات، وما روي عن سعد بن سنان، وسعيد بن سنان فيه المناكير، كأنّهما اثنان، فالله أعلم. وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عن سنان بن سعد، فقال: كان أحمد لا يكتب حديثه. -

[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 إلى 10]

وقوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ توبيخ للكذبة، والعَنَتُ: المشقة. وقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ رجوع من الخطاب إلى الغيبة، كأنه قال: ومنِ اتصف بما تقدم من المحاسن أولئك هم الراشدون. وقوله سبحانه: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي: كان هذا فضلاً من اللَّه ونعمةً، وكان قتادة- رحمه اللَّه- يقول: قد قال الله تعالى لأصحاب محمّد ع: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وأنتم واللَّه أسخف رأياً، وأطيش أحلاماً، فَلْيَتَّهِمَ رَجُلٌ نفسَه، ولينتصح كتاب الله تعالى «1» . [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) وقوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما سبب الآية- في قول الجمهور- هو ما وقع بين المسلمين المتحزبين في قضية عَبْد اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ حين مرّ به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم راكباً على حماره مُتَوَجِّهاً إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه، حسبما

_ - قال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: سنان بن سعد سمع أنسا؟ فغضب من إجلاله له. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: تركت حديثه لأن حديثه مضطرب، غير محفوظ. قال: وسمعته مرة أخرى يقول: يشبه حديثه حديث الحسن، لا يشبه حديث أنس. وقال أحمد بن أبي يحيى، عن أحمد بن حنبل: لم أكتب أحاديث سنان بن سعد لأنّهم اضطربوا فيها، فقال بعضهم: سعد بن سنان، وبعضهم: سنان بن سعد. وقال محمّد بن علي الورّاق، عن أحمد بن حنبل: روى خمسة عشر حديثا منكرة كلّها، ما أعرف منها واحدا. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة. سألت يحيى بن معين عن سعد بن سنان الذي روى عنه يزيد بن أبي حبيب، فقال: ثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ: أحاديثه واهية، لا تشبه أحاديث الناس عن أنس. وقال النسائيّ: منكر الحديث. وقال أبو أحمد بن عديّ: وهذه الأحاديث يحمل بعضها بعضا، وليس هذه الأحاديث ممّا يجب أن يترك أصلا، كما ذكر ابن حنبل: أنه ترك هذه الأحاديث. روى له البخاريّ في «الأدب» ، وأبو داود، والتّرمذيّ، وابن ماجه. (1) أخرجه الطبري (11/ 386) برقم: (31693) ، وذكره ابن عطية (5/ 148) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 94) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 إلى 12]

هو معلوم في الحديث الطويل، ومدافعة الفئة الباغية مُتَوَجِّهَةٌ في كل حال، [وأَمَّا التَهَيُّؤُ] لقتالهم فمع الولاة، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حَكَمَ اللَّهُ في الْفِئَةِ البَاغِيَةِ أَلاَّ يُجْهَزَ على جَرِيحِهَا، وَلا يُطْلَبَ هَارِبُهَا، وَلاَ يُقْتَلَ أسيرها، ولا يقسم فيئها» «1» وتَفِيءَ معناه: ترجع، وقرأ الجمهور: «بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» وذلك رعايةً لحال أَقَلِّ عدد يقع فيه القتال والتشاجر، وقرأ ابن عامر: «بَيْنَ إخْوَتِكُمْ» «2» وقرأ عاصم الجَحْدَرِيُّ: «بَيْنَ إخْوَانِكُمْ» » وهي قراءة حسنة لأَنَّ الأكثر في جمع الأخ في الدِّينِ ونحوه من غير النسب/: «إخْوَان» ، والأكثر في جمعه من النسب: «إِخْوَة» و «آخَاء» ، وقد تتداخل هذه الجموعُ، وكُلُّها في كتاب اللَّه. [سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية: هذه الآية والتي بعدها نزلت في خُلُقِ أهل الجاهلية وذلك أَنَّهم كانوا يجرون مع شهواتِ نفوسهم، لم يقومهم أمر من اللَّه ولا نهي، فكان الرجل يسخر، ويلمز، وينبز بالألقاب، ويَظُنُّ الظنونَ، ويتكلم بها، ويغتاب، ويفتخر بنسبه، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطَّالة، فنزلت هذه الآية تأديباً لهذه الأُمَّةِ، وروى البخاريُّ ومسلم والترمذيُّ واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: عرضه، وماله، ودمه، التّقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشرّ أن يحتقر

_ (1) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 246) ، وقال: رواه البزار، والطبراني في «الأوسط» ، وقال لا يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بهذه الإسناد، وفيه كوثر بن حكيم، وهو ضعيف. (2) ينظر: «السبعة» (606) ، و «الحجة» (6/ 207) ، و «معاني القراءات» (3/ 24) ، و «شرح الطيبة» (6/ 15) ، و «حجة القراءات» (675) ، و «إتحاف» (2/ 486) . (3) وقرأ بها زيد بن ثابت، وابن مسعود، والحسن، وابن سيرين. قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: روى عبد الوارث عن أبي عمرو أنه كان ربما قرأ «بين إخوتكم» ، وربما قرأ بالنون «إخوانكم» ، وربما قرأ بالياء «بين أخويكم» . ينظر: «الشواذ» ص: (144) ، و «المحتسب» (2/ 278) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 149) ، وزاد نسبتها إلى حماد بن سلمة. وينظر: «البحر المحيط» (8/ 111) ، وزاد نسبتها إلى ثابت البناني. وهي في «الدر» (6/ 170) . [.....]

أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» «1» انتهى، ويسخر معناه: يستهزىء، وقد يكون ذلك المُسْتَهْزَأُ به خيراً من الساخر، والقوم في كلام العرب واقع على الذُّكْرَان، وهو من أسماء الجَمْع ومن هذا قول زُهَيْر: [من الوافر] وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ «2» وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع الذكران نساء، فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور، وتَلْمِزُوا معناه: يطعن بعضُكم على بعض بذكر النقائص ونحوه، وقد يكون اللَّمْزُ بالقول وبالإشارة ونحوه مِمَّا يفهمه آخر، والهَمْزُ لا يكون إلاَّ باللسان، وحكى الثعلبيُّ أَنَّ اللمز ما كان في المشهد، والهَمْزَ ما كان في المغيب، وحكى الزهراويُّ عكس ذلك. وقوله تعالى: أَنْفُسَكُمْ معناه: بعضكم بعضاً كما قال تعالى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 66] كأنَّ المؤمنين كنفس واحدة، إذ هم/ إخوة كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشتكى مِنْهُ عُضْوٌ تداعى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحمى» «3» ، وهم كما قال أيضاً: «كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» ، والتنابز: التَّلَقُّبُ، والتَّنَبزُ واللقب واحدٌ، واللقب- يعني المذكور في الآية- هو: ما يُعْرَفُ به الإنسان من الأسماء التي يَكْرَهُ سماعَهَا، وليس من هذا قول المُحَدِّثِينَ: سليمان الأعمش، وواصل الأحدب ونحوه مِمَّا تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف وأذى، وقال ابن زيد: معنى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي: لا يَقُلْ أحد لأحد: يا يهوديُّ، بعد إسلامه، ولا: يا فاسقُ، بعد توبته، ونحو هذا. وقوله سبحانه: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يحتمل معنيين: أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فُسَّاقاً بالمعصية بعد إيمانكم.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «ديوانه» ص: (73) ، و «الاشتقاق» ص: (46) ، و «جمهرة اللغة» ص: (978) ، و «الدرر» (2/ 261، 4/ 28، 5/ 126) ، و «شرح شواهد الإيضاح» ص: (509) ، و «شرح شواهد المغني» ص: (130، 412) ، والصاحبي في «فقه اللغة» ص: (189) ، و «مغني اللبيب» ص: (41، 139، 393، 398) ، وبلا نسبة في «همع الهوامع» (1/ 153، 248، 2/ 72) . (3) أخرجه البخاري (10/ 452) كتاب «الأدب» باب: رحمة الناس والبهائم (6011) ، ومسلم (4/ 1999- 2000) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (66، 66/ 2585) .

والثاني: بئس قول الرجل لأخيه: يا فاسق بعد إيمانه وعن حذيفةَ- رضي اللَّه عنه- قال: شكوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذَرَبَ لِسَانِي، فَقَالَ: «أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ؟! إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» «1» رواه النسائي واللفظُ له، وابنُ ماجه، والحاكمُ في «المستدرك» ، وقال: صحيح على شرط مسلم، وفي رواية للنسائي: «إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» «2» ، والذَّرَبُ- بفتح الذال والراء- هو الفُحْشُ، انتهى من «السلاح» ، ومنه عن ابن عمر: «إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغفر لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمِ» «3» رَوَاه أبو داود، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي، / وابن ماجه، وابن حبان في «صحيحه» ، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح غريب، انتهى. ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن، وأَلاَّ يعملوا ولا يتكلموا بحسبه لما في ذلك وفي التجسس من التقاطُع والتَّدَابُرِ، وحكم على بعضه أَنَّه إثم، إذ بعضُه ليس بإثم، والظَّنُّ المنهيُّ عنه هو أَنْ تَظُنَّ شرًّا برجل ظاهره الصلاح، بلِ الواجب أنْ تزيل الظن وحكمه، وتتأوَّلَ الخيرَ قال ع «4» : وما زال أولو العزم يحترسون من سُوءِ الظنِ، ويجتنبون ذرائعه، قال النوويُّ: واعلم أَنَّ سوء الظن حرام، مثل القول، فكما يَحْرُمُ أَنْ تحدّث غيرك بمساوئ إنسان- يَحْرُمُ أَنْ تحدث نفسَك بذلك، وتسيءَ الظّنّ به وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» «5» والأحاديث بمعنى ما ذكرناه

_ (1) أخرجه النسائي (6/ 117) - «الكبرى» كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول من كان ذرب اللسان (10284/ 3) ، وابن ماجه (2/ 1254) كتاب «الأدب» باب: الاستغفار (3817) ، والحاكم (1/ 511) نحوه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) أخرجه النسائي (6/ 117) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول من كان ذرب اللسان (10282/ 1) . (3) أخرجه أبو داود (1/ 475) كتاب «الصلاة» باب: في الاستغفار (1516) ، والترمذي (5/ 494- 495) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا قام من المجلس (3434) ، وابن ماجه (2/ 1253) كتاب «الأدب» باب: الاستغفار (3814) ، وأحمد (2/ 21، 67، 84) ، وابن حبان (8/ 114) - الموارد (2459) ، و (3/ 206- 207) كتاب «الرقائق» باب: الأدعية ذكر وصف الاستغفار الذي كان يستغفر صلّى الله عليه وسلّم بالعدد الذي ذكرناه (927) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 119) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: كيف الاستغفار (10292/ 1) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 151) . (5) أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم (5/ 441) ، كتاب «الوصايا» باب: قول الله عز وجل: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12] ، وقال ابن حجر: هو طرف من حديث وصله المصنف في

كثيرة، والمراد بذلك عَقْدُ القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأَمَّا الخواطر وحديث النفس، إذا لم يستقر، ويستمر عليه صاحبه- فَمَعْفُوٌّ عنه باتفاق العلماء لأَنَّهُ لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفِكاك عنه، انتهى. قال أبو عمر في «التمهيد» : وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ المُؤْمِنِ دَمَهُ، وَمَالَهُ، وعِرْضَهُ، وأَلاَّ يُظَنَّ بِهِ إلاَّ الْخَيْرَ» «1» انتهى، ونقل في موضع آخر بسنده: أَنَّ عمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكِرَ عنده رجل بفضل أو صلاح قال: كيف هو إذا ذُكِرَ عنده إخوانه؟ فإنْ قالوا: إنَّه يتنقَّصهم، وينالُ منهم، قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإنْ قالوا: إنَّه يذكر منهم جميلاً وخيراً، ويُحْسِنُ الثَّنَاءَ عليهم، قال: هو كما تقولون إن شاء اللَّه، انتهى من «التمهيد» ، وروى أبو داودَ في «سننه» عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم/ قال: «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» «2» انتهى. وقوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا أي: لا تبحثوا عن مخبَّآت أمور الناس، وادفعوا بالتي هي أحسن، واجتزءوا بالظواهر الحسنة، وقرأ الحسن وغيره: «وَلاَ تَحَسَّسُوا» بالحاء المهملة قال بعض الناس: التَجَسُّسُ بالجيم في الشَّرِّ، وبالحاء في الخير، قال ع «3» : وهكذا ورد القرآن، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال.

_ «الأدب» من وجهين عن أبي هريرة، وقد أخرجه (10/ 106) كتاب «النكاح» باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (5143) موصولا عن أبي هريرة، وأخرجه أيضا (10/ 496) ، كتاب «الأدب» باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر، وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (6064) ، (10/ 499) ، كتاب «الأدب» باب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا (6066) ، (12/ 6) كتاب «الفرائض» باب: تعليم الفرائض رقم: (6724) ، وأبو داود (2/ 697) كتاب «الأدب» باب: في الظن برقم: (4917) ، والترمذي (4/ 356) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في ظن السوء (1988) ، وأحمد (2/ 245، 287، 312، 342، 465، 470، 472، 491، 492، 504، 517، 539) ، وابن حبان (12/ 499- 500) ، كتاب «الحظر والإباحة» باب: الاستماع المكروه، وسوء الظن، والغضب والفحش، ذكر الزجر عن سوء الظن بأحد المسلمين (5687) ، ومالك (2/ 907- 908) كتاب «حسن الخلق» باب: ما جاء في المهاجرة (150) ، والبيهقي (6/ 85) كتاب «الإقرار» باب: ما جاء في إقرار المريض لورثته (7/ 180) كتاب «النكاح» باب: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه إذا رضيت به المخطوبة أو رضي به أبو البكر حتى يأذن أو يترك، (8/ 333) كتاب «الأشربة والحد فيها» باب: ما جاء في النهي عن التجسس، (10/ 231) كتاب «الشهادات» باب: شهادة أهل العصبية. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (1) أخرجه الطبراني (11/ 37) برقم: (10966) . (2) أخرجه أبو داود (2/ 716- 717) كتاب «الأدب» باب: في حسن الظن (4993) ، والحاكم (4/ 256) ، وأحمد (2/ 407، 491) ، وابن حبان (8/ 30- 31) - الموارد (2395) ، وابن حبان (2/ 399) كتاب «الرقائق» باب: حسن الظن بالله تعالى، وذكر البيان بأن حسن الظن للمرء المسلم من حسن العبادة (631) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 151) .

ت: وقد وردت أحاديث صحيحة في هذا الباب، لولا الإطالة لجلبناها. وَلا يَغْتَبْ معناه: لا يذكرْ أحدُكم من أخيه شيئاً هو فيه، ويكره سماعه، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا ذَكَرْتَ مَا في أَخِيكَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإذَا ذَكَرْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّه» «1» ، وفي حديث آخر: «الغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: وَإنْ كَان حَقًّا؟ قَالَ: إذَا قُلْتَ بَاطِلاً فَذَلِكَ هُوَ الْبُهْتَانُ» «2» وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «الغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا، قِيلَ: وَكَيْفَ؟! قال: لأَنَّ الزَّانِيَ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَغْتَابُ لاَ يُتَابُ عَلَيْهِ حتى يَسْتَحِلَّ» «3» ، قال ع «4» : وقد يموت من اغْتِيبَ، أو يأبى، وروى أبو داودَ في «سننه» عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤلاء يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ» «5» انتهى. والغِيبَةُ مشتقة من «غَابَ يَغِيبُ» وهي القول في الغائب، واسْتُعْمِلَتْ في المكروه، ولم يُبَحْ في هذا المعنى إلاَّ ما تدعو الضرورةُ إليه، من تجريح الشهود، وفي التعريف/ بمن استنصح في الخطاب ونحوهم: لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ» وما يقال في الفَسَقَةِ أيضاً، وفي وُلاَةِ الجَوْرِ، ويقصد به: التحذير منهم ومنه قوله ع: «أعن الفاجر ترعوون؟! اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ، مَتَى يَعْرِفُهُ النَّاسُ إذا لم تذكروه؟!» «6» .

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2001) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: تحريم الغيبة (70/ 2589) ، وأبو داود (2/ 685) كتاب «الأدب» باب: في الغيبة (4874) ، والترمذي (4/ 329) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في الغيبة (1934) ، وأحمد (2/ 230، 386، 458) . (2) ينظر: ما قبله. [.....] (3) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 306) باب: في تحريم أعراض الناس (6741) عن أبي سعيد الخدري، وجابر. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 94- 95) : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه عباد بن كثير الثقفي وهو متروك اهـ. وللبيهقي رواية عن أنس في «شعب الإيمان» (5/ 306) (6742) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 151) . (5) أخرجه أبو داود (2/ 685- 686) كتاب «الأدب» باب: في الغيبة (4878) ، وذكره الألباني في «الصحيحة» (2/ 59) (533) . (6) أخرجه البيهقي (10/ 210) كتاب «الشهادات» باب: الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث، فيقول: كفوا عن حديثه لأنه يغلط أو يحدث بما لم يسمع، أو أنه لا يبصر الفتوى. قال العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 114) ، رواه ابن أبي الدنيا، وابن عدي، والطبراني، والخطيب عن معاوية بن حيدة، وقال في «التمييز» : أخرجه أبو يعلى، ولا يصح. اهـ. -

ت: وهذا الحديث خَرَّجه أيضاً أبو بكر ابن الخطيب بسنده عن بَهْزٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أترعوون عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ، اذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ» «1» ولم يذكر في سنده مَطْعَناً، انتهى، ومنه قوله ع: «بِئْسَ ابنُ الْعَشِيرَةِ» «2» . ثُمَّ مَثَّلَ تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت، ووقف تعالى على جهة التوبيخ بقوله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ أي: فكذلك فاكرهوا الغِيبَةَ، قال أبو حيان «3» : فَكَرِهْتُمُوهُ قيل: خبر بمعنى الأَمر، أي: فاكرهوه، وقيل على بابه، فقال الفَرَّاءُ: فقد كرهتموه، فلا تفعلوه، انتهى. وقد روى البخاريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» «4» وفي رواية مسلم: «مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ- إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ» «5» وفي الصحيحين عنه صلّى الله عليه وسلّم: «أَيُّ رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بها أحدهما» «6» انتهى، وباقي الآية بيّن.

_ - قال ابن حبان في «المجروحين» (1/ 220) : الجارود بن يزيد العامري- أبو علي من أهل نيسابور، يروي عن بهز بن حكيم، والثوري، روى عنه سلمة بن شعيب يتفرد بالمناكير عن المشاهير، ويروي عن الثقات ما لا أصل له، روى عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده قال: «أتنزعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه كي يحذر الناس» اهـ. وجدّ بهز بن حكيم هو معاوية بن حيدة. (1) انظر الحديث السابق. (2) أخرجه البخاري (10/ 486) كتاب «الأدب» باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب (6054) ، ومسلم (4/ 2002) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: مداراة من يتقى فحشه (73، 73/ 2591) ، وأبو داود (2/ 666) كتاب «الأدب» باب: في حسن العشرة (4792) ، والترمذي (4/ 259) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في المداراة (1996) ، ومالك (2/ 903) كتاب «حسن الخلق» باب: ما جاء في حسن الخلق (4) ، وأحمد (6/ 158) . (3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 114) . (4) أخرجه البخاري (10/ 479) كتاب «الأدب» باب: ما ينهى عن السباب واللعن (6045) ، وأحمد (5/ 181) . (5) أخرجه مسلم (1/ 280) - الأبي كتاب «الإيمان» باب: بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم. (112/ 61) ، وأحمد (5/ 266) . (6) أخرجه البخاري (10/ 531) كتاب «الأدب» باب: من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (6104) ، ومسلم (1/ 279- 280) ، كتاب «الإيمان» باب: بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر (111/ 60) عن عبد الله بن دينار، والترمذي (5/ 22) كتاب «الإيمان» باب: ما جاء فيمن رمى أخاه بكفر (2637) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 13 إلى 14]

[سورة الحجرات (49) : الآيات 13 الى 14] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ... الآية: المعنى: يا أيها الناس، أَنتم سواء من حيثُ أنتم مخلوقون، وإنَّما جعلتم قبائل لأَنْ تتعارفوا، أوْ لأَنْ تعرفوا الحَقَائِقَ، وَأَمَّا الشرفُ والكرمُ فهو/ بتقوى اللَّه تعالى وسلامة القلوب، وقرأ ابن مسعود: «لِتَعَارَفُوا بَيْنَكُمْ وَخَيْرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» «1» وقرأ ابن عباس: «لِتَعْرِفُوا أَنَّ» «2» عَلَى وزن «تَفْعَلُوا» بكسر العين- وبفتح الهمزة من «أَنَّ» ، وَرُوِيَ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ، فَلْيَتَّقِ اللَّه «3» » وأَمَّا الشعوب فهو جمع شَعْبٍ، وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد كمُضَرٍ ورَبِيعَةَ وحِمْيَرَ، ويتلوه القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، والأسرة وهما قرابة الرجل الأَدْنَوْنَ، ثم نَبَّهَ سبحانه على الحذر بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي: بالمتقي الذي يستحق رُتْبَةَ الكرم، وَخرَّج مسلم في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «إنَّ اللَّهَ أوحى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ على أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ على أَحَدٍ» «4» وروى أبو داود والترمذيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ، إنَّما هُمْ فَحْمٌ مِنْ جَهَنَّمَ- أوْ لَيَكُونُنَّ عَلَى اللَّهِ أَهْوَنَ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخُرَاءَ بِأَنْفِهِ، إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا إنَّما هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» «5» انتهى، ونقله البغويّ في «مصابيحه» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 153) . (2) وقرأ بها أبان عن عاصم. قال أبو الفتح: المفعول هنا محذوف، أي: لتعرفوا ما أنتم محتاجون إلى معرفته من هذا الوجه. ينظر: «المحتسب» (2/ 280) ، و «الشواذ» ص: (144) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 153) ، و «البحر المحيط» (8/ 116) ، و «الدر المصون» (6/ 172) . (3) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 373) وقال: رواه البيهقي، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم، والحاكم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعا، لكن قال البيهقي في «الزهد» : تكلموا في هشام بن زياد أحد رواة الحديث. [.....] (4) أخرجه مسلم (4/ 2199) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، وأهل النار (64/ 2865) ، وأبو داود (2/ 691) كتاب «الأدب» باب: في التواضع (4890) ، وابن ماجه (2/ 1399) كتاب «الزهد» باب: البراءة من الكبر، والتواضع (4179) . (5) أخرجه أبو داود (2/ 752) كتاب «الأدب» باب: في التفاخر بالأحساب (5116) بنحوه، والترمذي (5/ 734) كتاب «المناقب» باب: في فضل الشام واليمن (3955) ، وأحمد (2/ 524) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 15 إلى 18]

وقوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال مجاهد: نزلت في بني أسد «1» ، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة، أظهروا الإسلام، وفي الباطن إنَّما يريدون المغانمَ وَعَرَضَ الدنيا، ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ أَنْ يقول لهؤلاء المُدَّعِينَ للإيمان: لَمْ تُؤْمِنُوا أي: لم تصدقوا بقلوبكم، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي: استسلمنا، والإسلام يقال بمعنيين: أحدهما: الذي يَعُمُّ الإيمانَ والأعمالَ، وهو الذي في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] والذي في قوله ع: «بُنِيَ الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ» «2» . والمعنى الثاني للفظ الإسلام: هو الاستسلام، والإظهار الذي يُسْتَعْصَمُ به ويحقن الدم، وهذا هو الذي في الآية، ثم صَرَّحَ بأَنَّ الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ثم فتح باب التوبة بقوله: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية، وقرأ الجمهور: «لاَ يَلِتْكُمْ» من «لاَتَ يَلِيتُ» إذا نقص يقال: لاَتَ حَقَّهُ إذا نَقَصَهُ منه، وقرأ أبو عمرو: «لاَ يَأْلِتْكُمْ» من «أَلَتَ يَأْلِتُ» «3» وهي بمعنى لات. [سورة الحجرات (49) : الآيات 15 الى 18] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إنما هنا حاصرة. وقوله: ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي: لم يشكوا، ثم أمر الله تعالى نبيّه ع بتوبيخهم بقوله: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي: بقولكم آمنا، وهو يعلم منكم خلاف ذلك

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 399) برقم: (31775) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 219) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 111) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) تقدم. (3) وحجة أبي عمرو في قراءته، قوله تعالى: وَما أَلَتْناهُمْ [الطور: 21] ف «ألتناهم» مضارعه «يألتكم» . وحجة الباقين: أنهم زعموا أنه ليس في الكتاب ألف، ولو كانت منه كتبت بالألف، كما يكتب في يأمر، ويأبق. ينظر: «الحجة» (6/ 210- 211) ، و «السبعة» (606) ، و «معاني القراءات» (3/ 25) ، و «شرح الطيبة» (6/ 15- 16) و «العنوان» (178) ، و «حجة القراءات» (676) ، و «إتحاف» (2/ 487) .

لأَنَّهُ العليم بكل شيء. وقوله سبحانه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا نزلت في بني أسد أيضاً، وقرأ ابن مسعود: «يَمنُّونَ عَلَيْكَ إسْلاَمَهُمْ» وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية: «وَاللَّهُ بصير بما يعملون» «1» .

_ (1) ينظر: «السبعة» (606) ، و «الحجة» (6/ 211) ، و «شرح الطيبة» (6/ 16) ، و «العنوان» (178) ، و «حجة القراءات» (677) ، و «شرح شعلة» (588) ، و «إتحاف» (2/ 487) .

تفسير سورة"ق"

تفسير سورة «ق» وهي مكّيّة بإجماع [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) قوله عز وجل: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قال مجاهد، والضَّحَّاك، وابن زيد، وعِكْرَمَةُ: ق اسم الجبل المحيط بالدنيا، وهو فيما يزعمون أَنَّهُ من/ زمردة خضراء، منها خُضْرَةُ السماء وخضرة البحر «1» ، وقيل في تفسيره غير هذا، والْمَجِيدِ: الكريم في أوصافه الذي جمع كُلَّ مَعْلاَةٍ، وق مُقْسَمٌ به وبالقرآن قال الزَّجَّاجُ «2» : وجواب القسم محذوف تقديره: ق والقرآن المجيد لتبعثن، قال ع «3» : وهذا قول حسن، وأحسن منه أَنْ يكون الجواب هو الذي يقع عنه الإضراب ببل، كأَنَّه قال: والقرآنِ المجيد ما رَدُّوا أمرك بحجة، ون 9 حو هذا، مِمَّا لا بُدَّ لك من تقديره بعد الذي قَدَّره الزَّجَّاجُ، وباقي الآية بَيِّنٌ ممّا تقدم في «ص» و «يونس» وغيرهما، ثم أخبر تعالى رَدًّا على قولهم بأَنَّهُ سبحانه يعلم ما تأكل الأرضُ من ابن آدم، وما تُبْقِي منه، وأَنَّ ذلك في كتاب، والحفيظ: الجامع الذي لم يَفُتْهُ شيء وفي الحديث الصحيح: «إنَّ الأَرْضَ تَأَكُلُ ابْنَ آدَمَ إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ» وهو عظم

_ (1) ذكره البغوي (4/ 220) عن عكرمة، والضحاك، وابن عطية (5/ 155) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 115) ، وعزاه لعبد الرزاق عن مجاهد. (2) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 41) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 155) .

كالخَرْدَلَةِ، فمِنْهُ يُرَكَّبُ ابن آدم «1» ، قال ع «2» : وحِفْظُ ما تنقص الأرض إنَّما هو ليعودَ بعينه يومَ القيامة، وهذا هو الحَقُّ قال ابن عباس والجمهور: المعنى: ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم «3» ، وقال السُّدِّيُّ: مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ أي: ما يحصل في بطنها من موتاهم «4» ، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد، والمريج: معناه المختلط قاله ابن زيد «5» ، أي: بعضُهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: شاعر، إلى غير ذلك من تخليطهم، قال ع «6» : والمريج: المضطرب أيضاً، وهو قريب من الأَول ومنه مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، ومن الأَوَّلِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان: 53] . ثم دَلَّ تعالى على العبرة بقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ/ ... الآية، وَزَيَّنَّاها أي: بالنجوم، والفروج: الفطور والشقوقُ خلالها وأثناءها قاله مجاهد وغيره «7» . ت: وقال الثعلبي بأثر كلام للكسائي: يقول: كيف بنيناها بلا عَمَدٍ، وَزَيَّنَّاها بالنجوم، وما فيها فتوق؟ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي: بسطناها على وجه الماء، انتهى، والرواسي: الجبال، والزوج: النوع، والبهيج: الحَسَنُ المنظر قاله ابن عباس وغيره «8» ، والمنيب: الراجع إلى الحَقِّ عن فكرة ونظر قال قتادة «9» : هو المُقْبِلُ إلى اللَّه تعالى،

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 414) كتاب «التفسير» باب: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... (4814) ، (8/ 558) كتاب «التفسير» باب: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (4935) ، ومسلم (4/ 2270) كتاب «الفتن» باب: ما بين النفختين (141/ 2955) ، وابن ماجه (2/ 154) كتاب: «الزهد» ، باب: ذكر القبر والبلى (4266) ، ومالك (1/ 239) كتاب «الجنائز» باب: جامع الجنائز (48) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 156) . (3) أخرجه الطبري (11/ 407) برقم: (31800) ، وذكره ابن عطية (5/ 157) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 222) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 116) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس. (4) أخرجه الطبري (11/ 407) برقم: (31803) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 220) ، وذكره ابن عطية (5/ 157) . (5) أخرجه الطبري (11/ 408) برقم: (31813) ، وابن عطية (5/ 157) . [.....] (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 157) . (7) أخرجه الطبري (11/ 409) برقم: (31814) ، وذكره ابن عطية (5/ 157) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 222) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 116) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد. (8) أخرجه الطبري (11/ 409) برقم: (31816) ، وذكره ابن عطية (5/ 157) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 116) ، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (9) أخرجه الطبري (11/ 410) برقم: (31819) ، وذكره ابن عطية (5/ 157) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 116) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير.

[سورة ق (50) : الآيات 15 إلى 17]

وخَصَّ هذا الصنف بالذكر تشريفاً لهم من حيثُ انتفاعُهُم بالتبصرة والذكرى، وَحَبَّ الْحَصِيدِ: البُرُّ، والشعير، ونحوُهُ مِمَّا هو نبات مُحَبَّبٌ يُحْصَدُ قال أبو حيان «1» : وَحَبَّ الْحَصِيدِ من إضافة الموصوف إلى صفته على قول الكوفيين، أو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقَامه، أي: حب الزرع الحصيد على قول البصريين، وباسِقاتٍ حال مُقَدَّرَةٌ لأَنَّهَا حالةَ الإنبات ليست طوالاً، انتهى، وباسِقاتٍ: معناه طويلات ذاهبات في السماء، والطَّلْعُ أول ظهور التمر في الكفرّى، قال البخاريّ: ونَضِيدٌ معناه: مَنْضُودٌ بعضُه على بعض، انتهى، ووصف البلدة بالميت على تقدير القطر والبلد. ثم بَيَّنَ سبحانه موضع الشَّبَهِ فقال: كَذلِكَ الْخُرُوجُ يعني: من القبور، وهذه الآيات كلها إنَّما هي أَمْثِلَة وأَدِلَّة على البعث، وَأَصْحابُ الرَّسِّ: قوم كانت لهم بئر عظيمة، وهي الرَّسُّ، وكُلُّ ما لم يُطْوَ من بئر، أو مَعْدِنٍ، أو نحوه فهو رَسٌّ، وجاءهم نبيٌّ/ يُسَمَّى حَنْظَلَةَ بن سفيان- فيما رُوِيَ- فجعلوه في الرَّسِّ وردموا عليه، فأهلكهم اللَّهُ، وقال الضّحّاك: الرّسّ بئر قتل فيها صاحب «يس» «2» ، وقيل: إنَّهم قوم عاد، واللَّه أعلم. وقوله: كُلٌّ قال سيبويه: التقدير: كُلُّهم، والوعيد الذي حَقَّ: هو ما سبق به القضاءُ من تعذيبهم. [سورة ق (50) : الآيات 15 الى 17] أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) وقوله سبحانه: أَفَعَيِينا توقيف للكفار، وتوبيخ، والخلق الأَوَّلُ: إنشاء الإنسان من نُطْفَةٍ على التدريج المعلوم، وقال الحسن «3» : الخلق الأول: آدم، واللَّبْسُ: الشَّكُّ والريب، واختلاط النظر، والخَلْقُ الجديد: البعث من القبور. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ... الآية: الإنسان: اسم جنس، وتُوَسْوِسُ معناه: تتحدث في فكرتها، والوسوسةُ إنَّما تُسْتَعْمَلُ في غير الخير. وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ: عبارة عن قُدْرَةِ الله على العبد،

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 121) . (2) أخرجه الطبري (11/ 412) برقم: (31839) ، وذكره ابن عطية (5/ 158) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 159) .

[سورة ق (50) : الآيات 18 إلى 22]

وكونُ العبد في قبضة القدرة والعلم قد أُحِيط به، فالقرب هو بالقدرة والسُّلطان، إذ لا يَنْحَجِبُ عن علم اللَّه لا باطنٌ ولا ظاهر، والوريد: عرق كبير في العُنُقِ، ويقال: إنَّهما وريدان عن يمين وشمال. وأَمَّا قوله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ فقال المفسرون: العامل في إذ أَقْرَبُ ويحتمل عندي أَنْ يكون العاملُ فيه فعلاً مُضْمَراً تقديره: اذكر إذ يتلقى المتلقيان، والْمُتَلَقِّيانِ: المَلَكَانِ المُوَكَّلان بكل إنسان، مَلَكُ اليمين الذي يكتب الحسناتِ، وملك الشمال الذي يكتب السيِّئات قال الحسن: الحَفَظَةُ أربعة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل «1» ، قال ع «2» : ويؤيد ذلك الحديث الصَّحيح: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ» «3» الحديث/ بكماله، ويُرْوَى أَنَّ مَلَك اليمين أمير على ملك الشمال، وأَنَّ العبد إذا أَذنب يقول ملك اليمين للآخر: تَثَبَّتْ لَعَلَّهُ يتوبُ رواه إبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، وقَعِيدٌ: معناه قاعد. [سورة ق (50) : الآيات 18 الى 22] مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وقوله سبحانه: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ... الآية، قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: يكتب الملكانِ جميعَ الكلام، فيثبت اللَّه من ذلك الحسناتِ والسيئات، ويمحو غيرَ هذا «4» ، وهذا هو ظاهر هذه الآية، قال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كُلَّ شيء حتى أنينه في مرضه «5» ، وقال عِكْرَمَةُ: يكتبان الخير والشَّرَّ فقط «6» قال ع «7» : والأوَّلُ أصوب. ت: وروى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «كُلُّ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، إذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، فَأَحَبَّ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّه، فَلْيَأْتِ، فَلْيَمُدَّ يديه إلى الله

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 416) برقم: (31863) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 160) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 160) . (3) تقدم. (4) أخرجه الطبري (11/ 417) برقم: (31865) ، وذكره ابن عطية (5/ 160) . (5) أخرجه الطبري (11/ 417) برقم: (31868) عن ابن زيد، وذكره البغوي (4/ 222) ، وابن عطية (5/ 160) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن المنذر عن مجاهد. (6) أخرجه الطبري (11/ 416) برقم: (31864) ، وذكره البغوي (4/ 222) ، وابن عطية (5/ 160) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 119) ، وعزاه لابن المنذر. (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 160) . [.....]

عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ مِنْهَا، لاَ أَرْجِعُ إلَيْهَا أَبَداً، فَإنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ في عَمَلِهِ ذَلِكَ» رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ» ، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً «1» ، انتهى من «السِّلاح» ، قال النَّوَوِيُّ- رحمه اللَّه تعالى-: ينبغي لكل مُكَلَّفٍ أَنْ يحفظ لسانه من جميع الكلام إلاَّ كلاماً تظهر فيه مصلحته، ومتى استوى الكلامُ وتركه بالمصلحة فالسُّنَّةُ الإمساكُ فإنَّهُ قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وهذا هو الغالب، والسلامة لا يعدلها شيء، وقد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاريُّ ومسلم أَنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» «2» وهو نَصٌّ صريح فيما قلناه، قال: ورُوِّينَا في «كتاب الترمذيِّ» / و «ابن ماجه» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه مَا لاَ يَعْنِيهِ» قال الترمذيُّ: حديث حسن «3» ، وفيه عن عُقْبَةَ بن عامر «قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابك على خَطِيئَتِكَ» قال الترمذيّ: حديث حسن «4» ، وفيه عنه صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ» قال الترمذيُّ: حديث حسن «5» ، انتهى، والرقيب: المُرَاقِبُ، والعتيد: الحاضر.

_ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 129) ، (4/ 261) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) تقدم. (3) أخرجه الترمذي (5/ 558) كتاب «الزهد» باب: (11) (2317) ، وابن ماجه (2/ 1315- 1316) كتاب «الفتن» باب: كف اللسان في الفتنة (3976) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا من هذا الوجه. والحديث أخرجه أحمد (1/ 201) ، هذا اللفظ، وله رواية أخرى بلفظ «من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه» ، كلاهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 21) : رواه أحمد، والطبراني في الثلاثة، ورجال أحمد و «الكبير» ثقات، وعن زيد بن ثابت، رواه الطبراني في «الصغير» وفيه محمّد بن كثير بن مروان وهو ضعيف. (4) أخرجه الترمذي (4/ 605) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في حفظ اللسان (2406) ، وأحمد (5/ 259) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 9) . قال الترمذي: هذا حديث حسن. (5) أخرجه الترمذي (4/ 606) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في حفظ اللسان (2409) ، والحاكم (4/ 357) ، وابن حبان (13/ 9- 10) كتاب «الحظر والإباحة» باب: ما يكره من الكلام وما لا يكره، ذكر البيان بأن من عصم من فتنة فمه وفرجه رجي له دخول الجنة (5703) . قال الترمذي: أبو حازم الذي روى عن أبي هريرة اسمه: سلمان مولى عزة الأشجعية وهو كوفي، وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعد هو: أبو حازم الزاهد مدني، واسمه: سلمة بن دينار، وهذا حديث

وقوله: وَجاءَتْ عطف، عندي، على قوله: إِذْ يَتَلَقَّى فالتقدير: وإذ تجيء سكرة الموت. ت: قال شيخُنَا، زينُ الدين العراقيُّ في أرجوزته: [الرجز] وَسَكْرَةُ المَوْتِ اختلاط الْعَقْلِ...... البيت. انتهى. وقوله: بِالْحَقِّ معناه: بلقاء اللَّهِ، وَفَقْدُ الحياة الدنيا، وفراقُ الحياة حَقٌّ يعرفه الإنسانُ، ويحيد منه بأمله، ومعنى هذا الحيد أَنَّه يقول: أعيش كذا وكذا، فمتى فكر حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمان، وهذا شأن الإنسان، حَتَّى يفاجئه الأجل قال عَبْدُ الحَقِّ في «العاقبة» : وَلَمَّا احْتَضَرَ مالك بن أنس، ونزل به الموتُ قال لمن حضره: لَيُعَاينَنَّ الناسُ غداً من عفو اللَّه وَسَعَةِ رحمته ما لم يخطر على قلب بشر، كُشِفَ له- رضي اللَّه عنه- عن سعة رحمة اللَّه وكثرة عفوه وعظيم تجاوُزِهِ ما أوجب أَنْ قال هذا، وقال أبو سليمان الدارانيُّ: دخلنا على عابد نزوره، وقد حضره الموتُ، وهو يبكي، فقلنا له: ما يبكيك- رحمك اللَّه؟! - فأنشأ يقول: [الطويل] وَحُقَّ لِمِثْلِي البُكَا عِنْدَ مَوْتِه ... وَمَالِيَ لاَ أَبْكِي/ وَمَوْتِي قَدِ اقترب وَلِي عَمَلٌ في اللَّوْحِ أَحْصَاهُ خَالِقِي ... فَإنْ لَمْ يَجُدْ بِالْعَفْوِ صِرْتُ إلَى العطب انتهى، ويَوْمُ الْوَعِيدِ: هو يوم القيامة، والسائِقُ: الحاثُّ على السير، واختلف الناسُ في السائق والشهيد، فقال عثمان بن عفان وغيره: هما مَلَكَانِ مُوَكَّلاَنِ بكل إنسان أحدهما يسوقه، والآخر مِنْ حَفَظَتِهِ يشهد عليه «1» ، وقال أبو هريرة: السائق: مَلَكٌ،

_ حسن غريب. وفي الباب من حديث عطاء بن يسار نحوه، أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 987- 988) كتاب «الكلام» باب: ما جاء فيما يخاف من اللسان (11) . وفي الباب من حديث سهل بن سعد، أخرجه البخاري (11/ 314) كتاب «الرقاق» باب: حفظ اللسان، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أو ليصمت (6474) ، (12/ 115) كتاب «الحدود» باب: فضل من ترك الفواحش (6807) نحوه. وفي الباب عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرجه أحمد (5/ 362) . (1) أخرجه الطبري (11/ 418) برقم: (31871) ، وذكره ابن عطية (5/ 161) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 225) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 123) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم في «الكنى» ، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث والنشور» ، وابن عساكر عن عثمان بن عفان.

والشهيد: العمل «1» ، وقيل: الشهيد: الجوارح، وقال بعض النظار: سائق اسم جنس وشهيد كذلك، فالسَّاقَةُ للناس ملائكة مُوَكَّلُون بذلك، والشهداء: الحَفَظَةُ في الدنيا، وكل مَنْ يشهد. وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ يعمُّ الصالحين وغيرهم فإنَّما معنى الآية شهيد بخيره وشَرِّهِ، ويقوى في شهيد اسم الجنس، فتشهد الملائكة، والبِقَاعُ والجوارحُ وفي الصحيح: «لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس، ولا جِنٌّ، وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «2» . وقوله سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ قال ابن عباس وغيره: أَي: يقال للكافر «3» : لقد كنتَ في غفلة من هذا، فلمَّا كُشِفَ الغطاءُ عنك الآنَ احْتَدَّ بصرُك، أي: بصيرتك وهذا كما تقول: فلان حديد الذِّهْنِ ونحوه، وقال مجاهد «4» : هو بصر العين، أي: احْتَدَّ التفاته إلى ميزانه، وغيرِ ذلك من أهوال القيامة. والوجه عندي، في هذه الآية، ما قاله الحسن وسالم بن عبد اللَّه «5» : إنَّها مُخَاطَبَةٌ للإِنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر، وهكذا، قال الفخر «6» : قال: والأقوى أنْ يقال: هو خطاب عامٌّ مع السامع، كأنَّهُ يقول: ذلك ما كنتَ منه تحيد أيُّها السامع، انتهى، وينظر إلى معنى كشف/ الغطاء قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النّاس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» «7» .

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 161) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 123) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم في «الكنى» ، وابن مردويه، والبيهقي. (2) أخرجه البخاري (2/ 104) كتاب «الأذان» باب: رفع الصوت بالنداء (609) ، (6/ 395) كتاب «بدء الخلق» باب: ذكر الجن وثوابهم وعقابهم (3296) ، (13/ 528) كتاب «التوحيد» قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم» ، (7548) ، وابن ماجه (1/ 239- 240) كتاب «الأذان والسنة فيه» باب: فضل الأذان وثواب المؤذنين (723) ، ومالك (1/ 69) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في النداء للصلاة (5) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (1/ 203) كتاب «الصلاة» باب: فضل الأذان ورفع الصوت به وشهادة من يسمعه من حجر ومدر وشجر وجن وإنس للمؤذن، (389) ، والحميدي (2/ 321) ، (732) ، وأحمد (3/ 6) كلهم عن أبي سعيد الخدري مع اختلاف يسير في اللفظ. (3) أخرجه الطبري (11/ 420) برقم: (31885) ، وذكره ابن عطية (5/ 162) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 225) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 123) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (4) ذكره البغوي (4/ 223) ، وابن عطية (5/ 162) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 162) . (6) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 142) . (7) أورده الغزالي في «الإحياء» (4/ 23) . [.....]

[سورة ق (50) : الآيات 23 إلى 28]

[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 28] وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) وقوله تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ قال جماعة من المفسرين: يعني قرينه من زبانية جهنم، أي: قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الكافر، حاضر، وقال قتادة وابن زيد «1» : بل قرينه المُوَكَّلُ بسوقه، قال ع «2» : ولفظ القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبُه من الزبانية قرين، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين، والكُلُّ تحتمله هذه الآية، أي: هذا الذي أحصيتُهُ عليه عتيد لَدَيَّ، وهو مُوجِبُ عذابه، والقرين الذي في هذه الآية غيرُ القرين الذي في قوله: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ إذ المقارنة تكون على أنواع. وقوله سبحانه: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ المعنى: يقال: ألقينا في جهنَّمَ، واخْتُلِفَ لمن يُقَالُ ذلك، فقال جماعة: هو قول لِمَلَكَيْنِ من ملائكة العذاب. وقال عبد الرحمن بن زيد «3» : هو قول للسائق والشهيد. وقال جماعة من أهل العلم باللغة: هذا جارٍ على عادة كلام العرب الفصيح أنْ يُخَاطَبَ الواحدُ بلفظ الاثنين وذلك أَنَّ العربَ كان الغالبُ عندها أنْ يترافق في الأسفار ونحوها ثَلاَثَةٌ، فَكُلُّ واحد منهم يخاطِبُ اثنين، فَكَثُرَ ذلك في أشعارها وكلامها، حَتَّى صار عُرْفاً في المخاطبة، فاسْتُعْمِلَ في الواحد، ومن هذا قولهم في الأشعار: [من الطويل] خليليّ...... ....... «4»

_ - قال العجلوني في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» : هو من قول علي بن أبي طالب، لكن عزاه الشعراني في «الطبقات» لسهل التّستري، ولفظه في ترجمته ومن كلامه: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، وإذا ماتوا ندموا، وإذا ندموا لم تنفعهم ندامتهم اهـ. (1) ذكره ابن عطية (5/ 162) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 163) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 163) . (4) مطلع قصيدة لامرىء القيس وتمام البيت: ... مرّا بي على أمّ جندب ... نقضّي لبانات الفؤاد المعذّب ينظر: «ديوانه» ص: (41) .

وصاحبيّ...... ... ........ «1» [من الطويل] قِفَانَبْكِ.... ... ........ «2» ونحوه. وقال بعض المتأولين: المراد «أَلْقِيَنْ» ، فَعُوِّضَ من النون ألفٌ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «أَلْقِياً» بتنوين الياء «3» ، و «عنيد» معناه: عَانِدٌ عن الحق، أي: مُنْحَرِفٌ/ عنه. وقوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ لفظ عامٌّ للمال والكلام الحسن والمعاونة على الأشياء، ومُعْتَدٍ معناه: بلسانه ويده.

_ (1) وجاء منه قول أبي تمام [الكامل] : يا صاحبي تقضّيا نطريكما ... تريا وجوه الروض كيف تصوّر وجاء منه مخاطبة الصاحب بالمثنى كقول الشاعر: وقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجدزّ شيحا البيت من الوافر، وهو لمضرّس بن ربعي في «شرح شواهد الشافية» ص: (481) ، وله أو ليزيد بن الطثريّة في «لسان العرب» (5/ 319- 320) (جزز) ، و «المقاصد النحوية» (4/ 591) ، وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (8/ 85) ، و «خزانة الأدب» (11/ 17) ، و «سر صناعة الإعراب» ص: (187) ، و «شرح الأشموني» (3/ 874) ، و «شرح شافية ابن الحاجب» (3/ 228) ، و «شرح المفصل» (10/ 49) ، والصاحبي في «فقه اللغة» ص: (109، 218) ، و «لسان العرب» (4/ 125) (جرر) ، و «المقرب» (2/ 166) ، و «الممتع في التصريف» (1/ 357) . (2) مطلع قصيدة لامرىء القيس، وتمام البيت: ...... من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول وحومل ينظر: «ديوانه» ص: (8) ، و «الأزهية» ص: (244) ، و «جمهرة اللغة» ص: (567) ، و «الجنى الداني» ص: (63- 64) ، و «خزانة الأدب» (1/ 332، 3/ 224) ، و «الدرر» (6/ 71) ، و «سرّ صناعة الإعراب» (2/ 501) ، و «شرح شواهد الشافية» ص: (242) ، و «شرح شواهد المغني» (1/ 463) ، و «الكتاب» (4/ 205) ، و «لسان العرب» (15/ 209) (قوا) ، (428) ، و «مجالس ثعلب» ص: (127) ، و «همع الهوامع» (2/ 129) ، وبلا نسبة في «الإنصاف» (2/ 656) ، و «أوضح المسالك» (3/ 359) ، و «جمهرة اللغة» ص: (580) ، و «خزانة الأدب» (11/ 6) ، و «الدرر» (6/ 82) ، و «رصف المباني» ص: (353) ، و «شرح الأشموني» (2/ 417) ، و «شرح شافية ابن الحاجب» (2/ 316) ، و «شرح قطر الندى» ص: (80) ، والصاحبي في «فقه اللغة» ص: (110) ، و «مغني اللبيب» (1/ 161، 266) ، و «المنصف» (1/ 224) ، و «همع الهوامع» (2/ 131) . (3) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (145) ، و «المحتسب» (2/ 284) ، و «الكشاف» (4/ 387) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 164) ، و «البحر المحيط» (8/ 125) ، و «الدر المصون» (6/ 178) .

[سورة ق (50) : الآيات 29 إلى 31]

وقوله سبحانه: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ ... الآية، يحتمل أنْ يكون الَّذِي بدلاً من كَفَّارٍ، أو صفةً له، وَيَقْوَى عندي أَنْ يكونَ الَّذِي ابتداءً ويتضمن القولُ حينئذ بني آدم والشياطينَ المغوينَ لهم في الدنيا، ولذلك تَحَرَّكَ القرينُ، الشيطانُ المُغْوِي، فرام أَنْ يُبْرِىءَ نفسه ويخلصها بقوله: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ. وقوله: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ ليست بحجة لأَنَّهُ كَذَبَ أَنْ نفى الإطغاء عن نفسه جملةً، وهو قد أطغاه بالوسوسة والتزيينِ، وأَطغاه اللَّه بالخلق والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه، سبحانه لا رَبَّ غيرُه. وقوله سبحانه: لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ معناه: قال اللَّه: لا تختصموا لديَّ بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئاً وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وهو ما جاءت به الرسلُ والكتب، وجُمِعَ الضمير لأَنَّه مخاطبة لجميع القرناء إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط. [سورة ق (50) : الآيات 29 الى 31] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) وقوله سبحانه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي: لا ينقض ما أبرمه كلامي من تعذيب الكفرة، ثم أزال سبحانه موضعَ الاعتراض بقوله: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: هذا عدل فيهم لأَنِّي أنذرت، وأمهلت، وأنعمتُ، وقرأ الجمهور: «يَوْمَ نَقُولُ» بالنون، وقرأ نافعٌ وعاصم في رواية أبي بَكْر بالياء، وهي قراءة أهل المدينة «1» ، قال ع «2» : والذي يترجَّحُ في قول جهنم: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أَنَّها حقيقة، وأَنَّها قالت ذلك، وهي غير ملأى، وهو قول أنس بن مالك، ويبين ذلك الحديث الصحيح، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يَقُولُ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟! حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ» «3» ولفظ البخاريِّ عن أبي هريرةَ قال: قَالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

_ (1) ينظر: «السبعة» (607) ، و «الحجة» (6/ 213) ، و «معاني القراءات» (3/ 27) ، و «شرح الطيبة» (6/ 17) ، و «العنوان» (179) ، و «حجة القراءات» (678) ، و «شرح شعلة» (588) ، و «إتحاف» (2/ 489) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 165) . (3) أخرجه البخاري (11/ 554) كتاب «الأيمان والنذور» باب: الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، برقم: (6661) ، ومسلم (4/ 2187) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» : باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (37، 37- 38/ 2848) ، والترمذي (5/ 390) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة ق (3272) ، وأحمد (3/ 134، 141، 229، 230، 234) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 127)

[سورة ق (50) : الآيات 32 إلى 37]

تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِيَ، لاَ يَدْخُلُنِي إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟! فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلَّنارِ: إنَّما أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةِ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِىء حَتَّى يَضَعَ [الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ] «1» فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَاكَ تَمْتَلِىءُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَداً، وَأَمَّا الجَنَّةُ فَإنَّ اللَّهَ يُنْشِىءُ لَهَا خَلْقَاً» «2» انتهى، قال ع «3» : ومعنى: «قدمه» ما قَدَّمَ لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ومنه: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] وملاك النظر في هذه الحديث أَنَّ الجارحةَ، والتشبيهَ، وما جرى مجراه- مُنْتَفٍ كُلُّ ذلك عن اللَّه سبحانه، فلم يبقَ إلاَّ إخراجُ اللفظ على الوجوه السائغة في كلام العرب. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ معناه: قُرِّبَتْ، ولما احتمل أنْ يكونَ معناه بالوعد والإخبار رفع الاحتمال بقوله: غَيْرَ بَعِيدٍ قال أبو حيان «4» : غَيْرَ بَعِيدٍ أي: مكاناً غيرَ بعيد فهو منصوب على الظرف، وقيل: منصوب/ على الحال من الجنة، انتهى. [سورة ق (50) : الآيات 32 الى 37] هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وقوله سبحانه: هذا مَا تُوعَدُونَ يحتمل أنْ يكونَ معناه: يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة: هذا الذي كنتم توعدون به في الدنيا، ويحتمل أنْ يكون خطاباً لِلأُمَّةِ أي: هذا ما توعدون أَيُّها الناس لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ: والأَوَّابُ: الرَّجَّاعُ إلى الطاعة وإلى مراشد

_ (2551) عن أنس بن مالك نحوه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (1) سقط في: د. (2) أخرجه البخاري (8/ 460) كتاب «التفسير» باب: وتقول هل من مزيد (4850) ، ومسلم (4/ 2186- 2187) كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء (35- 36/ 2846) ، (2847) نحوه، والنسائي (4/ 414- 415) كتاب «النعوت» باب: قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، (7740/ 8) ، وابن حبان (16/ 482) كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (7447) . [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 165) . (4) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 126) .

نفسه، وقال ابن عباس وعطاء «1» : الأَوَّابُ: المُسَبِّحُ من قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] وقال المُحَاسِبِيُّ «2» : هو الراجع بقلبه إلى ربه، وقال عبيد بن عمير «3» : كُنَّا نتحدث أَنَّه الذي إذا قام من مجلسه استغفر اللَّه مِمَّا جرى في ذلك المجلس، وكذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفعل «4» ، والحفيظ معناه: لأوامر اللَّه، فيمتثلها، ولنواهيه فيتركها، وقال ابن عباس» : حفيظ لذنوبه حَتَّى يرجعَ عنها، والمُنِيبُ: الراجع إلى الخير المائِلُ إليه قال الدَّاوُودِيُّ «6» : وعن قتادَةَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ قال: مُقْبِلٌ على اللَّه سبحانه، انتهى. وقوله سبحانه: ادْخُلُوها أي: يقال لهم: ادخلوها. وقوله عز وجل: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ خبر بأَنَّهم يُعْطَوْنَ آمالهم أجمع، ثم أبهم تعالى الزيادةَ التي عنده للمؤمنين المُنَعَّمِينَ، وكذلك هي مُبْهَمَةٌ في قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وقد فسر ذلك الحديثُ الصحيحُ، وهو قوله- عليه السلام-: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، بَلْهَ مَا اطَّلَعْتُمْ عَلَيْهِ «7» قال ع «8» : وقد ذكر الطبريُّ وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديثَ مطولة، وأشياءَ ضعيفةً لأَنَّ/ اللَّه تعالى يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ وهم يعينونها تكلفاً وتعسفاً. وقوله تعالى: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي: ولجوا البلادَ من أنقابها طمعاً في النجاة من الهلاك هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي: لا محيصَ لهم، وقرأ ابن عبّاس وغيره: «فنقّبوا» على

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 428) برقم: (31926) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (4/ 225) ، وابن عطية (5/ 166) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 166) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 166) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 228) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 126) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر. (4) ذكره الهندي في «كنز العمال» (7/ 153) برقم: (18478) ، وعزاه إلى ابن السني عن عبد الله الحضرمي. (5) أخرجه الطبري (11/ 428) برقم: (31933) ، وذكره البغوي (4/ 225) ، وابن عطية (5/ 166) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 126) ، وعزاه لابن جرير، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن التميمي. (6) أخرجه الطبري (11/ 429) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 126) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (7) تقدم. (8) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 166) .

الأمر لهؤلاء الحاضرين «1» . ت: وعبارة البخاريِّ «فَنَقَّبُوا» : ضربوا «2» ، وقال الداودي: وعن أبي عبيدةَ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ: طافوا، وتباعدوا، انتهى. وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: إهلاك مَنْ مضى لَذِكْرى أي: تذكرة، والقلبُ عبارة عن العقل إذْ هو مَحِلُّهُ، والمعنى: لمن كان له قلب واعٍ ينتفعُ به، وقال الشبليُّ: معناه: قلب حاضر مع اللَّه، لا يغفلُ عنه طرفةَ عين. وقوله تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ معناه: صَرَفَ سَمْعَهُ إلى هذه الأنباء الواعظة، وأثبته في سماعها وَهُوَ شَهِيدٌ قال بعض المتأولين: معناه: وهو مشاهِد مُقْبَلٌ على الأمر، غيرُ مُعْرِضٍ ولا مُفَكِّرٍ في غير ما يسمع. ت: ولفظ البخاريِّ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: لا يحدث نفسَه بغيره شَهِيدٌ أي: شاهد بالقلب، انتهى، قال المُحَاسِبيُّ في «رعايته» : وقد أَحْبَبْتُ أَنْ أَحُضَّكَ على حُسْنِ الاستماع لتدركَ به الفهمَ عن اللَّه عز وجل في كُلِّ ما دعاك إليه فإنَّه تعالى أخبرنا في كتابه أَنَّ مَنِ استمع كما يُحِبُّ اللَّهُ تعالى وَيَرْضَى، كان له فيما يستمع إِليه ذِكْرَى، يعني: اتعاظاً، وإذا سَمَّى الله عز وجل لأحد من خلقه شَيْئاً فهو له كما سَمَّى، وهو واصل إليه كما أخبر قال عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ قال مجاهد «3» : شاهد القلب، لا يُحَدِّثُ نفسَه بشيء ليس بغائب القلب، فَمَنِ استمع إلى كتاب الله عز وجل، أو إلى حكمة، أو إلى علم، أو إلى عِظَةٍ، لا يُحَدَّثُ نفسَه بشيء غيرِ ما يستمع إليه، قَدْ أشهد قَلْبَهُ ما استمع إليه، يريد الله- عز وجل به-: كان له فيه ذكرى لأَنَّ اللَّه تعالى قال ذلك، فهو كما قال عز وجل، انتهى كلام المحاسبيِّ، وهو دُرٌّ نفيس، فَحَصِّلْهُ، واعملْ به تَرْشُدْ، وقد وجدناه، كما قال، وبالله التوفيق.

_ (1) وقرأ بها أبو العالية، ويحيى بن يعمر، ونصر بن سيار. ينظر: «المحتسب» (2/ 285) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 167) ، و «البحر المحيط» (8/ 127) ، وزاد نسبتها إلى أبي حيوة، والأصمعي عن أبي عمرو. وهي في «الدر المصون» (6/ 181) . (2) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 458) ، تفسير سورة (ق) . (3) أخرجه الطبري (11/ 433) برقم: (31952) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 129) ، وعزاه للفريابي، وابن جرير.

[سورة ق (50) : الآيات 38 إلى 40]

[سورة ق (50) : الآيات 38 الى 40] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... الآية: خَبَرٌ مضمَّنه الرَّدُّ على اليَهُودِ الذين قالوا: إنَّ اللَّه خلق الأشياء كلها، ثم استراح يَوْمَ السبت، فنزلت: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ واللُّغُوب: الإعياء والنَّصَبُ. وقوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ أي: ما يقوله الكفرة من أهل الكتاب وغيرِهم، وعَمَّ بذلك جميعَ الأقوال الزائِغَةِ من قريش وغيرهم وَسَبِّحْ معناه: صَلِّ بِإجماعٍ من المتأولين. ت: وفي الإِجماع نظر وقد قال الثعلبيُّ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: قل سبحان اللَّه والحمدُ للَّه قاله عطاء الخُرَاسَانِيُّ، انتهى، ولكن المخرَّجُ في الصحيح إنما هو أمر الصلاة، وقال ابن العربي في «أحكامه» «1» : قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أَنَّه تسبيحُ اللَّهِ في الليل، ويَعْضُدُ هذا القولَ الحديثُ الصحيحُ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» «2» الحديثَ، وقد ذكَرْنَاهُ في سورة «المزمل» . والثاني: أنَّها صلاةُ الليل. والثالث: أَنَّها ركعتا الفجر. / والرابع: أَنَّها صلاة العشاء الآخرة، انتهى. وقوله: بِحَمْدِ رَبِّكَ الباء للاقتران، أي: سبّح سبحة يكون معها حمد، وقَبْلَ

_ (1) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1727) . [.....] (2) أخرجه البخاري (3/ 48) كتاب «التهجد» باب: فضل من تعارّ من الليل فصلّى (1154) ، وأبو داود (2/ 734) ، كتاب «الأدب» باب: ما يقول الرجل إذا تعار من الليل (5060) ، وابن ماجه (2/ 1276) كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا انتبه من الليل (3878) ، والترمذي (5/ 480) ، كتاب «الدعوات» باب: ما جاء في الدعاء إذا انتبه من الليل (3414) ، وأحمد (5/ 313) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 215) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا انتبه من منامه (10697/ 9) ، وابن حبان (6/ 331) كتاب «الصلاة» باب: فصل في قيام الليل (2596) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

[سورة ق (50) : الآيات 41 إلى 45]

وقوله: بِحَمْدِ رَبِّكَ الباء للاقتران، أي: سَبِّح سبحة يكون معها حمد، وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هي الصبح، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ: هي العصر قاله ابن زيد والناس «1» ، وقال ابن عبّاس «2» : الظهر والعصر، وَمِنَ اللَّيْلِ: هي صلاة الْعِشَاءَيْنِ، وقال ابن زيد «3» : هي العشاء فقط، وقال مجاهد «4» : هي صلاة الليل. وقوله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال عمر بن الخطاب وجماعة «5» : هي الرَّكْعَتَانِ بعد المغرب، وأَسنده الطبريُّ عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «6» قال ع «7» : كَأَنَّهُ رُوعِيَ أَدبارُ صلاة النهار، كما رُوعي أدبار النجوم في صلاة الليل، وقال ابن عباس أيضاً، وابن زيد، ومجاهد «8» : هي النوافل إثر الصلوات، وهذا جارٍ مع لفظ الآية، وقرأ نافع، وابن كثير، وحمزة: «وَإدْبَارَ» بكسر الهمزة، وهو مصدر، وقرأ الباقون بفتحها، وهو جمع دُبُر كطُنُب وأَطْنَاب «9» ، أي: وفي أدبار السجود، أي: في أعقابه. [سورة ق (50) : الآيات 41 الى 45] وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) وقوله سبحانه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ واستمع بمنزلة: وانتظر،

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 435) برقم: (31970) ، وذكره ابن عطية (5/ 168) . (2) ذكره البغوي (4/ 226) ، وابن عطية (5/ 168) . (3) أخرجه الطبري (11/ 435) برقم: (31971) ، وذكره ابن عطية (5/ 168) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 130) ، وعزاه لابن جرير. (4) أخرجه الطبري (11/ 435) برقم: (31972) ، وذكره البغوي (4/ 227) ، وابن عطية (5/ 168) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 130) ، وعزاه لابن جرير. (5) أخرجه الطبري (11/ 436) برقم: (31975) عن علي رضي الله عنه، وذكره البغوي (4/ 227) ، وابن عطية (5/ 168) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 230) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 131) ، وعزاه لابن المنذر، ومحمّد بن نصر. (6) أخرجه الطبري (11/ 437) برقم: (31985) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 169) . (8) أخرجه الطبري (11/ 438) برقم: (31997) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (5/ 169) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 130) ، وعزاه لابن جرير. (9) ينظر: «الحجة» (6/ 213) ، و «السبعة» (607) ، و «معاني القراءات» (3/ 27) ، و «شرح الطيبة» (6/ 17) ، و «حجة القراءات» (678) ، و «العنوان» (179) ، و «شرح شعلة» (588) ، و «إتحاف» (2/ 489) .

وكذا، أي: كُنْ مُنتظراً له، مستمعاً له، فعلى هذا فَنَصْبُ «يوم» إنَّما هو على المفعول الصريح. وقوله سبحانه: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل: وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ مَلَكاً يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: أَيَّتُهَا الأَجْسَامُ الْهَامِدَةُ، وَالْعِظَامُ الْبَالِيَةُ، - وَالرِّمَمُ الذَّاهِبَةُ- هَلُمِّي إلَى الْحَشْرِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» والصيحة: / هي صيحة المنادي، والخروج: هو من القبور، ويومُه هو يومُ القيامة، ويومُ الخروج في الدنيا: هو يوم العيد. وقوله تعالى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ: معادل لقول الكفرة: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] . وقوله سبحانه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وعيد محض للكفرة. وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ قال الطبري وغيره «1» : معناه: وما أنت عليهم بمُسَلَّطٍ، تُجْبِرُهُمْ على الإيمان. وقال قتادة «2» : هو نهيٌ من اللَّه تعالى عن التجبر، والمعنى: وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت، وروى ابن عباس أَنَّ المؤمنين قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ خوّفتنا! فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «3» .

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 439) . (2) أخرجه الطبري (11/ 440) برقم: (32004) ، وذكره ابن عطية (5/ 170) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 231) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 172) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (3) أخرجه الطبري (11/ 440) برقم: (32005) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 132) .

تفسير سورة"الذاريات"

تفسير سورة «الذّاريات» وهي مكّيّة بإجماع المفسّرين [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) قوله عز وجل: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ... الآية، أقسم الله عز وجل بهذه المخلوقات تنبيهاً عليها، وتشريفاً لها، ودَلاَلَةً على الاعتبار فيها، حَتَّى يصيرَ الناظرُ فيها إلى توحيد الله عز وجل، فقوله: وَالذَّارِياتِ: هي الرياح بإجماع وذَرْواً نصب على المصدر، وفَالْحامِلاتِ وِقْراً قال عليٌّ: هي السحاب، وقال ابن عباس وغيره «1» : هي السفن الموقورة بالناس وأمتعتهم، وقال جماعة من العلماء: هي أيضاً مع هذا جميع الحيوانِ الحامل، وفي جميع ذلك معتبر، وفَالْجارِياتِ يُسْراً قال عليٌّ وغيره «2» : هي السفن في البحر، وقال آخرون: هي السحاب، وقال آخرون: هي الكواكب قال ع «3» : واللفظ يقتضي جميعَ هذا، ويُسْراً نعت لمصدر محذوف، وصفات/ [المصادر المحذوفة تعود أحوالا، ويُسْراً معناه: بسهولة و «المقسّمات أَمْراً» : الملائكة، والأمر هنا: اسم جنس، فكأَنَّه قال: والجماعات التي تقسم أمورَ الملكوت، من الأرزاق، والآجال، والخلق في الأرحام، وأمر الرياح والجبال، وغير ذلك لأَنَّ كُلَّ هذا إنَّما هو بملائكة تخدمه، وأنّث «المقسمات» من حيث أراد الجماعات، وهذا القَسَمُ واقع على قوله: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ...

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 442) برقم: (32021) ، وذكره ابن عطية (5/ 171) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 231) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 133) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، والحارث بن أبي أسامة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف» ، والحاكم وصححه. [.....] (2) ذكره ابن عطية (5/ 171) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 171) .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 8 إلى 12]

الآية، وتُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الإيعاد، وهو أظهر، والدِّينَ: الجزاء، وقال مجاهد: الحساب «1» . ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر، فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ والحُبُكُ: الطرائق التي هي على نظامٍ في الأجرام، ويقال لما تراه من الطرائق في الماء والرمال إذا أصابته الريحُ: حبك، ويقال لِتَكَسُّرِ الشعر: حُبُك، وكذلك في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائِقُ في موضع تداخل الخيوط هي حبك وذلك لجودة خِلْقَةِ السماء ولذلك فَسَّرَها ابن عباس وغيره «2» بذات الخلق الحَسَنِ وقال الحسن «3» : حبكها كواكبها. [سورة الذاريات (51) : الآيات 8 الى 12] إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يحتمل أنْ يكون خطاباً لجميع الناس، أي: منكم مؤمن بمحمد، ومنكم مُكَذِّبٌ له، وهو قول قتادة «4» ، ويحتمل أَنْ يكونَ خطاباً للكفرة فقط لقول بعضهم: شاعر، وبعضهم: كاهن، وبعضهم: ساحر، إلى غير ذلك وهذا قول ابن زيد «5» . ويُؤْفَكُ معناه: يُصْرَفُ، أي: يصرف من الكفار عن كتاب اللَّه مَنْ صُرِفَ مِمَّنْ غلبت عليه شَقَاوَتُهُ، وعُرْفُ الاستعمال في «أفك» إنَّما هو في الصرف من خير إلى شَرٍّ. وقوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاءٌ عليهم كما تقول: قاتلك اللَّه، وقال بعض المفسرين. معناه: لُعِنَ الخرَّاصون، وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ. ت: والظاهر ما قاله هذا المُفَسِّرُ قال عِيَاضٌ في «الشفا» وقد يقع القتل بمعنى اللعن قال الله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ وقاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4]

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 444) برقم: (32036) ، وذكره ابن عطية (5/ 172) . (2) أخرجه الطبري (11/ 445) برقم: (32040) ، وذكره البغوي (4/ 229) ، وذكره ابن عطية (5/ 172) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 232) . (3) أخرجه الطبري (11/ 445) برقم: (32052) ، وذكره البغوي (4/ 229) ، وابن عطية (5/ 172) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 232) . (4) أخرجه الطبري (11/ 446) برقم: (32060) ، وذكره ابن عطية (5/ 173) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 232) . (5) أخرجه الطبري (11/ 446) برقم: (32061) ، وذكره ابن عطية (5/ 173) .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 13 إلى 17]

أي: لعنهم اللَّه، انتهى، وقد تقدَّم للشيخ عند قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح: 6] قال: كُلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء لأنَّ اللَّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته، انتهى بلفظِهِ، وظاهِرُهُ مخالف لما هنا، وسيبينه في «سورة البروج» ، والخَرَّاصُ: المُخَمِّنُ القائل بِظَنِّهِ، والإشارة إلى مكذّبي النبي صلّى الله عليه وسلّم، والغَمْرَةُ: ما يَغْشَى الإنسانَ ويغطيه كغمرة الماء، وساهُونَ معناه: عن وجوه النظر. وقوله تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي: يوم الجزاء، وذلك منهم على جهة الاستهزاء. [سورة الذاريات (51) : الآيات 13 الى 17] يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ قال الزَّجَّاجُ «1» : التقدير: هو كائن يومَ هم على النار يفتنون، ويُفْتَنُونَ معناه: يُحْرَقُونَ ويُعَذَّبُون في النار قاله ابن عبّاس والناس «2» ، وفتنت الذهب أحرقته، وذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي: حرقكم وعذابكم قاله قتادة وغيره «3» . إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ... الآية، روى الترمذيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ، حتى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ البَأْسُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن «4» ، انتهى، وقوله سبحانه في المتقين: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي: مُحَصِّلِينَ ما أعطاهم رَبُّهم سبحانه من جناته، ورضوانه، وأنواع كراماته إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ: يريد في الدنيا مُحْسِنِينَ: بالطاعات] والعمل الصالح.

_ (1) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 52) . (2) أخرجه الطبري (11/ 449) برقم: (32079) ، وذكره ابن عطية (5/ 173) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 232) . (3) أخرجه الطبري (11/ 450) برقم: (32092) ، وذكره ابن عطية (5/ 174) . (4) أخرجه الترمذي (4/ 634) كتاب «صفة القيامة» باب: (9) (2451) ، وابن ماجه (2/ 1409) كتاب «الزهد» باب: الورع والتقوى (4215) ، والبيهقي (5/ 335) كتاب «البيوع» باب: كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا أو ثمن المحرم، والطبراني (17/ 169) ، (446) ، والحاكم (4/ 319) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 18 إلى 21]

ت: وروى التِّرْمِذِيُّ عن سعد بن أبي وقّاص، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السموات والأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَ، فَبَدَا أَسَاوِرُهُ، لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ» «1» انتهى، ومعنى قوله: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ أَنَّ نومهم كان قليلاً لاشتغالهم بالصلاة والعبادةِ، والهجوعُ: النومُ، وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابَدُوا قيامَ الليل، لا ينامون منه إلاَّ قليلاً «2» ، وأَمَّا إعرابُ الآية فقال الضَّحَّاكُ في كتاب الطبريِّ: ما يقتضي أنَّ المعنى: كانوا قليلاً في عددهم، وتمّ خبر «كان» ، ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ فما نافية وقَلِيلًا وقف حسن، وقال جمهور النحويين: ما مصدريَّةٌ وقَلِيلًا خبرُ كَانَ، والمعنى: كانوا قليلاً من الليل هجوعُهُم، وعلى هذا الإعراب يجيء قولُ الحسن وغيرِهِ، وهو الظاهر عندي أَنَّ المراد كان هُجُوعُهُمْ من الليل قليلاً قيل لبعض التابعين: مدح الله قوما كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ونَحْنُ قليلاً من الليل ما نقوم! فقال: رَحِمَ اللَّهُ امرأً رقد إذا نعس، وأطاع ربّه إذا استيقظ. [سورة الذاريات (51) : الآيات 18 الى 21] وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وقوله تعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال الحسن «3» : معناه: يدعون في طَلَبِ المغفرة، ويُرْوَى أَنَّ أبوابَ الجنة تُفْتَحُ سَحَرَ كُلَّ ليلة، قال ابن زيد «4» : السَّحَرُ: السُّدُسُ الآخر من الليل، والباء في قوله بِالْأَسْحارِ بمعنى في قاله أبو البقاء، انتهى، ومن كلام [ابن] الجوزي في «المُنْتَخَبِ» : يا أخي، علامةُ المَحَبَّةِ طلبُ الخَلْوَةِ بالحبيبِ، وبيداءُ اللَّيل/ فلواتُ الخلوات، لَمَّا ستروا قيامَ الليل في ظلام الدُّجَى غَيْرَةً أَنْ يَطَّلِعَ الغيرُ عليهم- سترهم سبحانه بسترٍ-، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] ، لَمَّا صَفَتْ خلواتُ الدُّجَى، ونادى أذان الوصال: أقم فلانا، وأنم فلانا- خرجت بالأسماء

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 678) ، كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء في صفة أهل الجنة، وأحمد (1/ 171) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 208) (2190) ، وابن المبارك في «الزهد» (2/ 126) (416) . قال الترمذي: هذا الحديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من حديث ابن لهيعة. (2) أخرجه الطبري (11/ 453) برقم: (32116) ، وذكره ابن عطية (5/ 174) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 223) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 134) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير. (3) أخرجه الطبري (11/ 456) برقم: (32140) ، وذكره البغوي (4/ 230) ، وذكره ابن عطية (5/ 175) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 135) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن نصر، وابن جرير، وابن المنذر. [.....] (4) أخرجه الطبري (11/ 456) برقم: (32142) ، وذكره ابن عطية (5/ 175) .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 22 إلى 23]

الجرائد وفاز الأحبابُ بالفوائد، وأنت غافل راقد. آهِ لو كنتَ معهم! أسفاً لك! لو رأيتهم لأبصرتَ طلائِعَ الصِّدِّيقِينَ في أول القوم، وشاهدتَ سَاقَةَ المستغفرين في الرَّكْبِ، وسَمِعْتَ استغاثة المُحِبِّينَ في وسط الليل، لو رأيتهم يا غافل، وقد دارت كؤوس المناجاة بين مزاهر التلاوات، فأسكَرَتْ قَلْبَ الواجدِ، ورقمت في مصاحف الوجنات. تعرفهم بسيماهم، يا طويلَ النوم، فاتتك مِدْحَةُ تَتَجافى [السجدة: 16] ، وَحُرِمْتَ مِنْحَةَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ [آل عمران: 17] ، يا هذا، إنَّ للَّه تعالى ريحاً تُسَمَّى الصَّبِيحَةَ مخزونةً تحتَ العرش، تَهُبُّ عند الأسحار، فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز الجَبَّارِ، انتهى. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ ... الآية، الصحيح أَنَّها مُحْكَمَةٌ وأنَّ هذا الحق هو على وجه الندب، ومَعْلُومٌ [المعارج: 24] يُرَادُ به: مُتَعَارَفٌ، وكذلك قيامُ الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلةُ بفعل المندوبات، والمحروم هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه، فيناله حرمان وَفاقَةٌ، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حَقٌّ في أموال الأغنياء، كما للسائل حَقٌّ، وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا، وبعد هذا محذوف تقديره: فكونوا/ أَيُّها الناس مثلهم وعلى طريقهم، وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ: لمن اعتبر وأيقن. وقوله سبحانه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ إحالة على النظر في شخص الإنسان، وما فيه من العِبَرِ، وأمرِ النفسِ، وحياتِهَا، ونطقِها، واتصالِ هذا الجزء منها بالعقل قال ابن زيد: إنَّما القلب مُضْغَةٌ في جوف ابن آدم، جَعَلَ اللَّه فيه العقل، أفيدري أحد ما ذلك العقل، وما صِفَتُه، وكيف «1» هو. ت: قال ابنُ العربيِّ في رحلته: اعلم أنَّ معرفة العبد نَفْسَهُ من أولى ما عليه وآكدِهِ إذْ لاَ يَعْرِفُ رَبَّه إلاَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وغير ما آية في ذلك، ثم قال: ولا ينكر عاقل وُجُودَ الرُّوحِ من نفسه، وإنْ كان لم يدركْ حقيقتَه، كذلك لا يَقْدِرُ أنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الباري سبحانه الذي دَلَّتْ أفعاله عليه، وإنْ لم يدركْ حقيقته، انتهى. [سورة الذاريات (51) : الآيات 22 الى 23] وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 460) برقم: (32179) ، وذكره ابن عطية (5/ 175) .

وقوله سبحانه: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال مجاهد وغيره «1» : هو المطر، وقال واصل الأحدب: أراد القضاء والقدر «2» ، أي: الرزق عند اللَّه يأتي به كيف شاء سبحانه لا رَبَّ غيرُه، وتُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكونَ من الوعيد قال الضَّحَّاكُ. المُرَادُ: من الجنة والنار «3» ، وقال مجاهد «4» : المرادُ: الخيرُ والشَّرُّ، وقال ابن سيرين «5» : المراد: الساعة، ثم أقسم سبحانه بنفسه على صِحَّةِ هذا القول والخبر، وشَبَّهَهُ في اليقين به بالنُّطْقِ من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، و «ما» زائدة تعطي تأكيداً، والنطق في هذه الآية هو الكلام/ بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني، ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الأعراب الفصحاء سَمِعَ هذه الآيةَ فقال: مَنْ أَحْوَجَ الكريمَ إلى أَنْ يحلف؟! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبيِّ، وسبل الخيرات، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ قَوْماً، أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ» ورَوَى أبو سعيد الخُدَرِيُّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لَتَبِعَهُ كَمَا يَتْبَعُهُ المَوْتُ» «6» وأحاديث الرزق كثيرة، ومن كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه» للْمُحَاسِبِيِّ: قال: قلتُ لشيخنا: من أين وقع الاضطرابُ في القلوب، وقد جاءها الضمان من الله عز وجل؟ قال: من وجهين. أحدهما: قِلَّةُ المعرفة بحُسْنِ الظّن، وإلقاء التّهم عن الله عز وجل. والوجه الثاني: أنْ يعارضها خوفُ الفَوْت، فتستجيبَ النفسُ للداعي، ويَضْعُفَ اليقينُ، ويَعْدِمَ الصبرُ، فيظهرَ الجَزَعُ. قلتُ: شيءٌ غيرُ هذا؟ قال: نعم، إنّ الله عز وجل وَعَدَ الأرزاق، وضَمِنَ، وغَيَّبَ الأوقات ليختبرَ أهلَ العقول، ولولا ذلك لكان كُلُّ المؤمنين راضين صابرين متوكّلين، لكنّ الله عز وجل أعلمهم أَنَّهُ رازقهم، وحَلَفَ لهم على ذلك، وغيّب عنهم أوقات العطاء،

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 461) برقم: (32184) ، وذكره البغوي (4/ 231) . (2) أخرجه الطبري (11/ 461) برقم: (32186) ، وذكره ابن عطية (5/ 176) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 235) . (3) أخرجه الطبري (11/ 461) برقم: (32189) ، وذكره البغوي (4/ 231) ، وابن عطية (5/ 176) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 137) ، وعزاه لأبي الشيخ، وابن جرير. (4) أخرجه الطبري (11/ 461) برقم: (32187) ، وذكره البغوي (4/ 231) ، وابن عطية (5/ 176) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 137) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (5) ذكره ابن عطية (5/ 176) . (6) قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 75) : رواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» وفيه عطية العوفي وهو ضعيف. اهـ.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 إلى 36]

فمن هاهنا عُرِفَ الخَاصّ من العامِّ، وتفاوت العبادُ في الصبر، والرضا، واليقين، والتوكل، والسكون، فمنهم- كما علمتَ- ساكنٌ، ومنهم متحرك، ومنهم راض، ومنهم ساخط، ومنهم جَزِعٌ، فعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في المعرفة- تفاوتوا في اليقين، وعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في اليقين- تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. اهـ. [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 36] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وقوله سبحانه: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ... الآية، قد تقدم قَصَصُهَا، و «عليم» أي: عالم، وهو إسحاق ع. ت: ولنذكر هنا شيئاً من الآثار في آداب الطعام، قال النوويُّ: روى ابن السُّنِّيِّ بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كَانَ يقول في الطعام إذا قُرِّبَ إلَيْهِ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، باسم اللَّهِ» انتهى «1» ، وفي «صحيح مسلم» عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ- قَالَ الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ، وَلاَ عَشَاءَ، وَإذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» «2» ، وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَلاَّ يُذْكَرَ اسم الله عليه» «3» الحديث، انتهى،

_ (1) أخرجه ابن السني (459) . (2) أخرجه مسلم (3/ 1598) كتاب «الأشربة» باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما (103/ 2018) ، وأبو داود (2/ 374) كتاب «الأطعمة» باب: التسمية على الطعام (3765) ، وابن ماجه (2/ 1279) ، كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا دخل بيته (3887) ، وأحمد (3/ 346) ، والبيهقي (7/ 276) ، كتاب «الصداق» باب: التسمية على الطعام، والبخاري في «الأدب المفرد» (319) (1102) . (3) أخرجه مسلم (3/ 1597) كتاب «الأشربة» باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما (102/ 2017) ، وأبو داود (2/ 374) كتاب «الأطعمة» باب: التسمية على الطعام (3766) ، وأحمد (5/ 383) ، والحاكم في «المستدرك» (4/ 108) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وللحديث شاهد من رواية جابر بن عبد الله، أخرجه أبو داود (2/ 374) كتاب «الأطعمة» ، باب:

[سورة الذاريات (51) : الآيات 37 إلى 44]

والصَّرَّةُ: الصيحة «1» كذا فسره ابن عباس وجماعة، قال الطبريُّ عن بعضهم «2» : قَالَتْ: «أَوَّهْ» بِصِيَاحٍ وتَعَجُّبٍ وقال النَّحَّاسُ: فِي صَرَّةٍ في جماعة نسوة. وقوله: فَصَكَّتْ وَجْهَها: معناه: ضربْت وَجْهَهَا استهوالاً لما سمعت، وقال سفيان وغيره: ضَرَبَتْ بِكَفِّهَا جبهتها «3» ، وهذا مُسْتَعْمَلٌ في الناس حَتَّى الآن، وقولهم: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي: كقولنا الذي أخبرناك. وقوله تعالى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ بيانٌ يخرج عن مُعْتَادِ حجارة البرَد التي هي من ماء، ويُرْوَى أَنَّه طين طُبِخَ في نار جَهَنَّمَ حَتَّى صار حجارة كالآجر، ومُسَوَّمَةً نعت لحجارة، ثم أخبر تعالى أَنَّه أخرج بأمره مَنْ كان في قرية «لوط» مِنَ المؤمنين، منجياً لهم، وأعاد الضمير على القرية، / وإنْ لم يجرِ لها قبل ذلك ذكر لشهرة أمرها، قال المفسرون: لاَ فَرْقَ بين تقدُّمِ ذكر المؤمنين وتأخُّرِهِ وإِنَّمَا هما وصفانِ ذَكَرَهُمْ أَوَّلاً بأحدهما، ثم آخراً بالثَّاني، قيل: فالآية دالَّةٌ على أَنَّ الإيمان هو الإسلام، قال ع «4» : ويظهر لي أَنَّ في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان وذلك أَنَّهُ ذكره مع الإخراج من القرية، كأَنَّهُ يقول: نفذ أمرنا بإخراج كُلِّ مؤمن، ولا يُشْتَرَطُ فيه أنْ يكون عاملاً بالطاعات بلِ التصديق باللَّه فقط، ثم لما ذكر حال الموجودين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها، وهي الكاملةُ التصديق والأعمالِ، والبيتُ من المسلمين هو بيتُ لوط ع وكان هو وابنتاه، وفي كتاب الثعلبيِّ: وقيل: لوط وأهل بيته ثلاثةَ عَشَرَ، وهلكت امرأتُه فيمن هلك، وهذه القصة ذُكِرَتْ على جهة ضرب المثل لقريش، وتحذيراً أنْ يصيبهم مثلُ ما أصاب هؤلاء. [سورة الذاريات (51) : الآيات 37 الى 44] وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)

_ التسمية على الطعام (3765) ، والنسائي (4/ 174) ، كتاب «آداب الأكل» باب: ذكر الله تعالى وتبارك عند الطعام (6757/ 1) . (1) أخرجه الطبري (11/ 463) ، وذكره ابن عطية (5/ 178) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 138) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 463) . [.....] (3) أخرجه الطبري (11/ 464) برقم: (32206) ، وذكره ابن عطية (5/ 178) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 179) .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 45 إلى 48]

وقوله: وَتَرَكْنا فِيها أي: في القرية، وهي سدوم آيَةً، قال أبو حيان «1» : وَفِي مُوسى، أي: وفي قصة موسى، [انتهى] . وقوله سبحانه في فرعون: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي: أعرض عن أمر اللَّه، ورُكْنُهُ: هو سلطانُه وجُنْدُهُ وشدَّةُ أمره، وقول فرعون في موسى: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ هو تقسيم، ظَنَّ أَنَّ موسى لا بُدَّ أَنْ يكونَ أَحَدَ هذين القسمين، وقال أبو عبيدةَ: «أو» هنا بمعنى الواو، وهذا ضعيف لا داعيةَ إليه في هذا الموضع. وقوله: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي: ما تدع من شيء أتتْ عليه مِمَّا أذِنَ لها في إِهلاكه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ: وهو الفاني المُتَقَطِّعُ يبساً أو قِدَماً من الأشجار/ والوَرَقِ والعِظَامِ، ورُوِيَ في حديث: أَنَّ تلك الريح كانت تَهُبُّ على الناس فيهم العاديُّ وغيرُهُ، فَتَنْتَزِعُ العَادِيَّ من بين الناس وتذهب به. وقوله سبحانه: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا أي: إذ قيل لهم في أول بَعْثِ صالح، وهذا قول الحَسَنِ «2» ، ويحتمل: إذْ قيل لهم بعد عَقْرِ الناقة: تمتعوا في داركم ثلاثة أَيَّامٍ وهو قول الفرَّاء «3» . وقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي: يبصرون بعيونهم، وهذا قول الطبريِّ، ويحتمل أَنْ يريدَ وهم ينتظرون في تلك الأَيَّامِ الثلاثة، وهذا قول مجاهد «4» . [سورة الذاريات (51) : الآيات 45 الى 48] فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي: من مصارعهم قاله بعض المفسرين، وقال قتادة وغيره «5» : معناه من قيام بالأمر النازل بهم ولا دَفْعِهِ عنهم. وَقَوْمَ نُوحٍ بالنصب، وهو عَطْفٌ إمَّا على الضمير في قوله: فَأَخَذَتْهُمُ، إذْ هو بمنزلة أَهلكتهم، وإمَّا على الضمير في قوله: نَبَذْناهُمْ.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 139) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 180) . (3) ينظر: المصدر السابق. (4) أخرجه الطبري (11/ 470) برقم: (32240) ، وذكره ابن عطية (5/ 180) . (5) أخرجه الطبري (11/ 471) برقم: (32242) ، وذكره البغوي (4/ 234) ، وابن عطية (5/ 181) .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 49 إلى 55]

وقوله: وَالسَّماءَ نُصِبَ بإضمار فعل تقديره: وَبَنَيْنَا السماء بَنيناها، والأيد: القوة قاله ابن عباس وغيره «1» وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي: في بناء السماء، أي: جعلناها واسعةً قاله ابن زيد «2» . أبو البقاء: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي: نحن، فحذف المخصوص. انتهى. [سورة الذاريات (51) : الآيات 49 الى 55] وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وقوله سبحانه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ قال مجاهد: معناه: أَنَّ هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهُدَى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصِّحَّةِ والمرض، والإيمان والكفر، ونحو هذا، ورَجَّحَهُ الطبريُّ «3» بأَنَّه أَدَلُّ على القدرة التي تُوجدُ الضدين، وقال ابن زيد وغيره «4» : هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان. ت: والأَوَّلُ أحسن لشموله لما ذكره ابن/ زيد. وقوله سبحانه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ... الآية أمر بالدخول في الإيمان وطاعَةِ الرحمن، وَنَبَّهَ بلفظ الفرار على أَنَّ وراءَ الناس عقاباً وعذاباً» يَفِرُّ منه، فجمعتْ لفظةُ «فروا» بين التحذير والاستدعاء. ت: وأسند أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقيُّ في «دلائل النبوَّةِ» (تصنيفه) عن كَثِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أبيه، عن جدّه «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَانَ في الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ كَلاَماً مِنْ زَاوِيَتِهِ، وَإذَا هُوَ بِقَائِلٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، أَعِنِّي عَلَى ما ينجيني ممّا خوّفتني، فقال

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 472) برقم: (32245) ، وذكره ابن عطية (5/ 181) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 237) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 140) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» . (2) أخرجه الطبري (11/ 472) برقم: (32251) ، وذكره ابن عطية (5/ 181) . (3) أخرجه الطبري (11/ 472) برقم: (32252) ، وذكره ابن عطية (5/ 181) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 140) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (4) أخرجه الطبري (11/ 473) برقم: (32254) ، وذكره ابن عطية (5/ 181) .

[سورة الذاريات (51) : الآيات 56 إلى 60]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ: أَلاَ تَضُمُّ إلَيْهَا أُخْتَهَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ، ارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّادِقِينَ إلَى مَا شَوَّقْتَهُمْ إلَيْهِ» وفيه: «فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ، فَإذَا هو الخضر ع» ، انتهى مختصراً «1» . وقوله تعالى: كَذلِكَ أي: سيرة الأمم كذلك قال عياض: فهذه الآية ونظائرها تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عزّاه الله- عز وجل- بما أخبر به عن الأُمَمِ السالفة ومقالها لأنبيائها، وأَنَّه ليس أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ ذلك، انتهى من «الشفا» . وقوله سبحانه: أَتَواصَوْا بِهِ توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكَفَرَةِ في تكذيب الأنبياء على تَفَرُّقِ أَزمانهم، أي: لم يتواصوا، لكنَّهُم فعلوا فعلاً كأَنَّهُ فعل مَنْ تواصى، والعِلَّةُ في ذلك أَنَّ جميعهم طاغٍ، والطاغي المستعلي في الأرض، المُفْسِدُ. وقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: عنِ الحرص المُفْرِطِ عليهم، وذَهَابِ النفس حَسَرَاتٍ، ولستَ بملوم إذ قد بَلَّغْتَ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى: نافعة للمؤمنين، ولمن قضي له أن يكون منهم. [سورة الذاريات (51) : الآيات 56 الى 60] وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) وقوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال ابن عباس وعليٌّ «2» : المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ لآمرهم بعبادتي، وليقرُّوا لي بالعبودِيَّةِ، وقال زيد بن أسلمَ» وسفيان: هذا خاصٌّ، والمراد: ما خلقت الطائعين من الجن والإنس إلاَّ لعبادتي، ويؤَيِّدُ هذا التأويلَ أنّ ابن عبّاس روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أَنَّهُ قَرَأَ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ» ، وقال ابن عباس أيضاً «4» : معنى لِيَعْبُدُونِ: ليتذللوا لي ولقدرتي، وإنْ لم يكن ذلك على قوانينِ شرع، وعلى هذا التأويل فجميعهم من مؤمن

_ (1) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 423) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 193، 195) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 183) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 238) ، والسيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (11/ 475) برقم (32263) (32265) ، وذكره البغوي (4/ 235) ، وابن عطية (5/ 183) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 142) وعزاه لابن جرير وابن المنذر. [.....] (4) أخرجه الطبري (11/ 476) برقم (32268) ، وذكره ابن عطية (5/ 183) .

وكافر متذلّل لله عز وجل أَلاَ تراهم عند القحوط والأمراض وغيرِ ذلك كيف يخضعون للَّه ويتذللون؟!. ت: قال الفخر «1» : فإنْ قيل: ما العبادة التي خلق اللَّه الجن والإنسَ لها؟ قلنا: التعظيم لأمر اللَّه، والشفقةُ على خلق اللَّه فإنَّ هذين النوعينِ لم يَخْلُ شرعٌ منهما، وأَمَّا خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها: بالوضع والهيئة، والقِلَّةِ والكَثْرَةِ، والزَّمان والمكان، والشَّرَائِطِ والأركان، انتهى، ونقل الثعلبيُّ وغيره «2» عن مجاهد: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي: ليعرفوني، قال صاحب «الكَلِمِ الفارقية» : المعرفة باللَّه تملأ القلبَ مَهَابَةً ومخافَةً، والعينَ عَبْرَةً وعِبْرةً وحياءً وخَجْلَةً، والصَّدْرَ خُشُوعاً وَحُرْمَةً، والجوارحَ استكانةً وذِلَّةً وطاعةً وخدمةً، واللسانَ ذكراً وحمداً، والسمعَ إصغاءً وتفهّما، والخواطر في مواقف المناجاة خموداً، والوساوِسَ اضمحلالاً، انتهى. وقوله سبحانه: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: أنْ يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم. وقوله: أَنْ يُطْعِمُونِ أي: أنْ يطعموا خَلْقِيَ قاله ابن عباس «3» ، ويحتمل أن يريد: / أن ينفعوني، والْمَتِينُ: الشديد. ت: ورُوِّينَا في «كتاب التِّرْمِذِيِّ» عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا بْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ورُوِّينَا فيه عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهْ شَمْلَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَل اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» «4» انتهى. وقوله سبحانه: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: يريد أهل مكّة، والذّنوب: الحظّ والنصيب،

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 200) . (2) ذكره البغوي (4/ 235) . (3) أخرجه الطبري (11/ 476) برقم: (32269) ، وذكره ابن عطية (5/ 183) . (4) أخرجه الترمذي (4/ 642- 643) كتاب «صفة القيامة» باب: (30) (2466) ، وابن ماجه (2/ 1376) كتاب «الزهد» باب: الهم بالدنيا (4107) ، وأحمد (2/ 358) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وأصله من الدَّلْوِ وذلك أَنَّ الذَّنُوبَ هو مِلْءُ الدَّلْوِ من الماء، وكذا قال أبو حيان «1» : ذَنُوباً، أي: نصيبا، انتهى، وأَصْحابِهِمْ: يُرَادُ بهم مَنْ تقدم من الأمم المُعَذَّبَةِ، وباقي الآية وعيد بيّن.

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 141) .

تفسير سورة"الطور"

تفسير سورة «الطّور» وهي مكّيّة بإجماع [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) قوله عز وجل: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ... الآية، هذه مخلوقات أقسم الله- عز وجل- بها تنبيهاً على النظر والاعتبارِ بها، المؤَدِّي إلى توحيد اللَّه والمعرفة بواجب حَقِّه سبحانه قال بعض اللغويين: كُلُّ جبلٍ طُورٌ، فكأَنَّه سبحانه أقسم بالجبال، وقال آخرون: الطور: كُلُّ جبل أجردَ لا ينبت شجراً، وقال نوف البكاليُّ: المراد هنا جبل طُورِ سَيْنَاءَ، وهو الذي أقسم اللَّه به لفضله على الجبال، والكتاب المسطور: معناه/ بإجماع: المكتوبُ أسطاراً، واخْتَلَفَ الناس في هذا الكتاب المُقْسَمِ به، فقال بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو الكتاب المُنْتَسَخُ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرفَ منه جميعَ ما تفعله وتصرفه في العالم، وقيل: هو القرآن إذ قد علم تعالى أَنَّه يتخلد في رَقٍّ منشور، وقيل: هو الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، وقيل: هو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً، والرَّقُّ: الورق المُعَدَّةُ للكتب، وهي مُرَقَّقَةٌ فلذلك سُمِّيَتْ رَقًّا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان، والمنشور خلاف المَطْوِيِّ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ: هو الذي ذُكِرَ في حديث الإسراء قال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: هَذَا الْبَيْتُ المَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ «1» ، وبهذا هي عمارته، وهو في السماء السابعة، وقيل: في السادسة، وقيل: إنَّه مقابلٌ للكعبة، لو وَقَعَ حجر منه، لَوَقَعَ على ظهر

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 348، 350) ، كتاب «بدء الخلق» باب: ذكر الملائكة (3207) ، وكتاب «مناقب الأنصار» باب: المعراج (3887) ، والنسائي (1/ 217، 220) ، كتاب «الصلاة» باب: فرض الصلاة وذكر اختلاف الناقلين في إسناد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، واختلاف ألفاظهم فيه، وأحمد (3/ 148- 149) ، (4/ 208، 210) .

الكعبة، وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك، وهي كُلُّها على خط من الكعبة، وقاله علي بن أبي طالب «1» ، قال السُّهَيْلِيُّ: والبيت المعمور اسمه «عريباً» ، قال وهب بن مُنَبِّهٍ: مَنْ قال: سبحانَ اللَّهِ وبحمده، كان له نور يملأ ما بين عريباً وحريباً، وهي الأرض السابعة، انتهى. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: هو السماء، واختلف الناس في الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فقال مجاهد وغيره «2» : المُوْقَدُ ناراً، ورُوِيَ أَنَّ البحرَ هو جَهَنَّمُ، وقال قتادة «3» : الْمَسْجُورِ: المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورَجَّحَهُ/ الطبريُّ «4» ، وقال ابن عباس «5» : هو الذي ذهب ماؤه، فالمسجور الفارغ، ورُوِيَ أَنَّ البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة، وهذا معروف في اللغة، فهو من الأضداد، وقيل: يوقد البحر ناراً يَوْمَ القيامة، فذلك سجره، وقال ابن عباس أيضاً «6» : الْمَسْجُورِ: المحبوس ومنه ساجور الكلب، وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه، وكذلك لولا أَنَّ البحر يُمْسِكُ لفاض على الأرض، والجمهور على أَنَّه بحر الدنيا، وقال منذر بن سعيد «7» : المُقْسَمُ به جهنم، وسمَّاها بحراً لِسَعَتِها وتموجها كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الفرس: «وَإنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً» «8» ، والقسم واقع على قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 186) عن مجاهد، وقتادة، وابن زيد. (2) أخرجه الطبري (11/ 482) برقم: (32311) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه لابن جرير. (3) أخرجه الطبري (11/ 483) برقم: (32313) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه لابن جرير. (4) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 483) . (5) أخرجه الطبري (11/ 483) برقم: (32314) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه للشيرازي في «الألقاب» من طريق الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة. (6) أخرجه الطبري (11/ 483) برقم: (32315) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 145) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (7) ذكره ابن عطية (5/ 187) . [.....] (8) أخرجه البخاري (5/ 284- 285) كتاب «الهبة» باب: من استعار من الناس الفرس، حديث (2627) ، (6/ 42) كتاب «الجهاد والسير» باب: الشجاعة في الحرب والجبن، حديث (282) (6/ 69) كتاب «الجهاد والسير» باب: اسم الفرس والحمار، حديث (2857) ، (6/ 78) ، باب: الركوب على الدابة الصعبة والفحولة من الخيل، حديث (2862) ، (6/ 83) باب: الفرس القطوف، حديث (2867) ، (6/ 143) كتاب «الجهاد والسير» باب: مبادرة الإمام عند الفزع، حديث (2968) ، باب: السرعة والركض في الفزع، حديث (2969) ، (10/ 609- 610) ، كتاب «الأدب» باب: المعاريض مندوحة على الكذب، حديث (6212) ، ومسلم (4/ 1802) ، كتاب «الفضائل» باب: في شجاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقدمه للحرب، حديث (49/ 2307) ، وأبو داود (2/ 715) ، كتاب «الأدب» باب: ما روي في

[سورة الطور (52) : الآيات 17 إلى 20]

لَواقِعٌ يريد: عذاب الآخرة واقع للكافرين قاله قتادة «1» ، قال الشيخ عبد الحق في «العاقبة» : وَيُرْوَى أَنَّ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- سَمِعَ قارئاً يقرأ: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ قال: هذا قسم حقّ، فلمّا بلغ القارئ إلى قوله- عز وجل-: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ظنَّ أَنَّ العذاب قد وقع به فغشي عليه، انتهى، وتَمُورُ معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعةً مُتَفَتِّتَةً، وسير الجبال: هو في أَوَّلِ الأمر، ثم تتفتَّتُ حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش، ويُدَعُّونَ قال ابن عباس وغيره «2» : معناه: يُدْفَعُونَ في أعناقهم بشدة وإهانة وتَعْتَعَةٍ، ومنه: يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] ، وفي الكلام محذوف، تقديره: يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون توبيخاً وتقريعاً لهم، ثم وقفهم سبحانه بقوله: أَفَسِحْرٌ هذا ... الآية: ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم: اصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سواء عليكم، أي: عذابكم حتم، فسواء جَزَعُكُمِ/ وَصَبْرُكُمْ، لا بدّ من جزاء أعمالكم. [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ... الآية: يحتمل أَنْ يكونَ من خطاب أهل النار، فيكون إخبارُهم بذلك زيادةً في غَمِّهِمْ وسُوءِ حالهم، نعوذ باللَّه من سخطه! ويحتمل، وهو الأظهر، أن يكون إخبارا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعاصريه، لما فَرَغَ من ذكر عذاب الكفار عَقَّبَ بذكر نعيم المتقين- جعلنا اللَّه منهم بفضله- ليبين الفرقَ، ويقعَ التحريضُ على الإيمان، والمتقون هنا: مُتَّقُو الشرك لأَنَّهم لا بُدَّ من مصيرهم إلى الجنات، وكلما زادت الدرجة في التقوى قَوِيَ الحصولُ في حكم الآية، حتّى إنّ المتقين

_ الرخصة في ذلك، حديث (4988) ، والترمذي (4/ 171- 172) ، كتاب «الجهاد» باب: ما جاء في الخروج عند الفزع، حديث (1685- 1686- 1687) ، وابن ماجه (2/ 926) ، كتاب «الجهاد» باب: الخروج في النفير، حديث (2772) ، وأحمد (3/ 147، 180، 185، 271، 274، 291) ، وأبو داود الطيالسي (2/ 121) - منحة رقم: (2438) ، وأبو يعلى (5/ 336) رقم: (2962) ، والبيهقي (10/ 25) كتاب «السبق والرمي» باب: ما جاء في تسمية البهائم والدواب (10/ 200) ، كتاب «الشهادات» باب: من سمى المرأة قارورة، من حديث أنس بن مالك. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (1) أخرجه الطبري (11/ 484) برقم: (32319) . (2) أخرجه الطبري (11/ 484) برقم: (32329) ، وذكره ابن عطية (5/ 187) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.

[سورة الطور (52) : الآيات 21 إلى 28]

على الإطلاق هم في هذه الآية قطعاً على اللَّه تعالى بحكم خبره الصادق، وقرأ جمهور الناس: «فاكهين» «1» ومعناه: فَرِحِينَ مسرورين، وقال أبو عُبَيْدَةَ: هو من باب: «لاَبِنٌ» و «تَامِرٌ» ، أي: لهم فاكهة «2» ، قال ع «3» : والمعنى الأَوَّلُ أبرع، وقرأ خالد فيما روى أبو حاتم: «فَكِهِينَ» «4» والفَكِهُ والفاكه: المسرور المتنعم. وقوله تعالى: بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي: من إنعامه ورضاه عنهم. وقوله تعالى: وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ هذا متمكن في مُتَّقِي المعاصي، الذي لا يدخل النارَ وَوَقاهُمْ مشتق من الوقاية، وهي الحائل بين الشيء وبين ما يضرُّه. وقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، وهَنِيئاً نُصِبَ على المصدر. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ معناه: أَنَّ رُتَبَ الجنة ونعيمها بحسب الأعمال، وأَمَّا نَفْسُ دخولها فهو برحمة اللَّه وفضلِهِ، وأعمالُ العباد الصالحاتُ لا تُوجِبُ على اللَّه تعالى التنعيمَ إيجاباً لكِنَّهُ سبحانه قد جعلها أَمارةً على مَنْ سبق في علمه تنعيمه، وعَلَّقَ الثوابَ والعِقَابَ بالتكسب الذي في الأعمال، والحُورُ: جمع حَوْرَاءُ، وهي البيضاء القويةُ بياضِ بياضِ/ العَيْنِ وَسَوَادِ سَوَادِها، والعِينُ: جمع عَيْنَاءُ، وهي كبيرة العينين مع جمالهما، وفي قراءة ابن مسعود والنَّخَعِيِّ: «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعِيسٍ عِينٍ» «5» قال أبو الفتح: العيساء: البيضاء. [سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 28] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 188) ، و «البحر المحيط» (8/ 145) ، و «الدر المصون» (6/ 197) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 188) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 188) . (4) ينظر: مصادر القراءة السابقة. (5) ينظر: «المحتسب» (2/ 290) ، و «مختصر الشواذ» ص: (146) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 188) ، وقال: وحكى أبو عمرو عن عكرمة أنه قرأ «بعيس عين» على إضافة «عيس» إلى «عين» .

وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ اختُلِفَ في معنى الآيةِ، فقال ابن عباس، وابن جبير، والجمهور: أخبر اللَّه تعالى أَنَّ المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء، وإنْ لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء كرامةً للآباء «1» ، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا الحديثَ تفسيراً للآية، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أَنَّ اللَّه تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين، وقال ابن عباس أيضاً والضَّحَّاكُ. معنى الآية: أَنَّ اللَّه تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وفي أحكام الآخرة في الجنة «2» ، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار لا في الكبار «3» قال ع «4» : وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأَوَّل لأَنَّ الآياتِ كلَّها في صفة إحسان اللَّه تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانِهِ سبحانه أَنَّه يرْعَى المحسنَ في المسيء، ولفظة أَلْحَقْنا تقتضي أَنَّ لِلْمُلْحَقِ بعضَ التقصير في الأعمال. ت: وأظهرُ مَنْ هذا ما أشار إليه الثعلبيُّ في بعض أنقاله: أَنَّ اللَّه تعالى يجمع لعبده المؤمن ذُرِّيَّتَهُ في الجنة، كما كانوا في الدنيا، انتهى، ولم يتعرَّضْ لذكر الدرجات في هذا التأويل، وهو أحسن لأَنَّهُ قد تقرَّرَ أَنَّ رفع الدرجات هي بأعمال العاملين، والآياتُ/ والأحاديث مُصَرِّحَةٌ بذلك، ولما يلزم على التأويل الأَوَّلِ أَنْ يكونَ كلّ من دخل الجنة مع آدم ع في درجةٍ واحدة إذ هم كُلُّهم ذرِّيَّتُهُ، وقد فتحتُ لك باباً للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار، وباللَّه التوفيق. وقوله: وَما أَلَتْناهُمْ أي: نقصناهم، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانهُ يُلْحِقُ الأبناء بالآباء، ولا يُنْقِصُ الآباء من أجورهم شيئاً، وهذا تأويل الجمهور، ويحتمل أَنْ يريدَ: مِنْ عمل الأَبناء من شيء من حسن أو قبيح، وهذا تأويل ابن زيد «5» ، ويُؤيِّدُهُ قوله سبحانه: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ والرهين: المُرْتَهِنُ، وفي هذه الألفاظ وعيد، وأمددتُ الشيءَ: إذا سرّبْتُ إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 487) برقم: (32338) ، و (11/ 488) برقم: (32339) ، وذكره البغوي (4/ 239) ، وابن عطية (5/ 189) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 241) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 148) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) ذكره ابن عطية (5/ 189) . (3) ينظر: المصدر السابق. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 189) . (5) أخرجه الطبري (11/ 491) برقم: (32364) ، وذكره ابن عطية (5/ 190) . [.....]

وقوله: مِمَّا يَشْتَهُونَ إشارة إلى ما رُوِيَ من أَنَّ المُنَعَّمَ إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يحتز، ولا يُتَكَلَّفُ فيه الذبح، والسلخ، والطبخ، وبالجملة لا كلفة في الجنة، ويَتَنازَعُونَ معناه: يتعاطون ومنه قول الأخطل: [البسيط] نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الَّراحِ الشَّمُولِ وَقَد ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي «1» ، قال الفخر «2» : ويحتمل أنْ يقال: التنازع: التجاذُبُ، وحينئذ يكون تجاذُبُهُمْ تجاذبَ مُلاَعَبَةٍ، لا تجاذب منازعة، وفيه نوعُ لَذَّةٍ، وهو بيان لما عليه حال الشُرَّابِ في الدنيا فإنَّهم يتفاخرون بكثرة الشرب، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، انتهى، والكأس: الإِناء فيه الشراب، ولا يقال في فارغ كأس قاله الزَّجَّاج «3» ، واللغو: السَّقَطُ من القول، والتأثيم: يلحق خَمْرَ الدنيا في نفس شُرْبِهَا وفي الأفعال التي تكون من شاربيها، وذلك كُلُّه/ مُنْتَفٍ في الآخرة. ت: قال الثعلبيُّ: وقال ابن عطاء: أيُّ لغوٍ يكون في مجلس: مَحَلُّهُ جَنَّةُ عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربُهم على ذكر اللَّه، ورَيحانُهم تحيَّةٌ من عند اللَّه، والقومُ أضياف اللَّه. وَلا تَأْثِيمٌ أي: فعل يُؤْثِمُهُمْ، وهو تفعيل من الإثم، أي: لا يأثمونَ في شربها، انتهى، واللؤلؤ المكنون أجملُ اللؤلؤ لأَنَّ الصون والكَنُّ يُحَسِّنُهُ، قال ابن جبير: أراد الذي في الصّدَفِ لم تنله الأيدي «4» ، وقيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا كَانَ الْغِلْمَانُ كَاللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ فَكَيْفَ المَخْدُومُونَ؟ قال: هُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» «5» . ت: وهذا تقريب للأفهام، وإلاَّ فجمال أهلِ الجَنَّةِ أَعْظَمُ من هذا، يَدُلُّ على ذلك أحاديث صحيحة ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرةَ- رضي الله عنه- قال:

_ (1) ينظر: البيت في «ديوانه» (142) ، و «جمهرة أشعار العرب» (725) ، والقرطبي (17/ 46) ، و «روح المعاني» (27/ 34) ، و «البحر المحيط» (8/ 147) . والساري: الذي يمشي ليلا. (2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 218) . (3) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 63) . (4) ذكره البغوي (4/ 240) ، وابن عطية (5/ 190) . (5) أخرجه الطبري (11/ 492) برقم: (32369) ، (32370) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 149) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر.

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ- وفي رِوَايَةٍ: «مِنْ أُمَّتِي» عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ على أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إضَاءَةً» «1» ، وفي رواية: «ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ» الحديثَ، وفي «صحيح مسلم» أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ في الجَنَّةَ لَسُوقاً يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ حُسْناً وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً! فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً» «2» ، انتهى، وقد أشار الغَزَّاليُّ وغيره إلى طَرَفٍ من هذا المعنى، لَمَّا تكلَّم على رؤية العارفين للَّه سبحانه في الآخرة، قال بعد كلام: ولا يَبْعُدُ أَنْ تكونَ ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متواليةً إلى غير نهاية، فلا يزالُ النعيمُ واللَّذَّةُ متزايداً أبَدَ الآبادِ، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال: لو كُشِفَ عن نور المؤمن لعبد من دون اللَّه، ولو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض، / فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء اللَّه وابن عَبَّاد، انظره. ثم وصف تعالى عنهم أَنَّهُم في جملة تنعمهم يَتَساءَلُونَ أي: عن أحوالهم وما نال كُلَّ واحد منهم، وأَنَّهم يتذكرون حالَ الدنيا وخشيتَهم عذابَ الآخرة، والإشفاقُ أشدّ الخشية ورقّة القلب، والسَّمُومِ: الحارّ، ونَدْعُوهُ: يحتمل أَنْ يريد: الدعاءَ على بابه، ويحتمل أنْ يريد نعبده، وقرأ نافع والكسائيُّ: «أَنَّهُ» - بفتح الهمزة-، والباقون بكسرها «3» والْبَرُّ الذي يبرّ ويحسن.

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 367) كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3245، 3246، 3254) ، (6/ 417) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: خلق آدم وذريته (3327) ، ومسلم (4/ 2178) ، (2180) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: أول زمرة تدخل الجنة على هيئة القمر ليلة البدر، وصفاتهم وأزواجهم (14/ 2834) - مكرر، (15- 16/ 2834) ، والترمذي (4/ 678) ، كتاب «صفة الجنة» باب: في صفة أهل الجنة (2537) ، وأحمد (20، 230، 231، 232، 247، 253، 257، 316، 502، 507) ، وابن ماجه (2/ 1449) ، كتاب «الزهد» باب: صفة الجنة (4333) ، وابن حبان (16/ 436) ، كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (7420) ، (16/ 463- 464) ، كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (7436- 7437) ، والحميدي (2/ 483- 484) (1143) ، والدارمي (2/ 333- 334) ، كتاب «الرقائق» باب: في أول زمرة يدخلون الجنة، وابن المبارك في «الزهد» (1/ 549) (1575) ، (1/ 552) (1585) مثله ونحوه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (2) أخرجه مسلم (4/ 2178) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب: في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم (13/ 2833) . (3) ينظر: «السبعة» (613) ، و «الحجة» (6/ 227) ، و «معاني القراءات» (3/ 34) ، و «شرح الطيبة» (6/ 23) ، و «العنوان» (181) ، و «حجة القراءات» (683) ، و «شرح شعلة» (590) ، و «إتحاف» (2/ 497) .

[سورة الطور (52) : الآيات 29 إلى 34]

[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ أمر لنبيّه ع بإدامة الدعاء إلى الله عز وجل، ثم قال مؤنساً له: فَما أَنْتَ: بإِنعام اللَّه عليك ولُطْفِهِ بك- كاهِنٌ ولا مجنون. وقوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يَقُولُونَ شاعِرٌ ... الآية: رُوِيَ أَنَّ قريشاً اجتمعت في دار الندوة، فكثرت آراؤهم في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى قال قائل منهم: تَرَبَّصُوا به رَيْبَ المَنُونِ، أي: حوادِثَ الدهر، فَيَهْلِكَ كما هَلَكَ من قبله من الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ، والنَّابِغَةُ، وَالأَعْشَى، وغيرُهم، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك، والتَّرَبُّصُ: الانتظار، والمنون: من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس «1» ، وهو أيضاً من أسماء الدهر، وبه فَسَّرَ مجاهد «2» ، والرَّيْبُ هنا: الحوادث والمصائب: ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّما فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» «3» الحديثَ. وقوله: قُلْ تَرَبَّصُوا وعيد في صيغة أمر. وقوله سبحانه: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا الأحلام: العقول، وقوله: بِهذا يحتمل أنْ يشيرَ إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أَنْ يشير إلى ما هم عليه من الكُفْرِ وعبادة/ الأصنام، وتَقَوَّلَهُ معناه: قال عن الغير أَنَّهُ قاله، فهي عبارة عن كَذِبٍ مخصوص، ثم عَجَّزَهُمْ سبحانه بقوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والضمير في مِثْلِهِ عائد على القرآن. وقوله: إِنْ كانُوا صادِقِينَ

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 494) برقم: (32376) ، وذكره ابن عطية (5/ 191) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 243) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (11/ 494) برقم: (32375) ، وذكره ابن عطية (5/ 191) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (3) أخرجه مسلم (4/ 1902- 1903) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: فضائل فاطمة بنت الرسول- عليه الصلاة والسلام- (93، 95/ 2449) ، وأحمد (4323، 4326، 328، 332) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 41) .

[سورة الطور (52) : الآيات 35 إلى 36]

ت: أي: في أَنَّ محمداً تَقَوَّلَهُ قاله الثعلبيّ. [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 36] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) وقوله سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: من غير أَبٍ ولا أُمٍّ، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا تقوم للَّه عليهم حُجَّةٌ، أليسوا خُلِقُوا من نطفة وعلقة، وقال ابن كَيْسَانَ: أَمْ خلقوا عَبَثاً، وَتُرِكُوا سُدًى من غير شيء، أي: لغير شيء لا يؤمرون ولا يُنْهَوْنَ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ: لأَنفسهم، فلا يأتمرون لأمر اللَّه، انتهى، وعَبَّرَ ع «1» : عن هذا بأَنْ قال: وقال آخرون: معناه: أمْ خُلِقُوا لغير عِلَّةِ ولا لغاية عقاب وثواب فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرَّعون. ت: وقد يحتمل أَنْ يكونَ المعنى: أم خُلِقُوا من غير شيء خَلَقَهُمْ، أي: من غير مُوجِدٍ أَوْجَدَهُمْ، ويَدُلُّ عليه مقابلته بقوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ وهكذا قال الغَزَّاليُّ في «الإِحياء» ، قال: وقوله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: من غير خالق، انتهى بلفظه من كتاب، آداب التلاوة قال الغَزَّالِيُّ: ولا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الآيةَ تَدُلُّ أَنَّه لا يُخْلَقُ شَيْءٌ إلاَّ من شيء! انتهى، وقال الفخر «2» : قوله تعالى: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه وجوه، المنقول منها: أم خُلِقُوا من غير خالق، [وقيل: أَمْ خُلِقُوا لا لغير شيء عَبَثاً] «3» ، وقيل: أم خلقوا من غير أَبٍ وأُمِّ، انتهى، وأحسنها الأَوَّلُ كما قال الغَزَّالِيُّ، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه، وفي الصحيح عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قال: «سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذه الآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إلى قَوْلِهِ: الْمُصَيْطِرُونَ- كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ» ، وفي رواية: «وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا/ وَقَرَ الإِيمَانُ في قَلْبِي» «4» انتهى، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في «تاريخه» عن جُبَيْرِ بن مطعم قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ القرآن» انتهى. [سورة الطور (52) : الآيات 37 الى 43] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 192) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 223) . (3) سقط في: د. [.....] (4) أخرجه البخاري (8/ 469) ، كتاب «التفسير» برقم: (4854) .

[سورة الطور (52) : الآيات 44 إلى 49]

وقوله سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء في جميع الأمور؟ والمصيطر: القاهر، وبذلك فسر ابن عباس «1» الآية، والسُّلَّمُ: السبب الذي يُصْعَدُ به، كان ما كان من خشب، أو بناء، أو حبال، أو غير ذلك، والمعنى: ألهم سُلَّمٌ إِلى السماء يستمعون فيه، أي: عليه أو منه، وهذه حروف يَسُدُّ بعضُها مَسَدَّ بعض، والمعنى: يستمعون الخبر بِصِحَّةِ ما يدعونه، فليأتوا بالحُجَّةِ المبينة في ذلك. وقوله سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ الآية، قال ابن عباس «2» : يعني أَمْ عندهم اللوحُ المحفوظ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ: ما فيه، ويخبرون به، ثم قال: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً: بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنَّهم هُمُ الْمَكِيدُونَ أي: هم المغلوبون، فَسَمَّى غَلَبَتَهُمْ كيداً إذ كانت عقوبةُ الكَيْدِ، ثم قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ: يعصمهم ويمنعهم من الهلاك، قال الثعلبيُّ: قال الخليل: ما في سورة الطور كُلِّها من ذكر «أم» كُلُّه استفهام لهم، انتهى. ثم نَزَّهَ تعالى نفسه: عَمَّا يُشْرِكُونَ به. [سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) وقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً أي: قطعةً يقولون لشدة معاندتهم هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ: بعضُه على بعض، وهذا جوابٌ لقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء: 187] وقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: 92] يقول: لو فعلنا هذا بهم لما/ آمنوا، ولقالوا: سحاب مركوم. وقوله تعالى: فَذَرْهُمْ، وما جرى مَجْرَاهُ من الموادعة- منسوخ بآية السيف،

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 496) برقم: (32386) ، وذكره ابن عطية (5/ 193) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ذكره البغوي (4/ 242) ، وذكره ابن عطية (5/ 193) .

والجمهورُ أَنَّ يومهم الذي فيه يُصْعَقُونَ، هو يوم القيامة، وقيل: هو موتهم واحداً واحداً، ويحتمل أن يكون يوم بدر لأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فيه، والصعق: التعذيب في الجملة، وإنْ كان الاستعمالُ قد كَثُرَ فيما يصيب الإنسانَ من الصَّيْحَةِ المُفْرِطَةِ ونحوه، ثُمَّ أخبر تعالى بِأَنَّ لهم دُونَ هذا اليوم، أي: قبله عَذاباً واخْتُلِفَ في تعيينه، فقال ابن عباس وغيره «1» : هو بدر ونحوه، وقال مجاهد «2» : هو الجُوعُ الذي أصابهم، وقال البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وابن عباس أيضاً «3» : هو عذاب القبر، وقال ابن زيد «4» : هي مصائب الدنيا، إذْ هي لهم عذاب. ت: ويحتمل أَنْ يكونَ المراد الجميع قال الفخر «5» : إنْ قلنا إنَّ العذابَ هو بدر فالذين ظلموا هم أهل مَكَّةَ، وإنْ قلنا: العذابُ هو عذابُ القبر، فالذين ظلموا عامٌّ في كل ظالم، انتهى. ثم قال تعالى لنبيِّهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي: بمرأى ومنظر، نرى ونَسْمَعُ ما تقول، وأَنَّك في حفظنا وحيطتنا كما تقول: فلان يرعاه المَلِكُ بعين، وهذه الآية ينبغي أَنْ يُقَرِّرَهَا كُلُّ مؤمن في نفسه فإنها تُفَسِّحُ مضايق الدنيا. وقوله سبحانه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال أبو الأحوص «6» : هو التسبيح المعروف، يقول في كل قيام: سبحان اللَّهِ وبحمدِهِ، وقال عطاء «7» : المعنى حين تقومُ من كُلِّ مجلس. ت: وفي تفسير أحمدَ بن نصر الداوديّ قال: وعن ابن المُسَيِّبِ قال: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقول حين يقومُ إِلى الصلاة: سبحان اللَّهِ وبحمده لقولِ اللَّه سبحانه لِنَبِيِّهِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، انتهى، / وقال ابن زيد «8» : هي صلاة النوافل، وقال

_ (1) ذكره البغوي (4/ 243) ، وابن عطية (5/ 194) . (2) أخرجه الطبري (11/ 499) برقم: (32398) ، وذكره البغوي (4/ 243) ، وابن عطية (5/ 194) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 245) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 151) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (3) أخرجه الطبري (11/ 499) برقم: (32394) ، (32395) ، وذكره ابن عطية (5/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (4) أخرجه الطبري (11/ 499) برقم: (32399) ، وذكره ابن عطية (5/ 194) . (5) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 235) . (6) أخرجه الطبري (11/ 500) برقم: (32401) ، وذكره ابن عطية (5/ 194) ، وابن كثير في «تفسيره» (5/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 151) ، وعزاه لابن أبي شيبة. (7) ذكره البغوي (4/ 243) ، وابن عطية (5/ 194) ، وابن كثير في «تفسيره» (5/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 151) ، وعزاه للفريابي، وابن المنذر. (8) ذكره ابن عطية (5/ 194) .

الضَّحَّاكُ «1» : هي الصلوات المفروضة، وَمَنْ قال هي النوافل جعلَ أدبار النجوم رَكْعَتَيِ الفجر، وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وقد رُوِيَ مرفوعاً، ومَنْ جعله التسبيحَ المعروفَ جعل قوله: حِينَ تَقُومُ مثالاً، أي: حين تقومُ وحينَ تَقْعُدُ، وفي كل تَصَرُّفِكَ، وحكى منذر عن الضَّحَّاكِ أَنَّ المعنى: حين تقومُ في الصلاة [بعد] تكبيرة الإحرام، فقل: «سُبْحَانَكَ اللهمّ، وبحمدك، وتبارك اسمك» «2» الحديث.

_ (1) ينظر: المصدر السابق. (2) أخرجه أبو داود (1/ 265) ، كتاب «الصلاة» باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك وبحمدك (775) ، والترمذي (2/ 9- 10) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة (242) ، وابن ماجه (2/ 264) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: افتتاح الصلاة (804) ، والنسائي (2/ 132) ، كتاب «الافتتاح» باب: نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة وبين القراءة (899) ، وأحمد (3/ 50، 69) ، (1/ 282) ، كتاب «افتتاح الصلاة» باب: ما يقال بعد افتتاح الصلاة، وابن خزيمة (1/ 238) جماع أبواب الأذان والإقامة، باب: إباحة الدعاء بعد التكبير وقبل القراءة ... (467) .

تفسير سورة"النجم"

تفسير سورة «النّجم» وهي مكّيّة بإجماع وهي أوّل سورة أعلن بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجهر بقراءتها في الحرم، والمشركون يستمعون، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجنّ والإنس غير أبي لهب، فإنّه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. ت: والذي خرّجه البخاريّ في صحيحه عن ابن مسعود: «فسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسجد من خلفه إلّا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أميّة بن خلف» «1» انتهى، وسبب نزولها أنّ المشركين قالوا: إنّ محمّدا يتقوّل القرآن، ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك. [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) قوله عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى الآية، قال الحسن وغيره: النجم المُقْسَمُ به هنا: اسمُ جنس، أراد به النجوم «2» ، ثم اختلفوا في معنى هَوى فقال جمهور المفسرين: هَوَى للغروب، / وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبيِّ «3» : هوى في الانقضاض في إثر العفريت عند استراق السمع، وقال مجاهد وسفيان «4» : النجم في قسم الآية: الثُّرَيَّا، وسُقُوطُهَا مع الفجر هو هوِيُّها، والعرب لا تقول: النجم مطلقاً إِلاَّ للثُّرَيَّا، والقسم واقع على قوله: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى.

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 480) ، كتاب «التفسير» باب: فاسجدوا لله واعبدوا (4863) . [.....] (2) ذكره ابن عطية (5/ 195) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 195) . (4) أخرجه الطبري (11/ 503) برقم: (32414) ، (32415) ، وذكره ابن عطية (5/ 196) ، وابن كثير (4/ 246) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 154) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة النجم (53) : الآيات 4 إلى 10]

- ص-: إِذا هَوى أبو البقاء: العامل في الظرف فِعْلُ الَقَسَمِ المحذوفِ، أي: أقسم بالنجم وَقْتَ هَوِيِّهِ، وجوابُ القَسَمِ: مَا ضَلَّ، انتهى، قال الفخر «1» : أكثر المفسرين لم يُفَرِّقُوا بين الغَيِّ والضلال، وبينهما فرق فالغيُّ: في مقابلة الرُّشْدِ، والضلال أَعَمُّ منه، انتهى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى: يريد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه لا يتكلم عن هواه، أي: بهواه وشهوته، وقال بعض العلماء: وما ينطقُ القرآنَ المُنَزَّلَ عن هوى. ت: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى. [سورة النجم (53) : الآيات 4 الى 10] إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى يراد به القرآن بإجماع. ت: وليس هذا الإِجماع بصحيح، ولفظُ الثعلبيِّ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أي: ما نُطْقُهُ في الدِّينِ إلاَّ بوحي، انتهى، وهو أحسن إِنْ شاء اللَّه، قال الفخر «2» : الوحي اسم، ومعناه: الكتاب، أو مصدر وله معانٍ: منها الإرسال، والإِلهام، والكتابة، والكلام، والإِشارة، فإنْ قلنا: هو ضمير القرآن فالوحي اسم معناه الكتاب، ويحتمل أنْ يُقَالَ: مصدر، أي: ما القرآن إلاَّ إرْسَالٌ، أي: مُرْسَلٌ، وَإِنْ قلنا: المراد من قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ قولُ محمد وكلامُه فالوحي حينئذ هو الإلهام، أي: كلامه مُلْهَمٌ من اللَّه أو مرسل، انتهى، والضمير في عَلَّمَهُ لنبِيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والمعلّم هو جبريل ع قاله ابن عباس وغيره «3» ، أي: عَلَّم محمداً القرآن، وذُو مِرَّةٍ معناه: ذو قُوَّة قاله قتادة وغيره «4» ومنه قوله ع: «لاَ تَحِلَّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِىّ» «5» . وَأصْلُ المِرَّةِ مِنْ مَرَائِرِ الْحَبْلِ، وهي فتله وإحكام عمله.

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 241) . (2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 241) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 196) . (4) ينظر: المصدر السابق. (5) أخرجه أبو داود (1/ 514) ، كتاب «الزكاة» باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى (1634) ، والترمذي (3/ 33) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء من لا تحل له الصدقة (652) ، وابن ماجه (1/ 589) ، كتاب «الزكاة» باب: من سأل عن ظهر غنّى (1839) ، والحاكم (1/ 407) نحوه، والنسائي (5/ 99) ، كتاب «الزكاة» باب: إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها (2597) ، وابن حبان (3/ 102) - الموارد (806) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (4/ 110) (7155) . قال الترمذي: حديث عبد الله بن عمر حديث حسن.

[سورة النجم (53) : الآيات 11 إلى 15]

وقوله: فَاسْتَوى قال الربيع والزَّجَّاج، المعنى: فاستوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك بالأفق الأعلى إذ رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِحِراءَ، قد سَدَّ الأفق، له ستمائة جناحٍ، وحينئذ دنا من محمّد ع حتى كان قابَ قوسين، وكذلك رآه نزلةً أخرى في صفته العظيمة، له ستمائة جناح عند السِّدْرَةِ. وقوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى قال الجمهور: المعنى: دنا جبريل إلى محمد في الأرض عند حِرَاءَ، وهذا هو الصحيح أَنَّ جميع ما في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل، ودَنا أعمّ من فَتَدَلَّى فَبَيَّنَ تعالى بقوله: فَتَدَلَّى هيئَةَ الدُّنُوِّ كيف كانت، وقابَ: معناه: قَدْر، قال قتادة وغيره «1» : معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر، وقال الحسن ومجاهد «2» : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المِقْبَضِ. وقوله: أَوْ أَدْنى معناه: على مقتضى نظر البشر، أي: لو رَآه أَحَدُكُمْ لقال في ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك، وقيل: المراد بقوسين، أي: قَدْرَ الذراعين، وعن ابن عباس «3» : أنَّ القوس في الآية ذراعٌ يُقَاسُ به، وذكر الثعلبيُّ أَنَّهَا لُغَةُ بعض الحجازيين. وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى قال ابن عباس «4» : المعنى: فأوحى اللَّهُ إلى عبده محمد ما أوحى، وفي قوله: مَا أَوْحى إبهام على جهة التفخيم والتعظيم قال عياض: ولما كان ما كاشفه ع من ذلك الجبروتِ، وشَاهَدَهُ من عجائب/ الملكوت، لا تُحِيطُ به العباراتُ، ولا تستقِلُّ بحمل سماع أدناه العقولُ- رَمَزَ عنه تعالى بالإيماء والكناية الدَّالَّةِ على التعظيم، فقال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى وهذا النوع من الكلام يسميه أَهْلُ النقد والبلاغة بالوحي والإشارة، وهو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز، انتهى. [سورة النجم (53) : الآيات 11 الى 15] ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)

_ (1) ذكره البغوي (4/ 246) ، وابن عطية (5/ 197) . (2) أخرجه الطبري (11/ 507- 508) برقم: (32440، 32442) ، وذكره البغوي (4/ 246) ، وابن عطية (5/ 197) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 158) ، وعزاه لآدم بن أبي إياس، والفريابي، والبيهقي. (3) ذكره ابن عطية (5/ 198) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 157) ، وعزاه للطبراني، وابن مردويه، والضياء. (4) أخرجه الطبري (11/ 509) برقم: (32454) ، وذكره البغوي (4/ 246) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 158) ، وعزاه للنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

وقوله سبحانه: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى المعنى: لم يُكَذِّبْ قلبُ محمد الشيء الذي رأى، بل صَدَّقَهُ وتحقَّقَهُ نظراً قال أهل التأويل منهم ابن عباس وغيره «1» : رأى محمد الله بفؤاده، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «جَعَلَ اللَّهُ نُورَ بَصَرِي في فُؤَادِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِفُؤَادِيَ» ، وقال آخرون من المتأولين: المعنى: ما رأى بعينه لم يُكَذِّبْ ذلك قلبُه، بل صدقه وتحققه، وقال ابن عباس فيما روِي عنه «2» : إنَّ محمداً رأى رَبَّه بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وأنكرت ذلك عَائِشَةُ، وقالت: أنا سَأَلْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هذه الآياتِ فَقَالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ فِيهَا كُلِّها» قال ع «3» : وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاطعٌ بكُلِّ تأويل في اللفظ لأَنَّ قول غيرها إنَّما هو مُنْتَزَعٌ من ألفاظ القرآن. وقوله سبحانه: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى قرأ حمزة والكسائيُّ «أَفَتَمْرُونَهُ» - بفتح التاء دون ألف «4» -، أي: أفتجحدونه. ت: قال الثعلبيُّ: واختار هذه القراءة أبو عبيد: قال إنَّهم لا يمارونه، وإنَّما جحدوه، واخْتُلِفَ في الضمير في قوله: وَلَقَدْ رَآهُ حسبما تقدم، فقالت عائشة والجمهور «5» : هو عائد على جبريل، ونَزْلَةً معناه: مَرَّة أخرى، فجمهور العلماء أَنَّ المَرْئِيَّ هو جبريل ع في/ المرتين، مَرَّةً في الأرض بحراءَ، ومرَّةً عند سدرة المنتهى ليلة الإسراء، رآه على صورته التي خُلِقَ عليها، وسِدْرَةُ المُنْتَهَى هي: شجرة نَبْقٍ في السماء السابعة، وقيل لها: سدرة المنتهى لأَنَّها إليها ينتهي عِلْمُ كُلِّ عالم، ولا يعلم ما وراءها صَعَداً إلّا الله عز وجل، وقيل: سُمِّيَتْ بذلك لأَنَّها إليها ينتهي مَنْ مات على سنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ع «6» : وهم المؤمنون حقًّا من كل جيل.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 511) برقم: (32466) ، وذكره البغوي (4/ 246) ، وذكره ابن عطية (5/ 198) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 160) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي العالية. (2) أخرجه الطبري (11/ 511) برقم: (32467) ، وذكره البغوي (4/ 247) ، وابن عطية (5/ 198) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 250) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 159) ، وعزاه لابن مردويه. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 198) . (4) ينظر: «السبعة» (614) ، و «الحجة» (6/ 230) ، و «معاني القراءات» (3/ 37) ، و «شرح الطيبة» (6/ 24) ، و «العنوان» (182) ، و «حجة القراءات» (685) ، و «شرح شعلة» (591) ، و «إتحاف» (500- 501) . (5) أخرجه الطبري (11/ 512) برقم: (32475) ، وذكره ابن عطية (5/ 199) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 251) (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 198) .

[سورة النجم (53) : الآيات 16 إلى 25]

وقوله سبحانه: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى قال الجمهور: أراد سبحانه أَنْ يُعَظِّمَ مَكانَ السدرة، ويُشَرِّفَهُ بِأَنَّ جنة المأوى عندها، قال الحسن «1» : هي الجنة التي وعد بها المؤمنون. [سورة النجم (53) : الآيات 16 الى 25] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وقوله سبحانه: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى أي: غَشِيَها من أمر اللَّه ما غشيها، فما يستطيع أحد أَنْ يصفَها، وقد ذكر المُفَسِّرُون في وصفها أقوالاً هي تَكَلُّفٌ في الآية لأَنَّ اللَّه تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ» «2» . وقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ قال ابن عباس «3» : معناه: ما جال هكذا ولا هكذا. وقوله: وَما طَغى معناه: ولا تجاوز المَرْئِيَّ، وهذا تحقيق للأمر، ونفيٌ لوجوه الريب عنه. وقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آياتِ رَبِّهِ، أي: مِمَّا يمكنُ أنْ يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بَعْضاً من آيات رَبِّهِ الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود «4» : رأى رفرفاً أخضرَ من الجنة، قد سدّ الأفق.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 517) عن ابن عبّاس برقم: (32511) ، وذكره ابن عطية (5/ 199) . (2) أخرجه البخاري (1/ 547- 548) ، كتاب «الصلاة» باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ (349) ، (6/ 431- 432) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: ذكر إدريس عليه السلام (3342) . (3) أخرجه الطبري (11/ 518) برقم: (32525) ، وذكره ابن عطية (5/ 200) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 452) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 162) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه. (4) أخرجه الطبري (11/ 519) برقم: (32531) عن ابن مسعود، وذكره ابن عطية (5/ 200) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 162) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي معا في «الدلائل» .

ت: وزاد الثعلبيُّ: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه دليله قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ... [الإسراء: 1] الآية، قال عِيَاضٌ: / وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلامُ في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام الله بتزكية جملته ع وعِصْمَتِهَا من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤادَه ولسانَه وجوارِحَه فقلبه بقوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: 11] ، ولسانَهُ- عليه السلام- بقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ، وبصرَهُ بقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى اهـ. ولما فرغ من ذكر عظمة اللَّه وقدرته قال على جهة التوقيف: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ... الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارَتَها وبُعْدَهَا عن هذه القدرة والصفات العَلِيَّةِ، واللات: صنم كانتِ العربُ تعظمه، والعُزَّى: صخرة بيضاءُ كانت العرب أيضاً تعبُدُها، وأمَّا مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكُفَّارَ على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات اللَّه، فكأَنَّه قال: أرأيتم هذه الأوثانَ وقولَكُمْ: هي بناتُ اللَّه أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ثم قال تعالى على جهة الإنكار: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي: عوجاء قاله مجاهد «1» ، وقيل: جائرة قاله ابن عباس «2» ، وقال سفيان «3» : معناه: منقوصة، وقال ابن زيد «4» : معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُهُ حَقَّهُ أَضِيزُهُ بمعنى: منعته، وضِيزَى من هذا التصريف قال أبو حيان «5» : والثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لمناة للتأكيد، قيل: وأُكِّدَتْ بهذين الوصفين لِعَظَمِهَا عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذَمٌّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدارِ، وتُعُقِّبَ/ بأنَّ أخرى مُؤنث آخر، ولم يُوضَعَا لِلذَّمِ ولا للمدح. ت: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أَنَّ الوصفين معاً سِيقَا مَسَاقَ الذَّمِّ لأَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إِلى أَنْ

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32546) ، وذكره البغوي (4/ 250) ، وابن عطية (5/ 201) . (2) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32549) ، وذكره البغوي (4/ 250) ، وابن عطية (5/ 201) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 164) ، وعزاه لابن جرير. (3) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32550) ، وذكره ابن عطية (5/ 201) . (4) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32551) ، وذكره ابن عطية (5/ 201) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 160) .

[سورة النجم (53) : الآيات 26 إلى 32]

أضافوا إلى ذلك مَنَاةَ الثالثة الأخرى الحقيرة، وكُلُّ أصنامهم حقير، انتهى. ثم قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ يعني: إنْ هذه الأوصافُ من أَنَّها إناث، وَأَنَّها آلهة تعْبَدُ، ونحو هذا- إلاَّ أَسماءٌ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل اللَّه بها برهاناً ولا حُجَّةً، وما هو إلاَّ اتِّباعُ الظن، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وهَوَى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإِنَّما تجد هوى النفس أبداً في ترك الأفضل لأَنَّها مجبولةٌ بطبعها على حُبِّ الملذ، وإِنَّما يَرْدَعُها وَيَسُوقُها إلى حُسْنِ العاقبة العقلُ والشرع. وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى فيه توبيخ لهم، إِذْ يفعلون هذه القبائِحَ والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: أَمْ لِلْإِنْسانِ اسم جنس، كأَنَّه يقول: ليست الأشياءُ بالتمني والشهوات، وإِنَّما الأمر كُلُّه للَّه، والأعْمَالُ جاريةٌ على قانون أمره ونهيه، فليس لكم- أَيُّهَا الكَفَرَةُ- مُرَادُكُمْ في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفعُ لنا، وتُقَرِّبُنَا إِلى اللَّه زُلْفَى، ونحو هذا فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي: له كل أمرهما: مُلْكاً، ومقدوراً، وتَحْتَ سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس» : ومن عيوب النفس كثرةُ التَّمَنِّي، والتَّمَنِّي هو الاعتراضُ على اللَّه عَزَّ وجلَّ في قضائه وقَدَرِهِ، ومداواتُها/ أَنْ يعلم أَنَّه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجرُّهُ إلى خير أو إلى شَرٍّ؟ فإذا تَيَقَّنَ إبهام عاقبة تمنيه، أَسْقَطَ عن نفسه ذلك، ورَجَعَ إلى الرِّضَا والتسليم، فيستريح، انتهى. [سورة النجم (53) : الآيات 26 الى 32] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) وقوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ... الآية: رَدٌّ على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، وَكَمْ للتكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر لاَ تُغْنِي والغِنَى جَلْبُ النفع ودَفْعُ الضُّرِّ بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني: كفّار العرب.

وقوله: وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي: في المُعْتَقَدَاتِ، والمواضع التي يريد الإنسان أن يحرّر ما يَعْقِلُ ويعتقد فَإنَّهَا مواضع حقائق، لا تنفعُ الظنونُ فيها، وَأَمَّا في الأحكام وظواهرها فيجتزئ فيها بالمظنونات. ثم سَلَّى سبحانه نَبِيَّه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكَفَرَةِ. وقوله: عَنْ ذِكْرِنا قال الثعلبيُّ: يعني القرآن. وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية متصلة في معنى التسلية، ومتضمنة وعيداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، والحُسْنَى: الجنة ولا حسنى دونها، وقد تقدم نقلُ الأقوال في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وتحريرُ القول في الكبائر أَنَّها كُلُّ معصيةٍ يوجد فيها حَدٌّ في الدنيا أو تَوَعُّدٌ عليها بِالنَّارِ في الآخرة، أو لعنة، ونحو هذا. وقوله: إِلَّا اللَّمَمَ هو استثناء يَصِحُّ أنْ يكونَ مُتَّصِلاً، وإنْ قدرته مُنْقَطِعاً ساغ ذلك، وبِكُلٍّ قد قيل، واخْتُلِفَ في معنى اللَّمَمَ فقال أبو هريرة، وابن عباس، والشَّعْبِيُّ، وغيرهم «1» : اللمم: صِغَارُ الذنوب التي لا حَدَّ فيها ولا وَعِيدَ عليها لأَنَّ الناسَ لا يتخلَّصُونَ من مُوَاقَعَةِ هذه الصغائر، ولهم مع ذلك الحُسْنَى/ إذا اجتنبوا الكبائر، وتظاهر العلماءُ في هذا القول، وكَثُرَ المائِلُ إليه، وحُكِيَ عن ابن المُسَيِّبِ أَنَّ اللمم: ما خطر على القلب، يعني بذلك لمَّةَ الشيطان «2» ، وقال ابن عباس «3» : معناه: إلاَّ ما أَلَمُّوا به من المعاصي الفَلْتَةُ والسَّقْطَةُ دون دوام ثم يتوبون منه، وعنِ الحسن بن أبي الحسن «4» أَنَّهُ قال: في اللَّمَّةِ من الزنا، والسَّرِقَةِ، وشرب الخمر ثم لا يعود، قال ع «5» : وهذا التأويلُ يقتضي الرِّفْقَ بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى إذ الغالب في المؤمنين مواقعة

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 528) عن ابن عبّاس برقم (32584) ، وذكره ابن عطية (5/ 204) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 256) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 166) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. [.....] (2) ذكره البغوي (4/ 253) ، وابن عطية (5/ 204) . (3) أخرجه الطبري (11/ 228) برقم: (32577) ، وذكره البغوي (4/ 252) ، وابن عطية (5/ 204) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 256) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 166) ، وعزاه لعبد بن حميد عن أبي صالح. (4) أخرجه الطبري (11/ 527) برقم: (32570) ، وذكره البغوي (4/ 252) ، وابن عطية (5/ 204) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 256) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 166) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 204) .

[سورة النجم (53) : الآيات 33 إلى 38]

المعاصي، وعلى هذا أنشدوا، وقد تَمَثَّلَ به النبي صلّى الله عليه وسلّم: [الرجز] إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا «1» وقوله سبحانه: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يريد: خلق أبيهم آدم، ويحتمل أَنْ يرادَ به إنشاء الغذاء، وأجِنَّةٌ: جمع جنين. وقوله سبحانه: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ظاهره النهيُ عن تزكية الإنسانِ نَفْسَهُ، ويحتمل أَنْ يكونَ نهياً عن أنْ يُزَكِّيَ بعضُ الناسِ بعضاً، وإذا كان هذا، فَإنَّما يُنْهَى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية، وأَمَّا تزكيةُ الإمامِ والقُدْوَةِ أحداً لِيُؤْتَمَّ به أو ليتهمم الناسَ بالخير، فجائز، وفي الباب أحاديثُ صحيحة، وباقي الآية بَيِّنٌ. ت: قال صاحِبُ «الكَلِمِ الفارِقِيَّةِ» : أَعْرَفُ الناسِ بنفسه أَشَدُّهُمْ إيقاعاً للتهمة بِها في كل ما يبدو ويظهرُ له منها، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها مَنْ زَكَّاها، وأَحْسَنَ ظَنَّهُ بها لأَنَّها مُقْبِلَةٌ على عاجل حظوظها، مُعْرِضَةٌ عنِ الاستعداد لآخرتها، انتهى، وقال ابن عطاء اللَّه: أَصْلُ كل معصيةٍ وغفلة- وشهوة/- الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعِفَّةٍ- عَدَمُ الرضا منك عنها قال شارحه ابن عُبَّاد: الرضا عن النفس: أصل جميع الصفات المذمومة، وعَدَمُ الرضا عنها أصلُ الصفات المحمودة، وقدِ اتَّفق على هذا جميعُ العارفين وأرباب القلوب وذلك لأَنَّ الرضا عن النفس يوجب تغطيةَ عيوبِهَا ومساويها، وعَدَمَ الرضا عنها على عكس هذا كما قيل: [الطويل] وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تبدي المساويا انتهى. [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 38] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ... الآية، قال مجاهد، وابن زيد، وغيرهما «2» :

_ (1) أخرجه الحاكم (2/ 469) ، والترمذي (5/ 396- 397) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة النجم (3284) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) أخرجه الطبري (11/ 530) عن مجاهد برقم: (32595) وعن زيد ابن زيد برقم: (32596) ، وذكره ابن عطية (5/ 205) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 168) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة النجم (53) : الآيات 39 إلى 41]

نزلت في الوليد بن المغيرة المخزوميِّ وذلك أنّه سمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووعظه فقرب من الإسلام، وطمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في إسلامه، ثم إنَّه عاتبه رجلٌ من المشركين، وقال له: أتترك ملّة آبائك؟! ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأَنا أتَحَمَّلُ لك بكلِّ شيء تخافه في الآخرة، لكن على أَنْ تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عَمَّا هَمَّ به من الإسلام، وأعطى بعضَ ذلك المالَ لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشَحَّ، فنزلت الآية فيه، وقال السُّدِّيُّ «1» : نزلت في العاصي بن وائل قال ع «2» : فقوله: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى على هذا- هو في المال، وقال مقاتل «3» في كتاب الثعلبيِّ: المعنى: أعطى الوليدُ قليلا من الخير بلسانه، ثم أَكْدى، أي: انقطع ما أعطى، وهذا بَيِّنٌ من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية، وتَوَلَّى معناه: أدبر وأعرض عن أمر اللَّه، وأَكْدى معناه: انقطع عطاؤه، وهو مشبه بالذي/ يحفر في الأرض فإنَّه إذا انتهى في حفر بئر ونحوه إلى كُدْيَةٍ، وهي ما صَلُبَ من الأرض- يَئِسَ من الماء، وانقطع حفرُهُ، وكذلك أجبل إذا انتهى في الحفر إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع: عمله أكدى وأجبل. ت: قال الثعلبيُّ: وأصله من الكُدْيَةِ، وهو حجر في البئر يؤيس من الماء قال الكسائِيُّ: تقول العرب: أَكْدَى الحَافَرُ وأَجْبَلَ: إذا بَلَغَ في الحَفْرِ إلى الكُدْيَةِ والجَبَلِ، انتهى. وقوله عز وجل: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى معناه: أَعَلِمَ من الغيب أَنَّ مَنْ تحمَّل ذنوبَ آخر انتفع بذلك المُتَحَمَّلُ عنه فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة؟! أم هو جاهل، لم يُنَبَّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وَفَّى بما أُرْسِلَ بِه، من أَنَّهُ لا تَزِرُ وازرة، أي: لا تحملُ حَامِلَةٌ حَمْلَ أخرى وفي البخاري وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى: وفى ما فُرِضَ عليه «4» ، انتهى. [سورة النجم (53) : الآيات 39 الى 41] وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وقوله سبحانه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وما بعده، كل ذلك معطوف على قوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى والجمهور أَنَّ قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى

_ (1) ذكره البغوي (4/ 253) ، وابن عطية (5/ 205) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 205) . (3) ذكره البغوي (4/ 253) ، وابن عطية (5/ 205) . (4) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 469) ، كتاب «التفسير» باب: سورة النجم.

[سورة النجم (53) : الآيات 42 إلى 54]

مُحْكَمٌ لا نسخَ فيه، وهو لفظ عام مخصص. وقوله: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي: يراه اللَّه، ومَنْ شاهد تلك الأُمُورَ، وَفِي عَرْضِ الأعمال على الجميع تشريفٌ للمحسنين وتوبيخٌ للمسيئين، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «1» . وفي قوله تعالى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين. [سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 54] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) وقوله سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي: مُنْتَهَى الخلق ومصيرُهم، اللَّهمَّ أطلعنا على خيرك بفضلك، ولا تفضحْنا بين خلقك، / وجُدْ علينا بسترك في الدارين! وَحُقَّ لعبد يعلم أَنَّه إلى ربه منتهاه أَنْ يرفض هواه ويزهدَ في دنياه، ويُقْبِلَ بقلبه على مولاه ويقتدي بنبيٍّ فَضَّلَهُ اللَّهُ على خلقه وارتضاه ويتأمل كيف كان زهده صلّى الله عليه وسلّم في دنياه وإِقباله على مولاه قال عياض في «شفاه» : وأما زهده صلّى الله عليه وسلّم، فقد قدمنا من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي، وحَسْبُكَ من تقلُّله منها وإِعراضِهِ عَنْهَا وعن زَهْرَتِها، وقد سِيقَتْ إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحاتها- أنّه توفّي صلّى الله عليه وسلّم ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ «2» ، وهو يدعو، ويقول:

_ (1) أخرجه البخاري (13/ 138) ، كتاب «الأحكام» باب: من شاق شاق الله عليه (7152) ، ومسلم (4/ 2289) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: من أشرك في عمله غير الله (49/ 2986) ، والترمذي (3/ 395) ، كتاب «النكاح» باب: ما جاء في الوليمة (1097) نحوه، ورواه البخاري من طريق صفوان، وجندب، ومسلم من طريق ابن عبّاس، والترمذي من طريق ابن مسعود، وأحمد (3/ 40) من طريق أبي سعيد الخدري (4/ 313) ، (5/ 45) من طريق أبي بكرة. (2) أخرجه البخاري (4/ 302) كتاب «البيوع» باب: شراء النبي بالنسيئة، حديث (2069) ، وأحمد (3/ 133) ، والنسائي (7/ 288) كتاب «البيوع» باب: الرهن في الحضر، وابن ماجه (2/ 815) ، كتاب «الرهون» باب: (1) ، حديث (2437) ، والترمذي (3/ 519- 520) ، كتاب «البيوع» باب: ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، حديث (1215) ، وأبو يعلى (5/ 394) (3061) ، وأبو الشيخ في أخلاق النبي (ص: 263) ، والبيهقي (6/ 36) ، كتاب «الرهن» باب: جواز الرهن، كلهم من حديث قتادة عن أنس، أنه مشى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا له بالمدينة، عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله، ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم صاع بر ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

«اللَّهُمَّ اجعل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً» . وفي «صحيح مسلم» عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: ما شبع آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعاً حتى مضى لِسَبِيلِهِ «1» . وعنها- رضي اللَّه عنها- قالت: «لَمْ يَمْتَلِىءْ جَوْفُ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شِبَعاً قَطُّ، وَلَمْ يَبُثَّ شكوى إلى أَحَدٍ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الغنى، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ، فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِهِ، وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَرَغْدِ عَيْشِهَا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أرى بِهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي على بَطْنِهِ ممّا به من الجوع، وأقول: نفسي لَكَ الْفِدَاءُ لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَقُوتُكَ! فَيَقُولُ: يَا عَائِشَةُ، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! إخْوَانِي مِنْ أُولي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا على مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذا، فَمَضَوْا على حَالِهِمْ، فَقَدِمُوا على رَبِّهِمْ فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحِيي إنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي/ أنْ يُقَصِّرَ بِي غَداً دُونَهُمْ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بإخْوَانِي وأَخِلاَّئِي، قَالَتْ: فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إلاَّ أَشْهُراً حتى تُوُفِّيَ- صلواتُ اللَّهُ وسَلاَمُهُ عليه-» انتهى، وباقي الآية دَلالة على التوحيد واضحة، والنَّشْأَةَ الْأُخْرى: هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البِلَى، وأَقْنى معناه: أَكْسَبَ ما يُقْتَنَى تقول: قنيت المالَ، أي: كسبْته، وقال ابن عباس: أَقْنى: قنَّع «2» ، قال ع «3» : والقناعة خير قُنْيَةٍ، والغِنَى عرض زائل، فلله درّ ابن عبّاس! والشِّعْرى: نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد «4» : هو مرزم الجَوْزاء، وهما شِعْرَيَانِ: إحداهما الغُمَيْصَاءُ، والأُخرى العَبُور لأَنَّها عَبَرَتِ المجرَّةَ، وكانت خُزَاعَةُ مِمَّنْ يَعْبُدُ هذه الشعْرَى العَبُورَ، ومعنى الآية: وَأَنَّ اللَّه سبحانه رَبُّ هذا المعبودِ الذي لكم وعاداً الْأُولى: اختلف في معنى وصفها بالأُولى، فقال الجمهور: سُمِّيتْ «أولى» بالإضافة إلى الأمم المتأخِرة عنها، وقال الطبريُّ «5» وغيره: سُمِّيتْ أولى لأَنَّ ثَمَّ عاداً آخرةً، وهي قبيلة كانت بمكَّةَ مع العماليق، وهم بنو لقيم بن هزال، والله

_ (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (4/ 2882) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: (25/ 2971) ، بهذا اللفظ. (2) ذكره ابن عطية (5/ 208) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 171) ، وعزاه للفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 208) . (4) أخرجه الطبري (11/ 537) عن مجاهد برقم: (32637) وعن ابن زيد برقم: (32640) ، وذكره ابن عطية (5/ 208) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 259) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 172) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ. (5) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 537) .

[سورة النجم (53) : الآيات 55 إلى 58]

أعلم، وقرأ الجمهور «1» : «وَثَمُودَا» بالنصب عطفاً على «عاداً» «وقومَ نوحٍ» عطفاً على «ثمود» . وقوله: مِنْ قَبْلُ لأَنَّهم كانوا أَوَّلَ أُمَّة كَذَّبت من أهل الأرض، والْمُؤْتَفِكَةَ: قرية قومِ لوطٍ أَهْوى أي: طرحها من هواء عالٍ إلى سفل. [سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 58] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) وقوله سبحانه: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى مخاطبة للإنسان الكافر كأَنَّه قيل له: هذا هو اللَّه الذي له هذه الأفعال، وهو خالِقُكَ المُنْعِمُ عليكَ بكُلِّ النِّعَمِ، ففي أَيّها تشك وتتمارى؟! معناه: تتشكك، وقال مالك الغفاريُّ: إنَّ قوله: أَلَّا تَزِرُ إلى قوله: تَتَمارى هو في صحف إِبراهيم وموسى. وقوله سبحانه: هذا نَذِيرٌ يحتمل أَنْ يشير إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول قتادة وغيره «2» ، وهذا هو الأشبه، ويحتمل أنْ يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، ونَذِيرٌ يحتمل أَنْ يكونَ بناء اسم فاعل، ويحتمل أَنْ يكون مصدراً، ونُذُر جمع نذير. وقوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ معناه: قربت القريبة، والآزفة: عبارة عن القيامة بإجماعٍ من المفسرين، وأَزِفَ معناه قَرُبَ جدًّا قال كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: [البسيط] بَانَ الشَّبَابُ وَآهَا الشَّيْب قَدْ أَزِفَا ... ولا أرى لشباب ذاهب خلفا «3» ، وكاشِفَةٌ يحتمل أَنْ تكون صفة لمؤنث التقدير: حال كاشفة ونحو هذا التقدير، ويحتمل أَنْ تكونَ بمعنى: كاشف قال الطبريُّ «4» والزَّجَّاج: هو من كشف السّرّ، أي:

_ (1) وقرأها غير مصروفة حمزة، وعاصم، والحسن وعصمة. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 208) ، و «البحر المحيط» (8/ 166) ، و «معاني القراءات» (3/ 40) ، و «العنوان» (182) ، و «حجة القراءات» (688) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 503) . (2) أخرجه الطبري (11/ 540) برقم: (32656) ، وذكره البغوي (4/ 256) ، وذكره ابن عطية (5/ 209) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 172) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (3) وبعده: عاد السواد بياضا في مفارقه ... لا مرحبا ها بذا اللون الذي ردفا ينظر: «ديوانه» (70) ، «المحرر الوجيز» (5/ 210) . (4) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 541) .

[سورة النجم (53) : الآيات 59 إلى 62]

ليس من دون الله من يكشف وَقْتَهَا ويعلمه، وقال منذر بن سعيد «1» : هو من كشف الضُّرّ ودفعه، أي: ليس مَنْ يكشف خطبها وهولها إلّا الله. [سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 62] أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) وقوله سبحانه: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ... الآية، روى سعد بن أَبي وَقَّاص أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ هذا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِخَوْفٍ، فَإذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوا» ذكره الثعلبيّ، وأخرج الترمذي والنسائيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قَالَ: «لاَ يَلِجُ النَّارَ مَنْ بكى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حتى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ في مَنْخِرٍ أبَدًا» قال النسائيُّ: ويروى: «في جَوْفٍ أبَدًا» : «وَلاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإيمَانُ في قَلْبٍ أَبَدًا» «2» قال الترمذي: وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ» «3» انتهى من «مصابيح/ البَغَوِيِّ» . قال أبو عمر بن عبد البر: رُوِيَ عنِ النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ» «4» انتهى من «بهجة المجالس» ، وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هؤلاء الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلَ بِهِنَّ، أو يعلّم من يعمل بهنّ؟

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 209) . (2) أخرجه النسائي (6/ 12) ، كتاب «الجهاد» باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (3108) ، و «الكبرى» (3/ 9) كتاب «الجهاد» باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدميه (4316/ 3) ، والترمذي (4/ 171) ، كتاب فضائل «الجهاد» باب: ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله (1633) ، وأحمد (2/ 505) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 490) (800) ، والحاكم (4/ 65) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. (3) أخرجه الترمذي (4/ 175) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله (1639) . قال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إِلا من حديث شعيب بن رزيق. (4) أخرجه الترمذي (5/ 551) ، كتاب «الزهد» باب: من اتقى المحارم فهو أعبد الناس (2305) عن أبي هريرة نحوه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن، ولم يسمع من أبي هريرة شيئا اهـ. وأخرجه ابن ماجه (2/ 1403) ، كتاب «الزهد» باب: الحزن والبكاء (4193) ، و (2/ 1410) ، كتاب «الزهد» باب: الورع والتقوى (4217) ، نحوه من طريق آخر عن أبي هريرة.

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسَاً، وَقَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وارض بِمَا قَسَّمَ اللَّهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلى جَارِكَ، تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ يُمِيتُ الْقَلْبَ» «1» انتهى، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسَّرَ ابن عباس وغيره من المفسرين «2» ، وسمد بلغة حمير: غَنِيَ، وهو كُلُّه معنى قريب بعضُه من بعض، ثم أمر تعالى بالسجود له والعبادة تخويفا وتحذيرا، وهاهنا سجدةٌ في قول كثير من العلماء، ووردت بها أحاديثُ صحاح، ولم يَرَ مالك بالسجود هنا، وقال زيد بن ثابت: إنَّهُ قَرَأ بها عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ يَسْجُدْ «3» . قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «4» : وكان مالكٌ يَسْجُدُهَا في خاصَّة نَفْسِهِ، انتهى.

_ (1) انظر السابق. (2) أخرجه الطبري (11/ 542) برقم: (32664) ، وذكره البغوي (4/ 257) ، وابن عطية (5/ 210) . (3) أخرجه النسائي (2/ 160) ، كتاب «الافتتاح» باب: ترك السجود في «النجم» (960) ، وأبو داود (1/ 446) ، كتاب «الصلاة» باب: من لم ير السجود في «المفصل» (1403) . [.....] (4) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1735) .

تفسير سورة"القمر"

تفسير سورة «القمر» وهي مكّيّة بإجماع إلّا آية واحدة، قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ... الآية. ففيها خلاف، والجمهور أنّها أيضا مكية. [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) قوله سبحانه: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ معناه: قربت الساعة، وهي القيامة، وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُرْوَى في عمر الدنيا من التحديد فضعيف. وقوله: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إخبار عمَّا وقع وذلك أَنَّ قريشاً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم/ آيةً فَأَرَاهُمُ اللَّهُ انشقاق الْقَمَرِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالكُفَّارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: اشهدوا «1» .

_ (1) أخرجه البخاري (7/ 221) ، كتاب «مناقب الأنصار» باب: انشقاق القمر (3869، 3871) ، (8/ 483- 484) ، كتاب «التفسير» باب: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا (4884- 4885) ، ومسلم (4/ 2158) ، كتاب «صفات المنافقين» باب: انشقاق القمر (43، 45/ 2800) ، وأحمد (3/ 275) مثله، ونحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه نحوه، أخرجه البخاري (7/ 221) ، كتاب «مناقب الأنصار» باب: انشقاق القمر (3868) ، (8/ 484) كتاب «التفسير» باب: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا (4867- 4868) . ومسلم (4/ 2159) كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم باب: انشقاق القمر (46- 47/ 2802) . وفي «الصحيحين» نحوه عن عبد الله بن عبّاس: أخرجه البخاري (8/ 484) ، كتاب «التفسير» باب: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا (4866) ، ومسلم (4/ 2159) ، كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: وانشقاق القمر (48/ 2803) .

وقوله: وَإِنْ يَرَوْا: جاء اللفظ مستقبلاً، لينتظمَ ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأنَّ حالهم هكذا. وقوله: مُسْتَمِرٌّ: قال الزَّجَّاجُ: قيل معناه: دائم متمادٍ، وقال قتادة وغيره «1» : معناه: مارٌّ ذاهب عن قريب يزول، ثم قال سبحانه على جهة جزم الخبر: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ كأَنَّه يقول: وكل شيء إِلى غاية عنده سبحانه، ومُزْدَجَرٌ معناه: موضع زجر. وقوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ: يحتمل أنْ تكون «ما» نافية، ويحتمل أنْ تكون استفهاميَّة. ثم سَلَّى سبحانه نِبِيَّه ع بقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: لا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ، وتَمَّ القولُ في قوله: عَنْهُمْ ثم ابتدأ وعيدَهم بقوله: يَوْمَ والعامل في [يَوْمَ] قوله يَخْرُجُونَ وقال الرُّمَّانِيُّ: المعنى: فتولّ عنهم، واذكر يوم «2» ، وقال الحسن: المعنى: فتَولَّ عنهم إلى يوم «3» . وقرأ الجمهور «4» : «نُكُرِ» - بضم الكاف- قال الخليل: النُكُر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية، وخَصَّ الأبصارَ بالخشوع، لأَنَّهُ فيها أظهرُ منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أَو صلف أو خوف ونحوه إنّما يظهر في الأبصار، والْأَجْداثِ: جمع جَدَثٍ وهو القبر، وشَبَّهَهُمْ سبحانه بالجراد المنتشر، وقد شبههم سبحانه في آية أخرى بالفراش المبثوث، وفيهم من كل هذا شَبَهٌ، وذهب بعض المفسرين إلى أَنَّهم أَوَّلاً كالفراش حين يَمُوجُ بعضُهم في بعض ثم في رتبة أُخرى كالجراد إذا توجَّهُوا نحو المَحْشَرِ والداعي، والمُهْطِعُ: المُسْرِعُ في مشيه نحو الشيء مع هَزٍّ ورَهَقٍ ومَدِّ بَصَرٍ نحو المَقْصِدِ، إِمَّا لخوف، / أو طمع ونحوه قال أبو حيان «5» : مُهْطِعِينَ أي: مسرعين، وقيل: فاتحين آذانهم للصوت، انتهى. ويَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 548) برقم: (32722) ، وذكره البغوي (4/ 458) ، وابن عطية (5/ 212) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 263) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 212) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 212) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 212) ، و «البحر المحيط» (8/ 173) ، و «الدر المصون» (6/ 222) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 174) .

[سورة القمر (54) : الآيات 9 إلى 15]

[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 15] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) وقوله سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... الآية: وعيدٌ لقريشٍ، وضَرْبُ مَثَلٍ لهم. وقوله: وَازْدُجِرَ: إخبار من الله عز وجل أنّهم زجروا نوحا ع بالسَّبِّ والنَّجْهِ «1» والتخويف، قاله ابن زيد «2» . وقوله: فَانْتَصِرْ أي: فانتصر لي منهم بأن تهلِكَهُمْ. وقوله: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قال الجمهور: هذا مجاز وتشبيه لأَنَّ المطر كأَنَّه من أبواب، وهذا مبدأ الانتصار من الكفار، والمُنْهَمِرُ: الشديد الوقوع الغزِيرُ، وقرأ الجمهور «3» : فَالْتَقَى الْماءُ يعني: ماءَ السماء وماءَ العيون. وقوله سبحانه: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: قد قُضِيَ وَقُدِّرَ في الأزل، وذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ: هي السفينة، والدَّسُرُ: المسامير، واحدها: دِسار وهذا هو قول الجمهور، وقال مجاهد «4» : الدُّسُرُ: أضلاع السفينة، قال العراقيُّ: والدِّسَار أيضاً: ما تُشَدُّ به السفينة، انتهى. وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا معناه: بحفظنا وتحتَ نظرٍ مِنَّا، قال البخاريّ: قال قتادة: أبقى الله عز وجل سفينةَ نوح حتَّى أدركها أَوائِلُ هذه الأُمَّةِ، انتهى، وقرأ جمهور «5» الناس: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ مبنيًّا للمفعول، قال مكيُّ: قيل: «مَنْ» يرادُ بها نوحٌ والمؤمنون لأنَّهم كُفِروا من حيثُ كُفِرَ بهم، فجزاهم اللَّه بالنجاة، وقُرِىء شاذّا: «كفر»

_ (1) النّجه: استقبالك الرجل بما يكره، وردك إياه عن حاجته، وقيل: هو أقبح الرد. ينظر: «لسان العرب» (4359) . (2) أخرجه الطبري (11/ 551) برقم: (32740) ، وذكره ابن عطية (5/ 214) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 263) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 214) ، و «البحر المحيط» (8/ 175) ، و «الدر المصون» (6/ 226) . (4) أخرجه الطبري (11/ 553) برقم: (32756) ، وذكره ابن عطية (5/ 214) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 264) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 215) ، و «البحر المحيط» (8/ 176) ، و «الدر المصون» (6/ 227) .

[سورة القمر (54) : الآيات 16 إلى 19]

مبنيًّا للفاعل، والضمير في تَرَكْناها قالَ مَكِّيّ: هو عائد على هذه الفِعْلَةِ والقِصَّةِ، وقال قتادة وغيره «1» : هو عائد على السفينة، / ومُدَّكِرٍ أصله: مذتكر أبدلوا من التَّاءِ دالاً، ثم أدغموا الذَّالَ في الدَّالِ، وهذه قراءة الناس، قال أبو حاتم: ورويت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد صحيح. [سورة القمر (54) : الآيات 16 الى 19] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ: توقيف لكفار قريش، والنذر: هنا جمع نذير، وهو المصدر، والمعنى: كيف كان عاقبةُ إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيّها القوم؟ ويَسَّرْنَا الْقُرْآنَ أي: سَهَّلْناه وقَرَّبْناه، والذِّكْرُ: الحفظ عن ظهر قلب قال ع «2» : يُسِّرَ بما فيه من حُسْنِ النظم وشَرَفِ المعاني، فله حلاوةٌ في القلوب، وامتزاجٌ بالعقول السليمة. وقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ: استدعاءٌ وحَضٌّ على ذكرِهِ وحفظِهِ لتكونَ زواجرُهُ وعلومُهُ حاضرةً في النفس، فللَّه دُرُّ مَنْ قبِل وهدي. ت: وقال الثعلبيُّ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: من مُتَّعظ. وقوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ الآية: ورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ: يوم الأربعاء، ومستمر معناه: متتابع. [سورة القمر (54) : الآيات 20 الى 41] تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 554) برقم: (32761) ، وذكره البغوي (4/ 261) ، وابن عطية (5/ 214) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 264) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 180) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 215) . [.....]

وقوله: تَنْزِعُ النَّاسَ معناه: تقلعهم من مواضعهم قَلْعاً فتطرحهم، ورُوِيَ عن مجاهد أَنَّ الريحَ كانت تُلْقِي الرجلَ على رأسه فيتفتت رأسُهُ وعُنُقُهُ، وما يلي ذلك من بدنه «1» ، قال ع «2» : فلذلك حسن التشبيه بأعجاز النخل وذلك أَنَّ المنقلع هو الذي ينقلع من قعره، وقال قوم: إنَّما شَبَّههم بأعجاز النخل لأَنَّهُمْ كانوا يحتفرون حفراً ليمتنعوا فيها من الريح، فكأَنَّه شَبَّهَ تلك الحُفَرَ بعد النزع بحفر أعجاز النخل، والنَّخْلُ: تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، وفائدة تكرار قوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ التخويفُ وَهَزُّ النفوسِ، وهذا موجود في تَكْرَارِ الكلام كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَلاَ هَلْ/ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» «3» ونحوه، و [قول] ثمود لصالح: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ: هو حسد منهم، واستبعادٌ منهم أنْ يكونَ نوعَ البشر يفضل هذا التفضيلَ، ولم يعلموا إِنَّ الفضلَ بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء، ويفيض نورَ الهدى على مَنْ رَضيَهُ، وقولهم: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ أي: في ذهاب وانتلاف عن الصواب، وَسُعُرٍ معناه: في احتراق أنفس واستعارها حنقاً، وقيل: في جنون يقال: ناقة مسعورة إذا كانت خفيفةَ الرأس هائمةً على وجهها، والأَشَرُ: البَطَرُ، وقرأ الجمهور «4» : سَيَعْلَمُونَ بالياء، وقرأ حمزة وحفص: «سَتَعْلَمُونَ» بالتاء من فوق على معنى: قل لهم يا صالح. ثم أمر اللَّه صالحا بارتقاب الفرج والصبر.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 559) برقم: (32786) ، وذكره ابن عطية (5/ 216) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 182) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 216) . (3) تقدم تخريجه. (4) وقراءة الجمهور هي قراءة علي بن أبي طالب، وقرأ بالتاء من فوق ابن عامر وحمزة، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش. وأما حفص فقرأ بقراءة الجمهور، وليس كما ذكر المصنف متابعة لابن عطية، وإنما قراءته بالتاء من طريق هبيرة عن حفص. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 217) ، و «الحجة» (6/ 243) ، و «معاني القراءات» (3/ 43) ، و «شرح الطيبة» (6/ 27) ، و «حجة القراءات» (689) ، و «العنوان» (183) ، و «شرح شعلة» (592) ، و «إتحاف» (2/ 507) ، و «التخريجات النحوية» (258) .

ت: وقال الثعلبيُّ: فَارْتَقِبْهُمْ أي: انتظرهم ما يصنعون، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وبين الناقة، لها شِرْبٌ ولهم شِرْبٌ يوم معلوم، ومُحْتَضَرٌ: معناه: محضور مشهود متواسى فيه، وقال مجاهد «1» : كُلُّ شِرْبٍ أي: من الماء يوماً ومن لبن الناقة يوماً محتضر لهم، فكأَنَّه أنبأهم بنعمة الله سبحانه عليهم في ذلك، وصاحِبَهُمْ: هو قدار بن سالف، وفَتَعاطى مطاوع «عاطى» فكأَنَّ هذه الفعلة تدافعها الناس، وأعطاها بعضُهم بعضاً فتعاطاها هو، وتناول العَقْرَ بيده قاله ابن عباس «2» ، وقد تقدم قَصَصُ القوم، و «الهشيم» : ما تفتَّت وتَهَشَّمَ من الأشياء، والْمُحْتَظِرِ: معناه: الذي يصنع حظيرة، قاله ابن زيد وغيره «3» ، وهي مأخوذة من الحَظَرِ وهو المنع، والعرب وأهلُ البوادي يصنعونها للمواشي وللسُّكْنَى/ أيضاً من الأَغصان والشجر المُورِقِ، والقصب، ونحوه، وهذا كُلُّه هشيمٌ يتفتت، إمَّا في أَوَّل الصنعة، وإمَّا عند بِلى الحظيرة وتساقُطِ أجزائها، وقد تقدم قَصَصُ قوم لوط، والحاصب: مأخوذ من الحصباء. وقوله: فَتَمارَوْا معناه: تشككوا، وأهدى بعضُهم الشكّ إلى بعض بتعاطيهم الشبه والضلال، والنذر: جمع نذير، وهو المصدر، ويحتمل أَنْ يُرَادَ بالنذر هنا وفي قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ- جمع نذير، الذي هو اسم فاعل. وقوله سبحانه: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ قال قتادة «4» : هي حقيقةً جَرَّ جبريل شيئاً من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم، قال أبو عُبَيْدَةَ: مطموسة بجلدة كالوجه، وقال ابن عباس والضَّحَّاك «5» : هذه استعارة وإنَّما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً فجعل ذلك كالطمس. وقوله: بُكْرَةً قيل: عند طلوع الفجر.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 561) برقم: (32791) ، وذكره البغوي (4/ 262) ، وابن عطية (5/ 218) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 265) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 182) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير. (2) أخرجه الطبري (11/ 561) برقم: (32793) ، وذكره ابن عطية (5/ 218) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 182) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (11/ 562) برقم: (32800) عن الضحاك، وذكره ابن عطية (5/ 218) . (4) أخرجه الطبري (11/ 564) برقم: (32806) ، وذكره ابن عطية (5/ 218) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 183) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (5) أخرجه الطبري (11/ 564) : (32805) عن ابن عبّاس، وعن الضحاك برقم: (32808) ، وذكره البغوي (4/ 263) عن الضحاك، وابن عطية (5/ 218) .

[سورة القمر (54) : الآيات 42 إلى 48]

وقوله: فَذُوقُوا: يحتمل أنْ يكون من قول اللَّه تعالى لهم، ويحتمل أَنْ يكونَ من قول الملائكة، وَنُذُرِي: جمع المصدر، أي: وعاقبة إنذاري، ومُسْتَقِرٌّ أي: دائم استقر فيهم حَتَّى يُفْضِيَ بهم إلى عذاب الآخرة، وآلَ فِرْعَوْنَ: قومه وأتباعه. [سورة القمر (54) : الآيات 42 الى 48] كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يحتمل أنْ يريد آل فرعونَ، ويحتمل أن يكون قوله: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ [القمر: 41]- كلاماً تامًّا-، ثم يكون قوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعود على جميع من ذُكِرَ من الأمم. وقوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ خطاب لقريش على جهة التوبيخ. وقوله: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ أي: من العذاب فِي الزُّبُرِ أي: في كتب اللَّه المُنَزَّلَةِ قاله ابن زيد وغيره «1» . ثم قال تعالى لنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: أَمْ يَقُولُونَ/ نَحْنُ: واثقون بجماعتنا، منتصرون بقوَّتِنا على جهة الإعجاب سَيُهْزَمُونَ، فلا ينفع جمعُهم، وهذه عِدَةٌ من اللَّه تعالى لرسوله أَنَّ جَمْعَ قريشٍ سَيُهْزَمُ، فكان كما وعد سبحانه قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: كنت أقول في نفسي: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟! فَلَمَّا كان يومُ بدرٍ رأيتُ رسولَ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع، وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «2» والجمهور على أَنَّ الآية نزلت بِمَكَّةَ، وقول مَنْ زعم أَنَّها نزلت يومَ بدر ضعيف، والصواب أَنَّ الوعد نُجِّزَ يوم بدر، قال أبو حيان «3» : وَيُوَلُّونَ: الجمهور بياء الغيبة، وعن أبي عمرو بتاء الخطاب، والدُّبُرُ: هنا اسم جنس، وحسن إفرادَهُ كونُهُ فاصلةً، وقد جاء مجموعاً في آية أُخرى، وهو الأصل، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 567) برقم: (32821) ، وابن عطية (5/ 220) . (2) أخرجه الطبري (11/ 567) برقم: (32823) ، وذكره البغوي (4/ 238) ، وابن عطية (5/ 220) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 266) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 184) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والطبراني في «الأوسط» ، وابن مردويه. (3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 181) .

[سورة القمر (54) : الآيات 49 إلى 55]

ثم أضرب سبحانه تهميماً بأمر الساعة التي هي أَشَدُّ عليهم من كُلِّ هزيمة وقَتْلٍ، فقال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وأَدْهى: أفعل من الداهية، وهي الرَّزِيَّةُ العُظْمَى تنزل بالمرء، وَأَمَرُّ من المرارة. ت: وقال الثعلبيُّ: الداهية الأَمَرُّ: الشديد الذي لا يُهْتَدَى للخلاص منه، انتهى. ثم أخبر تعالى عن المجرمين أَنَّهم في الدنيا في حيرة وانتلاف، وفقد هدى، وفي الآخرة في احتراق وتسعُّر، وقال ابن عباس «1» : المعنى: في خسران وجُنُونٍ، والسُّعُرُ: الجنون، وأكثر المفسرين على أَنَّ المجرمين هنا يراد بهم الكفّار، والسّحب: الجرّ. [سورة القمر (54) : الآيات 49 الى 55] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) وقوله سبحانه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قرأ جمهور الناس: كُلَّ بالنصب، وقالوا: المعنى: إنَّا خلقنا كُلَّ شيء بقدر سابق، وليست خلقنا في موضع الصفة لشيء، / وهذا مذهب أهل السُّنَّةِ وهذا المعنى يقتضى أَنَّ كُلَّ شيء مخلوق إلاَّ ما قام عليه الدليل أَنَّه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات. ت: قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس «2» : خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كُلَّهم بقدر، وَخَلَقَ الخيرَ والشَّرَّ، فخيرُ الخير: السعادةُ، وَشَرُّ الشَّرِّ: الشقاوة. وقوله سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ قال ع «3» : أي: إلاَّ قولة واحدة، وهي «كن» . ت: قوله: إلاَّ قوله فيه قَلَقٌ ما، وكأَنَّه فَهِمَ أَنَّ معنى الآية راجع إلى قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] وعبارة الثعلبيِّ: أي: وما أمر الساعة إلاَّ واحدة، أي: إلاَّ رجفة واحدة، قال أبو عبيد: هي نعت للمعنى

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 221) . (2) أخرجه الطبري (11/ 569) برقم: (32842) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 185) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 221) .

دون اللفظ، مجازه: وما أمرنا إلاَّ مرة واحدة كن فيكون كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، أي: كخطف بالبصر، فقيل له: إنَّه يعني الساعةَ، فقال: الساعة وجميع ما يريد، انتهى، وكلام أبي عبيد عندي حَسَنٌ. والأشياع: الفِرَقُ المتشابهة في مذهب، أو دين، ونحوهِ، الأَوَّلُ شيعةٌ للآخر، والآخرُ شيعة للأَوَّلِ، وكُلُّ شيء فعلته الأُمَم المُهْلَكَةُ في الزبر، أي: مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب قاله ابن عباس وغيره «1» ، ومُسْتَطَرٌ أي: مسطّر، وقرأ الجمهور «2» : ونَهَرٍ- بفتح النون والهاء- على أَنَّه اسم الجنس يريد به الأنهار، أو على أَنَّه بمعنى: وَسَعَةٍ في الأرزاق والمنازل، قال أبو حيان «3» : وقرأ الأعمش «وَنُهُرٍ» - بضم النون والهاء- جمع نَهْرٍ ك «رَهُنٍ» وَ «رَهْنٍ» انتهى. وقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ يحتمل أنْ يريدَ به الصّدقَ الذي هو ضِدُّ الكَذِبِ، أي: المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أنْ يكون من قولك: عود صدق، أي: جيد، وَرَجُلٌ/ صِدْقٌ، أي: خير، والمليك المقتدر: اللَّه تعالى. ت: وقال الثعلبيُّ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي: في مجلس حَقٍّ لا لَغْوَ فيه ولا تأثيمَ، وهو الجنة عند مليك مقتدر، وعِنْدَ: إشارة إلى القربة والرُّتْبَةِ، انتهى. - ص-: قال أبو البقاء: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ: بدل من قوله: فِي جَنَّاتٍ انتهى، قال المُحَاسِبِيُّ: وإذا أخذ أهلُ الجنة مجالسَهم، واطمأنوا في مقعد الصدق الذي وعده اللَّه لهم، فهم في القُرْبِ من مولاهم سبحانه على قدر منازلهم عنده، انتهى من كتاب «التَّوَهُّمِ» ثم قال المُحَاسِبيُّ بإثْرِ هذا الكلام: فلو رأيتهم، وقد سمعوا كلامَ ربهم، وقد داخل قلوبَهم السرورُ، وقد بلغوا غايةَ الكرامة ومنتهى الرضا والغِبْطَةِ، فما ظَنُّك بنظرهم إلى العزيز العظيم الجليل الذي لا تقع عليه الأوهام ولا تحيطُ به الأفهام، ولا تحده الفِطَنُ، ولا تكيِّفه الفِكَرُ، الأَزَلِيُّ القديم، الذي حارت العقول عن إدراكه، وكَلَّتِ الألسن عن كُنْهِ صفاته؟! انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 222) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 186) ، وعزاه لابن المنذر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 222) ، و «البحر المحيط» (8/ 182) ، و «الدر المصون» (6/ 234) . (3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 182) ، وفيه أيضا: أنها قراءة زهير الفرقبي وأبي نهيك، وأبي مجلز، واليماني. وينظر: «المحتسب» (2/ 300) .

تفسير سورة الرحمن

تفسير سورة الرحمن عزّ وجلّ، وهي مكّيّة في قول الجمهور [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) قوله عز وجل: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ الرحمن: بناء مبالغة من الرحمة، وقوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ تعديد نعمةٍ، أي: هو مَنَّ به، وعَلَّمَهُ الناسَ، وخَصَّ حُفَّاظَهُ وَفَهَمَتَهُ بالفضل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» «1» ، ومن الدليل على أَنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، أَنَّ اللَّه تعالى ذكر القرآن في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضِعٌ صَرَّحَ/ فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسانَ على الثُّلُثِ من ذلك في ثمانيةَ عَشَرَ موضعاً كُلُّها نَصَّتْ على خلقه، وقد اقترن ذكرُهُمَا في هذه السورة على هذا النحو، والإنسان هنا اسم جنس قاله الزَّهْرَاوِيُّ وغيره، قال الفخر «2» : الرَّحْمنُ: مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي عَلَّمَ الْقُرْآنَ، انتهى، والْبَيانَ: النُّطْقُ والفهم والإبانة عن ذلك بقولٍ قاله الجمهور، وبذلك فُضِّلَ الإنسان من سائر الحيوان، وكلّ المعلومات داخلة في

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 692) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027- 5028) ، وأبو داود (1/ 460) ، كتاب «الصلاة» باب: في ثواب قراءة القرآن (1452) ، والترمذي (5/ 173- 174) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: ما جاء في تعليم القرآن (2907- 2908) ، وابن ماجه (1/ 76- 77) «المقدمة» باب: فضل من تعلم القرآن وعمله (211) ، وأحمد (1/ 85، 69) ، والدارمي (2/ 437) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: خياركم من تعلم القرآن وعلمه عن عثمان بن عفان. وفي الباب عن علي رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (5/ 175) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ما جاء في تعليم القرآن (2909) ، وأحمد (1/ 153) ، والدارمي (2/ 437) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: خياركم من تعلم القرآن. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه من حديث علي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق. (2) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (15/ 75) .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 6 إلى 13]

البيان الذي عَلّمه الإنسان، فمن ذلك البيان: كونُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ: وهذا ابتداء تعديد نِعَمٍ، قال قتادة «1» : بِحُسْبانٍ: مصدر كالحساب، وقال أبو عبيدةَ معمر بن المثنى والضَّحَّاك «2» : هو جمع حساب، والمعنى: أَنَّ هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروجَ وغيرِ ذلك حساباتٌ شَتَّى، وهذا مذهب ابن عباس وغيرِهِ «3» ، وقال قتادة: الحسبان «4» : الفلك المستدير، شَبَّهَهُ بحُسْبَان الرَّحَى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة. [سورة الرحمن (55) : الآيات 6 الى 13] وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) وقوله سبحانه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ قال ابن عباس وغيره «5» : النجم: النباتُ الذي لا ساقَ له. قال ع «6» : وسُمِّيَ نَجْماً لأَنَّه نَجَمَ، أي: ظَهَر، وهو مناسب للشجر نسبةً بَيِّنَةً، وقال مجاهد وغيره: النجم: اسم الجنس من نجوم السماء «7» : قال- عليه السلام «8» -: والنسبة التي لها من السَّمَاءِ هي التي للشَّجَرِ من الأرض لأَنَّهُمَا في ظاهرهما، وسُمِّيَ الشَّجَرَ من اشتجار غصونه، وهو تداخُلُها، قال مجاهد «9» : وسجودهما عبارة عن التذلّل والخضوع.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 573) برقم: (32862) ، وذكره ابن عطية (5/ 224) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 190) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) ذكره ابن عطية (5/ 224) . (3) أخرجه الطبري (11/ 573) برقم: (32860) ، وذكره البغوي (4/ 267) ، وابن عطية (5/ 224) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 190) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه. (4) أخرجه الطبري (11/ 574) عن مجاهد برقم: (32867) . (5) أخرجه الطبري (11/ 575) برقم: (32869) ، وذكره ابن عطية (5/ 224) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 191) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن رزين، والحاكم وصححه. (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 224) . (7) أخرجه الطبري (11/ 575) برقم: (32873) ، وذكره البغوي (4/ 267) ، وابن عطية (5/ 224) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 191) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (8) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 224) . [.....] (9) ذكره ابن عطية (5/ 224) .

وقوله سبحانه: وَوَضَعَ/ الْمِيزانَ: يريد به العدل قاله أكثرُ الناسَ. وقوله: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وقوله: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وقوله: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يريد به الميزانَ المعروفَ وأَلاَّ هو بتقدير لئلاَّ، أو مفعول من أجله، وفي مصحف ابن مسعود «1» : «لاَ تَطْغَوا في المِيزَانِ» وقرأ بلال بن أبي بُردَةَ «2» : «تَخْسِرُوا» - بفتح التاء وكسر السين- من خَسَرَ، ويقال: خَسَرَ وَأَخْسَرَ بمعنى نَقَصَ، وأفسد كَجَبَرَ وأَجْبَرَ. والأنام: قال الحسن بن أبي الحَسَنِ «3» : هم الثقلان، الإنْسُ والْجِنُّ، وقال ابن عباس، وقتادة وابن زيد والشَّعْبِيُّ «4» : هم الحيوانُ كلُّه. وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وذلك أَنَّ طَلْعَهَا في كُمٍّ وفروعَها أيضاً في أكمامٍ مِنْ ليفِهَا، والكُمُّ من النَّبَاتِ: كلُّ ما التف على شَيْءٍ وَسَتَرَهُ: ومنه كمائم الزَّهْرِ، وبه شُبِّهَ كُمُّ الثوب. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ: هو الْبُرُّ والشَّعِيرُ وما جرى مجراه، قال ابن عباس «5» : العَصْفُ: التِّبْنُ، واخْتُلِفَ في الرَّيْحَان، فقال ابن عَبَّاس وغيره «6» : هو الرِّزْق، وقال الحسن: هو رَيْحَانُكُمْ «7» هذا، وقال ابن زيد وقتادة «8» : الريحانُ هو كلّ مشموم طيّب، قال

_ (1) ينظر: «الكشاف» (4/ 444) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 225) . (2) ينظر: «الشواذ» ص: (149) ، و «المحتسب» (2/ 303) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 225) ، و «البحر المحيط» (8/ 188) ، و «الدر المصون» (6/ 237) . (3) أخرجه الطبري (11/ 577) برقم: (32893) ، وذكره ابن عطية (5/ 225) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (4) أخرجه الطبري (11/ 577) برقم: (32891) ، عن ابن عبّاس، وعن قتادة برقم: (32895) ، وعن ابن زيد (11/ 578) برقم: (32896) ، وذكره ابن عطية (5/ 225) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (5) أخرجه الطبري (11/ 577) برقم: (32904) ، وذكره البغوي (4/ 268) ، وابن عطية (5/ 225) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 271) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (6) أخرجه الطبري (11/ 580) برقم: (32915) ، وذكره البغوي (4/ 268) ، وابن عطية (5/ 225) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير. (7) أخرجه الطبري (11/ 580) برقم: (32922) ، وذكره البغوي (4/ 268) ، وابن عطية (5/ 225) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 271) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير. (8) أخرجه الطبري (11/ 580) برقم: (32923) ، عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (5/ 225) .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 إلى 21]

ع «1» : وفي هذا النوع نعمة عظيمة، ففيه الأزهار، والمِنْدَلُ والعقاقير، وغير ذلك، وقرأ الجمهور «2» : «وَالرَّيْحَانُ» بالرفع عطفاً على «فاكهة» وقرأ حمزة والكسائيُّ: «وَالرَّيْحَانِ» بالخفض عطفاً على «العَصْف» ، ف «الريحان» على هذه القراءة: الرزق، ولا يدخل فيه المشمومُ إلاَّ بتكَلُّفٍ، و «ريحان» أصله «رَوْحَان» فهو من ذوات الواو و «الآلاء» : النِّعَمُ، والضمير في قوله: رَبِّكُما للجن والإنس اللَّذَيْن تضمَّنهما لفظُ الأَنامِ، وأيضاً ساغ تقديمُ ضميرهما عليهما لذكر/ الإنسان والجانِّ عَقِبَ ذلك، وفيه اتساع، وقال منذر بن سَعِيدٍ: خُوطِبَ مَنْ يعقِلُ لأَنَّ المخاطبة بالقرآن كُلِّه هي للإنس والجن «3» ، وعن جابر قال: «قرأ علينا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سُورَةَ الرحمن، حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَالي أَرَاكُمْ سُكُوتاً؟! لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ رَدًّا مِنْكُمْ مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيةَ مِنْ مَرَّةٍ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلاَّ قَالُوا: لاَ بشيء من نعمك ربّنا نكذّب» «4» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 21] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) وقوله سبحانه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الآية: اخْتُلِفَ في اشتقاقِ «الصَّلْصَال» فقيل: هو من صلّ: إذا أنتن، فهي إشارة إلى

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 225) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 225) ، و «البحر المحيط» (8/ 188- 189) ، و «السبعة» (619) ، و «الحجة» (6/ 245) ، و «إعراب القراءات» (2/ 333) ، و «معاني القراءات» (3/ 44) ، و «شرح الطيبة» (6/ 29) ، و «العنوان» (184) ، و «حجة القراءات» (690) ، و «شرح شعلة» (593) ، و «إتحاف» (2/ 509) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 226) . (4) أخرجه الترمذي (5/ 399) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الرحمن (3291) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 473) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 232) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 189) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمّد، قال أحمد بن حنبل: كان زهير بن محمّد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروى عنه بالعراق كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني لما يرون عنه من المناكير، وسمعت محمّد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمّد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة. اهـ من كلام الترمذي. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

الحَمْأَةِ، وقال الجمهور: هو من صَلَّ: إذَا صَوَّتَ، وذلك في الطين لجودته، فهي إشارة إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحُرِّ وذلك أَنَّ اللَّه تعالى خلقه من طين مختلِفٍ، فمرَّةً ذكر في خلقه هذا، ومرَّةً هذا، وكُلُّ ما في القرآن صفاتٌ ترددتْ على التراب الذي خُلِقَ منه، و «الفَخَّارُ» : الطين الطَّيِّبُ إذا مَسَّهُ الماء فخر، أي: رَبَا وَعَظُمَ، والجانُّ: اسم جنس كالجِنَّةِ، قال الفخر: وفي الجانِّ وجه آخر: أنَّه أبو الجنِّ، كما أَنَّ الإنسان هنا أبو الإنْسِ خُلِقَ من صَلْصَالٍ، ومَنْ بعده خُلِقَ من صُلْبِهِ. كذلك الجَانُّ هنا أبو الجَنِّ خُلِقَ من نارٍ، ومَنْ بعده من ذرِّيَّتِهِ، انتهى، و «المارج» : اللهب المُضْطَرِبْ من النار، قال ابن عباس «1» : وهو أحسنُ النَّارِ المختلِطِ من ألوانٍ شتى، قال أبو حيَّان «2» : المَارِجُ المختلِطُ من أصْفَر، وأخضَرَ، وأحْمَرَ، انتهى. وكَرَّرَ سبحانه قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تأكيداً وتنبيهاً للنفوس، وتحريكاً لها، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة، وهي من كتاب اللَّه في مواضع وفي حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، / وفي كلام العرب، وذهب قوم إلى أَنَّ هذا التكرار إنَّما هو لما اختلفت النعم المذكورة كَرَّرَ التوقيفَ مع كُلِّ واحدة منها، قال ع «3» : وهذا حسَنٌ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: التكرار لِطَرْدِ الغَفْلَةِ، وللتأكيد «4» ، وخَصَّ سبحانه ذكرَ المَشْرِقَيْنِ والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما لعظمهما في المخلوقات. ت: وتحتمل الآية أَنْ يرادَ المشرقين والمغربين وما بينهما كما هو في «سورة الشعراء» واختلف الناس في الْبَحْرَيْنِ قال ع «5» : والظاهر عندي أَنَّ قوله تعالى: الْبَحْرَيْنِ يريد بهما نَوْعَي الماءِ العَذْبِ والأُجِاجِ، أي: خلطهما في الأرض، وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض، قريب بعضهما من بعض، ولا بَغْيَ، قال ع «6» : وذكر الثعلبيُّ في مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ألغازاً وأقوالاً باطنةً يجب ألّا يلتفت إلى شيء منها.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 584) برقم: (32945) ، وذكره ابن عطية (5/ 226) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 271) . [.....] (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 189) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 226) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 226) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 227) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 227) .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 22 إلى 25]

ت: ولا شَكَّ في اطِّرَاحِهَا، فمنها نقله عن الثوريِّ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: فاطمة وعليٌّ، اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ: الحَسَنُ والحُسَيْنُ، ثم تمادى في نحو هذا مِمَّا كان الأولى به تركُهُ، ومَرِجَ الشَّيْءُ، أي: اختلط، و «البَرْزَخُ» : الحاجز، قال البخاريُّ لاَّ يَبْغِيانِ: لا يختلطان، انتهى، قال ابن مسعود «1» : وَالْمَرْجانُ: حجر أحمر، وهذا هو الصواب، قال عطاء الخراسانيّ «2» : وهو البسذ «3» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 25] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) وقوله سبحانه: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال جمهور من المتأولين: إنما يخرُج ذلك من «الأُجَاجِ» في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فلذلك قال: مِنْهُمَا. ت: وهذا بناء على أَنَّ الضمير في مِنْهُمَا للعذب وللمالح، وأَمَّا على قول/ مَنْ قال: إنَّ البحرين بَحْرُ فَارِسَ والرُّومِ، أو بَحْر القُلْزُمِ وبَحْرُ الشَّامِ- فلا إشكالَ- إذْ كُلُّها مالحةٌ، وقد نقل الأخفش عن قوم أَنَّهُ يخرج اللؤلؤ والمرجان من المالح ومن العذب، وليس لِمَنْ رَدَّهُ حُجَّةٌ قاطعة، ومَنْ أَثْبَتَ أولى مِمَّنْ نفى، قال أبو حيَّان «4» : والضمير في مِنْهُمَا يعود على البحرين، يعني: العَذْبَ والمَالِحَ، والظاهرُ خروجُ اللؤلؤِ والمَرْجَانِ منهما، وحكاه الأخفَشُ عن قوم، انتهى، والجَوَارِي: جمع جارية، وهي السُّفُنُ، وقرأ حمزة وأبو بكر «5» : «المنْشِئَاتُ» - بكسر الشين-، أي: اللواتي أنشأْنَ جَرْيَهُنَّ، أي: ابتدأْنَهُ، وقرأ الباقون- بفتح الشين-، أي: أنشأها اللَّهُ أو الناس، وقال مجاهد: الْمُنْشَآتُ: ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن كَالْأَعْلامِ، أي: كالجبال «6» .

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 589) برقم: (32995) ، وذكره ابن عطية (5/ 228) . (2) أخرجه الطبري (11/ 589) برقم: (32990) عن كعب الأحبار، وذكره البغوي (4/ 269) . (3) البسّذ: نوع من الجوهر. وهي كلمة غير عربية. ينظر: «لسان العرب» (279) . (4) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 190) . (5) ينظر: «السبعة» (620) ، و «الحجة» (6/ 247) ، و «إعراب القراءات» (2/ 337) ، و «معاني القراءات» (3/ 46) ، و «شرح الطيبة» (6/ 30) ، و «العنوان» (184) ، و «حجة القراءات» (691) ، و «شرح شعلة» (593) ، و «إتحاف» (2/ 510) . (6) أخرجه الطبري (5/ 591) برقم: (33000) ، وذكره ابن عطية (5/ 228) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 272) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 196) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 إلى 28]

ت: ولفظ البخاريّ: الْمُنْشَآتُ: ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن، فأَمَّا ما لا يرفع قلعه، فليس بمنشآت، انتهى. [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 28] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) وقوله سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي: على الأرض فانٍ والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، والوجه: عبارة عن الَّذَاتِ، لأَنَّ الجارحة منفيَّةٌ في حَقِّه سبحانه قال الداوديُّ: وعن ابن عباس ذُو الْجَلالِ: قال: ذو العظمة والكبرياء، انتهى. [سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 36] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) وقوله سبحانه: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: مِنْ مَلَكٍ، وإنس، وجنٍّ، وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كُلُّهم يَسْأَله حاجَتَهُ، إمَّا بلسانِ مقاله، وإمَّا بلسانِ حاله. وقوله سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي: يُظْهِرُ شأناً من قدرته التي قد سبقت في الأَزَلِ في ميقاته من الزمان، من إحياءٍ وإماتةٍ، ورِفْعَةٍ وخَفْضٍ، وغيرِ ذلك من الأمور التي/ لا يعلم نهايتها إلاَّ هو سبحانه، و «الشأن» : هو اسم جنس للأمور، قال الحسين بن الفضل «1» : معنى الآية: سَوْقُ المقادير إلى المواقيت وفي الحديث: «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هذه الآيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هذا الشَّأْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَغْفِرُ ذَنْبَاً، وُيُفَرِّجُ كَرْباً، وَيَرْفَعُ قَوْماً، وَيَضَعُ آخَرِينَ» «2» وذكر النَّقَّاش أَنَّ سبب هذه الآيةِ قولُ اليهود: استراح اللَّهُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلاَ يُنَفِّذُ فِيهِ شيئا. وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ: عبارة عن إتيان الوقت الذي قَدَّرَ فيه، وقضى أَنْ ينظرَ في أُمور عباده، وذلك يوم القيامة، وليس المعنى: أَنَّ ثَمَّ شغلاً يتفرَّغ منه إذْ لا يشغله سبحانه شأنٌ عن شأن، وإنَّما هي إشارةُ وعيدٍ وتهديد، قال البخاريّ: وهو

_ (1) ذكره البغوي (4/ 270) ، وابن عطية (5/ 229) . (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 197) ، وعزاه إلى البزار.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 إلى 45]

معروفٌ في كلام العرب يقال: لأَفْرُغَنَّ لَكَ، وما به شغل، انتهى، والثَّقَلانِ: الإِنس والجن يقال: لكل ما يَعْظُمُ أمرُه: ثَقَلٌ، وقال جعفرُ بْنُ محمَّدٍ الصَّادِقُ: سُمِّيَ الإنْسُ والجِنُّ ثَقَلَيْنِ لأَنَّهما ثَقُلاَ بالذنوبِ «1» ، قال ع «2» : وهذا بارعٌ ينظر إلى خلقهما من طين ونار، واختلف الناسُ في معنى قوله تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ... الآية: فقال الطبريُّ «3» : قال قوم: المعنى: يُقَالُ لهم يومَ القيامة: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ... الآية، قال الضَّحَّاك: وذلك أَنَّهُ يَفِرُّ الناسُ في أقطار الأرض، والجِنُّ كذلك لما يَرَوْنَ من هول يوم القيامة، فيجدون سَبْعَةَ صفوف من الملائكة، قد أحاطَتْ بالأرض، فيرجعون من حيثُ جاؤوا، فحينئذٍ يقال لهم: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «4» ، وقال بعض المفسِّرين: هي مخاطبةٌ في الدنيا، والمعنى: إنِ استطعتم الفِرَارَ مِنَ المَوْتِ بأنْ تَنْفُذُوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا. / ت: والصوابُ الأول. وقوله: فَانْفُذُوا: صيغة أمر، ومعناه: التعجيز، و «الشُّوَاظُ» : لَهَبُ النار قاله ابن عباس وغيره «5» ، قال أبو حَيَّان «6» : الشُّوَاظُ: هو اللهب الخالصُ بغَيْرِ دُخَانٍ، انتهى، و «النُّحَاسُ» : هو المعروف قاله ابن عباس وغيره «7» ، أي: يُذَابُ ويُرْسَلُ عليهما، ونحوه في البخاريِّ، قال- ص-: وقال الخليل: «النُّحَاسُ» هنا هو: الدُّخَانُ الذي لا لَهَبَ له، ونقله أيضا أبو البقاء وغيره، انتهى. [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)

_ (1) ذكره البغوي (4/ 271) ، وابن عطية (5/ 230) . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 230) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 594) . (4) أخرجه الطبري (11/ 594) برقم: (33017) ، وذكره ابن عطية (5/ 230) . (5) أخرجه الطبري (11/ 596) برقم: (33028) ، وذكره ابن عطية (5/ 230) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 274) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 198) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (6) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 193) . (7) ذكره ابن عطية (5/ 231) .

وقوله سبحانه: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ: جواب «إِذا» محذوفٌ مقصودٌ به الإِبهام كأَنَّه يقول: فإذا انشقَّتِ السماءُ، فما أَعْظَمَ الهَوْلَ! قال قتادة «1» : السماءُ اليومَ خَضْرَاءُ، وهي يوم القيامة حَمْرَاءُ، فمعنى قوله: وَرْدَةً أي: مُحْمَرَّةً كالوَرْدَةِ، وهي النُّوَّارُ المعروفُ وهذا قول الزَّجاجِ وغيره. وقوله: كَالدِّهانِ قال مجاهدٌ وغيره «2» : هو جمع دُهْنٍ وذلك أَنَّ السماء يعتريها يومَ القيامة ذَوْبٌ وتَمَيُّعٌ من شِدَّةِ الهَوْلِ، وقال ابن جُرَيْجٍ «3» : من حَرِّ جَهَنَّمَ، نقله الثعلبيُّ، وقيل غير هذا. وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قال قتادة وغيره «4» : هي مواطنُ فلا تعارُضَ بين الآيات. وقوله سبحانه: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قال ابن عباس «5» : يُؤْخَذُ كُلُّ كافر بناصيته وقدَمَيْهِ، ويطوى، ويُجمَعُ كالحَطَبِ، ويلقى كذلك في النار، وقيل: المعنى: أَنَّ بعضَ الكفرة يُؤْخَذُونَ بالنواصي، وبعضُهم يُسْحَبُونَ، ويُجَرُّون بالأقدام. وقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ أي: يقال لهم على جهة التوبيخ، وفي مصحف ابن مسعود «6» : «هذه جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمَا بِهَا تُكَذِّبَانِ لاَ تَمُوتَانِ فِيهَا وَلاَ تَحْيَيَانِ» . وقوله سبحانه: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ المعنى: / أَنَّهم يتردَّدون بين نارِ جهنَّم وَجَمْرِهَا، وبين حميمٍ، وهو ما غُلِيَ في جهنَّم من مائع عذابها، وآنَ الشَّيْءُ: حَضَرَ، وآنَ اللَّحْمُ أو ما يُطْبَخُ أوْ يغلى: نَضِجَ وتناهى حرّه، وكونه من الثاني أبين.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 598) برقم: (33054) ، وذكره البغوي (4/ 272) ، وابن عطية (5/ 231) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 275) . (2) أخرجه الطبري (11/ 599) برقم: (33057) ، وذكره ابن عطية (5/ 231) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 275) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 199) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (3) ذكره البغوي (4/ 272) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 232) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 232) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 275) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 200) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث والنشور» . (6) وزاد ابن خالويه فيها: «تصليانها» لا تموتان ... ، ينظر: «الشواذ» ص: (150) ، و «الكشاف» (4/ 451) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 232) .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 إلى 57]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 57] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) وقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي: موقِفَهُ بينَ يَدَيْ ربه، وقيل في هذه الآية: إنَّ كُلَّ خائف له جَنَّتَانِ. ت: قال الثعلبي: قال محمد بن علي الترمذي: جَنَّةٌ لخوفه من ربِّه، وجنَّةٌ لتركه شهوَته، و «الأَفْنَان» : يحتمل أنْ تكون جمع «فَنَنٍ» ، وهو الغُصْن، وهذا قولُ مجاهد «1» ، فكأَنَّهُ مدَحَهَا بظلالِهَا وتَكَاثُفِ أغصانها، ويحتمل أنْ تكونَ جمع «فَنٍّ» ، وهو قول ابن عباس «2» ، فكأَنَّه مدحها بكثرة فواكهها ونعيمها، وزَوْجانِ معناه: نَوْعَانِ. ت: ونقل الثعلبيُّ عنِ ابنِ عَبَّاس «3» قال: ما في الدنيا شجرةٌ حُلْوَةٌ ولا مُرَّةٌ إلاَّ وهي في الجنة، حتى الحنظل إلّا أنّه حلو انتهى. ومُتَّكِئِينَ: حالٌ، وقرأ الجمهور «4» : عَلى فُرُشٍ- بضم الراء-، وروي في الحديث «أنّه قيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هَذِهِ الْبَطَائِنُ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَكَيْفَ الظَّوَاهِرُ؟! قَالَ: هِيَ مِنْ نُورٍ يَتَلأَلأُ» ، والإِستبرقُ: ما خَشُنَ وحَسُنَ من الدِّيبَاجِ، والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ منه، وقد تقدَّم القولُ في لفظ الإِسْتَبَرقِ، والضميرُ في قوله: فِيهِنَّ لِلْفُرُشِ، وقيل: للجنات، إذِ الجنتان جناتٌ في المعنى، و «الجنى» : ما يجنى من الثمار، ووصفه بالدُّنُوِّ لأَنَّه يدنو إلى مشتهيه، فيتناوله كيف شاء من قيام، أو جلوس، أو اضطجاع، رُوِيَ معناه في الحديث، وقاصِراتُ الطَّرْفِ: هُنَّ الحور، قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجهن: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أي: لم يفتضَّهنَّ لأَنَّ الطَّمْثَ دم الفرج.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 604) برقم: (33100) ، وذكره البغوي (4/ 274) ، وابن عطية (5/ 233) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 277) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 203) ، وعزاه لابن جرير. (2) ذكره ابن عطية (5/ 233) . [.....] (3) ذكره البغوي (4/ 274) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 277) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 204) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي الله عنه. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 233) ، و «البحر المحيط» (8/ 195) ، و «الدر المصون» (6/ 246) .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 58 إلى 61]

وقوله: وَلا جَانٌّ قال مجاهد: الجن قد/ تُجَامِعُ نساءَ البَشَرِ مع أزواجهن «1» إذا لم يذكر الزوجُ اسمَ اللَّه، فنفى سبحانَهُ في هذه الآية جميع المجامعات. [سورة الرحمن (55) : الآيات 58 الى 61] كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ الآية، الياقوتُ والمَرْجَان هي من الأشياء التي قد بَرَعَ حُسْنُهَا، واستشْعَرَتِ النفوسُ جلالتها، فوقع التشبيه بها فيما يشبه، ويحسن بهذه المُشَبَّهَاتِ، فالياقوتُ في املاسه وشُفُوفِهِ، ولو أدخلْتَ فيه سِلْكاً، لرأيته من ورائه، وكذلك المرأة من نساء الجنة يُرَى مُخُّ ساقها من وراء العَظْم، والمَرْجَانُ في املاسِّه وجمالِ منظره. وقوله سبحانه: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ: آيةُ وَعْدٍ وبَسْطٍ لنفوسِ جميعِ المؤمنين لأَنَّها عامَّةٌ قال ابن المُنْكَدِرِ، وابن زيد، وجماعةٍ من أهْلِ العلم «2» : هي لِلْبَرِّ والفاجر، والمعنى: أَنَّ جزاءَ مَنْ أحْسَنَ بالطاعةِ أَنْ يُحْسَنَ إليه بالتنْعِيمِ، وحكى النقّاش أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَسَّرَ هذه الآية: هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ إلاَّ الجَنَّةُ «3» . ت: ولو صَحَّ هذا الحديثُ، لوجَبَ الوقوفُ عنده، ولكنَّ الشأن في صِحَّتِهِ، قال الفخر «4» : قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فيه وجوهٌ كثيرةٌ، حتى قيل: إنَّ في القرآن ثلاثَ آيات، في كل واحدة منها مائةُ قَوْلٍ، إحداها: قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] وثانيتُهَا: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: 8] وثالثتها: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ولنذكر الأشهر منها والأقرب. أما الأشهر فوجوه: أحدها: هل جزاء التوحيدِ إلاَّ الجنةُ، أي: هل جزاءُ مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه إلّا دخول الجنّة.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 607) برقم: (33121) ، وذكره البغوي (4/ 275) ، وابن عطية (5/ 234) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 234) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 208) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري في «الأدب» ، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن محمّد بن الحنفية. (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 207) ، وعزاه إلى الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، والبغوي في «تفسيره» ، والديلمي في «مسند الفردوس» . (4) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (15/ 115) .

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 إلى 78]

ثانيها: هل جزاءُ الإحسان في الدنيا إلاَّ الإحسانُ في الآخرة. ثالثها: هل جزاء/ مَنْ أحسنَ إليكم بالنعم في الدنيا إلاَّ أَنْ تَحْسِنُوا له العبادَةَ والتقوى. وأمَّا الأقرب فهو التعميم، أي: لأنَّ لفظ الآية عامٌّ، انتهى. [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) وقوله سبحانه: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال ابْنُ زَيْدٍ وغيره: معناه أَنَّ هاتين دون تَيْنِكَ في المنزلة والقُرْبِ، فالأُولَيَانِ للمقرَّبين، وهاتان لأصْحَابِ اليَمِينِ «1» ، وعن ابن عباس «2» : أَنَّ المعنى: أَنَّهُمَا دونهما في القرب إلى المُنَعَّمِينَ، وأَنَّهُما أفضلُ من الأُولَيَيْنِ، قال ع «3» : وأكثر الناس على التأويل الأول. ت: واختار الترمذيُّ الحكيمُ التأويلَ الثاني، وأطنب في الاحتجاج له في «نوادر الأصول» له، وخَرَّجَ البخاريُّ هنا عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ... » الحديث، وفيه: «إنَّ في الجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، في كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْل مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المؤمن» «4» انتهى، ومُدْهامَّتانِ معناه: قد علا لَوْنَهُمَا دُهْمَةٌ وَسَوَادٌ في النظرة والخضرة،

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 610) برقم: (33140) ، وذكره ابن عطية (5/ 234) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 279) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 235) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 235) . (4) أخرجه البخاري (8/ 491) ، كتاب «التفسير» باب: ومن دونهما جنتان (4878) باب: حور مقصورات في الخيام (4880) ، (13/ 433) ، كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (7444) ، ومسلم (1/ 163) ، كتاب «الإيمان» باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم، برقم: (296/ 180) ، وابن ماجه (1/ 66- 67) «المقدمة» باب: فيما أنكرت الجهمية (186) ، والترمذي (4/ 581) ، كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء في صفة غرف الجنة (2528) ، والدارمي (2/ 333) .

ة، قال البخاريُّ: مُدْهامَّتانِ: سودَاوَانِ من الرِّيِّ «1» ، انتهى، والنَّضَّاخَةُ: الفَوَّارَةُ التي يَهِيجُ ماؤُها، وكَرَّرَ النخلَ والرُّمَّانَ، وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما، وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: «قلتُ: يا رسول اللَّه، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: خَيْراتٌ حِسانٌ قالَ: خَيْرَاتُ الأَخْلاَقِ، حِسَانُ الْوُجُوهِ» وَقُرِىَء شاذّاً: «خَيِّرَاتٌ» - بِشَدِّ الياء المكسورة «2» -. ت: وفي «صحيح البخاريّ» من حديث أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَرَوْحَة في سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِ سَوْطِهِ خَيْرٌ/ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امرأة مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطلعت إلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحاً، وَلَنَصِيفُهَا على رَأْسِهَا- يعني الخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» «3» . وقوله سبحانه: مَقْصُوراتٌ أي: محجوبَاتٌ مَصُونَاتٌ في الخيام، وخيامُ الجَنَّةِ بُيُوتُ اللؤلؤ، قال عمر بن الخَطَّاب- رضي اللَّهُ عنه «4» -: هي دُرٌّ مُجَوَّفٌ، ورواه ابن مَسْعَودٍ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. قال الداوديُّ: وعن ابن عباس «5» : والخيمة لؤلؤة مجوّفة فرسخ في فرسخ،

_ (1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 487) كتاب: «التفسير» ، باب: سورة الرحمن قال ابن حجر: وصله الفريابي. (2) قرأ بها أبو عثمان النهدي، وأبو بكر بن حبيب السهمي. ينظر: «الشواذ» ص: (151) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 235) . (3) أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» ، باب الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم في الجنة (2792) باب: الحور العين وصفتهن (2796) ، (11/ 425) كتاب «الرقاق» ، باب: صفة الجنة والنار (6568) ، ومسلم (3/ 1499) ، كتاب «الإمارة» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (112/ 1880) . وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم في الجنة (2793) ، مسلم (3/ 1500) ، كتاب «الإمارة» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (114/ 1882) . وفي الباب من حديث سهل بن سعد: أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم في الجنة (2794) ، (6/ 100) باب: فضل رباط يوم في سبيل الله (2892) ، (11/ 236) كتاب «الرقاق» باب: مثل الدنيا في الآخرة (6415) ، ومسلم (3/ 1500) كتاب «الإمارة» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (113/ 8181) ، والترمذي (4/ 188) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل المرابط (1664) ، والترمذي (4/ 188) ، والنسائي (6/ 15) ، كتاب «الجهاد» باب: فضل غدوة في سبيل الله (3118) ، وابن ماجه (2/ 921) كتاب «الجهاد» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (2756) ، وأحمد (5/ 339) . (4) أخرجه الطبري (11/ 616) برقم: (33199) ، وذكره ابن عطية (5/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 210) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي الأحوص. [.....] (5) أخرجه الطبري (11/ 616) برقم: (33197) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 280) ، والسيوطي في «الدر-

لها أربعة آلاف مِصْرَاعٍ، انتهى. و «الرَّفْرَفُ» : ما تدلى من الأَسِرَّةِ من عالي الثياب والبُسُطِ، وقاله ابن عَبَّاس وغيره «1» ، وما يتدلى حول الخِبَاءِ مِنَ الْخِرْقَةِ الهَفَّافَةِ يُسَمَّى رَفْرَفاً، وكذلك يُسَمِّيه الناسُ اليومَ، وقيل غَيْرُ هذا، وما ذكرناه أصْوَبُ، والعَبْقَرِيُّ: بُسُطٌ حِسَانٌ، فيها صُوَرٌ وغَيْرُ ذلك، تُصْنَعُ بعَبْقَر، وهو موضعٌ يُعْمَلُ فيه الوشْيُ والدِّيبَاجُ ونحوه، قال ابن عباس: العَبْقَرِيُّ «2» : الزَّرَابِيُّ «3» ، وقال ابن زيد «4» : هي الطَّنَافِس» ، قال الخليل والأصمعيُّ: العَرَبُ إذا استحسنَتْ شيئاً واستجادَتْهُ قالَتْ: عَبْقَرِيٌّ، قال ع «6» : ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في عُمَرَ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ» «7» . وقوله سبحانه: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ: هذا الموضعُ مِمَّا أُرِيدَ فيه

_ المنثور» (6/ 210) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» . (1) أخرجه الطبري (11/ 619) برقم: (33225) ، وذكره البغوي (4/ 278) ، وابن عطية (5/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 213) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري (11/ 620) برقم: (33235) ، وذكره ابن عطية (5/ 236) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 280) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 214) ، وعزاه لعبد بن حميد. (3) وهي جمع زربية، وهو نوع من الثياب محبّر منسوب إلى موضع، وقال المؤرخ: زرابي البيت: ألوانه ... وقيل: هي البسط العراض. وقيل: ما بها خملة. ينظر: «عمدة الحفاظ» (2/ 156) . (4) أخرجه الطبري (11/ 620) برقم: (33241) ، وذكره ابن عطية (5/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 213) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (5) جمع طنفسة: بكسر الطاء والفاء، وبضمهما، وبكسر الطاء وفتح الفاء، وهي: البساط الذي له خمل رقيق. ينظر: «النهاية» (3/ 140) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 237) . (7) أخرجه البخاري (7/ 23) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا (3664) ، ومسلم (4/ 1861) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه (17- 18/ 2392) ، وأحمد (2/ 368، 450) عن أبي هريرة. وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري (7/ 50) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3682) ، ومسلم (4/ 1862) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: فضائل عمر رضي الله عنه (19/ 2393) ، وأحمد (2/ 27، 28، 39، 89، 104، 107) .

بالاسم مُسَمَّاهُ، والدعاءُ بهاتَيْنِ الكلمتَيْنِ حَسَنٌ مَرْجُوُّ الإجابة، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «ألظّوا ب: «يا ذا الجلال والإكرام» «1» . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 239) ، كتاب «الدعوات» باب: (92) (3524) ، وأحمد (4/ 177) . قال الترمذي: هذا حديث غريب.

تفسير سورة الواقعة

تفسير سورة الواقعة وهي مكّيّة بإجماع ممّن يعتدّ بقوله روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ أنّه قال: «من دام على قراءة سورة الواقعة، لم يفتقر» أو قال: «لم تصبه فاقة أبدا» «1» ، قال ع «2» : لأنّ فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه شغل بالاستعداد. [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) قوله سبحانه: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ الآية، الواقعةُ: اسْمٌ من أسماء القيامة قاله ابن عباس «3» ، وقال الضَّحَّاكُ «4» : الواقعة: الصيحة، وهي النفخة في الصور، وكاذِبَةٌ: يحتمل أَنْ يكون مصدراً، فالمعنى: ليس لها تكذيب ولا رَدٌّ ولا مَثْنَوِيَّةٌ وهذا قول مجاهد والحسن «5» ، ويحتمل أَنْ يكونَ صفة لِمُقَدَّر، كأَنَّهُ قال: ليس لوقعتها حال كاذبة. وقوله سبحانه: خافِضَةٌ رافِعَةٌ قال قتادة وغيره «6» : يعني القيامة تَخْفضُ أقواماً إلى النار، وترفع أقواماً إلى الجنة، وقيل: إنَّ بانفطار السموات والأرض والجبال وانهدام هذه

_ (1) أخرجه الشجري في «أماليه» (2/ 238) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 112) باب: ثواب من قرأ سورة الواقعة (151) . قال ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر، وشجاع والسري لا أعرفهما. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 238) . (3) أخرجه الطبري (11/ 622) برقم: (33245) ، وذكره ابن عطية (5/ 238) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 215) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (4) أخرجه الطبري (11/ 622) برقم: (33244) ، وذكره ابن عطية (5/ 238) . [.....] (5) أخرجه الطبري (11/ 622) برقم: (33246) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 238) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 282) . (6) أخرجه الطبري (11/ 623) برقم: (33250) ، وذكره ابن عطية (5/ 239) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 216) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 إلى 12]

البنية، ترتفعُ طائفةٌ من الأجرام، وتَنْخَفِضُ أُخْرَى، فكأَنَّها عبارة عن شِدَّةِ هول القيامة. ت: والأَوَّلُ أبين، وهو تفسير البخاريِّ، ومعنى رُجَّتِ: زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ بعنف قاله ابن عباس «1» ، ومعنى بُسَّتِ: فُتَّتْ كما تُبَسُّ البَسِيسَةُ وهي السَّوِيقُ قاله ابن عباس وغيره «2» ، وقال بعض اللغويين: «بست» معناه: سيِّرَتْ، والهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يرى إلا في الشمس إذا دخلتْ من كُوَّةٍ قاله ابن عباس وغيره «3» ، والمُنْبَثُّ- بالثاء المثلثة-: الشائع في جميع الهواء، والخطاب في قوله: وَكُنْتُمْ لجميع العالم، والأزواج: الأنواع، قال قتادة «4» : هذه منازل الناس يوم القيامة. [سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 12] فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) وقوله سبحانه: فَأَصْحابُ/ الْمَيْمَنَةِ: ابتداء، وما ابتداء ثان، وأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ: خبرُ مَا، والجملة خبر الابتداء الأوَّلِ، وفي الكلام معنى التعظيم كما تقول: زيد ما زيد، ونظير هذا في القرآن كثير، والميمنة أظهر ما في اشتقاقها أَنَّها من ناحية اليمين، وقيل من اليمْن، وكذلك المشأمة: إمَّا أَنْ تكونَ من اليد الشُّؤْمى، وإمَّا أَنْ تكونَ من الشؤم، وقد فُسِّرَتِ الآيةُ بهذين المعنيين. وقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ: ابتداء، والسَّابِقُونَ الثاني: قال سيبويه: هو خبر الأَوَّلِ، وهذا على معنى تفخيم الأمر وتعظيمه، وقال بعض النحاة: السابقون الثاني نَعْتٌ للأوَّلِ، ومعنى الصفة أَنْ تقولَ: والسابقون إلى الإيمان السابقونَ إلى الجنة والرحمة أَولئك، وَيَتَّجِهُ هذا المعنى على الابتداء والخبر. وقوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ: ابتداء وخبر، وهو في موضع الخبر على قول مَنْ

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 623) برقم: (33254) ، وذكره ابن عطية (5/ 239) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 282) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 216) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (2) أخرجه الطبري (11/ 624) برقم: (33258) ، وذكره ابن عطية (5/ 239) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 282) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 216) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (3) ذكره ابن عطية (5/ 239) . (4) أخرجه الطبري (11/ 626) برقم: (33273) ، وذكره ابن عطية (5/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 217) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 إلى 25]

قال: السَّابِقُونَ الثاني صفة، والْمُقَرَّبُونَ: معناه: مِنْ اللَّه سبحانه في جَنَّةِ عَدَنٍ، فالسابقون معناه: الذين قد سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالُهُمْ في الدنيا سبقاً إلى أعمال البِرِّ وإلى ترك المعاصي، فهذا عمومٌ في جميع الناس، وخَصَّصَ المفسرون في هذه أشياء تفتقر إلى سند قاطع، ورُوِيَ أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنِ السَّابِقِينَ؟ فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ بِحُكْمِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ» والمقربون عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة، قال جماعة من أهل العلم: هذه الآية متضمنة أَنَّ العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف. [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 25] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) وقوله سبحانه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ/ مِنَ الْآخِرِينَ الثُّلَّةُ: الجماعة، قال الحسن بن أبي الحسن وغيره «1» : المراد: السابقون من الأمم والسابقون من هذه الأُمَّةِ، ورُوِيَ أَنَّ الصحابة حَزِنُوا لِقِلَّةِ سابقي هذه الأُمَّةِ على هذا التأويل، فنزلت الآية: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 39- 40] فَرَضُوا، ورُوِيَ عن عائشة «2» أَنَّها تأوَّلَتْ: أَنَّ الفرقتين في أُمَّةِ كُلِّ نبيٍّ هي في الصدر ثلة وفي آخر الأمة قليل، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما روي عنه: «الفِرْقَتَانِ في أُمَّتِي، فَسَابِقُ أَوَّلِ الأُمَّةِ ثُلَّةٌ، وَسَابِقُ سَائِرِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قليلٌ» قال السهيليُّ: وَأَمَّا آخِرُ مَنْ يدخل الجنة، وهو آخِرُ أهل النار خروجاً منها، فرجل اسمه جُهَيْنَةُ، فيقول أهل الجنة: تعالوا نسأَله فعند جهينةَ الخبر اليقين، فيسألونه: هل بَقِيَ في النار أَحَدٌ بعدك مِمَّنْ يقول: لا إله إلا اللَّه؟ وهذا حديث ذكره الدَّارَقُطْنِيُّ من طريق مالك بن أنس، يرفعه بإسناد إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكره في كتاب رواة مالك بن أنس- رحمه اللَّه «3» -، انتهى. وقوله تعالى: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي: منسوجة بتركيب بعض أجزائها على

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 626) برقم: (33276) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 283) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 217) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير. (2) ذكره ابن عطية (5/ 241) . (3) قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» (511) (128) : قال في «الذيل» : هذا حديث باطل.

بعض، كحلق الدِّرْعِ، ومنه وَضِينُ الناقة وهو حِزَامُهَا قال ابن عباس «1» : مَوْضُونَةٍ: مرمولة بالذهب، وقالَ عِكْرَمَةُ «2» : مُشَبَّكَةٌ بالدُّرِّ والياقوت يَطُوفُ عَلَيْهِمْ: للخدمة وِلْدانٌ: وهم صغار الخَدَمَةِ، ووصفهم سبحانه بالخلد، وإنْ كان جميعُ ما في الجنة كذلك، إشارةً إلى أَنَّهُم في حال الولدان مُخَلَّدُونَ، لا تكبر لهم سِنٌّ، أي: لا يحولون من حالة إلى حالة وقاله ابن كيسان، وقال الفَرَّاء: مُخَلَّدُونَ معناه: مقرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط والأَوَّلُ أصوب، / لأَنَّ العربَ تقول للذي كَبُرَ ولم يَشِبْ: إِنَّهُ لَمُخَلَّدٌ، والأكواب: ما كان من أواني الشرب لا أَذُنَ له ولا خُرْطُومَ، قال قتادة «3» : ليست لها عُرًى، والإبريق: ماله خرطوم، والكأس: الآنية المُعَدَّةُ للشرب بشريطةِ أَنْ يكونَ فيها خمر، ولا يقال لآنية فيها ماء أو لبن كأس. وقوله: مِنْ مَعِينٍ قال ابن عباس «4» : معناه من خمر سائلة جارية معينة. وقوله: لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْها ذهب أكثر المفسرينَ إلى أنّ المعنى: لا يلحق رؤوسهم الصداعُ الذي يَلْحَقُ من خمر الدنيا، وقال قوم: معناه: لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطعُ عنهم لَذَّتُهُمْ بسببٍ من الأسباب، كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواعٍ من التفريق، وَلا يُنْزِفُونَ معناه: لا تذهب عقولُهم سكراً قاله مجاهد وغيره «5» ، والنزيف: السكران، وباقي الآية بَيِّنٌ، وَخصَّ المكنون باللؤلؤ لأَنه أصفى لوناً وأبعدُ عن الغير، وسألتْ أُمُّ سَلَمَةَ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، فَقَالَ: «صَفَاؤُهُنَّ كَصَفَاءِ الدُّرِّ في الأصداف الّذي لا تمسّه الأيدي» «6» وجَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: إنَّ هذه الرتبَ والنعيمَ هي لهم بحسب أعمالهم لأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ المنازل والقسم في الجنة هي مقتسمة على قدر الأعمال، ونفس

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 628) برقم: (33281) ، وذكره ابن عطية (5/ 241) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 286) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 219) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» . (2) أخرجه الطبري (11/ 628) برقم: (33285) ، وذكره ابن عطية (5/ 241) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 286) . (3) أخرجه الطبري (11/ 630) برقم: (33303) ، وذكره ابن عطية (5/ 242) . (4) أخرجه الطبري (11/ 630) برقم: (33305) ، وذكره ابن عطية (5/ 242) . (5) أخرجه الطبري (11/ 630) برقم: (33316) ، وذكره ابن عطية (5/ 242) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 286) . [.....] (6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 633) برقم: (33330) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 122) في حديث طويل. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه سليمان بن أبي حاتم وابن عدي.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 26 إلى 38]

دخول الجنة هو برحمة اللَّه وفضله، لا بعمل عامل كما جاء في الصحيح «1» . [سورة الواقعة (56) : الآيات 26 الى 38] إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) وقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قال أبو حيان «2» : «إلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً» الظاهر أَنَّ الاستثناءَ مُنْقَطِعٌ لأَنَّهُ لا يَنْدَرِجُ في اللغو والتأثيم، وقيل مُتَّصِلٌ، وهو بعيد، انتهى، قال الزّجّاج «3» : وسَلاماً مصدر، كأَنَّهُ يذكر أَنَّهُ يقول بعضهم لبعض: سلاماً سلاماً. ت: قال الثعلبيُّ: والسِّدْرُ: شجر النبق ومَخْضُودٍ أي: مقطوع الشوك، قال- عليه السلام «4» : ولأهل تحرير النظر هنا إشارةٌ في أَنَّ هذا الخضد بإزاء أعمالهم التي سلموا منها إذ أهل اليمين تَوَّابُونَ لهم سلام، وليسوا بسابقين، قال الفخر: وقد بان لي بالدليل أَنَّ المراد بأصحاب اليمين: الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا، وعفا اللَّه تعالى عنهم بسبب أدنى حَسَنَةٍ لا الذين غلبت حسناتُهُم وكَثُرَتْ، انتهى. والطلح (من العِضَاهِ) شَجَرٌ عظيم، كثيرُ الشوك، وصفه في الجنة على صفة مباينة لحال الدنيا، ومَنْضُودٍ معناه: مُرَكَّبٌ ثمره بعضُه على بعض من أرضه إلى أعلاه، وقرأ علي- رضي اللَّه عنه- وغيره: «وَطَلْعٍ» «5» فقيل لعليِّ: إنَّما هو: «وطَلْحٍ» فقال: ما للطلح والجنة؟! قيل له: أَنُصْلِحُهَا في المصحف؟ فقال: إنَّ المصحفَ اليومَ لا يهاج ولا يغيّر.

_ (1) روي في هذا المعنى أناس من الصحابة، فقد أخرج الإمام مسلم (4/ 2170، 2171) ، كتاب «صفات المنافقين» باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى (71، 76/ 2816- 2817) ، و (77- 78/ 2818) عن أبي هريرة، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم. وأخرجه أحمد (2/ 256، 336، 343، 344، 385، 386، 390، 469، 473، 509، 519، 524) عن أبي هريرة (3/ 394) عن جابر، (3/ 52) عن أبي سعيد. (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 206) . (3) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 112) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 243) . (5) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (151) ، و «الكشاف» (4/ 461) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 244) ، وزاد نسبتها إلى جعفر بن محمّد. وينظر: «البحر المحيط» (8/ 206) ، و «الدر المصون» (6/ 259) ، وزادا نسبتها إلى عبد الله بن مسعود.

وقال عليُّ أيضاً وابن عباس «1» : الطلح الموز، والظل الممدود: معناه: الذي لا تنسخه شمس، وتفسير ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادُ المُضَمَّر في ظِّلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَقْطَعْها» «2» ، واقرؤوا إنْ شِئْتُمْ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى. ت: وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ في الجَنَّةِ شَجْرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَقْطَعُهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أوْ تَغْرُبُ» » انتهى. وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: جارٍ في غير أُخْدُودٍ. لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي: لا مقطوعة بالأزمان كحال فاكهة الدنيا، ولا ممنوعةٌ بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهةُ الدنيا، والفُرُشُ: الأَسِرَّةُ وعن أبي سعيد الخُدْرِيِّ «4» : إنَّ في ارْتِفَاعِ السَّرِيرِ مِنْهَا مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ. ت: وهذا إنْ ثبت فلا بُعْدَ/ فيه، إذْ أحوال الآخرة كلها خَرْقُ عادة، وقال أبو عبيدةَ وغيره: أراد بالفرش النساء «5» ، ومَرْفُوعَةٍ معناه: في الأقدار والمنازل، وأَنْشَأْناهُنَّ معناه: خلقناهن شيئاً بَعْدَ شيء وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في تفسير هذه الآية: «هنّ

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 636) عن ابن عبّاس برقم: (33350) ، وعن علي رضي الله عنه برقم: (33355) ، وذكره ابن عطية (5/ 244) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 288) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 222) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم. (2) أخرجه البخاري (11/ 424) كتاب «الرقاق» باب: صفة الجنة والنار (6553) ، ومسلم (4/ 2176) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: إنَّ في الجَنَّةِ شَجْرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظلها مائة عام لا يقطعها (2828) عن أبي سعيد الخدري. (3) وهم المؤلف فجعل الحديثين حديثا واحدا، فالطرف الأول: «إن في الجنة ... لا يقطعها» في «الصحيحين» كما قال. وانظر السابق. أما الطرف الثاني: فقد أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم في الجنة (2793) ، (6/ 368) ، كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (2353) ، وأحمد (2/ 482) عن أبي هريرة، والترمذي (4/ 181) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل الغدوّ والرواح في سبيل الله (1651) ، وأحمد (3/ 141، 153، 157، 207، 263، 264) عن أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (4) تقدم تخريجه. (5) ذكره ابن عطية (5/ 244) .

عّجائِزُكُنَّ في الدُّنْيَا عُمْشاً رُمْصاً جَعَلَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ أَتْرَاباً» «1» ، وَقَالَ لِلْعَجُوزِ: «إنَّ الْجَنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا الْعَجُوزُ، فَحَزِنَتْ، فَقَالَ: إنَّكِ إذَا [دَخَلْتِ الْجَنَّةَ أُنْشِئْتِ خَلْقاً آخَرَ «2» » . وقوله سبحانه: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً قيل: معناه: دائمة البكارة، متى عاود الوطء] «3» وجدها بكراً، والعُرُبُ: جمع عَرُوبٍ، وهي المُتَحَبِّبَةُ إلى زوجها بإِظهار محبته قاله ابن عباس «4» ، وعبر عنهنَّ ابن عباس أيضاً بالعواشق «5» ، وقال زيد: العروب: الحسنة الكلام «6» . ت: قال البخاريُّ: والعروب يسميها أَهْلُ مَكَّةَ العَرِبَةَ، وأهل المدينة: الغَنِجَة، وأَهل العراق: الشَّكِلَة، انتهى. وقوله: أَتْراباً معناه: في الشكل والقَدِّ، قال قتادة «7» : أَتْراباً يعني: سِنًّا واحدة، ويُرْوَى أَنَّ أَهل الجنة هم على قَدِّ ابن أربعةَ عَشَرَ عاماً في الشباب، والنُّضْرَةِ، وقيل: على مثال أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنةً، مُرْداً بيضاً، مُكَحَّلِينَ، زاد الثعلبيُّ: على خَلْقِ آدَم، طولُه ستون ذراعا في سبعة أذرع.

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 402) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الواقعة (3296) ، من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان الحديث، ومن طريق عائشة رضي الله عنها: أخرجه الطبري (11/ 641) (33042) نحوه. (2) أخرجه الترمذي في «الشمائل» (197، 199) (241) ، والغزالي في «الإحياء» (3/ 129) . وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 224) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث» عن الحسن. وفي الباب عن عائشة، ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 422) ، كتاب «صفة الجنة» باب: فيمن يدخل الجنة من عجائز الدنيا. قال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه مسعد بن اليسع وهو ضعيف. (3) سقط في: د. [.....] (4) أخرجه الطبري (11/ 642) برقم: (33406) ، وذكره البغوي (4/ 284) ، وابن عطية (5/ 245) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 292) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 225) ، وعزاه لابن جرير. (5) أخرجه الطبري (11/ 641) برقم: (33405) ، وذكره ابن عطية (5/ 245) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 292) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 225) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي. (6) أخرجه الطبري (11/ 642) برقم: (33415) ، وذكره البغوي (4/ 284) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 292) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 226) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (7) أخرجه الطبري (11/ 644) ، برقم: (33435) ، وذكره ابن عطية (5/ 245) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 225) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 إلى 50]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 الى 50] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) وقوله سبحانه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال الحسن بن أبي الحسن وغيره: الأولون سالف الأُمَمِ، منهم جماعةٌ عظيمة أصحابُ يمين، والآخِرُونَ: هذه الأُمَّةُ، منهم جماعة عظيمة أهلُ يمين «1» ، قال ع «2» : بل جميعهم إلاَّ مَنْ كان مِنَ السابقين، وقال قوم من المتأولين: هاتان الفرقتان في أُمَّةِ محمد، ورَوَى ابن عبّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «الثُّلَّتَانِ مِنْ أُمَّتِي» «3» ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «إنَّ أُمَّتِي ثُلُثَا أَهْلِ الجَنَّةِ، وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، وَإِنَّ أُمَّتِي مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ صَفًّا» «4» انتهى. وقوله سبحانه: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ... الآية: في الكلام معنى الإنحاء عليهم/ وتعظيم مصائبهم، والسَّمُومُ: أشد ما يكون من الحَرِّ اليابس الذي لا بَلَلَ معه، والحميم: السخن جِدًّا من الماء الذي في جهنم، واليَحْمُومُ: هو الدخانُ الأسودُ يُظِلُّ أهلَ النار قاله ابن عباس «5» والجمهور، وقيل: هو سرادق النار المحيط بأهلها فإنَّهُ يرتفع من كل ناحية حتى يُظِلَّهُم، وقيل: هو جبل في النار أسود. وقوله: وَلا كَرِيمٍ معناه: ليس له صفة مدح، قال الثعلبيُّ: وعن ابن المُسَيِّبِ وَلا كَرِيمٍ أي: ولا حسن «6» نظيره من كل زوج كريم، وقال قتادة: لاَّ بارِدٍ: النزل وَلا كَرِيمٍ: المنظر «7» ، وهو الظِلُّ الذي لا يغني من اللهب، انتهى، والمترف: المنعّم

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 644) ، برقم: (33438) ، وذكره ابن عطية (5/ 245) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 245) . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 227) موقوفا على ابن عبّاس، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن مردويه. (4) أخرجه نعيم بن حماد في زياداته على كتاب «الزهد» (113) (379) . (5) أخرجه الطبري (11/ 646) ، برقم: (33450) ، وذكره ابن عطية (5/ 246) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 294) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 228) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه. (6) ذكره البغوي (4/ 286) . (7) أخرجه الطبري (11/ 648) برقم: (33464) ، وذكره البغوي (4/ 286) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 294) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 228) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 إلى 57]

في سرف، وتخوض، ويُصِرُّونَ معناه: يعتقدون اعتقادا لا ينزعون عنه، والْحِنْثِ: الإثم، وقال الثعلبيُّ: وَكانُوا يُصِرُّونَ: يقيمون عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي: الذنب، انتهى، ونحوهُ للبخاريِّ، وهو حَسَنٌ نحو ما في الرسالة، قال قتادة وغيره «1» : والمراد بهذا الإثم العظيم: الشركُ، وباقي الآية في استبعادهم للبعث، وقد تقدم بيانه. [سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 57] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) وقوله سبحانه: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ: مخاطبة لكفّار قريش ومن كان في حالهم، ومِنْ في قوله: مِنْ زَقُّومٍ لبيان الجنس، والضمير في مِنْهَا عائد على الشجر، والضمير في عَلَيْهِ عائد على المأكول، والْهِيمِ قال ابن عباس وغيره «2» : جمع «أهيم» وهو الجمل الذي أصابه الهُيَامُ- بضم الهاء-، وهو داء مُعْطِشٌ يشرب الجملُ حتى يموتَ أو يسقمَ سَقَماً شديداً، وقال قوم هو: جمع «هائم» وهو أيضاً من هذا المعنى لأَنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك الداءُ، هام على/ وجهه وذهب، وقال ابن عباس أيضاً وسفيان الثوري «3» : الْهِيمِ: الرمال التي لا تُرْوَى من الماء، والنزل أول ما يأكل الضيف، والدِّينِ: الجزاء. [سورة الواقعة (56) : الآيات 58 الى 63] أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) وقوله سبحانه: أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ الآية: وليس يوجد مفطورٌ، يخفى عليه أَنَّ المَنِيَّ الذي يخرُجُ منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة، وقرأ الجمهور: «قَدَّرْنَا» وقرأ ابن كثير وحده «4» : «قَدَرْنَا» بتخفيف الدال، فيحتمل أَنْ يكونَ المعنى فيهما: قضينا وأثبتنا، ويحتمل

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 648) برقم: (33474) ، وذكره ابن عطية (5/ 246) ، وابن كثير في «تفسيره» (5/ 295) . (2) أخرجه الطبري (11/ 650) ، برقم: (33477) ، وذكره ابن عطية (5/ 246) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 295) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 228) ، وعزاه للطستي. (3) أخرجه الطبري (11/ 651) ، برقم: (33485) ، عن سفيان، وذكره ابن عطية (5/ 247) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 229) ، وعزاه لسفيان بن عيينة في جماعة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. [.....] (4) ينظر: «السبعة» (623) ، و «الحجة» (6/ 261) ، و «إعراب القراءات» (2/ 347) ، و «حجة القراءات»

[سورة الواقعة (56) : الآيات 64 إلى 74]

أَنْ يكون بمعنى: سَوَّيْنَا، قال الثعلبيُّ عنِ الضحاك «1» : أي: سَوَّيْنَا بين أهل السماء وأهل الأرض. وقوله: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: على تبديلكم إنْ أردناه، وأَنْ نُنْشِئَكُمْ بأوصاف لا يصلها علمُكُم، ولا يُحيطُ بها فكركم، قال الحسن «2» : من كونهم قردةً وخنازيرَ لأَنَّ الآية تنحو إلى الوعيد، والنَّشْأَةَ الْأُولى: قال أكثر المفسرين: إشارة إلى خلق آدم، وقيل: المراد: نشأة الإنسان في طفولته، وهذه الآية نَصٌّ في استعمال القياس والحَضِّ عليه، وعبارة الثعلبي: ويقال: النَّشْأَةَ الْأُولى نطفة، ثم عَلَقَةٌ، ثم مُضْغَةٌ، ولم يكونوا شيئاً فَلَوْلا أي: فهلا تذكرون أَنِّي قادر على إعادتكم كما قَدَرْتُ على إبدائكم، وفيه دليل على صِحَّةِ القياس لأَنَّهُ عَلَّمَهُمْ سبحانه الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، انتهى. [سورة الواقعة (56) : الآيات 64 الى 74] أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) وقوله سبحانه: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي: زرعاً يتم أَمْ نَحْنُ: وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «لاَ تَقُلْ: زَرَعْتُ، وَلَكِنْ قُلْ حَرَثْتُ، ثُمَّ تَلاَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَذِهِ الآية» «3» والحطام: اليابس المُتَفَتِّتُ من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شبّه حطام الدنيا/ وتَفَكَّهُونَ قال ابن عباس وغيره «4» : معناه تعجبون، أي: ممّا نزل بكم، وقال ابن

_ (696) ، و «العنوان» (185) ، و «شرح الطيبة» (6/ 37) ، و «شرح شعلة» (596) ، و «إتحاف» (2/ 516) ، و «معاني القراءات» (3/ 51) . (1) ذكره البغوي (4/ 287) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 295) . (2) ذكره البغوي (4/ 287) ، وابن عطية (5/ 248) . (3) أخرجه السهمي في «تاريخ جرجان» (411) (716) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 211- 212) (5217) ، وابن جرير الطبري في «تفسيره» (11/ 652) ، برقم: (652) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وزاد نسبته إلى البزار، وأبي نعيم. (4) أخرجه الطبري (11/ 653) ، برقم: (33493) ، وذكره ابن عطية (5/ 249) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 296) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 إلى 80]

زيد «1» : معناه: تتفجعون، قال ع «2» : وهذا كله تفسير لا يَخُصُّ اللفظة، والذي يخص اللفظةَ هو تطرحون الفكاهةَ عن أنفسكم، وقولهم: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قبله محذوف تقديره: يقولون، وقرأ عاصم الجَحْدَرِيُّ «3» : «أَإنَّا لَمُغْرَمُونَ» بهمزتين على الاستفهام، والمعنى يحتمل أَنْ يكونَ: إنا لمغرمون من الغرام، وهو أَشَدُّ العذاب، ويحتمل: إنَّا لمحملون الغرم، أي: غرمنا في النفقةَ، وذَهَبَ زَرْعُنَا، وقد تَقَدَّمَ تفسيرُ المحروم، وأَنَّهُ الذي تبعد عنه مُمْكِنَاتُ الرزق بعد قُرْبها منه، وقال الثعلبيُّ: المحروم ضد المرزوق، انتهى، والْمُزْنِ: هو السحاب، والأجاج: أشدّ المياه ملوحة، وتُورُونَ معناه: تقتدحون من الأزند تقول: أوريتُ النارَ من الزِّنَادِ، والزنادُ: قد يكون من حجر وحديدة، ومن شجر، لا سيما في بلاد العرب، ولا سيما في الشجر الرَّخْوِ كالمَرَخِ والعفار والكلخ، وما أشبهه، ولعادة العرب في أزنادهم من شجر قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي: التي تقدح منها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها: يعني نار الدنيا تَذْكِرَةً للنار الكبرى، نارِ جهنم قاله مجاهد وغيره «4» ، والمتاع: ما يُنْتَفَعُ به، والمُقْوِينَ: في هذه الآية الكائنين في الأرض القَوَاءِ، وهي الفَيَافي، ومن قال معناه: للمسافرين فهو نحو ما قلناه، وهي عبارة ابن عباس «5» - رضي اللَّه عنه- تقول: أَقْوَى الرَّجُلُ: إذا دَخَلَ في الأرض القواء. [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) وقوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ الآية: قال بعض النحاة: «لا» زائدة،

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 249) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 296) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 251) . (3) وقرأ بها الأعمش، وأبو بكر. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 249) ، و «البحر المحيط» (8/ 211) ، و «الدر المصون» (6/ 264) ، و «حجة القراءات» (697) . (4) أخرجه الطبري (11/ 656) ، برقم: (33511) ، وذكره البغوي (4/ 288) ، وابن عطية (5/ 249) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 296) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وعزاه لهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (5) أخرجه الطبري (11/ 656) ، برقم: (33514) ، وذكره ابن عطية (5/ 250) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 297) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروفة، وقرأ الحسن وغيره: «فَلأُقْسِمُ» من غير ألف، وقال بعضهم: «لا» نافية كأَنَّهُ قال: فلا صِحَّةَ لما يقوله الكفار، ثم ابتدأ: أقسم بمواقع النجوم، والنجوم: هنا قال ابن عباس وغيره» : هي نجوم القرآن وذلك أَنَّهُ روي أَنَّ القرآن نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، وقيل: إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم نُجُوماً مُقَطَّعَةً مدة من عشرين سنةً، قال ع «2» : ويؤيده عودُ الضمير على القرآن في قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وقال كثير من المفسرين: بلِ النجوم هنا هي الكواكب المعروفة، ثم اختلف هؤلاء في مواقعها، فقيل: غروبها وطلوعها، وقيل: مواقعها عند انقضاضها إثْرَ العفاريت. [وقوله:] وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ: تأكيد. وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ: اعتراض. وقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ: هو الذي وقع القسم عليه. وقوله: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ الآية: المكنون: المصون قال ابن عباس وغيره «3» : أراد الكتابَ الذي في السماء، قال الثعلبيُّ: ويقال: هو اللوح المحفوظ. وقوله: لاَّ يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ يعني: الملائكة، وليس في الآية على هذا التأويل تَعَرُّضٌ لحكم مَسِّ المصحف لسائر بني آدم، وقال بعض المتأولين: أراد بالكتاب مصاحِفَ المسلمين، ولم تكن يومئذ، فهو إخبار بغيب مضمنه النهي، فلا يَمَسُّ المصحفَ من بني آدم إلاَّ الطاهرُ من الكفر والحَدَثِ وفي كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حَزْمٍ: «لاَ يَمَسَّ القرآنَ إلاَّ طَاهِرٌ» «4» ، وبِهِ أخذ مالك، وقرأ سليمان «5» : إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ- بكسر الهاء-.

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 658) ، برقم: (33528) ، وذكره البغوي (4/ 289) ، وذكره ابن عطية (5/ 251) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 298) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 231) ، وعزاه لابن مردويه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 251) . (3) أخرجه الطبري (11/ 659) ، برقم: (33533) ، وذكره ابن عطية (5/ 251) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 298) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 232) ، وعزاه لآدم، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «المعرفة» . [.....] (4) تقدم. (5) وقرأ بها أبان بن تغلب. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (152) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 252) ، و «البحر المحيط» (8/ 214) ، و «الدر المصون» (6/ 268) .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 إلى 84]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 84] أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وقوله تعالى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ: / يعني القرآن المتضمن البعث، ومُدْهِنُونَ معناه: يلاينُ بعضُكم بعضاً، ويتبعه في الكفر مأخوذ من الدُّهْنِ للينه واملاسِّه، وقال ابن عباس «1» : المُدَاهَنَةُ: هي المهاودة فيما لا يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ: هي المهاودة فيما يَحِلُّ، ونقل الثعلبيُّ أَنَّ أدهن وداهن بمعنى واحد، وأصله من الدُّهْنِ، انتهى. وقوله سبحانه: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ: أجمع المفسرون على أَنَّ الآيةَ توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله اللَّه تعالى رزقاً للعباد: هذا بِنَوْءِ كذا، والمعنى: وتجعلون شُكْرَ رزقكم، وحكى الهيثم بن عدي أَنَّ من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان بمعنى ما شكر، وكان عليٌّ يقرأ «2» : «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» وكذلك قرأ ابن عباس «3» ، ورويت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أخبر اللَّه سبحانه فقال: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: 9، 10، 11] فهذا معنى قوله: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي: بهذا الخبر، قال ع «4» : والمنهيُّ عنه هو أَنْ يعتقد أَنَّ للنجوم تأثيراً في المطر. وقوله سبحانه: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ يعني: بلغت نفسُ الإنسان، والحُلْقُومُ: مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزع المرء للموت. وقوله: وَأَنْتُمْ إشارة إلى جميع البشر حينئذ، أي: وقتَ النزع تَنْظُرُونَ: إليه، وقال الثعلبيُّ: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إلى أمري وسلطاني، يعني: تصريفه سبحانه في الميت، انتهى، والأَوَّلُ عندي أحسن، وعزاه الثعلبيّ لابن عبّاس. [سورة الواقعة (56) : الآيات 85 الى 87] وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 661) ، برقم: (33551) ، عن مجاهد، وذكره ابن عطية (5/ 252) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 233) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (152) ، و «المحتسب» (2/ 310) ، و «الكشاف» (4/ 469) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 252) ، و «البحر المحيط» (8/ 214) ، و «الدر المصون» (6/ 269) . (3) ينظر: مصادر القراءة السابقة. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 253) .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 إلى 90]

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي: / بالقدرة والعلم، ولا قدرةَ لكم على دفع شيء عنه، وقيل: المعنى: وملائكتنا أقربُ إليه منكم، ولكن لا تبصرونهم، وعلى التأويل الأَوَّل من البصر بالقلب. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي: مملوكين أَذِلاَّءَ، والمدين: المملوك، هذا أَصَحُّ ما يقال في هذه اللفظة هنا، ومَنْ عبَّرَ عنها بمُجَازَى أو بُمُحَاسَبٍ، فذلك هنا قلق، والمملوك مُقَلَّبٌ كيف شاء المالكُ، ومن هذا الملك قول الأخطل: [الطويل] رَبَتْ وَرَبَا فِي حَجْرِهَا ابن مَدِينَةٍ ... تَرَاهُ على مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ «1» أراد ابن أَمَةٍ مملوكة، وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى البيت: [إِنَّه] أراد أَكَّاراً حضرياً، فنسبه إلى المدينة، فمعنى الآية: فهل لا ترجعون النفسَ البالغة الحلقوم إِنْ كنتم غير مملوكين مقهورين؟. وقوله: تَرْجِعُونَها سَدَّ مَسَدَّ الأجوبة، والبيانات التي تقتضيها التحضيضات. [سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 90] فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) وقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ الآية، ذكر سبحانه في هذه الآيةِ حال الأزواج الثلاثةَ المذكورين في أَولِ السورة، وحال كلّ امرئ منهم، فَأَمَّا المرءُ من السابقين المقربين، فَيَلْقَى عند موته رَوْحاً وريحاناً، والرَّوْحَ: الرحمة والسعة والفرح ومنه: [وَلا تَيْأَسُوا مِنْ] رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] والريحان: الطيب، وهو دليل النعيم، وقال مجاهد «2» : الريحان: الرزق، وقال الضَّحَّاكُ «3» : الريحان الاستراحة، قال ع «4» : الريحان ما تنبسط إليه النفوس، ونقل الثعلبيُّ عن أبي العالية قال: لا يفارق أحد من

_ (1) البيت في «ديوانه» (224) . وينظر: «البحر المحيط» (8/ 214) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 253) ، ويتركل: يفتت ما اجتمع من الرمل بقدميه، وهنا يقصد: رمل الكرم الذي زرعت فيه أم الخمرة، واصفا مهارة صاحب هذا الكرم. (2) أخرجه الطبري (11/ 666) ، برقم: (33579) ، وذكره البغوي (4/ 291) ، وابن عطية (5/ 254) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 300) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 239) ، وعزاه لهناد بن السري، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (3) أخرجه الطبري (11/ 665) برقم (33577) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 254) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 240) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 254) .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 91 إلى 96]

المقربين الدنيا حتى يُؤْتَى بغصنٍ من ريحان الجنة فَيَشُمُّهُ، ثم يُقْبَضُ روحه فيه، ونحوه عن الحسن «1» ، انتهى. فإنْ أردت يا أخي اللحوق بالمقربين والكون في زمرة السابقين، فاطرح عنك دنياك وأقبلْ/ على ذكر مولاك، واجعل الآن الموت نصب عينيك، قال الغزاليُّ: وإنَّما علامةُ التوفيق أَنْ يكون الموت نصبَ عينيك، ولا تغفل عنه ساعة، فليكنِ الموتُ على بالك يا مسكين فإنَّ السير حاثٌّ بك، وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزلَ، وقطعت المسافة فلا يكن اهتمامُك إلاَّ بمبادرة العمل، اغتناماً لكل نَفَسٍ أمهلتَ فيه، انتهى من «الإحياء» ، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: ما مِنْ مَيِّتٍ يموت، إلاَّ عرض عليه أهل مجلسه: إنْ كان من أهل الذِّكْرِ فمن أهل الذكر، وإِنْ كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو، انتهى «2» . [سورة الواقعة (56) : الآيات 91 الى 96] فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) وقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ: عبارة تقتضي جملةَ مدحٍ وصفةَ تخلُّصٍ، وحصولَ عالٍ من المراتب، والمعنى: ليس في أمرهم إلاَّ السلامُ والنجاةُ من العذاب وهذا كما تقول في مدح رجل: أَمَّا فلان فناهيك به، فهذا يقتضي جملةً غيرَ مفصلة من مدحه، وقدِ اضطربت عباراتُ المُتَأَوِّلِينَ في قوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ فقال قوم: المعنى: فيقال له سلام لك إنَّكَ من أصحاب اليمين، وقال الطبريُّ «3» : فَسَلامٌ لَكَ: أنت من أصحاب اليمين، وقيل: المعنى: فسلام لك يا محمد، أي: لا ترى فيهم إلاَّ السلامة من العذاب. ت: ومن حصلت له السلامةُ من العذاب فقد فاز دليله فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] قال ع «4» : فهذه الكاف في لَكَ إمَّا أن تكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الأظهر، ثم لكل مُعْتَبِرٍ فيها من أُمَّتِهِ، وإمَّا أَنْ تكونَ لمن يخاطب من

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 666) برقم (33582) عن أبي العالية، وعن الحسن برقم (33581) ، وذكره البغوي (4/ 291) ، وابن عطية (5/ 254) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 300) عن أبي العالية، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 240) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية. (2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (329) ، برقم: (939) . (3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 667) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 254) . [.....]

أصحاب اليمين، وغيرُ هذا- مِمَّا قيل- تَكَلُّفٌ، ونقل الثعلبيُّ/ عن الزَّجَّاج: فَسَلامٌ لَكَ أي: إنَّك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقد علمتَ ما أَعَدَّ اللَّه لهم من الجزاء بقوله: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ الآيات ... والمكذبون الضالُّون: هم الكفار، أصحابُ الشمال والمشأَمة، والنُّزُلُ: أول شيء يقدم للضيف، والتصلية: أنْ يباشر بهم النار، والجحيم معظم النار وحيث تراكمها. إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ المعنى: إنَّ هذا الخبرَ هو نفس اليقين وحقيقتُه. وقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ عبارة تقتضي الأمر بالإِعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها، وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة اللَّه تعالى، والدعاء إليه. ت: وعن جابر بن عبد اللَّه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ [الْعَظِيمِ] وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الْجَنَّةِ» «1» . رواه الترمذي، والنسائِيُّ، والحاكمُ، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحيهما» ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وعند النسائِيِّ: «شَجَرَةَ» بدل «نَخْلَةَ» ، وعنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلاَلِ اللَّهِ التَسْبِيحَ، وَالتَّهْلِيلَ، وَالتَّحْمِيدَ يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَوْ لاَ يَزَالَ لَهُ مَنْ يذكّر به» «2» ، ورواه

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 511) ، كتاب «الدعوات» باب: (60) (3464) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 207) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ثواب من قال: سبحان الله العظيم (10663/ 1) ، والحاكم (1/ 501- 502) ، وابن حبان في «صحيحه» (3/ 109) ، كتاب «الرقاق» باب: الأذكار، ذكر تفضل الله جلّ وعلا بالأمر بغرس النخيل في الجنان لمن سبحه معظما له (826) ، ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به حجاج الصواف (827) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابر. اهـ. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي، وقال: على شرط البخاري فقط اهـ. وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أخرجه البزار (3079) - كشف. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 97) ، رواه البزار وإسناده جيد. (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1252) ، كتاب «الأدب» باب: فضل التسبيح (3809) ، والحاكم (1/ 500) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي وقال: موسى بن سالم: قال أبو حاتم: منكر الحديث. قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وأخو عوف اسمه عبيد الله بن عتبة.

أيضاً ابن المبارك في «رقائقه» عن كعب، وفيه أيضاً عن كعب أَنَّهُ قال: «إنَّ لِلْكَلاَمِ الطَّيِّبِ حَوْلَ الْعَرْشِ دَوِيًّا كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ» انتهى، وعن أبي هريرةَ «أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْساً فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟ قُلْتُ: غِرَاساً، قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ مِنْ هذا؟ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ/ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ» روى هذين الحديثين ابن ماجه واللفظ له، والحاكم في «المستدرك» ، وقال في الأول: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ، انتهى من «السلاح» ، ورَوَى عُقْبَةُ بن عامر قال: «لَمَّا نزلتْ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ» «1» ، فيحتمل أنْ يكونَ المعنى: سبح اللَّه بذكر أسمائه العلا، والاسم هنا بمعنى: الجنس، أي: بأسماء ربك، والعظيم: صفة للرب سبحانه، وقد يحتمل أَنْ يكون الاسم هنا واحداً مقصوداً، ويكون «العظيم» صفة له، فكأَنَّه أمره أَنْ يسبِّحَهُ باسمه الأعظم، وإنْ كان لم يَنُصَّ عليه، ويؤيِّدُ هذا ويشير إليه اتصالُ سورة الحديد وأوَّلُها فيها التسبيح، وجملة من أسماء اللَّه تعالى، وقد قال ابن عباس «2» : اسم اللَّه الأعظم موجود في سَتِّ آيات من أَوَّلِ سورة الحديد، فتأمَّل هذا، فإنَّهُ من دقيق النظر، وللَّه تعالى في كتابه العزيز غوامضُ لا تكاد الأذهان تدركها.

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 292) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869) ، وابن ماجه (1/ 287) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: التسبيح في الركوع والسجود (887) ، وأحمد (4/ 155) ، والدارمي (1/ 299) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقال في الركوع، وابن خزيمة (1/ 303) ، جماع أبواب الأذان والإقامة باب: الأمر بتعظيم الرب جلّ وعلا في الركوع (600) ، والبيهقي (2/ 86) ، كتاب «الصلاة» باب: القول في الركوع، والحاكم (1/ 225) ، (2/ 477) ، وابن حبان (5/ 225) ، كتاب «الصلاة» باب: صفة الصلاة (1899) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه على ذلك الذهبي. في «نصب الراية» (1/ 376) قال الزيلعي: قال يعني الحاكم: وقد اتفقا على الاحتجاج بروايته غير إياس بن عامر، وهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (2) ذكره ابن عطية (5/ 255) .

تفسير سورة الحديد

تفسير سورة الحديد وهي مدنيّة ويشبه صدرها أن يكون مكيّا روي عن ابن عبّاس «1» : أنّ اسم الله الأعظم هو في سَتِّ آيات من أَوَّلِ سورة الحديد، وروي أنّ الدعاء بعد قراءتها مستجاب. [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: قال أكثر المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان اللَّهِ، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوامُ والاستمرارُ، ثم اختلفوا: هل هذا التسبيح حقيقةٌ أو مجاز على معنى أَنَّ أثر الصنعة فيها تُنَبِّهُ الرائي على التسبيح؟ قال الزَّجَّاجُ «2» وغيره: والقول بالحقيقة أحسن، وهذا كله في الجمادات، وأَمَّا ما يمكن التسبيح منه فقول واحد: إن تسبيحهم حقيقة. وقوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ [أي] : [الذي] ليس لوجوده بداية مُفْتَتَحَةٌ وَالْآخِرُ: الدائم الذي ليس له نهاية منقضية، قال أبو بكر الوَرَّاق: هُوَ الْأَوَّلُ: بالأزلية وَالْآخِرُ: بالأبديَّة. وَالظَّاهِرُ: معناه بالأدِلَّةِ ونظر العقول في صنعته.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 256) . (2) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 121) .

[سورة الحديد (57) : الآيات 7 إلى 9]

وَالْباطِنُ: بلطفه وغوامضِ حكمته وباهِرِ صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على- ما هي عليه- الأوهامُ، وباقي الآية تقدم تفسيرُ نظيره. وقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ معناه: بقدرته وعلمه وإحاطته، وهذه آية أجمعت الأُمَّةُ على هذا التأويل فيها، وباقي الآية بيّن. [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 9] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وقوله سبحانه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان، ويُرْوَى أَنَّ هذه الآية نزلت في غزوة العُسْرَةِ، قاله الضَّحَّاكُ «1» ، وقال: الإشارة بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا إلى عثمانَ بن عفان، يريد: ومَنْ في معناه كعبد الرحمن بن عوف، وغيره. وقوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ: تزهيد وتنبيه على أَنَّ الأَموال إنَّما تصير إلى الإنسان من غيره، ويتركها لغيره، وليس له من ذلك إِلاَّ ما أكل فأفنى، أو تصدق فأمضى، ويروى أَنَّ رجلاً مَرَّ بأعرابيٍّ له إبل فقال له: يا أَعرابيُّ، لِمَنْ هذه الإبل؟ قال: هي للَّه عندي، فهذا مُوَفَّقٌ مصيب إنْ صحب قوله عمله. وقوله سبحانه: وَما لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... الآية: توطئةٌ لدعائهم (رضي اللَّه عنهم) لأَنَّهُمْ أهل هذه/ الرُّتَبِ الرفيعة، وإذا تقرر أَنَّ الرسولَ يدعوهم، وأَنَّهم مِمَّنْ أخذ اللَّه ميثاقهم- فكيف يمتنعون من الإيمان؟. وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: إن دمتم على إيمانكم، والظُّلُماتِ: الكفر، والنُّورِ: الإيمان، وباقي الآية وعد وتأنيس. [سورة الحديد (57) : الآيات 10 الى 11] وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) وقوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 258) .

[المعنى: وما لكم أَلاَّ تنفقوا في سبيل اللَّه، وأَنتم تموتون وتتركون أموالكم، فناب منابَ هذا القول قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] وفيه زيادة تذكير باللَّه وعبرة، وعنه يلزم القولُ الذي قدرناه. وقوله تعالى: لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ... الآية: الأشهر في هذه الآية أَنَّها نزلت بعد الفتح، واخْتُلِفَ في الفتح المشار إليه فقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ والشَّعْبِيُّ «1» : هو فتح الحديبية، وقال قتادة، ومجاهد، وزيد بن أسلم «2» : هو فتح مكة الذي أزال الهجرة، قال ع «3» : وهذا هو المشهور الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» «4» ، وحكم الآية باقٍ غابرَ الدهر مَنْ أنفق في وقت حاجة

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 674) ، برقم: (33610) عن أبي سعيد الخدري، وذكره البغوي (4/ 294) عن الشعبي، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 249) عن أبي سعيد الخدري، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم في «الدلائل» من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري. (2) أخرجه الطبري (11/ 673- 674) ، برقم: (33604- 33605) عن قتادة، وزيد بن أسلم، وذكره ابن عطية (5/ 259) ، والسيوطي (6/ 248- 249) عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 259) . (4) ورد ذلك من حديث ابن عبّاس، وعائشة، ومجاشع بن مسعود، وصفوان بن أمية، ويعلى بن أمية التيمي، وقول ابن عمر، وقول عمر، وحديث أبي سعيد الخدري. فأما حديث ابن عبّاس: فأخرجه البخاري (6/ 45) في «الجهاد» باب: وجوب النفير (2825) ، (6/ 219) باب: لا هجرة بعد الفتح (3077) ، ومسلم (3/ 1487) ، في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى: لا هجرة بعد الفتح (85/ 1353) ، وأبو داود (2/ 6) ، في «الجهاد» باب: في الهجرة هل انقطعت (2480) ، والنسائي (7/ 146) ، في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، والترمذي (1590) ، وأحمد (1/ 266، 315، 316، 344) ، وعبد الرزاق (5/ 309) (9713) ، والدارمي (2/ 239) ، في «السير» باب: لا هجرة بعد الفتح، وابن حبان (7/ 4845) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 30- 31) (10944) ، وابن الجارود في «المنتقى» (1030) ، والبيهقي (5/ 195) ، و (9/ 16) ، وفي «دلائل النبوة» (5/ 108) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (4/ 179) (1996) ، و (5/ 520) (2630) من طريق منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عبّاس مرفوعا به. وتابعه إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن طاوس، أخرجه الطبراني (11/ 18) (10898) . وأخرجه الطبراني (10/ 413) (10844) ، عن شيبان عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عبّاس. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأما حديث عائشة: أخرجه البخاري (6/ 220) في «الجهاد» باب: لا هجرة بعد الفتح (3080) (7/ 267) ، في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (3900) (70/ 620) ، في-

السبيل، أعظم أجراً مِمَّن أنفق مع استغناء السبيل، والْحُسْنى: الجنة، قاله مجاهد

_ «المغازي» باب: (53) (4312) ، ومسلم (3/ 1488) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير ... (86- 1864) ، وأبو يعلى (4952) ، واللفظ لمسلم، ولأبي يعلى من طريق عطاء عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الهجرة؟ فقال: «لا هجرة بعد الفتح ... » الحديث. وفي لفظ البخاري عن عطاء قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير. فسألها عن الهجرة؟ فقالت: لا هجرة لليوم، كان المؤمن يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية. وهكذا: أخرجه البيهقي (9/ 17) . وأما حديث مجاشع بن مسعود: أخرجه البخاري (6/ 137) في «الجهاد» باب: البيعة في الحرب ألا يفروا.. (2962- 2963) ، (6/ 219) ، باب: لا هجرة بعد الفتح (3078- 3079) ، و (7/ 619) ، في «المغازي» باب: (53) (4305، 4308) ، ومسلم (3/ 1487) ، في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير (83- 84/ 1863) ، وأحمد (3/ 468- 469) ، و (5/ 71) ، والحاكم (3/ 316) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 252) ، والبيهقي (9/ 16) ، وفي «الدلائل» (5/ 109) من طريق أبي عثمان النهدي، حدثني مجاشع قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأخي بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: «ذهب أهل الهجرة بما فيها» ، فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: «أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» ، فلقيت معبدا بعد- وكان أكبرهما- فسألته؟ فقال: صدق مجاشع. وأما حديث صفوان بن أمية: أخرجه النسائي (7/ 145) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (3/ 401) عن وهيب بن خالد عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن صفوان بن أمية، قال: قلت: يا رسول الله إنهم يقولون: إن الجنة لا يدخلها إلّا مهاجر. قال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية. فإذا استنفرتم فانفروا» . وأخرجه أحمد (3/ 401) ، و (6/ 465) عن الزهري عن صفوان بن عبد الله بن صفوان عن أبيه، أن صفوان بن أمية بن خلف قيل له: هلك من لم يهاجر. قال: فقلت: لا أصل إلى أهلي حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركبت راحلتي، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، زعموا أنه هلك من لم يهاجر. قال: «كلا أبا وهب، فارجع إلى أباطح مكة» . وأما حديث يعلى بن أمية: أخرجه النسائي (7/ 141) ، في «البيعة» باب: البيعة على الجهاد، (7/ 145) ، في ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (4/ 323- 324) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 257) (664- 665) ، والبيهقي (9/ 16) من طريق ابن شهاب عن عمرو بن عبد الرحمن بن أمية، أن أباه أخبره: أن يعلى قال: جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبي يوم الفتح. فقلت: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبايعه على الجهاد وقد انقطعت الهجرة» . وأما حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه أحمد (3/ 22) ، و (5/ 187) ، والطيالسي (601، 967، 2205) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 109) ، عن أبي البختري الطائي يحدث عن أبي سعيد الخدري، قال: لما نزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ ... قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ختمها وقال: «الناس خير، وأنا وأصحابي خير» ، وقال: «لا هجرة بعد الفتح. ولكن جهاد ونية» ، فحدثت به مروان بن الحكم وكان على المدينة فقال له مروان: كذبت، وعنده رافع بن

[سورة الحديد (57) : الآيات 12 إلى 13]

وقتادة «1» ، والقرض: السلف، والتضعيفُ من اللَّه تعالى هو في الحسنات، وقد مَرَّ ذِكْرُ ذلك، والأجر الكريم الذي يقترن به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء ب «يا كريم» العفو، أي: إنّ مع عفوه رضى وتنعيما. [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 13] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) وقوله سبحانه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ... الآية، العامل في يَوْمَ قوله: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ والرؤية هنا رؤية عينٍ، والجمهور أَنَّ النورَ هنا هو نور حقيقة، وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره «2» آثار مضمنها: أَنَّ كل مؤمن ومُظْهِرٍ للإيمان، يُعْطَى/ يومَ القيامة نوراً فَيُطْفَأُ نُورُ كُلِّ منافقٍ، ويبقى نورُ المؤمنين، حتى إِنَّ منهم مَنْ نورُه يضيء كما بين مكّة وصنعاء رفعه قتادة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، ومنهم مَنْ نوره كالنخلة السحوق، ومنهم مَنْ نورُه يضيء ما قَرُبَ من قدميه قاله ابن مسعود «4» ، ومنهم مَنْ يَهُمُّ بالانطفاء مرة وَيَبِينُ مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية، قال

_ - خديج، وزيد بن ثابت، وهما قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه من عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فسكتا، فرفع مروان عليه الدّرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق. أما قول ابن عمر: فأخرجه البخاري (7/ 267) ، في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (3899) ، و (7/ 620) في «المغازي» باب: (53) (4309، 4311) ، من طريق عطاء عن ابن عمر كان يقول: لا هجرة بعد الفتح. وفي لفظ آخر: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إني أريد أن أهاجر إلى الشام. قال: لا هجرة، ولكن جهاد، فانطلق فاعرض نفسك، فإن وجدت شيئا وإلّا رجعت. وأما قول عمر: أخرجه النسائي (7/ 146) ، في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأبو يعلى في «مسنده» (186) عن شعبة عن يحيى بن هانىء عن نعيم بن دجاجة قال: سمعت عمر يقول: لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (1) أخرجه الطبري (11/ 675) ، برقم: (33612) ، وذكره ابن عطية (5/ 260) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 248) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. [.....] (2) ذكره ابن عطية (5/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 251) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (4) أخرجه الحاكم موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه (2/ 478) ، ومثل هذا له حكم الرفع لأن ليس-

الفخر «1» : قال قتادة «2» : ما من عبد إلاَّ وينادى يوم القيامة: يا فلان، هذا نورك، يا فلان، لا نورَ لك، نعوذ باللَّه من ذلك! واعلم أَنَّ العلمَ الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أَنَّ معرفة اللَّه تعالى هي النورُ في القيامة، فمقادير الأنوار يومَ القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا، انتهى، ونحوه للغزالي، وخَصَّ تعالى بين الأيدي بالذكر لأَنَّهُ موضع حاجة الإنسان إلى النور، واخْتُلِفَ في قوله تعالى: وَبِأَيْمانِهِمْ فقال بعض المتأولين: المعنى: وعن أيمانهم، فكأَنَّه خَصَّ ذكر جهة اليمين تشريفاً، وناب ذلك مَنَابَ أَنْ يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال جمهور المفسرين: المعنى: يسعى نورُهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور، وَبِأَيْمانِهِمْ: أصله، والشيءُ الذي هو مُتَّقَدٌ فيه، فتضمن هذا القولُ أَنَّهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم أَلاَ ترى أَنَّ فضيلةَ عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنَّما كانت بنور لا يحملانه، هذا في الدنيا، فكيف بالآخرة؟! ت: وفيما قاله ع «3» : عندي نظر، وأَيضاً فأحوال الآخرة لا تُقَاسُ على أحوال الدنيا!. وقوله تعالى: بُشْراكُمُ أي: يقال لهم: بشراكم جَنَّاتٌ أي دخولُ جنات. ت: وقد جاءت- بحمد اللَّه- آثار بتبشير هذه الأُمَّةِ المحمديَّةِ، وخَرَّجَ ابن ماجة قال: أخبرنا جُبَارة بن المغلِّس، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن أبي بردة، عن أبيه قال: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا جَمَعَ [اللَّهُ] الخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَذِنَ لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم في السُّجُودِ، فَسَجَدُوا طَوِيلاً، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا عِدَتَكُمْ فِدَاءَكُمْ مِنَ النَّارِ» «4» ، قال ابن ماجه: وحدَّثنا جُبَارَةُ بْنُ المُغَلِّسِ، حدثنا كِثِيرُ بن سليمان: عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ هذه الأُمَّةَ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، عَذَابُهَا بِأَيْدِيهَا، فَإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُفِعَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ فَيُقَالُ: هذا فداؤك من

_ مما يقال بالرأي، وابن جرير (11/ 676) (33616) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وقال: بل على شرط البخاري فقط. (1) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (29/ 194) عن مجاهد. (2) ذكره ابن كثير في «تفسيره» عن جنادة بن أمية (4/ 308) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وعزاه لابن المنذر عن يزيد بن شجرة. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 261) . (4) أخرجه ابن ماجه (2/ 1434) ، كتاب «الزهد» باب: صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم (4291) ، قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد ضعيف لضعف جبارة بن المغلس.

النَّارِ» «1» ، وفي «صحيح مسلم» : «دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ» انتهى من «التذكرة» «2» . وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ قيل: يَوْمَ هو بدل من الأول، وقيل: العامل فيه «اذكر» ، قال ع «3» : ويظهر لي أَنَّ العاملَ فيه قوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ويجيء معنى الفوز أَفْخَمَ كأَنَّهُ يقول: إنَّ المؤمنين يفوزون بالرحمة يومَ يعتري المنافقين كذا وكذا، لأَنَّ ظهورَ المرء يومَ خمول عَدُوِّه ومُضَادِّهِ أَبْدَعُ وأَفْخَمُ، وقول المنافقين هذه المقالةَ المحكية، هو عند انطفاء أنوارهم، كما ذكرنا قبل، وقولهم: «انْظُرُونَا» معناه: انتظرونا، وقرأ حمزة وحده «4» : «انظرونا» - بقطع الألف وكسر/ الظاء- ومعناه أَخِّرُونا ومنه: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ومعنى قولهم أَخِّرونا، أي: أخِّروا مشيَكم لنا حَتَّى نلتحق فنقتبسَ من نوركم، واقتبس الرجل: أخذ من نور غيره قَبَساً، قال الفخر «5» : القَبَسُ: الشعلة من النار والسراج، والمنافقون طَمِعُوا في شيء من أنوار المؤمنين، وهذا منهم جهل لأَنَّ تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، وهم لم يقدموها، قال الحسن: يُعْطَى يومَ القيامة كُلُّ أحد نوراً على قَدْرِ عمله، ثم يؤخذ من حجر جهنم ومِمَّا فيها من الكلاليب والحسك ويُلْقَى على الطريق، ثم تمضي زمرة من المؤمنينَ، وُجُوهُهُم كالقمر ليلةَ البدر، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء كوكب في السماء، ثم على ذلك، ثم تغشاهم ظلمة تطفئ نورَ المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، انتهى. وقوله تعالى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين [لهم] ، [ويحتمل أنْ يكون من قول] «6» الملائكة، والقول لهم: فَالْتَمِسُوا نُوراً: هو على معنى

_ (1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1434) ، كتاب «الزهد» باب: صفة أمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم (4292) ، وأحمد (4/ 408) . قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة، وقد أعله البخاري، قد تقدم في الحديث الذي قبله. (2) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (2/ 567- 568) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 261) . (4) ينظر: «السبعة» (626) ، و «الحجة» (6/ 269) ، و «إعراب القراءات» (2/ 350) ، و «حجة القراءات» (699) ، و «العنوان» (186) ، و «شرح شعلة» (598) ، و «شرح الطيبة» (6/ 39) ، و «إتحاف» (2/ 521) ، و «معاني القراءات» (3/ 55) . (5) ينظر: «الفخر الرازي» (29/ 169) . (6) سقط في: د. [.....]

[سورة الحديد (57) : الآيات 14 إلى 15]

التوبيخ لهم، أي: إنَّكم لا تجدونه، ثم أعلم تعالى أَنَّهُ يضرب بينهم في هذه الحال بسورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظُلْمَةٍ وعذاب. وقوله تعالى: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي: جهة المؤمنين وَظاهِرُهُ: جهة المنافقين، والظاهر هنا: البادي ومنه قول الكُتَّابِ: من ظاهر مدينة كذا، وعبارة الثعلبيِّ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ: وهو حاجز بين الجنة والنار، قال أبو أمامة الباهليُّ «1» : فيرجعون إلى المكان الذي قُسِّمَ فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضُرِبَ بينهم/ بسور، قال قتادة «2» : حائط بين الجنة والنار، له باب باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، يعني: الجنة، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يعني النار، انتهى، قال- ص-: قال أبو البقاء: الباء في بِسُورٍ زائدة، وقيل: ليست بزائدة، قال أبو حيان «3» : والضمير في باطِنُهُ عائدٌ على الباب، وهو الأظهر لأَنَّهُ الأقرب، وقيل: على سور، أبو البقاء: والجملة صفة ل «باب» أو ل «سور» ، انتهى. [سورة الحديد (57) : الآيات 14 الى 15] يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) وقوله تعالى: يُنادُونَهُمْ معناه: ينادي المنافقون المؤمنين: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ: في الدنيا، فيردّ المؤمنون عليهم: بَلى: كنتم معنا، ولكن عَرَّضْتُمْ أنفسكم للفتنة، وهي حُبُّ العاجل والقتال عليه، قال مجاهد «4» : فتنتم أنفسكم بالنفاق وتَرَبَّصْتُمْ معناه هنا: بإيمانكم فأبطأتم به، حَتَّى مُتُّم، وقال قتادة «5» : معناه: تربصتم بنا وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم الدوائرَ، وشككتم، والارتياب: التشكك، والأماني التي غرتهم هي قولهم: سَيَهْلَكُ محمد هذا العام، سَتَهْزِمُهُ قريش، ستأخذه الأحزاب ... إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل:

_ (1) ذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 308) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وعزاه لابن المبارك، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن أبي إمامة الباهلي. (2) أخرجه الطبري (11/ 678) ، برقم: (33621) ، وذكره ابن عطية (5/ 262) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 252) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 221) . (4) أخرجه الطبري (11/ 679) ، برقم: (33629) ، وذكره ابن عطية (5/ 263) . (5) أخرجه الطبري (11/ 679) ، برقم: (33631) ، وذكره ابن عطية (5/ 263) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 309) .

غرار لكل أحد، وأمر اللَّه الذي جاء هو: الفتح وظهور الإسلام، وقيل: هو موتهم على النفاق الموجب للعذاب، والْغَرُورُ: الشيطان بإجماع المتأولين، وينبغي لكل مؤمن أَنْ يعتبر هذه الآيةَ في نفسه، وتسويفَه في توبته، واعلم أيها الأخ أَنَّ الدنيا غَرَّارة للمقبلين عليها، فإنْ أردت الخلاص والفوز بالنجاة، فازهدْ فيها، وأقبلْ على ما يعنيك من إصلاح دينك والتزود لآخرتك، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن أبي الدرداء أَنَّهُ قال- يعني لأصحابه-: لَئِنْ حَلَفْتُم لي على رجل منكم/ أَنَّه أزهدكم، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيركم «1» ، وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «يَبْعَثُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِهِ كَانَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَحَدُهُمَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ، وَالآخَرُ مَوَسَّعٌ عَلَيْهِ [فَيُقْبِلُ المَقْتُورُ عَلَيْهِ] «2» إلَى الجَنَّةِ، وَلاَ يَنْثَنِي عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى أَبْوَابِهَا، فَيَقُولُ حَجَبَتُهَا: إلَيْكَ إلَيْكَ! فَيَقُولُ: إذَنْ لاَ أَرْجِعَ، قال: وَسَيْفُهُ في عُنُقِهِ فَيَقُولُ: أُعْطِيتُ هذا السَّيْفَ في الدُّنْيَا أُجَاهِدُ بِهِ، فَلَمْ أَزَلْ مُجَاهِداً بِهِ حتى قُبِضْتُ وَأَنَا على ذَلِكَ، فَيَرْمِي بِسَيْفِهِ إلَى الخَزَنَةِ، وَيَنْطَلِقُ، لاَ يُثْنُونَهُ وَلاَ يَحْبِسُونَهُ عَنِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، فَيَمْكُثُ فِيهَا دَهْراً، ثُمَّ يَمُرُّ بِهِ أَخُوهُ المُوَسَّعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، مَا حَبَسَكَ؟! فَيَقُولُ: مَا خُلِّيَ سَبِيلِي إلاَّ الآن، وَلَقَدْ حُبِسْتُ مَا لَوْ أَنَّ ثَلاَثَمِائَةِ بِعِيرٍ أَكَلَتْ خَمْطاً، لاَ يَرِدْنَ إلاَّ خِمْساً وَرَدْنَ على عِرْقِي لَصَدَرْنَ مِنْهُ رِيًّا «3» » انتهى. وقوله تعالى: فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ... الآية: استمرارٌ في مخاطبة المنافقين قاله قتادة وغيره «4» . وقوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ قال المفسرون: معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنَّما هي استعارة لأَنَّها من حيثُ تَضُمُّهم وتباشِرُهم هي تواليهم وتكون لهم مكانَ المولى، وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر] .............. ... تحيّة بينهم ضرب وجيع «5»

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (193) ، برقم: (550) . (2) سقط في: د. (3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (195) ، برقم: (556) . (4) أخرجه الطبري (11/ 680) ، برقم: (33638) ، وذكره ابن عطية (5/ 263) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 253) ، وعزاه لعبد بن حميد. (5) عجز بيت وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل ... ........ وهو لعمر بن معد يكرب في «ديوانه» ص: (149) ، و «خزانة الأدب» (9/ 252، 257، 258، 261، -

[سورة الحديد (57) : آية 16]

[سورة الحديد (57) : آية 16] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ: ابتداء معنى مستأنف، ومعنى أَلَمْ يَأْنِ: ألم يَحِنْ يقال: أنى الشَّيْءُ يأني إذَا حَانَ، وفي الآية معنى الحَضِّ والتقريع، قال ابن عباس: عُوتِبَ المؤمنون بهذه الآية «1» ، وهذه الآية كانت سَبَبَ توبة الفُضَيْلِ وابن المبارك، والخشوع: الإخبات والتضامن/ وهي هيئة تظهر في الجوارحَ متى كانت في القلب ولذلك خَصَّ تعالى القلبَ بالذكر، وروى شداد بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ» «2» . وقوله تعالى: لِذِكْرِ اللَّهِ أي: لأجل ذكر اللَّه تعالى ووحيه، أو لأجل تذكير اللَّه إيَّاهم وأوامره فيهم، والإشارة في قوله: أُوتُوا الْكِتابَ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى ع ولذلك قال: مِنْ قَبْلُ وَإنَّما شَبَّه أهل عصر نبيٍّ [بأهل عصر نبيٍّ] . وقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ قيل: معناه: أَمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة، قال الفخر «3» : وقال مقاتل بن حيان: الأمد هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالُهم، لا جَرَمَ قَسَتْ قلوبهم، انتهى، وباقي الآية بيّن. [سورة الحديد (57) : الآيات 17 الى 19] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)

_ 262، 263) ، و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 200) ، و «الكتاب» (3/ 50) ، و «نوادر أبي زيد» ص: (150) ، وبلا نسبة في «أمالي ابن الحاجب» (1/ 345) ، و «الخصائص» (1/ 368) ، و «شرح المفصّل» (2/ 80) ، و «الكتاب» (2/ 323) ، و «المقتضب» (2/ 20، 4/ 413) . (1) ذكره البغوي (4/ 297) ، وابن عطية (5/ 264) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 310) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 254) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) أخرجه الطبراني (7/ 354) ، برقم: (7183) من طريق عمران القطان عن قتادة عن الحسن عن شداد بن أوس به. قال الهيثمي في «المجمع» : عمران بن داود القطان ضعفه ابن معين، والنسائي، ووثقه أحمد، وابن حبان. (3) ينظر: «تفسير الرازي» (29/ 200) . [.....]

وقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ... الآية، مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين نُدِبُوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مَثَلٍ، واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ، أي: لا يبعد عندكم أَيُّها التاركون للخشوع رُجُوعُكُمْ إليه وتلبسكم به، فإنَّ اللَّه يحيي الأرضَ بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يرُدُّهَا إلى الخشوع بعد بُعْدِهَا عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابةُ والتَّكَسُّبُ من العبد بعد نفورها منه، كما يحيي الأرضَ بعد أَنْ كانت ميتة، وباقي الآية بين، والْمُصَّدِّقِينَ: يعني به المتصدقين، وباقي الآية بين. ت: وقد جاءت آثار صحيحة في الحَضِّ على الصدقة، قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر، وأسند مالك في «الموطأ» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «يَا نِسَاءَ المُؤْمِنَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ إحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقاً» «1» وفي «الموطأ» عنه صلّى الله عليه وسلّم/ «رُدُّواْ السَّائِلَ وَلَوْ بِظَلِفٍ مُحْْرَّقٍ» «2» قال ابن عبد البر في «التمهيد» : ففي هذا الحديث الحَضُّ على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] : أوضح الدلائل في هذا الباب، وتصدقت عائشةُ- رضي اللَّه عنها- بحبتين من عنب، فنظر إليها بَعْضُ أهل بيتها فقالت: لا تَعْجَبْنَ فكم فيها من مثقال ذرة، ومن هذا الباب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طيّبة» «3» وإذا كان الله عز وجل يُرْبي الصدقاتِ، ويأخذ الصدقةَ بيمينه فَيُرَبِّيَهَا، كما يُرَبِّي أَحَدُنَا فَلَوَّه أَوْ فَصِيلَهُ- فما بالُ مَنْ عَرَفَ هذا يَغْفُلُ عنه! وما التوفيق إلاَّ باللَّه، انتهى من «التمهيد» ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حرملة بن عمران أَنَّهُ سَمِعَ يزيد بن أبى حَبِيبٍ يحدّث

_ (1) أخرجه البخاري (10/ 459) ، كتاب «الأدب» باب: لا تحقرن جارة جارتها (6017) ، ومسلم (2/ 714) ، كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بالقليل (90/ 1030) ، والترمذي (4/ 441) ، كتاب «الولاء والهبة» باب: في حث النبي صلّى الله عليه وسلّم على التهادي (2130) ، وأحمد (2/ 264، 432، 493، 506) ، والبيهقي (41/ 177) كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة وإن قلت، (6/ 169) ، كتاب «الهبات» باب: التحريض على الهبة والهدية صلة بين الناس. (2) أخرجه النسائي (5/ 81) ، كتاب «الزكاة» باب: رد السائل (2565) ، وأحمد (4/ 70) ، والبيهقي (4/ 177) ، وابن حبان (3/ 723) - الموارد (825) ، وابن خزيمة (4/ 111) (2472) . (3) أخرجه البخاري (3/ 332) ، كتاب «الزكاة» باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (1417) (11/ 408) كتاب «الرقاق» باب: من نوقش الحساب عذب (6540) ، (13/ 482) ، كتاب «التوحيد» باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (7512) ، ومسلم (2/ 703) ، كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، فإنها حجاب من النار (66، 77، 78، 68/ 1016) ، وابن حبان (2/ 220) ، كتاب «البر والإحسان» باب: حسن الخلق (473) ، (2/ 440) كتاب «الرقاق» باب: الخوف والتقوى (666) ، (7/ 43) ، كتاب «الصلاة» باب: صلاة الجمعة (2804) ، وأحمد (4/ 256) ، والنسائي (5/ 75) ، كتاب «الزكاة» باب: القليل من الصدقة (2553) .

أَنَّ أبا الخَيْرِ حدَّثه: أنَّه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كلّ امرئ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» «1» قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء، ولو كَعْكَةً أو بصلة أو كذا، انتهى، والصِّدِّيقُونَ: بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزَّجَّاج «2» . وقوله تعالى: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ: اخْتُلِفَ في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة: وَالشُّهَداءُ: معطوف على: الصِّدِّيقُونَ والكلامُ متَّصل، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وَصَفَ اللَّه المؤمنين بأَنَّهم صديقون وشهداء، فَكُلُّ مؤمن شهيد/ قاله مجاهد «3» ، وروى البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ، وَتَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية «4» وإنّما خصّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأَنَّهُم في أعلى رتب الشهادة أَلاَ ترى أَنَّ المقتولَ في سبيل اللَّه مخصوصٌ أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به، وقال بعضها: الشُّهَداءُ هنا: من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، فكأَنَّه قال: هم أهل الصدق والشهداءُ على الأمم، وقال ابن عباس، ومسروق، والضحاك «5» : الكلام تامٌّ في قوله: الصِّدِّيقُونَ، وقوله: وَالشُّهَداءُ: ابتداءٌ مستأنف،

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 147- 148) ، وأبو يعلى (3/ 300- 301) رقم (1766) ، وابن خزيمة (4/ 94) رقم: (2431) ، وابن حبان (817) - موارد، والحاكم (1/ 416) ، والبيهقي (4/ 177) ، كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة وإن قلّت، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 181) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 402) - بتحقيقنا، كلهم من طريق ابن المبارك وهو في «الزهد» له ص: (227) رقم (645) عن حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرجل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس وكان أبو الخير لا يأتي عليه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء ولو كَعْكَةً ولو بصلة. وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 113) : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد ثقات. وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» (6282) ، وقال المناوي في «الفيض» (5/ 13) : وقال- أي الذهبي- في «المهذب» : إسناده قوي. (2) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 126) . (3) أخرجه الطبري (11/ 683) ، برقم: (33652) ، وذكره البغوي (4/ 298) ، وابن عطية (5/ 265) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 312) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد. (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لابن جرير. (5) أخرجه الطبري (11/ 683) عن ابن عبّاس برقم: (33646) ، وعن مسروق برقم: (33647) ، وعن الضحاك برقم: (33650) ، وذكره البغوي (4/ 298) ، وابن عطية (5/ 266) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 311) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لابن جرير.

[سورة الحديد (57) : آية 20]

ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها: معنى الآية: والشهداءُ بأنَّهم صديقون حاضرون عند ربهم، وعَنَى بالشهداء الأنبياء- عليهم السلام-. ت: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية، وقال بعضها: قوله: وَالشُّهَداءُ ابتداء يريد به الشهداءَ في سبيل اللَّه، واستأنف الخبر عنهم بأَنَّهم: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ فكأَنَّه جعلهم صِنْفاً مذكوراً وحده. ت: وأبينُ هذه الأقوال الأوَّلُ، وهذا الأخيرُ، وإنْ صَحَّ حديث البَرَاءِ لم يُعْدَلْ عنه، قال أبو حيان «1» : والظاهر أَنَّ الشُّهَداءُ مبتدأ خبره ما بعده، انتهى. وقوله تعالى وَنُورُهُمْ قال الجمهور: هو حقيقة حسبما تقدم. [سورة الحديد (57) : آية 20] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) وقوله سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ هذه الآيةُ وعظ، وتبيين لأمر الدنيا وَضَعَةِ منزلتها، والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفاتِ والفكرِ/ التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأَمَّا ما كان من ذلك في طاعة اللَّه تعالى، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعينُ على الطاعات- فلا مدخلَ له في هذه الآية، وتأملْ حالَ الملوك بعد فقرهم، يَبِنْ لك أنّ جميع ترفههم لَعِبٌ ولهو، والزينة: التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء، والتفاخرُ بالأموال والأنساب وغيرُ ذلك على عادة الجاهلية، ثم ضرب اللَّه عز وجل مَثَلَ الدنيا، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ ... الآية: وصورة هذا المثالِ أَنَّ الإنسانَ ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشُبُّ في النعمة، ويقوى، ويكسب المال والولد، ويغشاه الناسُ، ثم يأخذُ بعد ذلك في انحطاطٍ، ويشيب، ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموتُ، ويضمحلُّ أَمرهُ، وتصيرُ أمواله لغيره، وتتغير رُسُومُه فأمره مِثْلُ مطر أصاب أرضاً، فنبت عن ذلك الغيثِ نباتٌ معجب أنيق، ثم هاج، أي: يبس، واصْفَرَّ، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل. وقوله: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي: الزراع فهو من كَفَرَ الحَبَّ، أي: ستره، وقيل: يحتمل أَنْ يعني الكفار باللَّه، لأَنَّهم أَشَدُّ إعجابا بزينة الدنيا، ثم قال تعالى:

_ (1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 222) .

وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ ... الآية: كأنَّه قال: والحقيقة هاهنا، وذكر العذابَ أَوَّلاً تَهَمُّمَاً به من حيث الحذر في الإنسان، ينبغي أَنْ يكونَ أولاً، فإذا تحرز من المخاوف مَدَّ حينئذ أمله، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه، وهو المغفرة والرضوان، وعبارة الثعلبيِّ: ثُمَّ يَهِيجُ أي: يجفُّ وَفِي الْآخِرَةِ/ عَذابٌ شَدِيدٌ: لأعداء اللَّه وَمَغْفِرَةٌ: لأوليائه، وقال الفَرَّاءُ وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ أي: إمَّا عذاب شديد، وإمَّا مغفرة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ: هذا تزهيد في العمل للدنيا، وترغيبٌ في العمل للآخرة، انتهى، وهو حسن، وعن طارق قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لآِخِرَتِهِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيا قَالَتِ الدُّنْيَا: قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ» «1» . رواه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح» ، ولا يشك عاقل أَنَّ حُطَامَ الدنيا مُشْغِلٌ عنِ التأهب للآخرة قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» : وقد رُوِيَ مرفوعاً: «لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ» «2» قال أبو عمر: ثم نقول: إنَّ الزهد في الحلال، وترك الدنيا مع القدرة عليها- أفضلُ من الرغبة فيها في حلالها، وهذا ما لا خلافَ فيه بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً، والآثار الواردة عنِ الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها، وفَضْل القناعة، والرضا بالكفاف، والاقتصارِ على ما يكفي دون التكاثر الذي يُلْهِي ويُطْغِي-: أكثر من أَنْ يحيط بها كتاب، أو يشمل عليها باب، والَّذِينَ زوى اللَّه عنهم الدنيا من الصحابة، أكثرُ من الذين فتحها عليهم أضعافاً مضاعفةً، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أَنَّهُ لما حضرته الوفاةُ بَكَى بُكَاءً شديداً، وقال: كان مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ خيراً مِنِّي تُوُفِّيَ وَلَمْ يَتْرُكْ ما يُكَفَّنُ فيه، / وَبَقِيتُ بعده حتى أَصَبْتُ من الدنيا وأصابت مِنِّي، ولا أحسبني إلاَّ سَأُحْبَسُ عن أصحابي بما فتح اللَّهُ عليَّ من ذلك، وجعل يبكي حتى

_ (1) أخرجه الحاكم (4/ 312) . وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وقال: بل منكر، وعبد الجبار لا يعرف، روى عنه يحيى بن أيوب العابد. (2) أخرجه الترمذي (4/ 569) ، كتاب «الزهد» باب: ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال (2336) ، وابن حبان (8/ 128) - الموارد (2470) ، والنسائي كما في «التحفة» (8/ 309) (11129) ، والحاكم (4/ 318) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث معاوية بن صالح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 798) ، وهذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال العقيلي: ليس له أصل من وجه يثبت. اهـ.

[سورة الحديد (57) : الآيات 21 إلى 23]

فاضتْ نفسه، وفارق الدنيا رحمة اللَّه عليه، فإنْ ظَنَّ ظانٌّ جاهل أَنَّ الاستكثار من الدنيا ليس به بأس، أو غلب عليه الجهل فَظَنَّ أَنَّ ذلك أفضل من طلب الكفاف منها، وشُبِّهَ عليه بقول اللَّه تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضحى: 8] فيما عَدَّده سبحانه على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم من نعمه عنده- فَإنَّ ذلك ليس كما ظَنَّ بل ذلك غنى القلب، دَلَّتْ على ذلك الآثارُ الكثيرة كقوله عليه السلام: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَإنَّما الغِنَى غِنَى النّفس» «1» انتهى. [سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 23] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) وقوله سبحانه: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة، وهذه الآية حُجَّةٌ عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات، وقدِ استدلَّ بها بعضُهم على أَنَّ أَوَّلَ أوقات الصلوات أَفضلُ لأَنَّهُ يقتضي المسارعةَ والمسابقةَ، وذكر سبحانه العَرْضَ من الجنة إذِ المعهودُ أَنَّهُ أَقَلُّ من الطول، وقد ورد في الحديث: «أَنَّ سَقْفَ الجَنَّةِ الْعَرْشُ» وورد في الحديث: «أَنَّ السموات السَّبْعَ في الكُرْسِيِّ كَالدِّرْهَمِ في الْفَلاَةِ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ في الْعَرْشِ كَالدِّرْهَمِ في الْفَلاَةِ» «2» . ت: أيها الأخ، أَمَرَكَ المولى سبحانه بالمسابقة والمسارعة رحمةً منه وفضلاً، فلا تغفلْ عن امتثال أمره وإجابة دعوته: [الخفيف] السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلاً وَفِعْلاً ... حَذَرَ النَّفْسِ حَسْرَةَ/ الْمَسْبُوقِ ذكر صاحبُ «معالم الإيمان، وروضات الرضوان» في مناقب صلحاء القيروان، قال: ومنهم أبو خالد عبد الخالق المتعبد، كان كثيرَ الخوف والحزن، وبالخوف مات رأى يوماً خَيْلاً يسابق بها، فتقدمها فرسان، ثم تقدم أَحَدُهُمَا على الآخر، ثم جَدَّ التالي حتى سَبَقَ الأول، فتخلَّلَ عبد الخالق الناسَ حَتَّى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقَبِّلُهُ ويقول: بارك اللَّه فيك، صَبَرْتَ فظفرت، ثم سقط مغشيّا عليه، انتهى.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه.

وقوله سبحانه: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ... الآية: قال ابن زيد وغيره «1» : المعنى: ما حدث من حادث، خيرٍ وشَرٍّ، فهذا على معنى لفظ أصاب، لا على عُرْفِ المصيبة فإنَّ عُرْفَهَا في الشر، وقال ابن عباس «2» ما معناه: أَنَّه أراد عرف المصيبة، فقوله: فِي الْأَرْضِ يعني: بالقحوط، والزلازل، وغير ذلك وفِي أَنْفُسِكُمْ: بالموت، والأمراض، وغير ذلك. وقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ معناه: إلاَّ والمصيبة في كتاب ونَبْرَأَها معناه: نخلقها يقال: برأ اللَّهُ الخلق، أي: خلقهم، والضميرُ عائد على المصيبة، وقيل: على الأرض، وقيل: على الأنفس قاله ابن عباس وجماعة «3» ، وذكر المهدويُّ جوازَ عود الضمير على جميع ما ذُكِر، وهي كُلُّها معانٍ صِحَاحٌ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ: يريد تحصيلَ الأشياءِ كلها في كتاب، وقال الثعلبي: وقيل المعنى: إنَّ خَلْقَ ذلك وحِفْظَ جميعه، على اللَّه يسير، انتهى. وقوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا معناه: فَعَلَ اللَّهُ هذا كُلَّه، وأَعلمكم به ليكونَ سَبَبَ تسليتكم وقِلَّةَ اكتراثكم بأمور الدنيا، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا الفَرَحَ المبطر بما آتاكم/ منها، قال ابن عباس «4» : ليس أحد إلاَّ يحزنُ أو يفرحُ، ولكن مَنْ أصابته مصيبةٌ فليجعلها صبراً، ومَنْ أصابه خير فليجعله شكراً وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد وأبي هريرةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا رسولَ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ، وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حَزَنٍ، حَتَّى الهَمِّ يَهُمُّهُ- إلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» «5» ، وفي «صحيح مسلم» عن

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 686) ، برقم: (33662) ، وذكره ابن عطية (5/ 268) . [.....] (2) ذكره ابن عطية (5/ 268) . (3) أخرجه الطبري (11/ 685) ، برقم: (33657) ، وذكره ابن عطية (5/ 268) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 257) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس. (4) أخرجه الطبري (11/ 687) ، برقم: (33666) ، وذكره ابن عطية (5/ 268) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 257) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (5) أخرجه البخاري (10/ 107) ، كتاب «المرضى» باب: ما جاء في كفارة المريض وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (5641- 5642) ، ومسلم (4/ 1992، 1993) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها (52/ 2573) ، وأحمد (2/ 303، 335) ، (3/ 18- 19، 48) عن أبي هريرة، (2/ 303، 335) ، (3/ 18- 19، 48) عن أبي سعيد، والبيهقي (3/ 373) ، كتاب «الجنائز» باب: ما ينبغي لكل مسلم أن يستشعره من

[سورة الحديد (57) : الآيات 24 إلى 27]

عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إلاَّ كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خِطِيئَةٌ» «1» ، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرةَ قال: لَمَّا نَزَلَتْ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا وَالشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» «2» ، انتهى، وقد تقدم كثير في هذا المختصر من هذا المعنى، فالله المسئول أَنْ ينفع به كُلَّ مَنْ حَصَّله أو نظر فيه. وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: يدلُّ على أَنَّ الفرحَ المنهيَّ عنه إنَّما هو ما أَدَّى إلى الاختيال والفخر، وأَمَّا الفَرَحُ بنعم اللَّه المقترن بالشكر والتواضع، فَإنَّه لا يستطيع أَحَدٌ دَفْعَهُ عن نفسه، ولا حرجَ فيه، واللَّه أعلم. [سورة الحديد (57) : الآيات 24 الى 27] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) وقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ قال بعضهم: هو خبر مبتدإ محذوف تقديره: هم الذين يبخلون، وقال بعضهم: هو في موضع نصب صِفَةً ل كُلَّ، وإنْ كان نكرةً فهو يُخَصَّصُ نوعاً ما فيسوغُ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهبُ الأخفش، والْكِتابَ هنا: اسم جنس لجميع الكتب المُنَزَّلَةِ، وَالْمِيزانَ: العدل/ في تأويل الأكثرين.

_ - الصبر على الأمراض والأوجاع والأحزان، لما فيها من الكفارات والدرجات، عنهما جميعا، وابن الشجري في «أماليه» (2/ 279) عن أبي سعيد، والبخاري في «الأدب المفرد» (145) (488) . (1) أخرجه البخاري (10/ 107) كتاب «المرضى» باب: ما جاء في كفارة المريض، وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (5640) ، ومسلم (4/ 1992/ 1993) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها (46، 51/ 2572) . والبيهقي (3/ 373) ، كتاب «الجنائز» باب: ما ينبغي لكل مسلم أن يستشعره من الصبر على جميع ما يصيبه من الأمراض والأوجاع، والأحزان لما فيها من الكفارات، والدرجات، وأحمد (6/ 247، 248) ، وابن الشجري في «الأمالي» (2/ 279) . (2) ينظر: السابق.

وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ عَبَّرَ سبحانه عن خلقه الحديدَ بالإنزال كما قال: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ [الزمر: 6] الآية، قال جمهورٌ من المفسرين: الحديد هنا أراد به جِنْسَهُ من المعادن وغيرها، وقال حُذَّاقٌ من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية بأَنَّ اللَّه أخبر أَنَّهُ أرسل رُسُلاً، وأنزل كتباً، وعدلاً مشروعاً، وسلاحاً يُحَارَبُ به مَنْ عاند، ولم يقبل هدى اللَّه إذْ لم يبقَ له عذر، وفي الآية- على هذا التأويل- حَضٌّ على القتال في سبيل اللَّه وترغيبٌ فيه. وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يقوِّي هذا التأويل. وقوله: بِالْغَيْبِ معناه: بما سمع من الأَوصاف الغائبة عنه فآمن بها، وباقي الآية بين. وقوله سبحانه: وقَفَّيْنا معناه: جئنا بهم بعد الأولِينَ، وهو مأخوذ من القفا، أي: جيء بالثاني في قَفَا الأَوَّلِ، فيجيء الأول بين يدي الثاني، وقد تقدم بيانه. وقوله سبحانه: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً: الجعل في هذه الآية بمعنى الخلق. وقوله: ابْتَدَعُوها: صفة لرهبانية، وخَصَّها بِأَنَّها ابْتُدِعَتْ لأََنَّ الرأفة والرحمةَ في القلب، لا تَكَسُّبَ للإنسان فيها، وَأَمَّا الرهبانيةُ فهي أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضعٌ لِلتَّكَسُّبِ، ونحو هذا عن قتادة «1» ، والمراد بالرأفة والرحمة حُبُّ بعضهم في بعض وتوادُّهُم، والمراد بالرهبانية: رَفْضُ النساء، واتخاذ الصوامع والديارات، والتفردُ للعبادات، وهذا هو ابتداعهم، ولم يَفْرِضِ اللَّه ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك ابتغاءَ رضوان اللَّه هذا تأويل جماعة، وقرأ ابن مسعود «2» : / «مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لَكِنِ ابتدعوها» وقال مجاهد «3» : المعنى: كتبناها عليهم ابتغاءَ رضوان اللَّه، فالاستثناء على هذا مُتَّصِلٌ، واخْتُلِفَ في الضمير الذي في قوله: فَما رَعَوْها مَنِ المراد به؟ فقال ابن زيد وغيره «4» : هو عائد على الذين ابتدعوا الرهبانِيَّة، وفي هذا التأويل لزومُ الإتمام لِكُلِّ مَنْ بدأ بتطوّع ونفل، وأنّه

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 690) ، برقم: (33673) ، وذكره ابن عطية (5/ 270) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 270) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 270) . (4) أخرجه الطبري (11/ 692) ، برقم: (33678) ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وذكره ابن عطية (5/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 259) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه، وابن نصر.

[سورة الحديد (57) : الآيات 28 إلى 29]

يلزمُه أَنْ يرعاه حَقَّ رعيه، وقال الضَّحَّاكُ وغيره «1» : الضمير للأخلاف الذي جاؤوا بعد المبتدعين لها، ورُوِّينَا في «كتاب الترمذيِّ» عن كثير بن عبد اللَّه المُزَنِيِّ، عن أبيه، عن جدّه: «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لبِلال بن الحارث: اعْلَمْ، قَالَ: مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اعْلَمْ يَا بِلاَلُ! قَالَ: مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإنَّ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنِ ابتدع بِدْعَةَ ضَلاَلَةٍ، لاَ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا- كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئاً» «2» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى. [سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ قالت فرقة: الخطاب بهذه الآية لأهل الكتاب، ويؤيده الحديث الصحيح: «ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وَآمَنَ بي» الحديث «3» ، وقال آخرون: الخطاب للمؤمنين من هذه الأمة، ومعنى آمِنُوا بِرَسُولِهِ أي: اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي: نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه، قال أبو موسى: كِفْلَيْنِ: ضعفين بلسان الحبشة، والنور هنا: إمَّا أَنْ يكونَ وعداً بالنور الذي/ يسعى بين الأيدي يومَ القيامة، وإمَّا أَنْ يكون استعارة للهُدَى الذي يمشي به في طاعة اللَّه. وقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ... الآية: رُوِيَ أَنَّه لما نزل هذا الوعدُ المتقدم للمؤمنين، حسدهم أهلُ الكتاب على ذلك، وكانتِ اليهودُ تُعَظِّمُ دِينَهَا وأَنْفُسَهَا، وتزعم أَنَّهم أحِبَّاءُ اللَّه وأهلُ رضوانه، فنزلت هذه الآية مُعْلِمَةً أَنَّ اللَّه فعل ذلك، وأعلم به ليعلمَ أَهل الكتابِ أَنَّهم ليسوا كما يزعمون، و «لا» في قوله: لِئَلَّا زائدة، وقرأ ابن عباس والجَحْدَرِيُّ «4» : «لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ» ، وروى إبراهيم

_ (1) أخرجه الطبري (11/ 692) ، برقم: (33681) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وذكره ابن عطية (5/ 270) . (2) أخرجه الترمذي (5/ 45) ، كتاب «العلم» باب: ما جاء في الأخذ بالسنة، واجتناب البدع (2677) . قال الترمذي: هذا حديث حسن وللحديث شواهد في الصحيح. (3) تقدم تخريجه. [.....] (4) وقرأ بها عبد الله.

التيمي عن ابن عباس: «كَيْ يَعْلَمَ» وروي عن حِطَّانَ الرُّقَاشِيِّ أنه قرأ «1» : «لأَنْ يَعْلَمَ» . وقوله تعالى: أَلَّا يَقْدِرُونَ معناه: أَنَّهم لا يملكون فضلَ اللَّه، ولا يدخل تحت قُدَرهم، وباقي الآية بيّن.

_ - ينظر: «الشواذ» (153) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 271) ، و «البحر المحيط» (8/ 227) ، وزاد نسبتها إلى ابن مسعود، وعكرمة، وعبد الله بن سلمة، وهي في «الدر المصون» (6/ 282) . (1) ينظر: مصادر القراءة السابقة.

تفسير سورة المجادلة

تفسير سورة المجادلة وهي مدنيّة إلّا أنّ النقّاش حكى أنّ قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ... الآية، مكّيّ [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) قوله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... الآية: اختلف الناس في اسم هذه المرأة على أقوال، واختصار ما رواه ابن عباس والجمهور «أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ الأَنْصَارِيَّ، أخا عبادة بن الصامت، ظَاهَرَ من امرأته خَوْلَةَ بنت خُوَيْلِدٍ، وكان الظهارُ في الجاهلية يُوجِبُ عندهم فُرْقَةً مُؤَبَّدَةً، فلما فعل ذلك أوس جاءت زوجته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَوساً أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَمَاتَ أهلي، ظاهر منّي! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: / مَا أَرَاكِ إلاَّ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَفْعَلْ فَإنِّي وَحِيدَةٌ لَيْسَ لي أهل سواه، فراجعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ فَرَاجَعَتْهُ، فَهَذَا هُوَ جِدَالُهَا، وَكَانَتْ في خِلاَلِ جِدَالِهَا تَقُولُ: اللَّهُمَّ إَلَيْكَ أَشْكُو حَالِي وانفرادي وَفَقْرِي إلَيْهِ» ، وَرُوِيَ أَنَّها كَانَتْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ، إنَّ لي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَاراً، إنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا، وَإنْ ضَمَمْتُهُمْ إليَّ جَاعُوا، فَهَذَا هُوَ اشتكاؤها إلَى اللَّهِ، فَنَزَلَتِ الآية،

فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أَوْسٍ، وأَمَرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَكَفَّرَ بِالإطْعَامِ، وَأَمْسَكَ أَهْلَهُ» «1» قال ابن العربي في «أحكامه» «2» : والأشبه في اسم هذه المرأة أَنَّها خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، امرأةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وعلى هذا اعتمد الفخر قال الفخر «3» : هذه الواقعة تَدُلُّ على أَنَّ مَنِ انقطع رجاؤه من الخلق، ولم يبق له في مُهِمِّة أحدٌ إلاَّ الخالق- كفاه اللَّهُ ذلك المهم، انتهى، والمحاورة: مراجعةُ القولِ ومعاطاته، وفي مصحف ابن مسعود «4» : «تُحَاوِرُكَ في زَوْجِهَا» والظِّهَارُ: قولُ الرجلِ لامرأته: أنتِ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يريد في التحريم كَأَنَّها إشارة إلى الركوبِ، إذ عُرْفُهُ في ظهور الحيوان، وكان أهلُ الجاهلية يفعلون ذلك، فَرَدَّ اللَّه بهذه الآية على فعلهم، وأخبر بالحقيقة من أَنَّ الأُمَّ هي الوالدة، وأَمَّا الزوجةُ فلا يكونُ حكمُهَا حُكْمَ الأُمِّ، وجعل اللَّه سبحانه القول بالظهار مُنْكَراً وزوراً، فهو مُحَرَّمٌ، لَكِنَّهُ إذَا وقع لزم هكذا قال فيه أهل العلم، لكنَّ تحريمه تحريمُ المكروهات جدًّا، وقد رَجَّى اللَّه تعالى بعده بأَنَّهُ عَفُوٌّ غفور مع الكَفَّارَةِ. وقوله سبحانه: ثُمَّ يَعُودُونَ ... الآية. ت: اخْتُلِفَ في معنى العَوْدِ، والعود في «المُوَطَّإ» : العزم على/ الوطء والإمساك مَعاً، وفي «المُدَوَّنَةِ» : العزمُ على الوطء خاصَّةً. وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، قال الجمهور: وهذا عامٌّ في نوع المسيس الوطء والمباشرة، فلا يجوز لِمُظَاهِرٍ أَنْ يطأَ، ولا أَنْ يُقَبِّلَ أو يَلْمَسَ بيده، أو يفعَلَ شيئاً من هذا النوع إلاَّ بعد الكفارة وهذا قول مالك رحمه اللَّه. وقوله تعالى: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ: إشارة إلى التحذير، أي: فَعَلَ ذلك عظةً لكم لتنتهوا عن الظهار. وقوله سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ: قال الفخر «5» : الاستطاعة فوق الوسع والوسع فوق الطاقة، فالاستطاعة هي أَنْ يتمكَّنَ الإنسان من الفعل على سبيل السهولة، انتهى،

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 265) ، كتاب «الطلاق» باب: في الظهار، حديث (2213) . (2) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1745) . (3) ينظر: «تفسير الرازي» (29/ 218) . (4) ينظر: «الشواذ» ص: (154) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 273) . (5) ينظر: «تفسير الرازي» (29/ 227) .

[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 إلى 7]

وفروع الظهار مُسْتَوفَاةً في كتب الفقه، فلا نطيل بذكرها. وقوله سبحانه: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإطعام، ثم شَدَّدَ سبحانه بقوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي: فالتزموها، ثم تَوَعَّدَ الكافرين بقوله: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ. [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا ... الآية: نزلت في قوم من المنافقين واليهود، كانوا يتربّصون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبالمؤمنين الدوائرَ، ويتمنَّون فيهم المكروهَ، ويتناجون بذلك وكُبِتَ الرجل: إذا بَقِيَ خَزْيَانَ يُبْصِرُ ما يكره، ولا يَقْدِرُ على دفعه، وقال قوم منهم أبو عبيدة: أصله كبدوا، أي: أصابهم داء في أكبادهم، فأُبْدِلَتِ الدَّالُ تاءً، وهذا غير قويّ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: منافقوا الأمم الماضية، ولفظ البخاريِّ: كُبِتُوا: أُحْزِنُوا. وقوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ/ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: العامل في يَوْمَ قوله: مُهِينٌ، ويحتمل أنْ يكون فعلاً مُضْمَراً تقديره: اذكر. وقوله تعالى: إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: بعلمه وإحاطته وقُدْرَتِهِ، وعبارة الثعلبيِّ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ: يعلم ويسمع نجواهم، يدل على ذلك افتتاح الآية وخاتمتُها، انتهى. [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ ... الآية، قال ابن

[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 إلى 12]

عبّاس «1» : نزلت في اليهود والمنافقين، وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ: هو قولهم: السَّامُ عليكم، يريدون الموتَ، ثم كشف اللَّه تعالى خُبْثَ طَوِيَّتِهِمْ والحُجَّةَ التي إليها يسترحون، وذلك أَنَّهُمْ كانوا يقولون: لو كان محمد نبيًّا لعذبنا بهذه الأقوال التي تسيئه، وجَهِلُوا أَنَّ أمرهم مُؤَخَّرٌ إلى عذاب جهنم. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ ... الآية: وصِيَّةٌ منه سبحانه للمؤمنين أَلاَّ يتناجوا بمكروه، وذلك عامٌّ في جميع الناس إلى يوم القيامة. وقوله: إِنَّمَا النَّجْوى أي: بالإِثم مِنَ الشَّيْطانِ وقرأ نافع وأهل المدينة «2» : «ليحزن» - بضم الياء وكسر الزاي- والفعل مُسْنَدٌ إلى الشيطان، وقرأ أبو عمرو وغيره: «لِيَحْزُنَ» - بفتح الياء وضم الزاي-، ثم أخبر تعالى أَنَّ الشيطان أو التناجي الذي هو منه، ليس بضارٍّ أحداً إلاَّ أَنْ يكونَ ضُرَّ بإذن اللَّه، أي: بأمره وقَدَرِهِ، ثم أمر بتوكّل المؤمنين عليه تبارك وتعالى. [سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) وقوله تعالى: «يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجلس ... » الآية، وقرأ عاصم «3» : «في المَجَالِسِ» قال زيد بن أسلم وقتادة «4» : هذه الآية نزلت بسبب تضايق الناس

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 14) برقم: (33760) عن مجاهد، و (12/ 15) عن ابن عبّاس برقم: (33764) ، وذكره ابن عطية (5/ 276) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 270) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) وقرأ بقراءة أبي عمرو- الحسن، وعاصم. ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 278) . (3) يعني: جعله عاما في المجالس، وأما قراءة الباقين على التوحيد، فمعناها: في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة. ينظر: «السبعة» (629) ، و «الحجة» (6/ 280) ، و «إعراب القراءات» (2/ 355) ، و «حجة القراءات» (704) ، و «العنوان» (187) ، و «شرح الطيبة» (6/ 46) ، و «شرح شعلة» (600) ، «إتحاف» (2/ 527) ، و «معاني القراءات» (3/ 60) . (4) أخرجه الطبري (12/ 18) ، برقم: (33776) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 319) ، وابن عطية (5/ 278) .

في مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك أَنَّهُمْ كانوا يتنافسون في القُرْبِ منه وسَمَاعِ/ كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجلُ الذي له الحَقُّ والسِّنُّ والقَدَمُ في الإسلام، فلا يجد مكاناً، فنزلت بسبب ذلك، وروى أبو هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ فِيهِ الرَّجُلُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» «1» . قال جمهور العلماء: سببُ نزولِ الآية مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم الحكم مُطَّرِدٌ في سائر المجالس التي هي للطاعات ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَحَبُّكُمْ إلَى اللَّهِ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ في الصَّلاَةِ، وَرُكَباً في المَجَالِسِ» «2» ، وهذا قول مالك رحمه اللَّه، وقال: ما أرى الحكم إلاَّ يَطَّرِدُ في مجالس العلم ونحوها غَابِرَ الدهر قال ع «3» : فالسنة المندوبُ إليها هي التفسُّحُ، والقيامُ منهيّ عنه في حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيثُ نهى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيَجْلِسَ الآخَرُ مَكَانَهُ «4» . ت: وقد روى أبو دَاوُدَ في «سننه» عن سَعِيدِ بْنِ أبي الحَسَنِ قال: «جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ في شَهَادَةٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ، وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَنَهَى أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ» «5» وروى أبو داودَ عن ابن عمر قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فيه، فنهاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «6» انتهى، قال ع «7» : فَأَمَّا القيام إجلالاً فجائز بالحديث، وهو قوله ع حين أقبل سعد بن معاذ: «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» «8» . وواجب على المُعَظَّمِ أَلاَّ يُحِبَّ ذَلِكَ ويأخذ الناس به لقوله ع: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَاماً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» «9» . ت: وفي الاحتجاج بقضية/ سعد نظر لأَنَّها احْتَفَّتْ بِها قرائن سوّغت ذلك

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه أبو داود (1/ 236) ، كتاب «الصلاة» باب: تسوية الصفوف، حديث (672) . [.....] (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 279) . (4) تقدم تخريجه. (5) تقدم. (6) أخرجه أبو داود (2/ 674) ، كتاب «الأدب» باب: في الرجل يقوم للرجل من مجلسه (4827) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 290) . (8) أخرجه البخاري (7/ 475) ، كتاب «المغازي» باب: مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب (4121) ، ومسلم (3/ 1388) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: جواز قتال من نقض العهد (64/ 11768) ، وأحمد (3/ 22، 71) ، والبيهقي (9/ 97) ، كتاب «السير» باب: نزول أهل الحصن أو بعضهم على حكم الإمام أو غير الإمام، إذا كان المنزول على حكمه مأمونا. (9) تقدم.

انظر السير، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والرَّدِّ على المجيزين للقيام، والسلامةُ عندي تركُ القيام. وقوله تعالى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ معناه: في رحمته وَجَنَّتِهِ. - ص-: يَفْسَحِ مجزوم في جواب الأمر، انتهى، وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا معناه: ارتفعوا، وقوموا فافعلوا ذلك ومن «رياض الصالحين» للنوويِّ: وعن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا» «1» رواه أبو داودَ، والترمذيُّ وقال: حديث حسن، وفي رواية لأبي داودَ: «لاَ يَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا» وعن حُذَيْفَةَ- رضي اللَّه عنه- أَنَّ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الحَلْقَةِ» «2» ، رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذيُّ عن أبي مِجْلِزٍ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ، فَقَالَ حذيفة: «ملعون على لسان محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أو لعن الله على لسان محمّد صلّى الله عليه وسلّم مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ» «3» قال الترمذيُّ: حديث حسن صحيح، انتهى. وقوله سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ... الآية: قال جماعة: المعنى: يرفع اللَّه المؤمنين العلماءَ درجاتٍ فلذلك أمر بالتفسُّح من أجلهم، وقال آخرون: المعنى: يرفع اللَّه المؤمنين والعلماءَ الصنفينِ جميعاً درجاتٍ، لَكِنَّا نعلمُ تفاضُلَهم في الدرجات من مواضعَ أُخَرَ فلذلك جاء الأمر بالتفسح عامّا بالتفسح عامًّا للعلماء وغيرهم، وقال ابن مسعود وغيره «4» : «يرفع الله الذين آمنوا مِنكُمْ» وهنا تَمَّ الكلامُ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات، ونصبهم بإضمار فعلٍ، فللمؤمنين رفع على هذا/ التأويل، وللعلماء درجات، وعلى هذا التأويل قال مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّخِّيرِ «5» : فَضْلُ العلمِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ، وخيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ، وروى البخاريُّ وغيره عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل ما

_ (1) أخرجه أبو داود (5/ 175) ، كتاب «الأدب» باب: في الرجل يجلس بين الرجلين (4845) ، والترمذي (5/ 89) ، كتاب «الأدب» باب: ما جاء في كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذنهما (2752) ، وأحمد (2/ 213) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) أخرجه أبو داود (2/ 674) ، كتاب «الأدب» باب: الجلوس وسط الحلقة (4826) ، والترمذي (5/ 90) ، كتاب «الأدب» باب: ما جاء في كراهية القعود وسط الحلقة (2753) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) انظر الحديث السابق. (4) ذكره ابن عطية (5/ 279) . (5) أخرجه الطبري (12/ 19) ، وابن عطية (5/ 279) .

بَعَثَنِي اللَّهُ بهِ مِنَ الهدى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الماء، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا، وَسُقُوا، وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى إنَّما هِيَ قِيَعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءَ، وَلا تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» انتهى «1» . وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ روي عن ابن عباس وقتادة في سببها: أَنَّ قوماً من شباب المؤمنين وأغْفَالِهِمْ كَثُرَتْ مناجاتُهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في غير حاجة، وكان صلّى الله عليه وسلّم سَمْحاً، لا يَرُدُّ أحداً، فنزلت هذه الآية مُشَدِّدَةً عليهم «2» ، وقال مقاتل: نزلتْ في الأغنياء لأنّهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومجالسته «3» ، قال جماعة من الرواة: نُسِخَتْ هذه الآيةُ قبل العمل بها، لكنِ استقر حُكْمُهَا بالعزم عليه، وصَحَّ عن عليٍّ أَنَّهُ قال: ما عَمِلَ بها أَحَدٌ غيري، وأنا كنتُ سَبَبَ الرخصة والتخفيفِ عن المسلمين، قال: ثم فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ هذه الْعِبَادَةَ قد شَقَّتْ/ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لي: يَا عَلِيُّ، كَمْ ترى أَنْ يَكُونَ حدُّ هذه الصَّدَقَةِ؟ أَتَرَاهُ دِينَاراً؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَنِصْفُ دِينِارٍ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: حَبَّةٌ مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ: إنَّكَ لَزَهِيدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ «4» ، يريد لِلْوَاجِدِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ فَالرُّخْصَةُ لَهُ ثَابِتَةٌ بقوله: «فَإنْ لَمْ تَجِدُوا» قال الفخر «5» : قوله عليه السلام لعليٍّ: «إنَّكَ لَزَهِيدٌ» معناه: إنك قليل المال، فقدّرت على حسب حالك، انتهى.

_ (1) أخرجه البخاري (1/ 211) ، كتاب «العلم» باب: فضل من علم وعلّم (79) ، ومسلم (4/ 1787) ، كتاب «الفضائل» باب: بيان مثل ما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم من الهدى والعلم (15/ 2282) ، والنسائي في «الكبرى» (3/ 427) ، كتاب «العلم» باب: مثل من فقه في دين الله تعالى (5843/ 1) . (2) ذكره البغوي (4/ 310) ، وابن عطية (5/ 279) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 272) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. [.....] (3) ذكره البغوي (4/ 310) ، وابن عطية (5/ 279) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 272) ، وعزاه لابن أبي حاتم. (4) أخرجه الترمذي (5/ 406- 407) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة المجادلة، حديث (3300) ، وقال: حسن غريب. (5) ينظر: «الفخر الرازي» (29/ 237) .

[سورة المجادلة (58) : الآيات 13 إلى 18]

[سورة المجادلة (58) : الآيات 13 الى 18] أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) وقوله سبحانه: أَأَشْفَقْتُمْ ... الآية: الإشفاق: هنا الفزع من العجز عن الشيء المتصدق به، أو من ذهاب المال في الصدقة. وقوله: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ... الآية: المعنى: دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعِدُ شرعكم، ومَنْ قال: إنْ هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة فقوله ضعيف. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا: نزلت في قوم من المنافقين، تولوا قوماً من اليهود، وهمُ المغضوب عليهم، قال الطبري «1» : مَّا هُمْ مِنْكُمْ: يريد به المنافقين وَلا مِنْهُمْ أي: ولا من اليهود، وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النساء: 143] كالشاة العائرة بين الغنمين، وتحتمل الآية تأويلاً آخرَ، وهو أَنْ يكونَ قوله: مَّا هُمْ يريد به اليهودَ وَلا مِنْهُمْ يريد به المنافقين، وَيَحْلِفُونَ: يعني المنافقين، وقرأ الحسن: اتّخذوا إيمانكم- بكسر الهمزة «2» -، والجُنَّةُ: ما يُتَسَتَّرُ به، ثم أخبر تعالى عن المنافقين في هذه الآية أَنَّهُ ستكون لهم أيمان يومَ القيامة بين يدي اللَّه تعالى، يخيل إليهم بجهلهم أَنَّها تنفعهم، وتُقْبَلُ منهم، وهذا هو حسابهم أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أي: على شيء نافع لهم. [سورة المجادلة (58) : الآيات 19 الى 22] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (12/ 23) . (2) ينظر: «المحتسب» (2/ 315) ، و «البحر المحيط» (8/ 236) ، و «الدر المصون» (6/ 290) .

وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ معناه: تَملَّكَهُمْ من كل جهة، / وغلب على نفوسهم، وحُكِيَ أَنَّ عمر قرأ: «اسْتَحَاذَ» «1» ، ثم قضى تعالى على مُحَادِّه بِالذُّلِّ، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله سبحانه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية: نَفَتْ هذه الآيةُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يؤمن باللَّه حَقَّ الإيمان، ويلتزم شُعَبَهُ على الكمال- يوادّ كافرا أو منافقا، وكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ: معناه: أثبته وخلقه بالإيجاد. وقوله: أُولئِكَ: إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية لأَنَّ المعنى: لكنك تجدهم لا يوادُّونَ مَنْ حادَّ اللَّه. وقوله تعالى: بِرُوحٍ مِنْهُ معناه: بهدى منه ونور وتوفيق إلهي ينقدح لهم من القرآن وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم و «الحزب» : الفريق، وباقي الآية بيّن.

_ (1) حكاه القراء في كتاب «اللغات» ، كما في «المحرر الوجيز» (5/ 281) ، و «البحر المحيط» (8/ 237) ، و «الدر المصون» (6/ 290) .

تفسير سورة الحشر

تفسير سورة الحشر وهي مدنيّة باتّفاق وهي سورة بني النضير وذلك أنّهم كانوا عاهدوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهم يرون أنّه لا تردّ له راية، فلمّا كان شأن أحد وما أكرم الله به المسلمين، ارتابوا، وداخلوا قريشا، وغدروا، فلما رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أحد حاصرهم حتى أجلاهم عن أرضهم، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة: خيبر، والشام، وغير ذلك، ثم كان أمر بني قريظة مرجعة من الأحزاب. [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الآية: تقدم الكلام في تسبيح الجمادات والَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: هم بنو النضير. و [قوله] : لِأَوَّلِ الْحَشْرِ: قال الحسن بن أبي الحسن وغيره «1» : يريد حَشْرَ القيامة، أي: هذا أَوَّلُهُ والقيامُ من القبور آخره، وقال عكرمة وغيره «2» : المعنى: / لأول موضع

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 283) . (2) أخرجه الطبري (12/ 28) ، برقم: (33815) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 284) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 277) ، وعزاه للبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

[سورة الحشر (59) : الآيات 5 إلى 7]

الحشر، وهو الشام وذلك أَنَّ أكثرهم جاء إلى الشام، وقد رُوِيَ أَنَّ حشرَ القيامة هو إلى بلاد الشام. وقوله سبحانه: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا: يريد لمنعتهم وكثرة عددهم. وقوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي: كُلَّما هدم المسلمون من تحصينهم في القتال هدموا هم من البيوت ليجبروا الحصن. ت: والحاصل أَنَّهم يخربون بيوتهم حِسًّا ومعنى أَمَّا حِسًّا فواضح، وأَمَّا معنى فبسوء رأيهم وعاقبة ما أضمروا من خيانتهم وغدرهم، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ: من الوطن لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا: بالسبي والقتل، قال البخاريُّ: والجلاء: الإخراج من أرض إلى أرض، انتهى. [سورة الحشر (59) : الآيات 5 الى 7] ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) وقوله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ... الآيةُ سببُهَا قولُ اليهود: ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد؟! فَرَدَّ اللَّهُ عليهم بهذِهِ الآية، قال ابن عباس وجماعة من اللغويين «1» : اللِّينَةُ من النخيل: ما لم يكن عجوةً، وقيل غير هذا. - ص-: أصل «لِينَة» : لونة، فقلبوا الواوَ ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، وجمعه لِينٌ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، قال الأخفش: واللينة كأنَّها لونٌ من النخل، أي: ضرب منه، انتهى. وقوله عز وجل: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ... الآية، إعلام بأَنَّ ما أخذ لبني النضير ومن فدك، هو خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها بل على حكم خُمُسِ الغنائم وذلك أَنَّ بني النضير لم يُوجَفْ عليها ولا قوتلت كبير قتال، فأخذ منها صلّى الله عليه وسلّم قُوتَ عيالِهِ، وقَسَمَ سائرها في المهاجرين، وأدخل معهم أبا دُجَانَةَ وسَهْلَ بن حنيف/ من الأنصار لأَنَّهما شكيا فقراً، والإيجاف: سرعة السير، والوجيف دون التقريب يقال: وَجَفَ الفرسُ وأوجفه الراكب.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 32) ، برقم: (33843) ، وذكره البغوي (4/ 316) ، وابن عطية (5/ 285) .

[سورة الحشر (59) : الآيات 8 إلى 9]

وقوله تعالى: مَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... الآية: أهل القرى في هذه الآية: هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب، وذلك أَنَّها فُتِحَتْ في ذلك الوقت من غير إيجاف، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميعَ ذلك للمهاجرين، ولم يحبس منها لنفسه شيئاً، ولم يعط الأنصار شيئاً لغناهم، والقُرْبَى في الآية: قرابته صلّى الله عليه وسلّم مُنِعُوا الصدقةَ فَعُوِّضُوا من الفيء. وقوله سبحانه: كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ: مخاطبة للأنصار لأَنَّهُ لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غَنِيٌّ، والمعنى: كي لا يتداول ذلك المالَ الأغنياءُ بتصرفاتهم، ويبقى المساكينُ بلا شيءٍ، وقد مضى القولُ في الغنائم في سورة الأنفال، ورُوِيَ أَنَّ قوماً من الأنصار تكلّموا في هذه القرى المفتحة، وقالوا: لنا منها سَهْمُنَا، فنزل قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... الآية: فَرَضُوا بذلك، ثم اطَّرَدَ بعد معنى الآية في أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه، حَتَّى قال قوم: إنَّ الخمر مُحَرَّمَةٌ في كتاب اللَّه بهذه الآية، وانتزع منها ابن مسعود لعنة الواشمة، الحديث «1» . ت: وبهذا المعنى يحصل التعميم للأشياء في قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] . [سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 9] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وقوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ: بيان لقوله: وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وكرر لام الجر، لما كانت الجملة الأولى مجرورةً باللام ليبيِّنَ أَنَّ البدل إنَّما هو منها، ثم/ وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم، وتُوجِبُ الشفقة عليهم، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً: يريد به الآخرة والجنة: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي: في الأقوال والأفعال والنِّيَّاتِ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ: هم الأنصار- رضي اللَّه عن جميعهم-، والضمير في مِنْ قَبْلِهِمْ للمهاجرين، والدار هي المدينة، والمعنى: تبوؤوا الدار مع الإيمان، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِمْ فتأمله، قال- ص-: وَالْإِيمانَ منصوب بفعل مُقَدَّرٍ، أي: واعتقدوا الإيمان، فهو من عطف

_ (1) تقدم تخريجه.

الجمل كقوله: [من الرجز] عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... ...... انتهى، وقيل غير هذا، وأثنى اللَّه تعالى في هذه الآية على الأنصار بِأَنَّهُمْ يحبون المهاجرين، وبأَنَّهم يؤثرون على أنفسهم، وبأَنَّهم قد وُقُوا شُحَّ أنفسهم. ت: وروى الترمذيُّ عن أنس قال: «لمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَبْذَلَ لِكَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاساةً في قلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أظهرهم لقد كفونا المئونة، وَأَشْرَكُونَا في الْمِهْنَةِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يذهبوا بالأجر كلّه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لاَ، مَا دَعَوتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» «1» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى، والحاجة: الحسد في هذا الموضع قاله الحسن «2» ، ثم يَعُمُّ بعدُ وُجُوهاً، وقال الثعلبيُّ: حاجَةً أي: حَزَازَةً، وقيل: حسداً مِمَّا أُوتُوا أي: مما أعطي المهاجرون من أموال بَنِي النضير والقرى، انتهى. وقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ: صفة للأنصار، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق، أَنَّها نزلت/ بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيفِ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم إذْ نَوَّمَ صبيانه، وَقَدَّمَ للضيف طعامَه، وأطفأتْ أهلُه السراجَ، وأوهما الضيفَ أَنَّهُمَا يأكلان معه، وباتا طاويين فلمَّا غدا الأنصاريُّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ» «3» ونزلت الآية في ذلك، قال صاحب «سلاح المؤمن» : الرجل الأنصاريّ

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 671) ، كتاب «الأدب» باب: في شكر المعروف (4812) ، والترمذي (4/ 653) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (44) (2487) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 63) ، والبيهقي (6/ 183) ، كتاب «الهبات» باب: شكر المعروف. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) أخرجه الطبري (12/ 41) ، برقم: (33875) ، وذكره ابن عطية (5/ 287) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 337) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 288) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (3) أخرجه البخاري (8/ 500) ، كتاب «التفسير» باب: «والذين تبوؤوا الدار والإيمان» (4889) ، والحاكم (4/ 130) ، والبيهقي (4/ 185) ، كتاب «الزكاة» باب: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وابن الشجري في «أماليه» (1/ 283) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: وهو وهم من الحاكم فقد أخرجه البخاري كما بينا.

[سورة الحشر (59) : الآيات 10 إلى 14]

الذي أضاف هو، أبو طلحة انتهى، قال الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد اللَّه بن عاصم: حدثنا الجمانيُّ: حدثنا صالح المُرِّيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: قال رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ بُدَلاَءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ إنَّما دَخَلُوهَا بِسَلاَمَةِ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ، وَحُسْنِ الخُلُقِ، والرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ» «1» انتهى، والإيثار على النفس أكرم خلق، قال أبو يزيد البسطاميُّ: قدم علينا شاب من بَلْخٍ حاجًّا فقال لي: ما حَدُّ الزهد عندكم؟ فقلت: إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، فقال: هكذا عندنا كلابُ بلخ! فقلت له: فما هو عندكم؟! فقال: إذا فقدنا صَبْرَنَا، وَإذَا وجدنا آثرنا، ورُوِيَ أَنَّ سبب هذه الآية أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا فَتَحَ هذه الْقُرَى قَالَ لِلاٌّنْصَارِ: «إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكْمْ وَدِيَارِكُمْ وَشَارَكْتُمُوهُمْ في هذه الْغَنِيمَةِ، وَإنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ وَتَرَكْتُمْ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ فَقَالُوا: بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَنَتْرُكُ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ، فنزلت الآية، والخصاصة: الفاقَةُ والحاجةُ، وشُحُّ النفس: هو/ كثرةَ طَمَعِهَا. وضبطها على المال، والرغبةُ فيه، وامتدادُ الأمل هذا جماع شُحِّ النفس. وهو داعية كُلِّ خلق سوء، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَأَعْطَى في النَّائِبَةِ- فَقَدْ بَرِىءَ من الشُّحِّ» ، وَإلى هذا الذي قلناه ذهب الجمهور والعارفون بالكلام، وقيل في الشح غير هذا، قال ع «2» : وشُحُّ النفس فَقْرٌ لا يذهبه غِنَى المالِ، بل يزيده، وينصب به ويُوقَ مِنْ وقى يَقِي، وقال الفخر: اعلم أَنَّ الفرق بين الشُّحِّ والبخل هو أَنَّ البخل نفس المنع، والشُّحُّ هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المَنْعَ، ولَمَّا كان الشُّحُّ من صفات النفس لا جَرَمَ، قال اللَّه تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: الظافرون بما أرادوا، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه اللَّه عن أخذه، ولم يمنع شيئاً أمره اللَّه تعالى بإعطائه- فقد وقي شحّ نفسه «3» ، انتهى. [سورة الحشر (59) : الآيات 10 الى 14] وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)

_ (1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 439) ، (10892) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (12/ 188) ، وزاد نسبته إلى الحكيم، وابن أبي الدنيا في كتاب «السخاء» ، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (2/ 259) (2202) ، شاهدا. [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 288) . (3) أخرجه الطبري (12/ 42) ، برقم: (33886) ، وذكره البغوي (4/ 320) ، وابن عطية (5/ 288) .

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... الآية: قال جمهور العلماء: أراد مَنْ يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، وقال الفرَّاءُ: أراد الفرقة الثالثة من الصحابة، وهي مَنْ آمن في آخر مُدَّةِ النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: يَقُولُونَ: حال فيها الفائدة، والمعنى: والذين جاؤوا قائلين كذا، وروت أُمُّ الدرداء، وأبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كان يقول: «دَعْوَةُ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مَوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ مِثْلُهُ» «1» رواه مسلم، انتهى، قال ع «2» : ولهذه الآية قال مالك وغيره: إِنَّه مَنْ كان له في أحدٍ من/ الصحابة رأيُ سوءٍ أو بغض، فلا حَظَّ له في فَيْءِ المسلمين، وقال عبد اللَّه بن يزيد: قال الحسن: أدركت ثلاثمائةٍ مِنْ أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم سبعون بَدْرِيًّا كُلُّهم يحدثني أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ» «3» فالجماعة أَلاَّ تَسُبّوا الصحابة، ولا تماروا في دينِ اللَّه، ولا تُكَفِّرُوا أَحداً من أَهْلِ التوحيد بذنب، قال عبد اللَّه: فَلَقِيتُ أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلةَ وأَنَساً، فكلُّهم يحدثني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثل حديث الحسن، والغِلُّ: الحقد والاعتقاد الرديء. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ ... الآية: نزلَتْ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سلول، ورفاعةَ بن التابوت وقومٍ من منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في معاقلكم، فإنَّا مَعَكُمْ كيفما تقلبت حالُكم، وكانوا في ذلك كاذبين، وإنَّما أرادوا بذلك أَنْ تقوى نُفُوسُهُمْ عسى أَنْ يثبتوا حَتَّى لا يقدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم، فيتمَّ مرادهم، وجاءت الأفعال غيرَ مجزومة في قوله: لا يَخْرُجُونَ ولا يَنْصُرُونَهُمْ لأَنَّها راجعةٌ إلى حكم القسم، لا إلى حكم الشرط، والضمير في

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2095) كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (86، 87/ 2732) ، (88/ 2733) ، (2732/ مكرر) ، وابن ماجه (2/ 966، 977) كتاب: المناسك، باب فضل دعاء الحاج (2895) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 288) . (3) أخرجه أبو داود (2/ 655) ، كتاب «السنة» باب: الخوارج (4758) .

[سورة الحشر (59) : الآيات 15 إلى 17]

صُدُورِهِمْ يعود على اليهود والمنافقين، والضمير في قوله: لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً لبني النضير وجميع اليهود، هذا قول جماعة المفسرين، ومعنى الآية: لا يبرزون لحربكم، وإنَّما/ يقاتلون متحصنين بالقُرَى والجدران للرعب والرهب الكائن في قلوبهم. وقوله تعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: في غائلتهم وإحَنِهِمْ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي: مجتمعين وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي: متفرقة قال ع «1» : وهذه حال الجماعة المتخاذلة، وهي المغلوبةُ أبداً في كُلِّ ما تحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات، وهو التفرق ونحوه. [سورة الحشر (59) : الآيات 15 الى 17] كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) وقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال ابن عباس «2» : همْ بنو قينقاع، لأنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، والوَبَالُ: الشِّدَّةُ والمكروه، وعاقبة السوء والعذاب الأليم: هو في الآخرة. وقوله سبحانه: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ معناه: أَنَّ هاتينِ الفرقتين من المنافقين وبني النضير، كمثل الشيطان مع الإنسان فالمنافقونَ مَثَلُهُمُ الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين «3» إلى أَنَّ الشيطانَ والإنسانَ في هذه الآية اسما جنس، فكما أَنَّ الشيطان يغوي الإنسان، ثم يَفِرُّ عنه بعد أَنْ يُوَرِّطَهُ كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحَرَّضُوهم على الثبوت، ووعدوهم النصرَ، فَلَمَّا نَشَبَ بنو النضير، وكشفوا عن وجوههم- تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص إلى أَنَّ هذا في شيطانٍ مخصوصٍ مع عابد مخصوص، اسمه «بَرْصِيصَا» ، اسْتُودِعَ امرأة جميلةً، وقيل: سِيقَتْ إليه لِيَشْفِيهَا بدعائه من الجنون، فَسَوَّلَ له الشيطانُ الوقوعَ عليها، فحملت منه، فَخَشِيَ الفضيحة، فسَوَّلَ له قَتْلَهَا وَدَفْنَهَا، ففعل، ثم شهّره، فلمّا استخرجت المرأة،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 290) . (2) أخرجه الطبري (12/ 46) ، برقم: (33900) ، وذكره البغوي (4/ 322) ، وابن عطية (5/ 290) ، وابن كثير (4/ 340) . (3) أخرجه الطبري (12/ 48) ، برقم: (33906) ، وابن عطية (5/ 290) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 297) ، وعزاه لعبد بن حميد.

[سورة الحشر (59) : الآيات 18 إلى 20]

وحُمِلَ العابدُ شَرَّ حَمْلٍ، / وَصُلِبَ- جَاءَهُ الشيطانُ فَقَالَ له: اسجد لي سجدةً وأنا أُخَلِّصُكَ، فسجد له، فقال له الشيطان: هذا الذي أردتُ منك أَنْ كفرتَ بربك، إنِّي بريء منك، فضرب اللَّه تعالى هذا المَثَلَ ليهودِ بني النضير والمنافقين، وهذا يحتاج إلى صِحَّةِ سَنَدٍ، والتأويل الأول هو وجه الكلام. ت: قال السهيلي: وقد ذكر هذه القصةَ هكذا القاضي إسماعيلُ وغيره من طريق سفيان عن عمرو بن دينار، عن عُرْوَةَ بنِ عَامِرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزُّرْقِيِّ، عنِ النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنَّ رَاهِباً كَانَ في بَنِي إسرائيل» «1» فذكر القصة بكمالها، ويقال: إنَّ اسمَ هذا الراهب «بَرْصِيصَا» ، ولم يذكر اسمه القاضي إسماعيل، انتهى، قال ع «2» : وقول الشيطان: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رياءً من قوله، وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف اللَّه حَقَّ معرفته، ولا يحجزه خوفُه عن سُوءٍ يوقع فيه ابنَ آدم من أول إلى آخر فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني: الشيطان والإنسان على ما تقدم من حملها على الجنس أو الخصوص. [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... الآية: هذه آية وعظ وتذكير، وتقريبٍ للآخرة، وتحذيرٍ مِمَّنْ لا تخفى عليه خافيةٌ، وقوله تعالى: لِغَدٍ: يريد يوم القيامة، والذين نسوا اللَّه: هم الكفار، والمعنى: تركوا اللَّه وغفلوا عنه، حَتَّى كانوا كالناسين، فعاقبهم بأَنْ [جعلهم] «3» ينسون أنفسهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بالذنب، قال سفيان «4» : المعنى: حَظَّ أنفسهم، ويُعْطِي لفظُ الآية أَنَّ مَنْ عرف نفسه ولم يَنْسَهَا عَرَفَ رَبَّهُ تعالى، وقد قال عليُّ بن أبي طالبٍ «5» ، - رضي اللَّه عنه-: اعْرِفْ نفسك تَعْرِفْ ربك، وروي عنه أَيضاً أَنَّه قال: مَنْ لم يعرفْ نفسه، لم يعْرف ربه.

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 296) ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في «مكائد الشيطان» ، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 290) . (3) سقط في: د. (4) أخرجه الطبري (12/ 50) ، برقم: (33911) ، وابن عطية (5/ 291) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 291) .

[سورة الحشر (59) : الآيات 21 إلى 24]

[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) وقوله/ سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ... الآية: موعظةٌ للإنسان، وَذَمٌّ لأخلاقه وإعراضه وغفلته عن تَدَبُّرِ كلام خالقه، وإذا كان الجبلُ، على عِظَمِهِ وقُوَّتِهِ، لو أُنْزِلَ عليه القرآن وفَهِمَ منه ما فَهِمَهُ الإنسان، لخشع واستكان، وتصدَّع، خشيةً للَّه تعالى-: فالإِنسانُ على حقارته وضَعْفِهِ أولى بذلك، وضرب اللَّه سبحانه هذا المثل ليتفكر فيه العاقلُ، ويخشعَ ويلينَ قلبُهُ. وقوله سبحانه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ الآية: لما قال تعالى: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، جاء بالأوصاف العَلِيَّةِ التي تُوجِبُ لمخلوقاته هذه الخشيةَ، وقرأ الجمهور «1» : «القُدُّوسُ» - بضم القاف- من تَقَدَّسَ إذا تطهَّرَ وتنزَّه. وقوله: السَّلامُ أي: ذو السلام لأَنَّ الإيمان به وتوحيدَه وأفعاله هي لمن آمنَ سلام كلّها، والْمُؤْمِنُ: اسم فاعل من آمن بمعنى أمن من الأمن، وقيل: معناه: المصدّق عباده المؤمنين، والْمُهَيْمِنُ: معناه: الحفيظ والأمين قاله ابن عبّاس «2» ، والْجَبَّارُ: هو الذي لا يدانيه شيءٌ، ولا تُلْحَقُ رتبته، قال الفخر «3» : وفي اسمه تعالى: الْجَبَّارُ وجوه: أحدها: أَنَّه فَعَّالٌ من جَبَرَ إذا أغنى الفقيرَ وجبر الكسير. والثاني: أنْ يكون الجبار من جَبَرَهُ إذا أكرهه قال الأزهريُّ: وهي لغة تميم، وكثيرٌ من الحجازيين يقولونها بغير ألف في الإكراه، وكان الشافعيُّ رحمه اللَّه يقول: جَبَرَهُ السلطانُ على كذا بغير ألف، وجعل الفرَّاءُ الْجَبَّارُ بهذا المعنى من أجبر بالألف، وهي

_ (1) وقرأ بها أبو السمال بفتح القاف، ورويت عن الكسائيّ. قال أبو الفتح: فعول في الصفة قليل، وذكر سيبويه في الصفة السّبّوح، والقدّوس. ينظر: «المحتسب» (2/ 317) ، و «مختصر الشواذ» ص: (155) ، وذكر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 292) أنها رويت عن أبي ذر. وزاد أبو حيان (8/ 249) نسبتها إلى: أبي دينار الأعرابي. [.....] (2) أخرجه الطبري (12/ 53) ، برقم: (33925) ، وذكره ابن عطية (5/ 292) . (3) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (29/ 255) .

اللغة المعروفة في الإكراه، انتهى، والْمُتَكَبِّرُ: معناه: الذي له التكبّر حقّا والْبارِئُ بمعنى: الخالق، والْمُصَوِّرُ: هو الذي يوجد الصورَ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وروى معقل بن يسار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم/ أَنَّه قال: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ ثَلاَثَ آياتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ-: وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، حَتَّى يُمْسِي، وَإنْ مَاتَ في ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيداً، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتَلْكَ الْمَنْزِلَةِ» «1» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، انتهى.

_ (1) أخرجه الترمذي (5/ 182) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: (22) (2922) . قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

تفسير سورة الممتحنة

تفسير سورة الممتحنة وهي مدنيّة بإجماع [سورة الممتحنة (60) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ... الآية: المراد بالعدو هاهنا: كُفَّارُ قريش، وسبب نزول هذه الآية حَاطِبُ بن أبي بلتعة وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أرادَ الخروجَ إلى مَكَّةَ عامَ الحديبية. ت: بل عام فتح مَكَّةَ، فكتب حاطبٌ إلى قوم من كُفَّارِ مَكَّةَ يخبرهم بقصد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن ذلك منه ارتداداً، فنزل الوحي مخبرا بما صنع حاطب، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عَلِيًّا والزبيرَ وثالثاً- قيل هو المقداد- وقال: انطلقوا حَتَّى تأتُوا روضة خاخ، فإنَّ بها ظغينةً معها كتابٌ من حاطبٍ إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فانطلقوا حَتَّى وجدوا المرأة، فقالوا لها: أَخْرِجِي الكتابَ، فقالت: ما معي كتاب! ففتشوا رحلها فما وجدوا شيئاً فقال عليّ: ما كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا كُذِّب، واللَّهِ، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِينَّ الثِّيَابَ، فقالَتْ: أَعْرِضُوا عَنِّي، فَحَلَّتْهُ مِنْ قُرُونِ رأسها، فجاؤوا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ لِحَاطِبٍ: مَنْ كَتَبَ هَذَا؟ فَقَالَ: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ على مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تعجل عليّ فو الله، مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَمَا/ فَعَلْتُ ذَلِكَ ارتدادا عَن دِينِي وَلاَ رَغْبَةً عَنْهُ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ إلاَّ وَلَهُ «1» بِمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وَكُنْتُ امرأ مُلْصَقاً فِيهِمْ، وَأَهْلِي بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَيْهِمْ فَأَرَدْتُ أن أتّخذ عندهم

_ (1) في د: الأول.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 إلى 3]

يدا، فصدّقه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: لاَ تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إلاَّ خَيْراً» «1» وروي أنّ حاطبا كتب: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُرِيدُ غَزْوَكُمْ في مِثْلِ اللَّيْلِ وَالسَّيْلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ، لَوْ غَزَاكُمْ وَحْدَهُ، لَنُصِرَ عَلَيْكُمْ، فَكَيْفَ وهو في جمع كثير؟! - ص-: وتُلْقُونَ مفعوله محذوف، أي: تلقون إليهم أخبارَ الرسول وأسراره، وبِالْمَوَدَّةِ: الباء للسبب، انتهى. وقوله تعالى: أَنْ تُؤْمِنُوا: مفعول من أجله، أي: أخرجوكم من أجل أنْ آمنتم بربكم. وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ: شرط، جوابُهُ متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: إنْ كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياءَ، وجِهاداً منصوب على المصدر، وكذلك ابْتِغاءَ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك مفعولاً من أجله، والمرضاة: مصدر كالرضى وتُسِرُّونَ حال من تُلْقُونَ، ويجوز أنْ يكون في موضع خبر ابتداء، كأَنَّهُ قال: أنتم تُسِرُّونَ، ويصحّ أن يكون فعلا ابتدئ به القول. وقوله تعالى: أَعْلَمُ يحتمل أنْ يكون أفعل، ويحتمل أنْ يكون فعلاً لأَنَّكَ تقول: علمت بكذا فتدخل الباء. - ص-: والظاهر أَنَّه أفعل تفضيل ولذلك عُدِّيَ بالباء، انتهى، وسَواءَ يجوز أنْ يكون مفعولاً ب ضَلَّ على تعدي «ضل» ، ويجوز أنْ يكون ظرفاً/ على غير التعدي لأَنَّهُ يجيء بالوجهين، والأوَّلُ أحسن في المعنى، والسواء: الوسط، والسَّبِيلِ: هنا شرع الله وطريق دينه. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 الى 3] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) وقوله سبحانه: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ... الآية: أخبر تعالى أَنَّ مُدَارَاةَ هؤلاء الكفرة غيرُ نافعة في الدنيا، وأَنَّها ضارَّةٌ في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم،

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 166) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الجاسوس (3007) ، وأطرافه (3081، 3983، 4274، 4890، 6259، 6939) ، ومسلم (4/ 1941- 1942) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، وقصة حاطب من أبي بلتعة (161، 161/ 2494) ، وأبو داود (2/ 54) ، كتاب «الجهاد» باب: في حكم الجاسوس إذا كان مسلما (2650) ، والترمذي (5/ 697) ، كتاب «المناقب» باب: (59) (3864) .

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 إلى 5]

فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: إنْ يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت عداوتهم، وانبسطت إليكم أيديهم بِضَرَرِكُمْ وَقَتْلِكُمْ، وانبسطت ألسنتُهم بسبِّكم، وأَشَدُّ من هذا كله إنَّما يقنعهم أَنْ تكفروا، وهذا هو ودهم، ثم أخبر تعالى أنَّ هذه الأرحامَ التي رغبتم في وصلها، ليستْ بنافعة يومَ القيامة، فالعامل في يَوْمَ قوله تَنْفَعَكُمْ، وقيل: العامل فيه يَفْصِلُ وهو مِمَّا بعده لا مِمَّا قبله، وعبارةُ الثعلبيِّ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قرابتكم منهم وَلا أَوْلادُكُمْ: الذين عندهم بمكة يَوْمَ الْقِيامَةِ: إذا عصيتم اللَّه من أجلهم يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ: فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النارَ، انتهى. ت: وهذه الآيةُ تُنظر إلى قوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ... [سبأ: 37] الآية: واعلم أنَّ المال والسبب النافع يوم القيامة، ما كان لِلَّهِ وقُصِدَ به العونُ على طاعة اللَّه، وإلاَّ فهو على صاحبه وَبَالٌ وطولُ حساب، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن الحارث يُحَدِّثُ عن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن عمرو بن/ العاصي أَنَّه سمعه يقول: ويجمعون- يعني ليوم القيامة- فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينُها؟ فيبرزون، فَيُقَالُ: ما عندكم؟ فيقولون: يا رَبَّنَا، ابْتُلِينَا فَصَبِرْنَا، وأنت أعلم، أحسبه، قال: ووليت الأموال والسلطانَ غَيْرَنا، فيقال: صدقتم، فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان، وتبقى شِدَّةُ الحساب على ذَوِي السلطان والأموال، قال: قلت: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسيُّ من نور، ويُظَلِّلُ عليهم الغمامُ، ويكون ذلك اليومُ أقصرَ عليهم من ساعة من نهار، انتهى، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: وعيد وتحذير. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 5] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) وقوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ أي: قدوة فِي إِبْراهِيمَ: الخليل وَالَّذِينَ مَعَهُ: قيل: مَنْ آمن به مِنَ الناس، وقال الطبريُّ وغيره «1» : الَّذِينَ مَعَهُ: هم الأنبياء المعاصرون له أو قريباً من عصره، قال ع «2» : وهذا أرجح لأَنَّهُ لم يرو أنّ لإبراهيم

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (12/ 59) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 295) .

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 6 إلى 7]

أتباعاً مؤمنين في وقتِ مكافحته نمروداً، وفي البخاريِّ: أنه قال لسارةَ حين رحل بها إلى الشام مهاجراً من بلد النمرود: ما على الأرض مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ غيري وغيرُك، وهذه الأُسْوَةُ مُقَيَّدَةٌ في التبري من المشركين وإشراكهم، وهو مُطَّرِدٌ في كل مِلَّةٍ، وفي نبينا مُحَمَّدٍ- عليه السلام- أسوةٌ حسنةٌ على الإطلاق في العقائد وفي أحكام الشرع كُلِّها. وقوله: كَفَرْنا بِكُمْ: أي: كذبناكم في عبادتكم الأصنامَ. وقوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ يعني: تأسوا بإبراهيم، إلاَّ في استغفاره لأبيه، فلا تتأسوا به فتستغفروا للمشركين، لأَنَّ استغفاره إنَّما كانَ عَنْ موعدةِ وعدها/ إيَّاهُ وهذا تأويل قتادة، ومجاهد، وعطاءِ الخُرَاسَانِيِّ وغيرهم «1» . وقوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو حكاية عن قول إبراهيم والذين معه، وهذه الألفاظ بَيِّنَةٌ مِمَّا تقدم في آي القرآن. وقوله: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً قيل: المعنى: لا تغلبهم علينا، فنكونَ لهم فتنةً وسَبَبَ ضلالةٍ نحا هذا المنحى قتادةُ وأبو مِجْلَزٍ» ، وقد تقدم مُسْتَوفًى في سورة يونس، وقال ابن عباس «3» : المعنى: لا تسلِّطْهم علينا فيفتنونا عَنْ أدياننا، فكأَنَّه قال: لا تجعلنا مفتونين، فَعَبَّرَ عن ذلك بالمصدر، وهذا أرجح الأقوال لأَنَّهُمْ إنَّما دعوا لاًّنْفُسِهِم، وعلى منحى قتادة: إنما دعوا للكفار، أَمَّا أَنَّ مقصدَهم إنما هو أَنْ يندفع عنهم ظهورُ الكُفَّارِ الذي بسببه فِتَنُ الكُفَّارِ، فجاء في المعنى تحليق بليغ. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 6 الى 7] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) وقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ [فِيهِمْ] «4» أي: في إبراهيم والذين معه، وباقي الآية

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 60) عن مجاهد برقم: (33941) وعن قتادة برقم: (33943) ، وذكره ابن عطية (5/ 295) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 304) ، وعزاه لعبد بن حميد. (2) أخرجه الطبري (12/ 61) ، برقم: (33947) ، وذكره ابن عطية (5/ 296) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 304) ، وعزاه لعبد بن حميد. (3) أخرجه الطبري (12/ 61) ، برقم: (33948) ، وذكره ابن عطية (5/ 296) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 304) ، وعزاه لابن المنذر، والحاكم وصححه. (4) سقط في: د.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 إلى 11]

بَيِّنٌ، وروي أَنَّ هذهِ الآياتِ لما نزلت، وَعَزَمَ المؤمنون على امتثالها، وَصَرْمِ حِبَالِ الكَفَرَةِ- لحقهم تَأَسُّفٌ وهمٌّ من أَجل قراباتهم إذ لم يؤمنوا، ولم يهتدوا، حَتَّى يكونَ بينهم التوادُدُ والتواصُلُ، فنزلت: عَسَى اللَّهُ ... الآية: مؤنسةً في ذلك، ومُرْجِيةً أَنْ يقعَ، فوقع ذلك بإسلامهم في الفتح، وصار الجميعُ إخواناً، وعسى من اللَّه واجبةُ الوقوع. ت: قد تقدم تحقيقُ القولِ في عَسَى في سورة القصص، فأغنى عن إعادته. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 11] لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) وقوله تعالى: لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ.... الآية: اختلف في هؤلاء الذين لم يَنْهَ عنهم أنْ يُبَرُّوا، فقيل: أراد المؤمنين التاركين للهجرة، وقيل: خُزَاعَةَ وقبائلَ من العرب، كانوا مظاهرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم/ ومُحِبِّينَ لظهوره، وقيل: أراد النساءَ والصبيان من الكَفَرَةِ، وقيل: أراد مِنْ كُفَّارِ قريش مَنْ لم يقاتلْ ولا أخرج، ولم يُظْهِرْ سُوءاً وعلى أَنَّها في الكفار فالآية منسوخةٌ بالقتال، والذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم هم مَرَدَةُ قريش. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الآيةُ نزلَتْ إثرَ صلح الحديبية وذلك أَنَّ ذلك الصلحَ تَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أتى مُسْلِماً من أهل مَكَّةَ، رُدَّ إليهم، سَواءٌ كان رجلاً أو امرأةً، فَنَقَضَ اللَّهُ تعالى من ذلك أَمْرَ النساء بهذه الآية، وحكم بأَنَّ المهاجرة المؤمنةَ لا تردّ إلى دار الكفر، وفَامْتَحِنُوهُنَّ: معناه: جربوهن واستخبروا حقيقةَ ما عندهنَّ. وقوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ إشارة إلى الاسترابة ببعضهنَّ. ت: وقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ... الآية: العلم هنا: بمعنى الظن، وذكر اللَّه تعالى العِلَّةَ في أَلاَّ يُرَدَّ النساءُ إلى الكُفَّارِ وهو امتناعُ الوطء وحُرْمَتُهُ.

وقوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ... الآية: أمر بأَنْ يؤتى الكُفَّارُ مهورَ نسائهم التي هاجرنَ مؤمناتَ، ورفع سبحانه الجناحَ في أَنْ يتزوجنَ بصدقاتٍ هي أجورهِن، وأمر المسلمين بفراق الكافراتِ وأَلاَّ يتمسكوا بعصمهن، فقيل: الآية في عابداتِ الأوثان ومَنْ لا يجوزُ نكاحُها ابتداءً، وقيل: هي عامَّةٌ نُسِخَ منها نساءُ أهل الكتاب، والعِصَمُ: جمع عِصْمَة، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وأمر تعالى أَنْ يسأل أيضاً المؤمنون: ما أنفقوا؟ فرُوِيَ عنِ ابن شهاب أَنَّ قريشاً لَمَّا/ بلغهم هذا الحكم، قالوا: نحن لا نرضى بهذا الحكم، ولا نَلْتَزِمُهُ، ولا ندفع لأحد صَدَاقاً، فنزلت بسبب ذلك هذه الآيةُ الأخرى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ... الآية: فأمر اللَّه تعالى المؤمنين أنْ يدفعوا إلى مَن فَرَّتْ زوجتُه ففاتتْ بنفسها إلى الكُفَّارِ صَدَاقَهُ الذي أنفق، واخْتُلِفَ: مِنْ أَيِّ مَالٍ يُدْفَعُ إليه الصَّدَاقُ؟ فقال ابن شهاب «1» : يُدْفَعُ إليه من الصدقات التي كانت تُدْفَعُ إلى الكفار بسبب مَنْ هاجر من أزواجهم، وأزال اللَّه دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه، قال ع «2» : وهذا قول صحيح يقتضيه قوله: فَعاقَبْتُمْ وقال قتادة «3» وغيره: يُدْفَعُ إليه من مغانم المغازي، وقال هؤلاء: التعقيب هو الغزو والمغنم، وقال ابن شهاب «4» أيضاً: يدفع إليه مِنْ أيِّ وجوه الفيء أمكن، والمعاقبة في هذه الآية ليستْ بمعنى مجازاة السوء بسوءٍ، قال الثعلبي: وقرأ مجاهد: «فَأَعْقَبْتُمْ» «5» وقال: المعنى: صنعتم بهم كما صنعوا بكم، انتهى، قال ع «6» : أي: وذلك بأنْ يفوت إليكم شيء من أزواجهم، وهكذا هو التعاقب على الجَمَلِ والدَّوَابِّ أنْ يركبَ هذا عقبة وهذا عقبة، ويقال: عاقب الرجلُ صاحِبَه في كذا، أي: جاء فِعْلُ كُلِّ واحد منهما بعقب فعل الآخر، وهذه الآية كلّها قد ارتفع حكمها.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 71) ، برقم: (33994) ، وذكره ابن عطية (5/ 298) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 293) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 309) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير، وابن المنذر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 298) . (3) أخرجه الطبري (12/ 72) ، برقم: (34000) ، وذكره ابن عطية (5/ 298) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 293) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 309) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. [.....] (4) أخرجه الطبري (12/ 72) ، برقم: (34003) ، وذكره ابن عطية (5/ 298) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 352) . (5) وقرأ بها الحسن. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (156) ، و «المحتسب» (2/ 320) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 298) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 298) .

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 إلى 13]

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... الآية: هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على الصَفَا، وهي كانت في المعنى بَيْعَةِ الرجال قَبْلَ فرض القتال. ت: وخرَّج البخَاريُّ بسنده عن عائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ/ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بهذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ الآية «1» . وكذا روى البخاريُّ من طريق ابن عباس أَنَّهُ ع تَلاَ عَلَيْهِنَّ الآيةَ يَوْمَ الْفِطْرَ عَقِبَ الصَّلاَةِ «2» ، وَنَحْوُهُ عن أُمِّ عطيةَ في البخاري: «وَقَرَأَ عَلَيْهِنَّ الآيَةَ أيْضاً في ثَانِي يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ» «3» وكلام ع: يُوهِمُ أَنَّ الآيةَ نزلت في بيعة النساء يومَ الفتح، وليس كذلك وإنَّما يريد أَنَّه أعاد الآيةَ على مَنْ لم يبايعه من أهل مَكّة لِقُرْبِ عهدهم بالإسلام، واللَّه أعلم، والإتيان بالبهتان: قال أكثر المفسرين: معناه أنْ تَنْسِبَ إلى زوجها ولداً ليس منه، قال ع «4» : واللفظ أَعَمُّ من هذا التخصيص. وقوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: يعم جميع أوامر الشريعة، فَرْضَهَا وَنَدْبَهَا، وفي الحديث: «أَنَّ جَمَاعَةَ نُسْوَةٍ قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى كَذَا وَكَذَا الآية، فلمّا فرغن قال صلّى الله عليه وسلّم: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ، فَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا لأَنْفُسِنَا» «5» . وقوله تعالى: فَبايِعْهُنَّ أي: أمض لَهُنَّ صفقة الإيمان بأنْ يُعْطِينَ ذلك من أنفسهن، ويُعْطَيْنَ عليه الجَنَّةَ، واخْتُلِفَ في هيئة مبايعته صلّى الله عليه وسلّم النساءَ بعد الإجماع على أَنَّهُ لم تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ امرأة أجنبيَّةٍ قَطُّ والمرويُّ عن عائشةَ وغيرِها: «أَنَّهُ بَايَعَ بِاللِّسَانِ قَوْلاً، وقال: إنّما قولي

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 504) ، كتاب «التفسير» باب: إذا جاءك المؤمنات مهاجرات (4891) ، (7/ 52) ، كتاب «المغازي» باب: غزوة خيبر (4182) ، ومسلم (3/ 1489) ، كتاب «الإمارة» باب: كيفية بيعة النساء (88/ 1866) ، وابن ماجه (2/ 959- 960) ، كتاب «الجهاد» باب: بيعة النساء (2875) ، وأحمد (6/ 270) . (2) أخرجه البخاري (4895) . (3) أخرجه البخاري (4892) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 299) . (5) أخرجه ابن ماجه (2/ 959) ، كتاب «الجهاد» باب: بيعة النساء (2874) .

لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» «1» . وقَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: هم اليهود في قول ابن زيد وغيره «2» ، ويأسهم من الآخرة: هو يأسهم من نعيمها مع التصديق بها، وقال ابن عباس «3» : قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: في هذه الآية/ كُفَّارُ قريش. وقوله: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ: على هذا التأويل هو على ظاهره في اعْتِقَادِ الكَفَرَةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ حَمِيمٌ قَالوا: هَذَا آخِرُ العَهْدِ به لا يبعث أبدا.

_ (1) ينظر: حديث عائشة السابق في المبايعة. (2) ذكره ابن عطية (5/ 300) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 300) .

تفسير سورة الصف

تفسير سورة الصفّ وهي مدنيّة في قول الجمهور وقيل: مكّيّة والأوّل أصحّ: لأنّ معاني السّورة تعضده ويشبه أن يكون فيها المكّيّ والمدنيّ. [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قد تقدَّمَ تفسيرُه، واخْتُلِفَ في السببِ الذي نزلتْ فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ فقال ابن عباس وغيره: نزلتْ بسببِ قَوْمٍ قالوا: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ العَمَلِ إلى اللَّهِ تعالى لسَارَعْنَا إليه، ففرضَ اللَّهُ الجهادَ وأعلَمَهُمْ بفَضْلِه وأَنَّهُ يُحِبُّ المقَاتِلينَ في سبيله كالبنيانِ المَرْصُوصِ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ منهم، وفَرُّوا يومَ الغزوِ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ تعالى بهذه الآية «1» ، وقال قتادة والضحاك: نزلتْ بسببِ جماعةٍ من شبابِ المسلمينَ كانوا يَتَحَدَّثُونَ عن أنفسِهم في الغزو بما لم يفعلوا «2» ، قال ع «3» : وحُكْمُ هذهِ الآيةِ بَاقٍ غَابِرَ الدهرِ، وكلَّ مَنْ يقولُ ما لا يفعلُ فهو مَمْقُوتُ الكلامِ، والقولُ الأولُ يَتَرَجَّح بِمَا يأتي [من أمْرِ] «4» الجهادِ والقتالِ، والمقتُ البغضُ، مِن أجل ذنبٍ، أو رِيبَةٍ، أو دناءة يصنعها الممقوت، وقول المرء

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 79) ، برقم: (34043) ، وذكره ابن عطية (5/ 301) ، وابن كثير (4/ 358) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 317) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن مردويه. (2) أخرجه الطبري (12/ 79) ، برقم: (34046) ، (34048) ، وذكره البغوي (4/ 337) ، وابن كثير (4/ 358) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 301) . [.....] (4) في د: بأمر.

[سورة الصف (61) : الآيات 4 إلى 9]

مَا لا يفعلُ مُوجِبٌ مَقْتَ اللَّهِ تعالى، ولذلك فرَّ كثيرٌ من العلماءِ عَنِ الوَعْظِ والتذكيرِ وآثرُوا السكوتَ، /- قلت-: وهَذا بحسَبِ فِقْهِ الحالِ إنْ وَجَدَ الإنْسانُ مَنْ يكفِيه هذه المئونة في وقتهِ، فَقَدْ يَسَعُه السكوتُ وإلا فَلاَ يسعُه، قال الباجي في «سنن الصالحين» له: قال الأصمعي: بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الحكماءِ كَانَ يقول: إني لأَعظكُم وإنّي لَكَثيرُ الذنوبِ، وَلَوْ أن أحَداً لاَ يَعِظُ أخاه حَتَّى يُحْكِمَ أَمْرَ نَفْسِهِ لتُرِكَ الأَمْرُ بالخيرِ، واقْتُصِرَ عَلى الشَّرِّ، ولكنَّ محادثةَ الإخوانِ حياةُ القلوبِ وجَلاَء النُّفُوسِ وتَذْكِيرٌ مِنَ النسيانِ، وقال أبو حازم: إني لأعظ الناسَ وما أنا بموضعٍ للوَعْظِ «1» ، ولكنْ أريدُ به نَفْسِي، وقَالَ الحسنُ لمطرف: عِظْ أصْحَابَكَ، فَقَالَ: إنِّي أخافُ أنْ أقولَ ما لا أفعل فقالَ: رحمك اللَّه وأيُّنَا يَفْعَلُ ما يقول، وَدَّ الشيطانُ أنه لَو ظَفَرَ منكم بهذهِ فَلَمْ يأمُرْ أحدٌ منكم بمعروف، ولم ينه عن منكر، انتهى. [سورة الصف (61) : الآيات 4 الى 9] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ... الآية، قال معاذ بن جبل: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ له الجنة، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ القَتْلَ مِنْ نَفْسِهِ صَادِقاً، ثُمَّ مَاتَ أو قتل فإنّ له أجر شهيد» «2» ،

_ (1) في د: للموعظ. (2) أخرجه أبو داود (2/ 25) ، كتاب «الجهاد» باب: فيمن سأل الله تعالى الشهادة (2541) ، والترمذي (4/ 183) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء فيمن سأل الشهادة (1654) مختصرا، والنسائي (6/ 25- 26) ، كتاب «الجهاد» باب: ثواب مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ (3141) ، وابن ماجه (2/ 933- 934) ، كتاب «الجهاد» باب: القتال في سبيل الله سبحانه (2792) ، والحاكم (2/ 77) ، وابن حبان (10/ 478- 479) ، كتاب «السير» باب: فضل «الجهاد» : ذكر إيجاب الجنة لمن قاتل في سبيل الله قل ثباته فيه أو كثر (4618) مختصرا، وأخرجه البيهقي (9/ 170) ، كتاب «السير» باب: تمني الشهادة ومسألتها، وأحمد (5/ 230- 231، 235، 243- 244) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (5/ 255) ، كتاب «الجهاد» باب: الفرار من الزحف (9534) ، والدارمي (2/ 201) ، كتاب «الجهاد» باب: مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ. -

مختصر رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: هَذَا حديثٌ صحيحٌ انتهى من «السلاح» ، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى مقَالَةَ مُوسَى، وذلك ضربُ مَثَلٍ للمؤمنينَ ليحذَرُوا مَا وَقَعَ فيه هؤلاء من العصيانِ وقولِ الباطل. وقوله: لِمَ تُؤْذُونَنِي أي: بتعنيتِكم وعصيانِكم واقْتِرَاحَاتِكُم، وأسْنَدَ الزيغَ إليهم لكونهِ فعلَ حطيطَةٍ، وهذا بخلافِ قوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: 118] فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إليه سبحانَه لِكَوْنِهَا فعلَ رِفْعَةٍ، و «زاغ» معناه مَالَ وصار عرفها في الميل عن الحق، وأَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ معناه طَبَعَ عليْهَا وكثُرَ مَيْلُها عنِ الحقِّ وهذهِ هي العُقُوبَةُ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ. وقوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ قال عياض في «الشفا» : سَمَّى اللَّه تعالى نبيَّه في كتابه محمداً وأحمدَ فأما اسمه أحمد، ف «أَفْعَلُ» مبالغةً من صفةِ الحَمْدِ، ومُحَمَّد «مُفَعَّل» من كثرةِ الحمدِ، وسمى أمَّته في كتب أنبيائِه بالحمَّادينَ ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصِه سبحانه وبدائع آياته أنه سبحانه حَمَى أن يتسمَّى بهما أَحَدٌ قَبْلَ زمانِه، أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشَّرَتْ به الأنبياء فمنع سبحانه أن يَتَسَمَّى به أحد غيرُه حتى لا يدخلَ بذلكَ لَبْسٌ عَلى ضعيفِ القلبِ وكذلك محمَّد أيضاً لم يَتَسَمَّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شَاعَ قبيل وجوده صلّى الله عليه وسلّم وميلادِه أَنَّ نبيًّا يبعثُ اسمهُ محمد فسمَّى قومٌ قليلٌ من العرب أبناءَهم بذلك رجاءَ أَنْ يكونَ أحدُهم هو، وهُم محمد بن أحيحة الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان باليمن، ويقولون: بل محمد بن اليحمد من الأزد، ومحمد بن سوادة منهم لا سابعَ لهم، ولم يَدَّعِ أحد من هؤلاء النبوَّة أو يظهرْ عليْهِ سببٌ يشكِّكُ الناس، انتهى، وروى أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قَالَ: «لاَ تُسَمُّوا أَوْلاَدَكُمْ مُحَمَّداً ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ» «1» ، رواه الحاكم/ في «المستدركِ» ، انتهى من «السلاح» . وقوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ ... الآية: يحتمل أن يريد «عيسى» ويحتمل

_ - قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وله إسناد صحيح على شرط الشيخين مختصرا. وفي الباب: شاهد عن عمرو بن عنبسة، أخرجه أحمد (4/ 387) ، (6/ 443- 444) عن أبي الدرداء. (1) ذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 51) ، وقال: رواه أبو يعلى، والبزار، وفيه الحكم بن عطية، وثقه ابن معين، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال «الصحيح» .

[سورة الصف (61) : الآيات 10 إلى 12]

أن يريد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه تقدّم ذكره، ت: والأول أظهر. [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ ... الآية: نَدْبٌ وَحَضٌّ على الجِهادِ بهذهِ التجارةِ التي بَيَّنَهَا سبحانه، وهي أن يبذلَ المرءُ نفسَه ومالَه، ويأخذ ثمناً جنةَ الخلدِ، وقرأ ابن عامر «1» وحده: «تُنَجِّيكُمْ» - بفتحِ النونَ وَشَدِّ الجيم-. وقوله: تُؤْمِنُونَ معناه: الأمر، أي: آمنوا، قال الأخفش: ولذلكَ جاء «يَغْفِرْ» مجزُوماً، وفي مصحفِ ابن مسعودٍ: «آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا» . وقوله: ذلِكُمْ إشارة إلى الجهاد والإيمان، وخَيْرٌ هنا يحتملُ أَن يكونَ للتفضِيل، فالمَعْنَى: من كل عمل، ويحتملُ أن يكون إخباراً أنَّ هذا خيرٌ في ذاتهِ، ومَساكِنَ عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ وَطِيبُ المسَاكِنِ، سِعَتُها وجمالُها، وقيل: طِيبُها المعرفة بدوام أمرها. [سورة الصف (61) : الآيات 13 الى 14] وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) وقوله سبحانه: وَأُخْرى تُحِبُّونَها ... الآية، قال الأخفش، وَأُخْرى هي في موضع خَفْضٍ عطفاً على تِجارَةٍ، وهَذَا قَلِقٌ، وقد ردَّه الناس، لأنَّ هذه الأُخْرَى ليستْ مِمَّا دَلَّ عليه سبحانه إنما هي مما أُعْطِيَ ثمناً وجزاءً على الإيمانِ والجهادِ بالنفس والمَالِ، وقَالَ الفَرَّاء: وَأُخْرى في موضِع رفعٍ، وقيل: في موضع نصبٍ بإضمار فعل تقديرُه: ويدخلكم جناتٍ ويمنحْكُم أُخْرَى وهي النصرُ والفتحُ القريب، وقصةُ عِيسَى مع بني إسرائيل قد تقدَّمت. وقوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ قِيلَ ذلك قبل محمد- عليه السلام-/ وَبَعْدَ فترةٍ منْ رفعِ عِيسَى رَدَّ اللَّهُ الكَرَّةَ لمنْ آمن بهِ فَغَلبُوا الكَافرينَ الذين قَتَلُوا صَاحِبَه الذي ألقيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ، وقيل: المعنى فأصبحوا ظاهرين بالحجةِ.

_ (1) ينظر: القرطبي (18/ 57) ، وابن عطية (5/ 304) ، و «البحر المحيط» (8/ 260) .

تفسير سورة الجمعة

تفسير سورة الجمعة وهي مدنيّة [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقدَّم القولُ في مثلِ ألفاظِ الآيةِ، والمرادُ بالأمِّيِّينَ جميعُ العربِ، واخْتُلِفَ في المعنيين بقوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ فقال أبو هريرةَ وغيره: أراد فارس «1» «وقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَنِ الآخَرُونَ؟ فَأَخَذَ بيدِ سُلَيْمَانَ، وقال: لَوْ كَانَ الدِّينُ في الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاَءِ» خرَّجه مسلم والبخاريّ «2» ، وقال ابن زيدٍ ومجاهدٌ والضحاكُ وغيرهم: أرادَ جميعَ طوائِفِ الناس «3» ، فقوله: مِنْهُمْ على هذين القولين إنما يُرِيدُ في البشريةِ والإيمانِ، وقال مجاهد أيضاً وغيره: أراد التابعين من أبناء العرب، فقوله: مِنْهُمْ يُرِيدُ في النَّسَبِ والإيمان. وقوله: لَمَّا يَلْحَقُوا نَفْيٌ لما قَرُبَ مِنَ الحَالِ، والمَعْنَى أنهم مُزْمِعُونَ أنْ يلحقوا، فهي «لَمْ» زِيدَتْ عَلَيْهَا «ما» تأكيدا. والَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ هم بنو إسرائيل الأحبارُ المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وحُمِّلُوا معناه كُلِّفُوا القيامَ بأوامرِها ونواهيها، فهذا كما حُمِّلَ الإنسانُ الأمانَةَ، وذكر تعالى أنهم لم يحملوها، أي: لم يُطِيعُوا أمْرَها ويَقِفُوا عند حدودها حين كذّبوا نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، والتوراة

_ (1) أخرجه البخاري حديث (4897) . (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه الطبري (12/ 90- 91) ، برقم: (34088) ، (34089) عن ابن زيد، ومجاهد، وغيرهم، وذكره ابن عطية (5/ 307) ، والبغوي (4/ 339) ، وابن كثير (4/ 363) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 321) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 6 إلى 8]

تنطقُ بنبوتهِ، فكان كلُّ حَبْرٍ لم ينتَفِعْ بما حُمِّلَ كَمَثَلِ حِمَارٍ عليه أسفارٌ، وفي مصحف ابن مسعود «1» «كَمَثَلِ حِمَارٍ» بِغَيْرِ تعريفٍ، والسِّفْرُ الكتَابُ المجتمعُ الأوراقِ منضدة. وقوله: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ التقدير: بِئْسَ المثلُ مثلُ القومِ الذين كذبوا بآياتِ اللَّه، - ص-: وَرُدَّ بأَنَّ فيه حذف الفاعلِ ولا يجوزُ، والظاهرُ أنَّ مَثَلُ الْقَوْمِ فاعل بِئْسَ، والَّذِينَ كَذَّبُوا هو المخصوصُ بالذَّمِّ على حذف مضافٍ أي: مثل الذين كذّبوا، انتهى. [سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 8] قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ ... الآية، رُوِيَ أنها نزلتْ بسبب أنَّ يهودَ المدينةِ لَمَّا ظَهَرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خَاطَبُوا يهودَ خيبرَ في أمره، وذكرُوا لهم نبوَّتَه، وقالوا إن رأيتم اتَّبَاعَهُ أطَعْنَاكُمْ وإنْ رأيتم خِلاَفَه خَالَفْنَاه معكم، فجاءهَم جوابُ أهْلِ خيبرَ يقولونَ: نحن أبناءُ إبراهيمَ خليلِ الرحمن وأبناءُ عزيرِ بنُ اللَّهِ ومنا الأنبياءُ، ومتى كَانَتْ النبوةُ في العرب؟، نحن أحقُّ بالنبوةِ من محمدِ، ولا سبيلَ إلى اتباعهِ، فنزلتِ الآيةَ بمعنى: أنكم إذا كنتم منَ اللَّهِ بهذه المنزلةِ فَقُرْبُهُ وفراقُ هذه الحياةِ الخسيسةِ أحبُّ إليكم، فَتَمَنَّوْا الموتَ إن كنتم تَعْتَقِدُون في أنفسِكم هذه المنزلة، ثم أخبر تعالى أنهم لا يتمنونه أبداً لعلمِهم بسوءِ حالِهم، ورَوَى كثيرٌ من المفسرينَ أن اللَّه- جَلَّتْ قُدْرَتُه- جَعَلَ هذه الآيةَ معجزةً لمحمدٍ نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم فِيهم، فَهِيَ آيةٌ باهرةٌ وأعلَمَه أنه إن تمنى أحدٌ منهمُ الموتَ في أيام معدوداتٍ مات وفارق الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تَمَنّوُا الموتَ، على جهةِ التعجيزِ وإظهار الآيةِ، فما تَمَنَّاهُ أحد منهم خَوْفاً/ من الموتِ وثقة بصدق نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية، النداء: الأذانُ، وكان على الجِدَارِ في مسجدِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي «مصنف أبي داودَ» : كَانَ بَيْنَ يَدَي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (156) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 307) ، و «البحر المحيط» (8/ 263) ، و «الدر المصون» (6/ 316) .

وهو عَلى المنبر أذَانُ، ثم زادَ عثمانُ النداءَ عَلَى الزوراء ليسمعَ الناسُ. ت: وفي البخاريّ والترمذيِّ وصححه عن السائبِ بن يزيد قَالَ: كَانَ النداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلُه إذا جَلَسَ الإمام على المنبر على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكرٍ وعمرَ، فلما تَوَلَّى عثمانُ وكثرَ الناسُ، زَادَ الأذَانَ الثالثَ فأَذَّنَ به على الزَّورَاءِ «1» ، فَثَبَتَ الأَمْرُ على ذلك «2» ، قِيل: فقوله «الثالثَ» يَقْتَضِي أنَّهمُ كَانُوا ثلاثةً، وفي طريقٍ آخرَ «الثاني» بدَلَ «الثالث» وهو يَقْتَضِي أَنَّهُمَا اثنانِ، انتهى، وخرَّجَ مسلم عن أبي هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من اغتسل، ثمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فصلى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثم أَنْصَتَ لِلإمَامِ حتى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى، وَفَضَلُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ» «3» انتهى، وخرَّجَهُ البخاريُّ من طريقِ سُلَيْمَان. وقوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قال ابن هشام: «من» مرادفةِ «في» ، انتهى. وقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ... الآية، السعِيُ في الآيةِ لاَ يُرَادُ به الإسْرَاعُ في المشي، وإنما هو بمعنى قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النجم: 39] فالسَّعْيُ هو بالنِّيةِ والإرَادَةِ والعَمَلِ مِنْ وُضُوءٍ، وغُسْلٍ، وَمَشْيٍ، ولُبْسِ ثوبٍ كُلُّ ذلكَ سَعْيٌ، وَقَدْ قَالَ مالكٌ وغيره: إنما تُؤْتَى الصلاةُ بالسَّكِينَةِ، ت: وهو نصُّ الحديثِ الصحيحِ، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة: / «فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا [و] عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ» ، ت: والظاهرُ أنَّ المرادَ بالسعيِ هُنا المُضِيُّ إلى الجمعةِ، كما فسَّره الثعلبيُّ، ويدلُّ على ذلكَ إطلاقُ العلماءِ لفظَ الوجوبِ عَلَيْهِ، فيقولونَ السَّعْيُ إلَى الجمعةِ واجبٌ، ويدلُّ عَلَى ذلك قراءةُ عمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وابن عمر وابنِ عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين «4» :

_ (1) الزّوراء: دار عثمان بن عفان بالمدينة. وقيل: موضع عند سوق المدينة قرب المسجد. ينظر: «مراصد الاطلاع» (674) . (2) أخرجه البخاري (2/ 461) ، كتاب «الجمعة» باب: التأذين عند الخطبة (916) ، وأبو داود (1/ 352- 353) ، كتاب «الصلاة» باب: النداء يوم الجمعة (1087) ، والترمذي (2/ 392) ، كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في أذان الجمعة (516) ، والنسائي (3/ 100- 101) ، كتاب «الجمعة» باب: الأذان للجمعة (1392) ، (1393- 1394) نحوه، وابن ماجه (1/ 359) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: ما جاء في الأذان يوم الجمعة (1135) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) تقدم تخريجه. (4) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (157) ، و «المحتسب» (2/ 322) ، و «الكشاف» (4/ 534) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 309) ، و «البحر المحيط» (8/ 265) . [.....]

«فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ» وقال ابن مسعود: لَوْ قَرَأْتُ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لأَسْرَعْتُ حَتَّى يَقَع رِدَائي، وقال العِرَاقِيُّ: فَاسْعَوْا معناه بَادِروا، انتهى، وقوله: إِلى ذِكْرِ اللَّهِ هو وعظُ الخطبةِ قاله ابن المسيب، ويؤيدُه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إذَا كَانَ يومُ الجمعةِ، كَانَ على كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ ملائكة يكتبون الأوّل فالأوّل، فإذا جلس [الإما] م طَوُوُا الصُّحُفَ، وجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» الحديثُ خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلم، واللفظُ لمسلمٍ، والخُطْبَةُ عِنْدَ الجمهورِ شَرْطٌ في انعقادِ الجمعةِ» «1» ، وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ- عزَّ وجلَّ- يَبْعَثُ الأيَّامَ يومَ القيامةِ على هَيْئَتِهَا، وَيْبَعَثُ الجُمُعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً، أَهْلُهَا مُحِفُّونَ بِهَا كالْعَرُوسِ تهدى إلَى كرِيمَها، تُضِيءُ لهم يَمْشُونَ في ضَوْئِهَا أَلْوَانُهُمْ كالثَّلْجِ بَيَاضاً، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ، يَخُوضُونَ في جِبَالِ الكَافُورِ، يَنْظُرُ إلَيْهِمُ الثَّقَلاَنِ، مَا يَطْرِفُونَ تَعَجُّباً، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لاَ يُخَالِطُهُمْ إلاَّ المُؤَذِّنُونَ المُحْتَسِبُونَ» خَرَّجَهُ القاضِي الشريفُ أبو الحسنِ علي بن عبد اللَّهِ بن إبراهيمَ الهاشميّ، قال صاحبُ «التذكرة» «2» : وإسنادهُ صحيح، انتهى. وقوله سبحانه: ذلِكُمْ إشارةٌ إلى السعي وتَرْكِ/ البَيْعِ. وقوله: فَانْتَشِرُوا أجمعَ الناسُ على أنَّ مُقْتَضَى هذا الأمْرِ الإباحةُ، وكذلك قوله: «وابتَغُوا من فضل اللَّه» أنَّه الإبَاحَة في طلب المعاش، مثلَ قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] إلا ما روي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذلكَ الفضْلُ المُبْتَغى هو عيادةُ مريضٍ، أو صِلَةُ صديقٍ، أو اتِّباعُ جنازةٍ» ، قال ع «3» : وفي هذا ينبغي أنْ يكونَ المرءُ بقيةَ يومِ الجمعةِ، ونحوه عن جعفر بن محمد، وقال مكحول: الفضلُ المبْتَغَى: العلمُ فينبغي أن يطلب إثر الجمعة.

_ (1) إنما اشترط تقديم الخطبتين، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يفعلها إلا كذلك مع خبر: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولإجماع السلف والخلف على ذلك. ومخالفة الحسن البصري باجتهاده في جوازها بعد الصلاة، شاذة مردودة، لأنها بعد انعقاد الإجماع فهي غير معتبرة، ولأنها شرط، والشرط مقدم على المشروط، وقال الشيخ الرملي: وللتمييز بين الفرض والنفل، وليدرك الصلاة من يدرك الخطبة، ولظاهر قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، أباح الانتشار بعدها، ولو جاز تأخيرها لما أباح الانتشار. وقال في «شرح المهذب» : ثبتت صلاته صلّى الله عليه وسلّم بعد الخطبتين، وروى الشيخان عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما. (2) ينظر: «التذكرة» (1/ 262) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 309) .

وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً ... الآية، قال معاذ بن جبل: مَا شَيْءٌ أنجى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ «1» : رواه الترمذيُّ واللفظُ له، وابنُ ماجه، والحاكمُ في «المستدرك» وقال صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح» . وقوله سبحانه: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ... الآية، نزلت بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانَ قائِماً على المنبرِ يَخْطُبُ يومَ الجمعةِ، فأقبلت عِيرٌ مِنَ الشَامِ تحملُ مِيرةً، وصاحبُ أمْرِهَا دِحْيَةُ بن خليفةَ الكلبي، قال مجاهد: وكانَ مِن عُرْفِهِمْ أن تَدْخُلَ عِيرُ المدينةِ بالطَّبْلِ والمعازفِ، والصياحِ سروراً بها، فدخلتْ العيرُ بمثلِ ذلكَ، فانْفَضَّ أهْلُ المسجدِ إلى رؤيةِ ذلك وسماعه وتركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائماً عَلَى المنبرِ، ولم يَبْقَ معه غَيْر اثنَيْ عَشَرَ رَجُلاً «2» ، قال جابر بن عبد اللَّه: أنا أحَدُهُم، قال ع «3» : ولم تَمُرَّ بِي تَسْمِيتُهم في ديوانٍ فيما أذْكُرُ الآنَ، إلا أنِّي سمعتُ أبي- رحمه اللَّه- يقولُ: همُ العشرةُ المشهودُ لهم بالجنةِ، واخْتُلِفَ في الحادِيَ عَشَرَ، فقيل: عمارُ بن ياسر، وقيل: ابن مسعودٍ، ت: وفي تقييد أبي الحسنِ الصغير: والاثْنَا عَشَر الباقون «4» همُ الصحابةُ العَشَرَةُ، والحادِيَ عَشَرَ: بلالٌ، واخْتُلِفَ في الثاني عشر، فقيل: عمار بن ياسر، وقيل: ابن مسعود، انتهى، قال السهيلي: وجَاءَتْ تسميةُ الاثْنَي عَشَرَ في حديثِ مُرْسَلٍ رواه أسد بن عمرو والدُ موسى بن أسد، وفيه: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يَبْقَ معه إلا أبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ حتى العشرةِ، وقَال: وبلالٌ وابن مسعود، وفي روايةٍ: عمارُ بَدلَ ابنِ مسعودٍ، وفي «مَرَاسِيلِ أبي داودَ» ذكر السببَ الذي من أجله تَرَخَّصُوا، فقال: إن الخطبةَ يوم الجمعةِ كَانَتْ بعدَ الصلاةِ فَتَأَوَّلُوا- رضي اللَّه عنهم- أنهم قَدْ قَضَوْا مَا عَلَيْهِمْ، فَحوِّلَتْ الخطبةُ بعد

_ (1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1245) ، كتاب «الأدب» باب: فضل الذكر (3790) ، عن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأرضاها عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ من إعطاء الذهب والورق، ومن أَنْ تُلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قالوا: وما ذاك يا رسول الله! قال: «ذكر الله» . وقال معاذ بن جبل: «ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله عزّ وجل من ذكر الله» . وأخرجه الترمذي (5/ 459) (3377) نحوه، قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مثل هذا الإسناد وروى بعضهم عنه فأرسله، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 496) ، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (2) أخرجه الطبري (12/ 99) ، برقم: (34146) ، وذكره ابن عطية (5/ 309) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 331) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 309) . (4) في د: الباقين.

ذلك قبلَ الصلاةِ، فهذا الحديثُ وإن كانَ مرسلا فالظن الجميل بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يُوجِبُ أنْ يكونَ صحيحاً، واللَّه أعلم انتهى، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَال: «لَوْلاَ هؤلاءِ لَقَدْ كَانَتِ الحِجَارَةُ سُوِّمَتْ على المُنَفضِّينَ من السماءِ» ، وفي حديثٍ آخر: «والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ تَتَابَعْتُمْ حتى لاَ يبقى أَحَدٌ لسَالَ بِكُمُ الوَادِي نَاراً «1» ، قَالَ البخاريُّ: انْفَضُّوا معناه تَفَرَّقُوا، انتهى، وقرأ ابن مسعود «2» : «وَمِنَ التِّجَارَةِ لِلَّذِينَ اتقوا وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» وإنما أعاد الضميرَ في قوله: إِلَيْها على التجارةِ وَحْدَهَا لأنَّهَا أهَمُّ، وهي كَانَتْ سَبَبَ اللَّهوِ، - ص-: وقرىء «3» «إلَيْهِمَا» بالتثنيةِ.

_ (1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 235- 236) ، برقم: (6495) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 310) . (3) ينظر: «الكشاف» (4/ 537) ، و «البحر المحيط» (8/ 265) ، و «الدر المصون» (6/ 318) .

تفسير سورة"المنافقون"

تفسير سورة «المنافقون» وهي مدنيّة بإجماع ونزلت في غزوة بني المصطلق، بسبب أنّ ابن أبيّ ابن سلول كانت له في تلك الغزوة أقوال منكرة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] «1» قوله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... الآية/ فَضَحَ اللَّهُ سرائرَ المنافقين بهذهِ الآية، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: نَشْهَد إِنَّكَ لَرَسُولِ اللَّهِ وهم في إخبارِهم هَذَا كَاذِبُونَ لأَنَّ حَقِيقَةَ الكذبِ أن يُخْبِرَ الإنْسَانُ بِضِدِّ مَا في قَلْبِهِ، وهذِه كَانَتْ حالُهُم وقَرَأَ الناس: «أيْمَانِهِم» جمعُ يمينٍ، وقرأ الحسنُ «2» : «إيَمَانَهُمْ» - بِكَسْرِ الهمزةِ-، والجُنَّةُ: مَا يُتَسَتَّرُ به في الأَجْرَامِ والمعَانِي. وقوله: ذلِكَ إشَارَةٌ إلى فعلِ اللَّهِ بِهِمْ في فَضْحِهُم وتَوْبِيخِهم، ويحتملُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى سوء ما عَمِلوا، فالمعنَى سَاءَ عَمَلُهُمْ بأنْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمان. [سورة المنافقون (63) : الآيات 4 الى 6] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)

_ (1) سقط في: د. (2) قال أبو الفتح: هذا على حذف المضاف، أي: اتخذوا إظهار إيمانهم جنة. ينظر: «المحتسب» (2/ 322) ، و «الكشاف» (4/ 539) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 311) ، و «البحر المحيط» (8/ 267) .

وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ هذا توبيخٌ لهم إذ كَانَ مَنْظَرُهم يَرُوقُ جَمَالاً وقولُهُم يَخْلِبُ بَيَاناً لكنَّهم كالخشبِ المُسَنَّدَة إذْ لاَ أفْهَامَ لهم نافعةً، وكانَ عبدُ اللَّه بْنُ أُبَي ابن سَلُولَ مِنْ أبْهَى المنافقينَ، وأطولِهِم، ويدلّ على ذلك أنه لَمْ يوجَدْ قميصٌ يكْسُو العباسَ غيرُ قَميصِه، قال الثعلبيُّ: تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لاسْتِوَاءِ خَلْقِهَا وطُول قَامَتِهَا وحُسْنِ صُورَتِها، قَال ابن عباس: وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بن أُبَيٍّ جَسِيماً صَبِيحاً فَصِيحاً ذَلِقَ اللِّسَانِ، فَإذَا قَالَ سَمِعَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله «1» ، ووصفهم اللَّه تعالى بتمام الصورةِ وحُسْنِ الإبَانَةِ، ثم شبَّهَهُم بالخُشُبِ المسنَّدَةِ إلى الحائِط، لا يَسْمَعُونَ وَلاَ يَعْقِلُونَ أشْبَاحٌ بِلاَ أَرْوَاحٍ، وأجْسَامٌ بِلاَ أحْلاَم، انتهى. وقوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هَذَا أيضاً فَضْحٌ لِمَا كَانُوا يُسِرُّونَه مِنَ الخَوْفِ/ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقَّعَونَ أن يأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَنِ اللَّهِ بِقَتْلِهِمْ، قال مقاتل: فكانوا متَى سَمِعُوا نُشْدَانَ ضالةٍ، أو صِيَاحاً بأيِّ وَجْهِ، أو أُخْبِرُوا بِنُزُولِ وَحْيٍ طَارَتْ عقُولُهم حتَى يسْكُنَ ذِلَك ويكونَ في غَيْرِ شأنهم، ثم أخبرَ تعالى بأنهم همُ العدوُّ وحَذَّرَ منهم. وقوله تعالى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ دُعَاء يَتَضَمَّنُ الإقْصَاءَ والمنابذة لهم، وأَنَّى يُؤْفَكُونَ معناهُ كَيْفَ يُصْرَفُونَ. وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ... الآية، سبب نزولها أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غَزَا بني المُصْطَلِق، فَازْدَحَمَ أَجيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ يُقَالُ لَهُ «جَهْجَاهٌ» مَعَ سِنَانِ بْنِ وَبَرَةَ الجُهَنِيِّ، حَلِيفٌ لِلأَنْصَارِ، عَلَى الْمَاءِ فَكَسَعَ جهجاه سنانا فتثاورا، ودَعَا جَهْجَاهُ: يَا للْمُهَاجِرِينَ، وَدَعَا سِنَانٌ: يَا للأنصار، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَال: مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ؟ فَلَمَا أُخْبِرَ بالقصةِ، قال: دَعُوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ، فقال عبد اللَّه بن أُبَيٍّ: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟ واللَّهِ، مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ جَلاَبِيبِ قُرَيْشٍ إِلاَّ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وقال: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، ثُمَّ قَال: لِمَنْ معه مِنَ المنافقينَ: إنَّما يُقيمُ هؤلاءِ المهاجرونَ مَعَ محمدٍ بِسَبَبِ مَعُونَتِكمْ لَهم، ولَوْ قَطَعْتُمْ ذَلِكَ عنهم لَفَرُّوا، فَسَمِعَهَا منه زيد بن أرقم، فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فعاتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبدَ اللَّه بن أُبَيٍّ عِنْدَ رجالٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فبلغَه ذلك، فَجَاءَ وَحَلَفَ مَا قَالَ ذلك، وحَلَفَ معَهُ قَوْمٌ مِنَ/ المُنَافِقِينَ، وكَذَّبُوا زيدا، فصدّقهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَبَقِيَ زَيْدٌ في منزلهِ لاَ ينصرفُ حَيَاءً مِنَ الناسِ فَنَزَلَتْ هذهِ السورةُ عِنْد ذَلِكَ، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلَى زَيْدٍ وقال لهُ: لَقَدْ صَدَقَكَ اللَّهُ يا زيد،

_ (1) ذكره البغوي (4/ 348) .

[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 إلى 8]

فَخَزِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عبدُ اللَّه بن أُبَيٍّ ومَقَتَه الناسُ ولاَمه المؤْمِنونَ من قومِه، وقال له بعضهم: امض إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعْتَرِفْ بذنبكَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فلوى رَأْسَهُ إنْكَاراً لهذا الرَّأْيِ، وقال لهم: لقد أشَرْتُمْ علي بالإيمان فآمنتُ، وأَشَرْتُمْ علي بأنْ أعطِيَ زَكَاةَ مالِي فَفَعَلتُ، وَلَمْ يَبْقَ لكم إلا أن تأمروني بالسجود لِمحمَّدٍ، فهذا قَصَصُ هذه السورة مُوجَزاً، وقَرأَ نافعٌ والمفضَّل عن عاصم: «لَوَوْا» - بتخفيف الواوِ- وقرأ الباقون بتشديدِها. وقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ... الآية، رويَ أنه لما نزلتْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لأَزِيدَنَّ على السبعينَ، وفي حديثٍ آخَرَ: لَوْ عَلِمْتُ أنِّي لَوْ زِدْتُ على السبعينَ لَغَفَرَ لَهُمْ لَزِدْتُ، وفي هذا الحديثِ دليلٌ عَلَى رَفْضِ دليلِ الخطابِ، فَلَمَّا فعل ابْنُ أُبَيٍّ وأصحابهُ مَا فَعَلُوا شَدَّدَ اللَّه عليهم في هذه الآيةِ، وأَعْلَم أَنَّه لَنْ يَغْفِرَ لهم دون حدّ في الاستغفار. [سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 8] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) وقوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ إشارةٌ إلى ابن أُبَيٍّ ومَنْ قَالَ بقوله، ثم سفه تعالى أحلامَهم في أن ظَنُّوا أنَّ إنْفَاقَهم هو سَبَبُ رزقِ المهاجرينَ، ونَسَوا أن جَرَيَانِ الرزقِ بِيَدِ اللَّهِ تعالى إذَا انْسَدَّ بابٌ انْفَتَحَ غَيْرُه ثم أعْلَمَ تعالى أنَّ العزةَ لِلَّهِ ولرسولهِ وللمؤمنِين، وفي ذلكَ وعيدٌ وَرُوِي/ أن عبدَ اللَّه بن عبدِ اللَّه بن أُبَيٍّ وكَانَ رَجُلاً صَالِحاً لَمَّا سَمِعَ الآيةَ، جَاءَ إلى أبيه فَقَالَ له: أنْتَ واللَّهِ يا أبَتِ الذليلُ، ورَسُولُ اللَّهِ العزيزُ، وَوَقَفَ عَلَى بَابِ السِّكَّةِ التي يَسْلُكُها أبوه، وجَرَّدَ السَّيْفَ وَمَنَعَهُ الدُّخُولَ، وقال: واللَّهِ لاَ دَخَلْتَ إلى مَنْزِلِكَ إلاَّ أنْ يأْذَنَ في ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ في أذَلِّ حال، وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَبَعَثَ إلَيْهِ أنْ خَلِّهِ يَمْضِي إلى مَنْزِلِهِ، فقال: أمّا الآن، فنعم. [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... الآية، الإلهاءُ: الاشْتِغَالُ بِمَلَذ وَشَهْوَةٍ، وذكرُ اللَّه هنا عامٌّ في الصلوات، والتوحيدِ،

والدعاء، وغيرِ ذلكَ مِنْ مَفْرُوضٍ، ومنْدُوبٍ، وكذلك قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَّا رَزَقْناكُمْ عامٌّ من المفرُوضِ والمندوبِ قاله جماعة من المفسرينَ، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس» : وَمِنْ عيوبِها تضييعُ أوقاتِها بالاشْتِغَالِ بما لا يَعْنِي مِنْ أُمورِ الدُّنْيا، والخَوْضِ فيها مَعَ أهلِها، ومُدَاوَاتُها أنْ يَعْلَمَ أنَّ وَقْتَه أعزُّ الأشياءِ فَيَشْغَلَه بِأَعَزّ الأَشْيَاءِ، وهو ذِكْرُ اللَّهِ، والمُدَاوَمَةُ على الطاعةِ ومطالبةُ الإخْلاَصِ من نفسهِ فإنَّه رُوِيَ عنِ النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يَعْنِيهِ» «1» وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ: عَلَيْكَ بنفسِكَ فَإنْ لَمْ تَشْغَلْها شَغَلَتْكَ، انتهى. وقولهُ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ طَلَبٌ لِلْكَرَّةِ والإمهَالِ، وسَمَّاه قَرِيباً لأنّه آتٍ، وأيْضاً فإنَّما يتمنى ذلك لِيقْضِيَ فيه العملَ الصالحَ فَقَطْ/ وليس يتّسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونظرته. وقوله: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ظاهرَه العمُومُ، وقال ابن عباس: هو الحج «2» وَرَوَى الترمذيُّ عنه أنَّه قال: مَا مِنْ رَجُلٍ لاَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَلاَ يَحُجُّ إلاَّ طَلَبَ الْكَرَّةَ عِنْدَ مَوْتِهِ «3» ، قَال الثعلبيُّ: قَال ابن عباس: إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يريدُ مِثْلَ آجالِنَا في الدنيا «4» ، انتهى، وقرأ أبو عمرو «5» : «وَأَكُونَ» ، وفي قوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها حَضٌّ عَلَى المُبَادَرَةِ ومُسَابَقَةِ الأَجَلِ بالعملِ الصالح.

_ (1) تقدم تخريجه. [.....] (2) أخرجه الطبري (12/ 110- 111) ، بأرقام (34181- 34182، 34185) ، وذكره ابن عطية (5/ 315) ، والبغوي (4/ 351) ، وابن كثير (4/ 373) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 341) ، وعزاه لابن المنذر. (3) أخرجه الترمذي (5/ 418) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة المنافقون (3316) ، وابن جرير (12/ 110) (34182) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 340) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني. (4) ذكره الفخر الرازي (10/ 17) . (5) ينظر: «السبعة» (637) ، و «إعراب القراءات» (2/ 369) ، و «حجة القراءات» (710) ، و «العنوان» (191) ، و «شرح الطيبة» (6/ 56) ، و «شرح شعلة» (603) ، و «إتحاف» (2/ 540) ، و «معاني القراءات» (3/ 71) .

تفسير سورة"التغابن"

تفسير سورة «التّغابن» وهي مدنيّة وقال آخرون: مكّيّة إلا من قوله- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إلى آخر السورة، فإنه مدنيّ. [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي: في أصْلِ الخِلْقَةِ «1» ، وهذا يَجْرِي مع قول المَلَكِ: يَا رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، الحَدِيثَ، وذَلِكَ في بطنِ أمهِ، وقيل: الآيةُ تعديدُ نِعَمٍ، فقولُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ هَذِهِ نعمةُ الإيجَاد، ثم قال: فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي: بهذِه النِّعْمَةِ لجهلهِ باللَّهِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ باللَّهِ، والإيمانُ بهِ شُكْرٌ لنعمتِه، فالإشَارةُ عَلى هذَا التأويلِ في الإيمانِ والكفرِ، هي إلى اكتسابِ العَبْدِ وهذا قولُ جماعة، وقيلَ غير هذا. وقوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: لم يخلقْها عَبَثاً ولاَ لغيرِ مَعْنى. وقوله تعالى: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ هو تعديدُ نِعَمٍ، والمرادُ الصورةُ الظاهرة، وقيل: المرادُ صورةُ الإنسانِ المعنويَّةِ من حيثُ هو إنسانٌ مُدْرِكٌ عاقلٌ، والأولُ أجْرَى على لغةِ العرب.

_ (1) في د: الحقيقة.

[سورة التغابن (64) : الآيات 5 إلى 10]

[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ جَزْمٌ أصْلُه «يأتيكم» والخطابُ في هذهِ الآيةِ لقريشٍ، ذُكِّرُوا بِمَا حَلَّ بِعَادٍ وثمودَ، وغيرهم ممن سَمِعَتْ قريشٌ بِأخبارِهم، وَوَبَالُ الأمْرِ: مكروهُه وما يسوء منه. وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُ إشارة إلى ذَوْقِ الوَبَالِ، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا يريدُ قُريشاً، ثم هِي بَعْدُ تَعُمّ كلَّ كافرٍ بالبعثِ، ولا تُوجَدُ (زَعَمَ) مستعملةً في فصيحِ الكلامِ إلا عبَارَةً عَنِ الكَذِبِ، أو قولِ انْفَرَدَ به قائله. وقوله سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا هذه الآيةُ دعاء من اللَّهِ، وتبليغٌ وتحذيرٌ مِنْ يَوْمِ القِيَامَةِ، والنُّورُ القرآنُ ومعانيه، ويومُ الجَمْعِ هو يومَ القيامَةِ، وهُو يومُ التغابُنِ يَغْبِنُ فِيهِ المؤمِنُونَ الكافرينَ، نَحا هذا المَنْحَى مُجَاهِد وغيره «1» . [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) وقوله تعالى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ يحتملُ أَنْ يريدَ المصائِبَ التي هي رَزَايا، ويحتملُ أنْ يريدَ جميعَ الحوادثِ من خيرِ وشر، والكلُّ بإذْنِ اللَّهِ، والإذنُ هنا عبارةٌ عَنِ العلم والإرادة وتمكين الوقوع.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 115) ، برقم: (34191) ، وذكره ابن عطية (5/ 319) ، وابن كثير (4/ 375) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 334) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.

[سورة التغابن (64) : الآيات 14 إلى 15]

وقوله سبحانه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال فيه المفسرون: المعنَى ومَنْ آمنَ وعَرَفَ أنَّ كلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّه وقَدَرَه وَعِلْمِهِ، هانتْ عَلَيْهِ مصيبتُه وسلَّم لأمْرِ اللَّه تعالى. وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ إلى آخر الآية، وعيد وتبرئة للنبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 15] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إلى آخر السورةِ قرآنٌ مدنيٌّ واخْتُلِفَ في سَبَبهِ، فقال عطاء بن أبي ربَاح: إنَّه نَزَلَ في عَوْفِ بن مَالكٍ الأشّجَعِيِّ وذلك أَنَّهُ أراد غَزْواً مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فاجْتَمَعَ أَهْلُهُ وأولاده، وتَشَكَّوْا إلَيْه فِرَاقَهُ، فَرَقَّ لهُمْ فَثَبَّطُوهُ ولم/ يَغْزُ، ثم إنّه نَدِمَ وهَمَّ بمعاقبتِهم، فنزلتِ الآية «1» بسببه محذِّرةً مِن الأَزْوَاجِ والأولاد وفتنتِهم. ثم صَرَفَ تَعالَى عَنْ معاقبتهِم بقوله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وقال بعضُ المفسرينَ: سببُ الآيةِ أنَّ قوماً آمنُوا وثَبَّطَهُمْ أزْوَاجُهم وأولادُهم عَنْ الهِجرةِ فَلَمْ يُهَاجِروا إلا بَعْدَ مدةٍ، فَوَجَدُوا غيرَهم قد تَفَقَّه في الدين، فَنَدِمُوا وهَمُّوا بمعاقبةِ أزواجِهِم وأولادِهم، ثم أَخْبَرَ تعالى أن الأمْوَالَ والأولادَ فتنةٌ تَشْغَلُ المرءَ عَنْ مَرَاشِدِهِ، وتَحْمِلُه مِنَ الرَّغْبَةِ في الدنيا عَلَى مَا لاَ يَحْمَدُه في آخرتِه، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مُجْبَنَةٌ» «2» ، وخَرَّجَ أبو داود حديثاً في مصنفه «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجمعةِ عَلى المِنْبَرِ حَتَّى جَاءَ الحَسَنُ والحسينُ عليهما قميصان أحمرانَ يجرانِهما، يعثران ويقومان، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنِ المنبرِ حَتَّى أخَذَهُمَا، وصَعِدَ بِهِمَا، ثم قرأ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ... الآية، وقال: إني

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 177) ، برقم: (34201) ، وذكره ابن عطية (5/ 320) . (2) رواه ابن ماجه عن عبد الله بن سلام قال: جاء الحسن والحسين يستبقان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فضمهما إليه، وذكره، وللعسكري والحاكم عن الأسود بن خلف أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ حسنا فقبله، ثم أقبل عليهم فقال: إن الولد مجبنة مبخلة، وأحسبه قال: مجهلة، وللعسكري أيضا: عن أشعث بن قيس قال: مررت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال لي: «ما فعلت بنت عمّك» قلت: نفست بغلام، وو الله لوددت أن لي به سبعة، فقال: «أما لئن قلت إنهم لمجبنة مبخلة، وإنهم لقرة العين وثمرة الفؤاد» ، وله أيضا عن عمر بن عبد العزيز، قال: زعمت المرأة الصالحة خولة ابنة حكيم، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو يحتضن حسنا أو حسينا، وهو يقول: «إنكم لتجبّنون وتجهّلون، وإنكم لمن ريحان الله» ، وأخرجه أبو يعلى والبزار بسند ضعيف عن أبي سعيد بلفظ: «الولد ثمرة القلب، وإنه مبخلة مجبنة محزنة» . ينظر: «كشف الخفاء» (2/ 470) .

[سورة التغابن (64) : الآيات 16 إلى 18]

رأيتُ هذينِ فَلَمْ أصْبِرْ، ثم أخَذَ في خُطْبَتِهِ» «1» ، قال ع «2» : وهذهِ ونحوُها هِي فتنةُ الفُضَلاَءِ، فأما فتنةُ الجُهَّالِ الفَسَقَةِ فَمُؤَدِّيَةٌ إلى كلِ فعلٍ مُهْلِكٍ، وفي «صَحِيحَي البخاري ومسلم» عن أبي ذرٍ قال: انتهيتُ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ يَقُول: «هم الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، هُمُ الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، قُلْتُ: مَا شَأْنِي أيرى فيَّ شَيْئاً؟ فَجَلَسْتُ وَهُوَ يَقُولُ فَمَا استطعت أنْ أسْكُتَ وتَغَشَّانيَ مَا شَاء اللَّهُ فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ بأبي أنتَ وأمي يا رسولِ اللَّهِ؟ قال: هُمُ الأكْثَرُونَ مَالاً إلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وهَكَذَا وَهَكَذَا» «3» وفي رواية: «إن الأَكْثَرينَ هم الأقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ مَنْ قال بالمال، هكذا وهكذا، - وأشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله-، وقليل ما هم» انتهى، واللفظ للبخاريّ. [سورة التغابن (64) : الآيات 16 الى 18] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ تَقَدَّمَ الخلافُ هَلْ هذه الآيةُ نَاسِخَةٌ لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] أو ليست بناسخة، بل هي مبيّنة لها،

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 358) ، كتاب «الصلاة» باب: الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث (1109) ، والترمذي (5/ 659) ، كتاب «المناقب» باب: مناقب الحسن والحسين عليهما السلام (3774) ، والنسائي (3/ 108) ، كتاب «الجمعة» باب: نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من خطبته وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة (1413) ، (3/ 192) ، كتاب «العيدين» باب: نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة (1585) ، وابن ماجه (2/ 1190) ، كتاب «اللباس» باب: لبس الأحمر للرجال (3600) ، وأحمد (5/ 354) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 320) . (3) أخرجه البخاري (11/ 63) ، كتاب «الاستئذان» باب: من أجاب بلبيك وسعديك (6268) ، (11/ 533) ، كتاب «الأيمان والنذور، باب: كيف كان يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم (6639) ، ومسلم (2/ 686) ، كتاب «الزكاة» باب: تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة (30/ 990) ، والترمذي (3/ 3) ، كتاب «الزكاة» باب: ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منع الزكاة من التشديد (617) ، والنسائي (5/ 10) ، كتاب «الزكاة» باب: التغليظ في حبس الزكاة (2440) ، وأحمد (5/ 152، 158- 159) ، والبيهقي (4/ 97) ، كتاب «الزكاة» باب: جماع أبواب صدقة البقر السائمة، (10/ 27) ، كتاب «الأيمان» باب: الحلف بالله عز وجل أو اسم من أسماء الله عز وجل، وابن خزيمة (4/ 9) ، كتاب «الزكاة» باب: صفات ألوان عذاب مانع الزكاة إلى يوم القيامة، قبل الفصل بين الخلق، نعوذ بالله من عذابه (2251) ، والحميدي (1/ 77) ، برقم: (140) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (7/ 364) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وأن المَعْنَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ وهذا هو الصحيح، قال الثعلبي: قال الربيع بن أنس: مَا اسْتَطَعْتُمْ أيْ: جَهْدَكُمْ، وقيل: معناه: إذا أمْكَنَكُمْ الجهادُ والهجرةُ، فَلا يُفْتِنَنَّكُمُ المَيْلُ إلى الأمْوالِ والأوْلاَدِ، واسْمَعُوا ما تُوعظونَ به، وأطِيعُوا فيما تؤمَرُون به «1» ، انتهى. وقوله سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ تَقَدَّم الكلامُ عليه، وأسْنَد أبو بكر بن الخطيب من طريقِ أبي هريرةَ وأبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، وأَغْصَانُها في الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ سَخِيًّا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ الغُصْنُ حتى يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، والشُّحُّ شَجَرَةٌ في النَّارِ وَأَغْصَانُهَا في الأَرْضِ، فَمَنْ كَانَ شَحِيحاً، أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَلَمْ يَتْرُكْهُ الغُصْنُ حتى يُدْخِلَهُ النَّارَ» «2» انتهى، وَباقِي الآية بيّن.

_ (1) ذكره ابن كثير (4/ 377) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 346) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (2) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 434- 435) (10875) عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده، و (10877) عن أبي هريرة، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 545) ، وزاد نسبته إلى الديلمي في «الأفراد» .

تفسير سورة الطلاق

تفسير سورة الطّلاق وهي مدنيّة [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] «1» قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي: إذا أرَدْتُم طلاقَهُنَّ قاله الثعلبيّ وغيره: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وطَلاَقُ النساء حَلُّ/ عِصْمَتِهِنَّ، وصورَةُ ذلك وتَنْويعِه مِما لا يَخْتَصُّ بالتفسيرِ، ومعنى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي: لاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِن، وعبارةُ الثعلبيِّ: أي: لِطُهْرِهِنَّ الذي يُحْصِينَه مِنْ عِدَّتِهِنَّ، وهُو طُهْرٌ لَمْ يجامعْهَا فيه، انتهى، قال ع «2» : ومعنى الآيةِ أنْ لاَ يُطَلِّقَ أحَدٌ امرأتَه إلا في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّها فِيهِ، وهَذَا على مَذْهَبِ مالكٍ ومن قال بقوله القائلينَ بأن الأَقْرَاءَ عندَهم هي الأطْهَارُ، فَيُطَلِّقُ عَنْدَهم المُطَلِّقُ في طُهْرٍ لم يمسَّ فيه، وتَعْتَدُّ به المرأةُ، ثم تَحِيضُ حَيْضَتَيْنِ تَعْتَدّ بالطهْرِ الذي بَيْنَهُمَا ثُمَّ تُقِيمُ في الطُّهْرِ الثَّالِثِ مُعَتَدَّةً بِهِ، فإذا رأت أوّلَ الحَيْضَةِ الثالثةِ حَلَّتْ، وَمَنْ قَالَ بأنَّ الأَقْرَاءَ: الحَيْضُ وَهُمْ العِرَاقِيُّونَ، قَالَ: لِعِدَّتِهِنَّ مَعْنَاهُ أنْ تُطَلَّقَ طَاهِراً فَتَسْتَقْبِلُ بِثَلاَثِ حَيْضٍ كَوامِلٌ فإذَا رَأَتْ الطُّهْرَ بَعْدَ الثالثة، حَلَّتْ، والأَصْلُ في مَنْعَ طَلاَقِ الحَائِضِ حَدِيثِ ابنِ عمرَ، ثم أمر تَعَالى بإحْصَاء العِدَّةِ لِمَا يَلْحَقُ ذلك من أحكام الرَّجْعَةِ والسُّكْنَى، والميراثِ، وغيرُ ذلك، وعبارة الثعلبي: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي: احْفَظُوا عَدَدَ قُرُوئِها الثلاثةِ وَنَحْوَه تفسيرُ ابن العربيّ قال:

_ (1) سقط في: د. [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 323) .

قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ معْنَاهُ احْفَظُوا الوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيه الطَّلاَقُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذلكَ من الأحكامِ، انتهى من «أحكامه» ، ثم أخبرَ تعالى بأنهنّ أحَقُّ بسكنى بيوتِهن التي طُلِّقْنَ فيها فَنَهَى سبحانَه عن إخراجِهنَّ وعَنْ خُروجِهنّ، وسنةُ ذلك ألا تَبِيتَ عَن بيتِها ولا تَغِيبَ عنهُ نهاراً إلا في ضرورةٍ ومَا لا خَطْبَ لَه من جائِز/ التصرُّفِ، وذلك لحفظِ النَّسَبِ والتحرُّزِ بالنسَاء، واختُلِفَ في معنى قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فقال الحسن وغيره: ذلك الزِّنَا فَيُخْرَجْنَ للحَدِّ «1» ، وقال ابن عباس: ذلك البَذَاءُ عَلَى الأَحْمَاءِ، فَتَخْرُجَ ويَسْقُطَ حَقُّها مِنَ المسكنِ، وتلزم الإقامَة في مسكنٍ تَتَّخِذُه حفظاً للنسبِ «2» ، وفي مصحف «3» أبَيٍّ «إلا أنْ يَفْحُشْنَ عَلَيْكُمْ» وعبارةُ الثعلبيّ: عن ابن عباسٍ: «إلا أنْ تَبْذُوَ عَلَى أهْلِهَا فَيَحِلُّ لَهُمْ إخْرَاجُهَا» ، انتهى، وهو معنى ما تقدم، وقرأ الجمهور: «مُبَيِّنَة» - بكسر الياءِ-، تقول بَانَ الشيءُ وَبَيَّنَ بمعنًى واحدٍ إلا أن التضعيفَ للمبَالَغَةِ، وقرأ عاصم «4» : «مُبَيَّنة» - بفتح الياءِ-. وقوله سبحانه: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارَةٌ إلى جميع أوامِرِه في هذه الآيةِ. وقوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً قال قتادة وغيره: يريد به الرَّجْعَةَ، أي: أحْصُوا العدةَ وامْتَثِلُوا مَا أُمِرْتُمْ به تَجِدُوا المُخَلِّصَ إن ندمتم فإنكم لا تدرونَ لعلّ الرَّجْعَةَ تكونُ بَعْدُ «5» . وقوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يريدُ به آخر القروء، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهُو حُسْنُ العِشْرَةِ، أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [وهُو] أداء جَميعِ الحقوقِ، والوَفاءُ بالشُّروطِ حَسَبَ نَازِلَةٍ نَازِلَةٍ، وعبارة الثعلبي: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: أشْرَفْنَ على انْقِضَاء عدتهن، انتهى وهو حسن.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 125- 126) ، برقم: (34252) ، و (34255) ، وذكره ابن عطية (5/ 323) ، وابن كثير (4/ 378) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 352) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن. (2) ذكره ابن عطية (5/ 323) ، وابن كثير (4/ 378) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 352) ، وعزاه لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه. (3) ينظر: «الكشاف» (4/ 555) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 323) . (4) ينظر: «العنوان» (192) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 323) ، وإنما قرأ بها عاصم من رواية أبي بكر، وكذلك قرأ بها ابن كثير. (5) أخرجه الطبري (12/ 128) ، بأرقام (34264، 34266) ، وذكره ابن عطية (5/ 323) ، وابن كثير (4/ 378) .

وقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ يريدُ: على الرَّجْعَةِ وذلك شَرْطٌ في صحة الرَّجْعَةِ، وتَمْنَعُ المرأةُ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا حَتّى يُشْهِدَ، وقال ابن عباس: عَلَى الرَّجْعَةِ والطلاقِ مَعَاً «1» ، قال النخعي: العَدْلُ مَنْ لم تظهرْ منه رِيبة «2» ، والعدلُ حَقِيقَة/ الذي لا يخاف إلا اللَّهَ. وقوله سبحانه: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أمْرٌ للشهودِ. وقوله: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ إشارةٌ إلى إقامة الشهادةِ وذلك أنّ فُصُولَ الأَحْكَامِ تدور على إقامة الشهادةِ. وقوله سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ قال بعض رواة الآثار، نزلتْ هذه الآيةُ في عَوْفِ بن مالك الأشجعي أُسِرَ ولدُه وقُدِرَ عليه رزقُه، فَشَكَا ذلكَ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَأَمَرَه بالتَّقْوَى، فلم يلبثْ أن تَفَلَّتَ ولدُه وأخَذَ قطيعَ غَنَمٍ للقومِ الذين أسَرُوه، فَسَأَلَ عوف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أتَطِيبُ لَهُ تِلْكَ الغَنَمُ؟ فقال: نَعَمْ «3» ، قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «أبى اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- أنْ يَجْعَلَ أرْزَاقَ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ إلاَّ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُونَ» «4» وقال ع لابن مسعود: «لاَ يَكْثَرْ هَمُّكَ، يَا عَبْدَ

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 129) ، برقم: (34276) ، وذكره ابن عطية (5/ 324) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 324) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد. (3) أخرجه الحاكم (2/ 492) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ. قال الذهبي- معقبا على كلام الحاكم-: بل منكر وعباد رافضي جبل، وعبيد متروك، قاله الأزدي. اهـ. (4) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 34- 35) ، بلفظ: «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم» ، وقال في «التمييز» تبعا للأصل: أخرجه الديلمي من حديث أبي هريرة من رواية عمر بن راشد وهو ضعيف جدا، وقال البيهقي: ضعيف بالمرة، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وزاد في الأصل: ورواه القضاعي في «مسنده» فقال: اجتمع أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، فتماروا في شيء، فقال لهم علي: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فلما وقفوا عليه قالوا: يا رسول الله، جئنا نسألك عن شيء، فقال: «إن شئتم، فسألوا، وإن شئتم خبرتكم بما جئتم له» ، فقال لهم: «جئتم تسألوني عن الرزق من أين يأتي؟ وكيف يأتي؟» ، فذكر: أبي الله- الحديث المذكور-، ورواه الديلمي كما في «الدرر» عن أبي هريرة: بلفظ: «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب» ، ورواه العسكري، وابن ماجه بسند ضعيف عن علي رفعه إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب، وجهاد الضعفاء الحج، وجهاد المرأة حسن التّبعل لزوجها، والتودد نصف الإيمان، وما علل أمر على اقتصاد، واستنزلوا الرزق بالصدقة، وأبي الله إلا أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبوا. قال النجم: ولا يصح شيء منها انتهى. وأقول: الحديث بطرقه معناه صحيح وإن كان ضعيفا، ففي التنزيل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ والمعنى: كما قال البيهقي وغيره: - أبي الله أن يجعل أرزاق

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 إلى 6]

الله ما يقدّر يكن وما ترزق يأتك «1» ، وعنه صلّى الله عليه وسلّم «اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بالصَّدَقَة» «2» ، انتهى من كتابه المسمى ب «بهجة المَجَالسِ وأنس المجالس» . وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ هذهِ الآياتُ كلُّها عِظةٌ لجميعِ الناسِ، ومعنى حَسْبُهُ: كَافِيهِ. وقال ابن مسعود: هذه أكْثَرَ الآيات حَضًّا على التفويضِ للَّه «3» . وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بَيَانٌ، وَحَضٌّ عَلى التوكلِ، أي: لا بُدَّ مِنْ نفوذِ أمرِ اللَّهِ توكلتَ أيُّهَا المرءُ أوْ لَمْ تَتَوَكَّلْ قاله مسروق فإنْ توكلتَ على اللَّهِ كَفَاكَ وَتَعَجَّلَتِ الراحةُ والبَرَكةُ، وإن لم تتوكَّلْ وَكَلَكَ إلى عَجْزِكَ وَتَسَخَّطَكَ، وأمرُه سبحانَه في الوجهين نَافِذٌ. [سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 6] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) وقوله سبحانه: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... الآية، «اللائي» جمعُ «التي» واليائساتُ من المحيض على مراتبَ مَحَلُّ بَسْطِها كُتُبُ الفِقْهِ، وروى إسماعيلُ بْنُ خالدٍ أنَّ قَوْماً منهم أُبَيُّ بن كعبٍ وخَلاَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، لما سمعوا قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] قالوا: يا رسول الله

_ عباده من حيث يحتسبون، وهو كذلك، فإن الله تعالى يرزق عباده على حيث يحتسبون تارة كالتجارة والحراثة، وتارة يرزقهم من حيث لا يحتسبون، كالرجل يصيب معدنا، أو ركازا، أو يرث قريبا له يموت، أو يعطيه أحد مالا من غير استشراف نفس ولا سؤال، وآية وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ليس فيها حصر فليتأمل!!. (1) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (2/ 523) ، وقال: رواه أبو نعيم عن خالد بن رافع، وهو مختلف في صحبته، والأصبهاني في «ترغيبه» عن مالك بن عمرو المغافري مرسلا، ولأبي نعيم أيضا عن أنس قال: خدمت النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما لامني فيما نسيت ولا فيما ضيّعت، فإن لامني بعض أهله قال: دعوه، فما قدّر فهو كائن، وفي رواية: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، وكان بعض أهله إذا قال لي شيئا قال: دعوه، فما قدّر سيكون. (2) انظر الحديث قبل السابق. (3) أخرجه الطبري (12/ 132) ، برقم: (34297) ، وذكره ابن عطية (5/ 324) . [.....]

[سورة الطلاق (65) : الآيات 7 إلى 11]

فما عِدَّةُ مَنْ لاَ قَرْءَ لَهَا مِنْ صِغَرٍ أو كِبَرٍ «1» ، فنزلَتْ هذه الآية، فقالَ قائلٌ منهم: فَمَا عِدَّةُ الحَامِلِ فنزلَتْ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهُو لفظٌ يَعُمُّ الحواملَ المطلقاتِ والمعْتَدَّاتِ من الوَفَاةِ، والارتيابُ المذكورُ قيلَ: هو بأمر الحَمْلِ. وقوله سبحانه: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ... الآية، أمْرٌ بإسكانِ المطلقاتِ ولاَ خِلاَفَ في ذلك في التي لَمْ تُبَتَّ وأمَّا المَبْتُوتَةُ فَمَالكٌ يَرَى لَها السُّكْنَى لمكانِ حِفْظِ النسب، ولا يَرَى لها نَفَقَةً لأنَّ النفقةَ بإزَاء الاسْتِمْتَاعِ، وقال الثعلبيُّ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي: في مساكِنِكم التي طلقتموهنَّ فِيها، انتهى، والوُجْدُ السِّعَةُ في المالِ، وأما الحَامِلُ فَلا خِلاَفَ في وُجُوبِ سُكْنَاها ونفقتِها بُتَّتْ أوْ لَمْ تُبَتَّ لأَنَّها مُبَيَّنة في الآيةِ، وأَنما اخْتَلَفُوا في نفقةِ الحامِل المُتَوفَّى عَنْهَا زوجُها، هَلْ يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ التِّرْكَةِ، أمْ لاَ، وكذلكَ النَّفَقَةُ على المُرْضِعِ المطلقةِ وَاجِبَةٌ، وبَسْطُ ذلك في كتبِ الفقه. وقوله سبحانه: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليأمُرْ كلُّ واحدٍ صاحبَه بخيرٍ، ولْيَقْبَلْ كلُّ أحَدٍ مَا أُمِرَ بهِ من المعروف. وقوله سبحانه: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي: تَشَطَّطت «2» المرأة في الحدِّ الذي يكونُ أُجْرَةً على الرِّضَاعِ، فللزَّوْجِ أن يسترضع/ بما فيه رفقه أَلاَّ يقبلَ المولودُ غَيْرَ أمِّه، فَتُجْبَرُ هِي حِينَئِذٍ عَلى رَضَاعِه بأجْرَةِ مثلها ومثل الزوجِ في حالهما وغناهما. ت: وهذا كله في المطلقة البائِنِ، قال ابن عبد السلام من أصحابنا: الضمير في قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عائِدٌ على المطلقاتِ وكَذَلِكَ قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: 233] وأمَّا ذَاتُ الزوج أو الرَّجْعِية، فَيَجِبُ عليها أنْ ترضِعَ مِنْ غَيْر أجْرٍ إلا أنْ تكون شريفة فلا يلزمها ذلك، انتهى. [سورة الطلاق (65) : الآيات 7 الى 11] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 325) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 358) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر من طريق الثوري. (2) الشّطط: مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام أو غير ذلك من كلّ شيء. ينظر: «لسان العرب» (2263) .

[سورة الطلاق (65) : آية 12]

وقوله سبحانه: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ... الآية، عَدَلَ بَيْنَ الأزواج لِئَلاَّ تَضِيعَ هي ولا يُكَلَّفَ هو ما لا يُطِيقُ، ثُم رجَّى تعالى باليُسْرِ تِسْهِيلاً على النفوس وتطييباً لها. وقوله سبحانه: وَكَأَيِّنْ الثعلبي: وكأين، أي: وَكَمْ مِنْ قَرْيَة، عَتَتْ أي: عَصَتْ. وقوله: فَحاسَبْناها قال ع «1» : قال بعضُ المتأولينَ: الآيةُ في أحوالِ الآخِرَةِ، أي: ثمَّ هُو الحسابُ والتعذيبُ والذَوْقُ وخَسَارُ العَاقِبَةِ، وقال آخرونَ: ذلك في الدنيا، ومعنى فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي: لم تُغْتَفَرْ لهم زَلَّةٌ، بل أُخِذَتْ بالدقائق من الذنوب، ثم نَدَبَ تعالى أولي الألباب إلى التقوى تحذيراً. وقوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا اخْتُلِفَ في تقديرِه، وأبْيَنُ الأقوالِ فيه معنى أنْ يكونَ الذكرُ القرآن، والرسول محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، والمِعْنَى وأرْسَلَ رسولاً لكنَّ الإيجازَ اقتضَى اختصارَ الفعلِ الناصب للرسول ونحا هذا المنحى السدي، وسائر الآية بيّن «2» . [سورة الطلاق (65) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) وقوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ لا خلافَ بين العلماءِ أن السموات سَبْعٌ وأمّا/ الأرْضُ فالجمهورُ: على أنها سَبْع أَرْضِينَ، وهو ظاهرُ هذهِ الآيةِ، وإنما المماثلة في العدد، ويبيّنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديثِ الصحيحِ: «مَنْ غَصَبَ شِبْراً مِنْ أرْضٍ طَوَّقَه اللَّه مِنْ سَبْعِ أرضِينَ» ، إلى غير هذا مما وردت به الرواياتُ، ورُوِيَ عن قومٍ مِنَ العلماءِ أنهم قَالوا: الأرضُ واحِدَةٌ وهي مماثلةٌ لكلِّ سَماءٍ بانْفِرَادِها في ارتفاع جُرْمِها، وفي أن فيها عَالماً يعبُدُ اللَّهَ كما في كلِّ سَمَاءٍ عَالَمٌ يعبُد اللَّه. وقوله سبحانه: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الأمْرُ هنا يعُمُّ الوحيَ وجميعَ ما يأمُرُ به سبحانه

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 327) . (2) أخرجه الطبري (12/ 144) ، برقم: (34369) ، وذكره ابن عطية (5/ 327) .

من تَصْرِيف الرياحِ، والسحابِ، وغير ذلك من عجائب صنعه لاَ إله غيرُه، وبَاقِي السُّورَةِ وعظ وحضّ على توحيد الله- عز وجل-. وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عُمُومٌ معناه الخُصُوصُ في المقدوراتِ. وقوله: بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً عموم على إطلاقه.

تفسير سورة التحريم

تفسير سورة التّحريم وهي مدنيّة بإجماع [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... الآية، وفي الحديثِ مِنْ طُرُقٍ ما معناه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاءَ إلى بيتِ حَفْصَةَ، فوجَدَها قد مرَّتْ لزيارة أبيها، فدعا صلّى الله عليه وسلّم جاريَتَهُ مَارِيَّةَ، فَقَالَ مَعَها، فَجَاءَتْ حَفْصَةُ وَقَالَت: يا نبيَّ اللَّه! أفِي بَيْتِي وعلى فِرَاشِي؟ فقال لها صلّى الله عليه وسلّم: مترضِّياً لها: «أيُرْضِيكِ أنْ أُحَرِّمَها؟ قَالَتْ: نَعَمْ فقال: إنِّي قَدْ حَرَّمْتُهَا» ، قال ابن عباس: وقالَ مَعَ ذلكَ: واللَّهِ، لاَ أَطَؤُهَا أَبَداً، ثم قال لها: لاَ تُخْبِرِي بِهَذَا أَحَداً «1» ، ثم إنَّ حَفْصَةَ قَرَعَتْ الجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبْيْنَ عَائِشَةَ، وَأَخْبَرَتْهَا لِتُسِرَّهَا بالأَمْرِ، وَلَمْ تَرَ في إفْشَائِهِ إلَيْهَا حَرَجاً، واستكتمتها، / فَأَوْحَى اللَّهُ بِذَلِكَ إلى نَبِيِّهِ، ونزلَتِ الآيةُ، وفي حديثٍ آخَرَ عن عائشةَ أنَّ هذا التحْرِيمَ المذكورَ في الآية إنَّما هُو بِسَبَبِ العَسَلِ الذي شربه صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَ زينبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَتَمالأتْ عائشةُ وحفصةُ وسَوْدَةُ عَلى أنْ تَقُولَ له مَنْ دَنَا مِنْهَا: إنّا نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أأكَلْتَ مَغَافِيرَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ والمَغَافِيرَ: صَمْغُ العُرْفُطِ، وَهُوَ حُلْوٌ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، فَفَعَلْنَ ذَلِكَ، فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أَكَلْتُ مَغَافِيرَ، وَلَكِنِّي شَرِبْتُ عَسَلاً، فقلْنَ له: جرست نحله العرفط «2» ؟ فقال: صلّى الله عليه وسلّم لاَ أشْرَبُه أبَداً، وكانَ يَكْرَهُ أنْ تُوجَدَ مِنْهُ رَائحةٌ كَرِيهةٌ، فدخلَ بعد ذلك على زينبَ فَقَالَتْ: أَلا أسْقِيكَ مِنْ ذَلِكَ العَسَلِ؟ فقال:

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 148- 149) ، برقم: (34392) ، (34397) ، وذكره ابن كثير (4/ 386) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 367) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (2) العرفط: شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. ينظر: «المنهاج» (3/ 218) .

لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ، قالتْ عائشةُ: تَقُولُ سَوْدَةُ حِينَ بَلَغَنَا امتناعه: وَاللَّهِ، لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، فَقُلْتُ لَها: اسكتي، قال ع «1» : والقولُ الأوَّلُ أن الآيةِ نزلتْ بسبب مارية أصَحُّ وأوْضَحُ، وعليه تَفَقَّه الناسُ في الآية، ومَتَى حَرَّمَ الرَّجُلُ مَالاً أو جاريةً فليسَ تحريمُه بشيءٍ ت: والحديثُ الثَّانِي هو الصحيحُ خَرَّجَه البخاريُّ ومسلمُ وغيرهما، ودَعَا اللَّهُ تعالى نبيَّه باسْم النبوَّةِ الذي هو دالٌّ على شَرَفِ مَنْزِلَتِه وَفَضِيلَتِه التي خَصَّهُ بِهَا، وقرَّره تعالى كالمُعَاتِبِ له على تحريمِه عَلى نفسِه مَا أحلَّ اللَّهُ له، ثم غَفَرَ لَه تَعَالَى مَا عَاتَبه فيه ورَحِمَه. وقوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ أي: بيَّنَ وأثْبَتَ، فقال قوم من أهل العلم: هذه إشارَةٌ إلى تَكْفِيرِ التَّحْرِيمِ، وقال آخرونَ هي: إشارَةٌ إلى تكفيرِ اليمينِ المُقْتَرِنَةِ بالتحريمِ، والتَّحِلَّةُ مَصْدَرُ وزنها «تَفْعِلَة» وأدْغِمَ لاِجْتِمَاعِ/ المثلينِ، وأحالَ في هذه الآيةِ على الآيةِ التي فسَّر فِيها الإطْعَامَ في كفارةِ اليمينِ باللَّهِ تَعَالى، والمَوْلَى المُوَالِي النَّاصِرُ. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعني حَفْصَةَ حَدِيثاً قال الجمهورُ الحديثُ هو قولُهُ في أمر ماريةَ، وقال آخرونَ: بلْ هو قولُه: إنَّمَا شَرِبْتُ عَسَلاً. وقوله تعالى: عَرَّفَ بَعْضَهُ المَعْنَى مَعَ شَدِّ الراءِ: أعْلَمَ بِهِ وأَنَّب عليه وأعْرَض عن بعض، أي: تَكُرُّماً وَحَيَاءً وحُسْنَ عشرةٍ، قال الحسن: ما اسْتَقْصَى كريمٌ قط «2» ، والمخاطبة بقوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ هي لحفصةَ وعائشةَ، وفي حديثِ البخاريّ، وغيره عن ابن عباس قال: قلت لعمر: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: حفصةُ وعائشةُ «3» . وقوله: صَغَتْ قُلُوبُكُما معناه مَالَتْ، والصُّغْيُ الميلُ، ومنه أَصْغَى إليه بأُذُنِه، وأصْغَى الإنَاءَ، وفي قراءة ابن مسعود «4» : «فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُما» والزيغُ: الميلُ وعُرْفُه في خِلاَفِ الحَقّ، وجَمَعَ القلوبَ مِن حيثُ الاثنانِ جَمْعٌ، - ص-: قُلُوبُكُما القياسُ فيه: قلباكما مُثَنَّى، والجمعُ أكْثَرُ استعمالاً وحسْنُه إضافَتُه إلى مثنًى، وهو ضميرُهما لأنَّهُمْ كَرِهُوا اجتماعَ تَثْنِيَتَيْنِ، انتهى، ومعنى الآيةِ إن تُبْتُما فَقَدْ كَانَ مِنكُمَا مَا يَنْبَغِي أنْ يُتَابَ منه، وهذا الجوابُ الذي للشَّرْطِ هُو متقدمٌ في المعنى، وإنما تَرتَّبَ جَوَاباً في اللفظِ، وَإِنْ تَظاهَرا معناه: تَتَعَاوَنَا وأصل: تَظاهَرا تتظاهرا، ومَوْلاهُ أي: ناصره، وَجِبْرِيلُ

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 330) . (2) ذكره البغوي (4/ 364) ، وابن عطية (5/ 331) . (3) تقدم. (4) ينظر: «الكشاف» (4/ 566) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 331) ، و «البحر المحيط» (8/ 286) ، و «الدر المصون» (6/ 335) .

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 إلى 9]

ومَا بعدَه يحتملُ أنْ يكونَ عَطْفاً على اسمِ اللَّهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ جبريلُ رَفْعاً بالابتداء وما بعده عطف عليه وظَهِيرٌ هُو الخَبَرُ، وخَرّجَ البخاريّ بسنده عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغِيرَةِ عليه فقلتُ لَهُنَّ: عسى ربُّه إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يبدله أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ، فنزلت هذه الآية «1» ، انتهى، وقانِتاتٍ معناه مُطِيعَات، والسائحاتُ قِيل: معناه: صَائِمَاتٌ، وقيل: معناه: / مُهَاجِرَاتٌ، وقيل: معناه ذَاهِبَاتٌ في طَاعَةِ اللَّهِ، وشُبِّه الصَّائِمُ بالسائِحِ من حيثُ يَنْهَمِلُ السائِحُ وَلا يَنْظُرُ في زادٍ ولاَ مَطْعَمٍ، وكذلك الصائم يُمْسِك عن ذلك، فيستوي هو والسائِح في الامْتِنَاعِ، وشَظَفِ العَيْشِ لِفَقْدِ الطَّعَام. [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ... الآيةُ، قُوا معناه اجْعَلُوا وِقَايَةً بينكم وبينَ النارِ، وقوله: وَأَهْلِيكُمْ معناه بالوَصِيَّةِ لهم والتقويم والحَمْلِ على طاعةِ اللَّه، وفي الحديثِ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَال: يا أهْلاَهُ صَلاَتَكُمْ، صِيَامَكُمْ، [زَكَاتَكُمْ] ، مِسْكِينَكُمْ، يَتِيمَكُمْ» «2» ت: وفي «العتبية» عن مالكٍ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ أذِنَ لي أنْ أتَحَدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ، إنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ لَمَخْفِقَ الطَّيْرِ سَبْعِينَ عَاماً» «3» ، انتهى، وباقي الآية في غَايَةِ الوضوحِ، نَجَانَا اللَّهُ مِنْ عَذَابه بِفَضْلِه، والتوبةُ فَرْضٌ على كلِّ مسلمٍ، وهي الندمُ على فَارِطِ المعصيةِ، والعَزْمُ عَلى تَرْكِ مِثلِها في المستقبل، هذا من المتمكن، وأما غيرُ المتمكِّنِ كالمَجْبُوبِ في الزِّنَا فالندمُ وحدَه يكفيه، والتوبةُ عِبادَةٌ كالصَّلاَةِ، وغيرها، فإذا تَابَ العبدُ وَحَصَلَتْ توبتُه بشروطِها وقبلت، ثم عَاوَدَ الذنبَ فتوبتُه الأولَى لا تفسدُها عَوْدَةٌ بل هي كسَائِرِ مَا تَحَصَّلَ من

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 155) ، برقم: (34425) ، (34427) ، وذكره ابن عطية (5/ 332) ، وذكره ابن كثير (4/ 390) . (2) ذكره الزيلعي في «تخريج الأحاديث والآثار» (4/ 66) ، وقال: غريب. (3) تقدم تخريجه.

[سورة التحريم (66) : الآيات 10 إلى 12]

العباداتِ، والنَّصُوح بناءَ مبالغةٍ من النُّصْحِ، أي: توبة نَصَحَتْ صَاحِبها، وأرْشَدَتْه، وعن عمرَ: التوبةَ النصوحُ: هي أن يتوبَ ثم لا يعودُ ولا يريدُ أن يعودَ «1» ، وقال أبو بكر الوَرَّاق، هي أن تَضِيقَ عليكَ الأرْضُ بما رَحُبَتْ كتوبةِ الذين خُلِّفُوا. ورُوِيَ/ في معنى قولِه تعالى: «يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ» أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تضرّع مرّة إلى الله- عز وجل- في أمْرِ أُمَّتِهِ، فأوحَى اللَّه إلَيْهِ إنْ شِئْتَ جَعَلْتُ حِسَابَهُمْ إلَيْكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: إذَنْ لا أخزيك فيهم «2» . وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يَحْتَمِل: أن يكونَ معطوفاً عَلى النبيِّ فيخرجُ المؤمِنونَ من الخزي، ويحتملُ: أنْ يَكُونَ مبتدأ، ونُورُهُمْ يَسْعى: جملةٌ هِي خبرُه، وقولهم: أَتْمِمْ لَنا نُورَنا قال الحسنُ بن أبي الحسن: هو عند ما يَرَوْنَ مِنِ انْطِفَاءِ نورِ المنافقين «3» حَسْبَمَا تقدم تفسيرُه، وقيل: يقوله من أُعْطِي منَ النور بقدر ما يَرَى موضعَ قدميه فقط، وباقي الآية بيَّن مما تقدم في غيرِ هذا الموضع. [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) وقوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ ... الآية، هذَانِ المَثَلاَنِ اللذانِ للكفارِ والمؤمنينَ معناهما: أنَّ مَنْ كَفَرَ لا يُغْنِي عنه مِنَ اللَّهِ شيءٌ ولا ينفعُه سَبَبٌ، وإنَّ مَنْ آمنَ لا يدفعُه عَنْ رِضْوَانِ اللَّهِ دافعٌ وَلُوْ كَانَ في أسوأِ مَنْشَأٍ وأخسِّ حالٍ، وقول من قال: إنَّ في المثلين عبرة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعيدٌ. قال ابن عباس وغيره: «خَانَتَاهُمَا» : أي في الكُفْرِ «4» ، وفي أن امرأةَ نوحٍ كانَتْ تقول للناس: إنَّه مجنُونٌ، وأن امرأةَ لوطٍ كانت تنمّ

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 156) ، برقم: (34444) ، والبغوي (4/ 367) ، وابن عطية (5/ 334) ، وابن كثير (4/ 392) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 376) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن منيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . [.....] (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 334) . (3) أخرجه الطبري (12/ 159) ، برقم: (34457- 34458) ، وذكره ابن عطية (5/ 334) ، وابن كثير (4/ 392) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 335) ، وابن كثير (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 377) ، وعزاه

إلى قَوْمِها خَبَر أضْيَافِه، قال ابن عباس: وَمَا بَغَتْ زَوْجَةُ نَبِيٍّ قَطُّ «1» ، وامرأة فرعون اسمُها آسية، وقولها: وَعَمَلِهِ تعني كُفْرَهُ ومَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ. وقوله: الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها الجمهورُ أنه فَرْجُ الدِّرْعِ، وقال قوم: هو الفَرْجُ الجَارِحَةُ وإحْصَانُه صَوْنُه. وقولُه سبحانه: فَنَفَخْنا فِيهِ عبارةٌ عَنْ فِعل جبريلَ، / ت: وقد عَكَسَ- رحمه اللَّه- نَقْلَ ما نَسَبَهُ للجمهورِ في سورةِ الأنبياءِ فقال: المَعْنَى واذْكُرِ الَّتي أحصنتْ فَرْجَها وهو الجارِحَة المعروفةُ، هذا قولُ الجمهورِ، انظر بقيةَ الكلامِ هناك. وقوله سبحانه: مِنْ رُوحِنا إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقٍ، ومملوك إلى مالكٍ، كما تقول بَيْتُ اللَّهِ، ونَاقَةُ اللَّهِ، وكذلك الرُّوحُ الجنسُ كلُّه هو روح اللَّه، وقرأ الجمهور «2» : وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها بالجَمْعِ فَيُقَوِّي أنْ يريدَ التوراةَ، ويحتملُ أنْ يريدَ أمْرَ عيسَى، وَقَرَأ الجحدري «3» : «بِكَلِمِة» فَيُقَوِّي أنْ يريدَ أمْرَ عيسى، ويحتملُ أنْ يريدَ التوراةَ، فتكونُ الكلمةُ اسْمُ جنسٍ، وقرأ نافع «4» وغيره: «وكِتَابِهِ» وقرأ أبو عمرو وغيره: «وَكُتُبِهِ» - بضم التاء- وَالجَمْعِ، وذلك كلَّه مرادٌ بهِ التوراةُ والإنْجِيلُ، قال الثعلبيُّ: واختار أبو حاتم قراءةَ أبي عمرٍو بالجَمْعِ لعمومِها، واختار أبو عبيدة قِراءَة الإفْرَادِ لأن الكتَابَ يُرَادُ به الجنسُ، انتهى وهو حَسَنٌ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي: من القوم القانتينَ وهم المطيعونَ العابِدونَ، وقد تقدّم بيانه.

_ لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عبّاس. (1) أخرجه الطبري (12/ 161) ، برقم: (34462، 34464) ، وذكره البغوي (4/ 368) ، وابن عطية (5/ 335) ، وابن كثير (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 377) ، وعزاه لابن المنذر. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 335- 336) ، و «البحر المحيط» (8/ 290) ، و «الدر المصون» (6/ 339) . (3) وقرأ بها مجاهد، والحسن. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (159) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 336) ، و «البحر المحيط» (8/ 290) ، و «الدر المصون» (6/ 339) . (4) وقرأ بها ابن كثير، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر، والكسائيّ، وحمزة. وقرأ بقراءة أبي عمرو- حفص عن عاصم، وخارجة عن نافع. ينظر: «السبعة» (641) ، و «الحجة» (6/ 304) ، و «إعراب القراءات» (2/ 376) ، و «حجة القراءات» (715) ، و «العنوان» (193) ، و «شرح الطيبة» (6/ 61) ، و «إتحاف» (2/ 549) ، و «معاني القراءات» (3/ 78) .

تفسير سورة الملك

تفسير سورة الملك [وهي] مكّيّة بإجماع وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرؤوها عند أخذ مضجعه رواه جماعة مرفوعا «1» ، وروي أنّها تنجّي من عذاب القبر «2» ، وتجادل عن صاحبها، حتى لا يعذّب «3» ، وروى ابن عبّاس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وددت أنّ سورة «تبارك الّذي بيده الملك» في قلب كلّ مؤمن» «4» ، ت: وقد خرّج مالك في «الموطّأ» : أنّها تجادل عن صاحبها وخرّج أبو داود/ والترمذيّ والنسائي، وأبو الحسن بن صخر، وأبو ذر الهرويّ، وغيرهم أحاديث في فضل هذه السورة نحو ما تقدّم، ولولا ما قصدته من الاختصار لنقلتها هنا، ولكن خشية الإطالة منعتني من جلب كثير من الآثار الصحيحة، في هذا المختصر، وانظر الغافقي فقد استوفى

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 381) ، وعزاه إلى ابن مردويه. (2) أخرج الترمذي في هذا المعنى حديثا (5/ 164) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: ما جاء في فضل سورة الملك (2890) عن عبد الله بن عبّاس، بلفظ: ضرب بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنّه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حتّى ختمها، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنّي ضربت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنّه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتّى ختمها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 498) عن عبد الله بن عبّاس، بلفظ: «يؤتى الرجل في قبره، فتؤتى رجلاه فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقوم يقرأ سورة الملك، ثم يؤتى من قبل صدره، أو قال: بطنه، فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى رأسه فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة الملك، قال: فهي المانعة تمنع من عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب» . والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 494) (2509) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (4) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 565) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 380) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وعبد بن حميد، والطبراني. قال الحاكم: هذا إسناد عند اليمانيين صحيح ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في قوله ذلك، وقال: لحفص واه.

[سورة الملك (67) : آية 1]

نقل الآثار في فضل هذه السورة. [سورة الملك (67) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تَبارَكَ من البركة وهي التزيّد في الخيرات، قال الثعلبي: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي: تَعَالَى وتَعَاظَمَ وَقَالَ الحسنُ: تَقَدَّسَ الذي بيده الملكُ في الدنيا والآخرة «1» ، وقال ابن عباس: بِيَدِهِ الْمُلْكُ: يُعِزُّ مَنْ يَشاء ويذل من يشاء «2» . انتهى. [سورة الملك (67) : الآيات 2 الى 5] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَّا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وقوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ... الآية، الموتُ والحياةُ مَعْنَيَانِ يَتَعَاقَبَانِ جِسْمَ الحيوانِ، يَرْتَفِعُ أحدهما بحلُولِ الآخَرِ، وما جاء في الحديثِ الصحيح من قوله- عليه الصلاة والسلام-: «يُؤتَى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيَامَةِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ» «3» الحديث، فقال أهْلُ العِلْمِ: إنَّما ذَلِكَ تِمْثَالُ كَبْشٍ يُوقِعُ اللَّهُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ لأَهْلِ الدَّارَيْنِ أَنَّه الموتُ الذي ذَاقُوه في الدنيا، ويكونُ ذلك التمثالُ حَامِلاً للموتِ، لاَ عَلى أنه يَحُلُّ الموتُ فيه فَتَذْهَبُ عنهُ حياةٌ، ثم يَقْرِنُ اللَّه تعالى في ذلك التمثالِ إعْدَامَ الموتِ. وقوله سبحانه: لِيَبْلُوَكُمْ أي: جَعَلَ لَكُمْ هاتينِ الحالتَيْنِ ليبلوَكم، أي: ليختبرَكم في حالِ الحياةِ ويُجَازِيكُم بَعْدَ الممات، وقال أبو قتادة، ونحوه عن ابن عمر، قلت: يا رسول اللَّه، مَا مَعْنى قولِه/ تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ فَقَال: يقول: أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَقلاً، وأشَدُّكم للَّهِ خَوْفاً، وأحْسَنُكم في أمْرِه ونهيهِ نَظَراً، وإن كَانُوا أقلَّكم تطوُّعاً «4» ، وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أزهدكم في

_ (1) ذكره القرطبي (18/ 134) . (2) ذكره القرطبي (18/ 134) ، وابن عطية (5/ 337) . [.....] (3) تقدم تخريجه. (4) ذكره ابن عطية (5/ 337) .

الدنيا «1» ، قال القرطبي «2» : وقال السدي: (أحْسَنُكُمْ عَمَلاً) ، أي: أكثَركم للموت ذِكْراً، وله أحْسَنُ استعداداً، ومِنْه أشَدُّ خوفاً وحذَراً، انتهى من «التذكرة» ، وللَّه در القائل: [الطويل] وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ المَوْتِ وَالقَبْرِ والبلى ... عَنِ الشُّغْلِ باللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ أَبَعْدَ اقتراب الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ ... وَشَيْبٌ فَذَاكَ مُنْذِرٌ لَكَ ذَاعِرُ فَكَمْ في بُطُونِ الأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَا ... مَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بَوَالٍ دَوَاثِرُ وَأَنْتَ عَلَى الدّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِس ... لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ على خَطَرٍ تُمْسِي وَتُصْبِحُ لاَهِياً ... أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ وَإنَّ امرأ يسعى لِدُنْيَاه جَاهِداً ... وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لاَ شَكَّ خَاسِرُ كَأَنَّكَ مُغْتَرٌّ بِمَا أَنْتَ صَائِرٌ ... لِنَفْسِكَ عَمْداً أوْ عَنِ الرُّشْدِ جَائِرُ فَجِدَّ وَلاَ تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ زَائِلٌ ... وَأَنْتَ إلى دَارِ المَنِيَّةِ صَائِرُ وَلاَ تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإنَّ طِلاَبَهَا ... وَإنْ نِلْتَ مِنْهَا ثَرْوَةً لَكَ ضَائِرُ وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ... بِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ «3» تُبْلَى السَّرَائِرُ لَقَدْ خَضَعَتْ واستسلمت وَتَضَاءَلَتْ ... لِعِزَّةِ ذي العرش الملوك الجبابر انتهى،، وطِباقاً قال الزَّجَّاجُ: هو مصدرٌ، وقيل: جمعُ طَبَقَةٍ، أو جَمْعُ طَبَقِ، والمعنى: بعضُها فوق بعض، وقال إبان بن ثعلب: سمعتُ أعْرابياً يذُمّ رَجُلاً فقال: شَرُّهُ طِبَاقُ/ وَخَيْرُه غَيْر باقٍ، وما ذَكره بعضُ المفسرينَ في السموات منْ أنَّ بعضَها مِن ذَهَبٍ وفضةٍ وياقوتٍ ونحوِ هذا، ضعيفٌ لم يَثْبُتْ بذلك حديث. وقوله سبحانه: مَّا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ معناه من قِلَّةِ تَنَاسُبٍ، ومنْ خروجٍ عن إتقانٍ، قال بعض العلماء: خَلْقُ الرحمن، معنيٌّ بهِ السموات وإيَّاها أرادَ بقوله: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وبقوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ ... الآية، وقال آخرون: بلْ يعني بهِ جَميعَ مَا خَلَقَ سبحانه من الأشياء فإنَّها لاَ تَفَاوُتَ فيها، ولا فطورَ جاريةً عَلى غَيْرِ إتْقَانٍ، قال منذر بن سعيد: أمَرَ اللَّهُ تعالى بالنظرِ إلى السماءِ وخَلْقِها، ثم أمرَ بتكريرِ النظرِ، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ مَتَى نَظَرَها ناظرٌ لِيَرَى فيها خَلَلاً أو نَقْصاً فإنَّ بصره ينقلب خاسئا

_ (1) ذكره البغوي (4/ 369) عن الحسن. (2) ينظر: «تفسير القرطبي» (18/ 135) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 382) ، وعزاه لابن أبي الدنيا، والبيهقي في «شعب الإيمان» . (3) في د: حين.

[سورة الملك (67) : الآيات 6 إلى 11]

حَسِيراً، وَرَجْعُ البصرِ: ترديدُه في الشيءِ المبْصَرِ، وكَرَّتَيْنِ معناه مرتين، والخاسئ المبْعَدُ عن شيءٍ أرَادَه، وحَرَصَ عليه، ومنه قوله تعالى: اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: 108] وكذلكَ البصرُ يحرصُ على رؤيةِ فطورٍ أو تفاوتٍ، فلا يَجِدُ ذلك، فينقلبَ خاسِئاً، والحسيرُ العَيِيُّ الكالُّ. وقوله تعالى: بِمَصابِيحَ يعني: النجومَ، قال الفخر «1» : ومعنى السَّماءَ الدُّنْيا أي: القريبةُ مِنَ الناسِ، وليسَ في هذهِ الآيةِ ما يدلُّ عَلى أنّ الكواكبَ مركوزةٌ في السماء الدنيا، وذلك لأَنَّ السموات إذا كَانَتْ شَفَّافَةً فالكواكبُ سَواءٌ كَانَتْ في السماءِ الدنيا، أو كانَتْ في سموات أخْرَى فَوقَها، فهي لا بد أنْ تَظْهَرَ في السماء الدنيا، وتَلُوحُ فِيها، فَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فالسَّماء «2» الدُّنْيَا مُزَيَّنَةٌ بها، انتهى. وقوله: وَجَعَلْناها معناه وجَعَلْنَا مِنْها ويُوجِبُ/ هذا التأويلُ في الآيةِ أنَّ الكواكبَ الثابتةَ، والبروجَ، وكلَّ ما يُهْتَدَى به في البرِّ والبحرِ لَيْسَت براجمةٍ، وهذا نصّ في حديثِ السير قال الثعلبي: رُجُوماً لِلشَّياطِينِ يُرْجَمُونَ بِها إذَا اسْتَرَقُوا السّمْعَ فلا تُخْطِئُهُم، فمنهم مَنْ يُقْتَلُ ومنهم من يُخْبَلُ، انتهى. [سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) وقوله تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ قال ع «3» : تضمنتِ الآيةُ أنَّ عذابَ جهنمَ للكفارِ المُخَلّدِينَ، وقد جاءَ في الأثر: أنه يَمُرُّ على جهنَم زَمانٌ تُخْفِق أبوابَها، قد أخْلَتْها الشفاعةُ، والذي يقال في هذا أن جهنَّمَ اسْمٌ تُخْتَصُّ به الطبقةُ العُلْيَا من النارِ، ثم قَدْ تُسَمَّى الطبقاتُ كلها باسْمِ بَعْضِها، فالتي في الأثرِ هي الطبقةُ العُلْيَا لأنَّها مَقَرُ العُصَاةِ من المؤمنينَ، وَالَّتي في هذهِ الآية هي جهنمَ بأسرها، أي: جميعُ الطبقاتِ، والشَّهِيقُ أقْبَحُ ما يكونُ من صوتِ الحمارِ، فاشْتِعَالُ النار وغَلَيَانُها يُصَوِّتُ مِثْل ذلك. وقوله: تَكادُ تَمَيَّزُ أي يُزَايِلُ بَعْضُها بَعْضاً لشدّة الاضطراب، ومِنَ الْغَيْظِ

_ (1) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 53) . (2) في د: في السماء. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 339) .

[سورة الملك (67) : الآيات 12 إلى 20]

معناه: على الكَفَرَةِ باللَّهِ، والفَوْجُ: الفريقُ من الناس، وظاهر الآية أَنَّه لا يُلْقَى في جهنَّمَ أحَدٌ إلا سُئِلَ عَلى جهة التوبيخ. وقوله سبحانه: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يحتملُ أنْ يكونَ من قولِ الملائكةِ، ويحتملُ أنْ يكونَ من تمامِ كَلاَمِ الكفارِ للنُّذُرِ، قال الفخر «1» : وقوله- تعالى- عنهم: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ قيل إنما جَمَعُوا بين السَّمْعِ والعَقْلِ [لأن مَدَارَ التكليف على أدلة السمع والعقل] ، انتهى. [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يحتملُ معنيين: أحدُهما بالغَيْبِ الذي/ أُخْبِروا بهِ مِن النَّشْرِ والحشر والجنة والنار، فآمنوا بذلك وخَشُوا ربَّهم فيه ونحا إلى هذا قتادة «2» ، والمعنى الثاني: أنهم يَخْشَوْنَ ربهم إذا غَابُوا عن أعْيُنِ الناس، أي: في خلَواتِهم في صلاتهم وعباداتهم. وقوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ... الآية، خطاب لجميع الخلق، وذَلُولًا بمعنى مذلولة، ومَناكِبِها قال مجاهد: هي الطُّرُقُ والفجاجُ «3» ، وقال البخارِي: مَناكِبِها: جَوَانِبُها، قال الغزالي- رحمه اللَّه-: جَعَلَ اللَّهُ سبحانَه الأَرْضَ ذَلُولاً لِعِبَادِه لاَ لِيَسْتَقِرُّوا في مناكِبها، بلْ لِيَتَّخِذُوهَا مَنْزِلاً فَيَتزَوَّدُونَ منها مُحْتَرِزِينَ من مصائدِها ومَعَاطبِها، ويتحقَّقُون أنّ العُمْرَ يَسِيرُ بهم سَيْرَ السفينةِ بِرَاكِبِها، فالناسُ في هَذَا العَالَمِ سُفْرُ وأوَّلُ منازلِهم المَهْدُ، وآخرُها اللحدُ، والوَطَنُ هو الجنَّةُ أو النَّارُ، والعُمْرُ مسافة السّفر، فسنوه مراحله، وشهوره

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (30/ 57) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 340) . (3) أخرجه الطبري (12/ 169) ، برقم: (34505) ، وذكره البغوي (4/ 371) ، وابن عطية (5/ 341) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 384) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.

[سورة الملك (67) : الآيات 21 إلى 24]

فَرَاسِخُه، وأيامُه أمْيَالُه، وأنْفَاسُه خُطُواتُه، وطَاعَتُه بضاعتُه، وأوقَاتُه رؤوس أموالِه، وشَهَواتُه وأغْرَاضُه قطاع طريقِه، وربحه الفوز بلقاء الله- عز وجل- في دار السلام مع المُلْكِ الكبيرِ والنَّعِيمِ المقيم، وخسرانه البعد من الله- عز وجل- مع الأنْكَالِ والأَغْلاَلِ والعذاب الأليمِ في دَرَكَاتِ الجحيم، فالغافلُ عن نَفسِ واحدٍ من أنْفَاسِهِ، حتى يَنْقَضِيَ في غَيْرِ طاعةٍ تُقُرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى زُلْفَى مُتَعَرِّضٌ في يوم التَّغابُن لغَبِينَةٍ وحَسْرَةٍ مَا لها مُنْتَهَى، ولهذا الخطرِ العظيمِ والخَطْبِ الهائلِ شَمَّر المُوفَّقُونَ عن ساقِ الجِدِّ، وَوَدَّعُوا بالكليةِ ملاذَّ النَّفْسِ، واغْتَنَمُوا بَقايَا العُمْرِ، فَعَمَّرُوها بالطاعاتِ، بِحَسَبِ تَكَرُّرِ الأوقَاتِ، انتهى، قال الشيخُ أبو مدين- رحمه اللَّه-: عُمْرُكَ نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ [أنْ يَكُونَ] لَكَ/ لاَ عليك، انتهى، والله الموفّق بفضله، والنُّشُورُ: الحياة بعد الموت، وتَمُورُ معناه: تَذْهَبُ وتَجِيءُ، كما يَذْهَبُ التراب المَوَارُ في الرِّيحِ، والحَاصِبُ البَرْدُ ومَا جَرى مَجْرَاه، والنَّكِيرُ مَصْدَرٌ بمعنى الإنْكَارِ، والنَّذِيرُ كذَلِكَ ومنه قول حسان بن ثابت: [الوافر] فَأُنْذِرُ مِثْلَهَا نُصْحاً قُرَيْشاً ... مِنَ الرحمن إنْ قَبِلَتْ نَذِيرِي «1» ثم أحال- سبحانه- على العِبْرَةِ في أمْرِ الطير وما أحكمَ من خِلْقَتِها، وذلك بيَّنَ عجز الأصنام والأوثان عنه، وصافَّاتٍ جَمْع صَافَّة، وهي التي تَبْسُطَ جَنَاحَها وتَصُفُّه، وقَبْضُ الجَنَاحِ ضَمُّه إلى الجنبِ، وهاتان حالتَان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى. [سورة الملك (67) : الآيات 21 الى 24] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وقوله سبحانه: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ هذا أيضاً توقيفٌ على أمْرٍ لاَ مَدْخَل للأصنامِ فيه. وقوله سبحانه: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ قال ابن عباس والضحاك ومجاهد: نزلَتْ مثَلاً للمؤمنينَ والكافرين على العمومِ «2» ، وقال قتادةُ: نزلت مُخْبِرةً عن حال القِيَامَةِ، وأنَّ الكفارَ يَمْشُونَ على وجوهِهم، والمؤمنينَ يمشون على استقامة «3» ، كما جاء

_ (1) البيت في «ديوانه» (245) ، وفيه فأردف بدل فأنذر. (2) أخرجه الطبري (12/ 171) ، برقم: (34510، 34512) ، وذكره ابن عطية (5/ 342) . (3) أخرجه الطبري (12/ 171- 172) ، برقم: (34513، 34515) ، وذكره البغوي (4/ 372) ، وابن عطية (5/ 342) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 385) ، وعزاه لعبد بن حميد، وعبد الرزاق، وابن المنذر. [.....]

[سورة الملك (67) : الآيات 25 إلى 30]

في الحديث، ويُقالُ: أكَبَّ الرجلُ إذا دَرَّ وجهه إلى الأرض، وكبّه غيره، قال- عليه الصلاة والسلام-: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» «1» فَهَذَا الفِعْلُ على خلافِ القَاعِدَة المعلومةِ لأَنَّ «أَفْعَلْ» هنا لا يتعدّى، و «فَعَلَ» يَتَعَدَّى، ونظيرُه قَشَعَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ فانْقَشَعَ، وقال- ص-: مُكِبًّا حالٌ وهو مِنْ أَكَبَّ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَكَبَّ متعدٍ، قال تعالى: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90] والهَمْزَةُ فيه للدخولِ في الشيءِ، أو للصيرورَةِ، ومطاوع/ كَبَّ: انْكَبّ، تَقُولُ كَبَبْتُه فانْكَبَّ، قال بَعْضُ الناس: ولاَ شَيْءَ من بناءِ «أفْعَلَ» مطاوعاً، انتهى، وأَهْدى في هذه الآية أفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الهُدَى. [سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يريدونَ أمْرَ القيامةِ والعذابِ المتوعَّدِ به، ثم أمرَ سبحانه نبيه ع أنْ يخبرَهم بأنَّ علمَ القيامةِ والوعدَ الصدقَ مما تفرَّدَ اللَّهُ- سبحانه- بعلمهِ. وقوله سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْهُ الضميرُ للعَذَابِ الذي تَضَمَّنَه الوعدُ، وهذهِ حكايةُ حَالٍ تأتِي، والمَعْنى: فإذا رأوه. وزُلْفَةً معناه قريبا، قال الحسن: عيانا «2» . وسِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا معناهُ: ظَهَرَ فيها السوءُ. وتَدَّعُونَ معناه: تَتَدَاعَوْنَ أمْرَه بينكم، وقال الحسن: تدعون أنَّه لاَ جَنَّةَ ولاَ نار «3» ، ورُوِيَ في تأويل قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ ... الآية، أنَّهم كانوا يدعون على محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابَه بالهلاكِ، فقال اللَّه تعالى لنبيه: قلْ لهم: أرأيتم

_ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه الطبري (12/ 172- 173) ، برقم: (34516- 34517) ، وذكره ابن عطية (5/ 343) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 343) .

إنْ أهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ معي أو رحمَنا، فمن يُجِيرُكُم مِنْ العذاب الذي يُوجِبُه كفرُكم؟، ثم وَقَفَهم سبحانه على مِيَاهِهِم التي يَعيشُونَ منها، إنْ غَارَتْ، أي: ذَهَبَتْ في الأرضِ، مَنْ يَجِيئُهم بماءٍ كثيرٍ كافٍ؟ - ص-: والغَوْرُ: مَصْدَرٌ بمعنى الغَائِر، انتهى، والمَعِينُ: فَعِيلٌ مِنْ مَعَنَ المَاءُ إذا كَثُرَ، وقالَ ابن عباس: معين عذب «1» :

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 174) ، برقم: (34524) ، وذكره ابن عطية (5/ 344) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 386) ، وعزاه لعبد بن حميد.

تفسير سورة القلم

تفسير سورة القلم وهي مكّيّة بلا خلاف [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) قوله عز وجل: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ن حَرْفٌ مقطع في قول الجمهور، فيدخُلُه من الاخْتِلاَفِ ما يَدْخُلُ أوائِلَ السُّورِ، ويختصُّ هذَا الموضعُ مِنَ الأقوال، بأنْ قَالَ مُجاهِدٌ وابن عباس: ن اسْمُ الحوتِ الأعْظَمِ/ الَّذِي عَلَيْه الأَرضُونَ السَّبْعُ فِيما يُرْوَى «1» ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره: ن اسمُ الدَّوَاةِ «2» ، فَمَنْ قَال بأنه اسْمُ الحوتِ جَعَلَ [القَلَمَ] القَلَمَ الذي خلقَه اللَّهُ وأمَرَهُ بِكَتْبِ الكائناتِ، وجَعَلَ الضميرَ في يَسْطُرُونَ للملائِكَةِ، ومَنْ قَال بأنَّ ن اسْمٌ للدَّوَاةِ جَعَلَ القَلم هَذَا القلمَ المتعارفَ بأيْدِي الناسِ نَصَّ على ذَلِكَ ابنُ عَبّاسٍ وَجَعَل الضميرَ في يَسْطُرُونَ للنَّاسِ فَجَاء القَسَمُ على هذا بمجموع أمْرِ الكِتَابِ الذي هو قِوَامٌ للعلومِ والمعَارِفِ، وأمورِ الدنيا، والآخِرَةِ، فَإنَّ القَلَمَ أخُو اللسانِ، وعَضُدُ الإنْسَانِ، ومَطِيَّةُ الفِطْنَةِ، ونِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَامَّة، ورَوَى معاويةُ بن قرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ن لوح من نور» .

_ (1) ذكره البغوي (4/ 374) ، وابن عطية (5/ 345) ، وابن كثير (4/ 400) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 387) ، وعزاه لابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عبّاس، (6/ 388) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد. (2) أخرجه الطبري (12/ 176) ، برقم: (34538- 34539) ، وذكره ابن عطية (5/ 345) ، وابن كثير (4/ 401) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 388) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر

وقالَ ابنُ عباسٍ أيضاً وغيره: ن هو حَرْفٌ من حروفِ الرحمن «1» ، وقالوا إنَّه تَقَطَّع في القرآن الر وحم ون، ويَسْطُرُونَ: معناه: يكْتُبُونَ سُطُوراً، فإنْ أرَادَ الملائكةَ فهُوَ كَتْبُ الأَعْمَالِ وَمَا يؤْمَرُون به، وإنْ أرادَ بني آدم فهي الكُتُبُ المنزلةُ والعلومَ وما جَرَى مَجْرَاهَا، قال ابن العربي في «أحكامه» : رَوَى الوليدُ بن مُسْلِمٍ عَنْ مالكٍ عَنْ سُمَيٍّ مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: «أوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ، ثُمَّ خَلَق النّونَ، وهي الدوَّاةُ، وذَلِكَ قَوْلُه: ن وَالْقَلَمِ ثم قَالَ لَهُ: اكتب قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا هُو كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، قال: ثُمَّ خَتَمَ العَمَلَ، فَلَمْ يَنْطِقْ وَلاَ يَنْطِقُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ العَقْلَ، فَقَالَ الجَبَّارُ: مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أعْجَبَ إليَّ مِنْكَ، وعِزَّتِي لأكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْتُ، وَلأَنْقُصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْتُ، / قَالَ: ثُمَّ قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلاً أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وأعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ» «2» ، انتهى، ت: وهذا الحديثُ هُوَ الذي يُعَوَّلُ عليهِ في تفسير الآيةِ، لصحته، واللَّه سبحانه أعلم. وقوله تعالى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هو جواب القسم، وما هُنَا عَاملةٌ لها اسْمٌ وَخَبَرٌ، وكذلِك هي متَى دَخَلَتِ البَاءُ في الخَبَرِ، وقوله: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ اعْتِرَاضٌ، كما تقولُ لإنْسَانٍ: أنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ فاضلٌ، وسَبَبُ الآيةِ هُوَ مَا كَانَ من قريش في رميهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالجُنُونِ، فَنَفَى اللَّهُ تعالى ذلك عنه، وأخبره بأنَّ له الأَجْرَ، وأنَّه على الخُلُقِ العظيمِ تَشْريفاً له، وَمَدْحاً واخْتُلِفَ في معنى مَمْنُونٍ فَقَال أكْثَرُ المفسرينَ: هو الوَاهِنُ المنْقَطِعُ، يقال: حَبْل مَنِينُ أي: ضعيفٌ، وقال آخرون: معناه: غير مَمْنُونٍ عَلَيْكَ، أي: لا يُكَدِّرُه مَنٌّ بِه، وفي الصحيحِ: سُئِلَتْ عائشةُ- رضي اللَّه عنها- عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقَالَتْ: «كَانَ خُلقُهُ القُرْآنَ» ، وقال الجُنَيْدُ: سمّي خلقُه عَظِيماً إذ لَمْ تَكُنْ له همةٌ سِوَى اللَّهِ تعالى عَاشَرَ الخَلْقَ بخُلُقِه، وزَايَلَهُمْ بِقَلْبهِ فكانَ ظاهرُه مَعَ الخلقِ، وباطِنهُ مع الحق، وفي وَصِيَّةِ بعض الحكماء: عليكَ بالخُلُقِ مَعَ الخَلْقِ، وبالصِّدقِ مَعَ الحقِّ، وحسْنُ الخلقِ

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 345) . (2) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (13/ 40) . قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» (479) . قال ابن عدي: باطل منكر آفته محمّد بن وهب الدمشقي. وقال في الميزان: صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل، وقد أخرجه الدارقطني في «الغرائب» من طريقه. ورواه ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعا، والخطيب عن علي مرفوعا. اهـ من كلام الشوكاني.

[سورة القلم (68) : الآيات 8 إلى 11]

خير كلّه، وقال ع: «إنَّ المؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ، صَائِمِ النَّهَارِ» وَجَاءَ في حُسْنِ الخُلُقِ آثارٌ كثيرةٌ مَنَعَنَا مِنْ جَلْبِها خَشْيَةُ الإطَالةِ، وقد رَوَى الترمذيُّ عَنْ أبي هريرةَ قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ؟ فقَال: تَقْوَى اللَّهِ وحُسْنُ الخُلُقِ، وسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ/ النَّارَ؟ فَقَالَ: الفَمُ وَالْفَرْجُ» «1» ، قَالَ أبو عيسى: هذَا حديثٌ صحيحٌ غَرِيبٌ، انتهى، ورَوى الترمذيّ عن أبي الدرداء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ من خُلُقٍ حَسَنٍ، وإنَّ اللَّهَ لَيَبْغَضُ الفَاحِشَ البَذِيَّ» «2» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، انتهى، قَال أبو عمر في «التمهيد» : قال الله- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قَال المفسرونَ: كان خلقُهُ مَا قَالَ اللَّهُ سبحانَه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] انتهى. وقَوْلهُ تعالى: فَسَتُبْصِرُ أي: أنْتَ وأمَّتكَ، وَيُبْصِرُونَ أي: هم، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال الأخفش: والعاملُ في الجملةِ المسْتَفْهَمُ عَنْها الإبصَارُ، وأمّا البَاءُ فقال أبو عبيدةَ معمر وقتادةُ: هي زائدةٌ والمعنى: أيكم المفتونُ «3» ، قال الثعلبيّ: المفْتُونُ المَجْنُونُ الذي فَتَنَهُ الشيطانُ، انتهى. [سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 11] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) وقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ يعني: قريشاً، وذلك أنهم قَالُوا في بعضِ الأوْقَاتِ للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ عَبَدْتَ آلهتَنَا وعَظَّمْتَها لَعَبَدْنَا إلهك وعظمناه، وودّوا أن يداهنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويميلَ إلى مَا قالوا، فَيمِيلُوا هُمْ أيضاً إلى قَولهِ ودِينِهِ، والإدْهَانُ الملايَنَةُ فيما لاَ

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 363) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في حسن الخلق (2004) ، وابن حبان (6/ 99) - الموارد، (1923) ، والحاكم في «المستدرك» (4/ 324) ، وابن ماجه (2/ 1418) ، كتاب «الزهد» باب: ذكر الذنوب (4246) ، والبخاري (89) (2991) ، وأحمد (2/ 392) . قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) أخرجه أبو داود (2/ 669) ، كتاب «الأدب» باب: في حسن الخلق (4799) مختصرا، والترمذي (4/ 362) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في حسن الخلق (2002) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 243) مختصرا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) ذكره ابن عطية (5/ 346) .

يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ الملاينة فيما يحل. وقوله: فَيُدْهِنُونَ معطوفٌ وليس بجَوابٍ، لأنَّه لَوْ كَانَ لَنُصِبَ، والحلاّفُ المردِّد لِحَلفِهِ الذي قد كثرَ منه، والمُهينُ الضَّعِيفُ الرأيِ، والعَقْلِ قاله مجاهد «1» ، وقال ابن عباس: المهينُ الكذَّابُ «2» ، والهمَّازُ الذي يَقَعُ في النّاسِ بلسَانِه «3» ، قال منذر بن سعيد: وبعَيْنِهِ وإشارَتِه، / والنَّمِيمُ مَصْدَرٌ كالنَّمِيمَةِ، وهو نَقْلَ مَا يَسْمَعُ مما يسوءُ ويُحَرِّشُ النفوسَ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابهِ المسمّى ب «بهجة المجالس» قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَفَّ عَنْ أعْرَاضِ المُسْلِمِينَ لِسَانَه أقَالَه اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَثَرَتَه» «4» ، وقال- عليه الصَّلاةُ والسّلام-: «شراركم أيّها الناس المشّاءون بالنَّمِيمَةِ، المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ لأَهْلِ البِرِّ العثرات» «5» انتهى، وروى حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ» «6» ، وهو النَّمَّامُ، وذَهَبَ كثيرٌ مِنَ المفسِّرِينَ إلى أنَّ هذهِ الأوْصَافَ هي أجْنَاس لَمْ يُرَدْ بها رجلٌ بعينهِ، وقالت طائفة: بَلْ نزلت في معيَّنٍ، واختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الوليدُ بن المغيرة،

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 347) ، وابن كثير (4/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 392) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (2) أخرجه الطبري (12/ 183) ، برقم: (34581) ، وذكره البغوي (4/ 377) ، وذكره ابن عطية (5/ 347) ، وابن كثير (4/ 403) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 347) . [.....] (4) تقدم تخريجه. (5) أخرجه أحمد (4/ 227) . قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 96) : رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب، وقد وثقه غير واحد، وبقية رجال أحمد أسانيده رجال «الصحيح» . (6) أخرجه مسلم (1/ 101) ، كتاب «الإيمان» باب: بيان غلظ تحريم النميمة، حديث (168/ 105) ، وأحمد (5/ 391، 396، 398، 406) من طريق واصل الأحدب، عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان، أنه بلغه: أن رجلا كان ينم الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يدخل الجنة نمام» . وللحديث طريق آخر عن حذيفة، وفيه قتات بدل نمام، أخرجه البخاري (10/ 487) ، كتاب «الأدب» باب: ما يكره من النميمة، حديث (6056) ، ومسلم (1/ 11) ، كتاب «الإيمان» باب: بيان غلظ تحريم النميمة (169/ 105) ، وأبو داود (2/ 684) ، كتاب «الأدب» باب: في القتات، حديث (4871) ، والترمذي (4/ 329) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في النمام، حديث (2026) ، وأحمد (5/ 382، 389، 392، 402، 404) ، والبيهقي (8/ 166) ، كتاب «قتال أهل البغي» باب: ما على من رفع إلى السلطان ما فيه ضرر، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 523) - بتحقيقنا، والطبراني في «الصغير» (1/ 203) ، وفي «الكبير» (3/ 186) ، برقم: (3020) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 179) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/ 237) من طريق همام بن الحارث عن حذيفة مرفوعا.

[سورة القلم (68) : الآيات 12 إلى 15]

وقيل هو: الأخْنَسُ بن شريق، ويؤيد ذلكَ أنه كانَتْ له زَنَمَةٌ في حَلْقِه كَزَنَمَةِ «1» الشَّاةِ، وأيضاً فكانَ من ثَقِيفٍ مُلْصَقاً في قُرَيْشٍ، وقيل: هو أبو جهلٍ، وقيل: هو الأسودُ بن عَبْدِ يَغُوثَ، قال ع «2» : وظاهرُ اللفظ عمومُ مَنِ اتَّصَفَ بهذهِ الصفاتِ، والمخاطبَةُ بهذا المعنى مستمرة بَاقِيَ الزَّمانِ، لا سيما لولاة الأمور. [سورة القلم (68) : الآيات 12 الى 15] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) وقوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ قَالَ كثيرٌ مِنَ المفسرينَ: الخيرُ هُنَا المالُ فَوَصَفه بالشُّحِّ، وقال آخرونَ: بل هُوَ عَلى عُمُومهِ في الأموالِ والأَعْمَالِ الصالحاتِ، والمُعْتَدِي المتجاوِزُ لحدودِ الأَشْيَاءِ، والأثِيمُ فَعِيلٌ مِن الإثْمِ، والعُتُلُّ: القويُّ البنيةِ، الغَليظُ الأَعْضَاءِ، القَاسِي القَلْبِ، البَعيدُ الفَهْمِ، الأَكُولُ الشَّرُوبُ، الذي هو بالليلِ جِيفَةٌ وَبِالنَّهارِ حِمَارُ، وكلُّ ما عبر به المفسرونَ عَنه مِنْ خِلاَلِ النقصِ، فَعَنْ هذه الَّتِي ذَكَرْتُ/ تَصْدُرُ، وقد ذكر النقاش أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم فَسَّر العتلَّ بِنَحْوِ هذا، وهذهِ الصفاتُ كثيرةُ التَّلازُمِ، والزَّنِيمُ في كلام العرب: المُلْصَقُ في القومِ ولَيْسَ منهم ومنه قول حَسَّان: [الطويل] وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ فَقَالَ كثيرٌ من المفسرينَ: هو الأخْنَسُ بن شريقٍ، وقال ابن عباس: أرادَ بالزنيم أنَّ له زَنَمَةً في عُنُقِهِ «3» ، وكان الأَخنسُ بهذه الصفةِ، وقيل: الزّنيم: المريب القبيح الأفعال. [سورة القلم (68) : الآيات 16 الى 32] سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) وقوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ معناه: على الأَنْفِ. قال ابن عبّاس: هو الضّرب

_ (1) زنمة الشاة: هنة معلقة في حلقها تحت لحيتها، وخص بعضهم به العنز. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 347) . (3) أخرجه الطبري (12/ 186) ، برقم: (34614) ، وذكره البغوي (4/ 378) ، وذكره ابن عطية (5/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 394) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.

بالسَّيْفِ في وَجْهِهِ وعَلَى أنْفِه «1» ، وَقَدْ حَلَّ ذَلِكَ به يومَ بَدْرٍ، وقيل: ذلك الوَسْمُ هو في الآخرةِ، وقال قتادة وغيره: معناه سَنَفْعَلُ به في الدنيا مِنَ الذَّمِّ لهُ والمَقْتِ والاشْتِهَارِ بالشر، ما يَبْقَى فِيه وَلاَ يَخْفَى به، فيكونُ ذلكَ كالْوَسِمِ عَلَى الأنف «2» . وقوله سبحانه: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يريد: قريشاً، أي: امتحنّاهم، وأَصْحابَ الْجَنَّةِ فيما ذُكِرَ كانوا إخوةً، وكانَ لأَبِيهم جَنَّةٌ وحَرْثٌ يَغْتَلُّه، فَكَان يُمْسِكُ منه قُوتَه، وَيَتَصَدَّقُ على المساكين بِبَاقِيهِ، وقيل: بلْ كَانَ يَحْمِلُ المساكِينَ مَعَه في وَقْتِ حَصَادِهِ وجَذِّه فَيُجْدِيهم منه، فماتَ الشيخُ، فقال ولدُه: نَحْنُ جَماعَةٌ وفِعْلُ أبينَا كَانَ خطأً فَلْنَذْهَبْ إلى جنَّتِنَا، ولا يَدْخُلَنَّها عَلَيْنَا مِسْكِينٌ، ولا نُعْطِي منها شيئاً، قَال: فَبَيَّتُوا أمْرَهُمْ وَعَزْمَهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا طائفاً من نارِ أو غيرِ ذلكَ، فاحْتَرَقَتْ، فقيلَ: فأصْبَحَتْ سَودَاء، وقيل: بَيْضَاء كالزَّرْعِ اليَابِسِ المَحْصُودِ، فلما أصْبَحوا إلى جنتهم لم يَرَوْهَا فَحسبوا أنهم قَد أَخْطَؤُوا الطريقَ، ثم تَبَيَّنُوها فعلموا أنَّ اللَّهَ/ أَصَابَهُم فِيها، فتَابوا حينئذٍ فَكَانُوا «3» مُؤمنِينَ أهْلَ كِتَابٍ، فَشَبَّه اللَّهُ قُرَيْشاً بهم في أنّه امتحنهم بالمصَائِبِ، في دنياهم لعدم اتّباعهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ التوبةُ مُعَرَّضَةٌ لِمَنْ بَقِيَ منهم. وقوله تعالى: لَيَصْرِمُنَّها أي: ليجذّنّها، ومُصْبِحِينَ معناه: دَاخِلينَ في الصباح. وقوله تعالى: وَلا يَسْتَثْنُونَ [أي: لا يَنْثَنُونَ] «4» عن رأْيِ مَنْعِ المساكين، وقَالَ مجاهد: معناه ولاَ يَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّه «5» . والصَّرِيمُ، قال جماعة: أرادَ بهِ اللَّيْلَ مِنْ حيثُ اسْوَدَّتْ جَنَّتُهم، وقَالَ ابن عباس: الصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الأسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ، وقولهم: إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ يَحْتَمِلُ أنْ يكُونَ مِنْ صرام النخلِ، ويحتملُ أنْ يريدَ إنْ كُنْتُمْ أهْلَ عزم وإقْدَامٍ على رأيكم، من قولك سيف صارم «6» ، ويَتَخافَتُونَ: معناه يَتَكَلَّمُونَ كَلاَماً خَفِيًّا، وكان هذا التخافتُ خَوْفاً مِنْ أنْ يَشْعُرَ بهمُ المساكينُ، وكان لفظُهم الذي يتخافتون به: أَنْ لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 188) ، برقم: (34628) ، وذكره البغوي (4/ 379) ، وابن عطية (5/ 349) ، وابن كثير (4/ 405) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 394) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. (2) ذكره البغوي (4/ 379) ، وابن عطية (5/ 349) ، وابن كثير (4/ 405) . (3) في ط: وكانوا. (4) سقط في: د. (5) ذكره ابن عطية (5/ 349) . (6) ذكره البغوي (4/ 379) ، وابن عطية (5/ 349) ، وابن كثير (4/ 406) .

[سورة القلم (68) : الآيات 33 إلى 43]

وقوله: عَلى حَرْدٍ يَحْتَمِلُ أنْ يريدَ عَلى مَنْعٍ، من قولهم: حَارَدَتِ الإبِلُ إذا قَلَّتْ ألبانُها فمنَعتْهَا، وحَارَدَتِ السنةُ إذا كَانَتْ شَهْبَاء لاَ غَلَّةَ لها، ويحتملُ أن يريدَ بالحَرْدِ الغَضَبَ، يقال حَرَدَ الرجلُ حَرْداً إذَا غَضِبَ، قال البخاريّ قَالَ قتادة: عَلى حَرْدٍ [أي: على جدٍّ] «1» في أنفسهم، انتهى «2» . وقوله تعالى: قادِرِينَ يحتملُ أن يكون من القُدْرَةِ، أي: قادرون في زعمهِم ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن التَّقْدِيرِ الذي هو تَضْيِيقٌ، كأنّهم قَدْ قَدَرُوا عَلَى المسَاكِينِ، أي ضَيَّقُوا عليهم، فَلَمَّا رَأَوْها أي: مُحْتَرِقَةً قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ طريقَ جَنَّتِنَا فَلَما تَحقَّقُوها/ عَلِمُوا أَنها قَدْ أصيبتْ فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: قَدْ حُرِمْنَا غَلَّتَها وبَرَكَتها، فقال لهم أعدلهُم قَوْلاً وعَقْلاً وخُلُقاً وهو الأوسَط أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قِيلَ هي عبارةٌ عَنْ تعظيمِ اللَّهِ والعَمَلِ بطاعتهِ سبحانَه، فَبادَرَ القَوْمُ عَنْدَ ذَلِكَ وَتَابُوا وسبَّحُوا، واعترفُوا بظلمِهم في اعتقادهم مَنْعَ الفقراءِ، ولاَمَ بعضُهم بَعْضاً واعترفوا بأنهم طَغَوا، أي: تَعَدَّوْا مَا يَلْزَم مِنْ مُوَاسَاةِ المساكينِ، ثم انصرفوا إلى رَجَاءِ اللَّه سبحانَه وانتظارِ الفَضْلِ من لَدُنْهُ في أن يُبْدِلَهُمْ، بِسَبَبِ تَوْبَتِهم، وإنابتِهم خَيْراً من تلك الجنة، قال الثعلبي: قال ابن مسعود: بلغني أن القومَ لما أخلصوا وعلم الله صدقهم أبدلهم الله- عز وجل- بها جنةً يقال لها الحَيَوَانُ، فيها عِنَبٌ يَحْمِلُ البغلُ العنقُودَ منها «3» ، وعن أبي خالد اليماني أَنه رأَى تلكَ الجنةَ ورَأَى كُلَّ عُنْقُودٍ منها كالرَّجُلِ الأسْوَدِ القائِم، انتهى،، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ فلا يُسْتَغْرَبُ هذا إنْ صَحّ سنده. [سورة القلم (68) : الآيات 33 الى 43] كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) وقوله سبحانه: كَذلِكَ الْعَذابُ أي: كَفِعْلِنَا بأهْلِ الجنةِ نَفْعَلُ بِمَنْ تعدَّى حدودَنا. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي: أعْظَم مما أصَابَهُمْ، إنْ لَمْ يتوبوا في الدنيا.

_ (1) سقط في: د. (2) أخرجه الطبري (12/ 191) ، برقم: (34644) ، وذكره البغوي (4/ 380) ، وابن كثير (4/ 406) . [.....] (3) ذكره البغوي (4/ 381) .

ثم أخْبَر تعالى ب إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ فَرُوِيَ أنه لما نزلت هذه الآيةُ قَالَتْ قريشٌ: إنْ كَانَ ثَمَّ جَنَّاتِ نعيمٍ فَلَنَا فِيها أكْبَرُ الحَظِّ، فنزلتْ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الآية تَوْبِيخاً لهم. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ مُنَزَّلٌ من عندِ اللَّهِ تَدْرُسُونَ فيه أنَّ لَكُمْ مَا تَخْتَارُونَ مِنَ النعيمِ، ف إِنَّ معمولة ل تَدْرُسُونَ وكُسِرَتِ الهمزَةُ مِنْ إِنَّ لدخولِ اللامِ في الخبرِ، وهي في معنى (أن) - بفتح الألِف- وقرىء شاذاً «1» : «أنَّ لَكُمْ» بالفتح، وقرأ الأعرج «2» : «أنّ/ لَكُمْ فِيهِ» على الاستفهام، ثم خَاطَب تعالى الكفارَ بقولهِ: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ كأنه يقُولُ هل أقْسَمْنَا لكم قَسَماً فهو عَهْدٌ لكم بأنَّا نُنَعِّمُكُمْ في يومِ القيامة، وما بعدَه، وقرأ الأعرج «3» : «آن لكم لما تحكمون» على الاستفهامِ، أيضاً. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي: ضَامِنٌ ت: قال الهروي: وقوله: أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ أي مُؤكَّدَة، انتهى. وقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ قيل: هو استدعاءٌ وتوقيفٌ في الدنيا، أي: لِيُحْضِرُوهُم حَتَّى يُرَى هلْ هُمْ بحالِ مَنْ يَضُرُّ وينفعُ أم لا؟ وقيلَ: هو استدعاءٌ وتوقيف على أن يأتوا بهم يومَ القيامةِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وقرأ ابن عباس «4» : «تُكْشَفُ» - بضم التاء- على مَعْنَى: تُكْشَفُ القيامةُ والشدةُ والحالُ الحاضرة، وقرأ ابن عباس «5» أيضاً: «تَكْشِفُ» - بفتح التاء- على أنَّ القيامةَ هي الكاشِفَةُ، وهذه القراءة مفسِّرَة لقراءَةِ الجماعةِ، فما وَرَدَ في الحديثِ والآيةِ مِنْ كَشْفِ الساقِ فهو عبارة عَنْ شدةِ الهول. وقوله- جلت عظمته-: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ وفي الحديثِ الصحيحِ: «فَيَخِرُّونَ للَّهِ سُجّداً أجْمَعونَ ولا يبقى أحَدٌ كَانَ يسجدُ في الدنيا رياءً ولا سمعةً ولاَ نِفَاقاً إلا صَارَ ظهرُهُ طَبَقاً وَاحِداً كُلَّما أرَادَ أنْ يسجد خرّ على قفاه» «6» ، الحديث، وفي

_ (1) قرأ بها الأعرج، كما ذكر ابن خالويه في «مختصر الشواذ» ص: (160) ، وقرأ بها طلحة، والضحاك، كما في «الدر المصون» (6/ 357) . (2) ينظر: «مختصر الشواذ» ص (160) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 352) و «البحر المحيط» (8/ 309) ، و «الدر المصون» (6/ 357) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 352) ، و «البحر المحيط» (8/ 309) . (4) ينظر: «المحتسب» (2/ 160) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 353) . (5) ينظر: مصادر القراءة السابقة. (6) أخرجه البخاري (8/ 531) ، كتاب «التفسير» باب: يوم يكشف عن ساق (4919) نحوه. -

[سورة القلم (68) : الآيات 44 إلى 52]

الحديثِ: «فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَتَرْجِعُ أصْلاَبُ المُنَافِقِينَ والكُفَّارِ، كَصَيَاصِي البَقَرِ، عَظْماً وَاحِداً فَلا يَسْتَطِيعُونَ سُجُودًا» الحديث. وقوله تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يريد في دَارِ الدنيا، وَهُمْ سالِمُونَ مما نالَ عَظَامَ ظهورِهم مِنَ الاتِّصَال والعتوّ. [سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) وقوله سبحانه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ الآية، وَعِيدٌ وتهديدٌ والحديثُ المشَارُ إليه/ هو القرآن، وباقي الآية بيّن مِمّا ذُكِرَ في غير هذا الموضع، ثم أمَرَ اللَّه- تعالى- نبيَّه بالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ وأنْ يَمْضِيَ لِمَا أُمِرَ بهِ من التبليغِ واحْتِمالِ الأذَى والمشقة، ونُهِيَ عَنِ الضَّجَرِ والعَجَلَةِ التي وَقَعَ فيها يونُسَ صلّى الله عليه وسلّم ثم اقْتَضَبَ القصَّةَ وذَكَرَ ما وَقَعَ في آخرها من ندائِه من بطن الحوت، وَهُوَ مَكْظُومٌ أي: وَهُو كَاظِمٌ لحُزْنِه ونَدَمِه، وقال الثعلبيّ، ونحوُه في البخاري: وَهُوَ مَكْظُومٌ أي: مملوءٌ غَمًّا وكَرْبَاً، انتهى وهُوَ أقْرَبُ إلى المعنى، وقال النَّقَّاشُ: المكظومُ الذي أُخِذَ بِكَظْمِه، وهي مَجَارِي القلبِ، وقرأ ابن مسعود «1» وغيره: «لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَتْهُ نِعْمَةُ» والنعمة التي تداركته هي الصَّفْحُ والاجتباء الذي سَبَقَ له عَنْدَ الله- عز وجل- لَنُبِذَ بِالْعَراءِ أي: لَطُرِحَ بالعرَاءِ وهُوَ الفَضَاءُ الَّذِي لاَ يُوارِي فيه جَبَلٌ ولاَ شَجَرٌ وقد نبذ يونس ع بالعَرَاءِ وَلَكِنْ غَيْر مَذْمُومٍ، وجاء في الحديث عن أسماء بِنْتِ عُمَيْسٍ قالَتْ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهنّ عند

_ - ومن طريق أخرى غير هذه، أخرج الحاكم حديثا في هذا المعنى (4/ 589، 592) في حديث طويل. قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في «الصحيحين» ، لما ذكر في انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأما الأئمة المتقدمون فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق، والإتقان، والحديث صحيح ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة. قال الذهبي: ما أنكره حديثا على جودة إسناده!! وأبو خالد شيعي منحرف. (1) وقرأ بها ابن عبّاس وأبي بن كعب. ينظر: «مختصر الشواذ» (ص: 161) ، و «الكشاف» (4/ 596) ، و «البحر المحيط» (8/ 311) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 354) ، و «الدر المصون» (6/ 359) .

الكَرْبِ أَوْ في الكَرْبِ، اللَّه اللَّه رَبِّي لاَ أُشْرِكُ بِه شَيْئاً» «1» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجَهُ الطبرانيُّ في كتاب «الدعاء» ، انتهى من «السلاح» ، ثم قال تعالى لنبيه: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ المعنى يكادُوْنَ مِنَ الغَيْظِ والعداوةِ يُزْلِقُونَه فَيُذْهِبُونَ قدمَه مِنْ مَكَانِها، ويُسْقِطُونَه، قال عياض: وقَدْ رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: كلُّ مَا في القرآن: «كاد» فَهُو مَا لاَ يَكُونُ، قال تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [النور: 43] ولم يذهبها وأَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] وَلَمْ يَفْعَلْ، انتهى ذكره إثرَ قَوْلِه تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] . وقرأ الجمهور: «لَيُزْلِقُونَكَ» /- بِضَمِّ اليَاءِ- مِنْ: أزْلَقَ، ونَافِعٌ بِفَتْحِها «2» ، من: زُلِقَتِ الرّجْلُ، وفي هذا المعنى قولُ الشاعر: [الكامل] يَتَقَارَضُونَ إذَا التقوا في مَجْلِس ... نَظَراً يَزِلُّ مَوَاطِىءَ الأَقْدَامِ «3» وَذَهَبَ قَوْمٌ من المفسرينَ على أن المعنى: يأخذونَك بالعَيْنِ، وقال الحسَنُ: دَوَاءُ مَنْ أَصَابَتْهُ العينُ أن يقرأَ هذهِ الآيةَ «4» ، والذِّكْرُ في الآيةِ: القرآنُ.

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 477) ، كتاب «الصلاة» باب: في الاستغفار (1525) ، والنسائي (6/ 166) - «الكبرى» ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا غلبه أمر (10484/ 22- 10485/ 23) ، وابن ماجه (2/ 1277) ، كتاب «الدعاء» باب: الدعاء عند الكرب (3882) ، وأحمد (6/ 369) . (2) ينظر: «السبعة» (647) ، و «الحجة» للقراء السبعة (6/ 312) ، و «إعراب القراءات» (2/ 382) ، و «حجة القراءات» (718) . (3) البيت في «الكشاف» (4/ 597) ، و «البحر المحيط» (8/ 311) ، والقرطبي (18/ 166) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 354) ، «اللسان» (زلق) . (4) ذكره البغوي (4/ 385) ، وابن عطية (5/ 355) .

تفسير سورة"الحاقة"

تفسير سورة «الحاقّة» [وهي] مكّيّة بإجماع [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) قوله عز وجل: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ المُرَادُ بالحاقَّةِ: القيامةُ، وهي اسْمُ فاعلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيءُ يَحِقُّ لأنَها حَقَّتْ لِكُل عَامِلٍ عملَه، قال ابن عباس وغيره: سُمِّيَت القيامةَ حَاقَّةً لأنَّها تُبْدِي حَقَائِقَ الأشياء «1» ، والْحَاقَّةُ: مبتدأ ومَا مبتدأُ ثانٍ، والحاقَّةُ الثانية خَبَرُ مَا والجملةُ خَبَرُ الأُولى، وهذا كما تقول: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ على معنى التعظيمِ له، وإبْهام التعظيمِ أيضاً ليتخَيَّلَ السّامِعُ أقْصَى جُهْدَه. وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مبالغة في هذا المعنى: أي: أن فيها مَا لَمْ تَدْرِه مِنْ أهْوَالِها، وتَفَاصِيلِ صِفَاتِها، ثم ذكرَ تعالى تكذيبَ ثَمُودَ وَعَادٍ بهذَا الأَمْرِ الذي هو حَقُّ مشيراً إلى أنْ مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ يَنزلُ به ما نزل بأولئك، والقارعة: من أسماء القيامة أيضاً لأنها تَقْرَعُ القلوبَ بصدمتها. [سورة الحاقة (69) : الآيات 5 الى 17] فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) وقوله سبحانه: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ قال قتادة: معناه: بالصَّيْحَةِ التي خَرَجَتْ عن حدِّ كل صيحةٍ «2» ، وقيل: المعنى بسَبَبِ الفِئَةِ الطاغيةِ، وقيل: بسببِ الفعلة الطاغية، وقال ابن زيد ما معناه: الطاغيةُ مصدرٌ كالعَاقِبة، فكأنه قال بطغيانهم «3» وقاله أبو

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 356) . [.....] (2) ذكره البغوي (4/ 386) ، وذكره ابن عطية (5/ 356) ، وذكره ابن كثير (4/ 412) . (3) أخرجه الطبري (12/ 207) ، رقم: (34722) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) .

عبيدة، وَيُقَوِّي هذا قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: 11] وأوْلَى الأقوال وأصوبُها الأوَّلُ، وباقي/ الآيةِ تقدم تفسيرُ نظيرهِ، وما في ذلك من القصص، والعَاتِيَةُ: معناه الشديدةُ المخالِفَة، فكانت الريحُ قد عَتَتْ على خُزَّانِها بخلافِها، وعلى قومِ عادٍ بشدتها، ورُوِيَ عن عليٍّ وابن عباس أنهما قَالا: لَمْ ينزلْ من السماء قطرةُ ماءٍ قط إلا بمكيالٍ عَلَى يدِ مَلَكٍ، ولا هبتْ ريحٌ إلاَّ كذلك إلاَّ ما كَانَ مِنْ طوفانِ نوحٍ، وريحِ عادٍ، فإنَّ اللَّه أَذِنَ لهما في الخروج دونَ إذن الخزّان «1» ، وحُسُوماً: قال ابن عباس وغيره: معناه كَامِلَةً تِبَاعاً لم يتخللْها غيرُ ذلك «2» ، وقال ابن زيد: حُسُوماً جمعُ حَاسِمٍ، ومعناه أنَّ تلكَ الأَيامَ قطعَتْهُم بالإهلاكِ «3» ، ومنه حَسَمَ العِلَلَ، ومنه الحُسَامُ، والضميرُ في قوله: فِيها صَرْعى يُحتملُ عُوْدُه على الليالي والأيامِ، ويُحْتَمَلُ عودُه على ديارِهم، وقيل: على الريح، - ص-: «ومن قِبَلَه» النْحويانِ وعاصمٌ في روايةٍ- بكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباء- أي: أجنادُه وأهلُ طاعتهِ، وقرأ الباقون «4» : «قَبْلَه» ظَرْفَ زمانٍ، انتهى. وقوله: بِالْخاطِئَةِ صفةٌ لمحذوفٍ، أي: بالفعلةِ الخاطئةِ، وال «رابية» النَّامِيَة التي قد عَظُمَتْ جِدًّا، ومنه رِبَا المالِ، ومنه اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [ٍالحج: 5] ، ثم عدد تعالى على الناس نعمه في قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ يعني في وقتِ الطوفانِ الذي كانَ على قوم نوح، والْجارِيَةِ سفينةُ نوحٍ قاله منذر بن سعيد «5» ، والضميرُ في: لِنَجْعَلَها عائِدٌ على الجاريةِ أو على الفعلة. وقوله تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ : عبارةٌ عن الرجلِ الفَهِمِ المُنَوَّرِ القلبِ الذي يسمعُ القرآنَ فيتلقاه بِفَهْمٍ وتدبُّرٍ، قال أبو عمران الجوني: واعِيَةٌ عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تعالى، وقال الثعلبيُّ: المعنى: لِتَحْفَظَهَا كلُّ أذُنٍ فتكونَ عِظَةً لِمَنْ يأتي بعدُ، تقول وَعَيْتَ العِلْمَ إذا

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 207- 208) ، رقم: (34727) ، (34728) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) ، وذكره ابن كثير (4/ 413) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 405) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري (12/ 208) ، رقم: (34732) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) ، وذكره ابن كثير (4/ 412) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 406) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عبّاس. (3) أخرجه الطبري (12/ 209) ، رقم: (34745) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) . (4) ينظر: «السبعة» (648) ، و «الحجة» (6/ 314) ، و «إعراب القراءات» (2/ 385) ، و «حجة القراءات» (718) ، و «معاني القراءات» (86) ، و «العنوان» (196) ، و «شرح شعلة» (606) ، و «شرح الطيبة» (6/ 66) ، و «إتحاف» (2/ 557) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 358) .

[سورة الحاقة (69) : الآيات 18 إلى 29]

حَفِظْتَه، انتهى، ثم/ ذَكَّر تعالى بأمر القيامةِ، وقرأ الجمهور «1» : «وَحُمِلَتْ» بتخفيفِ الميمِ بمعنى: حَمَلَتْهَا الريح أو القدرة، وفَدُكَّتا معناه سُوِّيَ جميعُها، وانشقاقُ السماءِ هو تَفَطُّرُهَا وتميُّزُ بعضِها من بعضٍ، وذلك هو الوَهْيُ الذي ينالُها، كما يقال في الجدرات الباليةِ المتشققةِ واهيةٌ، والملَكُ اسْمُ الجنسِ يريدُ به الملائكةَ، وقال جمهور من المفسرين: الضميرُ في أَرْجائِها عائدٌ على السَّمَاءِ أي: الملائِكَة على نواحيها، والرجاء الجَانِبُ مِنْ البئر أو الحائط ونحوه، وقال الضحاكُ وابنُ جبير وغيرهما: الضميرُ في: أَرْجائِها عائدٌ عَلى الأرْضِ «2» ، وإنْ كان لم يتقدم لها ذكرٌ قريبٌ لأنَّ القصةَ واللفظَ يَقْتَضِي إفهَام ذلك، وفَسَّرُوا هذه الآيةَ بما رُوِيَ من أن اللَّه تعالى يأمر ملائِكَةَ سَمَاءِ الدنيا، فيقفونَ صَفًّا على حَافَّاتِ الأرضِ، ثم يأمرُ ملائكة السماءِ الثانية فَيَصُفُّونَ خلفَهم، ثم كذلك ملائكةُ كُلّ سماءٍ، فكلما نَدَّ أحدٌ من الجنِ أو الإنسِ، وَجَدَ الأرضَ قد أُحِيطَ بها، قالوا: فهذا تفسير هذه الآية وهو أيضاً معنى قوله: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وهو تفسير: «يَوْمَ التناد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» [غافر: 32- 33] على قراءةِ من شَدَّدَ الدال، وهو تفسيرُ قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ... [الرحمن: 33] الآية، واختلفَ الناسُ في الثمانيةِ الحاملينَ للعرشِ، فقال ابن عباس: هي ثمانيةُ صفوفٍ مِنَ الملائكة لا يَعْلَم أَحَدٌ عِدَّتَهم «3» ، وقال ابن زيدِ: هُمْ ثمانيةُ أمْلاَكٍ على هيئةِ الوُعُولِ «4» ، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناسِ أرجلُهم تَحْتَ الأرْضِ السابعةِ، ورؤوسهم وكواهلهم فَوْقَ السماءِ السابعةِ، قال الغَزَّالِيُّ في «الدرة الفاخرة» : هم ثمانيةُ أمْلاَكٍ قَدَمُ المَلَكِ منهم مسيرةُ عشرينَ ألْفَ سنةٍ، انتهى، والضميرُ في قوله: فَوْقَهُمْ قيل: هو للملائكَةِ/ الحَمَلَةِ، وقيل: للعالم كلّه. [سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 29] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)

_ (1) وقرأ ابن عبّاس، والأعمش، وابن أبي عبلة، وابن مقسم بتشديد الميم. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (161) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 379) ، و «البحر المحيط» (8/ 317) ، و «الدر المصون» (6/ 363) ، و «التخريجات النحوية» (238) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 359) . (3) أخرجه الطبري (12/ 215- 216) ، رقم: (34788، 34790) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 388) ، وذكره ابن عطية (5/ 359) ، وذكره ابن كثير (4/ 414) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 409) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) أخرجه الطبري (12/ 216) ، رقم: (34792) بنحوه. وذكره ابن عطية (5/ 359) .

وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ خطابٌ لجميعِ العَالَمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ: «يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَعِنْدَهَا تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ بِشِمَالِهِ» «1» ، قال الغَزَّالِيُّ: يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ البِدَارُ، إلى مُحَاسَبَةِ نفسِه كما قال عمرُ- رضي اللَّه عنه-: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا «2» ، وإنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ المَوْتِ تَوْبَةً نَصُوحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ في فَرَائِضِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- ويردَّ المظالمَ حَبَّةً حَبَّةً، ويستحلَّ كلَّ مَنْ تَعَرَّضَ له بلسانِه ويدِه، وسوء ظِنّه بقلبِه، ويُطَيِّبَ قلوبَهم حتى يموتَ، ولم يَبْقَ عليه فريضة ولا مظلمة، فهذا يدخل بغيرِ حِسَابٍ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، انتهى من آخِر «الإحياء» ، ونَقَلَ القرطبيُّ في «تذكرَتِه» هذه الألفاظَ بعينها. وقوله: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ معناه تَعَالُوا، وقَوْله: اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هُو استبشارٌ وسرورٌ- ص-: هاؤُمُ «ها» بمعنَى خُذْ، قَالَ الكسائي: والعربُ تقول: هَاءِ يَا رَجُلُ، وللاثنين رجلين أو امرأتين: هَاؤُمَا، وللرجال: هَاؤُمْ، وللمرأَةِ: هَاءِ بهمزة مكسورة من غير ياء، وللنساء: هَاؤُنَّ، وزعم القُتَبِيُّ أَنَّ الهمزةَ بَدَلٌ من الكافِ، وهو ضعيفٌ، إلا أنْ يعني أنها تحلُّ محلَّها في لغةِ مَنْ قال: هَاكَ وهَاكِ، وهَاكُمَا وهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فذلكَ مُمْكِنٌ، لا أَنَّه بَدَلٌ صناعيٌّ لأَنّ الكافَ/ لاَ تُبْدَلُ من الهمزةِ ولا الهمزةُ منها. انتهى. وقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ عبارةٌ عن إيمانه بالبعث وغيره، وظَنَنْتُ هنا واقَعةٌ موقع: تَيَقَّنْتُ، وهي في مُتَيَقَّنٍ لم يقعْ بَعْدُ ولا خرج إلى الحسِّ، وهذا هُو باب الظنِّ الذي يوقع موقعَ اليقين، وراضِيَةٍ بمعنى مَرْضِيَّة، والقُطُوفُ: جمع قَطْفٍ وهو ما يُجْتَنَى من الثمارِ، ويقطفُ، ودنوُّها هُوَ أَنهَا تأتي طوع التّمنّي فيأكلها القائم والقاعد

_ (1) أخرجه الترمذي (4/ 617) ، كتاب «صفة القيامة» باب: ما جاء في العرض (2425) ، وابن ماجه (2/ 1430) ، كتاب «الزهد» باب: ذكر البعث (4277) ، وأحمد (4/ 414) . قال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 410) ، وعزاه لابن المبارك.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 30 إلى 33]

والمضطجع بفيه من شجرتها، وبِما أَسْلَفْتُمْ معناه بِمَا قَدَّمْتُمْ من الأَعْمَالِ الصالحةِ، والْأَيَّامِ الْخالِيَةِ هي أيام الدنيا، لأنها في الآخرة قَدْ خَلَتْ وذَهَبَتْ، وقال وكيع وغيره: المرادُ بِما أَسْلَفْتُمْ من الصوم «1» ، وعموم الآية في كل الأعمال أوْلى وأحسن، ت: ويدلُّ على ذلك الآية الأخرى كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات: 43] قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا مالك بن مغول أنّه بلغَه أنّ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- قال: حَاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تحاسَبُوا فإنَّه أهْونُ أو أيْسَرُ لحسابِكم، وزنوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنُوا، وتجهَّزُوا للعرْضِ الأَكْبَرِ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختارِ، عن الحسن قال: إن المؤمِنَ قَوَّامٌ على نفسه، يحاسبُ نفسَه للَّه، وإنما خَفَّ الحسابُ يوم القيامة عَلَى قومٍ حَاسَبُوا أنفسهم في الدنيا، وإنَّما شَقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ عن غير محاسبةٍ «2» ، انتهى، والذينَ يُؤتَوْنَ كتبَهم بشمائِلهم هم المخلَّدُونَ/ في النارِ أهلُ الكفرِ، فيتمنَّوْن أن لو كانوا معدومين. وقوله: يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ إشارة إلى موتة الدنيا، أي: ليتها لم يكن بعدها رجُوع، - ص-: مَا أَغْنى «ما» نافيةٌ أو استفهاميةٌ انتهى، والسلطانُ في الآيةِ الحجةُ، وقيل: إنه يَنْطِقُ بذلكَ مُلُوكُ الدنيا، والظاهر أنَّ سلطانَ كلِّ أحَدٍ حَالُه في الدنيا من عَدَدٍ وعدد، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «لاَ يُؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلاَ يجلس على تكرمته إلّا بإذنه» «3» . [سورة الحاقة (69) : الآيات 30 الى 33] خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وقوله سبحانه: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ الآية، المعنى يقول الله تعالى، أو الملك بأمره

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 360) . [.....] (2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 412) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج. (3) أخرجه مسلم، كتاب «المساجد» باب: من أحق بالإمامة، حديث (290- 291) ، وأبو داود (1/ 215) ، كتاب «الصلاة» باب: في من أحق بالإمامة (582) ، والترمذي (1/ 458- 459) ، كتاب «المواقيت» باب: من أحق بالإمامة (230) ، والنسائي (2/ 76) ، كتاب «الإمامة» باب: من أحق بالإمامة (780) ، (2/ 77) ، كتاب «الإمامة» باب: اجتماع القوم وفيهم الوالي (783) ، وابن ماجه (1/ 313، 314) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: من أحق بالإمامة (980) ، وأحمد (4/ 118، 121- 122) ، (5/ 272) ، وهو في الترمذي أيضا (5/ 99) ، كتاب «الأدب» باب: (24) (2772) . قال الترمذي: حسن صحيح.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 34 إلى 37]

للزبانيةِ: خذوه واجْعَلُوا في عنقه غلاًّ، قال ابن جُرَيْجٍ: نزلَتْ في أبي جَهْلٍ «1» . وقوله تعالى: فَاسْلُكُوهُ معناه: أدْخِلوه، ورُوِيَ أن هذه السلسلةَ تدخلُ في فَمِ الكافرِ وتخرجُ من دُبُرِه، فهي في الحقيقةِ التي تَسْلُكُ فيه، لكنَّ الكلامَ جَرَى مَجْرَى: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأْسِي، ورُوي أن هذه السلسلةَ تلوى حَوْلَ الكافرِ حتى تعمَّه وتَضْغَطَه، فالكلامُ على هذا على وجهه وهو المسلوك. [سورة الحاقة (69) : الآيات 34 الى 37] وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) وقوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ خُصَّتْ هذه الخلةُ بالذكرِ، لأنَّها من أضَرِّ الخِلاَلِ بالبشر إذا كثُرَتْ في قوم هَلَكَ مساكينُهم، ت: ونَقَلَ الفخرُ «2» عن بعض الناس أنه قال في قوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ: دليلانِ قويَّانِ على عِظَمِ الجرْمِ في حِرْمَانِ المساكين، أحدهما: عَطْفُه على الكفرِ وجَعْلُه قريناً له، والثاني: ذِكْرُ الحضِّ دُونَ الفِعْلِ ليعلمَ أنَّه إذا كانَ تاركَ الحضِّ بهذه المنزلةِ، فكيفَ بمن ترك الفِعْل، قال الفخر «3» : ودلتِ الآية على أنَّ الكفارَ يُعَاقَبُونَ على ترك الصلاةِ والزكاةِ، وهو المرادُ من قولنا: إنهم مخاطَبُون بفروعِ الشريعة/ وعن أبي الدَّرْدَاءِ أنه: كانَ يَحُضُّ امرأتَه على تكثيرِ المَرَقِ لأجْلِ المساكينِ، ويقول: خَلَعْنَا نصفَ السلسلةِ بالإيمَانِ، أَفَلاَ نَخْلَعُ النصفَ الثاني «4» ، انتهى. وقوله: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي صَدِيقٌ لطيفُ المودةِ قاله الجمهور، وقيلَ: الحميمُ الماءُ السُّخْنُ، فكأنه تعالى أخبرَ أنَّ الكافرَ ليس له ماءٌ ولا شيءٌ مائعٌ ولا طَعَامٌ إلا مِنْ غِسْلينٍ، وهو ما يَجْرِي من الجَرَاحِ، إذا غَسِلَتْ، وقال ابن عباس: الغسلينُ هو صَدِيدُ أهْلِ النار «5» ، وقال قَوم: الغسلينُ: شيءٌ يجري من ضَرِيع النارِ، - ص-: إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أبو البقاء: النونُ في (غسلين) زائدةٌ: لأنه غُسَالَةُ أهلِ النار، انتهى،

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 361) عن ابن جرير. (2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 102) . (3) ينظر: المصدر السابق. (4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 412) ، وعزاه لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي الدرداء. (5) أخرجه الطبري (12/ 221) ، رقم (34825) ، وابن عطية (5/ 361) ، وابن كثير (4/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 412) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 إلى 40]

والخاطئ الذي يفعل ضدّ الصواب. [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 40] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ قيل: «لا» زائدةٌ وقيل: «لا» رَدٌّ لما تَقَدَّمَ من أَقوالِ الكفار، والبَدْأَة: أقْسِمُ. وقوله: بِما تُبْصِرُونَ وَما لاَ تُبْصِرُونَ قَال قتادة: أرادَ اللَّه تعالى أن يَعُمَّ بهذا القسمِ جميعَ مخلوقاتهِ «1» ، والرسولُ الكريمُ قيل: هو جبريلٌ، وقيل: هو نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الحاقة (69) : الآيات 41 الى 44] وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) وقوله تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ نَفى سبحانه أن يكونَ القرآن من قولِ شاعرٍ كما زعمت قريش، وقَلِيلًا نَصْبٌ بفعلِ مَضْمَر يدل عليه تُؤْمِنُونَ و «ما» يحتملُ أنْ تكونَ نافيةً فينتفي إيمَانُهم أَلْبَتَّةَ، ويحتملُ أَن تكونَ مصدريةً فيتَّصِفُ إيمانهم بالقلةِ، ويكونُ إيماناً لُغَوِيًّا لأنهم قَدْ صَدَّقُوا بأشياءَ يسيرةٍ لاَ تُغْنِي عَنْهم شيئاً، ثم أخبر سبحانه أن محمّدا ع لَوْ تَقَوَّلَ عليه لعَاقَبَه بما ذكر، - ص-: الأَقَاويلُ جمع أقوالٍ، وأقْوَالٌ جَمْعُ قَوْلٍ، فهو جمع الجمع، انتهى. [سورة الحاقة (69) : الآيات 45 الى 52] لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) وقوله سبحانه: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قال ابن عباس: المعنى لأَخَذْنا منه بالقوةِ، أي لَنِلْنَا منه عقَابَه بقوةٍ/ منا «2» ، وقيل: معناه لأَخَذْنَا بيدهِ اليمنى على جهةِ الهَوانِ، كما يقال لِمَنْ يسجنُ أو يقامُ لعقوبةٍ: خُذُوا بيدِه أو بيمينه، والوَتِينُ نِيَاطُ القلبِ قاله ابن عباس، وهُو عِرْقٌ غَلِيظٌ تصادفُه شفرةُ الناحِرِ «3» ، فمعنى الآيةِ: لأَذْهَبْنَا حياتَه معجَّلاً، والحاجِزُ: المانِعُ والضمير في قوله: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ عائدٌ على القرآن، وقيل: على النبي صلّى الله عليه وسلّم،

_ (1) ذكره البغوي (4/ 390) ، وذكره ابن عطية (5/ 362) . (2) ذكره البغوي (4/ 390) ، وذكره ابن عطية (5/ 363) . (3) أخرجه الطبري (12/ 223) ، رقم: (34832- 34833، 34834) بنحوه، والبغوي (4/ 391) ، وابن عطية (5/ 363) ، وابن كثير (4/ 417) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 413) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عبّاس.

- ص-: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ: ضمير (إنه) يعودُ على التكذيبِ المفهومِ من مُكَذِّبِينَ، انتهى، وقال الفخر «1» : الضميرُ في قوله: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ فيه وجهانِ: أحدهما أنه يعودُ على القرآن، أي: هو على الكافرينَ حَسْرَةً، إمَّا يوم القيامةِ إذَا رَأَوا ثَوَابَ المصدِّقينَ به، أو في الدنيا إذا رأوا دَوْلَةَ المؤمنِين، والثاني: قال مقاتلٌ: وإنَّ تكذيبَهم بالقرآن لَحَسْرَةٌ عليهم يَدلُّ عَلَيْه قوله: أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، انتهى، ثم أمَرَ تعالى نبيه بالتسبيحِ باسْمِه العظيم، ولمّا نَزَلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم.

_ (1) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 106) .

تفسير سورة"المعارج"

تفسير سورة «المعارج» [وهي] مكّيّة بلا خلاف [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) قوله عز وجل: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ قرأ جمهور السبعة: سَأَلَ بهمزة محقَّقةٍ، قالوا: والمعنى دَعَا داعٍ، والإشارةُ إلى مَنْ قال من قريشٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... [الأنفال: 32] الآية، وقولهم: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] ونحو ذلك، وقال بعضهم: المعنى بَحَثَ بَاحِثٌ واسْتَفْهَمَ مُسْتَفْهِم، قالوا: والإشارةُ إلى قول قريشٍ: مَتى هذَا الْوَعْدُ [الملك: 25] وَمَا جَرى مَجْراه قاله الحسن وقتادة، والباء على هذا التأويل في قوله: بِعَذابٍ بمعنى «عن» وقرأ نافع وابن عامر «1» : «سَال سَائِلٌ» ساكنَةَ الأَلِفِ، واختلفَ القراء بها/ فقال بعضهم: هي «سأل» المهموزةُ إلاَّ أنَّ الهمزةَ سُهِّلَتْ، وقال بعضهم هي لغة من يقول: سَلْتُ أَسَالُ وَيَتَسَاوَلاَنِ، وهي لغةٌ مشهورة، وقال بعضهم في الآية: هي من سَالَ يَسِيلُ إذا جَرَى، وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت وغيره: في جهنمَ وادٍ يسمَّى سَائِلاً «2» والإخبارُ هنا عنه، وقرأ ابن عباس «3» : «سَال سيل» - بسكون الياءِ- وسؤَال الكفارِ عن العذابِ- حَسَبَ قراءة الجماعة- إنما كانَ على أنه كَذِبٌ، فوصفَه اللَّه تعالى بأنهُ وَاقِعٌ وعيداً لهم. وقوله: لِلْكافِرينَ قال بعض النحاة: اللامُ بمعنى «على» ، ورُويَ: أنه كذلِكَ في

_ (1) ينظر: «السبعة» (650) ، و «الحجة» (6/ 317) ، و «إعراب القراءات» (2/ 389) ، و «حجة القراءات» (720) ، و «معاني القراءات» (3/ 88) ، و «شرح الطيبة» (6/ 68) ، و «العنوان» (197) ، و «شرح شعلة» (608) . و «إتحاف» (2/ 560) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 364) . (3) قال أبو الفتح: السيل هنا: الماء السائل، وأصله المصدر، من قولك: سال الماء سيلا، إلا أنه أوقع على الفاعل، كقوله: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] ، أي: غائرا. ينظر: «المحتسب» (2/ 330) ، و «مختصر الشواذ» ص: (162) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 365) . [.....]

[سورة المعارج (70) : آية 4]

مصحف «1» أُبَيٍّ: «على الكافرين» والمعارجُ في اللُّغةِ الدَّرَجُ في الأجْرَام، وهي هنا مستَعارَةٌ في الرُّتَبِ والفضائِل، والصفاتِ الحميدة قاله ابن عباس وقتادة «2» ، وقال الحسن: هي المَرَاقي في السماء «3» ، قال عياض، في «مشارق الأنوار» : قوله صلّى الله عليه وسلّم «فَعَرَجَ بي إلى السَّماء» ، أي: ارْتَقَى بي، والمعراجُ الدَّرَجُ وقيل: سُلَّمٌ تَعْرُج فيه الأرواحُ، وقيل: هو أحْسَنُ شيءٍ لا تتمالكُ النفسُ إذا رأته أنْ تَخْرُجَ، وإليه يَشْخَصُ بَصَرُ الميْتِ مِنْ حُسْنِهِ، وقيل: هو الذي تَصْعَدُ فيه الأَعْمَالُ، وقيل: قوله: ذِي الْمَعارِجِ مَعَارِجِ الملائكة، وقيل: ذي الفواضل، انتهى. [سورة المعارج (70) : آية 4] تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) وقوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ معناه تَصْعَدُ، والرُّوحُ عِنْدَ الجمهورِ هو جبريلُ ع وقال مجاهد: الرُّوحُ ملائِكَةٌ حَفَظَةٌ للملائِكَةِ الحافظين لبني آدم لا تَراهم الملائكةُ كَمَا لا نرى نحن الملائكة «4» ، وقال بعض المفسرين: هو اسم جنسِ لأرواحِ الحيوان. وقوله سبحانه: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال ابن عباس وغيره: هو يومُ القيامةِ «5» ، ثم اختلفُوا فقال بعضُهم: قُدْرُه في الطولِ قَدْرَ/ خمسينَ ألفَ سَنَةٍ، وقال بعضهم: بل قَدْرُه في الشدّة، والأولُ هو الظاهر، وهو ظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما مِنْ رجلٍ لا يؤَدِّي زكاةَ مالِه إلا جُعِلَ له صفائحُ مِن نارٍ يوم القيامةِ تكْوَى بها جَبْهَتُه وظهرُه وجَنْبَاه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» . قال أبو سعيدِ الخدريُّ: «قيل: يا رسولَ اللَّه! مَا أطْوَلَ يَوْماً مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَة! فقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيَخِفُّ عَلَى المُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ» «6» ، قال ابن المبارك: أَخبرنا معمر عن قتادة عن

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 365) . (2) أخرجه الطبري (6/ 226) ، رقم: (34853- 34854) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 365) ، وابن كثير (4/ 418) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 416) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، وعزاه أيضا لعبد بن حميد. (3) ذكره ابن عطية (5/ 365) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 365) . (5) أخرجه الطبري (12/ 227) ، رقم: (34864) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 392) ، وابن عطية (5/ 365) ، وابن كثير (4/ 419) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 416) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» . (6) أخرجه أحمد (3/ 75) ، والطبري (12/ 227) (34867) .

[سورة المعارج (70) : الآيات 5 إلى 18]

زُرَارَةَ بْنِ أوفى عن أبي هريرةَ قال: يَقْصُرُ يومئذٍ على المؤْمِنِ حتى يكونَ كوقتِ الصَّلاَةِ «1» ، انتهى، قال ع «2» : وَقَدْ ورد في يوم القيامةِ أنه كألْفِ سنةٍ، وهذا يشبه أن يكونَ في طوائفَ دونَ طوائفَ، ت: قال عبد الحق في «العاقبة» له: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أن يومَ القيامةِ لَيْسَ طولُه كما عَهِدْتَ من طول الأيامْ، بَلْ هو آلافٌ من الأعوامْ، يَتَصَرَّفُ فيه هذا الأنامْ، على الوُجُوهِ والأَقْدَامْ، حَتَّى يَنْفُذَ فيهم مَا كُتِبَ لَهُمْ وعليهم من الأَحْكَامِ، وليس يكونُ خَلاَصُه دفعةً وَاحِدَةً، ولا فراغُهم في مرةٍ واحدةٍ بل يَتَخَلَّصُونَ ويَفْرُغُونَ شَيْئاً بعد شيءٍ، لَكِنَّ طولَ ذلك اليومِ خمسون ألفَ سنة، فَيَفْرَغُونَ بِفَرَاغِ اليومِ، ويفرغُ اليومُ بِفَرَاغِهِم، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يطولُ مقامُه وحبْسُه إلى آخر اليومِ، ومنهم من يكونُ انفصَالُه في ذلك اليوم في مقدار يَوْمٍ من أيام الدنيا، أو في ساعةٍ من ساعاتِه، أو في أقَلَّ من ذلك، ويكون رائحاً في ظلِّ كَسْبهِ وعَرْشِ ربه، ومنهم من يُؤْمَرُ به إلى الجنةِ بغير حسابٍ ولا عذاب، كما أنَّ منهم مَنْ يُؤمَرُ به إلى النارِ في أول الأمْر من غير وقوفٍ ولا انتظار، / أو بعدَ يسير من ذلك، انتهى. [سورة المعارج (70) : الآيات 5 الى 18] فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) وقوله سبحانه: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أمرٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصبرِ على أذَى قومِه، والصبرُ الجميلُ الذي لا يَلْحَقُه عَيْبٌ ولا شَكٌّ ولا قِلَّةُ رِضًى، ولا غيرُ ذلك، والأمْرُ بالصبرِ الجميلِ مُحْكَمٌ في كل حالة، أعني: لاَ نَسْخَ فيه، وقيل: إن الآيةَ نزلتْ قبل الأمْرِ بالقِتَالِ فهي منسوخة، ت: ولو قيلَ: هذا خطابٌ لجنسِ الإنْسَانِ في شَأْنِ هَوْلِ ذلكَ اليومِ مَا بَعُدَ. وقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً يعني يوم القيامة، والمهْلُ: عَكَرُ الزَّيْتِ قاله ابن

_ - قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 340) : رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه. (1) أخرجه مسلم (1/ 322) ، وأبو داود (2/ 673) ، كتاب «الأدب» باب: في التحلق (4823) ، وأحمد (5/ 93، 101، 107) ، والبيهقي (3/ 234) ، كتاب «الجمعة» باب: من كره التحلق في المسجد. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 365) .

[سورة المعارج (70) : الآيات 19 إلى 21]

عباس «1» وغيره، فَهِي لسوادِها وانكدارِ أَنوارِها، تشبهُ ذلكَ، والمهلُ أيضاً: ما أُذِيبَ من فضَّةٍ ونحوها قاله ابن مسعود وغيره «2» ، والعِهْنُ الصوفُ، وقيل: هو الصوفُ المصْبُوغ، أيَّ لَوْنٍ كَانَ، والحميمُ في هذا الموضع: القريبُ والوَليُّ، والمعنى: ولا يَسْأَلُهُ نصرةً ولا منفعةً، ولا يجدُها عنده، وقال قتادة: المعنى: ولا يَسْأَلُهُ عن حالِه لأَنَّها ظاهرةٌ قَدْ بَصُرَ كلُّ أحَدٍ حَالَةَ الجميعِ، وشُغِلَ بنفسهِ «3» ، قال الفخرُ «4» : قوله تعالى: يُبَصَّرُونَهُمْ تقول: بَصَّرَني زيدٌ كَذَا، وبَصَّرَنيِ بِكَذَا، فإذا بَنَيْتَ الفِعل للمَفْعُولِ وحَذَفْتَ الجارَّ، قلتَ: بُصِّرْتُ زَيْداً، وهكذا معنى: يُبَصَّرُونَهُمْ وكأَنَّه لما قال: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قيل: لعله لاَ يُبْصِرُه فَقَال: يُبَصَّرُونَهُمْ ولَكِنْ لاِشْتِغَالِهم بأنفسِهم لا يَتَمَكَّنُونَ من تساؤلهِم، انتهى، وقرأ ابن كثير «5» بخلافٍ عنه: «ولاَ يُسْئَلُ» عَلَى بِنَاءِ الفعلِ للمفعول، فالمعنى: وَلاَ يُسْأَلُ إحْضَارَهُ لأنَّ كلَّ مُجْرِمٍ له سِيمَا يُعْرَفُ بها، كما أنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَهُ سِيمَا خَيْرٍ، والصَّاحِبَةُ هنا: الزوجةُ، والفصيلة هنا: قرابَةُ الرجل. وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى ردُّ لما وَدُّوه، أي: ليس الأَمْرُ كذلك، و «لَظَى» طَبَقَةٌ مِنْ طبقاتِ جهنم، والشَّوَى/ جلدُ الإنسانِ وقيل: جلدُ الرأس. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يريدُ الكفارَ، قال ابن عباس وغيره: تدعوهُم بأسمائهم وأسماء آبائهم «6» ، وَجَمَعَ أي جمعَ المالَ وفَأَوْعى جَعَلَه في الأوْعِية، أي: جمعُوه من غيرِ حلٍّ ومَنَعُوه من حقوقِ اللَّهِ، وكان عبدُ اللَّهِ بن عكيم لاَ يَرْبِطُ كيسَه، ويقول: سمعت الله تعالى يقول: وَجَمَعَ فَأَوْعى. [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 21] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ عمومٌ لاسْمِ الجنسِ، لكنّ الإشارة هنا إلى الكفار،

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 366) ، وابن كثير (4/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 418) ، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس. (2) ذكره ابن عطية (5/ 366) . (3) أخرجه الطبري (12/ 229) ، رقم: (34876) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 366) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 418) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (4) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 111) . (5) ينظر: «السبعة» (650) ، و «الحجة» (6/ 320) ، و «إعراب القراءات» (2/ 392) ، و «معاني القراءات» (3/ 89) ، و «شرح الطيبة» (6/ 69) ، و «إتحاف» (2/ 561) . [.....] (6) ذكره البغوي (4/ 394) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 367) .

[سورة المعارج (70) : الآيات 22 إلى 23]

والهَلَعُ فَزَعٌ واضْطِرَابٌ يعتري الإنسانَ عندَ المخاوفِ وعندَ المطامع. وقوله تعالى: إِذا مَسَّهُ ... الآية، مفسّر للهلع. [سورة المعارج (70) : الآيات 22 الى 23] إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وقوله تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ أي: إلا المؤمنينَ الذين أمْرُ الآخِرَةِ عليهم أوْكَدُ مِنْ أمْرِ الدنيا، والمعنى أن هذَا المعنى فِيهم يَقِلُّ لأنهم يُجَاهِدُونَه بالتقوى. وقوله: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي: مواظبون، وقد قال ع «أَحَبُّ العَمَلِ إلَى اللَّه مَا دَامَ عليه صاحبُه» . ت: وقد تقدم في سورةِ «قَدْ أَفْلَحَ» ما جَاءَ في الخشوعِ، قَالَ الغزاليُّ: فَيَنْبَغِي لك أنْ تفهمَ ما تقرؤه في صلاتِك ولاَ تَغْفُلَ في قراءَتِك عن أمْرِه «1» سبحانَه، ونهيه، وَوَعْدِه، وَوَعِيده، ومواعظِه وأخبارِ أنبيائِه، وذِكْرِ مِنَّتِه وإحْسَانِه، فلكلِّ واحدٍ حَقٌّ فالرجَاءُ حق الوَعْدِ، والخَوْفُ حقُّ الوعيد، والعَزْمُ حق الأمْرِ والنّهي، والإتِّعاظُ حقُّ الموعِظَة، والشكرُ حقُّ ذكر المِنَّةِ، والاعتبارُ حق ذِكْر أخبارِ الأنبياء، قال الغزالي: وتكونُ هذه المعاني بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الفَهْمِ، ويكونُ الفَهْمُ بِحَسَبِ وُفُورِ العلمِ. وصَفَاءِ القلب، ودَرَجَاتُ ذلكَ لاَ تَنْحَصِرُ، فهذا حقُّ القراءةِ وهُوَ حَقُّ الأَذْكَارِ، والتسبيحاتِ أيضاً، ثم يُرَاعى الهيئةَ في/ القراءةِ، فيرتِّلُ ولا يَسْرُدُ فإن ذلك أيْسَرُ للتأمُّلِ، ويُفَرِّقُ بَيْن نَغْمَاتِه في آياتِ الرحمةِ وآياتِ العذاب، والوعد والوعيد، والتحميدِ والتعظيمِ، انتهى من «الإحياء» ، ورَوَى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا ابن لَهِيعَةَ عن يزيدَ بْنِ أبي حَبِيبٍ أنَّ أبا الخَيْرِ حدَّثَهُ قال: سَأَلْنَا عقبةَ بنَ عامرٍ الجهنيّ عن قوله- عز وجل-: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أهُمُ الذين يصلُّون أبَداً؟ قال: لا، ولكنَّه الذي إذا صلى لم يلتفتْ عن يمينهِ، ولا عن شماله، ولا خلفه «2» ، انتهى. [سورة المعارج (70) : الآيات 24 الى 31] وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قال ابن عباس وغيره: هذه الآيةُ

_ (1) في د: أمر الله. (2) ذكره ابن عطية (5/ 368) ، وابن كثير (4/ 421) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 420) ، وعزاه لابن المنذر.

[سورة المعارج (70) : الآيات 32 إلى 35]

في الحقُوقِ التي في المَالِ سِوَى الزكاةِ «1» ، وهي ما نَدَبَتْ إليه الشريعةُ من المواساة، وهذا هو الأصَحُّ في هذه الآية لأن السورَة مكيةٌ وفَرْضُ الزكاةِ وبيانُها إنما كَان بالمدينة، وباقي الآية تقدّم تفسير نظيره. [سورة المعارج (70) : الآيات 32 الى 35] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ جَمَع الأمَانَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّها متنوعةٌ في الأمْوَال والأسْرَارِ، وفيما بينَ العَبْدِ وربِّه، فيما أمره به ونهاه عنه، والعَهْدُ كلُّ ما تَقَلَّدَه الإنْسَانُ من قَوْلٍ أو فعل، أو مَوَدَّةٍ، إذا كانَتْ هذه الأَشْيَاء على منهاج الشريعةِ فَهُو عَهْدٌ ينبغي رعيُه وحفظُه. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ معناه في قول جماعة من المفسرين: أنهم يَحْفَظُون ما يَشْهَدُونَ فيه، ويُتْقِنُونَه، ويقومُونَ بمعانيه حتَى لاَ يكونَ لهم فيه تقصيرٌ وهَذَا هو وصفُ من يمتثل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ فاشهد» ، وقال آخرونَ: معناه: الذينَ إذا كَانَتْ عندَهم شهادةٌ وَرَأوْا حَقاً يُدْرَسُ أو حُرْمَةً للَّهِ تُنْتَهَكُ قامُوا للَّهِ بشهادتهم. [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 37] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) وقوله تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ الآية نزلت بسبب/ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يصلي عندَ الكعبةِ أحياناً ويقرأ القرآن، فكان كثيرٌ من الكفَّارِ يَقُومُونَ من مجَالِسِهم مسرعينَ إليه يستمعون قراءَتَه، ويقول بعضهم لبعض: شاعر وكاهن، ومفتر وغير ذلك، وقِبَلَكَ معناه فيما يليكَ، والمُهْطِعُ الذي يمشي مُسْرِعاً إلى شيء قد أقبل ببصره عليه، وعِزِينَ جَمْعُ عِزَةٍ، والعِزَةُ: الجَمْعُ اليسيرُ كأَنَّهم كَانُوا ثلاثةً ثَلاَثَةً وأَرْبَعَةً أرْبَعَةً، وفي حديثِ أَبِي هريرة قال: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه وهم حَلَقٌ متفرقونَ، فقالَ: مالي أراكم عزين» «2» . [سورة المعارج (70) : الآيات 38 الى 44] أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 236) ، رقم: (34918) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 368) . (2) أخرجه مسلم (1/ 322) ، كتاب «الصلاة» باب: الأمر بالسكون في الصلاة، حديث (119/ 430) ، وأبو داود (5/ 163) ، كتاب «الأدب» باب: في التحلق، حديث (4823) ، وأحمد (5/ 93) .

وقوله تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ نزلتْ لأَنَّ بعضَ الكفارِ قال: إنْ كَانَتْ ثَمَّ آخرةٌ وجنةٌ فنحنُ أهْلها لأَنَّ اللَّهَ تعالى لم يُنْعِمْ علينا في الدنيا بالمال والبنِين، وغيرِ ذلك إلا لرضَاه عنا. وقوله تعالى: كَلَّا رَدُّ لقولِهم وَطَمَعِهم، أي: ليس الأمْرُ كذلك، ثم أخبرَ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِم من نطفةٍ قدرة، وأحالَ في العبارةِ عَلى عِلْمِ الناسِ، أي: فمن خُلِقَ من ذلكَ فَلَيْسَ بنفسِ خَلْقِهِ يُعْطَى الجنةَ، بلْ بالإيمَانِ والأَعْمَالِ الصالحةِ، ورَوَى ابن المباركِ في «رقائقه» قال: أخبرنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا ربيعة يحدِّثُ عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كُلُّكُم يُحِبُّ أنْ يُدْخَلَ الجَنَّةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: فَأَقْصِرُوا مِنَ الأَمَلِ، وثَبِّتُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ، واسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا نَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ، قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ الحَيَاءُ، ولكن الحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ أَلاَّ تَنْسَوُا المَقَابِرَ والبلى، وَلاَ تَنْسَوُا الجَوْفَ وَمَا وعى، وَلاَ تَنْسَوُا الرَّأْسَ وَمَا حوى/، وَمَنْ يَشْتَهِي كَرَامَةَ الآخِرَةِ يَدَعُ زِينَةَ الدُّنْيَا، هُنَالِكَ استحيا الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ، هُنَالِكَ أصَابَ وِلاَيَةَ اللَّهِ» «1» ، انتهى، وقد روِّينَا أكْثَرَ هَذا الحدِيثِ، من طريقِ أبي عيسى الترمذي، وباقي الآيةِ تَقَدَّم تفسيرُ نظيرِه، والأَجْدَاثُ القبُورَ، والنُّصُبُ: ما نُصِبَ للإنْسَانِ فهو يَقْصِدُه مسرعاً إليه من عَلَمٍ أو بناءٍ، وقال أبو العالية: إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ: معناه: إلى غايات يستبقون، ويُوفِضُونَ: معناه: يسرعون، وخاشِعَةً: أي: ذليلة منكسرة.

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (107) (317) .

تفسير سورة نوح عليه السلام

تفسير سورة نوح عليه السّلام وهي مكّيّة بإجماع [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذا العذابُ الذي تَوَعَّدُوا بهِ، الأظْهَرُ أنَّه عذابُ الدنيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ عذابَ الآخرةِ. وقوله: مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال قوم: «من» زائدةٌ وهذا نحوٌ كوفيٌّ، وأما الخليلُ وسيبويهِ فلا يجوزُ عندَهم زِيادَةٌ «من» في المُوجَبِ «1» ، وقال قومٌ: هي للتبعيضِ، قال ع «2» : وهَذَا القولُ عندي أبْيَنُ الأقوالِ هنا وذلك أنه لَوْ قَالَ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبَكُم لَعَمَّ هذَا اللفظُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الذنوبِ، ومَا تَأَخَّرَ عن إيمانِهم، والإسْلاَم إنَّما يَجُبُّ ما قبله. وقوله سبحانه: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى كأنّ نوحا ع قال لهم: وآمنوا يَبِنْ لَنَا أَنَّكُمْ ممن قُضِيَ له بالإيمان والتأخيرِ، وإنْ بَقِيتُم عَلى كُفْرِكُمْ فَسَيَبينُ أنكم ممن قُضِيَ عليه بالكفرِ والمُعَاجَلَةِ، ثم تبيَّنَ هذا المعنى ولاَح بقوله تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لاَ يُؤَخَّرُ وجَوابُ لو مقدرٌ/ يقتضِيه المعنى، كأنَّه قال: فَمَا كَانَ أحْزَمَكُمْ أو أَسْرَعَكُمْ إلَى التّوبة لو كنتم تعلمون. [سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 10] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10)

_ (1) في د: الواجب. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 372) .

[سورة نوح (71) : الآيات 11 إلى 12]

وقوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً الآية، هذه المقالةُ قَالَها نوحٌ ع بَعْدَ طولِ عُمْرِهِ ويأسِه من قومه. وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ: معناه: جعلوها أغشية على رؤوسهم. [سورة نوح (71) : الآيات 11 الى 12] يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) وقوله: يُرْسِلِ السَّماءَ الآية، رُوِيَ أن قومَ نوحٍ كانوا قَدْ أصَابَتْهُمْ قُحُوطٌ وأزْمَةٌ فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر، ومِدْراراً من الدَّرِّ، ورَوَى ابنُ عباسٍ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرجاً، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ» «1» رواه أبو داود واللفظ له، والنسائيُّ وابن ماجه، ولفظ النسائيِّ «2» : «من أكْثَرَ من الاستغفار» ، انتهى من «السلاح» . [سورة نوح (71) : الآيات 13 الى 15] ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وقوله: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً قال أبو عبيدةَ وغيره: تَرْجُونَ معناه تَخَافُونَ «3» ، قالُوا: والوَقَارُ بمعنى العَظَمَةِ، فكأَنَّ الكلامَ عَلى هذا التأويلِ وَعِيدٌ وتخويفٌ، وقال بعض العلماء: تَرْجُونَ على بَابِها، وكأنه قال: مَا لَكُمْ لا تجعلون رجاءكم لله، ووَقاراً يكونُ على هذا التأويل منهم كأنه يقولُ: تَؤُدَةً مِنْكُمْ وتَمَكُّناً في النظر. وقوله: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال ابن عباس وغيره: هي إشارة إلى التدريجِ الذي للإنْسَانِ في بطنِ أمه «4» ، وقال جماعة: هي إشارة إلى العِبْرَةِ في اختلاف خلق ألوان الناس

_ (1) أخرجه أبو داود (1/ 476) ، كتاب «الصلاة» باب: في الاستغفار (1518) ، وابن ماجه (2/ 1254، 1255) ، كتاب «الأدب» باب: الاستغفار (3819) ، والبيهقي (3/ 351) ، كتاب «صلاة الاستسقاء» باب: ما يستحب من كثرة الاستغفار في خطبة الاستسقاء، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 211) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 118) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ثواب ذلك (10290/ 2) ، والحاكم في «المستدرك» (4/ 262) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي قائلا: الحكم فيه جهالة. (2) في د: وابن ماجه. (3) ذكره ابن عطية (5/ 374) . (4) أخرجه الطبري (12/ 251) ، رقم: (35012) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 374) ، وابن كثير (4/ 425) .

[سورة نوح (71) : الآيات 16 إلى 24]

وخلقهم، ومللهم، والأطوار: الأحوال المختلفة. [سورة نوح (71) : الآيات 16 الى 24] وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) وقوله سبحانه: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ... الآية، قال عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص وابن عباس: إن الشَّمْسَ والقمر أقْفَاؤهما إلى الأرض، وإقبال/ نورهما وارتفاعُه في السماء «1» وهذا الذي يقتضيه لفظ السّراج. وأَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ: استعارَةٌ مِنْ حَيْثُ خُلِقَ آدم ع من الأرض. ونَباتاً مصدرٌ جَاءَ على غير المصدر، التقديرُ: فَنَبَتُّم نَبَاتاً، والإعَادَةُ فيها بالدَّفْنِ، والإخراجُ هو بالبعثِ، وظاهر الآية: أنَّ الأرْضَ بسيطَةٌ غيرُ كُرِيَةً، واعتقادُ أحَدِ الأمْرَيْنِ غَيْرُ قَادِح في الشرْعِ بنفسِه، اللهمَّ إلاَّ أنْ يترتبَ «2» على القولِ بالكُرِيَّةِ نَظَرٌ فاسِدٌ، وأما اعتقادُ كونِها بسيطةً، فهو ظاهِرُ كتابِ اللَّه تعالى، وهو الذي لاَ يَلْحَقُ عنه فسادٌ أَلْبَتَّةَ، واستدلَّ ابن مجاهد على صحَّة ذلك بماءِ البحر المُحِيطِ بالمَعْمُورِ فَقَال: لَوْ كانت الأرضُ كُرِيَّةً لَمَا اسْتَقَرَّ المَاءُ عَلَيْهَا «3» ، والسُّبُلُ الطرقُ، والفجاجُ الواسعةُ، وقولُ نوحٍ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ... الآية، المعنى: اتّبعوا أشرافهم وغواتهم، وخَساراً: معناه: خسرانا، وكُبَّاراً: بناءُ مبالغةٍ نَحْوَ: حُسَّانَ وُقُرِىءَ «4» شاذًّا: «كِبَاراً» - بكسْرِ الكَافِ- قال ابن الأنباري: جَمْعُ كبير.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 252) ، رقم: (35020) بنحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وذكره البغوي (4/ 398) ، وابن عطية (5/ 375) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 425- 426) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» عن عبد الله بن عمرو، وعزاه أيضا لأبي الشيخ عن ابن عبّاس. (2) في د: يتركب. [.....] (3) ذكره ابن عطية (5/ 375) . (4) قرأ بها ابن محيصن، وعيسى بن عمر. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (162) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 376) ، و «البحر المحيط» (8/ 335) ، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (6/ 385) .

[سورة نوح (71) : الآيات 25 إلى 28]

ووَدًّا ومَا عُطِفَ عليه أسْمَاءُ أصْنَامٍ، ورَوَى البخاريُّ وغيره عن ابن عباس: أنَّها كانتْ أسْمَاء رجالٍ صالحينَ، من قوم نوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشيطانُ إلى قومِهم أن انْصِبُوا إلى مجالسِهم التي كانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَاباً وَسَمُّوهَا بأسمائهم، فَفَعَلُوا «1» ، فلم تُعْبَدْ حتى إذا هَلَكَ أولئك وتُنُسِّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ، قال ابن عباس: ثم صَارَتْ هذه الأوثانُ التي في قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ بَعْد «2» ، انتهى. وقوله: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً هو إخبارُ نُوحٍ عن الأَشْرَافِ، ثم دَعَا اللَّهَ عليهم ألاَّ يَزِيدَهم إلا ضَلالاً، وقال الحسن: أراد بقوله: وَقَدْ/ أَضَلُّوا الأَصْنَامَ المذكورة «3» . [سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) وقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ابتداء إخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تعالى لمحمَّد- عليه السلام- و «ما» في قوله: مِمَّا: زائدةٌ فكأَنه قال: مِنْ خطِيئَاتِهِم، وهي لابتداءِ الغَايَةِ، - ص-: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من للسببِ، ع «4» : لابتداءِ الغايةِ و «ما» زائِدة للتَوْكيد، انتهى، فَأُدْخِلُوا نَاراً يعني جَهَنَّمَ، وقول نوح: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً قال قتادة وغيره: لم يَدْعُ نوحٌ بهذهِ الدعوةِ إلاَّ مِنْ بَعْدِ أنْ أُوحِيَ إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «5» [هود: 36] ودَيَّاراً أصْله: دَيْوَارٌ من الدَّوَرانِ، أي: من يجيءُ ويذهب. وقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال ابن عباس: لم يَكْفُرْ لنوحٍ أبٌ مَا بَيْنَه وبين آدم عليه السلام «6» ، وقرأ أُبيُّ بن كعب «7» : «ولأَبَوَيَّ» ، وبيتُه المسجدُ فيما قاله ابن

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 254) ، رقم: (35031) بنحوه، وذكره ابن كثير (4/ 426) . (2) ذكره البغوي (4/ 399) ، وابن كثير (4/ 426) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 427) ، وعزاه للبخاري، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عبّاس. (3) ذكره ابن عطية (5/ 376) . (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 376) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 377) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 428) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. (6) ذكره ابن عطية (5/ 377) . (7) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 377) .

عباس «1» ، وجمهورُ المفسرين، وقال ابن عباس أيضاً: بيتُه شريعتُه ودِينُه استعار لها بَيْتاً كما يقال قُبَّة الإسْلاَمِ وفُسْطَاطُ الدين «2» ، وقيل: أراد سفينتَه. وقوله: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ تعميمٌ بالدعاء لمؤمِني كلِّ أمَّةٍ، وقال بعض العلماء: إن الذي استجاب لنوح ع فأغْرَق بدعوتِه أهْلَ الأرضِ الكفارِ، لجديرٌ أن يستجيبَ له فَيَرْحَمَ بدعوتِهِ المؤْمنينَ، والتَّبَارُ: الهَلاَك.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 377) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 377) .

تفسير سورة الجن

تفسير سورة الجنّ وهي مكّيّة بإجماع [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) قوله عز وجل: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ هؤلاءِ النفرُ من الجنِّ هم الذين صادفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ ببطنِ نخلةٍ في صَلاَةِ الصِّبْحِ، وقد تَقَدَّمَ قَصَصَهم في سورةِ الأحقافِ، وقولُ الجن: إِنَّا سَمِعْنا ... الآيات، هو خطابٌ منهم لِقَوْمهم. وقُرْآناً عَجَباً: معناه: ذَا عَجَبٍ لأن العَجَبَ مصدرٌ يقعُ من سَامِعِ القرآن لبراعتِه/ وفصاحتِه ومُضَمَّناتِه. وقوله: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قَالَ الجمهورُ: معناه: عَظَمَةُ ربنا، وروي عن أنسٍ أنه قال: كان الرجلُ إذا قَرَأ البَقَرَةَ، وآلَ عمرانَ جَدَّ في أعيننا، أي: عَظُم «1» ، وعن الحسن: جَدُّ رَبِّنا غِنَاهُ «2» وقال مجاهد: ذِكْرُهُ «3» ، وقال بعضهم: جَلاَلُه، ومَنْ فَتَح الألِفَ من قوله: وَأَنَّهُ تَعالى اخْتَلَفُوا في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم: هو عَطْفٌ على أَنَّهُ اسْتَمَعَ فيجيءُ عَلَى هذا قولُه تعالى: وَأَنَّهُ تَعالى مما أُمِرَ أنْ يقولَ النبيَّ إنَّه أوحي إليه، ولَيْسَ هو من كلامِ الجنِّ، وفي هذا قَلَقٌ، وقال بعضهم: بل هو عطف على الضمير في بِهِ كأنه يقول: فآمنا به وبأنه تعالى، وهذا القول أبْيَنَ في المعنى، لكنّ فيه من جهة النحو

_ (1) ذكره البغوي (4/ 401) ، وذكره ابن عطية (5/ 379) . (2) أخرجه الطبري (12/ 260) ، رقم: (35056) ، (35057) ، (35058) ، وذكره البغوي (4/ 401) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 430) ، وعزاه لعبد بن حميد. (3) أخرجه الطبري (12/ 260) ، رقم: (35061) ، وذكره ابن عطية (5/ 379) ، وابن كثير (4/ 428) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 430) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]

[سورة الجن (72) : الآيات 4 إلى 5]

العطفَ على الضميرِ المخفوضِ دُونَ إعَادَةِ الخَافِضِ، وذلك لاَ يَحْسن ت: بلْ هُوَ حَسَنٌ إذ قَدْ أتى في النظم والنَّثْرِ «1» الصحيحِ، مُثْبَتاً، وقرأ عكرمة «2» : «تعالى جَدٌّ رَبُّنَا» - بِفَتْحِ الجيمِ وضَمِّ الدالِ وتَنْوِينِهِ ورفْعِ الرَّبِّ-، كأنه يقول: تعَالَى عَظِيمٌ هو ربُّنا، فَ «رَبُّنَا» بدَلٌ والجَدُّ: العَظِيمُ في اللغةِ، وقرأ أبو الدرداء: «تعالى ذِكْرُ رَبِّنَا» ورُوي عنه: «تعالى جلال ربّنا» . [سورة الجن (72) : الآيات 4 الى 5] وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا لا خِلاَفَ أن هَذَا مِنْ قَوْلِ الجِنَّ، والسفيهُ: المذكورُ قال جمهورٌ من المفسرينَ: هُو إبليسُ- لعنه اللَّه-، وقال آخرونَ: هو اسْمُ جنسٍ لكلِّ سفيهٍ مِنْهُمْ وَلاَ مَحَالَة أَنَّ إبليسَ صَدْرٌ في السفاهةِ، وهذا القول أحْسَنُ، والشَّطَطُ: التَّعَدِّي وتجاوُزُ الحدّ بقولٍ أو فعل، - ص-: شَطَطاً أبو البقاءِ: نَعْتٌ لمصدَرٍ محذوفٍ، أي: قَوْلاً شَطَطَا، انتهى، ثم قال أولَئِكَ النفرُ: وَأَنَّا ظَنَنَّا قبلَ إيماننا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً في جِهَةِ الألوهية وما يتعلق بذلك. [سورة الجن (72) : الآيات 6 الى 10] وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)

_ (1) في د: النثر والنظم. (2) قال أبو الفتح: وغلّط الذي رواه (يعني عن عكرمة) ، قال: فأما «جدّ ربّنا» فإنه على إنكار ابن مجاهد صحيح وذلك أنه أراد: وأنه تعالى جدّ جدّ ربّنا على البدل، ثم حذف الثاني، وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا على قوله (سبحانه) : إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، أي: زينة الكواكب، ف «الكواكب» إذا بدل من «زينة» . فإن قلت: فإن الكواكب قد تسمى زينة، والربّ (تعالى) لا يسمى جدّا. قيل: الكواكب في الحقيقة ليست زينة، لكنها ذات الزينة. ألا ترى إلى القراءة بالإضافة وهي قوله: «بزينة الكواكب» ؟ وأنت أيضا تقول: تعالى ربّنا، كما تقول: تعالى جدّ ربّنا. فالتعالي مستعمل معهما جميعا، كما يقال: يسرّني زيد قيامه، وأنت تقول: يسرني زيد ويسرّني قيامه. وهذا بيان ما أنكره ابن مجاهد. ينظر: «المحتسب» (2/ 332) ، و «مختصر الشواذ» ص: (163) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 379) ، و «البحر المحيط» (8/ 341) ، و «الدر المصون» (6/ 390) .

وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ/ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ ... الآية، منَ القُرَّاءِ مَنْ كَسَرَ الهمزةَ مِنْ «إنَّهُ» ، ومنهمْ من فَتَحَها «1» ، والكسْرُ أوْجَهُ، والمعنى في الآيةِ: ما كَانَتِ العربُ تفعله في أسْفَارِها من أنَّ الرَّجُلَ إذا أرادَ المَبِيتَ بِوَادٍ، صاحَ بأعلى صوتِه: يا عزيزَ هذا الوَادِي إني أعوذُ بكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الذين في طاعتِكَ، ويعتقدُ بذلكَ أنَّ الجِنِّيَّ يحميه ويمنعَه، قال قتادة: فكانت الجنُّ تحتقرُ بني آدمَ وتَزْدَرِيهم لِمَا تَرَى مِنْ جَهلِهِم، فكانوا يَزِيدُونَهمْ مخافةً، ويتعرضُون للتَّخَيُّلِ لهم، ويُغْوُونَهم، في إرادَتِهم، فهذا هو الرَّهَقُ الذي زادته الجنُّ بني آدم «2» ، وقال مجاهد وغيره: بنو آدمَ همُ الذينَ زَادُوا الجنّ رَهَقاً وهي الجَرَاءَةُ والطُّغْيان «3» وقَدْ فَسَّر قوم الرَّهَقَ بالإثْم. وقوله: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا يريدُ به بني آدم. وقوله: كَما ظَنَنْتُمْ مخاطبةٌ لقومِهم من الجنِّ وقولهم: أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً يحتملُ معنيين: أحَدُهُما بَعْثُ الحَشْرِ من القبورِ، والآخرُ بَعْثُ آدَمِيٍّ رَسُولاً، وذكر المَهدوي تأويلاً ثالثاً، أنَّ المعنى: وأنَّ الجنَّ ظَنُّوا كما ظَنَنْتُمْ أيها الإنْسُ، فهِي مخاطَبَةٌ من اللَّهِ تعالى، قال الثعلبيُّ: وقيل: إن قَولَه: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ ... الآية، ابتداء إخْبارٍ مِنَ اللَّه تعالى، ليسَ هو من كلامِ الجنِّ، انتهى، فهو وِفَاقٌ لما ذكره المهدوي، وقولهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ قال جمهورُ المتأولينَ: معناه الْتَمَسْنَا، والشُّهُبُ كواكبُ الرجْمِ والحَرَسُ يحتملُ أن يريدَ الرَّمْيَ بالشُّهُبِ، وكرَّرَ المعْنَى بلفظٍ مختلف، ويحتملُ أن يريدَ الملائكةَ، ومَقاعِدَ: جَمْع مَقْعَدِ وقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ ذلِكَ في سورةِ الحِجْرِ، وقولهم: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ ... الآية، قَطْعٌ على أنَّ كلَّ مَنِ استمع الآنَ أحرقه شهاب [فليس هنا]

_ (1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر: «وإنه تعالى جد ربنا» بكسر الهمزات، إلا قوله: «أنه استمع» ، و «أن لو استقاموا» ، و «أن المساجد لله» ، فإنهم قرؤوا بالفتح. وزاد ابن كثير، وأبو عمرو عليهما: «وأنه لما قام عبد الله» . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائيّ كلّ ذلك بالفتح إلا ما جاء بعد قول، أو بعد فاء جزاء، وحفص عن عاصم مثل حمزة. ينظر: «العنوان» (198) ، و «شرح شعلة» (609) ، و «إتحاف» (2/ 565) ، و «السبعة» (656) ، و «الحجة» (6/ 330) ، و «إعراب القراءات» (2/ 400) ، و «حجة القراءات» (727) ، و «معاني القراءات» (3/ 96) ، و «شرح الطيبة» (6/ 73) . (2) أخرجه الطبري (12/ 264) ، رقم: (35076) بنحوه. وذكره ابن عطية (5/ 380) ، وابن كثير (4/ 428) . (3) أخرجه الطبري (12/ 264) ، رقم: (35080) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 402) ، وابن كثير (4/ 428) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 432) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.

[سورة الجن (72) : الآيات 11 إلى 15]

بَعْدُ سَمْعٌ إنَّما الإحراقُ عِنْدَ الاِستماعِ] «1» ، وهذا يقتضي أنَّ الرَّجْمَ كَانَ في الجاهليةِ، ولكنَّه لم يكنْ بمُسْتأصِلٍ، فَلَمَّا جاءَ الإسْلاَمُ، اشْتَدَّ الأَمْرُ حتى لم يكُنْ فِيه وَلاَ/ يَسِيرُ سماحة، ورَصَداً: نعتٌ ل «شِهَاب» ووصفَه بالمصْدَرِ، وقولهم: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ... الآية، معناه: لاَ نَدْرِي أَيُؤْمِنُ الناسُ بهذا النبيِّ فَيَرْشُدُوا، أمْ يَكْفُرُونَ بهِ فَيَنْزِلَ بهِمُ الشَّرُّ، وعبارة الثعلبي: «وأَنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض» حينَ حُرِسَتِ السماءُ ومُنِعْنَا السَّمْعَ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، انتهى. [سورة الجن (72) : الآيات 11 الى 15] وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وقولهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ إلى آخرِ قولهم: وَمِنَّا الْقاسِطُونَ هُوَ من قولِ الجِنّ، وقولهم: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي: غَيْرُ صالحين، - ص-: دُونَ ذلِكَ قِيل: بمعنى غَيْرُ ذلك، وقيلَ: دُونَ ذلكَ في الصلاحِ، ف «دون» في موضِع الصِّفَةِ لمحذوفٍ، أي: ومنَّا قومٌ دونَ ذلك، انتهى، والطرائقُ: السِّيَرُ المختلفَة، والقِدَدُ كذلكَ هي الأشْياء المختلفة كأنه قَدْ قُدَّ بعضُها من بعضٍ وفُصِلَ، قال ابن عباس وغيره: طَرائِقَ قِدَداً أهواء مختلفةً «2» . وقولهم: وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: تَيَقَّنَّا، فالظِّنّ هنا بمعنى الْعِلْمِ أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ... الآية، وهذا إخبارٌ منهم عَنْ حَالِهِمْ بَعْدِ إيمانِهم بما سمعوا من نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والْهُدى يريدونَ به القرآنَ، والبَخْسُ النَّقْصُ، والرَّهَقُ تَحْمِيلُ مَا لاَ يطاقُ، وما يَثْقُل، قال ابن عباس: البَخْسُ نَقْصُ الحسناتِ «3» ، والرَّهَقُ الزيادةُ في السيئات. وقوله تعالى: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً الوجْهُ فيه أنْ يكونَ مخاطَبَةً من الله تعالى لنبيه محمّد ع ويؤيّده ما بعده من الآيات، وتَحَرَّوْا معناه: طلبوا باجتهادهم.

_ (1) سقط في: د. (2) أخرجه الطبري (12/ 266) ، رقم: (35089) بنحوه. وذكره ابن عطية (5/ 382) ، وابن كثير (4/ 430) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 435) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (12/ 267) ، رقم: (35095) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 382) ، وابن كثير (4/ 430) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 435) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.

[سورة الجن (72) : الآيات 16 إلى 18]

[سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 18] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وقوله سبحانه: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ... الآية، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير: الضميرُ في قوله: اسْتَقامُوا عائِدٌ عَلى القاسِطينَ، والمعنى: لوِ اسْتَقَامُوا على طريقةِ الإسْلاَمِ والحَقِّ لأَنْعَمْنَا عليهم «1» ، وهذا المعنى نحوُ قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... [المائدة: 65] الآية إلى قوله: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ والقَاسِطُ الظَّالِم، والماء الغَدَقُ هو الماءُ الكثيرُ، ولِنَفْتِنَهُمْ: معناه: لنختبرَهم، قال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه-: حيْثُ يكونُ الماءُ فَثَمَّ المالُ، وحَيْثُ المالُ فَثَمَّ الفِتْنَةُ «2» ، ونَزَعَ بهذه الآية، وقال الحسن وجماعة من التابعين: كانتِ الصحابَةُ- رضي اللَّه عنهم- سَامِعينَ مُطِيعينَ فَلَمَّا فُتِحْتْ كُنُوزُ كِسْرَى وقَيْصَرَ على الناس، ثَارَتِ الفِتَن «3» ، و «نسلكه» ندخله، وصَعَداً: معناه: شَاقًّا، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: صَعَداً جَبَلٌ في النارِ «4» ، وأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ قيل: أرادَ البيوتَ التي للعبادةِ والصلاةِ في كلِّ ملةٍ، وقال الحسن: أرادَ بها كلَّ موضِع يُسْجَدُ فيه إذ الأَرْضُ كلها جُعِلَتْ مَسْجِداً لهذه الأمة «5» ، ورُوِيَ: أنّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ بسبب تَغَلُّبِ قريشٍ عَلى الكعبةِ حينئذ، فقيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: المواضعُ كلُّها لِلَّهِ فَاعْبُدْه حيثُ كنتَ، قال ع «6» : والمسَاجِدُ المخصوصَةُ بَيِّنَةُ التَمَكُنِ في كونها لِلَّهِ تعالى، فيصلُحُ أنْ تُفْرَدَ للعبادةِ، وكلِّ مَا هُوَ خَالِصٌ لِلَّهِ تعالى، وأنْ لاَ يُتَحَدَّثَ بها في أمورِ الدنيا، ولا يُجْعَلُ فيها لغير الله نصيب. [سورة الجن (72) : الآيات 19 الى 22] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 268- 269) ، أرقام: (35104، 35105) ، (35107- 35108) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 382) ، وابن كثير (4/ 431) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 435- 436) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة، وعزاه أيضا لابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد. (2) أخرجه الطبري (12/ 269) ، رقم: (35117) بنحوه وذكره ابن عطية (5/ 383) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 383) . (4) أخرجه الطبري (12/ 270) ، رقم: (35123) بنحوه عن ابن عبّاس. وذكره ابن عطية (5/ 383) ، وابن كثير (4/ 431) . (5) ذكره البغوي (4/ 404) ، وذكره ابن عطية (5/ 383) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 383) . [.....]

[سورة الجن (72) : الآيات 23 إلى 24]

وقوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يحتملُ: أنْ يكونَ خِطَاباً مِنَ اللَّهِ تعالى، ويحتملُ: أنْ يَكُونَ إخباراً عَنِ الجِنِّ، وَعَبْدُ الله هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والضميرُ في كادُوا يحتملُ: أنْ يكونَ لكفارِ قريشٍ، وغيرِهم في اجتماعهم على رَدِّ أمرِهِ صلّى الله عليه وسلّم، وقيلَ: الضميرُ للجِنِّ، والمعنى أنهم كادوا يَتَقَصَّفُونَ عليه «1» لاسْتِماعِ القرآن، وقال ابن جبير: معنى الآيةِ أنَّها قَوْلُ الجِنِّ لقومِهم يحكُون لَهُم، والعبد محمّد ع «2» ، والضميرُ في كادُوا لأَصْحَابهِ الذينَ يُطِيعُونَ له ويَقْتَدُونَ بهِ في الصلاةِ فَهُمْ عليه لِبَدٌ، واللِبَدُ: الجماعاتُ شُبِّهَتْ بالشَّيءِ المُتَلبِّدِ، وقال البخاريُّ: قال ابن عبّاس: لِبَداً أعوانا «3» ، انتهى، ويَدْعُوهُ معناه: يَعْبُدُه، وقيل: عبدُ اللَّهِ في الآيةِ المرادُ به نوحٌ، وقرأ جمهور السبعة: «قَالَ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي» وقرأ حمزةُ وعاصمٌ وأبو عمرو بخلافٍ عنه «4» : «قُلْ» ، ثم أمَرَ اللَّهُ تعالى محمّدا ع بالتَّبَرِّي مِنَ القُدْرَةِ، وأنَّه لاَ يَمْلِكُ لأَحَدٍ ضَرًّا ولا نفعاً، والملتَحَدُ: المَلْجَأُ «5» الذي يُمَال إليه، ومنه الإلحاد وهو الميل. [سورة الجن (72) : الآيات 23 الى 24] إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) وقوله: إِلَّا بَلاغاً قال قتادة: التقدير: لا أمْلِكُ إلاَّ بَلاَغاً إلَيْكُمْ، فأمَّا الإيمانُ وَالكُفْرُ، فَلاَ أَمْلِكُهُ «6» ، وقال الحسن: ما معناه أَنَّه استثناء منقطع، والمعنى: لن يجيرني من

_ (1) أي يزدحمون عليه. ينظر: «لسان العرب» (3655) . (2) أخرجه الطبري (12/ 272) ، رقم: (35133) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 404) ، وابن عطية (5/ 384) ، وابن كثير (4/ 432) . (3) أخرجه الطبري (12/ 273) ، رقم: (35141) ، وذكره ابن عطية (5/ 384) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 437) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (4) وحجة هؤلاء إجماع على ما بعده على الأمر فردّ ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه أولى. وحجة الباقين أن ذكر الغيبة قد تقدم، وهو قوله: «وأنه لما قام عبد الله» ، وقوله: «قال إنما أدعو» . ينظر: «السبعة» (657) ، و «الحجة» (6/ 333) ، و «إعراب القراءات» (2/ 402) ، و «حجة القراءات» (729) ، و «معاني القراءات» (3/ 98) ، و «شرح الطيبة» (6/ 76) ، و «العنوان» (198) ، و «شرح شعلة» (610) ، و «إتحاف» (2/ 567) . (5) في د: الملتجأ. (6) أخرجه الطبري (12/ 275) ، رقم: (35150) .

[سورة الجن (72) : الآيات 25 إلى 28]

اللَّه أحَدٌ إلا بلاغاً «1» فإنّي إنْ بَلَّغْتُ، رَحِمَنِي بذلك، أي: بِسَبَبِ ذلك. وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يريدُ: بالكفر، بدليلِ تَأبِيدِ الخلود. [سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) وقوله تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ يعني عَذَابَهم الذي وُعِدُوا به، والأمدُ المُدَّةُ والغايةُ. وقوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ معناه فإنه يُظْهِرُه عَلَى ما شَاءَ مما هو قليلٌ من كثير، [ثم] يَبُثُّ تعالى حَوْلَ ذلك الملَكِ الرَّسُولِ حَفَظَةً رَصَداً لإبليسَ وحِزْبِه من الجنِ والإنْس. وقوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ... الآية، قال ابنُ جُبَيْرٍ: لِيعْلَمَ محمدٌ أنَّ الملائِكَة الحَفَظَةَ الرَّصَد النازِلينَ بَيْنَ يدي جبريلَ وخَلْفَه قَدْ أبلغوا رسالاتِ رَبِّهم «2» ، وقال مجاهد: معناه لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ أو أشْرَكَ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ «3» ، وقيل: المعنى لِيَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَه مُبَلِّغَةً خَارِجَةً إلى الوُجُودِ، لأَنَّ عِلْمَه بكلِّ شيء قد تقدّم، والضمير في أَحاطَ وأَحْصى لله سبحانه لا غير.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 384) ، وذكره أبو حيان (8/ 346) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 385) ، وابن كثير (4/ 433) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 438) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» . (3) أخرجه الطبري (12/ 277) ، رقم: (35163) بنحوه، وابن عطية (5/ 385) ، وابن كثير (4/ 433) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 439) ، وعزاه لعبد بن حميد.

تفسير سورة المزمل

تفسير سورة المزّمّل وهي مكّيّة في قول الجمهور إلا قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إلى آخر السورة فمدنيّ، وقال جماعة: هي مكية كلّها. [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ نداء للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال السهيلي: المُزَّمِّلُ اسمٌ مشتقٌ من حالتِه التي كان عليها ع حينَ الخطابِ، وكذلكَ المدَّثِّرُ، وفي خطابِه بهذَا الاسْمِ فائِدَتان: إحداهما: الملاطفةُ فإنَّ العربَ إذا قَصَدَتْ ملاطَفَةَ المخاطَبِ، وتَرْكَ معاتَبَتهِ سَمَّوْهُ باسم مشتق من حالته، كقوله ع لعلي حين غَاضَبَ فاطمةَ: قُمْ أبا تُرَابٍ، إشعاراً له أنه غَيْرُ عاتبٍ عليه، وملاطَفَةً له، والفائدة الثانية: التنبيهُ لكلِّ مُتَزَمِّلٍ راقدٍ ليلَه لينتبهَ إلى قيامِ الليل وذكرِ اللَّه فيه، لأنَّ الاسْمَ المشتق من الفعلِ، يَشْتَرِكُ فيه معَ المخاطَب كلُّ مَنْ عَمِلَ بذلك العملِ، واتَّصَفَ بتلك الصفةِ، انتهى، والتَزَمُّلُ الاِلْتِفَافُ في الثياب، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمَّا جَاءَه المَلَكُ في غار حراء وَحَاوَرَه بما حاوره به، رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خديجة فقال: زمّلوني زمّلوني فنزلت «يا أيها المدثر» و [على هذا نزلت «يا أيها المزمل» ] «1» . وقوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قال جمهور العلماءِ: هو أمْرُ نَدْبٍ، وقيل كَانَ فَرْضاً وقْتَ نزول الآيةِ، وقال بعضهم: كان فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصَّةً وبَقِيَ كذلك حتى تُوُفِّي، وقيل غير هذا.

_ (1) سقط في: د.

وقوله تعالى: نِصْفَهُ يحتملُ: أن يكونَ بَدَلاً من قوله قليلاً، - ص-: إِلَّا قَلِيلًا استثناءٌ من الليل، ونِصْفَهُ قيل: بَدَلٌ من الليل وعلى هذا يكون استثناءُ إِلَّا قَلِيلًا منه، أي: قم نصفَ الليل إلا قليلاً منه، والضميرُ في قوله: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ عائدٌ على النصْفِ وقيل: نِصْفَهُ: بدل من قوله: إِلَّا قَلِيلًا قَالَ أبو البَقَاءِ وهو أشْبَهُ بظاهرِ الآيةِ، انتهى، قال ع «1» : وكَيْفَ مَا تَقَلَّبَ المعنى فإنه أمْر بقيامِ نصفِ الليلِ، أو أكْثَر شيئاً أو أقَلَّ شيئاً، فالأكْثر عند العلماء لا يُزِيدُ على الثُّلثَيْنِ، والأقَلُّ لاَ يَنْحَطُّ عَن الثلثِ، ويُقَوِّي هذا حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ في مَبِيتهِ في بيت ميمونة قال: فلما انْتَصَفَ الليلُ أو قَبْلَه بقليلٍ أو بعده بقليل، قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ع «2» : ويلزمُ على هذا البَدَلِ الذي ذَكَرْنَاه أن يكونَ نصفُ الليل قَدْ وَقَعَ عليه الوصفُ بقليلٍ، وقَدْ يحتملُ عندي قوله: إِلَّا قَلِيلًا أنْ يكون استثناءً من القيام، فنجعلُ الليلَ اسْم جِنْسٍ ثم قال: إِلَّا قَلِيلًا أي: إلا الليالي التي تُخِلُّ بقيامِها لعذرٍ، وَهَذَا [النظرُ يَحْسُنُ مَعَ القولِ بالنَّدْبِ جِدًّا، قال- ص-: وهذا [النَّظَرُ خلافُ ظاهرِ الآية، انتهى، والضمير في مِنْهُ وعَلَيْهِ عائِدَان على] «3» النصف. وقوله سبحانه: وَرَتِّلِ: معناه في اللغةِ: تَمَهَّلْ وَفَرِّقْ بَيْنَ الحروفِ، لَتَبِينَ، والمقْصِدُ أنْ يَجِدَ الفِكْرُ فُسْحَةً للنَّظَرِ وفَهْمِ المعاني، وبذلكَ يَرِقُّ القَلْبُ، ويَفِيضُ عليه النُّورُ والرحمة، قال ابن كيسان: المُرادُ: تَفْهَمُه تالياً له، ورُوِي في صحيح الحديث: أن قراءةَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانَتْ بيِّنَةً مُتَرسِّلَةً، لو شاء أحَدُ أنْ يَعُدَّ الحروفَ لعَدَّها، قال الغزاليُّ في «الإحياء» : واعْلَمْ أنَّ التَرْتِيلَ والتَّؤُدَةَ أقْرَبُ إلى التوقير والاحترامِ، وأشَدُّ تأثيراً في القلبِ من الهَدْرَمَةِ والاسْتِعْجَالِ، والمَقْصُودُ مِنَ القراءَةِ التفكُّرُ، والترتيلُ مُعِينٌ عَلَيْهِ، وللناس عاداتٌ مختلفة في الخَتْمِ، وأوْلَى مَا يُرْجَعُ إليه في التقديراتِ قَوْلُ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَقَدْ قَال- عليه الصَّلاةُ والسلام-: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ، لَمْ يَفْقَهْهُ» وذلك لأَنَّ الزيادةَ عليهَا تمنعُ الترتيلَ المطلوبَ، وقَدْ كَرِهَ جماعةٌ الختمَ في يومٍ ولَيْلَةٍ، والتفصيلُ في مقدار القراءة أنَّه إنْ كَانَ التالي من العُبَّادِ السالكينَ طريقَ العَمَلِ، فلا يَنْبَغِي له أن يَنْقُصَ من خَتْمَتَيْنِ في الأُسْبُوعِ، وإنْ كانَ من السالكينَ بأعْمَالِ القَلْبِ وضرُوب الفِكْر، / أو من المشغولين بِنَشْرِ العلمِ فَلا بأسَ أنْ يَقْتَصِر في الأُسْبُوعِ على ختمةٍ، وإنْ كَانَ نَافِذَ الفِكْرِ في مَعَانِي القرآن فقد

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 387) . (2) ينظر: المصدر السابق. (3) سقط في: د.

[سورة المزمل (73) : الآيات 5 إلى 10]

يكتفِي في الشهر بمرةٍ لحاجَتِهِ إلى كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ والتأمُّل، انتهى، ورَوَى ابنُ المباركِ في «رقائقه» : قال: حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكِّل الناجي: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَامَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِآيَةٍ مِنَ القُرْآنِ يُكَرِّرُهَا على نفسه» «1» ، انتهى. [سورة المزمل (73) : الآيات 5 الى 10] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا يعني القُرآن، واخْتُلِفَ لم سمّاه ثقيلاً، فقال جماعةٌ مِنَ المفسرينَ: لِمَا كَانَ يَحُلُّ برسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ ثِقْلِ الجِسْمِ حَتَّى إنَّه كَانَ إذا أُوحي إليه وهُو على نَاقَتِهِ بَرَكَتْ بهِ وحَتَّى كَادَتْ فَخِذُه أنْ تَرُضُّ «2» فَخِذَ زَيْدِ بن ثابت- رضي اللَّه عنه-، وقيل: لثِقَلِهِ على الكفارِ والمنافقينَ بإعْجَازِه ووَعْدِه ووعيدهِ ونحو ذلك، وقال حُذَّاقُ العلماء: معناه: ثَقِيلُ المَعانِي من الأَمْرِ بالطاعاتِ، والتكاليفِ الشرعية من الجهاد، ومزاولةِ الأعمال الصالحاتِ دائماً، قال الحسن: إنَّ الهَذَّ خَفِيفٌ ولَكِنَّ العَمَل ثقيل «3» ت: والصوابُ عندي أَنْ يُقَالَ: أما ثِقَلُه باعتبارِ النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو ما كان يجده ع من الثقل المَحْسُوسِ وأما ثِقَلُه باعتبارِ سائرِ الأمةِ فهو ما ذُكِرَ من ثقل المعاني، وقَدْ زَجَرَ مالكٌ سائِلاً سأله عن مسألةٍ وَقَالَ: يا أبا عَبْدِ اللَّه إنها مسألةٌ خفيفةٌ فغَضِبَ مالكٌ وقال: لَيْسَ في العِلم خَفِيفٌ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّه تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا فَالْعِلْمُ كُلُّه ثقيلُ، انتهى من «المدارك» لعياضٍ. وقوله سبحانه: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ قال ابن جُبَيْرٍ وغيره: هي لَفْظَةٌ حَبَشِيَّةٌ نَشَأَ الرجلُ إذا قَامَ من الليلِ «4» ف ناشِئَةَ على هذا جَمْعُ ناشىء أي: قَائِمٌ، وأَشَدُّ وَطْئاً معناه: ثُبُوتاً واسْتِقْلاَلاً بالقيام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وجماعة كابن عباس وابن الزبير

_ (1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (35) ، رقم: (104) . [.....] (2) الرّضّ: الدّقّ الجريش. ينظر: «النهاية» (2/ 229) . (3) أخرجه الطبري (12/ 281) ، رقم: (35190) بنحوه، والبغوي (4/ 408) بنحوه، وابن عطية (5/ 387) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 443) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن نصر. (4) أخرجه الطبري (12/ 282) ، رقم: (35196) بنحوه عن ابن جبير عن ابن عبّاس. وذكره البغوي (4/ 408) ، وابن عطية (5/ 387) ، وابن كثير (4/ 435) ،

[سورة المزمل (73) : الآيات 11 إلى 14]

وغيرهم «1» : «وَطَاءً» - بكسر الواوِ- مَمْدُوداً عَلى وَزْنِ «فِعَالِ» على معنى المُوَاطَأَةِ والموَافَقَةِ، وهو أن يواطىء قلبَه لسانهُ، والموَاطأةُ هِي الموافَقَةُ، فهذه مواطأَةٌ صحيحة لخلو البَالِ من أشْغَالِ النَّهارِ، وبهذا المعنى فَسَّر اللفظَ مجاهدٌ «2» وغيره، قال الثعلبيّ: واخْتَارَ هذه القراءةَ أبو عبيدِ وقال جماعة: ناشِئَةَ اللَّيْلِ سَاعَاتُه كلُّها، لأَنَّها تَنْشَأ شَيْئاً بعد شيءٍ، وقيل في تفسير ناشِئَةَ اللَّيْلِ غَيْرُ هذا، وقرأ أنس بن مالك «وأصْوَبُ قِيلاً» فقيل له: إنما هو أَقْوَمُ فَقَالَ: أقْوَمُ وأصْوَبُ وَاحِدٌ. وقوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي: تَصَرُّفاً وَتَرَدُّداً في أمُورِكَ، ومنه السِّبَاحةُ في الماء، وَتَبَتَّلْ معناه: انْقَطِعْ إليه انْقِطَاعاً هذا لفظ ابن عطاء على ما نقله الثعلبي، انتهى، وأما ع «3» فقال: معناه انْقَطِعْ مِنْ كلِّ شيءٍ إلا مِنْهُ وأفْزَعْ إليه، قال زيد بن أسلم: التَبَتُّلُ: رَفْضُ الدُّنْيَا «4» ، ومنه بُتِلَ الحَبْلُ، وتَبْتِيلًا مَصْدر على غير الصَّدْرِ، قال أبو حيان «5» : وحُسْنُه كونُه فاصلةً، انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه» : فالتَبَتُّلُ المأمورُ بهِ في الآيةِ الاِنْقِطَاعُ إلى اللَّهِ تعالى بإخْلاَصِ العِبَادَةِ، وَهُوَ اختيارُ البخاريّ، والتَبَتُّلُ المنهي عنه في الحديثِ هُو سُلُوكُ مَسْلَكِ النصارى في تَرْكِ النِّكَاحِ والتَّرَهُّبِ في الصوامِع، انتهى، والوَكِيلُ القائم بالأمْرِ الذي تُوكَلُ إليه الأشياء. وقوله: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا منسوخ بآية السيف. [سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 14] وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) وقوله سبحانه: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ الآية، وعيدٌ بيِّنٌ، والمعنى لاَ تَشْغَلْ بهِم فِكْرَك وكِلْهُمْ إليَّ، والنعمةُ: غَضَارَةُ العَيْشِ وكِثرةُ المالِ والمشارُ إليهم كفارُ قريشٍ أصحابُ/ القليب بِبدرِ، ولَدَيْنا بمنزلة «عِنْدِنَا» والأَنْكَال: جمع نَكْلٍ، وهو القَيْدُ

_ (1) ينظر: «السبعة» (658) ، و «الحجة» (6/ 335) ، و «إعراب القراءات» (2/ 405) ، و «حجة القراءات» (730) ، و «معاني القراءات» (3/ 99) ، و «شرح الطيبة» (6/ 77) ، و «العنوان» (199) ، و «شرح شعلة» (611) ، و «إتحاف» (2/ 568) . (2) أخرجه الطبري (12/ 284) ، رقم: (35219، 35220، 35221) ، وذكره ابن عطية (5/ 388) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 445) ، وعزاه لعبد بن حميد. (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 388) . (4) ينظر: ابن عطية (5/ 388) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 355) .

[سورة المزمل (73) : الآيات 15 إلى 17]

من الحديدِ، ويُرْوَى أَنَّها قيودٌ سُودٌ مِن النار، والطَّعَامُ ذُو الغُصَّةِ شَجَرَةُ الزَّقُومِ، قَالَه مجاهد وغيره «1» ، وقال ابن عباس: شَوْكٌ من نارِ يَعْتَرِضُ في حُلُوقِهِم «2» وكلُّ مَطْعُومٍ هُنَالِكَ فهو ذو غصّة، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هذهِ الآيةَ فَصَعِقَ «3» ، والرَّجَفَانُ الاهْتِزَازُ والاضْطِرَابُ مِنْ فَزَعٍ وَهَوْلٍ، و «المَهِيلُ» : اللَّيِّنُ الرّخْوُ الذي يَذْهَبُ بالرِّيحِ، وقال البخاريّ: كَثِيباً مَهِيلًا رملا سائلا، انتهى. [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 17] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ ... الآية، خطابٌ للعالم لكن المواجهون قريش، وشاهِداً عَلَيْكُمْ نَحْوُ قولهِ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] والوَبِيلُ: الشَّدِيدُ الرَّدَى. وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ معناه: كَيْفَ تَجْعَلُونَ وِقَايةً لأنفسِكم، ويَوْماً مفعولٌ ب تَتَّقُونَ، وقِيلَ: هو مفعولٌ ب كَفَرْتُمْ ويكونُ كَفَرْتُمْ بمعنى: جَحَدْتم، ف تَتَّقُونَ على هذا منَ التقوى، أي: تتقونَ عذابَ اللَّهِ، ويجوزُ أن يكونَ يَوْماً ظرفاً والمعنى: تتقونَ عِقَابَ اللَّه يوماً، وعبارةُ الثعلبي: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي كيف تَتَحَصَّنُونَ من عذابِ يَوْمٍ يَشِيبُ فيه الطفلُ لهولِه إنْ كفرتُم، ثم ذَكَرَ نحو ما تقدم، انتهى، وحَكَى- ص-:، عن بعضِ الناسِ جَوازَ أنْ يكونَ يَوْماً ظرفَاً أي: فكيفَ لَكُمْ بالتقوَى في يومِ القيامَةِ إنْ كفرتم في الدنيا، ت: وهَذَا هُوَ مُرَادُ ع «4» ، قَالَ أبو حيان «5» : وشِيباً مفعولٌ ثانٍ ل يَجْعَلُ وهُو جَمْع أشْيَب، انتهى. [سورة المزمل (73) : الآيات 18 الى 19] السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 289) ، رقم: (35267) ، وذكره ابن عطية (5/ 389) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 446) ، وعزاه لعبد بن حميد. (2) أخرجه الطبري (12/ 289) ، رقم: (35266) ، وذكره ابن عطية (5/ 389) ، وابن كثير (4/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 446) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، في صفة النار، وعبد الله في «زوائد الزهد» ، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وصححه البيهقي في «البعث» . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 446) ، وعزاه إلى أحمد في «الزهد» ، وهناد وعبد بن حميد، ومحمّد بن نصر عن حمران به. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 389) . (5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 357) .

[سورة المزمل (73) : آية 20]

وقوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي ذاتُ انْفِطارٍ، والانفطارُ التَّصَدُّعُ والانْشِقَاقُ، والضميرُ في بِهِ قال منذر وغيره: عائِدُ على اليومِ وكذا قَال- ص-: إن ضمير بِهِ يعودُ على اليومِ والباء سببيةٌ/ أو ظرفيةٌ، انتهى، وفي «صحيح مسلم» من رواية عبد الله بن عمرو: وذكر صلّى الله عليه وسلّم: بَعْثُ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً، وذلك يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42] الحديث «1» ، انتهى، وقيل: عائدٌ على اللَّه، أي مُنْفَطِرٌ بأمْرِه وقُدْرَتهِ، والضميرُ في قوله: وَعْدُهُ الظاهر أنَّه يعود على اللَّه تعالى. وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ... الآية، الإشَارَةُ ب «هذه» تحتملُ: إلى ما ذُكِرَ من الأَنْكَالِ والجحيمِ، والأَخْذِ الوبيل، وتحتملُ: أنْ تَكُونَ إلى السورةِ بجُمْلَتِها، وتحتملُ: أنْ تَكُونَ إلى آياتِ القرآن بجُمْلَتِها. وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا لَيْسَ معناه إبَاحَةُ الأمْرِ وضِدِّه، بل الكلامُ يتضمَّنُ الوَعْدَ والوعيدَ، والسبيلُ هنا سبيلُ الخيرِ والطاعة. [سورة المزمل (73) : آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... الآية، المعنى أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ أنَّكَ تَقُومُ أنْتَ وغيرك من أُمَّتِك قياماً مختلفاً مَرَّةً يكْثُرُ ومرَّةً يَقلّ، ومرة أدْنَى من الثلثين،

_ (1) أخرجه البخاري (6/ 440) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: قصة يأجوج ومأجوج (3348) ، (8/ 295) ، كتاب «التفسير» باب: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى (4741) ، (11/ 396) ، كتاب «الرقاق» باب: قول الله عزّ وجل: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (6530) ، (13/ 462) ، كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا. الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (7483) ، ومسلم (2/ 642- 463) - الأبي، كتاب «الإيمان» باب: يقول الله لآدم: أخرج بَعْثُ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وتسعين (379) ، والنسائي (6/ 409) - «الكبرى» ، كتاب «التفسير» باب: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى، وَما هُمْ بِسُكارى (11339/ 1) . وفي الباب من حديث أبي هريرة في «الصحيح» : أخرجه البخاري (11/ 385) ، كتاب «الرقاق» باب الحشر (2529) . [.....]

ومرة أدنى من النصفِ، ومرة أدْنَى من الثلث، وذلك لِعَدَمِ تَحْصِيل البَشَرِ لِمَقَادِيرِ الزمان، مع عُذْرِ النَّوْمِ، وتقديرُ الزمان حقيقةٌ إنما هو للَّهِ تعالى، وأما البشَرُ فلا يُحْصِي ذلك، فتابَ اللَّه عليهمْ، أي: رَجَعَ بهم من الثِّقَلِ إلى الخِفَّةِ وأمرهم بقراءةِ ما تيسَّر، ونحوَ هذَا تُعْطِي عِبَارةُ الفراء، ومنذر فإنهما قالا: تُحْصُوه تَحْفَظُوه، وهذا التأويلُ هو على قراءة الخفضِ عَطْفاً على الثلثين وهي قراءة أبي عمرٍو ونافعٍ وابن عامر، وأمَّا مَنْ قَرأَ: «ونصفَه وثلثَه» بالنَّصْبِ عَطْفاً على أدْنَى وهي قراءة باقي السبعةِ «1» ، فالمعنى عندَهم أنَّ اللَّه تعالى قَدْ عَلِمَ أنهم يَقْدِرُونَ الزمانَ على نحو مَا أَمَرَ بهِ تعالى، في قوله: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 3- 4] فلم يبقَ إلا قوله: أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فمعناه لَنْ يُطِيقُوا قيامَه/ لِكَثْرَتِهِ وشدتهِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عنهم فَضْلاً منه لا لِعِلَّةِ جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقاتِ، ونَحوَ هذا تُعْطي عبارةُ الحسن وابن جبير فإنهما قالا: تحصُوه: تُطِيقُوه «2» ، وعبارةُ الثعلبيِّ: ومَنْ قَرَأَ بالنَّصْبِ فالمعنى: وتَقُومُ نصْفَه وثلثَه، قال الفراء: وهو الأشْبَه بالصَّوَابِ لأنه قَالَ أَقَلَّ مِنَ الثلثينِ، ثم ذكر تفسيرَ القلةِ لا تَفْسِيرَ أَقَلِّ مِنَ القلةِ، انتهى، ولو عَبَّر الفَرَّاءُ بالأَرْجَحِ، لكانَ أحْسَنَ أدَباً، وعَنْ عُبَادَةَ بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لا إله لا اللَّه وَحْده لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحانه اللَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» «3» ثم قال: «اللَّهُمَّ، اغفر لي، أوْ دَعَا، استجيب لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ، ثمَّ صلى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ» ، رواه الجماعة إلا مسلماً، وَتَعَارَّ- بتشديدِ الرَّاءِ- مَعْنَاه: اسْتَيْقَظَ، انتهى من «السلاح» . وقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال الثعلبيُّ أي: مَا خَفَّ وَسَهُلَ بغير مِقْدَارٍ مِنَ القِرَاءَةِ، والمُدَّةِ، وقيل: المعنى فَصَلُّوا ما تيسَّر فَعَبَّر بالقراءةِ عنها. ت: وهذا هو الأصَحُّ عند ابن العربي، انتهى، قال ع «4» : قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ

_ (1) ينظر: «الحجة» (6/ 336) ، و «إعراب القراآت» (2/ 407) ، و «معاني القراآت» (2/ 100) ، و «شرح الطيبة» (6/ 77) ، و «العنوان» (199) ، و «حجة القراآت» (731) ، و «شرح شعلة» (612) ، و «إتحاف» (2/ 569) . (2) أخرجه الطبري (12/ 293- 294) ، رقم: (35292- 35293) ، عن الحسن، ورقم (35294) عن سعيد، وذكره البغوي (4/ 411) ، وابن عطية (5/ 390) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 448) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (3) في د: بالله العلي العظيم. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 390) .

هو أمْرُ نَدْبٍ في قولِ الجمهور، وقال جماعة: هو فَرْضٌ لاَ بُدَّ منه ولو خَمْسِينَ آيةً، وقال الحسنُ وابن سيرين: قيامُ الليل فَرْضٌ «1» وَلَوْ قَدْرُ حَلْبِ شَاةٍ، إلا أنَّ الحسنَ قال: مَنْ قَرأَ مِائَة آيةٍ لَمْ يُحَاجَّهُ القرآن «2» واسْتَحْسَنَ هذا جماعةٌ من العلماء قال بعضهم: والركعتانِ بَعْدَ العشاءِ مَعَ الوِتْرِ دَاخِلَتَانِ في امتثالِ هذا الأَمْرِ ومن زَادَ زَادَهُ اللَّه ثواباً، ت: ينبغي للعاقِل المبَادَرَةُ إلى تَحْصِيلِ الخَيْرَاتِ قَبْلَ هُجُومِ صَوْلَةِ المَمَاتِ، قَالَ البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» له: قَالَتْ بنت الربيعِ بْنِ خُثَيْمٍ لأبيها: يا أبَتِ/ ما لِي أَرَى النَّاسَ يَنَامُونَ وأنْتَ لاَ تَنَامُ، قال: إنَّ أَبَاكِ يَخَافُ البَيَاتَ، قال الباجيُّ- رحمه اللَّه تعالى-: ولي في هذا المعنى: [من الرجز] قَدْ أَفْلَحَ القَانِتُ في جُنْحِ الدجى ... يَتْلُو الْكِتَابَ العَرَبِيَّ النَّيِّرَا [فَقَائِماً وَرَاكِعاً وَسَاجِدا ... مُبْتَهِلاً مُسْتَعْبِراً مُسْتَغْفِرَا] «3» لَهُ حَنِينٌ وَشَهِيقٌ وَبُكَا ... يَبُلُّ مِنْ أَدْمُعِهِ تُرْبَ الثرى إنَّا لَسَفْرٌ نَبْتَغِي نَيْلَ الهدى ... فَفِي السرى بُغْيَتُنَا لاَ في الْكَرَا مَنْ يَنْصَبِ اللَّيْلَ يَنَلْ رَاحَتَهُ ... عِنْد الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السرى انتهى، والضربُ في الأرضِ هو السَّفَرُ للتجارةِ ابتغاءَ فضلِ اللَّهِ سبحانه، فذكرَ اللَّه سبحانه أعْذَارَ بني آدمَ التي هي حائلةٌ بينَهم وبيْنَ قيامِ الليل، ثم كرَّر سبحانَه الأَمْرَ بقراءةِ ما تَيَسَّر منه تأكِيداً، والصلاةُ والزكاة هنا هما المفروضَتَانِ، فمن قال: إن القِيَامَ من الليلِ غَيْرُ واجبٍ قال: معنى الآية خُذُوا من هذا النَّفْلِ بما تَيَسَّر وحَافِظُوا على فَرَائِضِكم، ومَنْ قال: إن شَيْئاً من القيامِ واجبٌ قال: قَدْ قَرَنَه اللَّهُ بالفرائِضِ لأنه فَرْضٌ وإقْراضُ اللَّه تعالى هو إسْلاَفُ العملِ الصالحِ عنده، وقرأ جمهورُ الناس «4» «هو خيراً» على أن يكونَ «هو» فَصْلاً، قال بعضُ العلماءِ: الاستِغفارُ بَعْدَ الصلاة مُسْتَنْبَطٌ من هذه الآيةِ، ومن قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17- 18] قال

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 390) . (2) أخرجه الطبري (12/ 294) ، رقم: (35301) ، وذكره ابن عطية (5/ 390- 391) . (3) سقط في: د. (4) وقرأ محمّد بن السميفع، وأبو السمال: «هو خير» بالرفع. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (164) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 391) ، و «البحر المحيط» (8/ 359) ، و «الدر المصون» (6/ 410) .

ع «1» : وَعَهَدْتُ أبي- رحمه اللَّه- يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ إثْرَ كل مكتُوبةٍ ثَلاَثَاً بِعَقِبِ السلام، ويأثر في ذلك حديثاً، فكان هذا الاستغفارُ من التقصيرِ وتَقَلُّبِ الفِكْرِ أثْنَاء الصلاة، وكان السلفُ الصالحُ يُصَلُّونَ إلى طلوع الفجر ثم يجلسُون للاسْتِغْفَارِ. ت: وما ذكره ع: رحمه اللَّه- عَنْ أبيه رَوَاهُ مسلم وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائي وابنُ ماجَه عن ثوبان قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف/ مِنْ صَلاَتِهِ، استغفر ثَلاَثاً وقَالَ: «اللهمّ، أنت السّلام ومنك السّلام تباركت ذَا الجَلاَلِ والاكرام» «2» ، قال الوليدُ: فقلتُ للأوزاعيِّ: كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قال: تَقُولُ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وفي روايةٍ لمسلم من حديثِ عائشةَ: «يَا ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ» ، انتهى من «سلاح المؤمن» .

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 391) . (2) أخرجه مسلم (5/ 26/ 135- 136) ، وأبو داود (1/ 474) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول الرجل إذا سلّم (1512) ، والترمذي (2/ 95- 96) ، كتاب «الصلاة» باب: ما جاء إذا سلّم من الصلاة (298- 299) ، وابن ماجه (1/ 298) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: ما يقال بعد التسليم (924) ، وابن حبان (5/ 340- 341) ، كتاب «الصلاة» باب: فصل في القنوط (2000- 2001) ، وأحمد (6/ 184) ، والنسائي (3/ 69) ، كتاب «السهو» باب: الذكر بعد الاستغفار (1338) ، وفي «الكبرى» (1/ 397) ، كتاب «صفة الصلاة» باب: الاستغفار بعد السلام (1261) . قال الترمذي: حديث عائشة، حديث حسن. وفي الباب من حديث ثوبان: أخرجه أبو داود (1/ 475) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول الرجل إذا سلم (1513) ، والنسائي (3/ 69) ، كتاب «السهو» باب: الاستغفار بعد السلام (1337) ، وفي «الكبرى» (1/ 397) ، كتاب «صفة الصلاة» باب: الاستغفار بعد السلام (1261) ، والطيالسي (1/ 105) ، كتاب «الصلاة» باب: أذكار متنوعة تقال بعد الخروج من الصلاة (476) ، وابن حبان (5/ 343- 344) ، كتاب «الصلاة» باب: فصل في القنوت.

تفسير سورة المدثر

تفسير سورة المدّثّر وهي مكّيّة بإجماع [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ الآيةَ، اخْتُلِفَ في أول ما نزل من القرآن، فقال الجمهورُ هو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وهذَا هو الأَصَحُّ، وقال جابر وجماعة هو: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» ، - ص-: والتَّدَثَّرُ: لُبْسُ الدِّثَارِ، وهو الثَّوْبُ الذي فَوْقَ الشِّعَارِ، والشِّعَارُ الثَّوبُ الذي يلي الجسد ومنه قوله: ع: «الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ» انتهى. وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ بَعْثَةٌ عامةٌ إلى جميع الخلق. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: فعظمْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال ابنُ زيدٍ وجماعة: هو أمْرٌ بتطهيرِ الثيابِ حَقِيقةً «2» ، وذَهَبَ الشافعيُّ وغيرُه من هذه الآيةِ إلى: وجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَاتِ مِنَ الثيابِ، وقالَ الجُمْهُورُ: هَذِه الألْفَاظُ اسْتِعَارَةٌ في تنقيةِ الأفْعَالِ والنَّفْسِ، والعْرِضِ، وهذا كما تقول: فلانٌ طَاهِرُ الثوبِ، ويقال للفَاجِر: دَنِسُ الثَّوْبِ، قال ابن العربي في «أحكامه» : والذي يقول إنها الثيابُ المَجَازِيَّة أكْثَرَ، وكثيراً ما تستعملُه العَرَبُ، قال أبو كبشة: [الطويل]

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 297) ، رقم: (35309) ، وذكره البغوي (4/ 412، 413) ، وابن عطية (5/ 392) ، وابن كثير (4/ 440) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 450) ، وعزاه للطيالسي، وعبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن الأنباري في المصاحف. (2) أخرجه الطبري (12/ 300) ، رقم: (35337) ، وذكره البغوي (4/ 413) ، وابن عطية (5/ 392) ، وابن كثير (4/ 441) بنحوه.

ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طهارى نَقِيَّةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ المَشَاهِدِ غُرَّانُ «1» يعني: بطهارةِ ثيابهم وسلامَتَهم من الدَّنَاءَاتِ، وقال غَيْلاَنُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ: [الطويل] فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «2» ولَيْسَ يمتنع أن تُحْمَلَ الآيةُ على عمومِ المرادِ فيها بالحقيقةِ «3» والمجازِ «4» على ما بيَّناه في أصولِ الفقه، وإذا حملنَاها على الثيابِ المعلومَة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تَقْصِيرُ الأَذْيَالِ فإنَّها إذا أُرْسِلَتْ تَدَنَّسَتْ، وتَقْصِيرُ الذيلِ أَنْقى لثَوْبِه وأتْقَى لربِّه، المَعْنَى الثَّاني: غَسْلُها من النَّجاسَةِ فهو ظَاهِرٌ منها صحيحٌ فيها، انتهى، قال الشيخ أبو الحسن الشاذليُّ- رضي اللَّه عنه-: رأَيْتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم في المَنَامِ، فقالَ: يَا عَلِيُّ، طَهِّرْ ثِيَابَكَ مِنَ الدَّنَسِ، تَحْظَ بمَدَدِ اللَّهِ في كُلِّ نَفَسٍ، فَقُلْتُ: وَمَا ثِيَابي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ كَسَاكَ [حُلَّة المَعْرِفَةِ، ثُمَّ] «5» حُلَّةَ المَحَبَّةِ، ثُمَّ حلةَ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ حُلَّةَ الإيمان، ثمّ حلّة

_ (1) البيت في «ديوانه» (83) ، و «المحكم» (4/ 175) ، و «العين» (4/ 19) ، و «الصحاح» (طهر) ، و «البحر المحيط» (8/ 363) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 392) ، «البحر المحيط» (8/ 363) ، القرطبي (19/ 42) . [.....] (3) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (2/ 152) ، «سلاسل الذهب» له ص: (182) ، «التمهيد» للأسنوي ص: (185) ، «نهاية السول» له (2/ 145) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 327) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (46) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 221) ، «المستصفى» للغزالي (1/ 341) ، «حاشية البناني» (1/ 300) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 271) ، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (2/ 152) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص: (68) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 393) ، «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 14، 2/ 405) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (4/ 437) ، «التحرير» لابن الهمام ص: (160) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (1/ 72، 2/ 2) . (4) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (2/ 158) ، «سلاسل الذهب» له ص: (190) ، «التمهيد» للأسنوي ص: (185) ، «نهاية السول» له (2/ 145) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 354) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (47) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 221) ، «المستصفى» للغزالي (1/ 341) ، «حاشية البناني» (1/ 304) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 271) ، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (2/ 152) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص: (387) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 399) ، «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 14، 2/ 405) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (4/ 437) ، «التحرير» لابن الهمام ص: (160) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (1/ 73، 2/ 3) ، «كشف الأسرار» للنسفي (1/ 226) . (5) سقط في: د.

[سورة المدثر (74) : الآيات 7 إلى 10]

الإسْلاَمِ، فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ صَغُرَ لديْهِ كُلُّ شَيْءٍ، ومَنْ أَحَبَّ اللَّهَ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، لَمْ يُشْرِكْ به شَيْئاً، ومَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أَمِنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ قَلَّمَا يَعْصِيهِ، وإنْ عَصَاهُ، اعتذر إلَيْهِ، وَإذَا اعتذر إليه، قَبِلَ عُذْرَه، قال: فَفَهِمْتُ حِينَئِذٍ معنى قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ انتهى من «التنوير» لابن عطاء اللَّه. وَالرُّجْزَ يعني الأصْنَام والأَوثَانَ، وقال ابن عباس: الرُّجْزُ السَّخَط «1» يعني: اهْجُرْ ما يؤدي إليه ويوجبُه، واخْتُلِفَ في معنى قولهِ تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فقالَ ابن عباس وجماعة: معناه لاَ تَعْطِ عَطَاءً لِتُعْطَى أكْثَرَ منه «2» ، فكأَنه من قولهم: مَنَّ إذَا أَعْطَى، قال الضحاك: وهذا خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومُبَاحٌ لأُمَّتِه، لكنْ لاَ أجْرَ لهم فيه «3» ، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه ولاَ تَمْنُنْ على اللَّهِ بِجِدِّكَ، تَسْتَكْثِرْ أعْمَالَك، ويَقَعْ لَكَ بها إعْجَابٌ «4» ، قال ع «5» : وهَذَا مِنَ المنِّ الذي هو تعديدُ اليَدِ وذكرُها، وقال مجاهد: معناه ولاَ تَضْعُفْ تَسْتَكْثِرْ مَا حَمَّلْنَاك من أعباء الرسالةِ، وتستكثرْ مِنَ الخَيْرِ وهَذَا من قولهم حبل منين أي: ضعيف «6» . / [سورة المدثر (74) : الآيات 7 الى 10] وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي لوجهِ ربِّكَ وطَلَبِ رضَاهُ فاصْبِرْ على أذَى الكفارِ، وعلى العبادةِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ وعَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ، قال ابن زيدٍ: وعَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ «7» ، ولَقَدْ حُمِّلَ أمْراً عظيما صلّى الله عليه وسلّم، والنَّاقُورُ: الذي يُنْفَخُ فيه، وهو الصُّور قاله ابن عبّاس

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 300) ، رقم: (35338) ، وذكره ابن عطية (5/ 393) . (2) أخرجه الطبري (12/ 301) ، رقم: (35346) عن ابن عبّاس، وغيره رقم: (35347) ، (35348) ، (35349) ، وذكره ابن عطية (5/ 393) ، وابن كثير (4/ 441) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه للطبراني. (3) أخرجه الطبري (12/ 302) ، رقم: (35362) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 393) ، وابن كثير (4/ 441) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه لعبد بن حميد. (4) أخرجه الطبري (12/ 302) ، رقم: (35363) ، (35364) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 393) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 393) . (6) أخرجه الطبري (12/ 303) ، رقم: (35367) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 393) ، وابن كثير (4/ 441) . والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر. (7) أخرجه الطبري (12/ 303) ، رقم: (35370) ، وذكره ابن عطية (5/ 393) .

[سورة المدثر (74) : الآيات 11 إلى 15]

وعكرمة وهو فَاعُولُ مِنَ النَّقْرِ «1» ، قال أبو حباب القصاب: أَمَّنَا زُرَارَةُ بنُ أَوْفَى فَلَمَّا بَلَغَ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ خَرَّ مَيِّتاً، قال الفخر «2» : قوله تعالى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أي: على الكافرين، لأَنَّهُمْ يُنَاقَشُونَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي: بلْ كَثِيرٌ شَدِيدٌ فأمَّا المؤمِنونَ فَإنَّه عليهم يَسِيرٌ لأَنَّهم لا يُنَاقَشُونَ، قال ابن عباس: ولما قال تعالى: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ دَلَّ على أنه يسيرٌ على المؤمنينَ «3» ، وهذا هو دليلُ الخِطَابِ، ويحتملُ أَنْ يكونَ إنما وَصَفَه تعالى بالعُسْرِ لأنَّه في نفسِه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين، إلاَّ أَنَّه يكونُ هَوْلُ الكفار فيه أَكْثَرُ وَأَشَدُّ، وعلى هذا القولِ يَحْسُن الوَقْفَ على قوله: يَوْمٌ عَسِيرٌ انتهى. [سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 15] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) وقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً الآية، لا خلافَ بَيْنَ المفسرين أن هذه الآيةَ نزلتْ في الوليدِ بن المغيرةِ المخزومي، فَرُوِيَ أنَّه كَانَ يُلَقَّبُ الوحيدَ أي: لأنه لاَ نَظِيرَ له في مالهِ وشَرَفهِ في بيتِه، فَذَكَرَ الوَحِيدَ في جملة النِّعَمِ التي أُعْطِيَ، وإنْ لم يَثْبُتْ هذا فقوله تعالى: خَلَقْتُ وَحِيداً معناه: منفَرِداً قليلاً ذَلِيلاً، والمالُ الممدودُ قال مجاهد وابن جبير: هو ألْفُ دينار «4» ، وقال سفيان: بلغني أَنَّهُ أربَعة آلافٍ وقاله قتادة «5» ، وقيل عَشَرَةُ آلافِ دينار، قال ع «6» : وهذا مَدّ في العدَدِ، وقال عمر بن الخطاب: المالُ الممدودُ: الرَّيْع المستغَلُّ مُشَاهَرةً «7» . وَبَنِينَ شُهُوداً أي حُضُوراً، قيل عشَرَةٌ وقِيلَ ثَلاَثَةُ عَشَرَ، قال الثعلبيُّ/: أسْلَم منهم ثلاثةٌ خَالد بْن الوليدِ، وهِشَام، وعِمَارَة، قالوا: فما زال الوليدُ بَعْد نزولِ هذهِ الآيةِ في نُقْصَانٍ من ماله وولده حتى هلك، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 304) ، رقم: (35376) عن عكرمة، ورقم: (35380) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عبّاس، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن عكرمة. (2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 174) . (3) ذكره الرازي (30/ 174) . (4) أخرجه الطبري (12/ 306) ، رقم: (35395- 35396) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 394) . [.....] (5) أخرجه الطبري (12/ 306) ، رقم: (35397) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 394) . (6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 394) . (7) أخرجه الطبري (12/ 306- 307) ، رقم: (35400، 35403) ، وذكره ابن عطية (5/ 394) .

[سورة المدثر (74) : الآيات 16 إلى 28]

وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً قال سفيانُ: المعنى بَسَطْتُ له العيش بسطا «1» . [سورة المدثر (74) : الآيات 16 الى 28] كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) وقوله تعالى: كَلَّا رَدْعٌ وَزَجْرٌ له على أمنيّته، وسَأُرْهِقُهُ معناه أُكَلِّفُه بمشقَةٍ وعُسْرُ، وصَعُودٌ عَقَبَةٌ في نَارِ جهنَّمَ، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: كُلَّما وُضِعَ عليها شَيءٌ مِن الإنْسَانِ ذَابَ، ثم يَعُودُ، والصَّعودُ في اللغة: العَقَبَةُ الشَّاقَة. وقوله تعالى مخبراً عن الوليد: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ الآية، رَوَى جمهورٌ من المفسرينَ: أن الوليدَ سَمِعَ من القرآن ما أعْجَبَه وَمَدحَه، ثم سمِعَ كذلك مراراً، حتى كَادَ أنْ يُقَارِبَ الإسْلامِ، وقال: واللَّه لَقَدْ سمعتُ من محمدٍ كلاماً مَا هُو مِنْ كلامِ الإنْسِ، ولا هو مِنْ كَلامِ الجنِّ، إنَّ له الحلاوة، وإنَّ عليه لَطَلاَوَةً، وإنَّ أَعْلاَهُ لمثمرٌ، وإنَّ أسْفَلَه لَمُغْدِقٌ، وإِنَّه يَعْلُو، وَمَا يُعْلَى، فقالتْ قريشٌ: صَبَأَ الوليدُ واللَّه لتصبأَنَّ قريشٌ، فقال أبو جهل: أنا أكْفِيكُمُوه فَحاجَّه أبو جهل وجماعة حتَى غَضِبَ الوليدُ، وقال: تَزْعُمُون أَنَّ محمداً مجنُونٌ، فَهَلْ رأيتمُوه يُخْنَقُ قَط؟ قالوا: لا، قال: تزعمُون أنه شاعر، فهل رأيتموه يَنْطِق بشعرٍ قط؟ قالوا: لا، قال: تَزْعَمُونَ أَنّه كاهنٌ، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا لا، قال: تَزْعمُونَ أَنَّه كذابٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عليه شيئاً من الكذبِ قط؟ قالوا: لا، وكانوا يُسمُّونه قبلَ النبوةِ الأمِينُ لِصِدْقِهِ، فَقَالَتْ قريش: ما عندَك فيه؟ فتفكَّرَ في نفسه، فقال: ما أرى فيه شيئاً مما ذكرتمُوه فقالوا: هو ساحرٌ، فقال: أما هذا فُيُشْبِه، / وألفاظ الرواة هنا مُتَقَارِبَة المعاني مِنْ رواية الزهري وغيره. وقوله تعالى: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ قَالَ الثعلبيُّ وغيرُه: قُتِلَ معناه: لُعِنَ، انتهى. وَبَسَرَ أي قَطَبَ مَا بَيْنَ عينيه واربد وَجْهُه ثم أدْبَر عَنْ الهُدَى بعد أن أقْبَلَ إليهِ، وقال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي: يُرْوَى، أي: يرويه محمدٌ عن غيره. وسَقَرُ هي الدَّرْكُ السادسِ منَ النَّارِ، لاَ تُبْقِي عَلَى مَنْ أُلْقي فيها وَلا تَذَرُ غايةً من العذاب إلا وصّلته إليه. [سورة المدثر (74) : الآيات 29 الى 35] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 307) ، رقم: (35405) ، وذكره ابن عطية (5/ 394) .

وقوله تعالى: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قال ابن عباس وجمهور الناس: معناه مُغَيِّرَةٌ للبَشَرَاتِ ومُحَرِّقَةٌ للجُلودِ مُسَوِّدَة لها «1» ، فالبَشَرُ جَمْع بَشَرَةٍ، وقال الحسن وابن كَيْسَانَ: لَوَّاحَةٌ بِنَاء مبالغَةٍ من لاَحَ يَلُوحُ إذا ظَهَرَ، فالمعنى أنها تظهرُ للناسِ وهم البَشَرُ من مسيرةِ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وذلك لعظمِها وهَوْلِهَا وزفيرها «2» . وقولُه تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ لاَ خِلاَفَ بينَ العلماءِ أنهم خَزَنَةُ جهنمَ المحيطونَ بأمْرِها الذين إليهم جِمَاع أمْرِ زبانِيَتِها، ورُوِي أن قريشاً لما سَمِعَتْ هذا كَثُرَ لَغَطُهم فيه، وقالوا: ولَوْ كَانَ هذا حقاً، فإن هَذَا العَدَدَ قليلٌ، وقالَ أبو جهل: هؤلاء تسعةَ عشَرَ، وأنْتُمْ الدُّهْمُ أي: الشُّجْعَانُ: أفَيَعْجَزُ عشرةٌ منا عن رجلٍ منهم إلى غير هذا من أقوالهم السخيفةِ. وقوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً تَبْيينٌ لفسادِ أقوالِ قريشٍ، أي: إنا جَعَلْنَاهم خَلْقاً لا قِبَلَ لاًّحَدٍ من الناس بهم وجعلنا عِدَّتَهم هذا القدرَ فتنةً للكفارِ لِيَقَع منهم من التعاطِي والطَّمَعِ في المغالَبَةِ ما وقع، ولِيَسْتَيْقِنَ أهلُ الكتابِ- التوراةِ والإنجيلِ- أنَّ هذا القرآنَ مِنْ عندَ اللَّهِ، إذْ هُمْ يَجِدُونَ هذهِ العدةَ في كُتُبِهم المنزَّلةِ، قال هذا المعنى ابنُ عباسٍ وغيرُه «3» ، وبوُرُودِ الحقائقِ من عند الله- عز وجل- يَزْدَادُ كلُّ ذِي إيمانٍ إيمَاناً، ويَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ المُصَدِّقِينَ مِنْ أهْلِ الكتابِ ومِنَ المؤمنين. / وقوله سبحانه: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.... الآية، نوعٌ من الفتنةِ لهذا الصِّنفِ المنافِق أو الكافرِ، أي حَارُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَقْصِدِ الحقِ، فجعلَ بَعْضُهم يَسْتَفْهِمُ بَعْضاً عن مرادِ اللَّه بهذا المثل، استبعاداً أنْ يكونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ، قال الحسين بن الفضل: السورة مكيَّةٌ وَلَمْ يكن بمكةَ نِفَاقٌ وإنَّما المرض في هذه الآيةِ الاضْطِرَابُ وضَعْفُ الإيمانِ «4» ، ثم قَالَ تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ إعْلاماً بأن الأمْرَ فَوْقَ ما يتوهّم،

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 311) ، رقم: (35434) ، وذكره البغوي (4/ 416) ، وابن عطية (5/ 395) ، وابن كثير (4/ 443) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد. (2) ذكره البغوي (4/ 416) ، وابن عطية (5/ 396) . (3) أخرجه الطبري (12/ 313) ، رقم: (35447) ، وذكره ابن عطية (5/ 396) . (4) ذكره ابن عطية (5/ 396) .

[سورة المدثر (74) : الآيات 36 إلى 41]

وأنَّ الخبرَ إنما هُو عَنْ بَعْضِ القدرةِ لاَ عَنْ كُلِّها، ت: صوابُه أنْ يقولَ عَنْ بَعْضِ المقدوراتِ لاَ عَنْ كُلِّها وهذا هو مُرَادُه، ألاَ تَرَاهُ قال في قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] قال: يعني بشيءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِه لأنّ علمَه تعالى لاَ يَتَجَزَّأُ، فافْهم رَاشِداً، والسموات كُلُّها عامرةٌ بأَنواعٍ من الملائِكَةِ كلُّهم في عبادَةٍ مُتَّصِلَةٍ وخُشُوعٍ دائمٍ، لا فَتْرَةَ في شيءٍ من ذلك، ولا دَقِيقَةً واحدة، قال مجاهد: والضميرُ في قوله: وَما هِيَ للنارِ المذكورةِ، أي: يُذَكَّرُ بهَا البشرُ فَيَخَافُونَها، فيطيعونَ اللَّه «1» ، وقال بعضهم: قوله: وَما هِيَ يرادُ بها الحالُ والمخَاطبةُ والنِّذَارَةُ، وأقْسَمَ تعالى بالقَمَرِ وما بَعدَه تَنْبيهاً عَلَى النَّظَرِ في ذلكَ والفكرِ المؤدِّي إلى تعظيمهِ تعالَى وتحصيلِ معرفتِه تعالى مالك الكلّ وقوام الوجود، ونور السموات والأرضِ، لاَ إله إلاَّ هو العزيزُ القهارُ، وأدْبَرَ الليلُ معناه ولّى، وأسْفَرَ الصبح أضَاءَ وانتشرَ ضوؤه، قال ابن زيد وغيره: الضميرُ في قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ لجهنمَ، ويحتملُ أنْ يكُونَ الضميرُ للنِّذَارَةِ وأمْرِ الآخرة فهو للحالِ والقِصَّة «2» ، - ص-: والكُبَرُ جَمْعُ كُبْرى، وفي ع «3» : جَمْعُ كبيرةٍ ولَعَلَّه وَهْمٌ من الناسِخ، انتهى. [سورة المدثر (74) : الآيات 36 الى 41] نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) وقوله سبحانه: نَذِيراً لِلْبَشَرِ قال الحسن: لا نَذِيرَ أدْهَى مِنَ النارِ «4» ، وقال ابن زيد: نَذِيراً لِلْبَشَرِ هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم «5» . وقوله سبحانه: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ قال الحسن: هو وعيد نحو قوله: فَمَنْ/ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «6» [الكهف: 29] ، ثم قوَّى سبحانه هذا المعنى بقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ: إذ لزم بهذا القول أنَّ المُقَصِّرَ مرتهن بسوءِ عمله، وقال الضَّحَّاكُ: المعنى: كل نفس حَقَّتْ عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحدا

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 314) ، رقم: (35457) ، وذكره ابن عطية (5/ 397) ، وابن كثير (4/ 446) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 457) ، وعزاه لعبد بن حميد. (2) أخرجه الطبري (12/ 316) ، رقم: (35463) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 397) . (4) أخرجه الطبري (12/ 316) ، رقم: (35467) ، وذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 398) . (5) أخرجه الطبري (12/ 317) ، رقم: (35469) ، وذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 398) . (6) ذكره ابن عطية (5/ 398) . [.....]

[سورة المدثر (74) : الآيات 42 إلى 49]

من أهل الجنة إنْ شاء اللَّه «1» . وقوله تعالى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ استثناءٌ ظاهره الانفصال، تقديره: لكن أصحاب اليمين في جنات. - ص-: فِي جَنَّاتٍ أي: هم في جنات، فيكون خبر مبتدإ محذوف. - م-: وأعربه أبو البقاء حالاً من الضمير في يَتَساءَلُونَ، انتهى. قال ابن عباس: أَصْحابَ الْيَمِينِ هنا الملائكة «2» ، وقال الضَّحَّاكُ: هم الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى «3» ، وقال الحسن وابن كَيْسَانَ: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين «4» . ت: وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قال: أصحاب اليمين: أطفال المسلمين «5» ، انتهى من «التمهيد» . [سورة المدثر (74) : الآيات 42 الى 49] ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) وقولهم: مَا سَلَكَكُمْ أي: ما أدخلكم، فيحتمل أنْ يكون من قول أصحاب اليمين الآدميين أو من قول الملائكة. وقوله تعالى: قالُوا يعني الكفار لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... الآية، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان باللَّه، والمعرفة به، والخشوع له وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ يشمل الصدقة فرضاً كانت أو نفلاً، والخوض مع الخائضين: عَرَّفه في الباطل والتكذيب بيوم الدين كفر صراح حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموت قاله المفسرون.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 318) ، رقم: (35446) ، وذكره ابن عطية (5/ 398) . (2) ذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 398) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 498) . (4) ذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 498) . (5) أخرجه الطبري (12/ 418) ، رقم: (35479) ، وذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 498) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 459) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم.

[سورة المدثر (74) : الآيات 50 إلى 56]

قال ع «1» : وعندي: أَنَّ اليقين صِحَّةُ ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى اللَّه والدار الآخرة، وقد تقدم ذكر أحاديث الشفاعة قال الفخر «2» : واحتجَّ أصحابنا بهذه الآية على أَنَّ الكفار يُعَذَّبُونَ بترك فروع الشريعة، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول، انتهى. [سورة المدثر (74) : الآيات 50 الى 56] كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) وقوله تعالى في صفة الكفار/ المعرضين: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ إثبات لجهلهم لأَنَّ الحمر من جاهل الحيوان جدًّا، وفي حَرْفِ ابن مسعود «3» : «حُمُرٌ نَافِرَةٌ» قال ابن عباس وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: القسورة: الأسد «4» ، وقيل غير هذا، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي: من هؤلاء أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي: يريد كل إنسان منهم أنْ ينزل عليه كتاب من اللَّه، ومنشرة، أي: منشورة غير مطوية. وقوله: كَلَّا رَدٌّ على إرادتهم، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: بَلْ لاَّ يَخافُونَ الْآخِرَةَ المعنى: هذه هي العلة والسبب في إعراضهم، فكان جهلهم بالآخرة سَبَبَ امتناعهم من الهدى حتى هلكوا، ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله: كَلَّا وأخبر أنَّ هذا القولَ والبيانَ وهذه المحاورة بجملتها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ: ووفقه اللَّه لذلك، ذَكَرَ معادَه فعمل له، ثم أخبر سبحانه أنَّ ذكر الإنسان مَعَادَهُ وجريَه إلى فلاحه إنَّما هو كله بمشيئة اللَّه تعالى، وليس يكون شيء إلاَّ بها، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير: «يَذْكُرُونَ» بالياء من تحت «5» . وقوله سبحانه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ خبر جزم معناه: أنّ الله عز وجل

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 399) . (2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 186) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 399) . (4) أخرجه الطبري (12/ 322) ، رقم: (35512، 35515) ، وذكره البغوي (4/ 419) عن أبي هريرة فقط، وابن عطية (5/ 399) ، وابن كثير (4/ 427) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 461) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ولعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي هريرة. (5) ينظر: «إعراب القراءات» (2/ 413) ، و «معاني القراءات» (2/ 104) ، و «شرح الطيبة» (6/ 80) ، و «العنوان» (199) ، و «شرح شعلة» (613) ، و «حجة القراءات» (635) ، و «إتحاف» (2/ 572) .

أَهْلٌ بصفاته العُلَى ونِعَمِهِ التي لا تحصى لأَنْ يتقى ويُطَاعَ أمره، ويُحْذَرَ عصيانه، وأَنَّه بفضله وكرمه أَهْلٌ أنْ يَغْفِرَ لعبادِهِ إذا اتقوه رَوَى ابْنُ مَاجَه عن أنَسٍ: «أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هَذِهِ الآية: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أتقى، فَلاَ يُجْعَلَ مَعِيَ إله آخَرُ، فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِيَ إلَهاً آخَرَ، فَأَنَا أَهْلٌ أنْ أَغْفِرَ لَهُ» وأخرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه، وقال: حديث حسن «1» ، انتهى.

_ (1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1437) ، كتاب «الزهد» باب: ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (4299) .

تفسير سورة القيامة

تفسير سورة القيامة وهي مكّيّة بإجماع [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) قوله عز وجل: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ/ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير «1» : «لأُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ وَلأُقْسِمُ» فقيل: على قراءة الجمهور «لا» زائدة، وقال الفَرَّاءُ: «لا» نفيٌ لكلام الكفار، وزجر لهم، ورَدٌّ عليهم، وجمهور المتأوِّلين على أَنَّ اللَّه تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، أقسم سبحانه بيوم القيامة تنبيهاً منه على عِظَمِهِ وهوله قال الحسن: النفس اللَّوَّامَةُ: هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو ذلك «2» ، فهي على هذا ممدوحة ولذلك أقسم اللَّه بها، وقال ابن عباس وقتادة: اللوامة: هي الفاجرة، اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا «3» وأعراضها، وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها، والنفس في الآية اسم جنس. قال ع «4» : وكل نفس متوسطة ليست بالمُطْمَئِنَّةِ ولا بالأَمَّارَةِ بالسوء فإنَّها لوَّامة في الطرفين، مرةً تلوم على ترك الطاعة، ومرةً تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنَّتْ خلصت وصفت، قال الثعلبيُّ: وجواب القسم محذوف تقديره: لَتُبْعَثُنَّ، دَلَّ عليه قوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أي: للإحياء والبعث، والإنسان هنا الكافر المكذّب

_ (1) ينظر: «السبعة» (661) ، و «الحجة» (6/ 343) ، و «إعراب القراءات» (2/ 414) ، و «حجة القراءات» (735) ، و «معاني القراءات» (3/ 105) ، و «العنوان» (200) ، و «إتحاف» (2/ 573) . (2) ذكره البغوي (4/ 421) ، وذكره ابن عطية (5/ 402) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 464) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا. (3) ذكره ابن عطية (5/ 402) . [.....] (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 402) .

بالبعث، انتهى، والبنان: الأصابع، ونُسَوِّيَ بَنانَهُ معناه: نتقنها سَوِيَّةً قاله القتبي، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: المعنى: بل نحن قادرون أنْ نسوي بنانه، أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كَخُفِّ البعير أو كحافر الحمار، لا يمكنه أنْ يعمل بها شيئاً، ففي هذا تَوَعُّدٌ ما، والقول الأول أجرى مع رصف الكلام «1» . بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ معناه: أنَّ الإنسان إنَّما يريد شهواتِهِ ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً راكباً رأسه، ومطيعاً أمله، ومُسَوِّفاً توبته قال البخاريُّ: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يقول: سوف أتوب، سوف أعمل «2» ، انتهى. / قال الفخر «3» : قوله: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فيه قولان: الأَوَّل: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه فَعَنِ ابن جُبَيْرٍ: يقدم الذنب، ويُؤَخِّرُ التوبة «4» ، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوإ أعماله. القول الثاني: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي: يُكَذِّبُ بما أمامه من البعث والحساب لأَنَّ من كذب حَقًّا كان مفاجراً، والدليل على هذا القول قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي: متى يكون ذلك تكذيباً له، انتهى. وسؤال الكفار أَيَّانَ هو على معنى التكذيب والهزء، وأَيَّانَ بمعنى: متى، وقرأ نافع وعاصم بخلافٍ: «بَرَقَ الْبَصَرُ» - بفتح الراء «5» - بمعنى: لَمَعَ وصار له بريق، وحار عند الموت، وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى: شَخَصَ، والمعنى متقارب، قال

_ (1) أخرجه الطبري (2/ 328) ، رقم: (35540- 35541) ، وذكره ابن عطية (5/ 402) ، وابن كثير (4/ 448) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 464) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (2) ينظر: «فتح الباري» (8/ 547) ، كتاب «التفسير» . (3) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 192) . (4) أخرجه الطبري (12/ 330) ، رقم: (35555) ، وذكره البغوي (4/ 421) ، وابن عطية (5/ 402) ، وابن كثير (4/ 448) . (5) وعاصم قرأها هكذا من رواية أبان. ينظر: «السبعة» (661) ، و «الحجة» (6/ 345) ، و «معاني القراءات» (3/ 106) ، و «إعراب القراءات» (2/ 414) ، و «شرح الطيبة» (6/ 81) ، و «العنوان» (200) ، و «حجة القراءات» (736) ، و «شرح شعلة» (613) ، و «إتحاف» (2/ 574) .

[سورة القيامة (75) : الآيات 10 إلى 13]

مجاهد: هذا عند الموت «1» ، وقال الحسن: هذا في يوم القيامة «2» ، قال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين: الخسوف والكسوف بمعنى واحد «3» ، وقال ابن أبي أُوَيْسٍ: الكسوف: ذهابُ بعض الضوء، والخسوف: ذهاب جميعه، وروى عروة وسفيان أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ تَقُولُوا كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ قُولُوا: خَسَفَتْ» «4» وقرأ ابن مسعود: «وَجُمِعَ «5» بَيْنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ» واختلف في معنى الجمع بينهما فقال عطاء: يجمعان فيقذفان في النار «6» ، وقيل: في البحر فيصيرا نارَ اللَّه العُظْمَى، وقيل: يُجْمَعُ الضَّوْءانِ فيذهب بهما قال الثعلبيُّ: وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب «7» ، انتهى. [سورة القيامة (75) : الآيات 10 الى 13] يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي: أين الفرار كَلَّا لاَ وَزَرَ أي: لا ملجأ، والْمُسْتَقَرُّ موضع الاستقرار. وقوله تعالى: يُنَبَّؤُا/ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ [أي] : يعلم بكل ما فعل، ويجده مُحَصَّلاً، وقال ابن عباس وابن مسعود: بما قَدَّم في حياته، وما أخّر من سنة بعد مماته «8» . [سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 19] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 331) ، رقم: (35563) ، وذكره ابن عطية (5/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 465) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. (2) ذكره ابن عطية (5/ 403) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 403) . (4) أخرجه مسلم (2/ 625) ، كتاب «الكسوف» باب: ما عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (13/ 905) . (5) هكذا في القرطبي (19/ 63) . وذكر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 403) أنها قراءة ابن أبي عبلة. (6) أخرجه الطبري (12/ 332) ، رقم: (35569) ، وذكره البغوي (4/ 422) ، وابن عطية (5/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 465) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. (7) ذكره القرطبي (19/ 63) ، وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (8/ 377) . (8) أخرجه الطبري (12/ 335) ، رقم: (35591) ، (35592) ، وذكره البغوي (4/ 422) ، وابن عطية (5/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 466) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود، وعزاه أيضا لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. [.....]

وقوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال ابن عباس وغيره: أي: للإنسان على نفسه من نفسه بصيرةُ رقباءَ يشهدون عليه، وهم جوارحه وَحَفَظَتُه «1» ، ويحتمل أنْ يكون المعنى: بل الإنسان على نفسه شاهد ودليله قوله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] قال الثعلبيّ: قال أبان بن ثعلب: البصيرةُ والبَيِّنَةُ والشاهد بمعنى واحد انتهى، ونحوه للهرويِّ قال ع «2» : والمعنى على هذا التأويل الثاني: أَنَّ في الإنسان وفي عقله وفطرته حُجَّةً وشاهداً مُبْصِراً على نفسه. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي: ولو اعتذر عن قبيح أفعاله، فهو يعلمها، قال الجمهور: والمعاذير هنا جمع مَعْذِرَةٌ، وقال الضَّحَّاكُ والسُّدِّيُّ: هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر: المعذار «3» . وقوله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ الآية، قال كثير من المفسرين، وهو في «صحيح البخاريِّ» عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ مُخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ مَا يُوحَى إلَيْهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ تَعَالَى أنّه يجمعه له في صدره «4» . وقوله: وَقُرْآنَهُ يحتمل أنْ يريد وقراءته، أي: تقرأه أنت يا محمد. وقوله: فَإِذا قَرَأْناهُ أي: قرأه الملك الرسول عنّا فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، قال البخاريُّ: قال ابن عباس: فَاتَّبِعْ ، أي: اعمل به، وقال البخاريُّ أيضاً/ قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ أي: تأليف بعضه إلى بعض فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي: ما جمع فيه، فاعمل بما أمرك، وانته عَمَّا نهاك عنه انتهى. وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال قتادة وجماعة: معناه: أنْ نُبَيِّنَهُ لك «5» ، وقال البخاريُّ: أنْ نبينه على لسانك.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 336) ، رقم: (35601) ، وذكره البغوي (4/ 423) ، وابن كثير (4/ 449) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 467) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 404) . (3) أخرجه الطبري (12/ 338) ، رقم: (35612) عن السدي، وذكره البغوي (4/ 423) ، وابن عطية (5/ 404) ، والسيوطي (6/ 467) ، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك بنحوه. (4) أخرجه البخاري (8/ 547- 548) ، كتاب «التفسير» باب: سورة القيامة (4927) ، (8/ 549) ، باب: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (4928) . (5) ذكره ابن عطية (5/ 405) ، وابن كثير (4/ 449) بنحوه.

[سورة القيامة (75) : الآيات 20 إلى 25]

[سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 25] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي: الدنيا وشهواتِها قال الغزاليُّ في «الإحياء» : اعلم أَنَّ رأس الخطايا المهلكة هو حُبُّ الدنيا، ورأسَ أسبابِ النجاة هو التجافي بالقلب عن دار الغرور، وقال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّهُ لا وصولَ إلى سعادة لقاء اللَّه سبحانه في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأُنْسِ به في الدنيا، ولا تحصلُ المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفةُ إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأُنْسُ إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلاَّ بانقلاع حُبِّ الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلاَّ بترك لَذَّاتِ الدنيا وشهواتها، ولا يمكن تركُ المشتهيات إلاَّ بقمع الشهوات، ولا تَنْقَمِعُ الشهواتُ بشيء كما تنقمعُ بنار الخوف المُحْرِقَة لِلشهوات، انتهى. وقرأ ابن كثير «1» وغيره: «يُحِبُّونَ» و «يَذَرُونَ» بالياء على ذكر الغائب، ولما ذكر سبحانه الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: ناعمة، والنُّضْرَةُ: النعمة وجمال البشرة قال الحسن: وحُقَّ لها أن تُنَضَّر وهي تنظر إلى خالقها «2» . وقوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ حمل جميع أهل السُّنَّةِ هذه الآية على أَنَّها متضمنة رؤية المؤمنين لله عز وجل بلا تكييف ولا تحديد/ كما هو معلوم موجود، لا يشبه الموجودات، كذلك هو سبحانه مَرْئِيٌّ لا يشبه المَرْئِيَّاتِ في شيء فإِنَّه ليس كمثله شيء لا إله إلاَّ هو، وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة، وما في ذلك من صحيح الأحاديث، والباسرة: العابسة المغمومة النفوس، والبسور: أشد العُبُوسِ، وإنَّما ذكر تعالى الوجوه لأَنَّهُ فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غَمٍّ، والمراد أصحاب الوجوه، والفاقرة: المصيبة التي تكسر فَقَارِ الظهر وقال أبو عبيدة: هي من فَقَرْتُ [البعير] إذا وسمت أنفه بالنار «3» .

_ (1) وقرأ بها أبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب. ينظر: «إعراب القراءات» (2/ 416) ، و «معاني القراءات» (3/ 106) ، و «شرح الطيبة» (6/ 81) ، و «العنوان» (200) ، و «حجة القراءات» (736) ، و «شرح شعلة» (614) ، و «إتحاف» (2/ 574) . (2) أخرجه الطبري (12/ 343) رقم (35654) ، وذكره البغوي (4/ 424) ، وابن عطية (5/ 405) ، وابن كثير (4/ 450) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 405) .

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 إلى 30]

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 30] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) وقوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ ... زجر وتذكير أيضاً بموطن من مواطن الهول، وهي حالة الموت الذي لا محيد عنه، وبَلَغَتِ يريد: النفس والتَّراقِيَ جمع تَرْقُوَةٍ، وهي عظام أعلى الصدر، ولكل أحد تَرْقُوَتَانِ، لكن جُمِعَ من حيثُ أَنَّ النفس المرادةَ اسمُ جنس، والتراقي هي موارية للحلاقيم، فالأمر كله كناية عن حال الحَشْرَجَةِ ونزع الموت- يَسَّرَهُ اللَّه علينا بِمَنِّهِ، وجعله لنا راحةً من كل شَرٍّ- واخْتُلِفَ في معنى قوله تعالى: وَقِيلَ مَنْ راقٍ فقال ابن عباس وجماعة: معناه: مَنْ يُرْقِي، ويَطُبُّ، ويَشْفِي «1» ، ونحو هذا مِمَّا يتمناه أهل المريض، وقال ابن عباس أيضاً، وسليمانُ التَّيْمِيُّ، ومقاتل: هذا القول للملائكة، والمعنى: مَنْ يرقى بروحه، أي: يصعد بها إلى السماء أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب «2» . وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي: أيقن، وهذا يقين فيما لم يَقَعْ بعد ولذلك اسْتُعْمِلَتْ فيه لَفْظَةُ الظن. وقوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قال ابن المُسَيِّبِ، والحسن: هي حقيقة، والمراد: ساقا المَيِّتِ عند تكفينه، أي: لَفَّهُمَا الكَفَنُ «3» ، وقيل: هو التفافهما من شدة المرض، وقيل غير هذا. [سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 33] فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) وقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى الآية: قال جمهور المتأولين: هذه الآية كلها إنَّما نزلت في أبي جهل قال- عليه السلام «4» : ثم كادت هذه الآية أَنْ تُصَرِّحَ به في قوله:

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 406) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 477) ، وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عبّاس بنحوه. (2) أخرجه الطبري (12/ 346) ، رقم: (35682) ، وذكره ابن عطية (5/ 406) ، وابن كثير (4/ 451) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 477) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه. (3) أخرجه الطبري (12/ 348) ، رقم: (35706- 35707) ، وذكره البغوي (4/ 425) ، وابن عطية (5/ 406) ، وابن كثير (4/ 451) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 478) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 406) .

[سورة القيامة (75) : الآيات 34 إلى 40]

يَتَمَطَّى فإنَّها كانت مشيته، وقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى تقديره: فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ ف «لا» في الآية: نفي لا عاطفة. - ص-: فَلا صَدَّقَ فيه دليل على أَنَّ «لا» تدخل على الماضي فتنفيه كقول الراجز: [من الرجز] إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِر جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا «1» انتهى. وصَدَّقَ معناه: برسالة اللَّه ودينه، وذهب قوم إلى أنّه من الصدقة، والأول أصوب ويَتَمَطَّى معناه: يمشي المَطيطاء، وهي مشية بتبختر، وهي مؤخوذة من المَطا وهو الظهر لأَنَّهُ يتثنى فيها، زاد- ص-: وقيل: أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيه ومدّ منكبيه، انتهى. [سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 40] أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) وقوله: أَوْلى لَكَ: وعيد. فَأَوْلى وعيد ثانٍ، وكرَّر ذلك تأكيداً، ومعنى أَوْلى لَكَ الازدجار والانتهار، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجراً ومنه فأولى لهم طاعة، ويروى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَبَّبَ أَبَا جَهْلٍ يَوْماً في البَطْحَاءِ وَقَالَ لَهُ: «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» فنزل القرآن على نحوها «2» وفي شعر الخنساء: [المتقارب]

_ (1) لأبي خراش في «الأزهية» ص: (158) ، و «خزانة الأدب» (7/ 190) ، و «شرح أشعار الهذليين» (3/ 1346) ، و «شرح شواهد المغني» ص: (625) ، و «لسان العرب» (12/ 104) (جمم) ، و «المقاصد النحويّة» (4/ 216) ، ولأمية بن أبي الصلت في «الأغاني» (4/ 131، 135) ، و «خزانة الأدب» (4/ 4) ، و «لسان العرب» (12/ 553) (لمم) ، ولأمية أو لأبي خراش في «خزانة الأدب» (2/ 295) ، و «لسان العرب» (12/ 549) (لمم) ، وبلا نسبة في «الإنصاف» ص: (76) ، و «جمهرة اللغة» ص: (92) ، و «الجنى الداني» ص: (298) ، و «لسان العرب» (15/ 467) (لا) و «مغني اللبيب» (1/ 244) . (2) أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 504) ، كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (11638/ 2) ، والحاكم (2/ 510) ، وابن جرير في «تفسيره» (12/ 351) (35734) نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 479) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. [.....]

هَمَمْتُ بِنَفْسِيَ كُلَّ الْهُمُومِ ... فأولى لِنَفْسِيَ أولى لها «1» وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ: توبيخ وسُدىً: معناه: مُهْمَلاً لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهَى، ثم قَرَّر تعالى أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تأمّلت لَم/ يُنْكِرْ معها جوازَ البعث من القبور عاقلٌ، والعَلَقَةُ القطعة من الدم. فَخَلَقَ فَسَوَّى أي: فخلق اللَّه منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة، فسواه شخصا مستقلا، والزَّوْجَيْنِ: النوعين، ثم وقف تعالى توقيفَ توبيخ بقوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى روي: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بَلَى، ورُوِيَ أَنَّه كَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، بلى» «2» انظر «سنن أبي داود» .

_ (1) ينظر: البيت في «الديوان» (82) ، و «الدر المصون» (6/ 433) . (2) تقدم تخريجه في أول التفسير.

تفسير سورة"الإنسان"

تفسير سورة «الإنسان» قيل: مكّيّة، وقيل: مدنيّة وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكية «1» ، وهي [قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً والباقي مدنيّ. [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) [قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ... الآية، هَلْ في كلام العرب قد تجيء] «2» بمعنى قَدْ حكاه سيبويه، لكنها لا تخلو من تقرير، وبابُها المشهورُ الاستفهام المَحْضُ، والتقرير أحياناً قال ابن عباس: «هل» بمعنى «قد» ، والإنسان يراد به آدم «3» ، وقال أكثر المتأولين: «هل» تقرير، الإنسان: اسم جنس، أي: إذا تَأَمَّلَ كُلُّ إنسان نفسه علم بِأَنَّه قد مَرَّ حِينٌ من الدهر عظيم لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، وهذا هو القوي أَنَّ الإنسان اسم جنس، وأَنَّ الآية جُعِلَتْ عبرةً لكل أحد من الناس لِيُعْلَمَ أَنَّ الخالق له قادر على إِعادته. - ص-: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً في موضع حال من الْإِنْسانِ أو في موضع صفة ل حِينٌ والعائد عليه محذوف، أي: لم يكن فيه، انتهى. وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ... الآية، الإنسان هنا: اسم جنس بلا خلافٍ، وأمشاج معناه: أخلاط قيل: هو أَمْشاجٍ ماءِ الرجل بماءِ المرأة، ونقل الفخر أنّ

_ (1) ذكره البغوي (4/ 426) ، وابن عطية (5/ 408) . (2) سقط في: د. (3) ذكره ابن عطية (5/ 408) .

[سورة الإنسان (76) : الآيات 6 إلى 8]

الأمشاج لفظٌ/ مفرد، وليس يُجْمَعُ، بدليل أَنَّه وقع صفةً للمفرد، وهو قوله: نُطْفَةٍ، انتهى. نَبْتَلِيهِ أي: نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا، وهو حال من الضمير في خَلَقْنَا كأَنَّه قال: مختبرين له بذلك. وقوله تعالى: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً عَطْفُ جملة نِعَم على جملة نِعَمٍ، وقيل: المعنى: فلنبتليه جعلناه سميعاً بصيراً وهَدَيْناهُ: يحتمل: أنْ يكون بمعنى أرشدناه، ويحتمل: أنْ يكون بمعنى أريناه، وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان، وعبارة الثَّعْلَبِيِّ: هَدَيْناهُ السَّبِيلَ بَيَّنَا له وَعَرَّفْنَاهُ طريقَ الهدى والضلال، والخير والشر كقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] انتهى. وقوله تعالى: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان، وقسمتهما إِمَّا، والْأَبْرارَ: جمع بَارٍّ قال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذَّرَّ، ولا يرضون الشرَّ «1» ، قال قتادة: نعم قوم يمزجُ لهم بالكافور، ويُخْتَمُ لهم بالمسك «2» ، قال الفرَّاء: يقال إِنَّ في الجنة عينا تسمى كافورا. [سورة الإنسان (76) : الآيات 6 الى 8] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) وقوله تعالى: عَيْناً قيل: هو بدل من قوله: كافُوراً وقيل: هو مفعول بقوله: يَشْرَبُونَ أي: ماءُ هذه العين من كأس عَطِرَةٍ كالكافور، وقيل: نصب عَيْناً على المدح أو بإضمار «أعني» . قوله تعالى: يَشْرَبُ بِها بمنزلة [يشربها] ، فالباء زائدة قال الثعلبيُّ: قال الواسطي: لَمَّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة، انتهى. قال- ص-: وقيل: الباء في بِها للإلصاق والاختلاط، أي: يشرب بها عباد اللَّه الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعسل، انتهى. وقوله تعالى: يُفَجِّرُونَها معناه: يفتقونها ويقودونها حيث شاؤوا/ من منازلهم

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 409) . (2) أخرجه الطبري (12/ 357، 358) ، رقم: (35767) ، وذكره البغوي (4/ 426) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 483) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

وقصورهم، فهي تجري عند كُلِّ أحد منهم، ورُدَّ بهذا الأثر، وقيل: عين في دار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تفجر إلى دُورِ الأنبياء والمؤمنين قال ع «1» : وهذا قول حسن، ثم وصف تعالى حال الأبرار فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي: ممتدًّا مُتَّصِلاً شائعاً. وقوله تعالى: عَلى حُبِّهِ يحتمل أنْ يعودَ الضمير على الطعام، وهو قول ابن عباس «2» ، ويحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تعالى قاله أبو سليمان الدَّارانيُّ «3» . وقوله: وَأَسِيراً قال الحسن: ما كان أسراهم إلاَّ مشركين لأَنَّ في كل ذي كبد رطبة أجراً «4» . ت: وفي «العتبيةِ» سُئِلَ مالك عن الأسير في هذه الآية أمسلم هو أم مشرك، فقال: بل مشرك، وكان ببدر أسارى، فأنزلت فيهم هذه الآية فقال ابن رشد: والأظهر حمل الآية على كل أسير، مسلماً كان أو كافراً، انتهى يعني: وإنْ كان سبب نزولها ما ذكر فهي عامَّةٌ في كُلِّ أسير إلى يوم القيامة، وقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ: قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مِسْكِيناً [قال:] فَقِيراً وَيَتِيماً قال: لا أَبَ لَهُ وَأَسِيراً قال: المَمْلُوكُ والمَسْجُونُ» «5» ، وأسند القُشَيْرِيُّ في رسالته عن مالك، عن نافع، عنِ ابن عمر، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ، وَمِفْتَاحُ الجَنَّةِ حُبُّ المَسَاكِينِ، والفُقَرَاءُ الصُّبَّرُ هُمْ جُلَسَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «6» انتهى. وروى الترمذيُّ عن أنس أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللَّهُمَّ، أحْيِنِي مِسْكِيناً، وأَمِتْنِي مِسْكِيناً، واحشرني في زُمْرَةِ المَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قالَ: إنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً، / يَا عَائِشَةُ، لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ، أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب «7» ، انتهى.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 410) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 410) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 410) . (4) أخرجه الطبري (12/ 360) ، رقم (35782) ، وذكره البغوي (4/ 428) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 484) ، وعزاه لسعيد بن المنصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه عن الحسن بنحوه. (5) ينظر: «الدر المنثور» (6/ 485) . (6) ينظر: «كنز العمال» (6/ 469) ، رقم: (16587) . (7) أخرجه الترمذي (4/ 577، 578) ، كتاب «الزهد» باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل [.....]

[سورة الإنسان (76) : الآيات 9 إلى 19]

[سورة الإنسان (76) : الآيات 9 الى 19] إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)

_ أغنيائهم (2352) ، والبيهقي (7/ 12) ، كتاب «الصدقات» باب: ما يستدل به على أن الفقير أمسّ حاجة من المسكين. قال الترمذي: هذا حديث غريب- يعني: ضعيف، وهو مصطلح خاص به. وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أخرجه الحاكم (4/ 322) ، وابن ماجه (2/ 1381) ، كتاب «الزهد» باب: مجالسة الفقراء (4126) ، والخطيب (4/ 111) (1770) ، قال العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 206- 207) : رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، قال أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوله في دعائه، ورواه الطبراني عن عطاء بسند ضعيف بلفظ: «اللهم توفني إليك فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» ، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» بزيادة «وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة» ، وقال صحيح الإسناد، ورواه البيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد بلفظ: «يا أيها الناس لا يحملنكم العسر على أن تطلبوا الرزق من غير حله» ، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول، وذكره بالزيادة المذكورة، وله شواهد، فرواه الترمذي والبيهقي في «الشعب» بسند فيه منكر عند بعضهم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» ، فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشقّ تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة» ، وقال: إنه غريب، ورواه الطبراني في «الدعاء» بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أحيني مسكينا، وتوفني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» ، ومع وجود هذه الطرق لا يحسن الحكم عليه بالوضع، وقال في «الدرر» رواه الترمذي عن أنس، وابن ماجه عن أبي سعيد عن أبي عبادة، وادعى ابن الجوزي، وابن تيمية أنه موضوع، وليس كما قالا انتهى، وقال ابن حجر في «التحفة» إن الحديث ضعيف ومعارض بما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم استعاذ من المسكنة، وفسّرت المسكنة المسئولة بسكون القلب، وفسر شيخ الإسلام زكريا هذا الحديث فقال معناه طلب التواضع والخضوع، وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين، وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 275) . هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه وهو مجهول ويزيد بن سنان التيمي أبو فروة ضعيف رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «مسنده» هكذا. ورواه عبد بن حميد في «مسنده» ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر فذكره بإسناده ومتنه. ورواه الحاكم في «المستدرك» من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. قلت: ورواه البيهقي في «سننه الكبرى» عن الحاكم به. وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت، ومن حديث أنس بن مالك، رواه البيهقي في «الكبرى» . ورواه ابن الجوزي في «الموضوعات» من طريق أبي خالد الأحمر.

وقولَه: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ ... الآية، قال مجاهد، وابن جبير: ما تكلموا به، ولكنه علمه اللَّه من قلوبهم، فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب «1» ، وَوَصْفُ اليوم بِعَبُوسٍ تَجُوُّزٌ، والقَمْطَرِيرُ: هو في معنى العبوس والإرْبِدَاد تقول: اقمطر الرَّجُلُ: إذا جمع ما بين عَيْنَيْهِ. غضباً، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيلَ ما بين عينيه كالقَطِرَانِ «2» ، وَعَبَّرَ ابن عباس عن القمطرير بالطويل «3» ، وعَبَّرَ عنه غيره بالشديد وذلك كله قريب في المعنى، والنضرة: جمال البشرة وذلك لا يكون إلاَّ مع فرح النفس وقرة العين. وقوله: بِما صَبَرُوا عامٌّ في الصبر عنِ الشهوات وعلى الطاعات والشدائد، وفي هذا يدخل كُلُّ ما خصص المفسرون من صوم، وفقر، ونحوه. وقوله سبحانه: لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً ... الآية، عبارةٌ عن اعتدال هوائها وذَهَابِ ضَرَرِيِ الحَرِّ والقَرِّ، والزَّمْهَرِير: أَشَدُّ البرد، والقطوف: جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه، والقوارير: الزجاج. وقوله تعالى: مِنْ فِضَّةٍ يقتضي أَنَّها من زجاج ومن فضة، وذلك متمكن لكونه من زجاج في شفوفه ومن فضة في جَوْهَرِهِ، وكذلك فضة الجنةِ شفَّافة، [قال القرطبيُّ في «تذكرته» : وذلك أَنَّ لكل قومٍ من تراب أرضهم قَوَارِيرَ، وأَنَّ ترابَ الجنة فضة، فهي قوارير من فضة قاله ابن عباس «4» ، انتهى] «5» . وقوله تعالى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي: على قَدْرِ رِيِّهِمْ قاله مجاهد «6» ، أو على قدر الأَكُفِّ قاله الربيع «7» ، وضمير قَدَّرُوها يعود إمَّا على الملائكة، أو على الطائفين، أو على المنعمين.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 361) ، رقم: (35787، 35788) ، وذكره البغوي (4/ 428) ، وابن كثير (4/ 455) بنحوه (2) أخرجه الطبري (12/ 361) ، رقم: (35789) ، وذكره ابن عطية (5/ 411) . (3) أخرجه الطبري (12/ 362) ، رقم: (35800) ، وذكره ابن عطية (5/ 411) . (4) أخرجه الطبري (12/ 365) ، رقم: (35817) ، وذكره ابن كثير (4/ 456) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 487) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث» من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس بنحوه. (5) سقط في: د. (6) أخرجه الطبري (12/ 366) ، رقم: (35831) ، وذكره ابن عطية (5/ 412) ، وابن كثير (4/ 456) . (7) ذكره ابن عطية (5/ 412) ، وابن كثير (4/ 456) .

[سورة الإنسان (76) : الآيات 20 إلى 22]

وقوله سبحانه: عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا «عيناً» بدل من «كأس» أو من «عين» على القول الثاني، وسَلْسَبِيلًا قيل: هو اسم بمعنى/ السَّلِسُ المنقاد الجرية، وقال مجاهد: حديدة الجرية «1» ، وقال آخرون: سَلْسَبِيلًا صفة لقوله: عَيْناً وتُسَمَّى بمعنى تُوْصَفُ وتشهر، وكونه مصروفاً مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسماً. وقوله تعالى: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً قال الإمام الفخر «2» : وفي كيفية التشبيه وجوه: أحدها: أَنَّهُم شُبِّهُوا في حسنهم، وصفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم في أنواع الخدمة- باللؤلؤ المنثورِ، ولو كانوا صفًّا لَشُبِّهُوا باللؤلؤ المنظوم أَلاَ ترى أَنَّهُ تعالى قال: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين. الثاني: أَنَّ هذا من التشبيه العجيب لأَنَّ اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسنَ في المنظر لوقوع شعاع بعضه على بعض. الثالث: أَنَّهم شُبِّهُوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأَنَّه أحسن وأجمل، انتهى. [سورة الإنسان (76) : الآيات 20 الى 22] وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ قال الفَرَّاءُ: التقدير: وَإِذا رأيت ما ثَمَّ رأيت نعيماً، فحُذِفَتْ «ما» وكُرِّرَتِ الرؤية مبالغةً وَمُلْكاً كَبِيراً: وهو أَنَّ أدناهم منزلةً ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أَقصاه كما يرى أدناه، وخرَّجَهُ الترمذيُّ، وفي التِّرْمِذِيِّ أيضاً من رواية أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً، وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ كَمَا بَيْنَ الجَابِيَةِ إلى صَنْعَاءَ» «3» انتهى، وقال سفيان: الملك الكبير هو استئذان الملائكة، وتسليمهم عليهم،

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 368) ، رقم: (35843- 35844، 35846) ، وذكره البغوي (4/ 430) ، وابن عطية (5/ 413) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 488) ، وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن مجاهد. (2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 222) . (3) أخرجه الترمذي (4/ 695) ، كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة (2562) . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث رشدين.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 إلى 26]

وتعظيمُهم لهم، قال الثعلبيُّ: قَال محمد «1» بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً كان، انتهى. ت: وجميع ما ذكر داخل في الملك/ الكبير، وقرأ نافع وحمزة: «عَالِيهِمْ» وقرأ الباقون «2» : «عَالِيَهُمْ» بالنصب، والمعنى: فوقهم، قال الثعلبيُّ: وتفسير ابن عباس قال: أما رأيتَ الرجل عليه ثياب يعلوها أفضلُ منها «3» ، انتهى، وقرأ حمزة والكسائيُّ: «خُضْرٍ وَإسْتَبْرَقٍ» بالخفض فيهما «4» ، وباقي الآية بيّن. [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 26] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ... الآية تثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية لنفسه على أذى قريش، والآثم هنا هو الكفور، واللفظ أيضاً يقتضي نهيَ الإمام عن طاعة آثم من العُصَاةِ أو كفور باللَّه، ثم أمره تعالى بذكر ربه دأباً بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ: بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة، ويحتمل أنْ يريد قول: سبحانَ اللَّهِ، قال ابن زيد وغيره: كان هذا فرضاً ثم نُسِخَ «5» ، وقال آخرون: هو مُحْكَمٌ على وجه الندب، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : أَمَّا قوله تعالى: وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا فإنَّهُ عبارة عن قيام الليل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعله كما تقدم، وقد يحتمل أنْ يكون هذا خطابا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد الجميعُ، ثم نُسِخَ عَنَّا، وبَقِيَ عليه صلّى الله عليه وسلّم، والأول أظهر، انتهى. [سورة الإنسان (76) : الآيات 27 الى 28] إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)

_ (1) في د: مجاهد. (2) وقرأ بها أبان عن عاصم. ينظر: «السبعة» (664) ، و «الحجة» (6/ 354) ، و «إعراب القراءات» (2/ 422) ، و «معاني القراءات» (3/ 109) ، و «شرح الطيبة» (6/ 88) ، و «العنوان» (201) ، و «حجة القراءات» (739) ، و «شرح شعلة» (616) ، و «إتحاف» (2/ 578) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 414) . [.....] (4) ينظر: «السبعة» (665) ، و «الحجة» (6/ 357) ، و «إعراب القراءات» (2/ 422) ، و «معاني القراءات» (2/ 109) ، و «شرح الطيبة» (6/ 88- 89) ، و «حجة القراءات» (740) ، و «شرح شعلة» (616) ، و «إتحاف» (2/ 578) . (5) ذكره القرطبي (19/ 97) ، وأبو حيان في «البحر المحيط» (8/ 393) ، وابن عطية (5/ 414) .

وقوله: إِنَّ هؤُلاءِ يعني كُفَّارَ قريشٍ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني: الدنيا، واعلمْ أَنَّ حُبَّ الدنيا رأسُ كل خطيئة، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وازهد فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» «1» رواه ابن ماجه وغيره بأسانيدَ حَسَنَةٍ، قال ابن الفاكهانيِّ: قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وأَمَّا الباعث على الزهد فخمسة أشياء: أحدها: أنَّها فانية شاغلة للقلوب عن التفكر في أمر اللَّه تعالى. والثاني: أَنَّها تنقص عند اللَّه/ درجات من ركن إليها. والثالث: أَنَّ تركها قربة من اللَّه تعالى وعلُوُّ مرتبة عنده في درجات الآخرة. والرابع: طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعيم. والخامس: رضوان اللَّه تعالى والأمن من سخطه، وهو أكبرها قال الله عز وجل: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] قال ابن الفاكهاني: ولو لم يكن في الزهد في الدنيا إلاَّ هذه الخصلة التي هي رضوانُ اللَّه تعالى- لكان ذلك كافياً-، فنعوذ باللَّه من إيثار الدنيا على ذلك، وقد قيل: من سُمِّيَ باسم الزهد فقد سُمِّيَ بألف اسم ممدوح، هذا مع ما للزاهدين من راحة القلب والبدن في الدنيا والآخرة، فالزُّهَّادُ هم الملوك في الحقيقة، وهم العقلاء لإيثارهم الباقي على الفاني، وقد قال الشافعية: لو أوصى لأعْقَل الناس صُرِفَ إلى الزهاد، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً» ، ولفظ أبي الحسن الماوردِيِّ: وقد قيل: العاقل مَنْ عقل من اللَّه أمره ونهيه حتَّى قال أصحاب الشافعيِّ فيمن أوصى بثلث ماله: لأَعْقَلِ الناس أَنَّه يكون مصروفاً للزُّهَّادِ لأنهم انقادوا للعقل، ولم يغتروا بالأمل، انتهى، والأَسْر الخلقة واتساق الأعضاء والمفاصل، وعبارة البخاريِّ: أَسْرَهُمْ: شِدَّةُ الخلق، وكل شيء شددته من قتب أو غبيط فهو مأسور، والغبيط شيء يركبه النساء شبه المحفة، انتهى قال ع «2» : ومن اللفظة: الإسارُ، وهو القيد الذي يُشَدُّ به الأسير، ثم تَوَعَّدَهُم سبحانه بالتبديل، وفي الوعيد بالتبديل احتجاج على مُنْكِرِي البعث، أي: مَنْ هذه قدرته في الإيجاد والتبديل فكيف تتعذر عليه الإعادة؟!. وقال الثعلبيُّ: بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا قال ابن عباس: يقول: أهلكناهم، / وجئنا بأطوعَ للَّهِ منهم، انتهى «3» .

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 415) . (3) ذكره القرطبي (19/ 99) .

[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 إلى 31]

[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 31] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ القول فيها كالتي في سورة المزمل. وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا كلام واضح لا يفتقر إلى تفسير، جعلنا اللَّه ممن اهتدى بأنواره، وعَمَّتْ عليه بركتُه في أفعاله وأقواله قال الباجِيُّ: قال بعض أهل داود الطائيِّ: قلت له يوماً: إنَّك قد عرفت فأوصني، قال: فَدَمِعَتْ عيناه ثم قال: يا أخي، إنَّما الليلُ والنهار مراحلُ يرحلُها الناس مرحلةً مرحلةً، حَتَّى تنتهي بهم إِلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أَنْ تُقَدَّمَ من أَوَّلِ مرحلة زاداً لما بين يديك فافعل فإنَّ انقطاع السفر قريب، والأمر أعجل من ذلك فتزوَّدْ لسفرك، واقْضِ ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأَنَّ بالأمر قد بَغَتَكَ، ثم قام وتركني، انتهى من «سنن الصالحين» . وقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم، ولا يَرُدُّ هذا وجود مالهم من الاكتساب، وقرأ عبد اللَّه «1» : «وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ» . وقوله تعالى: عَلِيماً حَكِيماً معناه: يعلم ما ينبغي أَنْ ييسر عبدَه إليه، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلّا هو سبحانه.

_ (1) ينظر: «الشواذ» ص: (167) ، و «الكشاف» (4/ 676) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 415) ، و «البحر المحيط» (8/ 393) .

تفسير سورة"المرسلات"

تفسير سورة «المرسلات» [وهي] مكّيّة في قول الجمهور وقيل: فيها من المدني قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ قال ابن مسعود: نزلت هذه السورة ونحن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بحراء ... الحديث «1» . [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) قوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً يعني: الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً، قاله ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، وقتادة «2» ، وقيل: المرسلات: الملائكة، وقيل: جماعات الأنبياء، وعُرْفاً معناه: إفضالاً من اللَّه تعالى، ويحتمل أنْ يريدَ بقوله: عُرْفاً أي: متتابعةً، ويحتمل أنْ يريد/ بالأمر المعروف، ويحتمل أنْ يكونَ عُرْفاً بمعنى، والمرسلات: الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها، ثم عَقَّبَ بذكر الصنف الضَّارِّ منها، وهي العاصفات الشديدة القاصفة للشجر وغيره، واخْتُلِفَ في قوله: وَالنَّاشِراتِ فقال ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة: هي الرياح تَنْشُرُ رحمة اللَّه ومطره «3» ، وقيل: الملائكة، وقيل غير هذا، والفارقات قال ابن عباس وغيره: هي الملائكة تَفْرُقُ بين الحقّ

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 491) ، وعزاه للحاكم، وصححه ابن مردويه عن ابن مسعود بنحوه. (2) أخرجه الطبري (12/ 377) ، رقم: (35880- 35881- 35882- 35883، 35885، 35888) ، وذكره ابن عطية (5/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 492) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي العبيدين عن ابن مسعود، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة بنحوه. (3) أخرجه الطبري (12/ 380) ، رقم: (35910، 35914، 35917) ، وذكره البغوي (4/ 432) ، وابن عطية (5/ 417) .

[سورة المرسلات (77) : الآيات 7 إلى 15]

والباطل والحلال والحرام «1» ، وقيل: هي آيات القرآن، وأَمَّا الملقيات ذكراً فهي في قول الجمهور الملائكة، وقال آخرون: هي الرسل، والذكر: الكتب المُنَزَّلَةُ والشرائع ومضمناتها، والمعنى: أَنَّ الذكر يلقى بإعذار وإنذار. [سورة المرسلات (77) : الآيات 7 الى 15] إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) وقوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ هو الجواب الذي وقع عليه القَسَمُ، والإشارة إلى البعث وأحوال القيامة، والطَّمْسُ محو الأثر، فطمس النجوم: ذَهَابُ ضوءها، وفرج السماء: هو بانفطارها وانشقاقها. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي: جُمِعَتْ لميقاتِ يوم معلوم، وقرأ أبو عمرو وحده «2» : «وُقِّتَتْ» والواو هي الأصل لأَنَّها من الوقت، والهمزة بدل قال الفَرَّاءُ: كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة، جاز أنْ تُبْدَلَ منها همزة، انتهى. وقوله تعالى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ تعجيب وتوقيف على عِظَمِ ذلك اليوم وهوله، ثم فسر ذلك بقوله: لِيَوْمِ الْفَصْلِ يعني: بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار، ومن هذه الآية انتزع القضاة الآجالَ في الحكومات ليقعَ فصل القضاء عند تمامها، ثم عَظَّمَ تعالى يومَ الفصل بقوله: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ على نحو قوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 3] وغير ذلك، ثم أثبت الويل لِلْمُكَذِّبِينَ، والويل: هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء، ويُرْوَى أَنَّه واد في جهنم. [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 37] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 381) ، رقم: (35925) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 432) ، وابن عطية (5/ 417) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 492) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عبّاس. (2) ينظر: «السبعة» (666) ، و «الحجة» (6/ 364) ، و «إعراب القراءات» (2/ 428) ، و «معاني القراءات» (3/ 112) ، و «شرح الطيبة» (6/ 92) ، و «العنوان» (202) ، و «حجة القراءات» (742) ، و «شرح شعلة» (617) ، و «إتحاف» (2/ 580) .

وقوله عز وجل: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ... الآية، قرأ الجمهور: «نُتْبِعُهُمُ» - بضم العين- على استئناف الخبر، ورُوِيَ عن أبي «1» عمرو: «نُتْبِعْهُمُ» بجزم العين عطفاً على «نهلك» وهي قراءة الأعرج، فَمَنْ قرأ الأولى جعل الأولين الأُمَمَ التي تقدمت قريشاً بأجمعها، ثم أخبر أَنَّهُ يتبع الآخرين من قريش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم، ومَنْ قرأ الثانية جعل الأَوَّلِينَ قومَ نوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ كان معهم، والآخرين قوم فرعونَ وكُلَّ مَنْ تأخَّرَ وقَرُبَ من مدّة النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي: في المستقبل، فيدخل هنا قريش وغيرها، وأَمَّا تكرار قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ في هذه السورة فقيل: ذلك لمعنى التأكيد فقط، وقيل: بل في كل آية منها ما يقتضي التصديقَ، فجاء الوعيد على التكذيب بذلك الذي في الآية، والماء المهين: معناه الضعيف، والقرار المكين: الرَّحِمُ وبَطْنُ المرأة، والقدر «2» المعلوم: هو وقت الولادة [ومعناه] معلوم عند اللَّه، وقرأ نافع والكسائيُّ: «فَقَدَّرْنَا» - بتشديد الدال-، والباقون بتخفيفها، وهما بمعنى من القدرة والقدر ومن التقدير والتوقيت. ت: وفي كلام ع: تلفيف، وقال غيره: فَقَدَّرْنَا بالتشديد من التقدير وبالتخفيف من القدرة، وهو حسن. وقوله: الْقادِرُونَ يُرَجِّحُ قراءة الجماعة إلاَّ أَنَّ ابن مسعود رَوَى عنِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ فَسَّرَ «القادرون» بالمقدرين، والكِفَاتُ: الستر والوعاء الجامع للشيء بإجماع تقول: كفت الرجلُ شعره إذا جمعه بخرقة، والأرضُ تكفت الأحياءَ على ظهرها، وتكفِتُ الأموات في بطنها، وخَرَجَ الشَّعْبِيُّ إلى جنازة فنظر إلى الجبَّانة فقال: هذه كفات الموتى، ثم نظر إلى البيوت فقال: وهذه كفات الأحياء. قال/ ع «3» : ولما كان القبر كفاتاً كالبيت، قُطِعَ من سَرَقَ منه، والرواسي: الجبال، والشوامخ: المرتفعة، والفرات: الصافي العَذْبُ، والضمير في قوله: انْطَلِقُوا

_ (1) وقرأ بها الأعرج كما في «المحتسب» (2/ 346) . وينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 418) ، و «البحر المحيط» (8/ 397) ، و «الدر المصون» (6/ 456) . (2) ينظر: «السبعة» (666) ، و «الحجة» (6/ 365) ، و «إعراب القراءات» (2/ 428) ، و «شرح الطيبة» (6/ 93) ، و «العنوان» (202) ، و «حجة القراءات» (743) ، و «شرح شعلة» (617) ، و «إتحاف» (2/ 581) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 419) . [.....]

هو للمُكَذِّبِينَ الذين لهم الويل، ثم بَيَّنَ المُنْطَلَقَ إليه قال عطاء: الظل الذي له ثلاث شعب هو دُخَانُ جهنم «1» ، وقال ابن عباس: هذه المخاطبة تقال يومئذ لِعَبَدَةِ الصليب «2» إذا اتَّبَعَ كُلُّ أحد ما كان يعبد، فيكون المؤمنون في ظل اللَّه ولا ظل إلاَّ ظله، ويقال لعَبَدَةِ الصليب: انطلقوا إلى ظِلِّ معبودكم، وهو الصليب له ثلاث شعب، ثم نفى تعالى عنه محاسن الظل، والضميرُ في إِنَّها لجهنم تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أي: مثل القصور من البنيان قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين «3» ، وقال ابن عباس أيضاً: القصر خشب كُنَّا في الجاهلية نَدَّخِرُه للشتاء «4» ، وقرأ ابن عباس «5» : «كالْقَصَر» - بفتح الصاد- جمع قَصَرَةِ وهي أعناق النخل والإبل، وقال ابن عباس: جذور النخل «6» ، واخْتُلِفَ في الجَمَالاَتِ: فقال جمهور من المفسرين: هي جمع جِمَالٍ كرجال ورِجالات، وقال آخرون: أراد بالصُّفْرِ السود، وقال جمهور الناس: بل الصفر: الفاقعة لأَنَّها أشبه بلون الشَّرَرِ، وقال ابن عباس: الجمالات: حبال السفن، وهي الحبال العظام إذا جُمِعَتْ مستديرةً بعضها إلى بعض «7» ، وقرأ ابن عباس «8» : «جُمَالَةً» - بضم الجيم- من الجملة لا من الجمل، ثم

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 419) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 419- 420) . (3) أخرجه الطبري (12/ 387- 388) ، رقم: (35963- 35964- 35965) ، وذكره البغوي (4/ 434) ، وابن عطية (5/ 420) . (4) أخرجه الطبري (12/ 388) ، رقم: (35966) ، وذكره البغوي (4/ 434) ، وابن عطية (5/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 495) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، والبخاري، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والحاكم عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن عبّاس بنحوه. (5) وقرأ بها سعيد بن جبير. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحتسب» (2/ 346) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 420) ، و «البحر المحيط» (8/ 398) ، وزاد نسبتها إلى مجاهد، والحسن، وابن مقسم. وهي في «الدر المصون» (6/ 458) . (6) أخرجه الطبري (12/ 388) ، رقم (35971) ، وذكره ابن عطية (5/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 495) ، وعزاه لسعيد بن منصور عن ابن عبّاس بنحوه. (7) أخرجه الطبري (12/ 390) ، رقم: (35983- 35984- 35985) ، وذكره البغوي (4/ 435) ، وابن عطية (5/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 494) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، والبخاري، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والحاكم عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن عبّاس بنحوه. (8) وقرأ بها أبو حيوة، والسلمي، والأعمش، وأبو بحرية، وابن أبي عبلة، ورويس. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 420) ، و «البحر المحيط» (8/ 398) ، و «المحتسب» (2/ 347) ، و «الدر المصون» (6/ 459) .

[سورة المرسلات (77) : الآيات 38 إلى 45]

م خاطب تعالى نبيه ع بقوله: هذا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ ... الآية، وهذا في موطنٍ خاص إذ يومُ القيامَة هو مواطن. [سورة المرسلات (77) : الآيات 38 الى 45] هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) وقوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ ... مخاطبةٌ للكفار يومئذ، ثم وقَفَهُمْ بقوله: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي: إنْ كَان لَكم حيلةٌ أو مكيدَةٌ تُنْجيكم فافعلوها، ثم ذَكر سبحانه حالةَ المتقينَ وما أعَدَّ لهم، والظلالُ في الجنة: عبارةٌ عن/ تَكَاثُفِ الأَشْجَارِ وجَوْدَة المباني وإلاَّ فلاَ شَمْسَ تؤذي هناكَ حتى يكون ظل يجير من حرّها. [سورة المرسلات (77) : الآيات 46 الى 50] كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) وقوله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا استئنافُ خطابٍ لقريشٍ على معنى: قل لهم يا محمد، وهذه صيغةُ أمْر معناها التهديدُ والوَعيدُ، ومن جعل هذه الآيةَ مدنيةً قَالَ هي في المنافقِينَ. وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ قال قتادة والجمهور «1» ، هذه حالُ كفارِ قريش في الدنيا يدعوهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا يُجِيبُونَ، وذِكْرُ الرُّكُوعِ عبارةٌ عن جميعِ الصلاةِ، وقيلَ: هي حكايةُ حَالِ المنافِقِينَ في الآخرةِ يَوْمَ يُدْعَوْنَ إلى السجودِ فلا يَسْتَطِيعونَ على ما تقدَّم قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «2» . وقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يؤيدُ أن الآيةَ كلَّها في قريشٍ، والمرادُ بالحديثِ هنا: القرآن، ورُوِيَ عَنْ يعقوبَ «3» أنه قرأ: «تُؤْمِنُونَ» بالتاء مِنْ فَوْقٍ عَلى المواجهَة، ورُويتْ عن ابن عامر.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 421) . (2) ينظر: المصدر السابق. (3) ورويت عن ابن عامر. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 422) .

تفسير سورة النبأ

تفسير سورة النبأ وهي مكّيّة بإجماع [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) قوله عز وجل: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصل «عم» : «عَنْ مَا» ثُمَّ أُدْغمتِ النونُ بَعْدَ قَلْبِهَا [في الميم لاشْتِرَاكِهِما في الغُنَّة] فبقي «عما» في الخبرِ وفي الاستفهام، ثم حذفوا الألفَ في الاستفهامِ فرقاً بينَه وبين الخبر، ثم مِنَ العرب مَنْ يخففُ الميم فيقول: «عَمْ» ، وهذا الاستفهامُ ب «عم» استفهام توقيف وتعجيب، والنَّبَإِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس وقتادة: هو الشَّرعُ الذي جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم «1» ، وقال مجاهد: هو القرآن «2» خاصةً، وقال قتادة أيضاً: هو البعثُ من القبور «3» ، والضميرُ في: يَتَساءَلُونَ لكفارِ قريشٍ ومن نَحا نَحْوَهم، وأكْثَر النحاة أن قوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ متعلقٌ ب يَتَساءَلُونَ، وقال الزجاج: الكلام تامُّ في قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ ثُمَّ كان مقتضَى القولِ/ أن يجيبَ مجيبٌ فيقول: يتساءلونَ عن النبأ العظيم، وله أمثلة في القرآن اقتضَاها إيجازُ القرآن وبلاغتُه، واختلافُهم هو شكُّ بعضٍ وتكذيبُ بعضٍ، وقولهُم: سِحْرٌ وكهانةٌ إلى غير ذلك من باطلهم. [سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 7] كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وقوله تعالى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ رَدّ على الكفارِ في تكذيبِهم ووعيدٌ لهم في المستقبلِ، وكَرَّرَ عليهمُ الزَّجْرَ والوعيدَ تأكيداً، والمعنى: سيعلمون عاقبةَ تكذيبِهم، ثم وقفَهُم تعالى ودَلَّهم على آياتِه، وغرائبِ مخلوقاتِه، وقدرته التي تُوجِبُ للناظرِ فيها الإقْرَارَ بالبعثِ والإيمانَ باللَّه تعالى، ت: وفي ضِمْنِ ذلكَ تَعْدِيدُ نِعَمِهِ سبحانه التي يجب

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 423) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 423) ، والبغوي (4/ 436) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 462) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 498) بنحوه. (3) أخرجه الطبري (12/ 396) ، (36000) ، وذكره ابن عطية (5/ 423) ، والبغوي (4/ 436) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 462) . [.....]

[سورة النبإ (78) : الآيات 8 إلى 23]

شُكْرُها، والمِهادَ: الفراشُ المُمَهَّدُ، وشَبَّه الجبالَ بالأوتادِ لأنها تمنع الأرض أن تميد بهم. [سورة النبإ (78) : الآيات 8 الى 23] وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي: أنواعاً، والسُّبَاتُ: السُّكُونُ، وسَبَتَ الرجلُ: معناه استراحَ، ورُوِّينَا في «سنن أبي داودَ» عن معاذِ بن جبلٍ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَبِيتُ عَلَى ذِكْرِ [اللَّهِ] طَاهِراً فَيَتَعَارُّ مِنَ الليلِ، فَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْراً مِنْ أمُورِ الدنيا والآخِرَةِ إلاَّ أعطَاهُ اللَّه إياه» ورَوَى أبو داودَ عن بعضِ آلِ أم سلمةَ قال: كان فراشُ النبي صلّى الله عليه وسلّم نحواً مِمَّا يوضَعُ الإنْسَانُ في قبره، وكانَ المسجد عند رأسه، انتهى، ولِباساً مصدرٌ، وكأنَّ الليلَ كذلكَ مِنْ حيثُ يَغْشَى الأشخاص، فهي تلبسه وتتدرعه، والنَّهارَ مَعاشاً على حذفِ مضافٍ، أو على النَّسَبِ، والسبعُ الشدادُ: السمواتُ، والسراجُ: الشمسُ، والوهَّاج: الحارُّ المضْطَرِمُ الاتِّقادِ المُتَعَالِي اللهبِ، قالَ ابن عباس وغيره: الْمُعْصِراتِ السحائب القاطِرة «1» ، وهو مَأْخوذٌ مِن العَصْرِ لأن السَحابَ يَنْعَصِرُ فيخرج/ منه الماءُ، وهذا قول الجمهور، والثَّجَاج: السريعُ الاندفاعِ، كما يَنْدَفِع الدمُ مِنْ عروقِ الذبيحةِ، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم وَقَدْ قِيلَ له ما أفْضَلُ الحَجِّ؟ فقال: «العَجُّ والثَجُّ» «2» أرادَ التَّضَرّعُ إلى اللَّهِ تعالى بالدعاء

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 399) (36022) ، وذكره ابن عطية (5/ 424) ، والبغوي (4/ 437) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 462) بنحوه. (2) أخرجه الترمذي (3/ 180) ، كتاب «الحج» باب: ما جاء في فضل التلبية والنحر. (827) ، وابن ماجه (2/ 975) ، كتاب «المناسك» باب: رفع الصوت بالتلبية (2924) ، والبيهقي (5/ 42- 43) ، كتاب «الحج» باب: رفع الصوت بالتلبية، والحاكم في «المستدرك» (1/ 450- 451) عن أبي بكر الصديق. قال الترمذي: حديث أبي بكر حديث غريب لا نعرفه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وفي الباب من حديث عبد الله بن عمر: أخرجه الترمذي (5/ 225) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة آل عمران رقم: (2998) ، وابن ماجه (2/ 967) ، كتاب «المناسك» باب: ما يوجب الحج، رقم: (2896) ، والدارقطني (2/ 217) ، كتاب «الحج» رقم: (10) ، والبيهقي في «الكبرى» (4/ 330) ، كتاب «الحج» باب: الرجل يطيق المشي. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه من حديث ابن عمر إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي، وقد تكلم بعض أهل الحديث في يزيد من قبل حفظه.

[سورة النبإ (78) : الآيات 24 إلى 37]

الجهير، وذبح الهدي، وأَلْفافاً أي: ملتفّة الأغصان والأوراق، ويَوْمَ الْفَصْلِ هُو يوم القيامةِ، والأفواجُ: الجماعاتُ، يتلو بعضُها بعضاً، «وفُتِحَتِ السماء» بتشديد التَّاء قراءةُ نافعٍ وأبي عمرٍو وابن كثير وابن عامر، والباقون دون تشديد «1» . وقوله تعالى: فَكانَتْ أَبْواباً قيل معناه: تَتَشَقَّقُ حتَى يكونَ فيها فُتُوحٌ كالأَبوابِ في الجدرات، وقيل: إنها تتقطعُ السماء قِطَعاً صغاراً حتى تكونَ كألواح الأَبواب، والقولُ الأول أحسَنُ، وقد قال بعض أهل العلم: تَنْفَتِح في السماء أبواب للملائِكَةِ من حيثُ ينزلونَ ويصعَدون. وقوله تعالى: فَكانَتْ سَراباً عبارةٌ عن تلاشيها بعد كونها هباء منبثّا، ومِرْصاداً: مَوْضع الرصدِ، وقيل: مِرْصاداً بمعنى رَاصِدٍ، والأحقاب: جمع حُقُبٍ وهي المدةُ الطويلةُ من الدهر غيرَ محدودة، وقال ابن عباس وابن عمر الحُقْبُ: ثمانونَ سنةٍ «2» . وقال أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ثلاثون ألفَ سَنَة، وقد أكثر الناسُ في هذا، واللازمُ أنّ اللَّه تعالى أخبرَ عن الكفارِ أنهم يلبثُونَ أحْقَاباً، كلما مَرَّ حُقْبٌ جَاءَ غيره إلى غير نهاية، نجانا اللَّه من سَخَطِه، قال الحسنُ: ليسَ للأحْقَابِ عدّة إلا الخلود في النار «3» . [سورة النبإ (78) : الآيات 24 الى 37] لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) وقوله سبحانه: لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً ... الآية، قال الجمهورُ: البَرْدُ في الآية مَسُّ الهَوَاءِ البَاردِ، أي: لا يمسُّهم منه مَا يُسْتَلَذُّ، وقال أبو عبيدة وغيره: البردُ في الآية النوم «4» ،

_ (1) ينظر: «السبعة» (668) ، و «الحجة» (6/ 368) ، و «إعراب القراءات» (2/ 431) ، و «معاني القراءات» (6/ 116) ، و «العنوان» (202) ، و «حجة القراءات» (745) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 583) . (2) أخرجه الطبري (12/ 404) (36053) عن ابن عبّاس، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 463) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 502) عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وابن عبّاس. (3) أخرجه الطبري (12/ 405) (36058) ، وذكره البغوي (4/ 438) ، وابن عطية (5/ 426) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) . (4) ذكره البغوي (4/ 438) ، وابن عطية (5/ 426) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 503) .

[سورة النبإ (78) : الآيات 38 إلى 40]

والعَرَبُ تُسَمِّيه/ بذلكَ لأنَّه يُبَرِّدُ سورَةَ العَطَشِ، وقال ابن عباس: البردُ الشرابُ البارد المستلذّ «1» ، وقال قتادة وجماعة: الغَسَّاقُ: هو ما يسيل من أجْسَامِ أهل النارِ من صديدٍ ونحوِه «2» . وقوله تعالى: وِفاقاً معناه لأعمالهم وكفرهم، ولا يَرْجُونَ قال أبو عبيدَة وغيره معناه: لا يَخافُونَ، وقال غيره: الرجاء هنا على بابه «3» ، وكِذَّاباً مصدرٌ، لغةٌ فصيحةٌ يَمَانِيَّة، وعن ابن عمرَ قال: ما نَزَلَتْ في أهل النار آية أشدَ مِن قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً «4» ورواه أبو هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والحدائقُ: هي البساتينُ علَيها حَلَقٌ وحظائرُ وجدرات، في البخاريِّ: وَكَواعِبَ أي: نَوَاهد، انتهى، والدِّهَاقُ: المُتْرَعَة فيما قال الجمهورُ، وقيل: الصافيةُ، وقال مجاهد: متتابعةٌ «5» ، وعبارة البخاريِّ وقال ابن عباس: دِهاقاً: ممتلئة، انتهى «6» ، وكِذَّاباً: مصدرٌ وهو الكَذِبُ. وقوله: عَطاءً حِساباً أي: كَافِياً قاله الجمهور من قولهم، أحْسَبَنِي هذَا الأمْرُ، أي: كَفَاني، ومنه حَسْبِي اللَّهُ، وقال مجاهد: حِساباً معناه: بتَقْسِيطٍ، فالحِسَابُ على هذا بمَوازنةِ أعمالِ القَومِ إذ منهم المُكْثِرُ مِنَ الأعمال، والمُقِلُّ ولكلٍ بحسْبِ عملهِ «7» . وقوله تعالى: لاَّ يَمْلِكُونَ الضميرُ للكفارِ، أي: لاَ يَمْلِكُونَ منْ أفضالهِ وإجماله سبحانه أنْ يخاطبوه بمعذرةٍ ولا غيرها وهذا أيضاً في موطنٍ خاصٍّ. [سورة النبإ (78) : الآيات 38 الى 40] يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 427) . (2) أخرجه الطبري (12/ 406) (36069) ، وذكره ابن عطية (5/ 427) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) بنحوه. (3) أخرجه الطبري (12/ 409) (36094) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 427) . (4) أخرجه الطبري (12/ 410) (36094) بنحوه عن عبد الله بن عمرو، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 504) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن الحسن بن دينار. (5) أخرجه الطبري (12/ 412) (36121) ، وذكره البغوي (4/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد. (6) أخرجه الطبري (12/ 411) (36109) ، وذكره البغوي (4/ 439) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عبّاس. (7) أخرجه الطبري (12/ 413) (36126) ، وذكره ابن عطية (5/ 428) .

وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ اخْتُلِفَ في الرُّوحِ المذكورِ هنا فقال الشعبي والضحاك: هو جبريلُ- عليه السلام «1» - وقال ابن مسعودٍ: هو مَلَكٌ عظيم أكبرُ الملائكةِ خِلْقَةً يسمَى الرُّوح «2» ، وقال ابن زيد «3» : هو القرآن، وقال مجاهدٌ: الروحُ خَلْقٌ على صورة بني آدمَ يأكلُون ويشربون «4» ، / وقال ابن عبّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الرُّوحُ خَلْقٌ غَيْرُ المَلاَئِكَةِ هُمْ حَفَظَةٌ لِلْمَلاَئِكَةِ كَمَا المَلاَئِكَةُ حَفَظَةٌ لَنَا» «5» ، وقيلَ الرُّوح اسمُ جنسٍ لأرواحِ بني آدم، والمعنى: يوم تَقُوم الأرواحُ في أجسادها إثْرَ البَعْثِ، ويكونُ الجميعُ من الإنس والملائِكَةِ صفًّا ولاَ يتكلمُ أحدٌ منهم هَيْبَةً وفَزَعاً إلا مَنْ أذنَ له الرحمنُ مِنْ مَلَكٍ أو نبي وكان أهلاً أنْ يقولَ صواباً في ذلك الموطنِ، وقال البخاريُّ: صَواباً: حَقًّا في الدنيا وعَمِلَ به، انتهى،، وفي قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً وعدٌ ووعيدٌ وتحريضٌ، والعذابُ القريبُ: هو عذاب الآخرةِ، إذ كلُّ آتٍ قريبٌ، وقال أبو هريرةَ وعبدُ اللَّه بن عمر: إن اللَّه تعالى يُحْضِرُ البهائم يَومَ القيامةِ فيقتصُّ لبعضها من بعضٍ، ثم يقول لَها بَعْدَ ذلكَ: كوني تراباً فيعودُ جميعُها تراباً فعند ذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «6»

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 415) (36136) (36137) ، وذكره البغوي (4/ 440) ، وابن عطية (5/ 428) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 506) ، وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ عن الضحاك. [.....] (2) أخرجه الطبري (12/ 415) (36133) ، (36134) عن ابن عبّاس بنحوه، وذكره البغوي (4/ 440) ، وابن عطية (5/ 428) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 506) ، وعزاه لابن جرير. (3) أخرجه الطبري (12/ 416) (36147) عن ابن زيد عن أبيه، وذكره ابن عطية (5/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) . (4) أخرجه الطبري (12/ 415) (36138) ، وذكره البغوي (4/ 440) ، وابن عطية (5/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن مجاهد. (5) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» ، وابن مردويه. (6) أخرجه الطبري (12/ 418) عن عبد الله بن عمرو برقم: (36160) ، وعن أبي هريرة برقم: (36161) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 440) عن عبد الله بن عمرو، وابن عطية (5/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 507) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث والنشور» عن أبي هريرة.

قلت: وَاعْلَمْ رحمكَ اللَّه أَني لم أقفْ على حديثٍ صحيحٍ في عَوْدِها تراباً، وقدْ نَقَلَ الشيخُ [أبُو العباسِ القَسْطَلاَّنِيُّ عن] الشيخ أبي الحكم بن أبي الرَّجَّالِ إنكارَ هذا القولِ، وقال: ما نُفِثَ روحُ الحياةِ في شَيْءٍ فَفَنِيَ بَعْدَ وجودِه، وقد نقَلَ الفَخْرُ هنا عن قَوْم بقاءَها وأن هذه الحيواناتِ إذا انْتَهَتْ مدةُ إعراضِها جعلَ اللَّه كلَّ ما كانَ مِنْهَا حَسَنَ الصُّورَةِ ثواباً لأهلِ الجنةِ، وما كانَ قَبيحَ الصورةِ عقاباً لأَهْلِ النارِ، انتهى، والمُعَوَّلُ عليه في هذا: النقلُ فإن صحّ فيه شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَجَبَ اعْتِقَادُه وصِيرَ إليه، وإلا فلا مدخلَ للعقل هنا، والله أعلم.

تفسير سورة"النازعات"

تفسير سورة «النّازعات» وهي مكّيّة بإجماع [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) قوله عز وجل: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قال ابن عباس وابن مسعود: النَّازِعاتِ: الملائكة، تنزع نفوس بني آدم «1» ، وغَرْقاً على هذا القول إما أن يكونَ مصدراً بمعنى الإغْراقِ والمبالغةِ في الفعل، وإما أنْ يكونَ كما قال علي وابن عباس: تُغْرِقُ نفوسَ الكفرةِ في نار جهنم «2» ، وقيل غيرُ هذا، واخْتُلِفَ في النَّاشِطاتِ فقال ابن عباس ومجاهد: هي الملائكةُ تَنْشطُ النفوسَ عند الموتِ، أي: تَحُلُّها كَحَلِّ العِقَالِ، وتَنْشَطُ بأمْرِ اللَّه إلى حيثُ شَاء «3» ، وقال ابن عباس أيضاً: الناشطاتُ النفوسُ المؤمِنَة تَنْشَط عند الموتِ للخروج «4» ، ت: زاد الثعلبيُّ عنه: وذلك أنَّه ليسَ مؤمنٌ يَحْضُرُهُ الموتُ إلا عُرِضَتْ عليه الجنةُ قَبْلَ أَن يموتَ فَيَرى فيها أشْبَاهَاً من أهلِه وأزْواجهِ من الحُور العينِ، فَهُمْ يَدْعُونه إليها فَنَفْسُه إليهم نَشِيطَة أن تخرج فتأتيهم، انتهى، وقيل غيرُ هذا واخْتُلِف في السَّابِحاتِ هنا فقِيلَ: هي النجوُمُ، وقيل: هي الملائِكَةُ لأَنَّهَا تَتَصَّرفُ في الآفاقِ بأمْرِ اللَّه، وقيلَ: هي الخيلُ، وقيل: هي السفنُ، وقيل: هي الحيتانُ ودوابُّ البَحْرِ، واللَّه أعلم، واخْتُلِفَ في

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 420) عن عبد الله برقم (36166) ، وذكره البغوي (4/ 441) ، وابن عطية (5/ 430) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 508) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر. (2) ذكره ابن عطية (5/ 430) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 508) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. (3) أخرجه الطبري (12/ 421) عن ابن عبّاس، برقم: (36178) ، وذكره ابن عطية (5/ 430) . (4) ذكره البغوي (4/ 441) ، وابن عطية (5/ 431) .

[سورة النازعات (79) : الآيات 10 إلى 29]

فَالسَّابِقاتِ، فقيلَ هي الملائكةُ، وقيل: الرياحُ «1» ، وقيل: الخيلُ، وقيل: النُّجُوم، وقيل: المَنايَا تَسْبِقُ الآمالَ، وأما فَالْمُدَبِّراتِ فَهِي الملائكة قَولاً واحداً فيما علمتُ، تدبّر الأمورَ التي سخَّرَها اللَّهُ لَها وصَرَّفَها فيها كالرياح والسحاب، وغير ذلك، والرَّاجِفَةُ النفخة الأولى، والرَّادِفَةُ النفخة الأخِيرَة، وقال ابن زيد: الرَّاجِفَةُ: الموتُ، والرَّادِفَةُ: الساعة «2» ، وفي «جَامِع الترمذي» عن أُبيِّ بن كعب قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا ذهب ثلثا اللّيل قام، فقال: يا أيّها النَّاسُ، اذكروا اللَّهَ، اذكروا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيه، [جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ] » الحديثَ «3» ، قَال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، انْتَهَى، وقد أتى به ع «4» هنا وقال: إذا ذَهَبَ رُبُعُ الليل، والصوابُ ما تقدَّم، ثم أخبرَ تعالى عن قلوبٍ تَجِفُ [في] ذلكَ اليومِ، أي: تَرْتَعِدُ خوفاً وفَرَقاً من العذابِ، واخْتُلِفَ في جوابِ القسم: أين هو؟ فقال الزجاج والفراء: هو محذوفٌ دَلَّ عليهِ الظاهرُ تقديرُه: لَتَبْعَثُنَّ ونحوُه، وقال آخرونَ: هو موجودٌ في جملة قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ كأنه قَال لَتَجِفَنَّ قلوبُ قومٍ يوم كذا. [سورة النازعات (79) : الآيات 10 الى 29] يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وقوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ حكايةُ حالِهم في الدنيا، والمعنى: هم الذين يقولون، والْحافِرَةِ: قال مجاهد والخليل: هي الأرضُ، حافرة بمعنى محفورة، والمراد: القبور والمعنى: أإنا لمردودون أحياء في قبورنا؟، وقيل غير

_ (1) في د: وهي الرياح. (2) أخرجه الطبري (12/ 425) (36207) ، وذكره ابن عطية (5/ 431) . (3) أخرجه الترمذي (4/ 636- 637) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (23) (2457) ، (2/ 421) ، وأحمد (5/ 136) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 256) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 431) .

[سورة النازعات (79) : الآيات 30 إلى 36]

هذا «1» ، ونَخِرَةً معناه بالية، وقرأ حمزة «نَاخِرَةٌ» بألف «2» ، والنَّاخِرةُ المصوِّتَةُ بالريحِ المُجَوَّفَة، وحُكِيَ عَنْ أبي عُبَيْدَة وغيره: أن الناخرةَ والنَّخِرَةَ بمعنًى واحد «3» ، وقولهم: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي: إذ هي إلى النارِ لتكذيبِهم بالبعثِ، وقال الحسن: خاسِرَةٌ معناه عندَهم كاذبة، أي: ليست بكائِنةٍ «4» ، ثم أخبر تعالى عن حالِ القيامةِ فقال: «إنما هي زجرة واحدة» أي: نفخةٌ في الصور، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وهي أرضُ المحشر. وقوله: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى اسْتِدْعَاءٌ حسنٌ، والتزكِّي: التَّطهرُ من النَقَائِص، والتلبُّسِ بالفَضَائِل، ثم فَسَّر لَه موسى التزكِّي الذِي دَعَاه إليه/ بقوله: وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى والعلمُ تابعٌ للهدى، والخَشْيَةُ تابعةٌ للعِلْمِ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] والْآيَةَ الْكُبْرى العصا واليد قاله مجاهد وغيره «5» : وأَدْبَرَ: كِنَايَةً عن إعْرَاضِه، وقيل: حقيقةً قَامَ مُوَلِّيًا عن مُجَالَسَةِ موسى، فَحَشَرَ أي: جمع أهل مملكتِه، وقولُ فرعونَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى نهايةٌ في السِّخَافَةِ والمَخْرَقَةِ، قال ابن زيد: نَكالَ الْآخِرَةِ أي: الدار الآخرة، وَالْأُولى: يعني: الدنيا، أخَذَه اللَّهُ بعذابِ جهنَّمَ وبالغَرَقِ، وقيل غيرُ هذا «6» ، ثم وقفهم سبحانه مخاطبةً منه تعالى للعالم والمقصد الكفار فقال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ... الآية، والسَّمْكُ: الارْتِفَاعُ، الثعلبي: والمعنى: أأنتم أيها المنكرونَ للبعثِ أشَدُّ خلقاً أم السَّماءُ أشد خلقاً، ثم بيَّن كَيْفَ خَلَقَها، أي: فالذي قَدِرَ على خَلْقِها قادرٌ على إحيائكم بعد الموت، نظيره: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [يس: 81] الآية، انتهى، وأَغْطَشَ معناه: أظلم. [سورة النازعات (79) : الآيات 30 الى 36] وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 427) (36222) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (5/ 432) . [.....] (2) وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر. ينظر: «السبعة» (670- 671) ، و «إعراب القراءات» (2/ 435) ، وزاد نسبتها إلى الكسائيّ، و «معاني القراءات» (3/ 119) ، و «حجة القراءات» (748) ، و «شرح الطيبة» (6/ 97) ، و «شرح شعلة» (618) ، و «إتحاف» (2/ 585) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 432) . (4) ينظر: المصدر السابق. (5) أخرجه الطبري (12/ 432) (36257) ، وذكره ابن عطية (5/ 433) . (6) أخرجه الطبري (12/ 434) (36270) ، وذكره ابن عطية (5/ 434) .

[سورة النازعات (79) : الآيات 37 إلى 41]

وقوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها متوجِّه على أن اللَّهَ خلقَ الأرضَ ولم يَدْحُهَا ثم استوى إلى السَّمَاءِ وهي دُخَانُ فخلقَها، وبنَاها، ثم دَحَا الأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، ودَحْوُها بسطها، وباقي الآية بيّن، والطَّامَّةُ الْكُبْرى هي يومُ القيامة قاله ابن عباس وغيره «1» . [سورة النازعات (79) : الآيات 37 الى 41] فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) فَأَمَّا مَنْ طَغى أي تجاوز الحدّ، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة لتكذيبه [بالآخرة] ، ومَقامَ رَبِّهِ هو يومُ القِيَامَةِ، وإنما المرادُ مَقَامُهُ بين يديه، والْهَوى هو شَهَواتُ النفسِ وما جرى مَجْرَاها المذمومة. [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ يعني: قريشاً، قال البخاري عن غيره: أَيَّانَ مُرْساها متَى مُنْتَهَاهَا، / ومُرْسَى السفينةِ حيثُ تَنْتَهِي، انتهى، ثم قال تعالى لنبيه على جهة التوقيفِ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي من ذِكْرِ تَحْدِيدِها ووقتِها، أي: لستَ من ذلك في شيء، إنما أنت منذر، وباقي الآيةِ بيِّنٌ، قَال الفخر «2» قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها تفسيرُ هذه الآيةِ هُو كما «3» ذَكَرَ في قوله: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف: 35] والمعنى: أن ما أنكرُوه سَيَرَوْنَه حتَّى كأنَّهُمْ كَانُوا أبَداً فيهِ، وكأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدُّنْيَا إلا ساعة من نهارٍ، يريدُ لم يلبثوا إلا عشيَّةً أو ضحى يومها، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 440) (36311) ، وذكره ابن عطية (5/ 434) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 469) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه. (2) ينظر: «الفخر الرازي» (31/ 49) . (3) في د: ما.

تفسير سورة"عبس"

تفسير سورة «عبس» وهي مكّيّة بإجماع [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى سببها: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يدعُو بعضَ صَنَادِيدِ قريشٍ ويقرأ عليه القرآن ويقول له: هل ترى بما أقولُ بأساً، فكان ذلك الرجلُ يقول: لا والدمى يعني الأصْنَام إذ جَاء ابنُ أم مكتُومٍ فَقَالَ: يا رسول اللَّه! اسْتَدْنِنِي وَعَلِّمْنِي مما علَّمَك اللَّهُ فكان [في] ذلك كلِّه قطعٌ لحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الرَّجُلِ، فلَما شَغَبَ عليه ابنُ أُم مكتوم عبس صلّى الله عليه وسلّم وأعْرَضَ عنه فنزلتِ الآيةُ، قال سفيانُ الثوريّ: فكَانَ بعدَ ذلك إذَا رأَى ابنَ أم مكتومٍ قال: مَرْحَباً بمن عَاتَبَنِي فيه ربِّي- عز وجل- وبَسَطَ له رداءَه واسْتَخْلَفَه على المدينةِ مرتين «1» ، ت: والكافرُ المشارُ إليه في الآيةِ هو: الوليدُ بن المغيرة قاله ابنُ إسْحَاق، انتهى، ثم أكَّد تعالى عَتْبَ نبيه بقوله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بمالِه، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي: تتعرّض. [سورة عبس (80) : الآيات 9 الى 12] وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) وقوله: وَهُوَ يَخْشى أي: يخشَى اللَّه، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تَشْتَغِلُ، تَقُولُ لَهِيتُ عن الشيء ألْهَى إذا اشْتَغَلْتُ عنه، ولَيْسَ من اللَّهْوِ، وهذه الآيةُ السببُ فيها هذا ثم هِي بَعْدُ تَتَنَاولُ مَنْ شَارَكَهم في هذه الأوصافِ، فحمَلةُ الشَّرْعِ والعِلم مخاطبونَ بتقريبِ الضَّعِيفِ من أهلِ الخير وتقديمِه على الشريفِ العارِي من الخيرِ، مثلَ ما خُوطِبَ بهِ النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورةِ، قال عياضٌ: وليسَ في قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى الآيةَ، ما يَقْتَضِي إثبات ذنب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أنه خَالفَ أمْرَ ربِّه سبحانه، وإنَّما في الآية الإعلام بحال

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 444) عن قتادة وغيره (36322) ، وذكره ابن عطية (5/ 436) بنحوه.

[سورة عبس (80) : الآيات 13 إلى 16]

الرجلينِ، وتَوْهِينِ أَمْرِ الكافرِ، والإشارةُ إلى الإعراضِ عنه، انتهى، قال السهيلي: وانظرْ كيفَ نزلتِ الآيةُ بلفظِ الإخبارِ عن الغائبِ فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى ولم يقل: عَبَسْتَ وتولَّيْتَ، وهذا يُشْبِهُ حال العاتِب المُعْرِضِ، ثم أقبل عَلَيْهِ بمواجَهَةِ الخطابِ فقال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الآية، عِلماً منْه سبحانه أنَّه لَمْ يَقْصِدْ بالإعراضِ عن ابن أم مكتوم إلا الرغبةَ في الخيرُ ودخولِ ذلكَ المشركِ في الإسلام إذ كان مثلُه يُسْلِم بإسلامِه بَشَرٌ كثيرٌ، فكلَّمَ نبيَّهُ حينَ ابتدأَ الكلامَ بِمَا يشبه كلامَ المُعْرِضِ عنه العاتِب له، ثم واجَهَهُ بالخطابِ تأنيسا له ع، انتهى، ثم قال تعالى: كَلَّا يا مُحَمَّدُ، ليسَ الأَمْرُ كما فعلتَ، إنَّ هذه السُّورَةَ أو القراءةَ أو المعاتبةَ تَذْكِرَةٌ، وعبارةُ الثعلبي: إن هذه السورةَ، وقيل: هذه الموعظةَ، وقال مقاتلٌ: آياتُ القرآن «1» تذكرةٌ، أي: مَوْعِظَةٌ وتَبْصِرةٌ للخلقِ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي: اتَّعظَ بآي القرآن وبما وعظتُكَ/ وأدَّبتُكَ في هذه السورةِ، انتهى. - ص-: ذَكَرَهُ ذكَّرَ الضمير لأنَّ التذكرةَ هي الذكرُ، انتهى. [سورة عبس (80) : الآيات 13 الى 16] فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) وقوله تعالى: فِي صُحُفٍ متعلقٌ بقولهِ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ وهذا يؤيد أن التذكرَة يراد بها جميعُ القرآن، والصحف هنا قيل إنه اللوحُ المحفوظُ: وقيلَ صحفُ الأنبياءِ المنزلةُ. قال ابن عبَّاسٍ: السَّفَرَةُ هم الملائِكَةُ، لأنَّهم كَتَبةٌ يقال: سَفَرْتُ، أي: كتبتُ، ومنه السِّفْرُ، وقال ابن عباس أيضاً: الملائكةُ سَفَرةَ لأنهم يَسْفِرُونَ بينَ اللَّه وبين أنبيائه «2» ، وفي البخاري: سَفَرةُ الملائكةِ [واحدُهم سَافِرٌ] «3» ، سَفَرَتْ أصْلَحَتْ بينهم وجُعِلَتِ الملائكةُ إذا نزلت بوحي الله- عز وجل- وتأديته كالسَّفِيرِ الذي يُصْلِح بَيْنَ القوم، انتهى، قال ع «4» : ومن اللفظةِ قول الشاعر: [الوافر] وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَمَا أسعى بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ «5» والصُّحُفُ على هذا: صحفٌ عند الملائكة أو اللوح.

_ (1) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (4/ 447) . (2) أخرجه الطبري (12/ 446) (36330) ، (36333) ، وذكره البغوي (4/ 447) ، وابن عطية (5/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 471) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 519) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن المنذر من طريق علي عن ابن عبّاس. (3) سقط في: د. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 438) . (5) ينظر: البيت في «البحر» (8/ 417) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 438) ، والقرطبي (19/ 141) ، و «الدر المصون» (6/ 480) ، و «فتح القدير» (5/ 383) . [.....]

[سورة عبس (80) : الآيات 17 إلى 22]

[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 22] قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) وقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ: دعاء على اسْمِ الجنسِ، وهو عُمُومٌ يرادُ به الإنسانُ الكافِرُ، ومعنى قُتِلَ: أي: هو أهلٌ أنْ يُدْعَى عليْه بهذا، وقال مجاهد: قُتِلَ معناه: لُعِنَ وَهَذَا تَحَكُّمٌ ت: ليسَ بتحكمٍ وقد تقدم نحوُه عن غيرِ واحدٍ «1» . وقوله تعالى: مَا أَكْفَرَهُ يحتملُ معنى التعجبِ، ويحتملُ الاستفهامَ توبيخاً، وقيلَ: الآيةُ نَزَلَتْ في عُتْبَةَ بنِ أبي لهبٍ، وذلك أنَّه غَاضَبَ أبَاه فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسْلَم ثم إن أباه اسْتَصْلَحَه وأعطَاه مالاً وجهَّزَه إلى الشامِ، فبعث عتبةُ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنِّي كافرٌ بربِّ النَّجْمِ إذَا هوى فدعا عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «اللهمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ حَتَّى يَأْكُلَهُ» ، ثم إن عُتْبَةَ خَرَجَ في سُفْرَة/ فجاءَ الأسَدُ فأكلَه من بينْ الرُّفْقَةِ. وقوله تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ استفهامٌ على معنى التقرير على تفاهةِ الشيءِ الذي خُلِقَ الإنسانُ منه، فَقَدَّرَهُ أي جعَلَه بقَدَرٍ وَحَدٍّ معلومٍ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ قال ابن عباس وغيره: هي سبيلُ الخُرُوجِ من بطن أمِّهِ «2» ، وقال الحسنُ، ما معناه أن السبيلَ هي سبيلُ النظرِ المؤدِّي إلى الإيمانِ «3» . وقوله فَأَقْبَرَهُ معناه: أمَر أنْ يُجْعَلَ له قبرٌ، وفي ذلك تكريمٌ له لِئَلاَّ يطرحَ كسائرِ الحيوان. وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ يريدُ: إذا بَلَغَ الوقتَ الذي قَدْ شاءَه وهو يومُ القيامةِ، وأَنْشَرَهُ معناه: أحياه. [سورة عبس (80) : الآيات 23 الى 33] كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) وقوله تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ أي لم يَقْضِ ما أمره، ثم أمَرَ اللَّهُ تعالى الإنسان

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 446) (36335) ، وذكره ابن عطية (5/ 438) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 520) ، وعزاه لابن المنذر عن مجاهد. (2) أخرجه الطبري (12/ 447) ، برقم: (36337) ، وذكره ابن عطية (5/ 438) ، وابن كثير (4/ 472) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 521) ، وعزاه للعوفي عن ابن عبّاس. (3) أخرجه الطبري (12/ 448) ، رقم: (36346) ، وذكره ابن عطية (5/ 438) .

[سورة عبس (80) : الآيات 34 إلى 42]

بالعبرةِ والنظرِ إلى طَعامِه والدليل فيهِ وكيفَ يسَّره له بهذهِ الوَسَائِط، والحَبُّ جمعُ حَبَّةٍ- بفتحِ الحاءِ-، وهو كل ما يتخذُهُ الناسُ ويربونه، والحِبَّةُ: بكسرِ الحاءِ كُلَّ مَا يَنْبُتُ من البزُور لا يُحْفَلُ به، ولا هو بمتَّخَذٍ، والقَضْبُ قِيلَ هي الفِصْفِصَة وهذا عندي ضعيف لأن الفِصْفِصَةَ للبهائِم وهي داخلةٌ في الأبِّ والذي أَقول به أن القضْبَ هنا هو كلُّ ما يقْضَبُ ليأكُلَه ابنُ آدم غَضَّا من النباتِ كالبقُولِ والهِلْيُونِ ونحوه فَإنَّه من المَطْعُوم جِزءٌ عظيمٌ ولاَ ذِكْرَ له في الآية إلاَّ في هذه اللفظةِ، والحديقةُ: الشجَرُ الذي قد أُحْدِقَ بجدار ونحوِه، والغُلْبُ: الغِلاظُ الناعِمَةُ، والأبُّ المَرْعَى والكلأ قاله ابن عباس وغيره «1» ، وقد توقَّفَ في تفسيرِه أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما «2» - ومَتاعاً: نصْبٌ على المصدرِ، والمعنى: تَتَمَتَّعُونَ به أنتم وأنعامُكم فابن آدم في السَّبْعَةِ المذكورةِ، والأنْعَامُ في الأبّ، والصَّاخَّةُ: اسمٌ من أسماءِ يوم/ القيامة. - ص-: قالَ الخليلُ: الصَّاخَّةُ صَيْحَةٌ تَصُخُّ الآذانَ صَخَّا، أي: تصمّها لشدة وقعتها، انتهى. [سورة عبس (80) : الآيات 34 الى 42] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) وقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ الآية، قال جمهورُ الناس: إنما ذلكَ لشدةِ الهَوْلِ كلٌ يقولُ نَفْسِي نَفْسِي، وقيل: فرارُهم خوفا من المطالبات، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ عن اللقاءِ معَ غيرهِ، ثم ذكر تعالى اختلافَ الوجوهِ من المؤمنينَ الواثقين برحمةِ اللَّه حين بَدَتْ لهم تباشيرها، ومن الكفار حين علاها قترها، ومُسْفِرَةٌ معناه: نَيِّرةٌ بادٍ ضَوْءُهَا وسرورُها، والغَبْرَة التي على الكفرة: هي من العُبُوسِ كما يُرَى على وجهِ المهمومِ والميِّتِ والمرِيض شبهُ الغُبَارِ، - ص-: والقَتَرُ سوادٌ كالدُّخَانِ، قال أبو عبيدةَ: هو الغُبار، انتهى، ثم فسَّرَ سبحانَه أصحابَ هذه الوجوه المغبرّة بأنهم الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 452) (36375) ، وذكره ابن كثير (4/ 473) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 521) ، وعزاه للعوفي عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري (12/ 451) ، رقم: (36367) ، وذكره البغوي (4/ 449) ، وابن عطية (5/ 439) ، وابن كثير (4/ 473) .

تفسير سورة"التكوير"

تفسير سورة «التّكوير» [وهي] مكّيّة بإجماع [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) قوله سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ هذه كلُّها أوصَافُ يومِ القيامةِ، وتكويرُ الشمسِ هو أن تُدَارَ كما يُدَارُ كَوْرُ العمامةِ ويُذْهَبُ بها إلى حيثُ شَاءَ اللَّه- تعالى-، وعبَّر المفسرونَ عن ذلك بعباراتٍ فمنهم مَنْ قال: ذهب نورُها قاله قتادة «1» ، ومنهم من قال: رُمِي بها قاله الربيع بن خثيم «2» وغير ذلك مما هو أسماءٌ توابعُ لتكْويرهِا،، وانْكِدَارُ النجومِ هو انْقِضَاضُها وهبوطُها من مواضِعها، وقال ابن عباس: انكدرتْ: تغيَّرَتْ من قولهم مَاءٌ كَدِرٌ «3» والْعِشارُ: جمع عُشَرَاءَ وهي الناقة التي قَدْ مَرَّ لحملِها عَشَرَةُ أشهرٍ، وهي أنْفَسُ مَا عِنْدَ العرب، وإنما تعطّل عند أشدّ الأهوال. [سورة التكوير (81) : الآيات 6 الى 14] وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال أُبَيُّ بن كعب وابن عباس وغيرهما: / معناه أُضْرِمَتْ ناراً، كما يُسْجَرَ التَّنُّورُ «4» ، ويحتملُ أنْ يكونَ المعنى مُلِكَتْ وقيّدت، فتكون اللفظة مأخوذة

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 457) (36402) ، وذكره البغوي (4/ 451) ، وابن عطية (5/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 475) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 526) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه. (2) أخرجه الطبري (12/ 457) (36410) ، وذكره ابن عطية (5/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 475) . (3) أخرجه الطبري (12/ 458) (36417) ، وذكره ابن عطية (5/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 475) . (4) أخرجه الطبري (12/ 460) ، عن أبي بن كعب، برقم: (36432) وعن ابن عبّاس برقم: (36434) ، وذكره البغوي (4/ 451) ، وابن عطية (5/ 442) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 476) بنحوه.

من سَاجُورِ الكَلْبِ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سُجِرَتْ» بتخفيفِ» الجيمِ، والباقون بتشديدها، وتزويجُ النفوسِ: هو تَنْوِيعُها لأن الأزواجَ هي الأنْواعُ، والمعنى: جَعْلُ الكافرِ مع الكافرِ والمؤمِنِ معَ المؤمِنِ، وكلِّ شكلٍ مع شكلِه رواه النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاله عمرُ بن الخطاب وابن عباس «2» وقال: هذا نظيرُ قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] وفي الآيةِ على هذا حضُّ عَلَى خَليلِ الخيرِ، فقد قال- عليه السلام-: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ، وقال: «فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» ، وعبارةُ الثعلبيِّ: قال النعمانُ بْنُ بَشِيرٍ: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، قَالَ الضُّرَبَاء: كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَه، انتهى، وقال مقاتل بن سُلَيْمَانَ معناه: زوجتْ نُفُوسُ المؤمنينَ بزوجاتهنَّ من الحُورِ، وغيرِهِنَّ «3» . وقوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ الموءودة اسم معناه المُثْقَلُ عليها بالتُّرَاب، وغيرِه حتى تموتَ وكان هذا صنيعُ بعضِ العَرَبِ ببناتِهم يدفِنُونَهن أحياءً، وقرأ الجمهور «4» : «سِئلت» وهذا على جهةِ التوبيخِ للعربَ الفاعلينَ ذلك واستدلَّ ابن عَبَّاس بهذه الآيةِ على «5» أنَّ أولادَ المشركينَ في الجَنَّةِ، لأنَّ اللَّهَ قَدِ انتصر لَهُمْ ممّن ظلمهم «6» .

_ (1) وحجتهما قوله سبحانه: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: 6] ولم يقل المسجّر. وحجة الباقين قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ ولو كان واحدا لكان تخفيفا، والعرب تقول: سجرت التنور، وسجّرت التنانير. ينظر: «حجة القراءات» (750) ، و «السبعة» (673) ، و «الحجة» (6/ 379) ، و «إعراب القراءات» (2/ 444) ، و «شرح الطيبة» (6/ 101) ، و «معاني القراءات» (3/ 123) ، و «العنوان» (204) ، و «شرح شعلة» (619) ، و «إتحاف» (2/ 591) . (2) أخرجه الطبري (12/ 462) عن عمر برقم: (36449) ، وعن ابن عبّاس برقم: (36452) ، وذكره البغوي (4/ 452) ، وابن عطية (5/ 442) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 477) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن مردويه. (3) ذكره البغوي (4/ 452) ، وابن عطية (5/ 442) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 528) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن الكلبي بنحوه. (4) وقرأ ابن عبّاس، وأبي، وجابر بن زيد، وأبو الضحى، ومجاهد، وجماعة منهم: ابن مسعود، والربيع بن خيثم «سألت» . ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (169) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 442) ، و «البحر المحيط» (8/ 424- 425) ، و «الدر المصون» (6/ 486) . (5) في د: في. [.....] (6) ذكره ابن عطية (5/ 442) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 477) .

[سورة التكوير (81) : الآيات 15 إلى 23]

وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قيل: هي صُحُفُ الأَعْمَالِ، وقيل: هي الصُّحُفُ التي تَتَطَايَرُ بالأَيْمَانِ والشَّمائلِ، والكَشْطُ: التقشيرُ وذلك كما يُكْشَطُ جلدُ الشاةِ حينَ تُسْلَخُ، وكَشْطُ السَّماءِ هُو طَيُّها/ كَطَيِّ السّجلّ، وسُعِّرَتْ معناه: أُضْرِمَتْ «1» نارُها، وأزلفت الجنة معناه: قُرِّبَتْ ليدخلَها المؤمنونَ، قال الثعلبي: قُرِّبَتْ لأهلها حتى يرونها، نظيرُه، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] . عَلِمَتْ نَفْسٌ عندَ ذلك مَّا أَحْضَرَتْ من خيرٍ أو شرٍ وهو جوابٌ لقولهِ إِذَا الشَّمْسُ وما بعدها، انتهى. [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 23] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ لا إمَّا زائدةٌ وإما أنْ تكونَ رَدّاً لِقَوْلِ قريشٍ في تكذيبهم نبوة نبينا محمّد ع، ثُمَّ أَقْسَمَ تعالى بالخُنَّسِ الجوارِ الكنَّسِ، وهي في قولِ الجمهور: الدَّرَارِي السَّبْعَةُ: الشَّمْسُ والقَمَرُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والمرِّيخُ والزُّهْرَةُ والمُشترِي، وقال عليّ: المرادُ الخمسةُ دونَ الشمسِ والقمر وذلك أنّ هذه الكواكبَ تَخْنِسُ في جَرْيها أي: تَتَقَهْقَرُ فيما ترى العين، وهي جَوارٍ في السماءِ، وهي تَكْنِسُ في أَبراجها أي: تَسْتَتر «2» ، الثعلبي: وقال ابن زيدِ تَخْنِسُ أي: تَتَأَخَّرُ عَنْ مَطَالِعِها كلَّ سَنَة، وتَكْنِسُ بالنَّهار، أي: تستترُ فلاَ تُرَى، انتهى «3» ، وعَسْعَسَ الليلُ في اللغةِ إذا كَان غَيْرَ مُسْتَحْكَمِ الإظْلاَمِ، قال الخليل: عَسْعَسَ الليلُ: إذا أَقْبَلَ وأَدْبَرَ، وقال الحَسَنُ: وقَعَ القَسَمُ بإقبالهِ «4» ، وقال ابن عباسٍ وغيره: بلْ وَقَعَ بإدبارهِ «5» ، وقال المبرد: أقسم بإقباله وإدباره «6»

_ (1) في د: ضرمت. (2) أخرجه الطبري (12/ 467) (36484) ، وذكره البغوي (4/ 453) ، وابن عطية (5/ 443) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 478) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 528) ، وعزاه لسعيد بن منصور والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن علي رضي الله عنه. (3) أخرجه الطبري (12/ 467) (36487) . والبغوي (4/ 453) . (4) أخرجه الطبري (12/ 470) (36512) ، وذكره البغوي (4/ 453) ، وابن عطية (5/ 444) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 479) بنحوه. (5) أخرجه الطبري (12/ 469) ، (36502) ، وذكره ابن عطية (5/ 444) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 479) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 530) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس. (6) ذكره ابن عطية (5/ 444) .

[سورة التكوير (81) : الآيات 24 إلى 29]

معاً، وعبارةُ الثعلبي: قالَ الحسنُ عَسْعَسَ الليلُ: أقْبَلَ بظلامِه، وقال آخرون: أدْبَرَ بظلامِه، ثم قال: والمعنيانِ يَرْجِعَانِ إلى معنًى واحدٍ، وهو ابتداءُ الظلامِ في أوله وإدباره في آخرهِ، انتهى،، وتنفَّسَ الصبحُ، اتَّسَعَ ضوءهُ، والضميرُ في «إنه» للقرآن، والرسولُ الكريمُ في قولِ الجمهور هو جبريل ع وقال آخرون: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم في الآية كلّها، / والقول الأول أصحّ، وكَرِيمٍ صفة تقتضي رفع المذامّ، ومَكِينٍ معناه: له مكَانَة ورِفْعَة، وقال عياض في «الشفا» في قوله تعالى: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ: أكثر المفسرين على أنّه نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، انتهى، قال ع «1» : وأجمعَ المفسرونَ على أن قولَه تعالى: وَما صاحِبُكُمْ يرادُ به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، والضمير في رَآهُ لجبريل ع وهذه الرؤيةُ التي كانَتْ بعْدَ أمْرِ غارِ حِراءٍ، وقيل: هي الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى. [سورة التكوير (81) : الآيات 24 الى 29] وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) وقوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضادِ بمعنى: بِبَخِيلِ تَبْلِيغ مَا قِيل لهُ كما يَفْعَلُ الكاهِنُ حين يُعْطى حُلْوَانه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «بظنين» بالظاءِ «2» ، أي: بمتَّهَمٍ، ثم نَفَى سبحانَهُ عن القرآن أنْ يكونَ كلامَ شيطانٍ على ما قالتْ قريش، ورَجِيمٍ أي: مرجُوم. وقوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ توقيفٌ وتقريرٌ والمعنى: أين المذهبُ لأحَدٍ عن هذهِ الحقائقِ والبيانِ الذي فيه شفاءٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي: تذكرةٌ، ت: رَوَى الترمذيُّ عن ابن عمر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَرَّه أنْ يَنْظُرَ إلى يومِ القِيَامَةِ كأنَّه رَأْيُ عينٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن، انتهى.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 444) . (2) ينظر: «السبعة» (673) ، و «الحجة» (6/ 380) ، و «إعراب القراءات» (2/ 446) ، و «معاني القراءات» (3/ 124) ، و «العنوان» (204) ، و «حجة القراءات» (752) ، و «شرح شعلة» (620) ، و «إتحاف» (2/ 592) .

تفسير سورة"الانفطار"

تفسير سورة «الانفطار» وهي مكّيّة بإجماع [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي: انشقَّتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي: تساقَطَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ قيل: فُجِّرَ بعضُها إلى بعضٍ، ويحتملُ أنْ يكونَ تَفَجَّرتْ من أعاليها، ويحتملُ أن يكون تفجيرَ تفريغٍ من قيعَانِها/ فَيُذْهِبُ اللَّهُ ماءَها حيث شاء، وبكلٍ قيل، وبعثرةُ القبورِ: نبشها عن الموتى. [سورة الانفطار (82) : الآيات 5 الى 7] عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) وقوله سبحانه: عَلِمَتْ نَفْسٌ هو جوابُ إِذَا ونَفْسٌ هنا اسمُ جنسٍ، وقال كثيرٌ من المفسرينَ في معنى قوله: مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ إنها عبارةٌ عن جميع الأعمالِ من طاعة أو معصية. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ رُوِيَ أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَهَا، فقال: «غَرَّهُ جَهْلُهُ» «1» ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَرْحَمَهُ بِعِبادِهِ، قال الثعلبيُّ: قال أَهْلُ الإشارةِ: إنّما قال:

_ (1) قال الزيلعي في «تخريج الأحاديث والآثار» (4/ 167) (1464) ، وقال: رواه الثعلبي: أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه- واسمه الحسين بن محمّد- ثنا أبو علي بن حنش المقري، ثنا أبو القاسم بن الفضل المقري، ثنا علي بن الحسين المقدمي، وعلي بن هاشم قالا: ثنا كثير بن هشام، ثنا جعفر بن برقان، ثنا صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قال: «غره جهله» . وعن الثعلبي رواه الواحدي في «تفسيره الوسيط» بسنده ومتنه. ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب «فضائل القرآن» حدثنا كثير بن هشام وذكره سواه إلا أنه قال: «غره حلمه» ، والنسخة صحيحة.

[سورة الانفطار (82) : الآيات 8 إلى 14]

بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، دونَ سائر أسمائِه تعالى وصفاته، كأنه لَقَّنَهُ جَوَابَهُ حتى يقولَ: غَرَّنِي كَرَمُكَ، انتهى، وقرأ الجمهور: «فعدّلك» وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نَظَر إلى الهلالِ قال: «آمنتُ بالذي خلقَك فسوَّاك فَعَدَلَك» وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتخفيفِ الدال «1» ، والمعنى عَدَّلَ أعضَاءَك بعضَها ببعضٍ، أي: وازن بينها. [سورة الانفطار (82) : الآيات 8 الى 14] فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) وقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شاءَ رَكَّبَكَ ذهبَ الجمهورُ إلى أن «في» متعلِّقة ب «ركَّبك» ، أي: في صورةٍ حسنةٍ أو قبيحةٍ، أو سليمةٍ، أو مشوهةٍ، ونَحْو هذا، و «ما» في قوله: مَّا شاءَ رَكَّبَكَ زائِدَةٌ فيها معنَى التأكيد، قال أبو حيان «2» : كَلَّا رَدْعٌ وزَجْرٌ، انتهى، والدِّينُ هنا يحتمل أن يريدَ الشرعَ، ويحتملُ أن يريدَ الجزاءَ والحساب، وباقي الآية واضح لمتأمّله. [سورة الانفطار (82) : الآيات 15 الى 19] يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وقوله تعالى: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الجزاءِ. وقوله تعالى: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [قال جماعة: معناه: ما هم عنها بغائبين] «3»

_ (1) قال الفراء: وجهه- والله أعلم- فصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسن أو قبيح، أو طويل أو قصير. وعن أبي نجيح قال: (في صورة أب أو في صورة عمّ) . وليست في من صلة «عدلك» لأنك لا تقول: (عدلتك في كذا) ، إنما تقول: (عدلتك إلى كذا) أي: صرفتك إليه وإنما هي متعلقة ب «ركّبك» . كأن المعنى: (في أي صورة شاء أن يركّبك) . وقال آخرون: (فعدلك: فسوّى خلقك) . قال محمّد بن يزيد (المبرد) : فعدلك أي: قصد بك إلى الصورة المستوية ومنه العدل الذي هو الإنصاف، أي: هو قصد إلى الاستواء. فقولك: (عدل الله فلانا) أي: سوّى خلقه. فإن قيل: فأين الباء التي تصحب القصد حتى يصح ما تقول؟ قلت: إن العرب قد تحذف حروف الجر، قال الله عز وجل: «وإذا كالوهم أو وزنوهم» فحذف اللامين، فكذلك «فعدلك» بمعنى: فعدل بك. ينظر: «حجة القراءات» (752- 753) ، و «السبعة» (674) ، و «حجة القراءات» (6/ 382) ، و «إعراب القراءات» (2/ 448) ، و «معاني القراءات» (3/ 126) ، و «شرح الطيبة» (6/ 103) ، و «العنوان» (204) ، و «شرح شعلة» (620) ، و «إتحاف» (2/ 594) . (2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 428) . (3) سقط في: د.

في البَرْزَخِ، وذلك أنهم يرونَ مقاعِدَهم من النارِ غَدْوَةً وعشيَّةً فهم لم يزالُوا مشاهدينَ لَها نسألُ اللَّه العافيةَ في الدارينِ بجُودِه وكرمِه، ثم عظَّم تعالى قدرَ هولِ ذلكَ اليومِ بقوله: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ الآية.

تفسير سورة"المطففين"

تفسير سورة «المطفّفين» وهي مكّيّة في قول جماعة وقال ابن عبّاس وغيره: هي مدنية، وعنه: نزل بعضها بمكة ونزل أمر التطفيف بالمدينة. [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الآية، المُطَفِّفُ الذي يُنْقِصُ الناسَ حُقُوقَهم، والتطفيفُ: النُّقْصَانُ، أصله من الشيء الطفيف، وهو النَّزْرُ، والمطفِّفُ إنما يأخذ بالميزان أو بالمكيال شيئا خفيفا، واكْتالُوا عَلَى النَّاسِ معناه قبضوا منهم، وكالُوهُمْ معناه: قبّضوهم، ويُخْسِرُونَ معناه: ينقصون. [سورة المطففين (83) : الآيات 4 الى 6] أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) وقوله سبحانه: أَلا يَظُنُّ بمعنى: يَعْلَمُ ويتحقق، وقال- ص-: أَلا يَظُنُّ ذَكَر أبو البقاء أن «لا» هنا هي النافيةُ دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ، وليستْ «أَلاَ» التي للتنبيهِ والاستفتاح لأن مَا بَعْدَ «أَلاَ» التنبيهيَّةِ مُثْبَتٌ وهو هنا منفيٌّ، انتهى،، وقيامُ الناس لربِ العالمينَ يومئذٍ، يختلف الناسُ فيه بحَسْبِ منازِلهم، ورُوِيَ أنه يُخَفَّفُ عن المؤمنِ حتى يكونَ على قَدْرِ الصلاةِ المكتوبةِ، وفي هذا القيام هو إلجامُ العَرَقِ للناسِ كما صرَّح به النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديثِ الصحيحِ، والناسُ أيضاً فيه مختلفون بالتخفيفِ والتشديدِ، قال ابنُ المُبَارَك في «رقائِقه» : أَخبرنا سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ عن أبي عثمانَ النهدي عن سلمان، قال: تدنى الشمسُ من الناسِ يومَ القيامةِ حتى تكونَ من رُؤوسهم قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسَينِ فتُعْطي حرَّ عَشْرَ سنين وليسَ على أحد يومئِذ طِحْرِبة ولا تُرَى فيه عورةُ مؤمِنٍ ولا مؤمنةٍ، ولا يَضّرُّ حرُّها يومئِذٍ مؤمناً ولا مؤمنَة، وأما الآخرون أو قال الكفارُ فَتَطْبُخُهُمْ، فإنما تقولُ أجوافُهم غَقْ غَقْ، قال نعيم: الطحربةُ: الخِرْقة/ انتهى،، ونحوُ هذا للمحاسبي قال في «كتاب

[سورة المطففين (83) : آية 7]

التوهُّم» : فإذَا وَافَى الموقفُ أهْلَ السمواتِ السبعِ والأرضين السبع كسيت الشمسُ حرَّ عَشْرَ سنينَ، ثم أدْنيتْ من الخلائقِ قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسينِ، فَلاَ ظِلَّ في ذلك اليوم إلا ظلُّ عرشِ ربِّ العالمينَ، فكم بينَ مستظلِّ بظل العرشِ وبين واقفٍ لحرِّ الشمسِ قد أصْهَرَتْه واشتدَّ فيهَا كَرْبُه وقلقُه، فتوهَّمْ نفسَك في ذلكَ الموقفِ فإنك لا محالةَ واحدٌ منهم، انتهى، اللَّهُمَّ، عَامِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ في الدَّارَيْنِ، فَإنَّهُ لاَ حَوْلَ لَنَا وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ. [سورة المطففين (83) : آية 7] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ... يعني: الكفارَ وكتابُهم يراد به الذي فيه تَحصيلُ أمرهم، وأفعالِهم، ويحتمل عندي أن يكونَ المعنَى وعِدَادُهُمْ وكِتَابُ كونِهم هو في سجينٍ أي: هنالِكَ كُتِبُوا في الأزلِ، واختُلِفَ في سِجِّينٍ ما هو؟ والجمهورُ أن سجيناً بناءُ مبالغة من السَّجْن، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة «1» . [سورة المطففين (83) : الآيات 8 الى 26] وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ تعظيمٌ لأمر هذا السِّجِّينِ وتعجيبٌ منه، ويحتملُ أنْ يكونَ تقريرَ اسْتِفْهامٍ، أي: هذا مما لم تكن تعلمه قبل الوحي، وكِتابٌ مَرْقُومٌ على القول الأولِ: مرتفعٌ على خبر «إنَّ» وعلى القولِ الثاني مرتفعٌ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف تقديرُه: هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً ل سِجِّينٌ ما هو؟، ومَرْقُومٌ معناه: مكتوبٌ لهم بِشَرٍّ، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم أوجَبَ أنَّ مَا كَسَبُوا من الكفرِ والعُتُو قَدْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي: غطى عليها فهُمْ مع ذلك لا يُبْصِرُون رشداً، يقال:

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 486) (36600) ، وذكره البغوي (4/ 458) ، وابن عطية (5/ 451) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 538) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه بنحوه. [.....]

رَانَتِ الخمرُ على قلبِ شاربِها، ورَانَ الغَشْيُ على قلبِ المريضِ، وكذلك الموتُ، / قال الحسنُ وقتادة: الرّينُ الذَّنبُ على الذنبِ حتى يموتَ القلب «1» ، وروى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الرجُلَ إذا أذْنَبَ نُكِتَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ في قلبهِ، ثم كذلك حتَّى يَتَغطَّى فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ، قال الفخرُ «2» : قال أبو معاذ النَّحْوي: الرّينُ سَوَادُ القلبِ من الذنوبِ، والطَّبْعُ أن يُطْبَعَ على القلبِ، وهو أشَدُّ من الرينِ، والإقْفَالُ أشدُّ من الطبعِ وهو أن يُقْفَلَ على القلبِ، انتهى، والضميرُ في قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ للكفارِ أي: هم محجوبونَ لا يَرَوْنَ ربَّهم، قال الشافعي: لما حَجَبَ اللَّهُ قوماً بالسَّخْطِ دَلَّ عَلى أن قوماً يرَوْنَهُ بالرِّضَى، قال المحاسبي- رحمه اللَّه- في كتابِ «توبيخ النفس» : وينبغِي للعبدِ المؤمنِ إذا رأى القسوةَ من قلبه أن يعلم أنها من الرّينِ في قلبه فيخافُ أن يكونَ اللَّهُ تعالى لمَّا حَجَبَ قلبَه عنه بالرّينِ والقسوةِ أنْ يحجبَه غَداً عن النظرِ إليه قال تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ إحداهُما تتلو الأخرى ليس بينهما معنًى ثالثٌ، فإنْ اعترضَ للمريدِ خَاطِرٌ من الشيطانِ ليقْتَطِعَه عن الخوفِ من اللَّه تعالى، حتى تحلَّ بهِ هاتانِ العقوبتانِ فَقَال إنما نَزَلَتَا في الكافرينَ فليقلْ فإنَّ اللَّهَ لم يؤَمِّنْ منهما كثيراً مِنَ المؤمنينَ، وقد حذَّر سبحانَه المؤمنينَ أن يُعَاقِبَهُم بما يُعَاقِبُ به الكافرين فقال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: 131] إلى غير ذلكَ من الآيات، انتهى، ولما ذَكَرَ اللَّهُ تعالى أمْرَ كتابِ الفجار، عَقَّبَ ذلكَ بذِكْرِ كِتَابِ ضدِّهِم ليبيِّنَ الفرقَ بين الصِّنْفَيْنِ، واخْتُلِفَ في المَوضِع المعروفِ ب عِلِّيِّينَ ما هو؟ فقال ابن عباس: السَّمَاءُ السَّابعَةُ تَحْتَ العَرْشِ «3» ، وَروي ذَلِكَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «4» ، وقال الضحاكُ: هو سِدْرَةُ المُنْتَهَى «5» ، وقال ابن عبّاس أيضا: عليون: الجنة «6» .

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 490) (36627) عن الحسن، وعن قتادة برقم: (36640) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 485) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 540) ، وعزاه لعبد بن حميد. (2) ينظر: «الفخر الرازي» (31/ 86) . (3) أخرجه الطبري (12/ 493) عن ابن عبّاس وعن كعب برقم: (36657) ، و (36649) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 486) بنحوه. (4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 452) . (5) أخرجه الطبري (12/ 494) ، (36659) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد من طريق الأجلح عن الضحاك رضي الله عنه. (6) أخرجه الطبري (12/ 494) ، (36658) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، وابن كثير-

[سورة المطففين (83) : الآيات 27 إلى 28]

وقوله تعالى: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائِكة قاله ابن عبّاس وغيره «1» ، ويَنْظُرُونَ معناه إلى ما عندَهم مِن النعيم، والنَّضْرةُ: النعمة والرونق، والرحيق: الخمر الصافية، ومَخْتُومٍ يحتملُ أنَّه يُخْتَمُ على كؤوسه التي يشْرَبُ بها تَهَمُّماً وتنظفاً، والظاهر أنه مختُوم شربُه بالرائحةِ المِسْكِيةِ حَسْبَمَا فسَّره قوله: خِتامُهُ مِسْكٌ قال ابن عباس وغيره: خاتمة شربه مسك «2» ، [وقرأ الكسائي «3» : «خَاتَمُهُ مِسْكٌ» ] ، ثم حرَّضَ تعالى على الجنةِ بقوله: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ. [سورة المطففين (83) : الآيات 27 الى 28] وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) وقوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ المِزَاجُ: الخلطُ، قال ابن عباس وغيره: تَسْنِيمٍ: أشْرَفُ شرابٍ في الجنةِ، وهو اسْمٌ مذكرٌ لِمَاءِ عينٍ في الجنةِ، وهي عين يشرب بها المقربون صرفاً ويُمْزَجُ رحيقُ الأبرارِ بها «4» وهذا المعنى في «صحيح البخاري» ، وقال مجاهد ما معناه: أن تسنيماً مصدَرُ من سَنَّمْتُ: إذَا عَلَوْتُ، ومنه السَّنَامُ، فكأنه عينٌ قَدْ عَلِيَتْ على أهل الجنةِ فهي تَنْحَدِر، وقاله مقاتل «5» ، وجمهور المتأولينَ أنَّ منزلةَ الأبرار دونَ منزلة المقربينَ، وأن الأبرارَ هم أصحابُ اليمين، وأن المقربينَ هم السابقون. وقوله: يَشْرَبُ بِهَا بمعنى يْشَرَبُها. [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 34] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)

_ - في «تفسيره» (4/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 541) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عبّاس. (1) أخرجه الطبري (12/ 495) ، (36663) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 453) . (2) أخرجه الطبري (12/ 498) ، (36683) ، وذكره البغوي (4/ 416) ، وابن عطية (5/ 453) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 486) . (3) ينظر: «الحجة» (6/ 386) ، و «إعراب القراءات» (2/ 451) ، و «معاني القراءات» (3/ 131) ، و «شرح الطيبة» (6/ 104) ، و «العنوان» (205) ، و «حجة القراءات» (754) ، و «إتحاف» (2/ 597) . (4) أخرجه الطبري (12/ 500) ، (36700) ، وعن أبي صالح برقم: (36703) ، وذكره البغوي (4/ 462) ، وابن عطية (5/ 453) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 487) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 544) ، وعزاه لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عبّاس بنحوه. (5) أخرجه الطبري (12/ 499) ، (36691) عن مجاهد، وابن عطية (5/ 453) .

[سورة المطففين (83) : الآيات 35 إلى 36]

وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا يعني في الدنيا، يَضْحَكُونَ من المؤمنينَ، رُوِيَ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في صناديدِ قريشٍ وضَعَفَةِ المؤمنين، والضميرُ في مَرُّوا للمؤمنينَ ويحتملُ أن يكونَ للكفارِ، وأما ضميرُ يَتَغامَزُونَ فهو للكفارِ لا يحتمل غير ذلك، وفَكِهِينَ أي: أصحابُ فُكَاهَةِ/ وَنَشَاطٍ وسرورٍ باسْتِخْفَافِهم بالمؤمنين، وأما الضميرُ في رَأَوْهُمْ وفي قالُوا فقال الطبريُّ «1» وغيره: هو للكفارِ، وقال بعضُهم: بل المعنى بالعَكْسِ، وإنمَا المعْنَى وإذا رأى المؤمنونَ الكفَّارَ قالوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ، وما أُرْسِلَ المؤمِنونَ حافِظِينَ على الكفَّارِ، وهذا كلَّه مَنْسُوخٌ على هذا التأويل، ت: والأول أظهر. [سورة المطففين (83) : الآيات 35 الى 36] عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وقوله تعالى: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي: إلى أعدائهم في النار، قال كعب: لأهل الجنةِ كُوًى ينظرون منها «2» ، وقال غيره: بينهم جِسْمٌ عظيم شَفَّافٌ يرونَ معه حالَهم، ت: قال الهرويُّ: قوله تعالى: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، قال أحمد بن يحيى: الأريكَةُ: السريرُ في الحَجَلَةِ ولا يسمى مِنْفَرِداً أريكةً، وسمعتُ الأزهريَّ يقولُ: كل ما اتّكئ عليه فهو أريكةٌ، انتهى، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ أي: جزاءَ ما كانوا يفعلون، وهَلْ ثُوِّبَ تقرير وتوقيف للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمّته.

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (12/ 502) . (2) أخرجه الطبري (12/ 502) ، (36711) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 462) ، وابن عطية (5/ 454) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 545) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة عن كعب. [.....]

تفسير سورة"الانشقاق"

تفسير سورة «الانشقاق» وهي مكّيّة بلا خلاف [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ الآية، هذه أوْصافُ يوم القيامةِ وأَذِنَتْ معناه: اسْتَمَعَتْ وسَمِعَتْ أمر ربّها ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ أَذَنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآن» ، وحُقَّتْ «1» قال ابن عباس: معناه: وحُقَّ لها أنْ تَسْمَع وتطيع «2» ، ويحتملُ أن يريدَ: وحُقَّ لها أن تنشقَ لشدةِ الهولِ وخوفِ اللَّه تعالى، ومدُّ الأرْضِ هي إزالةُ جبالِها حتى لا يبقى فيها عوجٌ ولا أمْتٌ، وفي الحديث: «تمدّ مدّ الأديم» ، وأَلْقَتْ مَا فِيها يعني: من/ الموتَى قاله الجمهورُ. وخَرَّج الختلي أبو القاسمِ إسحاقُ بن إبراهيم في كتاب «الدّيباج» له بسندهِ عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله- عز وجل-: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقَّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأَجْلِسُ جَالِساً في قَبْرِي، فَيُقْتَحُ لِي بَابٌ إلَى السَّمَاءِ بِحِيَالِ رَأْسِي حتى أَنْظُرَ إلَى العَرْشِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ مِنْ تَحْتِي حتى أَنْظُرَ إلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ حتى أَنْظُرَ إلى الثرى، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ عَنْ يَمِينِي حتى أَنْظُرَ إلَى الجَنَّةِ وَمَنَازِلِ أَصْحَابِي، وَإنَّ الأَرْضَ تَحَرَّكَتْ تَحْتِي فَقُلْتُ: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ؟ قَالَتْ: إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُلْقِيَ مَا في جَوْفِي، وأنْ أَتَخَلَّى فَأَكُونَ كَمَا كُنْتُ إذْ لاَ شَيْءَ فِيَّ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ-: وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُطِيعَ» «3» ، الحديثَ، انتهى من «التذكرة» «4» ، وتَخَلَّتْ معناه خَلَّتْ عَمَّا كَانَ فيها لَمْ تَتَمَسَّكْ منهم بشيء.

_ (1) تقدم تخريجه. (2) ذكره ابن عطية (5/ 456) . (3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 547) ، وعزاه إلى أبي القاسم الختلي في «الديباج» . (4) ينظر: «التذكرة» (1/ 251) .

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 إلى 12]

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 الى 12] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ ... الآية، الكادحُ: العاملُ بشدّةٍ واجتهادٍ، والمعنى: إنَّك عامل خيراً أو شراً، وأنتَ لا محالةَ ملاقِيه، أي: فكنْ على حَذَرٍ من هذهِ الحالِ، واعملْ صالحاً تَجِدْه، وأما الضمير في فَمُلاقِيهِ فقال الجمهور: هو عائدٌ على الربّ تعالى، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على الكَدْحِ ت: وهو ظاهرُ الآيةِ، والمعْنَى ملاقٍ جزاءَه، والحسابُ اليسيرُ: هو العَرْضُ ومن نُوقِشَ الحسابَ هَلَكَ كذا في الحديث الصحيح، وعن عائشةَ: هو أن يعرفَ ذنوبَه ثم يُتَجَاوَزَ عنْه، ونحوُه في الصحيح عن ابن عمر، انتهى، وفي الحديث/ عن عائشةَ قالتْ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ في بَعْضِ صَلاَتِهِ: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَاباً يَسِيراً، فَلَمَّا انصرف قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْحِسَابُ اليَسِيرُ؟ قال: أَنْ يَنْظُرَ في كِتَابِهِ وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ- يَا عَائِشَةُ- يَوْمَئِذٍ هَلَكَ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةَ تَشُوكُهُ» «1» ، قال صاحب «السلاح» : رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ» ، وقال: صحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ، انتهى، ورَوَى ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» قال عزُّ الدينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ في اختصاره ل «رعاية المحاسبي» : أجمع العلماءُ على وجوبِ محاسَبَةِ النفسِ فيما سَلَفَ من الأعمال وفيما يُسْتَقْبَلُ منها، «فالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بعد الموت، والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى اللَّهِ» ، انتهى. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ أي: الذين أعدَّهمُ اللَّه لهُ في الجنةِ، وأما الكافر فرُوِيَ أنَّ يَدَه تدخُلُ من صَدْرِه حتَّى تَخْرُجَ من وراءِ ظهرِه فيأخذَ كتابه بها. ويَدْعُوا ثُبُوراً معناه: يصيحُ مُنْتَحِباً: وا ثبوراه وا حزناه، ونحو هذا، والثبور اسم جامع للمكاره، كالويل.

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 48) ، وابن خزيمة (2/ 30) ، جماع أبواب الكلام المباح في الصلاة والدعاء والذكر، ومسألة الرب عزّ وجلّ- وما يضاهي هذا ويقاربه: باب مسألة الرب جل وعلا- في الصلاة محاسبة يسيرة، إذ المحاسبة بجميع ذنوبه والمناقشة به تهلك صاحبها (849) ، والحاكم (1/ 57- 255) ، (4/ 249، 580) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما اتفقا على حديث أبي مليكة، ومن نوقش الحساب عذب، ووافقه الذهبي.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 13 إلى 15]

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 13 الى 15] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يريدُ في الدنيا، مَسْرُوراً أي: تَمَلَّكَهُ ذلكَ لاَ يدرِي إلا السرورَ بأهلهِ دونَ معرفةِ ربه. وقوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ معناه: أن لن يرجِعَ إلى اللَّه مبعوثاً محشُوراً، قال ابن عباس: لم أعلم ما معنى يَحُورَ حتى سَمِعْتُ امرأة أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ لِبُنَيَّةٍ لَهَا: حُورِي أي: ارجعي «1» ، - ص-: بَلى إيجابٌ بَعْدَ النفي، أي: بلى لَيَحُورَنَّ أي: ليرجعنّ، انتهى. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ «لا» / زائِدةٌ وقيل: «لا» ردّ على أقوال الكفار، وبِالشَّفَقِ الحُمْرَةُ التي تَعْقُبُ غَيْبُوبَةَ الشمسِ مع البياضِ التابع لها في الأغلب، ووَسَقَ معناه: جُمِعَ وَضُمَّ ومنه الوَسْقُ أي: الأَصْوُعُ المجموعةُ، والليل يَسِق الحيوانَ جملة أي: يجمَعَها وَيَضُمُّها، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ التي في الأرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، واتساقُ القمر كمالُه وتمامُه بدراً، والمعنى امتلأَ من النور، وقرأ نافع وأبو عَمْرٍو وابن عامر: «لَتَرْكَبُنَّ» - بضم الباءِ «2» - والمعنى: لتركبُنَّ الشدائِدَ: الموتَ والبعثَ والحسابَ حالاً بعد حالٍ، و «عن» تجيءُ بمعنى «بعد» كما يقال: ورثَ المجدَ كَابِراً عن كابرٍ، وقيلَ: غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: «لَتَرْكَبَنَّ» «3» - بفَتْحِ الباءِ- على معنى أنتَ يا محمد، فقيلَ: المعنى حالاً بعد حالٍ من معالَجةِ الكفارِ، وقال ابن عبّاس:

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 509) (36746) ، وذكره ابن عطية (5/ 458) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 489) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 548) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عبّاس بنحوه. (2) وقرأ بها عاصم. ينظر: «السبعة» (677) ، و «الحجة» (6/ 391) ، و «إعراب القراءات» (2/ 455) ، و «معاني القراءات» (3/ 134) ، و «شرح الطيبة» (3/ 105) ، و «العنوان» (205) ، و «حجة القراءات» (756) ، و «شرح شعلة» (621) ، و «إتحاف» (2/ 600) . (3) ينظر: مصادر القراءة السابقة.

سماءً بعد سماءٍ في الإسراء «1» ، وقيل: هي عِدَةٌ بالنَّصْرِ أي لتركبَنَّ أمْرَ العربِ قَبِيلاً بعد قَبِيل كما كان، وفي البخاري عن ابن عبَّاس: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالاً بعد حال هكذا قال نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم «2» ، انتهى، ثم قال تعالى: فَما لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، أي: ما حجتُهم مع هذهِ البراهين الساطعة، ويُوعُونَ معناه: يَجْمَعُونَ من الأعمالِ والتكذيبِ كأنهم يجعلونَها أوعية، تقول وعيت العلم، وأوعيت المتاع، ومَمْنُونٍ معناه: مقطوع.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 515) عن الحسن، وأبي العالية، برقم: (36807) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 549) ، وعزاه للطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عبّاس بنحوه. (2) أخرجه الطبراني (11/ 101) ، (11173) .

تفسير سورة"البروج"

تفسير سورة «البروج» وهي مكّيّة بإجماع [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) الجمهور: أنّ «البروج» هي المنازلُ التي عَرَفَتْهَا العربُ، وقد تقدم الكلامُ عليها، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ: هو يومُ القِيَامَةِ باتفاق كما جاء في الحديث، وإنما اختلفَ الناسُ في الشاهِد والمشهودِ اختلافاً كثيراً، فقال ابن عباس: الشاهدُ: اللَّهُ/ والمشهودُ: يومُ القيامة «1» ، وقال الترمذيُّ: الشاهدُ: الملائكةُ الحفظةُ، والمشهود [أي] عليه: الناسُ، وقال أبو هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: الشاهدُ يوم الجمعةِ، والمشهودُ يومُ عرفة، ت: ولو صحّ لوجب الوقوف عنده. [سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 9] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) وقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ معناه فَعَلَ اللَّه بهم ذلكَ لأنَّهم أهل له فهو على جهة الدعاءِ بحسَبِ البشر، لا أنّ اللَّه يدعُو على أَحَدٍ، وقيل عن ابن عباس: معناه لُعِنَ وهذا تفسيرٌ بالمعنى، وقال الثعلبي: قال ابن عباس: كل شيء في القُرآن قُتِلَ فهو: لَعْن، انتهى «2» ، وقيلَ: هو إخبار بأنّ النار قتلتهم قاله ابن الربيع بن أنس «3» ، - ص-: وجوابُ القَسَمِ محذوفٌ أي: والسماءِ ذاتِ البروجِ لَتُبْعَثُنَّ، وقال المبردُ: الجوابُ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، وقيل الجوابُ: قُتِلَ واللامُ محذوفةٌ أي: لَقُتِلَ، وإذا كانَ قُتِلَ

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 522) ، (36864) ، وذكره البغوي (4/ 467) ، وابن عطية (5/ 460) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 553) ، وعزاه لابن جرير. (2) ذكره ابن عطية (5/ 461) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 461) .

[سورة البروج (85) : الآيات 10 إلى 12]

هو الجوابُ فهو خَبَرٌ انتهى، وصَاحِبُ الأخدودِ: مذكورٌ في السِّيَرِ وغيرِها وحديثُه في مُسْلِمٍ مُطَوَّلٌ وهو مَلكٌ دَعَا المؤمنينَ باللَّهِ إلى الرجوعِ عن دينِهم إلى دينهِ، وخَدَّ لَهُمْ في الأرْضِ أخَادِيدَ طويلةً وأضْرَمَ لهم ناراً وجَعَلَ يَطْرَحُ فيها من لم يرجعْ عن دينه حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ فَتَقَاعَسَتْ فقال لها الطفل: يا أُمَّهْ اصْبِرِي فِإنَّكِ عَلى الحق، فاقْتَحَمَتِ النارَ. وقوله: النَّارِ بدلٌ من الأخدودِ وهو بدلُ اشتمالٍ، قال ع «1» : وقال الربيع بن أنس وأبو إسحاق وأبو العالية: بعثَ اللَّهُ على أولئك المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أبو نحوَ هذا، وخَرَجَتِ النارُ فأحْرَقَتِ الكافرينَ الذينَ كانُوا على حَافَّتَيِ الأخْدُودِ وعلى هذا يجيءُ قُتِلَ خبرا لا دعاء «2» . [سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... الآية، فَتَنُوهُمْ، أي: أحرقوهم، ت: قال الهروي: قولُه تعالى: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي: لهم/ عذابٌ لكفرِهم وعذابٌ بِإحْرَاقِهم المؤمنينَ، انتهى، قال ع «3» : ومَنْ قَال: إنَّ هذه الآياتِ الأواخِرَ في قريشٍ جَعلَ الفِتنةَ الامتحانَ والتعذيبَ، ويقوِّي هذا التأويلَ بعضَ التقويةِ قولُه تعالى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، لأنَّ هذا اللفظُ في قريشٍ أشْبَهُ منه في أولئك، والبطش: الأخذ بقوة. [سورة البروج (85) : الآيات 13 الى 22] إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) وقوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ قال الضحاك وابن زيد: معناه: يُبْدِىءُ الخلقَ بالإنْشَاءِ، ويُعيدُهم بالحَشْرِ «4» ، وقال ابن عباس ما معناه: إنَّ ذلكَ عامُّ في جميع الأشياء،

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 462) . [.....] (2) أخرجه الطبري (12/ 525) ، (36875) عن الربيع بن أنس، وذكره البغوي (4/ 470) ، وابن عطية (5/ 462) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 496) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 462) . (4) أخرجه الطبري (12/ 528) عن الضحاك، برقم: (36885) ، وعن ابن زيد برقم: (36886) ، وذكره ابن عطية (5/ 462) .

فهي عبارةٌ على أنَّه يفعلُ كلَّ شيءٍ، أي: يُبْدِىءُ كل ما يُبْدَأُ ويُعِيدُ كلَّ مَا يُعَادُ، وهذانِ قسمانِ يستوفيانِ جميعَ الأشياءِ «1» ، والْجُنُودِ الجموع، وفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ في موضعِ خفضٍ على البدلِ من الجنودِ، ثم تركَ القولَ بحالِهِ، وأضْرَبَ عنه إلى الإخبارِ بأن هؤلاء الكفارَ بمحمدٍ وشرعِه لا حجةَ لهم ولا برهانَ بلْ هُو تكذيبٌ مُجرَّدٌ سببُه الحسَدُ، ثم تَوَعَّدَهم سبحانَه بقوله: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي: عذابُ اللَّهِ ونقمتُه مِن ورائهم، أي: يأتي بَعْدَ كفرِهم وعِصْيانهم، وقَرأ الجمهورُ: «في لوح محفوظٍ» بالخفضِ صفةً ل «لوح» وقرأ نافعٌ «2» : «محفوظٌ» بالرفعِ، أي: محفوظ في القلوبِ لاَ يدركُه الخطأ والتبديل.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 462) . (2) ينظر: «السبعة» (678) ، و «الحجة» (6/ 396) ، و «إعراب القراءات» (2/ 458) ، و «معاني القراءات» (3/ 136) ، و «شرح الطيبة» (6/ 106) ، و «العنوان» (206) ، و «حجة القراءات» (757) ، و «شرح شعلة» (621) ، و «إتحاف» (2/ 601) .

تفسير سورة"والطارق"

تفسير سورة «والطّارق» وهي مكّيّة بلا خلاف [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) أقسم اللَّهُ تعالى بالسماءِ المعروفةِ في قول الجمهور، وقِيل: السماءُ هنا هو المطرُ، وَالطَّارِقِ: الذي يأتي ليلاً، ثم فسَّر تعالى هذا الطارقَ بأنَّه: النَّجْمُ الثَّاقِبُ واخْتُلِفَ في النَّجْمُ الثَّاقِبُ فقال الحسنُ/ بن أبي الحسن ما معناه أنه اسمُ جنسٍ لأنها كلَّها ثاقِبة، أي: ظاهرة الضوء، يقال: ثَقُبَ النجمُ إذا أضاء «1» ، وقال ابن زيد: أرادَ نَجماً مخصوصاً وهو زُحَلُ «2» ، وقال ابن عباس: أراد الجَدْيَ «3» ، وقال ابن زيد أيضاً: هو الثُّرَيّا «4» ، وجَوابُ القسم في قوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ ... الآية، و «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلةِ، واللامُ في «لَمَّا» لامُ التأكيدِ الداخلةِ على الخبرِ هذا مذهبُ حُذَّاقِ البصريين، وقال الكوفيون «إنْ» بمعنى «ما» النافيةِ، واللامُ بمعنى «إلا» فالتقديرُ: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها حافظٌ، ومعنى الآيةِ فيما قال قتادة وغيره: إنَّ على كل نفسٍ مكلَّفَةٍ حافظاً يُحْصِي أعمالَها ويُعِدُّهَا للجزاءِ عليها «5» ، وقال أبو أمامة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في تفسير هذه الآية: «إنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ حَفَظَةً مِنَ اللَّهِ يَذُبُّونَ عَنْهَا كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ العَسَلِ الذُّبَابُ، وَلَوْ وُكِلَ المَرْءُ إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» . [سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 7] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 464) . (2) أخرجه الطبري (12/ 533) ، (36906) ، وذكره ابن عطية (5/ 464) . (3) ذكره ابن عطية (5/ 464) . (4) أخرجه الطبري (12/ 533) ، (36906) ، وذكره البغوي (4/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 560) ، وعزاه لابن جرير. (5) أخرجه الطبري (12/ 534) ، (36910) ، وذكره ابن عطية (5/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 560) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

[سورة الطارق (86) : الآيات 8 إلى 17]

وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ توقيفٌ لمنكرِي البعثِ على أصلِ الخِلْقَةِ الدالِّ على أن البعثَ جائزٌ ممكن، ثم بادَرَ اللفظَ إلى الجوابِ اقْتِضَاباً وإسْراعاً إلى إقامَةِ الحجة، فقال: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ قال الحسن وغيره: معناه: من بينِ صلبِ كلِّ واحدٍ من الرجلِ والمرأةِ، وترائِبِه «1» ، وقال جماعةُ: من بينِ صلبِ الرجل وترائب المرأةِ [والتَرِيبَةُ من الإنسان: ما بين التَّرْقُوةِ إلى الثدي، قال أبو عبيدة مُعَلَّقُ الحَلْيِ إلى الصَّدْرِ، وقيل غير هذا «2» . [سورة الطارق (86) : الآيات 8 الى 17] إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) وقوله تعالى: إِنَّهُ] «3» عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال ابن عباس وقتادة: المعنى أن اللَّهَ عَلى ردِّ الإنسانِ حيًّا بعد موتهِ لقادرٌ «4» ، وهذا أظهر الأقوال هنا وأبينها، ودافِقٍ قال كثير من المفسرين: هو بمعنى مَدْفُوقٍ، والعاملُ في يَوْمَ الرَّجْع من قولهِ: عَلى رَجْعِهِ. وتُبْلَى السَّرائِرُ معناه تُخْتَبَرُ وتكشَفُ بواطنُها، ورَوَى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن/ السرائرَ التي يَبْتَلِيهَا اللَّه من العباد: التوحيدُ، والصلاةُ، والزكاةُ، والغُسْلُ من الجنَابةِ، قال ع «5» : وهذهِ معظَمُ الأمرِ، وقال قتادة: الوجهُ في الآيةِ العمومُ في جميعِ السرائرِ» ، ونَقَلَ ابنُ العربي في «أحكامِه» عن ابن مسعود: أنَّ هذه المذكوراتِ [مِنَ] الصلاةِ والزكاةِ والوضوءِ والوديعةِ كلَّها أمَانَةٌ، قال: وأَشَدُّ ذلكَ الوديعةُ تَمْثُلُ له، أي: لمن خَانَها على هيئَتِها يوم أخَذَها فَتُرْمَى في قَعْر جهنمَ، فيقالُ له: أخْرِجْها، فيتبعُها فيجعلُها في عنقهِ فإذا أراد أن يخرجَ بهَا زَلَّتْ منه فيتبعُها فهو كذلكَ دَهْرَ الداهرينَ، انتهى، ت: قال أبو عبيد الهروي: قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ الواحدةُ سَرِيرَةٌ وهي الأعمالُ التي أسرَّهَا

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 465) . (2) ذكره ابن عطية (5/ 465) . (3) سقط في: د. (4) أخرجه الطبري (12/ 537) ، (36937) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 473) ، وابن عطية (5/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 561) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه. [.....] (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 466) . (6) ذكره ابن عطية (5/ 466) .

العباد، انتهى، والرَّجْعِ المطرُ وماؤُه، وقال ابن عباس: الرجعُ: السحابُ فيه المطرُ «1» ، قال الحسنُ: لأنه يَرْجِعُ بالرزقِ كلَّ عامٍ «2» ، وقال غيرُه: لأنه يرجع إلى الأرض، والصَّدْعِ النباتُ لأن الأرضَ تَتَصَدَّعُ عنْه، والضمير في إِنَّهُ للقرآن، وفَصْلٌ معناه: جزم فصل الحقائق من الأباطيل، والهزل اللعِبُ الباطلُ، ثم أخبر تعالى عن قريش أنهم يكيدون في أفعالهم وأقوالهم بالنبي ع، وأَكِيدُ كَيْداً وهذا على مَا مَرَّ من تسمية العقوبة باسم الذنب، ورُوَيْداً معناه: قليلاً قاله قتادة «3» ، وهذهِ حالُ هذهِ اللفظة إذا تقدمَها شيءٌ تَصِفُه كقولك: سيراً رويداً، أو تقدمَها فعل يَعْملُ فيها كهذهِ، وأما إذا ابتدأتَ بها فقُلْتَ: رويداً يا فلان فهي بمعنى الأمر بالتَمَاهُلِ، - ص-: رُوَيْداً قال أبو البقاء: نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إمْهَالاً رُوَيْداً، و «رويداً» تَصْغِيرُ «رَوْدٍ» وأنشَد أبو عُبَيْدَةَ: [البسيط] يَمْشِي ولاَ تَكْلِمُ البَطْحَاءَ مِشْيَتُهُ ... كَأَنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوْدِ أي: على مَهْلٍ ورفق، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 538) ، (36944) ، وذكره ابن عطية (5/ 466) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 498) . (2) أخرجه الطبري (12/ 538) ، (36947) ، وذكره ابن عطية (5/ 466) . (3) أخرجه الطبري (12/ 541) ، (36967) ، وذكره ابن عطية (5/ 467) .

تفسير سورة"الأعلى"

تفسير سورة «الأعلى» وهي مكّيّة في قول الجمهور [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَبِّحِ في هذه الآية بمعنى: نَزِّه وقَدِّسْ وَقُلْ: جَلَّ سبحانَه عن النقائِص والغَيْرِ جميعاً، وروى ابن عبّاس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية، قالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى» «1» ، وكان ابن مسعودِ وابنُ عمرَ وابنُ الزبيرِ يفعلون ذلك، ولما نَزَلَتْ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُم» «2» ، وعن سلمةَ بنِ الأكوع قال: ما سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَفْتِحُ دُعَاءً إلاَّ استفتحه ب «سُبْحَان رَبِّيَ الأعلى الوهَّاب» «3» رواه الحاكم في «المستدركِ» ، وقال: صحيحُ الإِسناد، انتهى من «سلاح المؤمن» . و «سُوًى» معناه: عَدَّلَ وأتْقَنَ. وقوله: فَهَدى عامٌّ لوجوهِ الهداياتِ في الإنسانِ والحيوانِ، وقال الفراء: معناه هَدَى وأضَلَّ والعمومُ في الآيةِ أصوبُ، والْمَرْعى: النباتُ، و «الغُثَاء» : مَا يَبِسَ وجَفَّ وتَحَطَّمَ من النباتِ وهو الذي يحمله السيلُ، و «الأَحْوَى» قيلَ هو الأَخْضَرُ الذي عليه سَوَادٌ من شدَّةِ الخُضْرَةِ والغَضَارة، فتقديرُ الآيةِ: الذي أخْرَجَ المَرْعى أحوَى أي أسْوَدَ من خضرتهِ وغَضَارَتِه فجعَله غُثَاءً عِنْدَ يُبْسِه ف أَحْوى: حالٌ، وقال ابن عباسٍ: المعنى: فجعله غُثَاءً أحْوَى أي أسْوَدَ لأن الغُثَاءَ إذا قَدِمَ وأصابته الأمطار اسودّ وتعفّن

_ (1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 566) . (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 498) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 إلى 7]

فصار أحوى، فهذا صفة «1» . [سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 7] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وقولُهُ تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال الحسنُ وقتادة ومالك بن أنس: هذه الآيةُ في معنى قوله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ... [القيامة: 16] الآية، وَعَدَهُ اللَّه أنْ يُقْرِئَه وأخبرَه أنه لاَ يَنْسى نِسْياناً لا يكونُ بعدَه ذِكر «2» ، وقيل: بلِ المعنى: أنه أمره تعالى بأنْ لا يَنْسَى على معنى التَّثْبِيتِ والتأكيدِ، وقال الجنيد: معنى فَلا تَنْسى لاَ تَتْرُكِ العمَلَ/ بما تَضَمَّنَ مِنْ أمْرٍ ونهي. وقوله تعالى: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قال الحسنُ وغيرهُ: معناه: مما قَضَى اللَّهُ بِنَسْخِه ورَفْعِ تلاوتِه وحُكْمه «3» ، وقال ابن عباس: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ: أنْ يُنْسِيَكَهُ لِيُسَنَّ بهِ «4» على نَحْوِ قولِه- عليه الصَّلاةُ والسلام-: «إنِّي لأنسى أوْ أنسى لأَسُنَّ» . قَالَ ع «5» : ونسيان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ممتنعٌ فيما أُمِرَ بتبليغهِ إذ هُو معصومٌ فإذا بَلغَهُ وَوَعَى عنه فالنسيانُ جائِزٌ على أن يَتَذَكَّرَ بعدَ ذلك، أو على أنْ يسنّ، أو على النسخ. [سورة الأعلى (87) : الآيات 8 الى 13] وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) وقوله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معناه: نَذْهَبُ بك نحوَ الأمورِ المُسْتَحْسَنَةِ في دنياكَ وَأُخْرَاكَ من النَّصْرِ والظَفَرِ، ورِفعةِ الرسالةِ وعلو المنزلةِ يومَ القيامةِ، والرفعةِ في الجنة، ثم أمرَه تعالى بالتَّذكيرِ، قال بعضُ الحذَّاقِ: قوله تعالى: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى اعْتِرَاضٌ بَينَ الكلامينِ على جِهَةِ التوبِيخِ لقريشٍ، ثم أخبرَ تعالى أنّه سَيَذَّكَرُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ والدارَ الآخِرَةِ وهمُ العلماءُ والمؤمنونَ، كُلٌّ بقدْرِ ما وُفِّقَ له، ويَتَجَنَّبُ الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 544) ، (36977) ، وذكره ابن عطية (5/ 468) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 500) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 566) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه. (2) أخرجه الطبري (12/ 545) عن قتادة، برقم: (36982) ، وابن عطية (5/ 469) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 500) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 567) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة. (3) أخرجه الطبري (12/ 545) ، (36981) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (5/ 469) . (4) ذكره أبو حيان (8/ 453) ، وذكره ابن عطية (5/ 469) . (5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 469) .

[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 إلى 19]

[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) وتَزَكَّى معناه: طَهَّرَ نَفْسَه ونماها بالخيرِ، ومِنَ «الأربعين حديثاً» المسندةِ لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري الإمامِ المحدثِ قال في آخرها: وحديثُ تمامِ الأربعينَ حديثاً وهو حديثٌ كبيرٌ جامعٌ لكلِّ خيرٍ حدَّثنا أبو بكرٍ جعفرُ بنُ محمدٍ الفِرْيَابِيُّ إملاءً في شهر رجب سنةَ سبعٍ وتسعينَ ومائتين قال: حدثنا إبراهيمُ بنُ هشامِ بنِ يحيى الغسانيّ قال: حدثني أبي عن جَدِّي عن أبي إدريسَ الخَوْلاَنِيِّ عَن أَبي ذَرٍّ قال: «دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإذَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم جَالِسٌ، فَجَلَسْتُ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةٌ، وَتَحِيَّتُهُ رَكْعَتَانِ قُمْ فَارْكَعْهُمَا، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعْتُهُما، جَلَسْتُ إلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاَةِ، فَمَا الصَّلاَةُ؟ / قالَ: خَيْرٌ مَوْضُوعٌ، فاستكثر أَوِ استقلل» الحديثَ، وفيهِ: «قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ كِتَاباً أَنْزَلَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-؟ قَالَ: مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ أَنْزَلَ اللَّهُ: عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى خَانُوخَ ثَلاَثينَ صَحِيفَةً، وعلى إبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وأَنْزَلَ عَلَى موسى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ، وأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، وَالإنْجِيلَ، والزَّبُورَ، وَالفُرْقَانَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَتْ صُحُفُ إبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالاً كُلُّها: أَيُّهَا المَلِكُ المُسَلَّطُ المُبْتَلَى المَغْرُورُ، إنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا على بَعْضٍ، ولكني بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ من كافر، وكان فيها أمثال: وعلى بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ، وَكَانَ فِيهَا أَمْثَالٌ: وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ في صُنْعِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- إلَيْهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لَحَاجَتِهِ مِنَ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ، وَعَلَى العَاقِلِ أَلاَّ يَكُونَ ظَاعِناً إلاَّ لِثَلاَثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعادٍ، أو مَؤُونَةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ في غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمَانِهِ، مُقْبِلاً على شَانِهِ، حَافِظاً للِسَانِهِ، وَمَنْ حَسِبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلاَمُهُ إلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولِ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَراً كُلُّهَا: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، وَعَجِبْتُ لِمَن رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَها بِأَهْلِهَا ثُمَّ اطمأن إلَيْهَا، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غدا ثمّ لا يعمل، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ في أَيْدِينَا شَيْءٌ مِمَّا كَانَ في أَيْدِي إبْرَاهِيمَ وموسى مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، اقْرأْ يَا أَبَا ذَرٍّ «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا إلى آخِرِ هذه/ [السورةِ- يعني: أنَّ ذِكْرَ هذه الآيَاتِ لَفِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وموسى- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَوْصِنِي، قَال: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ- فَإنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي قَالَ: عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ القُرْآنَ وَذِكْرِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- فَإنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ في السّماء

وَنُورٌ لَكَ في الأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنِي، قَالَ: وَإيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإنَّهُ يُمِيْتُ القَلْبَ، ويَذْهَبَ بِنُورِ الْوَجْهِ، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِالجَهَادِ فِإنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ فَإنَّهُ مَطْرَدَةٌ للشَّيْطَانِ وَعَوْنٌ لَكَ على أَمْرِ دِينِكَ» «1» انتهى. وقوله تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أي: وَحَّدَهُ وَصلَّى له الصلواتِ المفروضةَ وغيرَها، وقال أبو سعيد الخدري وغيره: هذه الآيةُ نزلتْ في صَبِيحَةِ يومِ الفِطْرِ «2» ، ف تَزَكَّى: أدَّى زكاةَ الفِطْرِ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ في طريق المُصَلَّى، وصَلَّى صلاةَ العِيد، ثم أخْبَرَ تعالى الناسَ أنهم يؤثِرُونَ الحياةَ الدنيا، وسَبَبُ الإيثارِ حُبُّ العَاجِلِ والجهلُ ببقاءِ الآخرةِ وفَضْلِها، ورَوِّينَا في كتابِ الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استحيوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحياءِ، قَالَ: فقلنا: يَا رسولَ اللَّهِ، إنَّا نَسْتَحِي وَالحَمْدُ للَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، ولكن الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وعى، وَتَحْفَظَ البَطْنَ وَمَا حوى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ والبلى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَركَ زِينَةَ الدّنْيَا، فَمَنْ فَعَل ذَلكَ فَقَدْ استحيا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاء» «3» انتهى، قال الغَزَّاليُّ: وإيثارُ الحياةِ الدنيا طَبْعٌ غالبٌ على الإنسانِ ولذلك قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ثمَّ بَيَّنَ سبحانه أن الشَّرَّ قَدِيمٌ في الطباعِ وأن ذلكَ مذكورٌ في الكتُبِ السالِفَة فقال: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى، انتهى من «الإحياء» .

_ (1) تقدم تخريجه. [.....] (2) ذكره ابن عطية (5/ 470) . (3) أخرجه الترمذي (4/ 637) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (24) (2458) ، وأحمد (1/ 387) ، والحاكم (4/ 323) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 209) ، والشجري في «الأمالي» (2/ 196- 197) ، والطبراني في «معجمه الكبير» (10/ 10290) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. قال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمّد اهـ. قال المزي في «تهذيب الكمال» (2/ 5) : قال أحمد بن محمّد بن القاسم بن محرز البغدادي، عن يحيى بن معين: ليس به بأس، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: ثقة. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك اهـ من «تهذيب الكمال» ، وقال أيضا عن الصباح بن محمّد بن أبي حازم البجليّ (13/ 110) من «تهذيب الكمال» : روى له الترمذي حديثا واحدا عن مرة عن ابن مسعود: «استحيوا من الله حق الحياء» . وقال: غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. اهـ. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وللحديث شاهد من حديث الحكم بن عمير، أخرجه الطبراني (3/ 246) ، (3192) . قال الهيثمي في «المجمع» (10/ 278) : رواه الطبراني وفيه عيسى بن إبراهيم القرشي، وهو متروك.

وقوله تعالى: إِنَّ هذا قال ابن زيد: الإشارَة ب «هَذَا» إلى هذينِ الخبرينِ: إفْلاحِ مَنْ تَزكّى، وإيثارِ الناسِ للدنيا مَعَ فَضْلِ الآخرة عليها، وهذا هو الأرجَحُ لقرب المشارِ إليه «1» ، وعن أُبيِّ بن كعب قال: كانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأُ في الْوِتْرِ ب «سبح اسم ربك الأعلى» و «قل يا أيها الكافرون» و «قل هو اللَّه أحد» فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يَمُدُّ صَوْتَهُ في الثَّالِثَةِ، ويَرْفَعُ، رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه، ورَواهُ الدارقطني في سُنَنِهِ، ولفْظُه: «فَإذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ المَلِكِ الْقُدُّوسِ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ في الأخِيرَةِ، وَيَقُولُ: رَبِّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ» ، انتهى من «السلاح» ،، قالَ النووي ورُوِّينَا في «سُنَنِ أبي داود» و «الترمذي» و «النسائي» عن علي- رضي اللَّه عنه- أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في آخر وِتْرِهِ: «اللهمَّ إني أعوذُ برضاكَ من سَخَطِكَ، وأعوذ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوْبَتِكَ، وأعوذ بك منكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» «2» قال الترمذيّ: حديث حسن، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 549) ، (37001) ، وذكره ابن عطية (5/ 471) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 502) بنحوه. (2) تقدم تخريجه.

تفسير سورة"الغاشية"

تفسير سورة «الغاشية» وهي مكّيّة بإجماع [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) قال بعض المفسرين: هَلْ بمعنى «قَدْ» وقال الحُذَّاق: هي على بابها توقيفٌ فائِدتُه تَحْرِيكُ نفس السامع إلى تلقّي الخبر، والْغاشِيَةِ القيامة، لأنها تَغْشَى العالَم كلَّه بهَوْلِها، والوجوهُ الخاشعةُ هي وجوهُ الكُفَّارِ وخشوعُها ذلُّها وتغييرُهَا بالعذاب. [سورة الغاشية (88) : الآيات 3 الى 10] عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) وقوله سبحانه: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال الحسن وغيره: لم تعملْ للَّهِ في الدنيا فأعْمَلَهَا وأَنْصَبَها في النارِ، والنَّصَبُ التَّعبُ «1» ، وقال ابن عباس وغيره: المعنى عاملَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ فِيها على غير هُدًى فَلا ثَمَرَةَ لَعملِها، إلا النَّصَبُ، وخاتمتُه النارُ «2» ، قالوا: والآية في القِسِّيسينَ وكلِّ مجتهدٍ في كُفْرٍ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو «تُصْلَى» - بضم التاءِ والباقونَ بفتحها «3» - والآنيةُ: التي قد انتَهى حرُّها كما قال تعالى وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] وقال ابن زيد: آنية: حَاضِرَة «4» ، والضريعُ: قال الحسن وجماعةً: هو الزَّقُّوم «5» ، وقال ابن عباسٍ وغيره: الضريع شبرق النار «6» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم الضريع شوك

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 551) (37010) ، وذكره البغوي (4/ 478) بنحوه. (2) ذكره البغوي (4/ 478) . وذكره ابن عطية (5/ 472) . (3) ينظر: «السبعة» (681) ، و «الحجة» (6/ 399) ، و «إعراب القراءات» (2/ 469) ، و «معاني القراءات» (3/ 140) ، و «شرح الطيبة» (6/ 109) ، و «العنوان» (20) ، و «حجة القراءات» (759) ، و «شرح شعلة» (622) ، و «إتحاف» (2/ 605) . (4) أخرجه الطبري (12/ 552) ، (37020) ، وذكره ابن عطية (5/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 573) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (5) ذكره ابن عطية (5/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 573) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. (6) أخرجه الطبري (12/ 552) ، (37021) ، وذكره البغوي (4/ 478) ، وابن عطية (5/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 573) ، وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عبّاس.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 11 إلى 13]

في النارِ، ت: وهذا إنْ صَحَّ فلا [يُعْدَلُ] عنه، وقيل غير هذا، ولما ذَكَر تعالى وجوهَ أهلِ النار عَقَّبَ ذلك بذكرِ وجوه أهل الجنة ليبيَّنَ الفرقَ، وقولُه تعالى: لِسَعْيِها يريدُ لَعَمَلِهَا في الدنيا وطاعتها، والمعنى لِثَوابِ سَعْيِها والتَّنْعِيمُ عليه، ووصفَ سبحانَه الجنةَ بالعُلُوِّ وذلك يصحُّ من جهة المسَافَةِ والمكانِ، ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا. [سورة الغاشية (88) : الآيات 11 الى 13] لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) لاَّ تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قيل: المعنى كلمةُ لاغيةٌ، وقيل جماعةٌ لاغية، أو فِئَة لاغيةٌ، واللَّغوُ سَقَطُ القَوْلِ، قال الفخر «1» : قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي عاليَة في الهواء وذلك لأجل أن يَرَى المؤمن إذا جلسَ عليها جميعَ ما أعطاه اللَّه تعالى في الجنةِ من النعيمِ والمُلْكِ، قال خارجة بن مصعب: بلغَنَا أن بعضَها فَوقَ بعضٍ فترتفعُ ما شاءَ اللَّه فإذا جَاء وليُّ اللَّهِ ليجلسَ عليها تَطَامَنَتْ له فإذا استَوَى عليهَا ارْتَفَعَتْ إلى حيثُ شاءَ اللَّه سبحانه، انتهى. [سورة الغاشية (88) : الآيات 14 الى 22] وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ أي: بِأَشْرِبتِها مُعَدَّةٌ، والنَمْرَقَةُ: الوسادةُ، والزَّرَابِيُّ: واحدها زُرْبِيَّةٌ، وهي كالطَّنَافِسِ لها خَمْلٌ قاله الفراء «2» ، وهي ملوّنات ومَبْثُوثَةٌ معناه كثيرةٌ متفرقة، ثم وقفَهم سبحانه على مواضع العبرة في مخلوقاته، والْإِبِلِ في هذه الآيةِ هي الجِمالُ المعروفةُ هذا قول الجمهور، وفي الجَمَلِ آياتٌ وعبر لِمَن تَأمَّلَ، / وكان شُرَيْحُ القاضي يقول لأصحَابِهِ: اخْرُجُوا بنا إلى الكِنَاسَةِ، حتى ننظرَ إلى الإبل كيف خلقتْ «3» ، وقال المبردُ: الإبلُ هُنَا السحابُ لأَنَّ العربَ قد تسميها بذلك، إذ تأتي أرسالا كالإبل، ونُصِبَتْ: معناه: أُثْبِتَتْ قائِمَةً في الهواءِ، وظاهرُ الآية أنّ الأرْضَ سَطْحٌ لا كرةٌ «4» ، وهو الذي عليه أهلُ العلمِ، وقد تقدم الكلامُ على هذا المعنى، ثم نَفَى أن يكونَ النبي صلّى الله عليه وسلّم مُصَيْطِراً على الناسِ، أي: قاهرًا جابراً لهم مع تكبّر متسلّطا عليهم.

_ (1) ينظر: «الفخر الرازي» (31/ 142) . (2) ذكره البغوي (4/ 479) ، وابن عطية (5/ 474) . (3) أخرجه الطبري (12/ 556) ، (37044) ، وذكره البغوي (4/ 480) ، وابن عطية (5/ 474) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 503) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 575) ، وعزاه لابن حميد عن شريح بنحوه. (4) وهو الذي تراه العين ظاهرا، ولا يخفى أن حقيقة الأرض بيضاوية. [.....]

[سورة الغاشية (88) : الآيات 23 إلى 26]

[سورة الغاشية (88) : الآيات 23 الى 26] إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قال بعض المتأولين: الاستثناءُ متصلٌ، والمعنى: إلا مَنْ تولى فإنَّكَ مُصَيْطِرٌ عليه، فالآيةُ على هذا لا نَسْخَ فيهَا، وقال آخرون: الاستثناء مُنْفَصِلٌ، والمعنى: لست عليهم بمصيطرٍ لَكِنَّ مَنْ تَولَّى وكفر فيعذبُه اللَّه، وهِي آيةُ مُوَادَعَةٍ مَنْسُوخَةٌ بالسَّيْفِ وهذا هُو القولُ الصحيحُ لأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ والقِتَالُ إنَّما نَزَلَ بالمدينةِ- ص-: وقرأ زيد بن أسْلَم: «إلا من تولّى» : حرف تنبيه واستفتاحٍ، انتهى، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : روى الترمذيُّ وغيره أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إله إلاَّ اللَّه، فإذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دَمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» «1» ، ثم قرأ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ مفسِّراً معنى الآيةِ وكاشفاً خفاءَ الخفاءِ عنها، المعنى: إذا قال الناسُ: لا إله إلا اللَّه فَلَسْتَ بمسلَّطٍ على سَرَائرِهم وإنما عَلَيْكَ الظاهِرُ، وَكِلْ سرائرَهم إلى اللَّه تعالى، وهذا الحديثُ صحيحُ المعنى، واللَّه أعلم، انتهى،، وإِيابَهُمْ: مصدر من آب يؤوب: إذا رجع.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 558) ، (37057) ، وذكره البغوي (4/ 481) ، وابن عطية (5/ 476) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 578) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.

تفسير سورة"الفجر"

تفسير سورة «الفجر» وهي مكّيّة عند الجمهور، وقيل: مدنيّة، والأوّل أصحّ وأشهر [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) الفَجْرُ هنا عند الجمهور: هو المشهورُ المعروفُ الطالِعُ كلَّ يومٍ، وقال ابن عباس وغيره: الفجرُ الذي أقسَم اللَّه به صلاةُ الصبحِ، وقيل غيرُ هذا. [واخْتُلِفَ في الليالي العشرِ فقيلَ: العشرُ الأُوَلُ مِنْ رمضانَ، وقيلَ: العشرُ الأواخِر منه، وقيل: عَشْرُ ذي الحجةِ، وقيل: غيرُ هذا] «1» واللَّه أعلم بما أراد، فإن صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيءٌ في هذا صِيْرَ إليْهِ، واخْتُلِفَ في «الشَّفْعِ وَالْوتر» ما هما؟ على أقوالٍ كثيرةٍ، وروى عمران بن حصين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هي الصلواتُ منها الشَّفْعُ ومنها الوَتْرُ» «2» ، وسري الليل: هو ذهابُه وانقراضُه هذا قولُ الجمهورِ، وقيل: المعنى: إذا يسرى فيه. [سورة الفجر (89) : الآيات 5 الى 14] هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي: هل في هذه الأقسامِ مُقْنِعٌ لذي عقل؟ ثم وقَفَ تعالى عَلى مصارِعِ الأُمَمَ الخاليةِ «وعاد» : قبيلة بِلاَ خلافٍ، واختلفَ في: «إرَمِ» فقال

_ (1) سقط في: د. (2) أخرجه الترمذي (5/ 440) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الفجر (2342) ، وأحمد (4/ 438) ، (4/ 442) ، والطبراني (18/ 232) ، والحاكم (2/ 522) . قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث قتادة. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

مجاهدٌ: هي القبيلةُ بعَيْنِها «1» ، وقال ابن إسحاق: إرم: هو أبو عادٍ كلِّها «2» ، وقال الجمهور: إرم: مدينةٌ لهم عظيمةٌ كانَتْ عَلَى وجهِ الدَّهْرِ باليَمَنِ، واخْتُلِفَ في قوله تعالى: ذاتِ الْعِمادِ فمن قال: إرم مدينةٌ قال: العمادُ أَعْمِدَة الحجارةِ التي بُنِيَتْ بها، وقيلَ القُصورُ العالية، والأبراجُ يقال لها عِمَادٌ، ومَنْ قَال إرم قبيلةٌ قال: العماد إما أَعْمِدَةُ بنيانهم، وإما أَعْمِدَةُ بيوتِهم التي يَرْحَلُونَ بها قاله جماعةٌ والضميرُ في مِثْلُها يعودُ إما على المدينة وإما على القبيلة. وجابُوا الصَّخْرَ معناه: خَرَقُوه ونَحَتُوه، وكَانُوا في وادِيهم قد نحتوا بيوتهم في حجارة، وفِرْعَوْنَ هو فِرْعَونُ مُوسىَ، واختلِفَ في أوتادهِ فقيل: أبنيتُه العاليةُ، وقيلَ جنودُه الذينَ بهم يُثَبِّتُ ملكَه، وقيل/ المرادُ أوتادُ أخبيةِ عساكرهِ، وذُكِرَتْ لكثرتِها قاله ابن عباس «3» ، وقال مجاهد: كان يُوتِدُ الناس بأوتادِ حديدٍ، يَقْتلُهُم بذلك: يَضْرِبُها في أَبْدَانِهمْ حَتَّى تنْفُذَ إلى الأرضِ «4» ، وقيلَ: غيرُ هذا، والصَّبُّ مستعملٌ في السوطِ وإنما خُصَّ السوطُ بأنْ يُسْتَعَارَ للعذابِ لأنه يقتضِي من التَّكْرارِ والتَّرْداد ما لا يقتضيه السيفُ، ولاَ غيرُه وقال بعض اللَّغويينَ: السَّوْطُ هنا مصدرٌ من سَاطَ يَسُوطُ إذَا خَلَطَ فكأَنه قال خَلْطُ عَذَابٍ. - ص-: قال ابن الأنباري: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ هُو جوابُ القَسَمِ، وقيل: محذوف، وقيل: الجواب، هَلْ فِي ذلِكَ وهَلْ بمعنى «إنّ» وليس بشيء، انتهى، والمرصاد والمَرْصَدُ: مَوْضِعُ الرَّصْدِ، قاله بعض اللغويين، أي: أَنَّه تعالى عنْدَ لسانِ كل قائلٍ ومَرْصَدٍ لكلِّ فاعلٍ، وإذا عَلِمَ العبدُ أَنَّ مولاه له بالمرصادِ ودَامَتْ مراقبتُه في الفؤادِ، حَضَره الخوفُ والحذُر لا محالةَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235] قال أبو حامد في «الإحياء» : وبحسبِ معرفةِ العبد بِعيوبِ نفسهِ، ومعرفتهِ بجلالِ ربه وتعالِيه واستغنائِه، وأنه لا يُسْأَلُ عما يفعلُ تَكُونُ قوةُ خوفِه، فأخوفُ الناسِ لربه أعرفُهم بنفسِهِ وبربهِ، ولذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أخوفُكم للَّه» ، ولذلكَ قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ثم إذا كَمُلَتِ المعرفةُ أورثتِ الخوفَ واحْتراقَ القلبِ، ثم

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 477) . (2) أخرجه الطبري (12/ 567) ، (37130) ، وذكره البغوي (4/ 482) ، وابن عطية (5/ 477) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 507) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 583) ، وعزاه لابن المنذر عن السدي. (3) ذكره ابن عطية (5/ 478) . (4) أخرجه الطبري (12/ 570) ، (37150) ، وذكره ابن عطية (5/ 478) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 508) بنحوه.

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 21]

يُفِيضُ أَثَرُ الحُرْقَةِ من القلبِ على البَدَنِ فَتَنْقَمِعُ الشهواتُ، وتحترقُ بالخوفِ، ويحصُلُ في القلب الذبولُ والخشوعُ والذِّلَةُ والاستكانةُ، ويصيرُ العبدُ مستوعبَ الهَمِّ بخوفِه والنظرِ في خطرِ/ عاقبتِه فلا يتفرغُ لغيرهِ، ولا يكونُ له شُغْل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضّنّة بالأنفاس واللحظاتِ، ومؤاخَذَةِ النفسِ في الخَطَراتِ والخُطُواتِ والكلماتِ، ثم قال: واعْلَمْ أنه لاَ تَنْقَمِعُ الشهواتُ بشيء كما تنقمع بنار الخوف، انتهى. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 21] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وقوله سبحانه: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ... الآية، ذَكَرَ تَعالى في هذهِ الآيةِ ما كانتْ قريشٌ تقولُهُ وتستدلُّ به على إكرامِ اللَّه وإهانَتِهِ لعبدهِ، وجَاءَ هذا التوبيخُ في الآيةِ لجنس الإنسان، إذ قد يقعُ بعضُ المؤمنينَ في شيء من هذا المَنْزَع، وابْتَلاهُ معناه: اختبره، ونَعَّمَهُ أي جعله ذا نعمة. و «قدر» بتخفيفِ الدال بمعنى: ضَيَّقَ، ثم قال تعالى: كَلَّا ردّاً على قولهِم ومعتقدهم، أي: ليس إكرامُ اللَّهِ تعالى وإهانتُه كذلِكَ، وإنما ذلك ابتلاءٌ فَحَقُّ من ابتلي بالغنى أن يشكرَ ويطيعَ، ومَنْ ابْتُلِيَ بالفَقْرِ أن يشكرَ ويصبرَ، وأما إكرامُ اللَّه فهو بالتقوى وإهانَتُهُ فبالمعصيةِ، وطَعامِ في هذهِ الآيةِ بمعْنَى: إطعام، ثم عدَّدَ عليهم جِدَّهم في أكل التراثِ، لأنهم كانوا لا يُورِّثُونَ النِّسَاءَ ولاَ صغارَ الأولادِ، وإنما كان يأخُذُ المالَ مَنْ يقاتِلُ ويَحْمِي الحَوْزَةَ، و «اللَّمُّ» الجَمْعُ واللَّفُّ، قال الحسن: هو أَن يأْخُذَ في الميراثِ حظَّه وحظَّ غيرِه «1» ، والجَمُّ الكثيرُ الشديدُ ومنه قول الشاعر: [الرجز] إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لَكَ لاَ أَلَمَّا «2» ومنه الجَمُّ من الناس، ودكّ الأرض تسويتها. [سورة الفجر (89) : الآيات 22 الى 23] وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23)

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 574) ، (37171) ، وذكره ابن عطية (5/ 480) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 586) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن بنحوه. (2) تقدم.

[سورة الفجر (89) : الآيات 24 إلى 30]

وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ معناه جَاءَ أَمرُهُ وقضاؤه، وقال منذرُ بنُ سعيد: معناه ظهورُه للخَلْقِ، هنالك ليس مجيءَ نَقَلةٍ وكذلك مجيءُ الصاخَّةِ، ومجِيء الطامةِ «1» ، والمَلَكُ اسم جنس يريد به جميع الملائكة، وصَفًّا أي صُفُوفاً حولَ الأَرْضِ يوم القيامة على ما تقدم في غير هذا الموضع، وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ روي في قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ بأنها تساقُ إلى المحشر بسبعينَ ألفِ زمَامٍ يُمْسِكُ كلَّ زِمَامٍ سَبْعُونَ ألفَ ملك، فيخرج منها عنق فينتفي الجبابرةَ من الكفارِ، في حديثٍ طويلٍ باختلاف ألفاظ. وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ معناه: يتذكر عصيانَه وما فاتَه من العمل الصالحِ، وقال الثعلبي: «يومئذ يتذكر الإنسان» أي يتَّعِظُ ويتوب، «وأنى له الذكرى» ، انتهى. [سورة الفجر (89) : الآيات 24 الى 30] يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) وقوله: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي قال الجمهور: معناه لحياتي الباقيةِ يريدُ في الآخِرَةِ. فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذِّبُ كَعَذَابِ اللَّه أحَدٌ في الدنيا، ولا يُوثِقُ كَوَثَاقِه أحَد، ويحتمل المعنى أنَّ اللَّهَ تعالى لا يَكِلُ عذابَ الكافرِ يومئذ إلى أحد، وقرأ الكسائيُّ- بفتح الذالِ والثاءِ «2» - أي: لا يعذَّبُ كعذَابِ الكافر أحَدٌ مِنَ الناسِ، ثم عقَّبَ تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الآية، والمطمئنةُ معناه: الموقِنَةُ غايةَ اليقين، ألا ترى قول إبراهيم ع وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فهي درجةٌ زائدةٌ على الإيمانِ، واخْتُلِفَ في هذا النداءِ: متى يقع؟ فقال جماعة: عند خروجِ رُوح المؤمِن، وروي في ذلك حديث، وفِي عِبادِي أي: في عِدَاد عِبَادي الصالحينَ، وقال قوم: النداءُ عند قيام الأجْسَادِ من القبور، فقولُه: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ معناه بالبعثِ، و «ادْخُلِي في عِبَادي» أي في الأجْسَادِ، وقيل: النداء هو الآن

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 481) . (2) ينظر: «السبعة» (685) ، و «الحجة» (6/ 411) ، و «إعراب القراءات» (2/ 480) ، و «معاني القراءات» (3/ 145) ، و «شرح الطيبة» (6/ 111) ، و «العنوان» (209) ، و «حجة القراءات» (763) ، و «شرح شعلة» (624) ، و «إتحاف» (2/ 609) .

للمؤمنينَ، وقال آخرونَ: هذا النداء إنما هو في الموقف عند ما يُنْطَلَقُ بأهل النار إلى النار. ت: ولا مانِع/ أن يكونَ النداءُ في جميعِ هذه المواطِنِ، ولما تكلَّمَ ابن عطاء اللَّه في مراعاة أحوال النفس قال: رُبَّ صاحبِ وِرْدٍ عَطَّلَه عن وِرْدِهِ والحضورِ فيه مع ربه هَمُّ التدبيرِ في المعيشةِ وغيرِها من مصالحِ النفسِ، وأنواعُ وَسَاوِسِ الشيطان في التدبيرِ لا تَنْحَصِرُ، ومتى أعطاكَ اللَّه سُبحانه الفَهْمَ عنه عرَّفَكَ كَيْفَ تَصْنَع، فَأَيُّ عبدٍ توفَّر عقلُه واتَّسَعَ نورُه نزلت عليه السكينةُ من ربّه فسكنَتْ نفسُهُ عن الاضْطِرَابِ، وَوَثِقَتْ بِوَلِيِّ الأسبابِ، فكانت مطمئنةً، أي: خامِدَةً ساكنةً مستسلمةً لأحكامِ اللَّهِ ثابتةً لأقدارِهِ وممدودةً بتأييدِه وأنوارِه، فاطمأنَّتْ لمولاَها لعلمِها بأنه يَرَاهَا: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] فاستحَقَّتْ أن يقال لها: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً وفي الآية خصائصُ عظيمةٌ لَها مِنْها ترفيعُ شأنِها بتَكْنِيَتِها ومَدْحِها بالطَّمْأنينَةِ ثَنَاءً منه سبحانه عليها بالاستسلام إليه والتوكلِ عليه، والمطمئنُّ المنخفضُ من الأرضِ، فلما انخفضتْ بتَواضُعِهَا وانكسارِها أثْنَى عليها مولاَها، ومنها قوله: راضِيَةٍ أي: عن الله في الدنيا بأحكامه، ومَرْضِيَّةً في الآخرةِ بِجُودِهِ وإنعامِه، وفي ذلك إشارةٌ للعَبْدِ أَنَه لا يَحْصُل له أنْ يكونَ مَرْضِيًّا عند اللَّه في الآخرةِ حتى يكونَ راضِياً عن اللَّهِ في الدنيا، انتهى من «التنوير» .

تفسير سورة"البلد"

تفسير سورة «البلد» وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل مدنيّة [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) قوله تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ الكلامُ في لا تقدم في لاَ أُقْسِمُ [القيامة: 1] والبَلَدُ هو: «مكة» . وقوله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ قال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حَلاَلٌ بهذا البلد، يحلُّ لك فيه قَتْلُ من شئتَ، وكان هذا يومُ فَتْحِ مكة، وعلى هذا يتركبُ قولُ مَنْ قال: السورة مدنية نَزَلَتْ عَامَ الفتح «1» ، وقال آخرون: المعنى وأنْتَ حال ساكن بهذا البلد. [سورة البلد (90) : الآيات 3 الى 10] وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) وقوله تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال مجاهد: هو آدم وجميع ولدهِ «2» ، وقال ابن عباس: ما معناه أنّ الوالدَ والولدَ هنا على العمُومِ فهي أسماء جِنْسٍ يَدْخل فيها جميعُ الحيوانِ «3» ، والقَسَمُ واقع على قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال الجمهور: الإنْسَانُ اسم جنسٍ والكَبَدُ المشقةُ والمكَابَدَةُ، أي: يُكَابِد أمرَ الدنيا والآخرة، ورُوِيَ: أَن سببَ نزولِ هذه الآية رَجُلٌ من قريشٍ يقال له أبو الأَشَدِّ، وقيل نزلتْ في عمرو بن عبد ود،

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 585) ، (37231) ، وذكره ابن عطية (5/ 483) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 511) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه. (2) أخرجه الطبري (12/ 586) ، (37248) ، وذكره ابن عطية (5/ 483) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 511) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 593) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. (3) أخرجه الطبري (12/ 586) ، (37247) ، وذكره ابن عطية (5/ 483) . [.....]

وقال: مقاتل: نَزَلَتْ في الحارثِ بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَمَرَهُ بِالكَفَّارَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَهْلَكْتُ مَالاً في الكفارات وَالنفَقَاتِ، مُذْ تَبِعْتُ مُحَمَّداً، وَكَانَ كُلُّ واحد منهم قد ادعى أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالاً كَثِيراً على إفْسَادِ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَوْ في الكَفَّارَاتِ على مَا تَقَدَّمَ. وقوله: أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً أي: أنفقْتُ مالاً كثيراً، ومن قال: أَن المرادَ اسمُ الجِنْسِ غيرُ معينٍ، جَعَلَ قولَه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بمعنى: أيظُنُّ الإنسانُ أن لَيس عليه حفظةٌ يرون أعمالَه ويُحْصونَها إلى يوم الجزاء، قال السهيلي: وهذه الآيةُ وإن نزلتْ في أبي الأشد فإن الألفَ واللامَ في الإنسان للجنسِ، فيشتركُ مَعَهُ في الخِطابِ كلّ من ظن ظنه وفعل مثلَ فِعْلِه/ وعلى هذا أكثرُ القُرْآنَ، يَنْزِل في السَّبَبِ الخاصِّ بلفظِ عامٍ يتناولُ المَعْنَى العام انتهى، وخرَّج مسلم عن أبي برزة قَال: قال رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: لاَ تَزُولُ قَدَمَا العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِه فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ به، وَعَنْ مَالِهِ، مِنْ أَيْنَ اكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ» «1» ، وخرَّجه أيضاً الترمذيُّ وقال فيه: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ «2» ، انتهى، وقرأ الجمهور «3» : لُبَداً أي: كثيراً متلبِّداً بعضُه فوقَ بعضٍ، ثم عدَّدَ تعالى علَى الإنسانِ نَعَمَه في جوارِحه، والنَّجْدَيْنِ: قال ابن عباس والناسُ: هما طريقَا الخَيْرِ والشرِّ، أي: عَرَضْنَا عليه طريقَهما، وليستِ الهداية هنا بمعنى الإرْشَادِ «4» ، وقال الضحاكُ: النَّجْدَانِ ثَدْيَا الأمّ، وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع «5» .

_ (1) أخرجه الدارمي في «سننه» (1/ 135) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 286) (1785) . قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 349) : رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال الطبراني رجال «الصحيح» غير صامت بن معاذ، وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان. (2) أخرجه الترمذي (4/ 612) ، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (2416) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 276) ، (1784) ، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه. وفي الباب عن أبي برزة رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (4/ 612) ، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (2417) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (10/ 232) ، وأبو يعلى (13/ 428) ، (7434) . (3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 484) ، و «البحر المحيط» (8/ 470) ، و «الدر المصون» (6/ 525) . (4) أخرجه الطبري (12/ 591) ، (37293) ، وذكره ابن عطية (5/ 484) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 512) بنحوه. (5) أخرجه الطبري (12/ 591) (37307) ، وذكره البغوي (4/ 489) ، وابن عطية (5/ 484) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 595) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس رضي الله عنه.

[سورة البلد (90) : الآيات 11 إلى 16]

[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 16] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) وقوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الآية، قولهُ «فَلاَ» هو عند الجمهورِ تحضيضٌ بمعنى: ألا اقتحم، والعقبةُ في هذه الآيةِ عَلى عُرْفِ كلامِ العَرَبِ استعارةٌ لهذا العمل الشاقِّ على النفسِ، من حيثُ هو بِذَلُ مالٍ، تشبيهٌ بعقبة الجبل، واقْتَحَمَ: معناه: دَخَلَهَا وجَاوَزَها بسرعةٍ وضَغْط وشدة، ثم عَظَّم تعالى أمر العقبةِ في النفوس بقولهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ثمَّ فَسَر اقتحَامَ العقبةِ بقوله: فَكُّ رَقَبَةٍ الآية، وهذا على قراءةِ مَنْ قرأ: فَكُّ رَقَبَةٍ بالرفعِ على المَصْدَرِ وأما من قرأ: «فَكَّ رَقَبَةً أوْ أطْعَمَ» عَلَى الفعلِ، ونَصَبَ الرقبةَ، وهي قراءةُ أبي عمرِو «1» ، فليسَ يحتاجُ أن يُقَدَّرَ: وما أدرَاكَ ما اقتحامٌ بلْ يكونُ التعظيمُ للعقَبةِ نَفْسِها ويجيءُ فَكُّ بَدَلاً من اقْتَحَمَ ومبيَّناً لَه، وفَكُّ الرقَبةِ هو عَتْقُها من رِبْقَةِ الأسرِ أو الرِّقِّ، وفي الحديث/ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أعْتَقَ نَسَمَةً مؤمِنَةً أعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ» «2» ، والمسْغَبَةُ: الجماعة، والساغب: الجائع وذا مَقْرَبَةٍ: معناه: ذَا قَرَابَةٍ لتجتمعَ الصدقةُ والصلة، وذا مَتْرَبَةٍ: معناه: مُدْقَعاً قَدْ لَصِقَ بالترابِ وهذا ينْحو إلى أنّ المسكينَ أشَدَّ فاقةً مِنَ الفقيرِ، قال سفيانُ: هم المَطْرُوحُونَ على ظهرِ الطريقِ قُعُوداً على الترابِ لا بُيُوتَ لهم «3» ، وقال ابن عباس: هو الذي يَخْرُجُ من بيته ثم يَقْلِبُ وجهَه إلى بيته مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب «4» . [سورة البلد (90) : الآيات 17 الى 20] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) وقوله تعالى: ثُمَّ كانَ معطوفٌ على قوله: اقْتَحَمَ والمعنى: ثم كان وقتَ اقتحامِه العقبةَ من الذين آمنوا.

_ (1) وهي قراءة ابن كثير والكسائيّ. ينظر: «السبعة» (686) ، و «الحجة» (6/ 413) ، و «معاني القراءات» (3/ 147) ، و «شرح الطيبة» (6/ 114) ، و «العنوان» (210) ، و «حجة القراءات» (76) ، و «شرح شعلة» (624) ، و «إتحاف» (2/ 610) . (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه الطبري (12/ 596) ، (37344) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 597) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (4) أخرجه الطبري (12/ 596) ، (37345) ، وذكره ابن عطية (5/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 598) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

وقوله تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ معناه: على طاعةِ الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي، وبِالْمَرْحَمَةِ قال ابن عباس: كلُّ ما يؤَدِّي إلى رحمةِ اللَّهِ تعالى «1» ، وقال آخرون: هو التراحمُ والتعاطُفُ بينَ الناسِ، وفي ذلك قِوَامُ الناس ولو لم يتراحموا جملة لهلكوا، والْمَيْمَنَةِ، فيما رُوِيَ عن يمينِ العرشِ وهو موضِع الجنّة، ومكان المرحومين من الناس، والْمَشْأَمَةِ: الجانب الأشْأَمُ وهُو الأَيْسَرُ وفيه جهنَّم وهو طريق المعذبين، ومُؤْصَدَةٌ معناه: مطبقة مغلقة.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 486) .

تفسير سورة"الشمس"

تفسير سورة «الشمس» وهي مكّيّة [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) أقْسَمَ اللَّهُ تعالى بالشمسِ: إما على التنبيهِ منها على الاعتبارِ المؤَدِّي إلى معرفةِ اللَّهِ تعالى، وإما على تقديرِ ورَبِّ الشمسِ، والضُّحَى- بالضم والقصرِ-: ارتفاعُ ضوء الشمسِ وإشراقُه، قاله مجاهد «1» وقال مقاتل: ضُحاها حَرُّها كقوله في طه: وَلا تَضْحى [طه: 119] ، والضَّحَاءُ- بفتح/ الضادِ والمَدِّ-: ما فَوْقَ ذلك إلى الزَّوالِ، والقَمَرُ يَتلو الشمسَ من أول الشّهرِ إلى نصفِه في الغروبِ تغربُ هي ثم يغربُ هو، ويتلُوها في النصفِ الآخر بنحو آخرَ وهو أن تغربَ هي فيطلعُ هو «2» ، وقَال الحسنُ: تَلاها معناه تَبَعها دَأْباً في كل وقت لأَنّه يستضيءُ منها فهو يتلوها لذلك «3» ، وقال الزجاج وغيره: تلاها في المنزلةِ من الضياءِ والقَدْرِ: لأَنَّه ليس في الكواكبِ شيءٌ يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر. [سورة الشمس (91) : الآيات 3 الى 7] وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) وقولهُ: وَالنَّهارِ ظاهرُ هذهِ السورةِ والتي بعدَها أن النَّهارَ من طلوعِ الشمسِ، وكذلك قال الزجاج في كتاب «الأنواء» وغيرُه، واليوم من طلوعِ الفجر، ولا يُخْتَلَفُ أَنَّ نِهَايَتَهُمَا مَغِيبُ الشَّمْسِ، والضمير في جَلَّاها يحتملُ أنْ يعودَ على الشمس، ويحتمل أن

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 599) ، (37358) ، وذكره البغوي (4/ 491) ، وابن عطية (5/ 487) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 515) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 598) ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه. (2) ذكره البغوي (4/ 491) ، وابن عطية (5/ 487) . (3) أخرجه الطبري (12/ 600) عن مجاهد برقم: (37360) ، وذكره ابن عطية (5/ 487) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 600) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عبّاس.

[سورة الشمس (91) : الآيات 8 إلى 15]

يعودَ على الأَرْضِ، أو على الظُّلْمَةِ، وإنْ كان لم يَجْرِ لذلك ذِكْرٌ، فالمعنَى يقتضيه قاله الزجاج، و «جَلَّى» معناه كَشَفَ وضَوَى والفاعل ب «جَلَّى» على هذه التأويلاتِ النهارُ، ويحتمل أن يكونَ الفاعلَ اللَّهُ تعالى، كأنّه قال: والنهارِ، إذ جَلَّى اللَّهُ الشمسَ، فأقْسمَ بالنهار في أكملِ حالاتِه، و «يغْشَى» معناه: يُغَطِّي، والضميرُ للشمسِ على تجوُّزٍ في المعْنَى أو للأَرض. وقوله تعالى: وَما بَناها وكلُّ ما بعدَه من نظائرِه في السورةِ يحتملُ أَن تَكُوْنَ «ما» فيه بمعنى الذي قاله أبو عبيدة، أي: ومَنْ بَناهَا، وهو قولُ الحسن ومجاهد، فيجيءُ القسمُ باللَّه تعالى «1» ، ويحتملُ أَنْ تَكُونَ مَا في جميعِ ذلك مصدرية قاله قتادةُ والمبردُ والزجاجُ، كأنَّه قالَ: والسماءِ وبنائِها «2» ، و «طحا» بمعنى: دَحَا، ت: قال الهروي: قوله تعالى: وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بَسَطَها فأوسَعَها، ويقال طَحَا بِه الأمْرُ أي اتَّسَعَ به في المَذْهَبِ، انتهى، والنفسُ التي أقْسَمَ بِها سبحانه اسْمُ جنسٍ، وتسويتُها إكمالُ عقلها ونظرها. الثعلبيّ: وسَوَّاها أي: عدّل خلقها، انتهى. [سورة الشمس (91) : الآيات 8 الى 15] فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) وقوله سبحانه: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي: عرَّفَها طرق «3» ذلكَ، وجَعَلَ لها قوةً يصحُّ معها اكتسابُ الفُجُور أو اكتسابُ التقوى، وجوابُ القَسَمِ في قوله: قَدْ أَفْلَحَ والتقديرُ: لَقَدْ أفْلَحَ، زاد- ص-: وحُذِفَتْ اللامُ للطُولِ انتهى، والفاعلُ ب «زكى» يحتملُ أَن يكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قاله ابن عباس وغيره «4» ، ويحتمل أن يكون الإنسان قاله

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 601) عن مجاهد، برقم: (37368) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 515) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 599) ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه. [.....] (2) أخرجه الطبري (12/ 601) ، (37367) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 992) ، وابن عطية (5/ 488) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 515) عن قتادة. (3) في د: طريق. (4) أخرجه الطبري (12/ 603) ، (37383) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لحسين في «الاستقامة» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

الحسن وغيره «1» ، وزَكَّاها أي طهّرها ونمّاها بالخيرات ودَسَّاها معناه: أخْفَاهَا وحَقَّرَها وصَغَّرَ قدْرَها بالمعاصِي والبخلِ بما يَجِبُ وأَصلُ «دَسَّى» : دَسَّسَ ومنه قول الشاعر: [الطويل] وَدَسَّسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فَأَصْبَحَت ... حَلائِلُهُ مِنْهُ أَرامِلَ ضُيَّعَا «2» ت: قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: ومن عيوبِ النفس الشفقةُ عليها، والقيامُ بتَعَهُّدِها وتحصيلِ مآربِها، ومداواتُها الإعراضُ عَنْها وقلةُ الاشْتِغَالِ بها، كذلك سمعتُ جَدِّي يقول: مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسهُ هَانَ عليه دينُه، انتهى من تأليفه في عيوب النفس، وروي: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآيةَ قال: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا» «3» ، قال «صاحبُ الكَلِمُ الفَارِقِيَّةِ والْحِكَمِ الحقيقيَّةِ» : النفسُ الزكيَّةُ زِينَتُها نَزَاهَتُها، وعافيتُها عِفَّتُها، وطَهَارَتُها وَرَعُها، وغِنَاها ثِقَتُها بمولاها وعلمُها بأنَّه لا ينساها، انتهى، ولما ذَكَر تعالى خَيْبَة مَنْ دسَّى نفسَه ذكرَ فرقةً فَعَلَتْ ذلكَ ليعتبرَ بهم، وينتهى/ عن مثلِ فعلِهم، والطَّغْوَى: مصدرٌ وقال ابن عباس: الطغوى هنا العذابُ. كذَّبُوا به حتَّى نَزلَ بهِم ويؤيدُه قولُه تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» [الحاقة: 5] وقال جمهورُ من المتأولين: الباءُ سببيةٌ والمعنى: كذّبت ثمود نبيّها بسبب طغيانها، وأَشْقاها: هو قدار بن سالف، وقد تقدم قصصُهم، ت: وناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها قيل: نَصْبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ تقديرُه احْفَظُوا أو ذَرُوا، وقال- ص-: ناقَةَ اللَّهِ الجمهورُ: بنصبِ ناقَةَ على التحذيرِ أي احذرُوا ناقةَ اللَّهِ، وهو مما يجبُ إضمارُ عامِله، انتهى، وفَدَمْدَمَ معناه أنْزَلَ العذابَ مُقَلْقِلاً لهمْ مكرَّراً ذلك، وهي الدَّمْدَمَةُ، الثعلبيُّ: قال مؤرج: الدمدمةُ أهلاكٌ باستئصالٍ، انتهى، وكذلكَ قال أبو حيانٍ «5» ، وقال الهروي: قال الأزهريُّ: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي: أطبق عليهم العذاب، وقيل

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 603) عن قتادة، برقم: (37386) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 516) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 601) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن. (2) البيت لرجل من طي. ينظر: «اللسان» (دسا) ، «البحر المحيط» (8/ 472) ، و «الدر المصون» (6/ 531) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 488) . (3) تقدّم تخريجه. (4) أخرجه الطبري (12/ 605) ، (37398) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس. (5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 476) .

فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أي: غَضِبَ عليهم، انتهى. وقوله تعالى: فَسَوَّاها أي فَسَوَّى القبيلةَ في الهَلاَكِ لَم يَنْجُ مِنْهم أَحَدٌ، وقرأ نافع وابن عامر «1» : «فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا» والمعنى: فَلاَ دَرَكَ عَلَى اللَّهِ تعالى في فعلهِ بهم وهذا قول ابن عباس والحسن «2» ، ويحتملُ أنْ يكونَ الفاعل ب يَخافُ صالحا ع أي: لا يخاف عُقْبَى هذه الفعلةِ بهم إذ كَانَ قَدْ أنذَرهم، وقرأ الباقون: «ولاَ يَخَافُ» بالواوِ فَتَحْتَمِلُ الوجهينِ، وتحتملُ هذه القراءةُ وجْهاً ثالثاً: أنْ يكونَ الفاعلُ ب يَخافُ المنبعثَ قاله الزجاجُ والضحاكُ والسدي، وغيرُهم، وتكون الواوُ واوَ الحالِ، كأنّه قال: انْبَعَثَ لِعَقْرِهَا وهو لا يخاف عقبى فعله «3» .

_ (1) ينظر: «السبعة» (689) ، و «الحجة» (6/ 420) ، و «إعراب القراءات» (2/ 491) ، و «معاني القراءات» (3/ 150) ، و «شرح الطيبة» (6/ 116) ، و «العنوان» (21) ، و «حجة القراءات» (766) ، و «شرح شعلة» (625) ، و «إتحاف» (2/ 612) . (2) أخرجه الطبري (12/ 606) عن ابن عبّاس برقم: (37409) ، وعن الحسن برقم: (37410) ، وذكره البغوي (4/ 494) ، وابن عطية (5/ 489) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 517) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن. (3) أخرجه الطبري (12/ 606) عن السدي برقم: (37417) ، وذكره البغوي (4/ 494) ، وابن عطية (5/ 489) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 517) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لابن جرير عن الضحاك.

تفسير سورة"الليل"

تفسير سورة «اللّيل» وهي مكّيّة في قول الجمهور [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) أقسَمَ تعالى بالليل إذا غَشِيَ الأرضَ وجميعَ ما فيها، وبالنهارِ إذا تَجَلَّى، أي: ظهَرَ وضَوَّى الآفاقَ، وقال- ص-: يَغْشى: مفعولهُ محذوفٌ فيحتملُ أنْ يكونَ النهارَ كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54] أو الشمس كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس: 4] وقيل الأرض وما فيها، انتهى. [سورة الليل (92) : الآيات 3 الى 14] وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) وقوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى يحتملُ أنْ تكونَ «ما» بمعنى: «الذي» ويحتملُ أَنْ تكونَ مصدريةً، والذكرُ والأنثى هنا عامٌّ، وقال الحسن: المرادُ آدمُ وحواء «1» ، والسَّعْيُ العَمَلُ، فأخبرَ تعالى مُقْسِماً أَنَّ أعمالَ العبادِ شَتَّى، أي: متفرقة جدًّا بعضُها في رِضَى اللَّهِ، وبعضها في سَخَطِه، ثم قَسَّم تعالى الساعينَ فقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآية، ويُروى أن هذهِ الآيَة نزلتْ في أبي بكرٍ الصديقِ- رضي اللَّه عنه-. وقوله تعالى: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قيل هي: لا إله إلا اللَّه، وقيل: هي الخَلَفُ الذي وَعَدَ اللَّه بهِ، وقيل: هي الجنةُ، وقال كثيرٌ من المتأولينَ: الحسنى: الأجرُ والثوابُ مُجْمَلاً، والعُسْرَى: الحال السيئة في الدنيا والآخرة، ومن جَعل بَخِلَ في المالِ خَاصَّةً جَعَلَ اسْتَغْنى في المالِ أيضاً، لتَعْظُمَ المَذَمَّةُ، ومَنْ جَعَلَ بَخِلَ عَامًّا في جَمِيعِ مَا يَنْبَغِي أن يبْذَلَ، مِنْ قَولٍ أو فعلٍ قال: اسْتَغْنى عن اللَّهِ ورحمتهِ بِزَعْمِه، وظاهرُ قوله:

_ (1) ذكره البغوي (4/ 494) ، وابن عطية (5/ 490) .

وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أَنَّ الإعطاءَ والبخلَ المذكورين إنما هما في المال. وقوله تعالى: إِذا تَرَدَّى، قال قتادة وغيره: معناه تردَّى في جهنم «1» . وقال مجاهد: تَرَدَّى معناه: هَلَكَ من الردَّى «2» ، وخَرَّج البخاريُّ وغيرُه عن علي- رضي اللَّه عنه- قال: «كُنَّا مع النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في بَقِيعِ الغَرْقَدِ في جِنَازَةٍ، فقالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، أوْ مَا/ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإلاَّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، أفَلاَ نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ قال: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى إلى قوله: لِلْعُسْرى» وفي روايةٍ، لَمَا قيلَ له: أفَلاَ نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، قال: لاَ بَلِ اعملوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» الحديثَ، وخرَّجه الترمذيُّ أيضاً، انتهى، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : «وسأل شابّان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالاَ: العَملُ فِيما جَفَّتْ بهِ الأَقْلاَمُ وجَرَتْ بهِ المَقَادِيرُ أَمْ في شَيْءٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ فقال: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلاَمُ، وجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ، قَالاَ: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ: قَالَ: اعملوا فَكُلُّ مُيسَّر لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ له» قالا: فالآنَ نَجِدُّ ونَعْمَلُ» «3» انتهى، وقال قوم: معنى تردى، أي: بأكْفَانِهِ مِنَ الرِّدَاءِ ومنه قول الشاعر: [الطويل]

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 617) ، (37481) ، وذكره البغوي (4/ 496) ، وابن عطية (5/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 520) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 606) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة. (2) أخرجه الطبري (12/ 617) ، (37482) ، وذكره البغوي (4/ 496) ، وابن عطية (5/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 520) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 606) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....] (3) أخرجه البخاري (11/ 530) ، كتاب «القدر» باب: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (6605) ، (13/ 531) ، كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (7552) ، ومسلم (4/ 2039، 2040) ، كتاب «القدر» باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (6- 7/ 2647) ، وأبو داود (2/ 634- 635) ، كتاب «السنة» باب: في القدر (4694) ، والترمذي (4/ 445) ، كتاب «القدر» باب: ما جاء في الشقاوة والسعادة (2136) ، (5/ 441) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (3344) ، وأحمد (1/ 82، 129، 132- 133، 140، 157) ، وابن حبان (2/ 43- 44- 45) ، كتاب «البر والإحسان» باب: ما جاء في الطاعات وثوابها (233- 234) ، والطيالسي (1/ 32) ، كتاب «القدر» باب: ما جاء في العمل مع القدر (61) ، وابن ماجه (1/ 30- 31) ، «المقدمة» باب: في القدر (78) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة الليل (92) : الآيات 15 إلى 21]

نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تلوى فِيهِمَا وَحَنُوطُ «1» ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعاً، أي: تعريفَهم بالسُّبل كلِّها، وليستْ هذه الهدايةُ بالإرشَادِ إلى الإيمان، ولو كانَ ذلِك لَمْ يُوجَدْ كافرٌ، قال البخاريُّ: «تَلَظَّى» : تُوَهَّجٌ وقال الثعلبيَّ: تَتَوقَّدُ، وتتوهَّج، انتهى. [سورة الليل (92) : الآيات 15 الى 21] لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) وقوله سبحانه: لاَ يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى المعنى: لا يصْلاَها صَلْيَ خُلُودٍ، ومن هنا ضَلَّتْ المُرْجِئَةُ لأنها أخَذَتْ نَفْيَ الصَّلْيِ مُطْلَقاً، ولم يَخْتَلِفْ أَهلُ التأويلِ أن المرادَ بالأتْقَى إلى آخر السورة/ أبو بكرٍ الصديقِ، ثم هي تَتَنَاولُ كلَّ مَنْ دَخَلَ في هذِه الصفاتِ، وباقي الآيةِ بيِّنٌ، ثم وَعَدَه تعالى بالرِّضَى في الآخرةِ وهذه [عِدَةٌ] لأبي بكرٍ- رضي الله عنه-.

_ (1) البيت في «البحر المحيط» (8/ 478) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 491) ، و «الدر المصون» (6/ 535) .

تفسير سورة"الضحى"

تفسير سورة «الضّحى» [وهي] مكّيّة بلا خلاف [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) تقدّم تفسير الضُّحى بأنه: سُطُوع الضوءِ وعِظَمُه، وقال قتادة: الضُّحى هنا النهار كلّه «1» وسَجى معناه سَكَنَ واستقَرَّ لَيْلاً تامًّا، وقيل: معناه أقْبَلَ، وقِيلَ: معناه أدْبَرَ، والأولُ أصحُّ، وعليه شواهِدُ، وقال البخاريُّ: قال مجاهد: إِذا سَجى اسْتَوَى «2» ، وقال غيره: أظلمَ وسكنَ، انتهى،، وقرأ الجمهور: مَا وَدَّعَكَ- بشدِ الدالِ- من التَّوْدِيع وقُرِىءَ «3» بالتخفيفِ بمعنى: ما تَرَكَكَ، وقال البخاريُّ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ بالتشديدِ والتخفيفِ: ما تَرَكَكَ، انتهى. وقَلى أبْغَضَ، نزلتْ بسببِ إبطَاءِ الوَحْي مدَّة وَلَلْآخِرَةُ يعني: الدارَ الآخِرَةَ خيرُ لَكَ من الدنيا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قيل: هي أرْجَى آية في القرآن لأنّه صلّى الله عليه وسلّم لا يرضى، وواحدٌ من أمتهِ في النارِ، ورُوِي أنه- عليه الصلاةُ والسلام- قال لما نَزَلَتْ: «إِذنْ لاَ أرضى، وأَحدٌ مِنْ أُمَّتِي في النَّارِ» قال عِيَاضٌ: وهذه آيةٌ جامعةٌ لوجوه الكرامة وأنواع

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 621) ، (37492) ، وذكره البغوي (4/ 498) ، وابن عطية (5/ 493) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 609) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه. (2) أخرجه الطبري (12/ 622) ، (37496) ، وذكره البغوي (4/ 498) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 609) ، (6/ 609) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه. (3) حكيت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك عروة بن الزبير. ينظر: «الشواذ» ص: (175) ، و «المحتسب» (2/ 364) ، و «الكشاف» (4/ 765) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 493) ، و «البحر المحيط» (8/ 480) ، و «الدر المصون» (6/ 537) .

[سورة الضحى (93) : الآيات 7 إلى 11]

السعادةِ في الدارين، انتهى، [ت: وفي «صحيح مسلم» من رواية عبد اللَّه بن عمرو بن العَاصِي: أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله- عز وجل- في إبراهيمَ عليه السلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36] وقولُ عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، وبكى، فَقَالَ اللَّهُ- جَلَّ ثناؤُهُ- يَا جِبْرِيلُ اذهب إلى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أمّتك ولا نسؤوك، انتهى مختصراً] «1» ، ثُمَّ وَقَفَ تَعَالَى نبيَّه على المراتبِ التي دَرَجَه عَنْها بإنعَامِهِ فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. [سورة الضحى (93) : الآيات 7 الى 11] وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) وقوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى اخْتَلَفَ الناسُ في تأويلِهِ، والضلالُ يَخْتَلِفُ، فمنه البعيدُ ومنه القريبُ فالبعيدُ ضلالُ الكفَّارِ، وهذا قَدْ عَصَمَ الله منه نبيّه فلم يعبد/ صلّى الله عليه وسلّم صَنَماً قط، ولا تَابعَ الكفارَ على شيءٍ مما هم عليه من الباطلِ، وإنما ضلالُه صلّى الله عليه وسلّم هو كَوْنُهُ واقفاً لا يَميزُ المَهْيَعَ، بل يُدْبِرُ وَيَنْظُر، وقال الترمذي وعبد العزيز بن يحيى: ضَالًّا معناه: خاملُ الذِّكْرِ لا يعرفُك الناسُ فهداهُم إليكَ ربُّك، والصوابُ أنه ضلالُ من توقّف لا يدري، كما قال عز وجل: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] وقال الثعلبي: قال بعض المتكلمين: إذا وجَدَتِ العربُ شَجَرَةً مفردة في فلاةٍ سَمَوْها ضالةً فَيُهْتَدَى بها إلى الطريقِ، أي: فَوَجَدْتُكَ وَحيداً ليس معَك نبيٌّ غيرَك فهديتُ بك الخلقَ إليَّ، انتهى، قال عياض: وقال الجنيد: المَعْنَى: وَوَجَدَكَ متحيِّراً في بيانِ ما أُنْزِلَ إليكَ فهَدَاكَ لبيانِه، لقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ... [النحل: 44] الآية، قال عياض: ولا أعلمُ أحداً من المفسرينَ قَال فيها ضالاًّ عَنْ الإيمانِ، وكذلك في قصةِ موسى- عليه السلام- قوله: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 20] أي المخطئينَ، وقال ابن عطاء: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي: مُحِبًّا لمعرفتِي، والضَّالُّ: المحِبُّ، كما قال تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف: 95] أي: محبَّتِكَ القديمةِ، انتهى، والعَائِلُ: الفقيرُ فَأَغْنى أي: بالقناعَةِ والصَّبْرِ، ثم وصَّاه تَعالى بثلاثِ وصَايَا بإزاءِ هذه النعم الثلاث، والسَّائِلَ هنا قَال أبو الدرداء: هو السائلُ عن العلم «2» ، وقيل: هو سائل المال، وقال

_ (1) سقط في: د. (2) ذكره ابن عطية (5/ 495) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 612) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

إبراهيم بن أدهم: نعم القومُ السؤال يحملنا زادنا إلى الآخرة. وقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال مجاهد وغيره: معناه بُثَّ القرآن وبلِّغْ ما أُرسلْتَ بهِ «1» ، قال عياض: / وهذا الأمرُ يَعُمَّ الأمة، انتهى، وقال آخرونَ: بل هُوَ عُمُوم في جميعِ النِّعم، وفي «سنن أبي داود» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أَعْطُوا الأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ «2» ، وَأَعْطُوا السَّائِلَ، وَإنْ جَاءَ على فَرَسٍ» «3» قال البغويُّ في «المصابيحِ» : هذا حديثٌ مُرْسَلٌ انتهى.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 495) ، وذكره أبو حيان (8/ 482) . (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 817) ، كتاب «الرهون» باب: إجارة الأجير على طعام بطنه (2443) ، قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 259) : هذا إسناد ضعيف، وهب بن سعيد هو: عبد الوهاب بن سعيد وعبد الرحمن بن زيد وهما ضعيفان، لكن نقل عبد العظيم المنذري الحافظ في كتاب «الترغيب» له: ابن عبد الرحمن بن زيد وثق، وقال: قال ابن عدي: أحاديثه حسان قال: وهو محن احتمله الناس وصدقه بعضهم وهو ممن يكتب حديثه، قال: ووهب بن سعيد وثقه ابن حبان وغيره انتهى. فعلى هذا يكون الإسناد حسنا والله أعلم، وأصله في «صحيح البخاري» وغيره من حديث أبي هريرة. (3) أخرجه مالك (2/ 996) ، كتاب «الصدقة» باب: الترغيب في «الصدقة» (3) ، مرسلا. قال العجلوني في «كشف الخفا» (1/ 161) : رواه مالك في «الموطأ» مرسلا عن زيد بن أسلم، قال ابن حجر في خطبة «اللآلئ المنثورة» وهو أحد الأحاديث الخمسة التي قال فيها علي بن المديني: خمسة أحاديث يرونها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أصل لها عنه.

تفسير سورة"الشرح"

تفسير سورة «الشرح» وهي مكّيّة بإجماع [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) عَدَّدَ اللَّه تعالى على نبيه نِعَمَه عليه في أنْ شَرَحَ صدرَه للنبوَّةِ، وهَيأَه لها، وذَهَبَ الجمهورُ إلى أنَّ شَرْحَ الصدرِ المذكورِ إنما هو تنويرُه بالحكمةِ، وتوسِيعُه لتلقي مَا يُوحى إليه، وقال ابن عباس وجماعة: هذه إشارة إلى شَرْحِه بشَقِّ جبريلَ عنه في وقْتِ صِغَرهِ، وفي وقْتِ الإسراء إذا التشريحُ شَقُّ اللحْمِ، والوِزْرُ الذي وضعَهُ اللَّه عنه هو عند بعض المتأولين الثِّقَلُ الذي كان يجده صلّى الله عليه وسلّم في نفسهِ من أجل ما كانتْ قريشٌ فيه من عبادةِ الأصْنَامِ فَرَفَعَ اللَّهُ عنه ذلكَ الثِّقَلَ بنبوَّتِه وإرسالهِ، وقال أبو عبيدةَ وغيره: المعنى: خَفَّفْنَا عنك أثقَال النبوَّةِ وأعنَّاكَ على الناسِ «1» ، وقيل الوِزْرُ هنا: الذنوبُ، نظيرَ قولهِ تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح: 2] وقد تقدم بيانُه، الثعلبيّ: وقيلَ: معناه: عَصَمْنَاكَ من احتمالِ الوِزْرِ، انتهى. وأَنْقَضَ معناه: جَعَلَهُ نَقْضاً، أي: هَزيلاً، من الثِّقَلِ، قال عياض: ومعنى أَنْقَضَ، أي: كَادَ يَنْقُضُه، انتهى، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي نَوَّهْنَا باسمِك، قال ع «2» : ورفعُ الذكرِ نعمةٌ على الرسولِ وكذلكَ هُوَ جميلٌ حسنٌ للقائمينَ بأمورِ الناس، وخمولُ الاسْمِ والذكرِ حَسَنٌ للمنفردِينَ للعبادة، / والمعنى في هذا: التَّعْدِيد: أَنَّا قد فعلنا جميعَ هذا بكَ فلا تَكْتَرِثْ بأذى قريشٍ فإن الذي فعلَ بكَ هذه النعمُ سَيُظَفِّرُكَ بهم، قال عياض: ورَوَى أبو سَعِيدٍ الخدريُّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أَتَانِي جِبْريلُ فَقَالَ إنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: أَتَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ تعالى أَعْلَمُ، قال: إذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي» ، انتهى، ثم قوَّى سُبْحَانه رجاءَه بقولهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وكرّر تعالى

_ (1) ذكره البغوي (4/ 502) ، وابن عطية (5/ 496) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 497) .

ذلكَ مبالغةً، وذَهَبَ كثيرٌ من العلماءِ إلى أنَّ مع كلِّ عُسْرٍ يُسْرَيْنِ بهذه الآية، من حيثُ إنَّ العُسْرَ مُعَرَّفٌ للعَهْدِ واليسْرُ مُنَكَّرٌ فالأولُ غَيْرُ الثاني، وقَدْ جاء في هذا التأويل حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» «1» ، ثم أمر تعالى نَبِيَّهُ إذا فَرَغَ مِن شُغْلِ مِنْ أَشْغَالِ النبوَّةِ والعبادةِ أن يَنْصَبَ في آخِرِه، والنَّصَبُ: التعبُ، والمعنى: أن يَدْأَبَ على مَا أُمِرَ به ولاَ يَفْتُرَ، وقال ابنُ عباسٍ: إذا فَرغْتَ مِنْ فَرْضِكَ فَانْصَبْ في التَّنفُّلِ عبادةً لربك «2» ، ونحوُه عن ابن مسعود وعن مجاهد: «فإذا فرغت من العبادةِ فانْصَبْ في الدعاء» «3» . وَقَوْلُه تعالى: وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ: أمر بالتوكل على الله- عز وجل- وصَرْفِ وُجُوهِ الرَّغَبَاتِ إليه لا إلى سواه.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الطبري (12/ 628) ، (37542) ، وذكره ابن عطية (5/ 497) ، وأبو حيان (8/ 484) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 617) ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. [.....] (3) أخرجه الطبري (12/ 628) ، (37541) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (4/ 503) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 526) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 617) ، وعزاه لابن أبي الدنيا.

تفسير سورة"التين"

تفسير سورة «التّين» وهي مكّيّة [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) قال ابن عبّاس وغيره: «التين والزيتون» المقْسَمُ بهما هُما المعروفانِ، وقال السهيلي: أقْسَمَ تعالى بطور تينا، وطور زيتا، وهما جبلانِ عند بيتِ المقدس، وكذلك طور سيناء، ويقال: إن سيناءَ هي الحجارةُ، والطورُ عند أكثر الناسِ هو الجبلُ، وقال الماورديُّ: / ليس كلُّ جبلٍ يقال له: طورٌ إلا أنْ تكونَ فيه الأشجارُ والثمار، وإلا فهو جَبَلٌ فقط، انتهى، وَطُورِ سِينِينَ جبل بالشّام، والْبَلَدِ الْأَمِينِ مكةَ، والقَسَمُ واقع على قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [أي: في أحسن تقويم] «1» ينبغي لَه، وقال بعضُ العلماءِ بالعموم، أي: الإنسانُ أحسنُ المخلوقَاتِ تقويماً، ولَمْ يَرَ قومٌ الحِنْثَ على مَنْ حَلَفَ بالطلاقِ أنَّ زوجتَه أحسنُ من الشمس محتجين بهذهِ الآيةِ، وحسْنُ التقويمِ يشملُ جميعَ محاسنِ الإنسانِ الظاهرةِ والباطنةِ من حسن صورتهِ، وانتصابِ قامَتهِ، وكمالِ عقلهِ، وحسن تمييزِه، والإنسانُ هنا اسمُ جنسٍ، وتقديرُ الكلام: في تقويمِ أحسنَ تقويمٍ لأَن أَحْسَنِ صفةٌ لا بُدَّ أنْ تَجْرِي على موصوفٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قال قتادةُ وغيره: معناه بالهَرَم وذهولِ العقلِ وهذهِ عِبْرة منصوبةٌ «2» ، وعبارةُ الثعلبيِّ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ قيل: اعتدالهُ واستواءُ شبابهِ، وهو أَحْسَنُ ما يكونُ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ بالهَرَمِ كما قال: إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: 5] ، والسافلونَ: الهَرْمَى والزَّمْنَى والذين حَبَسَهُم عذرُهم عن الجهادِ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل

_ (1) سقط في: د. (2) أخرجه الطبري (12/ 638) ، (37624) ، وذكره ابن عطية (4/ 500) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 621) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

اللَّه عُذرَهم وأخبرَهم أن لهم أجْرَهم الذي عَمِلُوا قبلَ أن تَذْهَبَ عقولهُم، انتهى، وفي البخاريّ عنه صلّى الله عليه وسلّم «إذا مَرِضَ العبدُ أو سَافرَ كتبَ اللَّه له مثلَ ما كانَ يعملُ مقيماً صحيحاً» وهكذا قال في الذين حَبَسَهُم العذرُ، انتهى، قال- ص-: إِلَّا الَّذِينَ قيلَ: منقطعٌ بناءً على أنَّ مَعْنَى أَسْفَلَ سافِلِينَ: بالهرَم وذهولِ العقْلِ، وقيل متصلٌ بِنَاءً عَلى أَنَّ معْناه في النارِ على كفرِه، انتهى، قال ع «1» : وفي حديثٍ/ عَنْ أنسٍ قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بَلَغَ المؤْمِنُ خمسينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّه حِسَابَه، فإذَا بَلَغَ سِتِّينَ رَزَقَه الإنَابَة إلَيه، فإذَا بلغَ سبعين أحَبّه أهلُ السَّماءِ، فَإذَا بلغ ثمانين كُتِبَتْ حَسَنَاتُه وتَجاوزَ اللَّهُ عن سيئاتِه، فإذا بلغ تسعينَ غُفِرَتْ ذنُوبُه وشَفَعَ في أهْل بَيْتِه وكَانَ أسيرَ اللَّهِ في أرْضِه، فإذا بلغَ مائةً وَلَمْ يَعْمَل شيئاً كُتِبَ له مثلُ مَا كان يَعْملُ في صحَّتِه ولم تُكْتَبْ عليه سيئة» «2» ، وفي حديث: «إن المؤمنَ إذا رُدَّ إلى أرذل العمر كُتِبَ له خيرُ ما كانَ يعملُ في قوّتهِ» «3» . وذلكَ أجرٌ غير ممنون، ثم قال سبحانه إلزامًا للحُجَّةِ وتوبيخاً للكافرِ: فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسانُ، أي: فما يَجْعَلُكَ أنْ تُكَذِّبَ بعدَ هذه الحجةِ بالدينِ، وقال قتادة: المعنَى: فمن يكذِّبُكَ يا محمد، فيما تُخْبِرُ به من الجزاءِ والحسابِ «4» ، وهو الدينُ، بَعْدَ هذه العبر، ويحتمل أن يريد بِالدِّينِ جميعَ دينه وشَرْعِه، ورُوِيَ عن قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانَ إذا قَرَأَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ قَال: بَلَى وأنَا عَلى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، قالَ ابن العربي في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ وغيره عن أبي هريرة، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا قَرأَ أحدُكم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ: بلى «5» وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِين» ومِنْ رواية عبد اللَّه: «إذَا قرأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة: 40] فَلْيقُلْ: بلى» «6» انتهى، ت: وهذان الحديثانِ، وإنْ كَانَ قَدْ ضعَّفُهما ابنُ العربيِّ فهما مما ينبغي ذكرُهما في فضائل الأعمال، والله الموفق بفضله وكرمه.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 500) . (2) تقدم تخريجه. (3) تقدم. (4) ذكره ابن عطية (5/ 500) . (5) تقدّم تخريجه. (6) تقدّم تخريجه.

تفسير سورة"العلق"

تفسير سورة «العلق» وهي مكّيّة بإجماع [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] : هو أولُ ما نَزَلَ من كِتَابِ اللَّه تعالى، نَزَلَ صَدْرُ [هذهِ الآية] إلى قوله: مَا لَمْ يَعْلَمْ في غارِ حِرَاء حَسْبَ ما ثَبَتَ في «صحيح البخاريِّ» وغيره، ومعنى قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي: اقرأ هذَا القرآنَ باسمِ ربِك، أي: مبتدِئاً باسْمِ ربكَ، وَيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المقروءُ الذي أُمِرَ بقراءتِه هو بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ كأنه قيل له: اقرأْ هذا اللفظَ، والعلقُ: جمع عَلَقَةٍ وهي القِطْعَةُ اليَسِيرَةُ من الدَّمِ، والإنْسَانُ هنا اسمُ جنسٍ، ثم قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ على جِهة التأنِيسِ كأنَّه يقول: امْضِ لِما أُمِرْتَ بهِ، وَرَبُّكَ ليسَ كهذهِ الأربابِ بلْ هُو الأكْرَمُ الذي لاَ يَلْحَقُه نقصٌ، ثم عدَّدَ تعالى نِعْمَةَ الكتابةِ بالقلم على الناسِ، وهي من أعظم النعم. وعَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ قيل: هو آدمُ وقيل: [هو] اسم جنس وهو الأظهر. [سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 13] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى إلَى آخرِ السورةِ نَزَلَتْ في أبي جَهْلٍ، وذلكَ أنَّه طَغَى لِغِنَاهُ وكثرةِ مَنْ يَغْشَى نَادِيه، فناصب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونَهَاهُ عَنِ الصلاةِ في المسجدِ، وقال: لَئِنْ رأيتُ محمداً يسجُدُ عند الكعبةِ لأَطأَنَّ عنقَه، فيروى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ عليه القول وانتهره، وعبارة الداوديّ: فتهدّده النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَقَال أبو جهل: أتُهَدِّدُني؟ أما واللَّه إني لأكْثَرُ أهْلِ الوادِي نَادِياً فَنَزَلَتْ الآيةُ، انتهى. وكَلَّا ردُّ على أبي جهلٍ، ويتَّجِه أَنْ تَكُونَ بمعنى: حقّا، والضمير في رَآهُ للإنسانِ المذكورِ، كأنَّه قال: أن رأَى نفسَه غَنِيًّا وهِي رُؤْيَةٌ قَلْبِيَّةٌ ولذلكَ جازَ أن يعمل فعل

[سورة العلق (96) : الآيات 14 إلى 19]

الفاعِل في نفسِه كما تقول: وجَدْتُنِي/ وَظَنَنْتُنِي، ثم حقَّرَ تعالى غِنَى هذا الإنسانِ وحالَه بقولهِ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أي: بالحَشْرِ والبعثِ يومَ القيامةِ، وفي هذا الخبرِ وعيدٌ للطاغينَ من الناسِ، ثم صرَّح بذكْرِ النَّاهِي لمحمّد ع، ولا خِلاَفَ أن الناهِيَ أبو جهلٍ، وأن العبد المصلّي هو محمّد ع. [سورة العلق (96) : الآيات 14 الى 19] أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) وقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثَّلاثِ، يَصْلُحُ مَعَ كلِّ وَاحدٍ منها، ت: وفي قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى مَا يُثِير الهِمَمَ الرَاكِدَةَ، وَيُسِيلُ العيونَ الجَامِدَةَ، ويَبْعَثُ على الحياء والمراقبةِ، قال الغزالي: اعلمْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ على ضميرِكَ، ومشرفٌ على ظاهِرك وباطنِك، فَتَأَدَّبْ أيها المسكينُ ظَاهِراً وباطِناً بين يديه سبحانه واجتهدْ أن لا يَرَاكَ حيثُ نَهَاكَ وَلاَ يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، ولاَ تَدَعْ عَنْكَ التفكرَ في قُرْبِ الأجلِ، وحلولِ الموتِ القاطِع للأملِ، وخروجِ الأمْرِ من الاختيَارِ، وحصولِ الحَسْرَةِ والنَّدَامةِ بطُولِ الاغترارِ، انتهى، ثم توعَّده تعالى لَئِنْ لم ينتَهِ لَيُؤْخَذَنَّ بناصيتهِ، فَيُجَرُّ إلى جَهَنَّمَ ذَلِيلاً، تقول العربُ: سَفَعْتُ بِيَدِي ناصية الفَرَسِ، والرَّجُلِ إذا جذبتُها مُذَلَّلَةً، وقال بعض العلماء بالتفسير: معناه لتُحْرَقَنَّ، من قولهم: سَفَعَتْه النارُ، واكْتَفَى بذكرِ الناصيةِ لِدلالتِها على الوَجْهِ والرأْسِ، والناصيةُ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرأسِ، ثم أبْدَل النكرةَ من المعرفة في قوله: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ ووصفَها بالكَذِبِ والخَطَإ من حيثُ هي صفاتٌ لصاحِبها. قوله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهْلَ مَجْلَسِهِ، والنَّادِي والنَّدي: المجلسُ، ومنه دَارُ النَّدْوَةِ، وقال البخاري قال مجاهد: نادِيَه: عشيرتَه «1» . وقوله: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي: / ملائِكَة العَذابِ، ثم قال- تعالى- لنبيه- عليه السلام-: كَلَّا لاَ تُطِعْهُ أي: لا تَلْتَفِتْ إلى نَهْيِهِ وكلامه واسْجُدْ لربك واقْتَرِبْ إليه بسجودِك، وفي الحديث: «أَقْرَبُ ما يكونُ العبدُ من رَبّه إذا سَجَدَ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ في السجودِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُم» ، ورَوَى ابنُ وهب عَنْ جماعةٍ من أهل العلم: أنّ قوله: وَاسْجُدْ: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَن قَوْلَه: وَاقْتَرِبْ: خطابٌ لأَبِي جَهْلٍ، أي: إن

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 649) ، (37690) عن ابن عبّاس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 627) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

تَجْتَرِىءُ حتى تَرَى كَيْفَ تَهْلَكُ، ت: والتأويلُ الأول أظهر يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجِدٌ» «1» وعنْ ربيعة بن كعب الأسلميِّ قال: كنت أبيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فآتيهِ بِوَضُوئِهِ وحَاجَتِه، فقال لي: سَلْ فقلتُ: أسألكَ مُرَافَقَتَكَ في الجنةِ، قالَ أوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَال: فأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» «2» رواه الجماعة إلا البخاريَّ، ولفظُ الترمذي: «كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ بَابِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَأُعْطِيهِ وَضُوءَهُ، فَأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يقول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه، وأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ» «3» ، قال الترمذيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، وليس لربيعةَ في الكتب الستَّةِ سوى هذا الحديثِ، انتهى من «السلاح» ، ورُوِيَ أن أبا جَهْلٍ جاءَ والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، فَهمَّ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ الصلاة، ثمّ كعّ وَوَلَّى نَاكِصاً على عَقِبَيْهِ مُتَّقِياً بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ عَرَضَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ، وَهَوْلٌ وَأَجْنِحَةٌ، فيروى: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِيَاناً» «4» ت: ولما لم يَنْتَهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَخَذَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُ، وذَكَرَ الوائليُّ الحَافِظُ في كتابِ «الإبَانَةِ» له مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بن مغول عن نافِع عن ابن عمر قال: «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِجَنَبَاتِ بَدْرٍ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ في عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ يُمْسِكُ طَرَفهَا أَسْوَدُ، فَقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسْقِنِي، فَقَالَ ابن عُمَرَ: لاَ أَدْرِي أَعَرَفَ اسمي، أَوْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ لي الأَسْوَدُ: لاَ تَسْقِهِ فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ اجتذبه، فَدَخَلَ الأرْضَ، قَالَ ابن عمر: فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْتُه، فقال: «أَوَ قَدْ رَأَيْتَهُ؟ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وهُوَ عَذَابُهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» انتهى من «التَّذْكِرَة» للقرطبيِّ، وقد ذَكَرْتُ هذهِ الحكايةَ عَن أبي عمر بن عبد البر بأتَّم مِنْ هَذا عِنْد قوله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ... [فصلت: 27] الآية.

_ (1) تقدّم تخريجه. (2) أخرجه مسلم (2/ 379- 380) - الأبي، كتاب «الصلاة» باب: فضل السجود والحث عليه (226/ 489) ، وأبو داود (1/ 421) ، كتاب «الصلاة» باب: وقت قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم من الليل (1320) ، والترمذي (5/ 480- 481) ، كتاب «الدعوات» باب: منه (3416) ، والنسائي (2/ 227) ، كتاب «الافتتاح» باب: فضل السجود (1138) ، وابن ماجه (2/ 1276- 1277) ، كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا تنبه من الليل (3879) ، وأحمد (4/ 59) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (3) ينظر: الحديث السابق. (4) أخرجه مسلم (4/ 2154) ، كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (38/ 2797) . [.....]

تفسير سورة"القدر"

تفسير سورة «القدر» قال ابن عبّاس: هي مدنيّة وقال قتادة: هي مكّيّة [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) قَوْلُه تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ الضميرُ في أَنْزَلْناهُ للقرآن قَال الشعبيُّ وغيرُه: المعْنَى: إنا ابتدأْنا إنزالَ هذا القرآن إليكَ في ليلة القدر، وقد رُوِيَ: أن نزولَ المَلَكِ في حِراءٍ كَانَ في العشر الأواخِر من رمضان، فيستقيمُ هذا التأويل «1» وقالَ ابنُ عباسٍ وغيرُه: أَنزَلَه اللَّه تعالى ليلةَ القدرِ إلى سماءِ الدُّنْيَا جملة، ثم نجّمه على محمّد صلّى الله عليه وسلّم عِشْرِينَ سنةً، وليلةُ القدرِ خَصَّها اللَّهُ تعالى بِفَضْلٍ عَظِيمٍ، وَجَعَلَها أفْضَل مِنْ ألْفِ شهرٍ لاَ لَيْلَةَ قَدْرٍ فِيها قاله مجاهدٌ وغيرُهُ «2» ، وخُصَّتْ هذه الأُمَّةُ بهذه الفضيلةِ لَمَّا رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أعمارَ أُمَّتِه وتَقَاصُرَهَا/ وَخُشِيَ أَلاَّ يَبْلُغُوا مِنَ الأَعْمَالِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ في طُولِ العُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ القَدْرِ خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وقد روى مالكٌ هذَا الحديثَ في «المُوَطَّأ» «3» ثَبَتَ ذلكَ مِنْ روايةِ ابنِ القَاسمِ وغيره، انتهى، ثم فَخَّمَها سبحانَه بقوله: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ قال ابن عيينة في «صحيح البخاري» : ما كانَ في القرآن: وَما أَدْراكَ فَقَدْ أعْلَمَه، وَمَا قالَ: وَمَا يُدْرِيكَ فإنَّه لَمْ يُعْلِمْهُ، وذكر ابن عبَّاس وغيره: أنها سُمِّيَتْ ليلةَ القَدْرِ لأنّ اللَّهَ تعالى يُقَدِّرُ فيها الآجالَ والأرزاقَ وحوادثَ العام كلّها،

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 651) ، (37701) ، وذكره ابن عطية (5/ 504) . (2) أخرجه الطبري (12/ 651) ، (37697) ، وذكره ابن عطية (5/ 504) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 529) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 628) ، وعزاه لابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عبّاس. (3) أخرجه مالك في «الموطأ» (165) ، (705) مرسلا.

ويدفَعُ ذلك إلى الملائِكَة لتَمْتَثِلَه «1» ، قال ع «2» : وليلةُ القَدْرِ مستديرةٌ في أوتارِ العَشْرِ الأَواخِرِ من رمضانَ هذا هو الصحيحُ المُعَوَّلُ عليه، وهي في الأوْتَارِ بحسْبِ الكَمال والنقصان في الشَّهْرِ، فينبغي لمرتَقِبها أن يَرْتَقِبَها مِنْ ليلةِ عشرينَ في كل ليلةٍ إلى آخر الشهر، وصحَّ عن [أُبيِّ بن] كعب وغيرِه: أَنها ليلةُ سَبْعٍ وعشرينَ «3» ، ثم أخْبَر تعالى أن ليلةَ القَدْرِ خيرٌ مِن ألف شَهر وهي ثَمانُونَ سَنَةً وثَلاَثَةُ أَعْوَامٍ وثُلُثُ عامٍ، وفي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَاناً واحتسابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «4» وَالرُّوحُ: هو جبريل ع وقيل هو صِنْفٌ حَفَظَةٌ لِلْمَلاَئِكَةِ، قال الفخر «5» : وذكروا في الرُّوح أقوالاً: أَحدُها: أنه ملَكٌ عظيم لو الْتَقَمَ السموات والأَرْضَ كانَ ذلكَ لَه لُقْمةً وَاحِدَةً، وقِيلَ: الرُّوحُ: طَائِفةٌ من الملائِكَةِ لاَ يَراهُمُ المَلاَئِكَةُ إلا ليلةَ القَدْرِ، كالزُّهَادِ الذين لا نَراهم إلا يَوْم العِيد، وقيل: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يأكُلُون [وَيَشْرَبُونَ] وَيَلْبَسُون لَيْسُوا من الملائِكَةِ ولا من/ الإنْسِ ولعلهم خَدَمُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وقيل: الروحُ أشْرَفُ الملائِكَةِ، وقال ابن أبي نجيح الروحُ همُ الحفَظَةُ الكرامُ الكاتِبُونَ والأصَح أنَّ الروحَ هاهنا هو جبريلُ، وتخصيصُه بالذكر لزِيَادَةِ شرفِه، انتهى. وقوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ الثعلبيُّ: أي: بكل أمْرٍ قدَّرَه اللَّهُ وقضاه في تلكَ السنةِ إلى قَابِل قاله ابن عبّاس، ثم تبتدئ فتقولُ: سَلامٌ هِيَ ويحتملُ أن يريدَ مِنْ كل فِتْنَةٍ سَلاَمَةٌ، انتهى، قال ع: وعلى التأويلِ الأولِ، يَجِيءُ سَلامٌ خَبَرَ ابتداءٍ مستأنَفًا، أي: سلامٌ هي هذه الليلةُ إلى أول يومِها، ثم ذكرَ ما تقدَم، وقال الشعبيُّ ومنصور: سَلامٌ بمعنى: التَّحِيَّةِ أي: تُسَلّمُ الملائكةُ على المؤمنين «6» .

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 652) ، (37708) عن الحسن، وذكره ابن عطية (5/ 504) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 505) . (3) ذكره البغوي (4/ 511) . (4) تقدم. (5) ينظر: «مفاتيح الغيب» (32/ 33) . (6) ذكره البغوي (4/ 512) ، وابن عطية (5/ 505) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 531) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 630) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر بنحوه.

تفسير سورة"البينة"

تفسير سورة «البيّنة» وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل: مدنيّة، والأوّل أشهر [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) [قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وفي حرف ابن مسعودٍ «2» : «لَمْ يَكُنِ المُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الكِتَابِ مُنْفَكِّينَ» . وقوله تعالى: مُنْفَكِّينَ معناه: مُنْفَصِلِينَ متفرقينَ، تقول: انْفَكَّ الشيءُ عن الشيء إذا انفصلَ عنه، وأمَّا انفك التي هي مِنْ أخواتِ «كَانَ» فلا مَدْخَلَ لَها هنا، قال مجاهد وغيره: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عن الكفرِ والضلالِ حتى جَاءَتْهُم البينةُ «3» ، وأوقَعَ المستقبلَ موقِعَ الماضي في تأتيهم، والبينات: محمّد صلّى الله عليه وسلّم وشرْعُهُ، قال الثعلبيُّ: وَالْمُشْرِكِينَ يعني: من العربِ وهم عَبَدةُ الأوثانِ، انتهى، وقال الفراء وغيره: لم يكونوا منفكِّينَ عَنْ معرفةِ صحةِ نبوةِ محمّد صلّى الله عليه وسلّم والتَّوَكُّفِ لأمره حتى جاءتهم البينةُ فَتَفَرَّقُوا عند ذلك، / ويتَّجِهُ في معنى الآيةِ قولٌ ثالثٌ بارعُ المعنى وذلك أَنْ يكونَ المرادُ: لَمْ يكن هؤلاء القوم

_ (1) سقط في: د. (2) ينظر: «الشواذ» ص: (177) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 507) . (3) أخرجه الطبري (12/ 654) ، (37722) ، وذكره ابن عطية (5/ 507) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 537) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد بنحوه.

منفكينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى يبعثَ إليهمْ رَسُولاً تقومُ عليهم به الحجةُ، وتتمُّ عَلى مَنْ آمن بهِ النعمةُ فكأَنَّه قَالَ: ما كانوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، والصحفُ المطهَّرة: القرآنُ في صحفهِ قاله قتادة والضحاك «1» ، وقال الحسن: الصحفُ المطهَّرة في السماءِ «2» ، فِيها كُتُبٌ أي: أحكام كتب، وقَيِّمَةٌ معناه قَائِمة معتدلَة آخذةٌ للناسِ بالعَدْلِ، ثُمَّ ذَمّ تعالى أهْلَ الكتابِ في أنّهم لم يتفرّقوا في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلا مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ الواضحةَ وكانوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ على نُبُوَّتهِ وصفتهِ، وحُنَفاءَ: جَمْعُ حنيفٍ وهو المستقيمُ، وذِكْر الزكاةِ مَعَ ذِكْرِ بَنِي إسرائيل يُقَوِّي قَوْلَ من قَال: السورةُ مدنيةٌ لأنَّ الزكاةَ إنما فُرِضَتْ بالمدينةِ، ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنَّما دُفِعَ إلى مناقَضَةِ أهْلِ الكتَابِ بالمدينةِ، وقرأ الجمهور: «وذلك دين القيمة» على معنى الجماعة والفِرْقَةِ القيمة، وقال- ص-: قراءة الجمهور: «وذلك دين القيمة» على تقديرِ الأمَّةِ القَيِّمَةِ أي: المستقيمةِ أو الكتُب القيمةِ، وقرأ عبد اللَّه «3» : «وذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمَةُ» بتعريفِ الدِّينِ ورَفْعِ القيمة صفةً، والهاءُ فيه للمبالغَةِ أو عَلى تأويل أنّ الدّين بمعنى الملّة، انتهى، والْبَرِيَّةِ جميعُ الخَلْقِ لأن اللَّه تعالى براهُم أي: أوْجَدَهُمْ بَعْدَ العَدَم. وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قِيْلَ ذلك في الدنيا فَرِضاه عنهم هو ما أظْهَرَه عليهم من أمَارَاتِ رحمتهِ، ورضاهُم عنه هو رضَاهم بجميعِ مَا قَسَمَ لَهم من جميعِ الأرزاقِ والأقدارِ، وقال بعضُ الصالحين: / رَضَى العبادِ عن اللَّهِ رِضَاهُمْ بِما يَرِدُ من أحكامِه، ورِضَاه عنهم أن يُوَفِّقَهُمْ للرِّضَى عَنْهُ، وقال سري السقطي: إذَا كُنْتَ لاَ تَرْضَى عَنِ اللَّهِ فكَيْفَ تَطْلُبُ منْه أنْ يَرْضَى عَنْكَ، وقيل ذَلِكَ في الآخِرَةِ، وخَصَّ تعالى بالذكرِ أهْلَ الخَشْيَةِ لأنها رأْسُ كلِّ بَرَكَةٍ وهيَ الآمِرَةُ بالمعروفِ والناهِيَةُ عن المنكر.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 656) ، (37726) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 507) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 537) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه. (2) ذكره ابن عطية (5/ 507) . [.....] (3) ينظر: «مختصر الشواذ» (177) ، و «البحر المحيط» (8/ 495) ، و «الدر المصون» (6/ 552) .

تفسير سورة"الزلزلة"

تفسير سورة «الزلزلة» وهي مكّيّة قاله ابن عبّاس وغيره، وقال قتادة، ومقاتل: هي مدنيّة [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) [قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ] قد تقدَّم معنى الزلزلةِ، والأثْقَالُ: الموتَى قاله ابن عباس «1» ، وقيل أخْرَجَتْ موتَاها، وكنوزَها، وقول الإنسان: مَا لَها هو عَلَى مَعْنَى التعجُّبِ مِنْ هولِ ما يَرَى، قال الجمهور: الإنسانُ هنا الكافِرُ، وقيلَ عامٌّ في المؤمِنِ والكافِرِ، وإخْبَارُ الأَرْضِ قَالَ ابن مسعودٍ وغيره: هي شَهَادَتُها بِما عُمِلَ عليها مِنْ عَمَلٍ صالحٍ وفَاسدٍ «2» ويؤيدُ هذا التأويل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فَإنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مدى صَوْتِ المُؤَذِّنِ إنْسٌ وَلاَ جِنٌّ وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . ت: وخرَّج الترمذيُّ في «جامعِه» عن أبي هريرةَ قال: «قرأ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآيةُ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: أتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإنَّ أَخْبَارَهَا: أَنْ تَشْهَدَ على كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ على ظَهْرِهَا، تَقُولُ: عَمِلَ عَلَيَّ يَوْمَ كَذَا- كَذَا فهذه أَخْبَارُها» «3» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح انتهى، وكَذَا رواه أبو بكر بن الخطيبِ، وفيه: عَمِلَ عَلَيَّ في يَوْمِ كَذَا وَكَذَا/ وَفِي يوم كذا وكذا.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 659) ، (37734) ، وذكره ابن عطية (5/ 510) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 539) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 645) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري (12/ 660) ، (37740) عن سفيان، وذكره ابن عطية (5/ 510) . (3) أخرجه الترمذي (5/ 446- 447) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (3353) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[سورة الزلزلة (99) : الآيات 5 إلى 8]

[سورة الزلزلة (99) : الآيات 5 الى 8] بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباءُ باءُ السببِ وقَالَ ابن عباس وغيرُه: المعنى أوحَى إليهَا «1» ، قال- ص-: المشهورُ أنَّ أَوْحى يتعدى ب «إلى» وَعُدِّيَ هنا باللامِ مُرَاعَاةً للفَوَاصِل، وقال أَبو البقاء: لَها بِمَعْنَى إلَيْهَا، انتهى. وقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً بمعنى: يَنْصَرِفُونَ مِنْ موضعِ وُرُودِهم مُختلِفي الأَحْوَالِ، قال الجمهور: وُرُوْدُهُمْ بالموت، وصدورُهُمْ هو القيامُ إلَى البَعْثِ والكلُّ سائرٌ إلى العَرْضِ ليرَى عَمَله، ويقفُ عليه، وقيل: الورودُ هو ورودُ المَحْشَرِ والصَّدَرُ أشْتَاتَاً هُو صَدَرُ قَوْمٍ إلى الجنةِ وقَوْمٍ إلى النَّارِ ليروا جَزَاء أعمالهم. وَقَوْلهِ- جلت عظمته-: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ الآية، كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يُسَمِّي هذه الآيَةَ الجِامِعَةَ الفَاذَّةَ، ويروى أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ هذه السُّورَةُ بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ أُسْأَلُ عَنْ مثاقيل الذّرّ؟ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَا أبا بَكْرٍ، مَا رَأَيْتَهُ في الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ، وَيَدَّخِرُ لَكَ اللَّهُ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الخَيْرِ إلَى الآخِرَةِ» «2» ، قال الداوديّ: بَيْنَمَا عُمَرُ بن الخَطَّابِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ليلاً، إذا ركب مقبلين من حهة، فَقَالَ لبعض مَنْ معه: سَلْهُمْ مِنْ أَيْنَ أقبلوا؟ فقال له أحدهم: من الفَجِّ العميقِ، نُرِيدُ البَلَدَ العَتِيقَ، فَأُخْبِرَ عَمَرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَوَقَعُوا في هذا؟ قُلْ لَهُمْ، فَمَا أَعْظَمُ، آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وأَحْكَمُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وَأَعْدَلُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وأرجى آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وَأَخْوَفُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ قَائِلُهُمْ: أَعْظَمُ آيةٍ في/ كِتَابِ اللَّهِ آيَةُ الكُرْسِيِّ [البقرة: 255] ، وَأَحْكَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] وَأعْدَلُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وأرجى آيَةٍ في كِتَابِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 40] وَأَخْوفُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّه: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] فأُخْبِرَ عمرَ بِذلكَ، فَقَالَ لَهُمْ عمرُ: أَفِيكُم ابنُ أُمِّ عَبْدٍ؟ فقالوا: نعم، وهو الّذي [كلّمك] ، قال

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 661) ، (37743) ، وذكره البغوي (4/ 515) ، وابن عطية (5/ 511) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 539) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 645) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس. (2) ينظر: «الدر المنثور» (6/ 654) .

عُمَرُ: كُنَيْفٌ مُليءَ عِلْماً آثرْنَا بِهِ أهْلَ القادسيّة على أنفسنا. قال الداوديّ، ومعْنَى أعظم آية يُرِيدُ في الثواب، انتهى «1» .

_ (1) ذكره البغوي (4/ 516) عن ابن مسعود قال: أحكم آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

تفسير سورة"العاديات"

تفسير سورة «العاديات» وهي مكّيّة في قول جماعة، وقيل: مدنيّة [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) قال ابن عبّاس وغيره: المراد ب الْعادِياتِ: الخيلُ لأَنها تَعْدُو بالفُرْسَانِ، وَتَضْبَحُ بأصْوَاتِها «1» ، وعن ابن مسعود وعلي أن الْعادِياتِ هنا: الإبِلُ لأنها تَضْبَحُ في عَدْوِها «2» ، قال علي- رضي اللَّه عنه-: والقَسَمُ بالإبل العادياتِ مِنْ عَرَفَةَ ومِنَ المُزْدَلِفَةِ، إذا دَفَعَ الحاجُّ، وبإبِل غَزْوَةِ بدرٍ «3» ، والضَّبْحُ تَصْوِيتٌ جَهِيرٌ عِنْدَ العَدْوِ، قال الداوديّ: وهو الصوتُ الذي يُسْمَعُ من أجوافِها وقتَ الرَّكْضِ، انتهى. وقوله تعالى: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قال علي وابن مسعود هي: الإبلُ وذلك بأنها [في] عَدْوِها تَرْجُمُ الحَصْبَاءَ بالحَصْبَاءِ فَتَتَطَايرُ منهَا النارُ، فذلك القَدْحُ، وقال ابن عباس: هي الخيلُ وذلكَ بِحَوَافِرِها في الحِجَارة، وقال ابن عباس أيضاً وجماعةٌ: الكلام/ عَامٌّ يَدْخُلُ في القَسَمِ كلُّ مَنْ يُظْهِرُ بِقَدْحِه ناراً. - ص-: قَدْحاً أبو البقاء: مصدر مؤكّد

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 664) ، (37763) ، وذكره البغوي (4/ 517) ، وابن عطية (5/ 513) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 650) ، وعزاه للبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري (12/ 667) ، (37785) ، وذكره البغوي (4/ 517) ، وابن عطية (5/ 513) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 541) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 652) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. (3) أخرجه الطبري (12/ 666) ، (37781) ، وذكره البغوي (4/ 517) ، وابن عطية (5/ 513) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 541) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 652) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف» ، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عبّاس بنحوه.

[سورة العاديات (100) : الآيات 7 إلى 11]

لأَن المُورِيَ هُوَ القَادِح، انتهى، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قال علي وابن مسعود هي: الإبلُ مِنْ مزدلفةَ إلى مِنًى، وفي بدرٍ، وقال ابن عباس وجماعة كثيرة: هي الخيلُ، واللَّفْظَةُ منَ الغَارَةِ في سبيلِ اللَّهِ وغير ذلك من سير الأُمَمِ وعُرْفُ الغَارَاتِ أنَّها مَعَ الصَّبَاحِ، والنقع الغبارُ الساطِعُ المثَارُ، والضمير في بِهِ ظاهرُه أَنَّه للصُّبْحِ المذكورِ، ويحتملُ أنْ يكونَ للمكانِ والموْضِع الذي يقتضيه المعنى، ومشهورٌ إثارةُ النَّقْعِ هو للخيل، وقال علي: هو هنا للإبل. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال علي وابن مسعود هي: الإبل، وجَمْعاً هي المزدلفة، وقال ابن عباس وجماعة: هي الخيلُ، والمرادُ جَمْعٌ مِنَ الناسِ هم المَغْزُوُّونَ، والقَسَمُ واقِع على قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الكَنُودُ؟ قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هُوَ الكَفُورُ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ» ، وقد يَكُونُ في المؤمِنينَ الكَفُورُ بالنِّعْمَةِ فتقديرُ الآيةِ: إنَّ الإنْسَانَ لِنعمةِ ربِّه لَكَنُودٌ، وأَرْضٌ كَنُودٌ: لاَ تُنْبِتُ شَيْئاً، والكَنُودُ: العَاصِي بلُغَةِ كِنْدَة، ويقال للبخيل: كَنُودٌ، وفي البخاريِّ عن مجاهدٍ: الكنود الكفور، انتهى «1» . [سورة العاديات (100) : الآيات 7 الى 11] وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ يحتملُ الضميرُ أنْ يعودَ عَلَى اللَّهِ تعالى وقالَهُ قتادة «2» ، ويحتملُ أَنْ يَعُودَ على الإنسان أَنَّه شَاهِدٌ عَلى نَفْسِهِ بِذَلِكَ وهذا قول مجاهد وغيره» . وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ أي: وإنَّ الإنسانَ لحبِّ الخَيْرِ، والمعنى من أجْلِ حبِّ الخَيْرِ، لَشَدِيدٌ أي: بَخِيلٌ بالمَالِ ضَابِطٌ له، والخيرُ هنا المالُ، ويحتملُ أن يُرَادُ هنا الخيرُ الدنيويُّ من مالٍ، وصحةٍ، وجاهٍ عندَ الملوك، ونحوه لأَنَّ الكفارَ والجُهَّال لا يعرفونَ غَيْرَ ذلكَ، وأَمَّا [الحُبُّ في خَيْرِ الآخرة فَمَمْدُوحٌ مَرّجُوٌّ لَه الفوزُ، وقَال الفراء: معنى الآية: أنّ

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 672) ، (37829) ، وذكره البغوي (4/ 518) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 653) ، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد عن مجاهد، وذكره البخاري (8/ 599) ، كتاب «التفسير» معلقا. (2) أخرجه الطبري (12/ 673) ، (37844) ، وذكره ابن عطية (5/ 514) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 654) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة. (3) ذكره ابن عطية (5/ 515) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن أبي حاتم.

الإنسانَ لشديدُ الحبِّ لِلْخَيْرِ ولما تَقَدَّمَ] الخيرُ قَبْلَ «شديدٍ» حُذَف مِنْ آخِره لأَنه قَدْ جَرَى ذِكْرهُ ولرؤوسِ الآي، انتهى. وقوله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ تَوْقِيفٌ، أي: أفلا يعلم مآلَه ومصيرَه فيستعدّ لَهُ. وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، أي: مُيِّزَ وأبْرزَ مَا فِيها ليقعَ الجزاءُ عليه، ويفسّر هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» وفي قولِه تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وَعِيدٌ، - ص-: والعَامِلُ في يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ على تضمينِه مَعْنى: لَمُجازٍ لأنّه تعالى خبير دائما، انتهى.

تفسير سورة"القارعة"

تفسير سورة «القارعة» وهي مكّيّة بلا خلاف [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) قَال الجُمْهُورُ: الْقارِعَةُ القيامةُ نَفْسُها، والفَرَاشُ: الطيرُ الذي يَتَسَاقَطُ في النارِ ولا يَزَال يتقحمُ على المصباحِ، وقال الفَرَّاءُ: هو صَغِيرُ الجَرَادِ الذي ينتشر في الأرضِ والهواءِ، وفي البخاريّ: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ: كَغْوَغَاءِ الجَرَادِ يركبُ بعضُه بعضاً كذلكَ الناسُ يومئِذٍ يجولُ بعضُهم في بعض، انتهى، والْمَبْثُوثِ هنا معناه: المتفرِّقُ جمعُه وجملتُه مَوْجودةٌ متصلةٌ، والعِهْنُ هو: الصوفُ والنَّفْشُ خَلْخَلَةُ الأَجْزَاءِ وتفريقُها عَن تَرَاصِيها. وقوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قال كثير من المفسرين: المرادُ بالأُمِّ نَفْسُ الهَاوِيَةِ، وهذا كما يقال للأَرْضِ أم الناس لأنها تُؤوِيهِمْ، وقال أبو صالح/ وغيره: المُرَادُ أُم رأْسِه لأَنَّهُمْ يَهْوُونَ عَلى رُؤوسِهم «1» وَرَوى المبرِّدُ «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قَالَ لرَجُلٍ: لاَ أُمَّ لَكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَدْعُوني إلَى الهدى وَتَقُولُ: لاَ أُمَّ لَكَ، فَقَالَ- عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: إنَّما أَرَدْتُ لاَ نَارَ لَكَ، قال اللَّهُ تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» .

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 677) ، (37865) ، وذكره البغوي (4/ 519) ، وابن عطية (5/ 517) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 543) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير. [.....]

تفسير سورة"التكاثر"

تفسير سورة «التّكاثر» وهي مكّيّة [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي: شَغَلَكُمْ المباهاةُ والمفاخرةُ بكثرةِ المالِ والأولادِ والعَدَدِ، وهذا هِجِّيرى أبناءِ الدنيا العربِ وغيرهم لا يتخلصُ منه إلا العلماء المتقون، قال الفخر: فالألفُ واللامُ في التَّكاثُرُ ليسَ للاسْتِغْرَاقِ بَلْ للمَعْهُودِ السَّابِقِ في الذِّهْنِ، وهو التكاثرُ في الدنيا ولذاتِها وعلائِقها فإنّه هُو الذي يَمْنَعُ عن طاعةِ اللَّه وعبوديَّتِه ولما كَان ذلك مُقَرَّراً في العقولِ ومُتَّفَقاً عليه في الأديان لاَ جَرَمَ حَسُنَ دخولُ حرف التعريف عليه فالآيةُ دالَّةٌ على أن التكاثرَ والتفاخرَ بما ذُكِرَ مذمومٌ، انتهى. وقوله تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى مُتُّمْ فَدُفِنْتُم في المقابِر وهذا خبرٌ فيه تَقْرِيعٌ وتوبيخ وتحسُّرٌ، وفي الحديثِ الصحيحِ عنه صلّى الله عليه وسلّم «يَقُولُ ابن آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أو تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» «1» قال- ص-: قرأ الجمهورُ: «الْهَاكُم» على الخبرِ، وابنُ عباسٍ بالمدِّ، والكسائي «2» في روايةٍ

_ (1) أخرجه مسلم (4/ 2273) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: (3/ 2958) ، والترمذي (5/ 447) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة التكاثر (3354) ، (4/ 572) ، كتاب «الزهد» باب: منه (2342) ، والنسائي (6/ 238) ، كتاب «الوصايا» باب: الكراهية في تأخير الوصية (3613) ، وأحمد (4/ 24) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 211) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب من حديث أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه نحوه، أخرجه مسلم (4/ 2273) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: (4/ 2959) ، والبيهقي (3/ 369) ، كتاب «الجنائز» باب: ما ينبغي لكل مسلم أن يستعمله من قعر الأمل، وابن حبان في «صحيحه» (8/ 35- 36) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء في الحرص وما يتعلق به (3244) . (2) ينظر: «مختصر القراءات» (179) ، و «البحر المحيط» (8/ 506) .

[سورة التكاثر (102) : الآيات 5 إلى 8]

بهمزَتَيْنِ، ومعنى الاستفهامِ التوبيخُ والتقريرُ، انتهى، قال الفخر: اعْلَمْ أنَّ أهم الأمور وأولاها بالرعايةِ تَرْقِيقُ القلبِ، وإزالَةُ حُبِّ الدنيا منه، ومُشَاهَدَةُ القبورِ تُورِثُ ذلكَ كما ورد/ به الخَبَرُ، انتهى. وقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ زَجْرٌ ووعيدٌ، ثم كُرِّرَ تَأكِيداً، ويأخذ كل إنسانٍ من هذا الزجرِ والوعيدِ المُكَرَّرِ على قدر حظِّهِ من التوغُّلِ فيما يُكْرَه هذا تأويل الجمهور، وقال عليٌّ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في القبرِ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في البَعْثِ «1» ، قال الفخر «2» : وفي الآيةِ تَهْدِيدٌ عظيمٌ للعلماءِ فَإنها دالة على أنه لَوْ حَصَلَ اليقينُ لَتَرَكُوا التكاثُرَ والتَّفَاخُرَ فهذا يَقْتَضِي أنَّ مَنْ لا يتركُ التكاثرَ والتفاخرَ أنْ لاَ يكونَ اليقينُ حَاصِلاً له فالويلُ للعالمِ الذي لا يكون عاقلا ثم الويل له، انتهى. [سورة التكاثر (102) : الآيات 5 الى 8] كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) وقوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جوابُ «لو» محذوفٌ تقديرهُ لاَزْدُجِرْتُمْ، [وبَادَرْتُم] إنقاذَ أنفُسِكم من الهَلَكَةِ، واليقينُ أعلى مراتبِ العلم، ثم أخْبَرَ تعالى الناسَ أنَّهُم يَرَوْنَ الجحيمَ، وقال ابن عباس: هذا خطابٌ للمشركينَ والمَعْنَى على هذا التأويلِ: أنها رؤيةُ دخولٍ وصَلْيٍ وَهُوَ عينُ اليقينِ لَهُم «3» ، وقال آخرونَ: الخطابُ للناسِ كلِّهم، فهي كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] فالمعنى أنّ الجميعَ يَرَاها ويجوزُ النَّاجِي وَيَتَكَرْدَسُ فيها الكافرُ، - ص-: لَتَرَوُنَّ ابن عامر والكسائي- بضم التاء-، والباقون بفتحها «4» ، انتهى. وقوله تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ تأكيدٌ في الخبرِ، وعينُ اليقينِ: حقيقتُه وغايتُه، ثم أخْبَر تعالى أنّ الناسَ مَسْؤولونَ يَوْمَئِذٍ عَنْ نعيمِهم في الدنيا كيفَ نالُوه ولِمَ آثَرُوهُ، وتَتَوَجَّهُ في هذا أسئلةٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ شَخْصٍ شَخْصٍ، وهِيَ مُنْقَادَةٌ لِمَنْ أُعْطِيَ فَهْماً في كتاب الله- عز وجل، - وقد قال صلّى الله عليه وسلّم/ لأصحابه: «والّذي نفسي بيده، لتسألنّ عن

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 679) ، (37873) عن علي رضي الله عنه، وذكره ابن عطية (5/ 519) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (32/ 76) . (3) أخرجه الطبري (12/ 680) ، (37878) ، وابن عطية (5/ 519) . (4) ينظر: «السبعة» (695) ، و «الحجة» (6/ 434) ، و «إعراب القراءات» (2/ 524) ، و «معاني القراءات» (3/ 160) ، و «شرح الطيبة» (6/ 133) ، و «العنوان» (213) ، و «حجة القراءات» (771) ، و «شرح شعلة» (626) ، و «إتحاف» (2/ 626) .

نَعِيمِ هذا الْيَوْمِ» «1» ، الحديثُ في الصحيح إذْ ذَبَحَ لَهُمْ أبُو الهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ شَاةً وَأَطْعَمَهُمْ خُبْزاً وَرُطَباً، واستعذب لَهُمْ مَاءً، وَعَنْ أبي هريرةَ في حديثهِ في مسيرِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكرٍ وعمرَ إلى بَيْتِ أبي الهَيْثَمِ، وأكلهم الرطب واللّحم وشربهم الماء، وقوله صلّى الله عليه وسلّم هذا هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وإنَّ ذَلِكَ كَبُرَ على أصحابهِ، وإنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَال: «إذا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هذا وَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، فَقُولُوا: باسم اللَّهِ، وعلى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَإذَا شَبِعْتُمْ، فَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، فَإنَّ هذا كَفَافٌ [بِذَاكَ] » هذا مختصرٌ «2» رواه الحاكم في المستدركِ، انتهى من «سلاح المؤمن» قال الداوديُّ: وعن الحسنِ وقَتَادَة: ثَلاَثٌ لا يَسْأَلُ اللَّهُ عنهنّ ابنَ آدمَ ومَا عَدَاهُنَّ فيه الحسابُ والسؤال إلا مَا شَاءَ اللَّهُ: كسوةٌ يوارِي بها سوءَتَه، وكِسْرَةٌ يَشُدَّ بِهَا صلبَه، وبيتٌ يُكِنُّه مِنَ الحرّ والبرد، انتهى.

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 1609- 1610) ، كتاب «الأشربة» باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، فيتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام (140، 140/ 2038) . (2) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 107) مختصرا. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: صحيح.

تفسير سورة"العصر"

تفسير سورة «العصر» وهي مكّيّة [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) قال ابن عبّاس: الْعَصْرِ الدهرُ «1» ، وقال مقاتل: العَصْرُ هي صلاةُ العَصْرِ، وهي الوُسْطَى، أقْسَم اللَّهُ بها «2» ، وقال أُبَيُّ بن كعب: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَن وَالْعَصْرِ فَقَالَ: «أقْسَمَ رَبُّكُمْ بآخِر النَّهَارِ» ، والْإِنْسانَ هنا اسْمُ جنسٍ والخُسْرُ: النُّقْصَانُ وَسُوءُ الحالِ، وَمَنْ كَانَ مِنَ المؤمنينَ في مُدَّةِ عمره في التَّواصِي بالحقِّ، والصَّبْرِ، والعَمَلِ بِحَسَبِ الوَصَاةِ فَلاَ خُسْرَ مَعَه وَقَدْ جَمَعَ الخيرَ كلَّه.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 685) ، (37908) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (4/ 522) ، وابن عطية (5/ 520) . (2) ذكره البغوي (4/ 522) ، وابن عطية (5/ 520) .

تفسير سورة"الهمزة"

تفسير سورة «الهمزة» وهي مكّيّة [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) تقدم تفسير: وَيْلٌ وال هُمَزَةٍ: الذي يَهْمِزُ الناسَ بلسانهِ، أي: يَعيبُهم ويَغْتَابُهم، وال لُمَزَةٍ: قريبٌ في المعنَى مِنْ هَذَا، وَقَدْ تَقَدم بيانُه في قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] ، وفي قوله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ [التوبة: 79] وغيرهِ، قيل: نَزَلَتْ هذه الآيةُ في الأَخْنَسِ بن شُرَيْق، وقِيلَ في جميل بن عامر، ثم هِي تتناولُ كلَّ منِ اتَّصَفَ بهذه الصفاتِ. وَعَدَّدَهُ معناه: أحْصَاهُ وحافظَ على عَدَدِهِ أن لا ينتقص، وقال الداوديّ: وَعَدَّدَهُ: أي: اسْتَعَدَّه، انتهى، لَيُنْبَذَنَّ: لَيُطْرَحَنَّ- ص-: نارُ اللَّهِ: خَبَرُ مبتدإٍ مَحْذُوفٍ، أي: هي نار الله، انتهى. والَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ: أي: الَّتِي يَبْلُغَ إحْرَاقَها وألمهَا القلوبُ. و «موصدة» : أي مُطْبَقَة مُغْلَقَة. فِي عَمَدٍ جَمْعِ عَمُودٍ، وقرأ ابن مسعود «1» : «مُؤصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» وقال ابن زيد: المعنى: في عمد حديد مغلولين بها، والكلّ من نار «2» ، عافانا الله من ذلك.

_ (1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 522) . (2) أخرجه الطبري (12/ 690) ، (37947) ، وذكره ابن عطية (5/ 522) .

تفسير سورة"الفيل"

تفسير سورة «الفيل» وهي مكّيّة بإجماع [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) هذه السورةُ تنبيهٌ على العِبرَةِ في أخذِ اللَّهِ تعالى لأَبْرَهَةَ أميرِ الحَبَشَةِ، حينَ قَصَدَ الكعبةَ ليهدمَها، وكانَ صاحبَ فيلٍ يَرْكَبُه، وقصتُه شهيرةٌ في السِّيرَ فِيها تطويلٌ،، واختصارها أن أبرهَة بَنَى في اليمنِ بَيْتاً وأرادَ أن يَرِدَ إليه حجُّ العَرَبِ، فذهبَ أعرابي وأحْدَثَ في ذلك البيتِ، فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ واحْتَفَلَ في جُمُوعِه، ورَكِبَ الفيلَ وقَصَدَ مكةَ، فَلمَّا قَرُبَ منها، فَرَّتْ قريشٌ إلى الجبالِ والشِّعَابِ من مَعَرَّةِ/ الجيْشِ، ثم تَهَيَّأ أبرهةُ لدخولِ مكةَ وَهَيَّأَ الفيلَ، فأخَذَ نُفَيْلُ بنُ حَبِيبٍ بِأُذُنِ الفيلِ وكان اسمه محموداً، فقال له: ابْرُكْ، محمودُ فَإنَّكَ في حَرَمِ اللَّه، وارْجِعْ مِنْ حَيْثُ جئتَ رَاشِداً، فَبَرَكَ الفِيلُ بِذِي الغَمِيسِ، فَبَعَثُوهُ فَأَبَى فَضَرَبُوا رأسه بالمِعْوَلِ، ورَامَوْهُ بِمَحَاجِنِهِمْ فَأَبَى، فَوَجَّهُوه رَاجِعاً إلى اليمنِ، فَقَام يُهَرْوِلُ، فبعثَ اللَّه عليهم طَيْراً جماعاتٍ جماعاتٍ سُوداً مِنَ البَحْرِ، عِنْدَ كُلِّ طَائرٍ ثَلاَثَةُ أحْجَارٍ في منقارِه، ورِجْلَيْهِ، كلُّ حَجَرٍ فَوْقَ العَدَسَةِ ودون الْحمَّصَةِ، ترميهم بهَا، فَمَاتوا في طريقِهم متفرقينَ وتَقَطَّع أبْرَهَةُ أُنْمَلَةً أُنْمَلَةً حتى مات، وحَمَى اللَّهُ بيتَه، والأبابيلُ: الجماعاتُ تَجِيءُ شيئاً بَعْدَ شيءٍ، قال أبو عبيدةَ: لاَ وَاحِدَ له من لفظه «1» ، قال الفخر «2» : وفِي تَضْلِيلٍ مَعْنَاهُ: في تَضْيِيعٍ وإبْطَالٍ، يقال: ضَلَّلَ كيدَه، إذا جعَلَه ضَالاًّ ضَائِعاً، ونظيرُه قوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ [إِلَّا فِي ضَلالٍ] [غافر: 25] انتهى، والعَصْفُ: وَرَقُ الحِنْطَةِ وتِبْنُه، والمعنى صَارُوا طَحِيناً ذَاهِباً كَوَرَقِ حِنْطَةٍ أَكَلَتْهُ الدَّوابُّ، وراثته، فجمع

_ (1) ذكره الطبري (12/ 690) ، والبغوي (4/ 528) ، وابن عطية (5/ 523) . (2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (32/ 94) . [.....]

لَهُمْ المهَانَةَ والخِسَّةَ والتَّلَفَ، قال الفخر: وقيل المعنى: كَعَصْفٍ صَالحٍ لِلأَكْلِ، والمعنى جَعَلَهُمْ كَتِبْنٍ تأكُلُه الدَّوَابُّ وهو قولُ عكرمةَ والضحاك، انتهى «1» ، ومن كتاب «وسائل الحاجات وآداب المناجاة» للإمام أبي حامد الغزالي- رحمه اللَّه تعالى- قَال: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصالحينَ وأربابِ القلُوب أنه من قَرأَ في رَكْعَتي الفَجْر في الأُولَى الفاتحةَ و «ألَمْ نَشْرَحْ» ، وفي الثانيةِ الفاتحةَ و «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ» قَصُرَتْ يَدُ كُلِّ عَدُوِّ عنه، ولم يُجْعَلْ لهم إليه سبيلٌ، قال الإمام أبو حامد: وهذا صحيح/ لاَ شَكَّ فِيه، انتهى.

_ (1) أخرجه الطبري (6/ 698) ، (37995) عن الضحاك، وذكره البغوي (4/ 529) ، وابن عطية (5/ 524) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 676) ، وعزاه لعبد بن حميد عن عكرمة.

تفسير سورة"قريش"

تفسير سورة «قريش» وهي مكّيّة [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريشٌ، ولدُ النَّضْرِ بن كنانةَ، والتَّقَرُّشُ: التَّكسُّبُ، والمعنى أن اللَّهَ تَعالى جَعَلَ قريشاً يألَفُونَ رِحْلَتَيْنِ في العامِ، واحدةً في الشتاءِ وأخْرَى في الصيفِ، قال ابن عباس: كانوا يَرْحلُونَ في الصيفِ إلى الطائفِ حيثُ الماءُ والظلُّ ويرحلونَ في الشِّتاءِ إلَى مكةَ «1» ، قال الخليل: معنى الآيةِ لأنْ فَعَلَ اللَّهُ بقريشٍ هَذا ومكنَهم من إلْفِهِم هذه النعمةَ فَلْيَعْبُدُوا ربَّ هَذَا البيتِ. وقولُهُ تعالى: مِنْ جُوعٍ معناه أنَّ أهْلَ مكةَ قَاطِنُون بوادٍ غَيْرِ ذي زرعٍ عُرْضَةٍ للجوعِ والجَدْبِ لولا فضلُ اللَّه عليهم.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 703) ، (38014) ، وذكره البغوي (4/ 530) ، وابن عطية (5/ 525) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 678) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس.

تفسير سورة"الماعون"

تفسير سورة «الماعون» وهي مكّيّة [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) قوله سبحانه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ الآية، توقيفٌ وتنبيهٌ لِتَتَذكَّرَ نَفْسُ السامعِ كلَّ من تعرفُه بهذه الصفةِ، والدينُ: الجزاءُ. ودعُّ اليتيِمِ: دَفْعُه بعُنْفٍ إمَّا عن إطعامهِ والإحْسَانِ إليه، وإما عن حقِّه ومالِه، وهو أشد، ويُرْوَى أَن هذهِ الآيةَ نزلتْ في بعضِ المُضْطَرِبِينَ في الإسلام بمكةَ، لم يُحَقِّقُوا فيه، وفُتِنُوا فَافْتَتَنُوا، وربَّمَا كَانَ يصلى بعضُهم أحياناً مع المسلمينَ مدافعَةً وحَيْرَةً، فقال تعالى فيهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الآية، ونقل الثعلبي عن ابن عباس وغيره أنَّ الآيةَ نزلتْ في العاصِ بن وائلٍ، انتهى «1» ، وقال السهيليّ: قال أهل التفسير: نَزَلَ أولُ السورةِ بمكةَ في أبي جهلٍ، وهو الذي يكذِّبُ/ بالدينِ، ونزل آخرُها بالمدينةِ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سَلُولَ وأصحابه، وهم الذين يُرَاؤُونَ ويَمْنَعُونَ الماعون، انتهى، قال سعد بن أبي وقاصٍ: سألتُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ، فَقَالَ: «همُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِها» «2» ، يريدُ- واللَّه أعلم- تَأْخِيرَ تَرْكٍ وإهْمَالٍ، وإلى هذَا نَحَا مجاهد «3» ، وقال

_ (1) ذكره البغوي (4/ 531) . (2) أخرجه البيهقي (2/ 214) ، كتاب «الصلاة» باب: الترغيب في حفظ وقت الصلاة والتشديد على من أضاعه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 33) : رواه أبو يعلى وإسناده حسن. قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (1/ 178) ، فسمعت أبا زرعة يقول: هذا خطأ والصحيح موقوف. (3) أخرجه الطبري (12/ 707) ، (38048) ، وذكره ابن عطية (5/ 527) .

عطاء بن يَسَارٍ: الحمدُ للَّهِ الَّذِي قَال: عَنْ صَلاتِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: في صَلاَتِهِمْ «1» . وقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ بيانُ أنَّ صلاةَ هؤلاءِ لَيْسَتْ للَّهِ تعالى بإيمانٍ، وإنَّمَا هي رياءٌ للبشر، فلاَ قَبُولَ لها. وقوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ وصفٌ لهم بِقِلَّةِ النفعِ لعبادِ اللَّهِ، وتلكَ شَرُّ خِصْلَةٍ، وقال عليٌّ وابن عمر: الْماعُونَ: الزكاة «2» ، وقَالَ ابنُ مسعودٍ وابن عباس وجماعة: هُو مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ كَالفَأْسِ، والدَّلْوِ، والآنِيَةِ، والمقَصِّ ونحوه «3» ، وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ فَقَالَ: المَاءُ وَالنَّارُ، والمِلْحُ، ورَوَتْهُ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، وفي بَعْضِ الطُّرُقِ زيادَة الإبْرَةِ، والخَمِيرِ، قال البخاريُّ: المَاعُونُ: المعروفُ كلُّه، وقال بعضُ العربِ: الماعونُ: الماءُ، وقال عكرمةُ: أعلاه الزكاةُ المفروضة، وأدناه عاريّة المتاع، انتهى «4» .

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 708) ، (38056) ، وذكره ابن عطية (5/ 527) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 683) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 555) . (2) أخرجه الطبري (12/ 710) عن علي برقم: (38072) ، وعن ابن عمر برقم: (38073) ، وذكره البغوي (4/ 532) ، وابن عطية (5/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 685) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في «سننه» . (3) أخرجه الطبري (12/ 710) ، (38077) ، عن ابن مسعود، وعن ابن عبّاس برقم: (38115) ، وذكره البغوي (4/ 532) ، وابن عطية (5/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 684) ، وعزاه للطبراني عن ابن مسعود. (4) ذكره البغوي (4/ 532) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 556) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 685) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن عكرمة.

تفسير سورة"الكوثر"

تفسير سورة «الكوثر» وهي مكّيّة [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) قال جماعة من الصحابة والتابعين: الْكَوْثَرَ نَهْرٌ في الجنةِ حافَّتَاه قِبَابٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مجوَّفٍ، وطينُه مِسْكٌ وحَصْبَاؤه يَاقُوتٌ، ونحوُ هذا مِنْ صفاتِه، وإنِ اختلفتْ ألْفَاظُ رُوَاتِه، وقال ابن عباس: الكَوثَرُ: الخَيْرُ الكَثِيرُ/ قال ابن جُبَيْرٍ: النَّهْرُ الذي في الجنةِ هُو من الخيرِ الذي أعْطَاه اللَّهُ إياه «1» ت: وخَرَّجَ مسلمٌ عن أنس قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يومٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إذْ أغفى إغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّماً، فَقَالَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفاً سُورَةٌ، فَقَرَأَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إلى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُو حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» الحديثُ، انتهى، وخَرَّج ابنُ ماجه من حديثِ ثَوْبَانَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أوَّلَ مَنْ يَرِدُ عَلى الحَوْضِ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ الدُّنْسُ ثِياباً الشُّعْثُ رُؤوساً، الَّذِينَ لاَ يَنْكِحُونَ المُتَنَعِّمَاتِ، وَلاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السُّدَدِ» «2» ، قال الراوي: فبكى عمرُ بن عبدِ العزيزِ حتى اخضل لِحْيَتُهُ، حِينَ بلغهُ الحديثُ، وقال: لاَ جَرَمَ، إنِّي لاَ أَغْسِلُ ثَوْبِي الَّذِي يَلِي جَسَدِي حتى يَتَّسِخَ، وَلاَ أَدْهِنُ رَأْسِي حتى يَشْعَثَ، وخَرَّجَه أبو عيسى الترمذيُّ عن ثوبان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمعناه «3» ، ونَقَلَ صاحبُ «التذكرة» «4» عن أنس بن مالك قال: أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ الحَوْضَ عَلَى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 717) ، (38149) ، وذكره البغوي (4/ 533) ، وابن عطية (5/ 529) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 557) . (2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1438- 1439) ، كتاب «الزهد» باب: ذكر الحوض (4303) ، وأحمد (5/ 275) . (3) أخرجه الترمذي (4/ 629) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (15) (2444) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (4) ينظر: «التذكرة» (1/ 410) .

الذَّابِلُونَ النَّاحِلُونَ السَّائِحُونَ الَّذِينَ إذَا أَجَنَّهُمُ اللَّيْلُ استقبلوه بِالحُزْنِ، انتهى من «التذكرة» ، ورَوَى أبو داودَ في «سننِه» عن أبي حمزةَ عن زيد بن أرقم قال: كنا مع رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يُرِدُ عَلَي الحَوْضِ، قَال: قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ يَومَئِذٍ؟ قَالَ: سَبْعُمِائَةٍ، أَوْ ثَمَانِمِائَةٍ، انتهى «1» . وقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أمْرٌ بالصلاةِ على العمومِ، والنَّحْرُ/ نَحْرُ الهَدْيِ، والنُّسُكِ، والضَّحَايَا عَلى قول الجمهور. وقوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ردٌّ على مقالةِ بَعْضِ سفهاءِ قريشٍ كأبي جهل وغيرِه، قال عكرمة وغيره: مات ولد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال أَبُو جَهْلٍ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فنزلت السُّورةُ، وقال تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي: المقطوع المبتور من رحمة «2» الله، والشانئ المبغض، قال الداوديّ: كل شانىء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو أبْتَرُ، لَيْسَ له يَوْمَ القيامة شَفِيعٌ ولا حميم يطاع، انتهى.

_ (1) أخرجه أبو داود (2/ 650) ، كتاب «السنة» باب: في الحوض (4746) ، أخرجه أحمد (4/ 367، 369، 371، 372) عن زيد بن أرقم. [.....] (2) ذكره ابن عطية (5/ 530) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 559) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 691) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن عطاء بنحوه.

تفسير سورة"الكافرون"

تفسير سورة «الكافرون» وهي مكّيّة إجماعا [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) رُوِيَ في سَبَبِ نزولِ هذه السورةِ عن ابن عباس وغيرِه «1» أن جماعةً من صناديدِ قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: دَعْ مَا أَنْتَ فيه ونَحْنُ نُمَوِّلُكَ، ونُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا، وإن لم تفعلْ هذا فلتعبدْ آلهتَنا، ونَعْبُدُ إلهك، حتى نشتركَ فَحَيْثُ كَانَ الخيرُ نِلْنَاه جميعاً، وَرُوِيَ: أنَّ هذه الجماعةَ المذكورةُ هم: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وأمية بن خلف، وأُبيُّ بن خلف، وأبو جهل، وأبناءُ الحجاج، ونظراؤهم ممن لم يُكْتَبْ له الإسلام، وحتّم بشقاوته، فأخبرهم صلّى الله عليه وسلّم عن أمر الله- عز وجل- أنه لا يعبدُ ما يعبدونَ وأنهم غيرُ عابدِي ما يَعْبُدُ، ولما كان قوله: لاَ أَعْبُدُ محتملاً أَن يُرَادَ بهِ الآنَ وَيَبْقَى المستأنَفُ منتظَراً، ما يكونُ فيه من عبادتهِ، جاء البيانُ بقوله: وَلا أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ أي: أبداً، ثمَّ جاء قوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ الثاني حَتْماً/ عليهمْ أنَّهم لاَ يؤمِنُونَ به أبداً، كالَّذِي كَشَفَ الغيبَ، ثم زَادَ الأمْرَ بياناً وتَبَرِّياً منهم قولهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وقَالَ بعضُ العلماءِ: في هذِه الألْفَاظِ مُهَادَنَةٌ ما وهِيَ منسوخة.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 627) ، (38225) ، وذكره ابن عطية (5/ 531) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 692) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عبّاس.

تفسير سورة"النصر"

تفسير سورة «النّصر» وهي مدنيّة بإجماع [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) روت عائشة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا فَتَحَ مَكةَ وأسْلَمَتِ العَرَبُ، جَعَلَ يُكْثِرُ أنْ يقولَ: «سبحانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إلَيْكَ» يَتَأَوَّلُ القرآن في هذه السورةِ، وقال لها مرة: ما أراه إلا حضورَ أجَلي، وتأوّله عمر والعباس بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فصدَّقَهُما، ونَزَع هذا المنزَعَ ابنُ عباسٍ وغيره، وَالْفَتْحُ هو فتح مكة كذا فسّره صلّى الله عليه وسلّم في «صحيح مسلمٍ» ، والأفْواجُ: الجَماعَةُ إثْرَ الجماعةِ، - ص-: بِحَمْدِ رَبِّكَ أي مُتَلَبِّساً، فالباءُ للحالِ، انتهى. وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً بِعَقِبِ وَاسْتَغْفِرْهُ تَرْجِيَةٌ عَظِيمَةٌ للمُسْتَغْفِرِينَ، قال ابن عمر: نزلت هذه السورة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بِمِنى في أوْسَطِ أيام التَّشْرِيق في حِجَّة الوَدَاعِ وعَاشَ بَعْدَها ثَمَانِينَ يَوْماً، أو نحوَها «1» .

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 532) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 561) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 696) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبزار، وأبي يعلى، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عمر بنحوه.

تفسير سورة"المسد"

تفسير سورة «المسد» وهي مكّيّة بإجماع [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) في «صحيح البخاري» وغيرِه عن ابن عباس: «لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا/ إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّاً لَكَ، مَا جَمَعْتَنَا إلاَّ لِهَذَا، ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ إلى آخرها» «1» ، وتَبَّتْ معناه: خَسِرَتْ والتَّبابُ الخُسْرَانُ، والدَّمَارُ، وأسْنَدَ ذلك إلى اليدينِ من حيثُ إنَّ اليَدَ مَوضِعُ الكَسْبِ والرِّبْحِ، وضَمِّ مَا يُمْلَكُ، ثم أوْجَبَ عليه أنه قَدْ تَبَّ، أي: حُتِّمَ ذَلِكَ عَلَيْه، وفي قراءة ابن مسعود «2» : «وقَدْ تَبَّ» ، وأبو لَهَبٍ هو عَبْدُ العُزَّى بْنُ عَبْدِ المطّلب، وهو عمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولكن سَبَقَتْ له الشقاوةُ، قال السهيليّ: كَنَّاهُ اللَّه بأبي لهبٍ لَمَّا خَلَقَهُ سبحانَه لِلَّهَبِ وإليه مصيرُه ألا تَرَاهُ تعالى قال: سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ فَكَانَتْ كُنْيَتُه بأبي لَهَبٍ تَقَدَّمَتْ لِمَا يصيرُ إليه من اللهبِ، انتهى. وقوله سبحانه: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ يحتملُ أن تَكُونَ «ما» نافيةً عَلَى معنى الخبرِ، ويحتملُ أنْ تكون «ما» استفهاميةً عَلَى وَجْهِ التقريرِ أي: أينَ الغَنَاءُ الذي لِمَالِه وَكَسْبهِ،

_ (1) أخرجه البخاري (8/ 609) ، كتاب «التفسير» باب: سورة: تبت حديث (4971) . (2) ينظر: «الكشاف» (4/ 814) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 534) ، و «البحر المحيط» (8/ 526) ، و «الدر المصون» (6/ 585) .

وَما كَسَبَ يُرَادُ به عَرَضُ الدنيا، من عَقَارٍ، ونحوه، وقيل: كَسْبُه بَنُوه. وقوله سبحانه: سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ حَتْمٌ عَلَيْهِ بِالنارِ وإعْلاَمٌ بأنه يَتَوَفَّى على كفرِه، نعوذُ باللَّهِ من سوءِ القَضَاءِ ودَرْكِ الشقاءِ. وقوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ هي أمَّ جميلٍ أخْتُ أبي سفيانَ بن حرب، وكانت مؤْذِيةً/ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنينَ بلسانِها وغايةِ قُدْرَتِها، وكانَتْ تَطْرَحُ الشّوْكَ في طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم وطريق أصحابه لِيَعْقِرَهم فلذلكَ سُمِّيتْ حَمَّالَةَ الحَطَبِ قاله ابن عباس «1» ، وقيل هو استعارةٌ لذنوبِها، قال عياض: وذكر عَبْدُ بن حُمَيْدٍ قال: كَانَتْ حمالَة الحطبِ تَضَعُ العِضَاهَ، وَهِي جَمْرٌ على طريق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكأنَّما يَطَؤُهَا كَثِيباً أَهْيَلَ، انتهى، - ص-: وقُرِىءَ شاذًّا: «وَمُرَيْئَتُهُ» بالتصغيرِ «2» ، والجيدُ هُو العُنُقُ، انتهى. وقوله تعالى: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال ابنُ عباس وجماعة: الإشَارَةُ إلى الحبلِ حَقِيقَةٌ، الذي رَبَطَتْ به الشوكَ «3» ، والمَسَدُ: الليفُ، وقِيلَ ليفُ المُقْلِ، وفي «صحيحِ البخاري» : يُقَالُ مِنْ مسد لِيف المُقْلِ وهي السلسلةُ الَّتِي في النارِ، انتهى، ورُوِي في الحديثِ أنَّ هذهِ السورةَ لما نزلتْ وقُرِئَتْ بَلَغَتْ أُمَّ جميلٍ فَجَاءَتْ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ جَالسٌ معَ النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجدِ وَبِيَدِهَا فِهْرُ حَجَرٍ، فأخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا وقَالَتْ: يا أبا بكرٍ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، وَلَوْ وَجَدْتُه لَضَرَبْتُه بِهَذَا الفِهْرِ، وإنّي لَشَاعِرَة وَقْد قلت فيه: [منهوك الرجز] مُذَمَّماً قَلَيْنَا ... وَدِينَهُ أَبَيْنَا «4» فَسَكَتَ أبو بكرٍ، ومضت هي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لَقَدْ حَجَبَتْنِي عَنْهَا مَلاَئِكَةٌ فَمَا رَأَتْنِي وَكَفَانِيَ الله شرّها.

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 735) ، (38269) ، وذكره البغوي (4/ 543) ، وابن عطية (5/ 535) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 564) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 703) ، وعزاه لابن جرير، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن عساكر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. (2) قرأ بها ابن مسعود، كما في «الشواذ» ص: (182) ، و «المحتسب» (2/ 375) ، وينظر: «الكشاف» (4/ 815) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 535) ، و «البحر المحيط» (8/ 527) ، و «الدر المصون» (6/ 586) . (3) ذكره البغوي (4/ 544) ، وابن عطية (5/ 535) . (4) تقدم وينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 535) ، و «البحر المحيط» (8/ 528) .

تفسير سورة"الإخلاص"

تفسير سورة «الإخلاص» قيل: مكّيّة وقال ابن عبّاس: مدنيّة [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) روي أنّ اليهود دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: يا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّك وانْسِبْه، فإنَّه وَصَفَ/ نَفْسَه في التوراةِ وَنَسَبها، فارتعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ قولِهِم حَتَّى خَرَّ مغشياً عليه، ونَزَلَ جبريل بهذه السورة. وأَحَدٌ مَعناه: وَاحدٌ فَرْدٌ مِنْ جميعِ جِهَاتِ الوَحْدَانِيَّة، ليس كمثله شيء وهُوَ ابتداء، واللَّهُ ابتداء ثان، وأَحَدٌ خَبَرُه والجملةُ خَبَرُ الأوَّلِ، وقيلَ هو ابتداءُ واللَّهُ خبره وأَحَدٌ بَدَلٌ منه، وَقَرَأَ عمر بن الخطابِ وغَيْرُهُ: «قل هو الله الواحد الصمد» والصَّمَدُ في كلامِ العربِ السيدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الأُمُورِ وَيَسْتَقِلُّ بها وأنْشَدُوا: [الطويل] لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدِ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعَودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ وبهذا تَتَفَسَّرُ هذه الآيةُ لأَنَّ اللَّهَ تعالى- جلت قدرته- هُوَ مُوجِدُ المَوْجُودَاتِ وإليهِ تَصْمُدُ وبه قِوَامُها- سبحانه وتعالى-. وقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ رَدٌّ عَلى إشارَةِ الكفارِ في النَّسَبِ الذي سأَلُوه، وقال ابن عباس: تَفَكَّروا في كلّ شَيْءٍ ولا تتفكروا في ذاتِ اللَّه «1» ، قال ع «2» : لأنّ الأفهام تقف دون ذلك حسيرة.

_ (1) ذكره ابن عطية (5/ 537) . (2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 537) .

وقوله سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ معناه ليسَ له ضِدٌّ، وَلاَ نِدٌّ ولا شبيهٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، والكفؤ النظير و «كفؤا» خبر كان واسمها أَحَدٌ. قال- ص-: وحَسُنَ تأخيرُ اسمها لِوُقُوعِه فاصلةً، وله مُتَعَلِّقٌ ب كُفُواً أي: لَمْ يَكُنْ أحَدٌ كُفُؤاً لَهُ، وقُدَّمَ اهتماماً بِه لاِشْتِمالِهِ على ضميرِ البَارِي سبحَانه، انتهى، وفي الحديث الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم إنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن «1» ، قال ع: لِمَا فِيهَا مِنَ التوحيدِ، ورَوَى أبو محمدٍ الدارميّ في «مسندهِ» قال: حدثنا عبد اللَّه بن مزيد حدثنا حيوة/ قال: أخبرنا أبو عقيل، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إحْدَى عَشَرَةَ مَرَّةً بُنِيَ لهُ قصرٌ في الجنةِ، ومَنْ قَرَأَها عِشْرينَ مرةً، بُنِيَ له قَصْرَانِ في الجنةِ، ومَنْ قرأَها ثَلاثِينَ مرةً بُنِيَ له ثلاثةُ قصورٍ في الجنة. فقال عمر بن الخطاب: إذَنْ تَكْثُرُ قصورُنَا يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللَّهُ أوْسَعُ من ذلك» «2» [أي: فَضْلُ اللَّهِ أوْسَعُ مِنْ ذَلك] «3» . قال الدارمي: أبو عقيل هو زهرة بن معبد، وزعموا أنه من الأبدال، انتهى من «التذكرة» «4» .

_ (1) أخرجه مسلم (3/ 355) - النووي، كتاب «صلاة المسافرين» باب: فضل قراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (261- 262/ 812) ، والترمذي (5/ 168) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: ما جاء في سورة الإخلاص (2899) ، وابن ماجه (2/ 1244) ، كتاب «الأدب» باب: ثواب القرآن (3787) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أخرجه أحمد (2/ 173) ، والطبراني (12/ 405) (13493) . قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 221) : رواه الطبراني في «الكبير» ، وأبو يعلى بنحوه، ورجال أبي يعلى ثقات. اهـ مختصرا. وفي الباب عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: أخرجه ابن ماجه (2/ 1244) ، كتاب «الأدب» باب: ثواب القرآن (3788) . وفي الباب عن امرأة أبي أيوب: أخرجه النسائي (2/ 172) ، كتاب «الافتتاح» باب: في قراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (996) ، وأحمد (5/ 418) عن أبي أيوب. (2) ذكره الهندي في «كنز العمال» (1/ 585) ، (2657) ، وعزاه إلى أحمد عن معاذ بن أنس مختصرا. (3) سقط في: د. [.....] (4) ينظر: «التذكرة» (2/ 622) .

تفسير سورة"الفلق"

تفسير سورة «الفلق» قال ابن عبّاس: مدنيّة، وقال قتادة: مكّيّة [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمُرَادُ هُوَ وآحادُ أمتِهِ، قَالَ ابن عباس وغيره: الفَلَقُ الصُّبْحُ «1» ، وقال ابن عباس أيضاً وجماعةٌ من الصحابة: الفلقُ جُبُّ في جَهَنَّم «2» ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ يَعُمُّ كلَّ مَوْجُودٍ له شر، واخْتُلِفَ في: «الغاسِقِ» فَقَال ابن عباس وغيره: الغَاسِقُ الليلُ وَوَقَبَ: أظْلَمَ، ودَخَل عَلى الناسِ «3» ، وفي الحديثِ الصحيح عن عائشة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أشَارَ إلى القَمَرِ وقال: يا عائشة تَعَوَّذِي باللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الغَاسِقِ إذَا وَقَبَ، قال السهيلي: وهذا أصحُّ ما قِيل لِهذَا الحديثِ الصحيحِ، انتهى، ولفظ صاحبِ «سلاحِ المؤمِنِ» : عن عائشةَ- رضي اللَّه عنها- أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَظَرَ إلَى القَمَرِ، فَقَالَ: يا عائشةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فإنَّ هَذَا الغَاسِقُ إذا وقب «4» ، رواه الترمذيّ

_ (1) أخرجه الطبري (12/ 747) ، (38351) ، وذكره البغوي (4/ 547) ، وابن عطية (5/ 538) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 573) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 717) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس. (2) أخرجه الطبري (12/ 747) ، (38345) عن السدي. وذكره ابن عطية (5/ 538) . (3) أخرجه الطبري (12/ 748) ، (38364) ، وذكره البغوي (4/ 547) ، وابن عطية (5/ 538) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 718) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عبّاس. (4) أخرجه الترمذي (5/ 452) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة المعوذتين (3366) ، وأحمد (6/ 206، 215، 237، 252) ، والحاكم (2/ 541) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي: صحيح.

والنَّسَائِيُّ، والحَاكِمُ في «المستدرك» ، واللفظُ للتِّرمذيِّ، وقَالَ حسنٌ صحيحٌ، وقال/ الحاكم: صحيحُ الإسنادِ، وَوَقَبَ القَمَر وُقُوباً: دَخَلَ في الظِّلِّ الذي يَكْسِفُه قاله ابن سيدة، انتهى من «السلاح» . والنَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ السَّوَاحِر، ويقال: إن الإشَارَة أوَّلاً إلى بَنَاتِ لَبِيدِ بن الأَعْصَمِ اليهودي كُنَّ سَاحِرَاتٍ، وهُنَّ اللواتي سَحَرْنَ مَعَ أبيهِنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، والنَّفْثُ شِبْهُ النَّفخِ دُونَ تَفلِ رِيقٍ، وهذا النَّفْثُ هُوَ عَلى عُقَدٍ تَعْقَدُ في خيوطٍ، ونحوِها على اسْمِ المَسْحُورِ فيؤذى بذلك. قال ع: وهَذَا الشَّأْنُ في زمانِنَا موجودٌ شائعٌ في صحراء المغرب، وحدَّثني ثقةٌ أنه رأى عنْدَ بعضهم خيطاً أحْمَرَ قَدْ عُقِدَتْ فِيهِ عُقَدٌ على فُصْلاَنٍ، فَمُنِعَتْ بذلك رَضَاعَ أمهاتِها فكان إذا حَلَّ عقدةً جرى ذلك الفصيلُ إلى أُمِّه في الحِينِ، فَرَضَعَ، أعاذنا اللَّه مِنْ شَرِّ السِّحْرِ والسَّحَرَةَ. وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ قال قتادة: مِنْ شَرِّ عَيْنِهِ ونَفْسِهِ «1» ، يريد ب «النَّفْس» : السعْيَ الخَبِيثَ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ذكَر اللَّه تعالى الشُّرُور في هذه السُّورة، ثم ختمها بالحسد ليعلم أنّه أخسّ الطبائع.

_ (1) أخرجه الطبري، وابن المنذر كما ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 719) .

تفسير سورة الناس

تفسير سورة الناس قال ابن عبّاس وغيره: هي مدنيّة، وقال قتادة: مكّيّة [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ: الْوَسْواسِ: اسم مِنْ أسماء الشيطانِ، وقولُه: الْخَنَّاسِ معناه: الرَّاجِعُ على عَقِبِهِ المُسْتَتِرُ أحياناً، فإذَا ذكر العَبْدُ اللَّه تعالى وتعوَّذ، تذكَّر فأبْصَرَ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ ... [الأعراف: 201] الآية: قال النَّوَوِيُّ «1» : قال بعضُ العلماءِ: يُسْتَحَبُّ قَول: لا إله إلا اللَّهِ لِمَنِ ابتلي بالوَسْوَسَةِ في الوضوءِ والصلاةِ وشِبْهِهِمَا فإن الشيطان إذا سمع الذِّكرَ، خَنَسَ، أي: تأخَّر وبَعُدَ، و «لا إله إلا اللَّهُ» : رَأْسُ الذِّكْرِ ولذلك اختار السَّادَةُ الجِلَّةُ مِنْ صَفْوة هذه الأمة أهْلُ تربيةِ السَّالكين وتأدِيبِ المُرِيدِينَ- قَوْلَ «لا إله إلا اللَّه» لأَهْلِ الخَلْوَةِ-، وأمَرُوهم بالمداومة علَيْهَا، وقالوا: أنْفَعُ علاجٍ في دَفْعِ الوسوسةِ الإقبالُ على ذِكْرِ اللَّه تعالى والإكْثَارُ منْه، وقال السَّيِّدُ الجليلُ أحْمَدُ بْنُ أبي الحوارِيِّ: شَكَوْتُ إلى أبي سُلَيْمَانَ الدَّرَانِيِّ الوَسْوَاسَ، فقال: إذا أَرَدت أَنْ ينقطعَ عَنْكَ، فَأَيَّ وَقْتٍ أحْسَسْتَ به، فافرح، فإنك إذا فَرِحْتَ به، انقطع عنك لأنه ليْسَ شيءٌ أبْغَضُ إلى الشيطانِ مِنْ سرورِ المؤمن، وإن اغتممت بِه، زَادَكَ، ت: وهذا مما يؤيِّد ما قاله بَعْضُ الأئمة أنَّ الوسواس إنما يبتلى به مَنْ كَمُلَ إيمانه فإن اللِّصَّ لا يقصدُ بيتاً خَرباً. انتهى، ت: ورأيتُ في «مختصر الطبريِّ» نَحْوَ هذا. وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ يعني: الشياطينَ، ويظهر أنْ يَكُونَ قولُهُ: وَالنَّاسِ يراد به: مَنْ يُوَسْوِسُ بخدعة مِنَ الشَّرِّ، ويدعو إلى الباطل، فهو في ذلك كَالشَّيْطان، قال أحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الداوديُّ: وعن ابن جُرَيْجٍ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قَالَ: «إنهما وَسْوَاسَانِ، فَوَسْوَاسٌ من الجِنَّة، ووَسْوَاسٌ مِنْ نَفْسِ الإنسان» انتهى، وفي الحديث الصحيح، أنّ

_ (1) ينظر: «الأذكار» ص: (161) .

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إذَا آوى إلى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرأَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا استطاع مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأ بِهِما مِنْ رَأْسه وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً «1» -. يَقُولُ العبد الفقير إلى الله تعالى: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي لطف الله به في الدارين: قد يسر الله عز وجلَّ في إِتمام تَِلْخِيصِ هذا المختَصَر وقَدْ أودَعتُهُ بحَوْلِ اللَّهِ جزيلاً من الدُّرَر، قد استوعبت فيه- بحمد الله- مهمات ابن عطية، وأسقطْتُ كَثيراً من التَّكْرار، وما كان من الشَّواذِّ في غاية الوهي، وزدْتُ من غيره جَوَاهِرَ ونَفَائِسَ لا يستغنى عنها مميزةً معزوَّة لِمَحَالِّها مَنْقُولةً بألفاظِهَا، وتوخَّيْتُ في جميع ذلك الصِّدْقَ والصَّواب، وإلى اللَّه أَرْغَبُ في جَزِيلِ الثواب، وقد نَبَّهْتُ بَعْضَ تَنْبِيهٍ، وعرَّفْتُ بأيام رِحْلَتِي في طَلَبِ العِلْمِ بعْضَ تعريفٍ عِنْدَ خَتْمِي لتفسير سورة الشورى فَلْيَنْظُرْ هُنَاكَ، واللَّهُ المسئول أنْ يجعَلَ هذا السعْيَ منا خالصاً لوَجْهِهِ، وعملاً صالحاً يقرِّبنا إلى مرضاته، ومَنْ وَجَدَ في هذا الكتاب تَصْحِيفاً أو خَلَلاً فَأَرْغَبُ إِلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَهُ مِنَ الأُمِّهاتِ المَنْقُولِ منها متثبِّتاً في ذلك لا برَأْيه وبديهةِ عَقْلِهِ: [من الوافر] فَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً ... وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ وكان الفراغُ من تألِيفه في الخامسَ عَشَرَ مِنْ رَبِيع الأَوَّلِ مِنْ عَامِ ثَلاَثَةٍ وثَلاَثِينَ وَثَمَانِمائَةٍ وَأَنَا أَرْغَبُ إِلى كُلِّ أَخ نَظَرَ فيه أنْ يُخْلِصَ لي وَلَهُ بِدَعْوَةٍ صالحةٍ، وهذا الكتابُ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَخْلُوَ عنه مُتَدَيِّنٌ، ومُحِبٌّ لكلامِ رَبِّه، فإِنه يَطَّلِعُ فيه على فَهْمِ القرآن أجْمَعَ في أَقْرَبِ مُدَّةٍ، وليس الخَبَرُ كَالعِيَانِ هذا مع ما خصّ به من تَحْقِيقِ كَلامَ الأَئِمَّةِ المحقِّقينَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم- نَقَلْتُهُ عَنْهُمْ بألفاظِهِمْ متحرِّياً لِلصَّوَابِ، ومِنَ اللَّهِ أَرْتَجِي حُسْنَ المَآب، وصَلَّى اللَّهُ على سَيِّدِنَا محمَّد خاتَمِ النبيِّينَ، وَعَلى آله وصَحْبِهِ أجمعين، وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين.

_ (1) تقدم تخريجه.

محتوى الجزء الخامس من تفسير الثعالبي

محتوى الجزء الخامس من تفسير الثعالبي سورة يس 5 سورة الصافات 22 سورة- ص- 54 سورة الزمر 78 سورة غافر 103 سورة فصّلت 125 سورة الشورى 148 سورة الزخرف 172 سورة الدّخان 194 سورة الجاثية 204 سورة الأحقاف 212 سورة محمّد 228 سورة الفتح 248 سورة الحجرات 267 سورة ق 280 سورة الذاريات 296 سورة الطور 309 سورة النجم 321 سورة القمر 336 سورة الرحمن 345 سورة الواقعة 360 سورة الحديد 377 سورة المجادلة 397 سورة الحشر 406 سورة الممتحنة 416 سورة الصف 424

سورة الجمعة 428 سورة المنافقون 434 سورة التغابن 438 سورة الطلاق 437 سورة التحريم 450 سورة الملك 455 سورة القلم 463 سورة الحاقة 473 سورة المعارج 481 سورة نوح 488 سورة الجنّ 493 سورة المزمّل 500 سورة المدثر 509 سورة القيامة 519 سورة الإنسان 527 سورة المرسلات 536 سورة النبأ 541 سورة النازعات 547 سورة عبس 551 سورة التكوير 555 سورة الانفطار 559 سورة المطففين 562 سورة الانشقاق 567 سورة البروج 571 سورة الطارق 574 سورة الأعلى 577 سورة الغاشية 582 سورة الفجر 585 سورة البلد 590 سورة الشمس 594

سورة الليل 598 سورة الضحى 601 سورة الشرح 604 سورة التين 606 سورة العلق 608 سورة القدر 611 سورة البيّنة 613 سورة الزلزلة 615 سورة العاديات 618 سورة القارعة 621 سورة التكاثر 622 سورة العصر 625 سورة الهمزة 626 سورة الفيل 627 سورة قريش 629 سورة الماعون 630 سورة الكوثر 632 سورة الكافرون 634 سورة النصر 635 سورة المسد 636 سورة الإخلاص 638 سورة الفلق 640 سورة الناس 642

ثبت وبيان بأهم مراجع التحقيق

ثبت وبيان بأهم مراجع التحقيق حرف الألف 1- آداب اللغة لجورجي زيدان، طبعة القاهرة 1957 2- الآيات البينات لابن قاسم العبادي، طبعة بولاق 3- الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، طبع دار الأنصار 4- الإبهاج في شرح المنهاج لعلي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 5- إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لمرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ) ، تصوير دار الفكر. 6- إتحاف فضلاء البشر لأحمد بن محمّد البنا (ت 1117 هـ) ، تحقيق د. شعبان محمّد إسماعيل، عالم الكتب، مكتبة الكليات الأزهرية، طبعة أولى 7- الإتقان في علوم القرآن تأليف: شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (المتوفى سنة 911 هـ) ، الطبعة الثالثة سنة 1951 م، ط. الحلبي 8- الإحكام في أصول الأحكام تأليف الشيخ الإمام العلامة سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمّد الآمدي- تحقيق أحد الأفاضل- ط زاهد القدسي طبع ونشر وتوزيع 24 شارع طلعت حرب القاهرة 9- إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) ، دار المعرفة- بيروت 10- أخبار أصبهان لأحمد بن عبد الله، أبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) ، تحقيق سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 11- أخبار النحويين البصريين لأبي سعيد الحسن السيرافي (ت 368 هـ) ، تحقيق طه محمّد الزيني ومحمّد عبد المنعم خفاجي، مصطفى البابي الحلبي 12- الاختيار لتعليل المختار تأليف عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، مطبعة الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1407 هـ/ 1987 م وطبعه دار الكتب العلمية- بيروت 13- الأدب المفرد للبخاري (ت 256 هـ) ، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب 14- الأذكار لمحيي الدين أبي زكريا النووي (ت 676 هـ) المكتبة العلمية- بيروت 15- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء، لياقوت الحموي، طبعة مرجليوث بمصر

16- إرشاد الفحول لمحمّد بن علي الشوكاني (ت 1255) - طبعة أولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1356 هـ/ 1937 م 17- الأزهية في علم الحروف تأليف: علي بن محمّد الهروي، تحقيق: عبد المعين الملوحي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1982 م. 18- أساس البلاغة تأليف: جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ط. دار صادر- بيروت، سنة 1979 م. 19- أسباب النزول للإمام أبي الحسين علي بن أحمد بن الواحدي النيسابوري، ط. عالم الكتب بيروت. 20- الاستيعاب لابن عبد البر (ت 463 هـ) ، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية. 21- أسد الغابة في معرفة الصحابة لعز الدين ابن الأثير أبي الحسن الجزري (ت 630 هـ) ، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار المكتب العلمية- طبعة أولى 22- الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، لمحمّد بن محمّد أبو شهبة، مجمع البحوث الإسلامية- الأزهر 23- إسعاف المبطأ برجال الموطأ لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي. 24- الأسماء والصفات لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 هـ) ، دار الكتب العلمية- بيروت 25- الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لأبي عبد الله القرطبي (ت 671 هـ) ، تحقيق د. محمّد حسن جبل وآخرون، دار الصحابة للتراث- طبعة أولى 26- أهل المدارك شرح إرشاد السالك لأبي بكر بن حسن الكشناوي، عيسى البابي الحلبي 27- الأشباه والنظائر في النحو لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 28- إصلاح المنطق لابن السكيت (ت 244 هـ) ، تحقيق أحمد محمّد شاكر وعبد السلام محمّد هارون، دار المعارف 29- إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم تأليف: أبي عبد الله الحسين بن أحمد، المعروف بابن خالويه (ت 370 هـ) ، مكتبة المثنى 30- إعراب القراءات السبع وعللها لأبي عبد الله الحسن بن خالويه (ت 370 هـ) ، تحقيق د. عبد الرحمن بن سليمان بن عثيمين، مكتبة الخانجي- طبعة أولى 31- الأعلام للزركلي لخير الدين الزركلي ط 3 مكتبة المتنبي- القاهرة

2- أعلام الموقعين عن رب العالمين لشمس الدين أبي عبد الله محمّد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) طبعة الكليات الأزهرية 33- أعلام النساء لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة- بيروت 34- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق علي النجدي ناصف دار الكتب المصرية 35- الإقناع للخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية- بيروت 36- الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب لعلي بن هبة الله أبي نصر بن ماكولا (ت 475 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 37- الأم لمحمّد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة 38- أمالي ابن الشجري ليحيى الشجري، عالم الكتب، طبعة ثالثة 39- أمالي المرتضى للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي (355- 436 هـ) تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط. الحلبي- القاهرة 40- إمتاع الأسماع للمقريزي، طبع في القاهرة 1941 م. 41- إنباء الغمر بأبناء العمر للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، دائرة المعارف العثمانية- الهند، دار الكتب العلمية طبعة ثانية 42- إنباه الرواة على أنباه النحاة للوزير جمال الدين أبي الحسن القفطي، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي- القاهرة ومؤسسة الكتب الثقافية- بيروت 43- الأنساب للسمعاني- أبي سعيد عبد الكريم بن محمّد (ت 562 هـ) ، تصحيح عبد الرحمن بن يحيى- طبعة مجلس المعارف العثمانية حيدرآباد الدكن- الهند سنة (1385 هـ) 44- الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري (513- 577 هـ) ومعه كتاب «الانتصاف من الإنصاف» للمرحوم محمّد محيي الدين عبد الحميد، ط. دار الجيل سنة 1982 م. 45- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي (ت 885 هـ) تحقيق محمّد حامد الفقي الطبعة الأولى سنة (1374 هـ) / (1955 م) مطبعة السنة المحمّدية- 17 شارع شريف باشا بالقاهرة 46- أنيس الفقهاء لقاسم القونوي (ت 978 هـ) ، تحقيق د. أحمد بن عبد الرزاق الكبسي، دار الوفاء- جدة- طبعة ثانية 47- الأوسط في السنن لأبي بكر محمّد بن إبراهيم بن المنذر (ت 318 هـ) ، تحقيق د. أبو حماد صغير أحمد بن محمّد حنيف، دار طيبة. 48- أوضح المسالك إلى ألفيّة ابن مالك تأليف: أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت سنة 761 هـ) ، تحقيق الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد، ط. دار

حرف الباء

الجيل، الطبعة الخامسة سنة 1979 م. 49- إيضاح الوقف والابتداء لمحمّد بن القاسم أبي بكر الأنباري (ت 328 هـ) تحقيق محيي الدين رمضان، طبع دمشق- مجمع اللغة العربية 1971 م حرف الباء 50- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (ت 745 هـ) ، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوض دار الكتب العلمية- طبعة أولى 51- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين أبي بكر الكاساني (ت 587 هـ) مطبعة الإمام بالقاهرة 52- بداية المجتهد ونهاية المقتصد للقاضي أبي الوليد محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير «بابن رشد الحفيد» (ت 595 هـ) ط الحلبي الطبعة الثانية سنة 370 هـ/ سنة 1950 م ونسخة المكتبة التجارية الكبرى. 53- البداية والنهاية للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير المتوفى سنة (774 هـ) الطبعة الثانية سنة 1977 م مكتبة المعارف بيروت 54- البدر الطالع لمحمّد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) مكتبة ابن تيمية- القاهرة 55- البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) ، تحقيق د. عبد العظيم الديب دار الأنصار- طبعة ثانية 56- البرهان في علوم القرآن للزركشي بدر الدين (ت 794 هـ) ، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة- بيروت- طبعة أولى 57- البعث والنشور للبيهقي (ت 458 هـ) ، دار الجنان 58- بغية الملتمس للحافظ صلاح الدين أبي سعد العلائي (ت 761 هـ) ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي عالم الكتب- طبعة أولى 59- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة تأليف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط. الحلبي، الطبعة الأولى سنة 1964 م. 60- بهجة النفوس لابن أبي جمرة، دار الجيل- بيروت حرف التاء 61- تاج العروس من جواهر القاموس لمحمّد مرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ) ، الناشر دار ليبيا- للنشر والتوزيع بنغازي- ليبيا- ط المطبعة الخيرية القاهرة. ومطبعة الكويت بتحقيق نخبة من العلماء 62- تاريخ الأدب العربي للدكتور شوقي ضيف، دار المعارف- مصر

63- تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، القاهرة- دار المعارف- الطبعة الخامسة 64- تاريخ الإسلام للحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري دار الكتاب العربي- بيروت طبعة ثانية 65- تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر بن أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة (463 هـ) الناشر دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان. 66- تاريخ الثقات للحافظ أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي تحقيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 67- تاريخ جرجان للسهمي (ت 427 هـ) ، عالم الكتب- بيروت 68- تاريخ الخلفاء للإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى عام (911 هـ) تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد- الطبعة الثانية سنة 1383 هـ/ 1964 م- مطبعة المدني بالعباسية- القاهرة 69- التاريخ الصغير لمحمّد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) ، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة- طبعة أولى 70- التاريخ الكبير لمحمّد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) ، تصحيح عبد الرحمن اليماني وجماعة حيدرآباد- الهند، دائرة المعارف العثمانية 71- تاريخ ابن النجار (ت 643 هـ) دار الكتاب العربي 72- تاريخ يحيى بن معين لأبي زكريا يحيى البغدادي (ت 233 هـ) ، مجمع اللغة العربية 73- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، دار الكتب العلمية تحقيق السيد أحمد صقر، طبعة ثالثة 74- التبصرة والتذكرة للحافظ العراقي (ت 806 هـ) ، دار الكتب العلمية- بيروت 75- التبصرة والتذكرة لأبي محمّد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري، تحقيق د. فتحي أحمد علي الدين دار الفكر- بيروت 76- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق علي محمّد البجاوي، دار الكتب العلمية- بيروت 77- التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616 هـ) ، تحقيق علي محمّد البجاوي، دار الشام للتراث- بيروت 78- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان بن علي الزيلعي (ت 743 هـ) ، المطبعة الأميرية ببولاق 79- تبيين كذب المفتري لابن عساكر الدمشقي (ت 571 هـ) ، دار الكتاب العربي 80- تجريد أسماء الصحابة لشمس الدين أبي عبد الله بن قايماز الذهبي (ت 748 هـ) ، دار

المعرفة- بيروت 81- تجريد التمهيد لأبي عمر، يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) ، دار الكتب العلمية بيروت 82- التحبير في علم التفسير لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق د. فتحي عبد القادر فريد، دار المنار 83- التحرير في أصول الفقه لكمال الدين محمّد الشهير بابن همام الإسكندري (ت 861 هـ) ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 84- التحصيل من المحصول لسراج الدين محمود الأرموي (ت 682 هـ) ، تحقيق د. عبد الحميد علي أبو زنيد، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 85- التحفة اللطيفة لشمس الدين السخاوي (ت 902 هـ) ، تحقيق حامد الفقي، مطبعة السنة المحمّدية 86- تخريج الفروع على الأصول لأبي المناقب شهاب الدين الزنجاني (ت 656 هـ) ، تحقيق د. محمّد أديب صالح، مؤسسة الرسالة- طبعة رابعة 87- تخريج الكشاف للحافظ جمال الدين الزيلعي (ت 762 هـ) ، دار ابن خزيمة 88- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة- دار التراث- القاهرة 89- التذكرة لشمس الدين القرطبي (ت 671 هـ) ، تحقيق. السيد الجميلي، دار ابن زيدون- بيروت، مكتبة مدبولي- القاهرة 90- تذكرة الحفاظ للإمام أبي عبد الله شمس الدين الذهبي (ت سنة 748 هـ) ، ط. دار الفكر العربي- القاهرة 91- تذكرة النحاة لأبي حيان محمّد بن يوسف الغرناطي الأندلسي (ت 745 هـ) ، تحقيق د. عفيف عبد الرحمن، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 92- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض اليحصبي السبتي، تحقيق الدكتور أحمد بكير، مكتبة الحياة بيروت، مكتبة الفكر طرابلس- ليبيا 1387 هـ 93- الترغيب والترهيب لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 هـ) تحقيق مصطفى محمّد عمارة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي 94- تسمية من أخرج لهم البخاري ومسلم للحاكم صاحب المستدرك (ت 405 هـ) ، تحقيق كمال الحوت، مؤسسة الكتب الثقافية، دار الجنان- طبعة أولى 95- التعديل والتجريح فيمن روى عن البخاري في الصحيح لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ) ، تحقيق د. أبو لبابة حسين، دار اللواء- الرياض

96- التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب شمس الحق آبادىّ بأسفل سنن الدارقطني، عالم الكتب 97- تفسير بحر العلوم للسمرقندي، تحقيق علي محمّد معوض، عادل أحمد عبد الموجود. دار الكتب العلمية، طبعة أولى 98- تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل للحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) ، تحقيق خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة- بيروت- طبعة أولى 99- تفسير الجامع لأحكام القرآن للعلامة محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671 هـ) طبعة دار الشعب بمصر 100- تفسير سفيان الثوري لسفيان الثوري (ت 777 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 101- تفسير عبد الرزاق لعبد الرزاق الصنعاني (ت 211 هـ) ، تحقيق د. مصطفى مسلم محمّد، مكتبة الرشد- طبعة أولى 102- تفسير ابن عطية- المحرر الوجيز للقاضي أبي محمّد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت 546 هـ) ، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمّد، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 103- تفسير غريب القرآن لعبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ) ، تحقيق السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية 104- تفسير ابن كثير لإسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774 هـ) القاهرة، مكتبة أسامة- 23 ش الصنادقية بالأزهر 105- تفسير الماوردي لأبي الحسن علي بن محمّد الماوردي البصري (ت 450 هـ) ، تحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية- الطبعة الأولى 106- التفسير والمفسرون للدكتور محمّد حسين الذهبي، مكتبة وهبة- طبعة ثالثة 107- تقريب التهذيب تأليف: أحمد بن حجر العسقلاني (773- 852 هـ) ، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، ط. دار المعرفة للطبع والنشر، بيروت الطبعة الثانية سنة 1975 م. 108- تقريب الوصول لابن جزي، طبعة تونس 109- التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (ت 879 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة ثانية- التقصي لحديث الموطأ- ينظر التجريد 110- تقييد العلم لأبي بكر الخطيب البغدادي (ت 462 هـ) ، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية 111- تلقيح مفهوم أهل الأثر لعبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق مكتبة الآداب- القاهرة، مكتبة الآداب- القاهرة

حرف الثاء

112- التمهيد لأبي عمر، يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) ، تحقيق سعيد أحمد أعراب، مؤسسة قرطبة 113- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لجمال الدين أبي محمّد الأسنوي (ت 772 هـ) ، تحقيق د، محمّد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، طبعة ثالثة 114- تنزيه الشريعة لأبي الحسن ابن عراق الكناني (ت 963 هـ) ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمّد الصديق، دار الكتب العلمية- طبعة ثانية 115- تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك، لجلال الدين السيوطي، طبعة عيسى البابي الحلبي 116- تهذيب الأسماء واللغات لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة (676 هـ) ، إدارة الطباعة المنيرية، دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 117- تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر (ت 571 هـ) ، دار المسيرة بيروت 118- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (ت سنة 852 هـ) ط. مطبعة مجلس المعارف النظامية في الهند، الطبعة الأولى 119- تهذيب الكمال في أسماء الرجال تأليف: جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزيّ (654- 742 هـ) تحقيق د/ بشار عواد معروف، ط. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية سنة 1985 م. 220- تيسير التحرير لمحمّد أمين المعروف بأمير بادشاه، مطبعة مصطفى البابي الحلبي حرف الثاء 121- الثقات للحافظ محمّد بن حبان (ت 354 هـ) ، دائرة المعارف العثمانية- حيدرآباد- الهند حرف الجيم 122- جامع بيان العلم لأبي عمر، يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي- طبعة أولى 123- جامع البيان في تفسير القرآن تأليف: أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري (المتوفى سنة 310 هـ) ، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الرابعة سنة 1980 م. 124- جامع التحصيل في أحكام المراسيل للحافظ صلاح الدين أبي سعيد كيكلدي العلائي (ت 761 هـ) ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة النهضة العربية- بيروت 125- الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي لأبي عيسى محمّد بن عيسى بن سورة (209- 279 هـ) تحقيق: أحمد محمّد شاكر، ط. الحلبي- الطبعة الثانية سنة 1978 م. 126- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب (ت 463 هـ) ، تحقيق محمود الطحان الطبعة الأولى مكتبة المعارف- الرياض 127- جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام مدينة فاس لابن القاضي، طبع بفأس

128- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس للحميدي (ت 488 هـ) ، الدار المصرية للتأليف والترجمة 129- الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن محمّد الرازي، طبع في حيدرآباد 1952، ومصورة دار الكتب العلمية بيروت- لبنان 130- الجمع بين رجال الصحيحين لأبي الفضل محمّد بن طاهر المقدسي (ت 507 هـ) ، المعروف بابن القيسراني، دار الباز 131- الجمل على المنهج لسليمان الجمل، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 132- جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، وعبد المجيد قطامش، ط. المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى سنة 1964 م. 133- جمهرة أنساب العرب لابن حزم المتوفى (456 هـ) ، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف 134- الجني الداني للحسن بن قاسم المرادي، تحقيق د. فخر الدين قباوة والأستاذ محمّد نديم فاضل، دار الكتب العلمية 135- حاشية البناني على المحلي للبناني، طبعة الحلبي 136- حاشية التفتازاني والشريف لابن الحاجب المالكي (ت 646 هـ) ، المطبعة الأميرية ببولاق- طبعة أولى 137- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لشمس الدين محمّد عرفة الدسوقي، عيسى البابي الحلبي 138- حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب للشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشهير بالشرقاوي (ت 1226 هـ) على تحفة الطلاب بشرع تحرير تنقيح اللباب للشيخ أبي يحيى زكريا الأنصاري (ت 925 هـ) ، ط. عيسى الحلبي 139- حاشية الشيخ زاده على تفسير البيضاوي، المكتبة الإسلامية محمّد ازدمير ديار بكر- تركيا 140- حاشية العطار على جمع الجوامع تصوير دار الكتب العلمية بيروت 141- حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين مصطفى البابي الحلبي 142- الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، لأبي الحسن الماوردي، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض، والشيخ عادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية- طبعة أولى 143- الحجة على أهل المدينة لأبي عبد الله محمّد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) عالم الكتب- طبعة ثالثة

حرف الخاء

144- حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، تحقيق سعيد الأفغاني، منشورات جامعة بنغازي طبعة أولى 145- الحجة للقراء السبعة لأبي علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي (ت 377 هـ) ، تحقيق بدر الدين قهوجي وبشير جويجاتي، دار المأمون للتراث- دمشق طبعة ثانية. 146- الحدود في الأصول لأبي الوليد سليمان الباجي (ت 474 هـ) تحقيق د. نزيه حماد، مؤسسة الزغبي للطباعة والنشر- طبعة أولى 147- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء لسيف الدين أبي بكر الشاشي القفال، دار الباز تحقيق د. ياسين أحمد إبراهيم درادكة، مكتبة الرسالة الحديثة طبعة أولى 148- حماسة البحتري (للوليد بن عبيد) بيروت 149- الحماسة البصرية لصدر الدين علي بن الحسن البصري (ت 656 هـ) ، تحقيق عادل جمال سليمان، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية حرف الخاء 150- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي 151- الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني، تحقيق: محمّد علي النجار، ط. دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت: الطبعة الثانية 152- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال لصفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي، تحقيق محمود عبد الوهاب فايد، مكتبة القاهرة حرف الدال 153- دائرة المعارف الإسلامية إصدار دار الشعب- طبعة أولى 154- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون لشهاب الدين أبي العياش السمين الحلبي، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وآخرون، دار الكتب العلمية 155- الدر المنثور لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، دار الكتب العلمية 156- الدرر الكامنة، لأحمد بن حجر العسقلاني القاهرة: دار الكتب الحديثة بعابدين 157- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمّد بن فرهود المتوفى سنة (799 هـ) تحقيق وتعليق الدكتور أحمد محمّد أبو النور مدرس الحديث بجامعة الأزهر دار التراث للطبع والنشر- 22 شارع الجمهورية القاهرة. 158- دلائل النبوة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) ، تحقيق د. عبد المعطي

حرف الراء

القلعجي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 159- ديوان الإسلام لشمس الدين أبي المعالي ابن الغزي (ت 1167 هـ) ، تحقيق سيد كسروي حسن دار الكتب العلمية- طبعة أولى 160- ديوان امرئ القيس تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم- ط. دار المعارف، الطبعة الثانية 161- ديوان عمرو بن معد يكرب لمطاع الطرابيشي، مطبوعات مجلة اللغة العربية- دمشق- طبعة ثانية 162- ديوان المعاني لأبي هلال العسكري، مكتبة القدسي 163- ديوان الهذليين نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، الناشر: الدار القومية للطباعة والنشر، سنة 1965 م حرف الراء 164- الرسالة لمحمّد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد محمّد شاكر، دار التراث- طبعة ثانية 165- الرسالة المستطرفة للسيد محمّد بن جعفر الكتاني، دار الكتب العلمية- طبعة ثانية 166- رصف المباني في شرح حروف المعاني لأحمد بن عبد النور المالقي (ت 702 هـ) ، تحقيق أحمد محمّد الخراط- مجمع اللغة العربية بدمشق. 167- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع الثاني تأليف: أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي (ت سنة 1270 هـ) ، ط. دار إحياء التراث العربي 168- روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، محمّد باقر الموسوي، طهران، المطبعة الحيدرية 169- روضة الطالبين لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوض، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 170- روضة الناظر وجنّة المناظر لموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) ، تحقيق د. عبد الكريم بن علي النملة، مكتبة الرشد- الرياض طبعة ثالثة حرف الزاي 171- زاد المسافر لصفوان بن إدريس التجيبي المرسي، طبع في بيروت 1939 172- زاد المعاد لابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) ، تحقيق شعيب الأناءوط، عبد القادر الأرناؤوط مؤسسة الرسالة- بيروت الطبعة الخامسة عشر 173- الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي لأبي منصور الأزهري، تحقيق د. محمّد جبر الألفي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت- طبعة أولى

حرف السين

174- الزهد لعبد الله ابن المبارك (ت 181 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي- دار الكتب العلمية 175- الزوائد للبوصيري (ت 840 هـ) ، تحقيق موسى محمّد علي ود. عزت علي عطية، دار الكتب الإسلامية- زوائد المسند لعبد الله بن أحمد بن حنبل- المسند أحمد بن حنبل حرف السين 176- سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام للإمام محمّد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني (ت 1182 هـ) ط الحلبي الرابعة سنة 1379 هـ/ 1960 م وأيضا نسخة أخرى بتصحيح وتعليق محمّد عبد العزيز 177- سر صناعة الإعراب لأبي الفتح عثمان بن جنيّ (ت سنة 392 هـ) ، تحقيق الدكتور: حسن الهنداوي- ط. دار القلم، بدمشق- الطبعة الأولى 1985 م 178- سلاسل الذهب لبدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) ، تحقيق محمّد المختار بن محمّد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية- طبعة أولى 179- سلسلة الأحاديث الصحيحة لمحمّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- طبعة رابعة 180- السلسلة الضعيفة لمحمّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي 181- سنن الحافظ أبي عبد الله محمّد بن يزيد القزويني ابن ماجه (207- 275 هـ) تحقيق: محمّد فؤاد- ط. دار الفكر العربي 182- سنن الدارمي للإمام أبي محمّد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي (ت سنة 255 هـ) ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 183- سنن أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (202- 275 هـ) تحقيق: المرحوم محمّد محيي الدين عبد الحميد- ط. دار الكتب العلمية- بيروت 184- سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، وحاشية الإمام السندي- ط. المكتبة العلمية- بيروت 185- سؤالات البرذعي للبرذعي، تحقيق: د. سعدي الهاشمي، نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 186- سؤالات البرقاني للدارقطني للبرقاني، كتب خانه جميلي- باكستان 187- سير أعلاء النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 188- السيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي، طبع مصر

حرف الشين

189- السيرة مع الروض الأنف لأبي القاسم عبد الرحمن الخثعمي (581 هـ) ، مكتبة عبد السلام بن محمّد بن شقرون 190- سيرة ابن هشام لأبي محمّد عبد الملك بن هشام (ت 183 هـ) ، تحقيق مجدي فتحي السيد، دار الصحابة للتراث- طبعة أولى حرف الشين 191- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمحمّد بن محمّد مخلوف، دار الفكر 192- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح ابن العماد الحنبلي (ت 1089 هـ) ، دار الكتب العلمية 193- شرح أبيات سيبويه لأبي محمّد يوسف المرزبان السيرافي (ت 385 هـ) ، تحقيق محمّد علي الريح هاشم، مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر 194- شرح أبيات مغني اللبيب لعبد القادر بن عمر البغدادي (ت 1093 هـ) ، تحقيق عبد العزيز رباح، أحمد يوسف دقاق دار البيان- دمشق 195- شرح الأشموني على ألفيّة ابن مالك فيصل عيسى البابي الحلبي 196- شرح البهجة لزكريا الأنصاري، المطبعة الميمنية بمصر 197- شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (ت 792 هـ) دار الكتب العلمية 198- شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين أبي العباس القرافي (ت 684 هـ) ، شركة الطباعة الفنية المتحدة- طبعة أولى 199- شرح الخريدة البهية لأبي البركات الشيخ أحمد بن محمّد الدردير العدوي (ت 1201 هـ) ، تحقيق السيد علي بن السيد عبد الرحمن الهاشم، طبع الإمارات العربية المتحدة 200- شرح ديوان جرير بشرح محمّد بن حبيب، دار المعارف تحقيق د. نعمان محمّد أمين طه، طبعة ثالثة 201- شرح ديوان الحماسة لأبي تمام شرح الإمام الشيخ أبي زكريا يحيى التبريزي، عالم الكتب 202- شرح الزّرقاني على الموطأ لمحمّد بن عبد الباقي الزرقاني (ت 1122 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 203- شرح السّنة لأبي محمّد الحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) ، دار الكتب العلمية تحقيق علي محمّد معوض، عادل أحمد عبد الموجود 204- شرح شعلة على الشاطبية لأبي عبد الله محمّد بن أحمد بن الحسين الموصلي (ت 656 هـ) ، الاتحاد العام لجماعة القراء

حرف الصاد

205- شرح شواهد المغني لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) ، دار مكتبة الحياة بيروت 206- شرح العضد على المختصر لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (ت 756 هـ) دار الكتب العلمية- طبعة ثانية 207- شرح فتح القدير للعاجز الفقير كمال الدين محمّد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام (ت 681 هـ) ، دار إحياء التراث العربي 208- شرح قطر الندى لجمال الدين بن هشام الأنصاري (ت 761 هـ) ، مطبعة السعادة- الطبعة الثانية عشرة 209- شرح الكافية لابن مالك، تحقيق عبد المنعم هريدي، طبعة دار المأمون للتراث 210- شرح مختصر المنار للكوراني، دار السلام- القاهرة 211- شرح مسند أحمد بن حنبل تحقيق أحمد شاكر، طبعة دار المعارف القاهرة 212- شرح المفصل لموفق الدين يعيش النحوي (ت 643 هـ) ، عالم الكتب- بيروت 213- شرح منتهى الإرادات لمنصور بن يونس البهوتي (ت 1051 هـ) ، عالم الكتب- طبعة أولى 214- شرح المهذب لأبي زكريا محيي الدين النووي، تحقيق محمّد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد جدة 215- شرف أصحاب الحديث لأبي بكر أحمد الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) ، تحقيق د. محمّد سعيد خطيب أوغلي، دار إحياء السنة النبوية 216- شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) ، تحقيق أبو هاجر، دار الكتب العلمية 217- الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري، دار المعارف- القاهرة تحقيق أحمد محمّد شاكر 218- الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (ت 544 هـ) ، تحقيق علي محمّد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي 219- شواذ القرآن لابن خالويه، مكتبة المتنبي حرف الصاد 220- صحيح البخاري، بحاشية السندي للعلامة أبي عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاري- ط. الحلبي 221- صحيح ابن حبان لابن حبان (ت 354 هـ) ، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، المكتبة السلفية- المدينة المنورة 222- صحيح ابن خزيمة لابن خزيمة (ت 311 هـ) ، تحقيق محمّد مصطفى الأعظمي، المكتب

حرف الضاد

الإسلامي- بيروت طبعة أولى 223- صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206- 261 هـ) ، تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي- ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 224- صحيفة ابن أبي طلحة حقّقها راشد عبد المنعم الرجال مكتبة السنة 225- صفة الصفوة لأبي الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) ، حيدرآباد- الهند 226- صفة الكلام للشيخ الظوهري شيخ الجامع الأزهر، مطبعة الحلبي حرف الضاد 227- الضعفاء للبخاري (ت 256 هـ) ، تحقيق بوران ضناوي، عالم الكتب- بيروت- طبعة أولى 228- الضعفاء لأبي جعفر العقيلي تحقيق د. عبد المعطي قلعجي دار الكتب العلمية- بيروت- طبعة أولى 229- الضعفاء والمتروكين للنسائي (ت 303 هـ) ، تحقيق محمود إبراهيم زايد- دار الوعي- طبعة أولى 230- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع تأليف: شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ) ، منشورات دار مكتبة الحياة حرف الطاء 231- الطالع السعيد لجعفر الأدفوي (ت 748 هـ) تحقيق سعد محمّد حسن- مطابع سجل العرب 232- طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، دار الثقافة- بيروت 233- طبقات الخواص لأحمد بن أحمد الشرجي الزبيدي، طبع بمصر 234- طبقات الشافعية لأبي بكر بن هداية الله الحسيني المتوفى سنة (1014 هـ) ، حقّقه عادل نويهض- الطبعة الأولى سنة 1391 هـ/ 1971 م- دار الأوقاف الجديدة- بيروت لبنان. 235- طبقات الشافعية تأليف: جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي- المتوفى سنة (772 هـ) تحقيق عبد الله الجبوري، الجمهورية العراقية رئاسة ديوان الأوقاف، إحياء التراث الإسلامي بغداد سنة 1390 هـ، ودار الكتب العلمية بيروت لبنان 236- طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (727- 771 هـ) تحقيق محمود محمّد وعبد الفتاح محمّد الحلو، الطبعة الأولى- مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه سنة 1383 هـ/ سنة 1964 م 237- طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (ت 412 هـ) ، تحقيق نور الدين شريبة، مكتبة الخانجي- القاهرة- طبعة ثالثة 238- طبقات الفقهاء لأبي إسحق الشيرازي الشافعي (393- 476 هـ) تحقيق الدكتور إحسان

حرف العين

عبّاس، الناشر دار الرائد العربي بيروت لبنان سنة 1970 م 239- طبقات الفقهاء الشافعية لأبي عاصم محمّد بن أحمد العبادي المتوفى سنة (458 هـ) ، طبعة ليدن سنة 1964 م 240- طبقات ابن قاضي شهبة لأبي بكر تقي الدين ابن قاضي شهبة (ت 851 هـ) ، تحقيق د. الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب- طبعة أولى 241- طبقات القراء لابن الجزري، مكتبة المتنبي 242- الطبقات الكبرى لابن سعد- دار بيروت للطباعة والنشر، دار صادر 1377 هـ/ 1957 م 243- طبقات المفسرين للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (849- 911 هـ) ، تحقيق: علي محمّد عمر- الناشر: مكتبة وهبه- الطبعة الأولى سنة 1976 م 244- طبقات المفسرين تصنيف: الحافظ شمس الدين محمّد بن علي بن أحمد الداودي المتوفى سنة 945 هـ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1983 م 245- طبقات النحويين واللغويين لأبي بكر محمّد بن الحسن الزبيدي، دار المعارف تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم 246- طيبة النشر في القراءات العشر لأبي القاسم النويري تحقيق عبد الفتاح السيد أبو سنة مجمع البحوث الإسلامية حرف العين 247- العبر في خبر من غبر للحافظ الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، وزارة الإعلام- الكويت 248- الاعتصام لأبي إسحاق اللخمي الشاطبي (ت 790 هـ) ، المكتبة التجارية الكبرى بمصر 249- العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (ت 369 هـ) ، تحقيق رضاء الله بن محمّد إدريس المباركفوري، دار العاصمة- الرياض- طبعة أولى 250- العلل لأبي محمّد عبد الرحمن الرازي ابن أبي حاتم (ت 327 هـ) دار المعرفة 251- العلل المتناهية لأبي الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق إرشاد الحق الأثري، دار الكتب العلمية- بيروت 252- العلل الواردة في الأحاديث النبوية لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385 هـ) تحقيق محفوظ الرحمن زين الله السلفي (ت 385 هـ) دار طيبة- طبعة أولى 253- علوم الحديث للحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) ، تحقيق د. السيد معظم حسين، مكتبة المتنبي- القاهرة

حرف الغين

254- العلوم المستودعة في السبع المثاني للتجيبي الأقليشي، مخطوط تفسير بالأزهر [255] 4253 255- عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ لأحمد بن يوسف السمين الحلبي، تحقيق الدكتور محمّد التونجي، عالم الكتب، طبعة أولى 256- عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني (ت 855 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي- طبعة أولى 257- عمل اليوم والليلة لأبي بكر أحمد بن إسحاق الدينوري (ابن السّنّي) (ت 364 هـ) ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا- دار المعرفة- بيروت 258- العنوان في القراءات السبع لأبي طاهر إسماعيل بن خلف الأنصاري تحقيق الدكتور زهير زاهد والدكتور خليل العطية، عالم الكتب، بيروت- لبنان حرف الغين 259- غاية النهاية في طبقات القراء تأليف: شمس الدين أبي الخير محمّد بن محمّد بن الجزري (المتوفى سنة 833 هـ) ، عني بنشره ج. براجستراسر- ط. دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الثالثة سنة 1982 259- غاية الوصول شرح لب الأصول لزكريا بن محمّد الأنصاري (ت 926 هـ) ، مطبعة عيسى البابي الحلبي حرف الفاء 261- فتاوى ابن تيمية لأحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 728 هـ) ، مطابع الرياض- الطبعة الأولى 262- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية- القاهرة- طبعة ثانية 263- فتح العلام للشيخ زكريا الأنصاري، دار الكتب العلمية، تحقيق علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود- طبعة أولى 264- فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب لأبي يحيى زكريا الأنصاري (ت 935 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي 265- فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق أحمد بن عبد الواحد الخياطي، وزارة الأوقاف المملكة المغربية 266- فقه اللغة وسر العربية لأبي منصور عبد الملك بن محمّد الثعالبي المكتبة التجارية الكبرى (1346- 1927)

حرف القاف

267- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمّد بن الحسن الحجوي الثعالبي، طبع في الرباط (1340 هـ) 268- الفهرست لابن النديم- الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت 269- فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت لعبد العلي محمّد الأنصاري (ت 1180 هـ) ، المطبعة الأميرية- بولاق 270- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي (ت 1031 هـ) ، دار الفكر- طبعة ثانية حرف القاف 271- القاموس المحيط لمجد الدين الفيروزآبادىّ (ت 817 هـ) ، دار الفكر- بيروت حرف الكاف 272- الكاشف على المحصول للأصبهاني، مخطوط 273- الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لأبي عمر يوسف بن عبد البرّ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 274- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (ت 365 هـ) ، دار الفكر- طبعة ثالثة 275- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل تأليف: أبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (467- 538 هـ) الطبعة الأولى سنة 1977 م 276- كشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ العلامة فقيه الحنابلة منصور بن يونس بن إدريس البهوتي- نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 277- كشف الأسرار للنسفي، دار الكتب العلمية 278- كشف الخفاء لإسماعيل بن محمّد العجلوني (ت 1162 هـ) ، مؤسسة الرسالة- بيروت- طبعة ثالثة 279- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون للعالم الفاضل الأديب المؤرخ مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، المكتبة الإسلامية بطهران- الطبعة الثالثة سنة 1387 هـ/ 1957 م 280- الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ت 463 هـ) ، مطبعة السعادة- طبعة أولى 281- كنز العمال لعلاء الدين المتقي الهندي (ت 975 هـ) ، مؤسسة الرسالة 282- الكنى والأسماء لمسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) ، تحقيق عبد الرحيم أحمد القشقري، الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة- طبعة أولى 283- الكوكب المنير لمحمّد بن أحمد الفتوحي (ت 972 هـ) ، تحقيق، د/ محمّد الزحيلي ود/ نزيه حماد- مكتبة العبيكان

حرف اللام

حرف اللام 284- لب اللباب في تحرير الأنساب لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق محمّد أحمد عبد العزيز وأشرف أحمد عبد العزيز دار الكتب العلمية- طبعة أولى 285- اللباب في تهذيب الأنساب لعز الدين ابن الأثير الجزري، دار صادر- بيروت 286- لسان العرب لابن منظور، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمّد أحمد حسب الله، هاشم محمّد الشاذلي- دار المعارف- مصر 287- لسان الميزان للإمام الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، حيدرآباد الهند، تصوير ونشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان- الطبعة الثانية سنة 1390 هـ/ سنة 1971 م 288- اللمع في العربية لأبي الفتح عثمان بن جنّي، تحقيق حامد المؤمن، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية طبعة ثانية حرف الميم 289- المبسوط لشمس الدين السرخسي، دار المعرفة بيروت 290- مجاز القرآن صنعة أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت 210 هـ) ، تحقيق: د/ محمّد فؤاد سزكين، الناشر: مكتبة الخانجي 291- مجمع الأنهر طبعة مصطفى البابي الحلبي 292- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ) ، مؤسسة المعارف بيروت 293- المجيد في إعراب القرآن المجيد لإبراهيم محمّد الصفاقسي (ت 742 هـ) ، تحقيق موسى محمّد زنين، منشورات كلية الدعوة الإسلامية طرابلس ولجنة الحفاظ على الترث الإسلامي 294- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لابن جنّي تحقيق: د/ عبد الفتاح شلبي وعلي النجدي ناصف- ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية سنة 1969 م 295- المحدّث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي الرامهرمزيّ (ت 360 هـ) ، تحقيق محمّد عجاج الخطيب، دار الفكر 296- المحلى لابن حزم (ت 456 هـ) ، طبعة: دار الفكر- تحقيق أحمد شاكر 297- المحلى على المنهاج لجلال الدين المحلي مطبعة مصطفى البابي الحلبي 298- مختار الصحاح للإمام محمّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976 م 299- مختصر المنتهى لأبي عمر عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب (ت 646 هـ) مطبعة

كردستان بالقاهرة 300- مختلف الرواية لعلاء الدين محمّد بن عبد الحميد أبي الفتح السمرقندي (ت 552 هـ) تحقيق عيسى زكي عيسى- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت 301- المخصص تأليف: أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي، اللغوي، الأندلسي المعروف بابن سيده (ت 458 هـ) ، ط. دار الفكر 302- المدخل للبيهقي (ت 458 هـ) تحقيق د/ محمّد ضياء الرحمن الأعظمي، نشر دار الخلفاء بالكويت 303- مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان تأليف الإمام أبي محمّد عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي المتوفى سنة 768 هـ مطبوعات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية، سنة 1390 هـ/ سنة 1970 م 304- المراسيل للحافظ أبي داود سليمان السجستاني (ت 275 هـ) ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 305- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع تحقيق علي محمّد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي 306- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) ، دار المعرفة- بيروت 307- المستصفى في علم الأصول لأبي حامد الغزالي، دار المعرفة- بيروت 308- مسند البزار- كشف الأستار للهيثمي (ت 807 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة بيروت 309- مسند الحميدي للحافظ أبي بكر الحميدي (ت 219 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 310- مسند الشافعي لمحمّد بن إدريس الشافعي، تحقيق السيد يوسف الزواوي الحسيني، السيد عزت العطار الحسيني، دار الكتب العلمية 311- مسند الشهاب للقاضي محمّد بن سلامة القضاعي (ت 454 هـ) ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى (1405 هـ) ، مؤسسة الرسالة- بيروت 312- المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، دار الكتاب العربي- بيروت 313- مشكل الآثار للطحاوي (ت 321 هـ) ، حيدرآباد- الهند 314- مشيخة ابن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق محمّد محفوظ، الطبعة الثانية 1400 هـ دار الغرب- بيروت 315- المصاحف لأبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 316 هـ) ،

الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية 316- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي- أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيومي (ت 770 هـ) ط 1397 هـ/ سنة 1977 وأيضا ط المطبعة العلمية الطبعة الأولى سنة 1315 هـ 317- المصنف لعبد الله بن محمّد بن أبي شيبة (ت 235 هـ) ، حيدرآباد- الهند- طبعة أولى 318- المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ) ، ط 1 سنة 1391 هـ/ 1972 م طبعة المجلس العلمي- المكتب الإسلامي- بيروت- لبنان 319- المطالب العالية لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار المعرفة- طبعة أولى 320- المطلع على أبواب المقنع لشمس الدين محمّد بن أبي الفتح البعلي، المكتب الإسلامي 321- المعارف لعبد الله بن مسلم بن قتيبة، حققه دكتور ثروت عكاشة الهيئة المصرية العامة للكتاب 322- معالم التنزيل لأبي محمّد الحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) ، دار المعرفة تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار 323- معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج (ت 311 هـ) ، شرح وتحقيق: د/ عبد الجليل شلبي- عالم الكتب- الطبعة الأولى سنة 1988 م 324- معاني القراءات لأبي منصور الأزهري (ت 370 هـ) ، تحقيق د/ عيد مصطفى درويش ود/ عوض بن حمد القوزي طبعة أولى 325- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص للشيخ عبد الرحيم بن أحمد العباسي (ت 963 هـ) ، عالم الكتب- بيروت 326- المعتمد لأبي الحسين محمّد بن علي بن الطيب المعتزلي (ت 436 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 327- معجم الأدباء لياقوت- ط. الحلبي- الطبعة الأخيرة 328- المعجم الأوسط لأبي القاسم الطبراني (ت 360 هـ) ، تحقيق د. محمود الطحان، مكتبة المعارف- الرياض- طبعة أولى 329- معجم البلدان لياقوت الحموي (ت 626 هـ) ، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية- بيروت، طبعة أولى 320- معجم الشعراء للمرزباني مكتبة القدسي- القاهرة طبعة ثانية 330- معجم طبقات الحفاظ المفسرين لعبد العزيز عز الدين السيروان، عالم الكتب

332- معجم قبائل العرب لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة- بيروت 333- المعجم الكبير لأبي القاسم الطبراني (ت 360 هـ) ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي بغداد- وزارة الأوقاف 334- معجم المصطلحات النحوية والصرفية للدكتور محمّد سمير نجيب اللبدي، مؤسسة الرسالة، دار الفرقان 335- معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 هـ) ، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، دار الفكر- بيروت- طبعة أولى 336- المعرفة والتاريخ لأبي يوسف يعقوب الفسويّ، مكتبة الدار بالمدينة المنور تحقيق د. أكرم ضياء العمري 337- المغني في أصول الفقه لعمر بن محمّد الخبازي (ت 691 هـ) ، تحقيق محمّد مطهربقا 338- مغني اللبيب لابن هشام (ت 761 هـ) ، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد- مطبعة المدني 339- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لشمس الدين الخطيب الشربيني، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 340- المغني والشرح الكبير لعبد الله بن أحمد بن قدامة (ت 620 هـ) على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي، ومعه الشرح الكبير على متن المقنع تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمّد بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت 682 هـ) ط دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع بيروت- لبنان سنة 1392 هـ. 341- مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي (ت 604 هـ) ، دار الكتب العلمية طبعة أولى 342- مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبري زاده، حيدرآباد- الهند 343- المفضليات للمفضل الضبي- تحقيق: أحمد محمّد شاكر، وعبد السلام هارون، ط. دار المعارف- الطبعة السادسة 344- المفهوم لشيخنا محمّد الخضراوي، مخطوط 345- المقاصد النحوية في شرح شواهد الألفية لمحمود بن أحمد العيني، دار صادر 346- المقتضب صنعة أبي العباس محمّد بن يزيد المبرّد (210- 285 هـ) تحقيق: محمّد عبد الخالق عضيمة ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية 347- المقدمة لابن خلدون (ت 808 هـ) ، دار نهضة مصر طبعة ثالثة

348- مقدمة ابن الصلاح لابن الصلاح، تحقيق د. عائشة عبد الرحمن، الهيئة المصرية العامة للكتاب 349- المغرب تأليف: علي بن مؤمن المعروف بابن عصفور (ت 669 هـ) تحقيق: أحمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوريّ. مطبعة العاني، بغداد- الطبعة الأولى سنة 1972 م. 350- المكتفي في الوقف والابتداء للداني تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن مرعشلي- مؤسسة الرسالة بيروت 1404 هـ، وطبعة أخرى قامت بنشرها مؤسسة الحلبي ملحق ديوان الأعشى- انظر ديوان الأعشى- ملحق ديوان كعب بن زهير- انظر ديوان كعب بن زهير 351- الممتع في التصريف- لابن عصفور الإشبيلي (597- 669 هـ) ، تحقيق د/ فخر الدين قباوة- ط. منشورات دار الآفاق الجديدة- بيروت- الطبعة الرابعة سنة 1979 م. 352- مناهج العقول لمحمّد بن الحسن البدخشي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 353- مناهل العرفان في علوم القرآن لمحمّد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة عيسى البابي الحلبي- طبعة ثالثة 304- المنتخب من المسند لأبي محمّد عبد بن حميد (ت 249 هـ) مكتبة السنة بالقاهرة تحقيق السيد صبحي البدري السامرائي، محمود محمّد خليل الصعيدي 355- المنتقى شرح موطأ مالك للقاضي سليمان بن خلف الباجي (ت 494 هـ) الطبعة الأولى مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1332 هـ 356- منتهى الإرادات لتقي الدين الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، عالم الكتب 357- المنخول من تعليقات الأصول لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) ، تحقيق د. محمّد حسن هيتو، دار الفكر- دمشق- طبعة ثانية 358- المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء للآمدي (الحسن بن بشر) ، مكتبة القدسي 359- موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، (ت 807 هـ) تحقيق حسين سليم أسد، عبده علي كوشك- دار الثقافة العربية طبعة أولى 360- الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) ، تحقيق الشيخ عبد الله دراز دار المعرفة- بيروت- طبعة ثانية 361- الموضوعات لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، عام 1386 هـ 362- ميزان الأصول في نتائج العقول لعلاء الدين شمس النظر السمرقندي، تحقيق د. عبد الملك

حرف النون

عبد الرحمن السعدي لجنة إحياء التراث العربي والإسلامي مكة المكرمة، طبعة أولى 1987 363- ميزان الاعتدال في نقد الرجال تأليف: أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق: علي محمّد البجاوي- ط. دار المعارف- بيروت حرف النون 364- الناسخ المنسوخ في الحديث لابن شاهين (ت 385 هـ) ، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية- بيروت، طبعة أولى 365- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة تأليف جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي (813- 874 هـ) ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسسة المصرية العامة 366- نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمّد بن الأنباري (ت 577 هـ) ، تحقيق: د/ إبراهيم السامرائي- مكتبة المنار بالأردن- الطبعة الثالثة سنة 1985 م. 367- نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس للعباس بن علي الموسوي، طبع في مصر (1293 هـ) 368- نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض لأحمد شهاب الدين الخفاجي المصري، مكتبة المشهد الحسيني. 369- نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله بن إبراهيم الشنقيطي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 370- نشر الطوالع للعلامة المرعشي الشهير بساجقلي زادة مكتبة العلوم العصية- طبعة أولى 371- نصب الراية لأحاديث الهداية للإمام الحافظ البارع العلامة جمال الدين أبي محمّد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي (ت 762 هـ) الناشر المكتبة الإسلامية، لصاحبها الحاج رياض الشيخ، الطبعة الثانية، سنة 1393 هـ/ 1973 م 372- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري (ت 1041 هـ) ، طبع دار صادر، تعليق الدكتور إحسان عبّاس 373- نقعة الصديان للحسن بن محمّد بن الحسن الصاغاني (ت 650 هـ) ، تحقيق سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 374- النكت الظراف لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تصحيح عبد الصمد بن شرف، طبع بحاشية تحفة الأشراف للمزي، الطبعة الأولى، الدار القيمة الهند 375- نكت الهيمان في نكت العميان لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ) ، المطبعة الجمالية بمصر 376- نهاية الأرب لشهاب الدين النويري، دار الكتب المصرية، (1923 م)

حرف الهاء

377- نهاية السول في شرح منهاج الأصول لعبد الرحيم الأسنوي (ت 772 هـ) ، المطبعة السلفية- عالم الكتب- بيروت 378- النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير- تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد الطناحي- طبعة الحلبي- الطبعة الأولى سنة 1963 م. 379- نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا التنبكتي كلية الدعوة الإسلامية- طرابلس ليبيا- طبعة أولى 380- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار للإمام المجتهد قاضي قضاة القطر اليماني محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني، طبعة الحلبي الأخيرة ونسخة أخرى طبعة المكتبة التوفيقية بالقاهرة حرف الهاء 381- الهداية شرح بداية المبتدئ لبرهان الدين الميرغناني (ت 593 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي 382- هدي الساري للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية بالقاهرة- طبعة ثانية 383- هدية العارفين من كشف الظنون لإسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر 384- همع الهوامع شرح جمع الجوامع تأليف: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ) ، عنّي بتصحيحه: السيد محمّد بدر الدين النعساني، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت حرف الواو 385- الوافي بالوفيات تأليف صلاح الدين خليل بن الصفدي ط 2 دار النشر بقيسبادن النشرات الإسلامية (381 هـ/ 1962 م) 386- الوصول إلى الأصول لأحمد بن علي بن برهان (ت 518 هـ) ، تحقيق عبد الحميد علي أبو زنيد، مكتبة المعارف- الرياض- طبعة أولى 388- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان سنة (608- 681) حققه الدكتور/ إحسان عبّاس، دار صادر بيروت سنة 1968 م

§1/1